ذكرى الاعتصام والحضور الساطع للفن التشكيلي: مكانة وسيرورة ال

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
عادل السنوسي
مشاركات: 839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:54 pm
مكان: Berber/Shendi/Amsterdam

ذكرى الاعتصام والحضور الساطع للفن التشكيلي: مكانة وسيرورة ال

مشاركة بواسطة عادل السنوسي »

ذكرى الاعتصام والحضور الساطع للفن التشكيلي: مكانة وسيرورة الفن التشكيلي في الحضارة السودانية .. بقلم: د. محمد عبدالرحمن أبوسبيب
سودانيلنشر في سودانيل يوم 08 - 06 - 2020
تضمّن هذا المقال جانب من المادة الأساسية في ورقة قُدمت في مؤتمر إتحاد الكتاب في العام 2013 مع بعض الإضافات والحذف إقتضاهم سياق المناسبة الراهنة.

في مظاهرات الطلاب والعمال الشهيرة التي هزت فرنسا في العام 1968 و أجبرت رئيس الدولة على الهروب سراً إلى ألمانيا، صدرت الأوامر للبوليس بتدمير مكنات السلك إسكرين التي يستخدمها الطلاب لطباعة البوسترات والنشرات الداعية للثورة وذلك في كلية الفنون الجميلة في باريس. جاء البوليس مجهزاً بكل ما يلزم ذلك وإقتحم بعنف مباني الكلية لكنه فوجىء بأن الطلاب كانوا قد أخذوا من داخل الكلية لوحات تاريخية لا تقدر بثمن لمشاهير الفنانين الفرنسيين، بوسان وجاك لويس ديفيد وسورا، وإستخدموها كدروع تحصنوا خلفها مع ماكناتهم فما كان من البوليس إلا أن تراجع وترك المكان.
خطر الصورة أنها تجذب وتقتحم المشاهد دون إستئذان وتفرض محمولها من معنى ورسالة دون مقاومة، وحتى إذا حاول المشاهد تفاديها للحظة، لأي سبب، تكون قد حلّت ضمن مداركه وتفاعلت معها، وربما تفوقت هنا على المدرك السمعي. وإنشغال عدد غفير من الشباب من الجنسين بالتعبير البصري أثناء الثورة ومشاركتهم بهمة، وغالبيتهم من الهواة، في تنفيذ أعمال الرسم والتلوين لهو دليل على وعي بتأثير الصورة ودورها وخطرها. ويمكن للمرء أن يفترض أن القتلة من العسكر الذين أمروا بإزالة الأعمال الفنية من ساحة الإعتصام وما حولها يشاركون هؤلاء الشباب وعيهم بخطر الصورة ودورها؛ يرى فيها الشباب صفوة أمانيهم ويرى فيها القتلة خطراً ماحقاً. والفرق بين العسكر القتلة هنا والعسكر الفرنسي أن لهؤلاء مرشد من عقيدة مهنة إحترفوها إلى جانب ثقافة وطنية تربّوا عليها جعلتهم في لحظة من الإختيار الصعب أن ينحازوا لما هو مُلك للوطن مقابل ما هو عابر في درب السياسة.
وإنخراط شباب الثورة في المنشط الفني التشكيلي (منهم بالطبع من شارك بحماس في الأنواع الفنية الأخرى) ليس أمراً بلا جذور. ويبدو أن مصطلحات كفن تشكيلي وفنان تشكيلي كأوصاف مستحدثة في الثقافة العامة إلى جانب الظهور المتأخر نسبياً، في العقود الأولى من القرن الماضي، لنشاط الرسم والتلوين كمهنة أو هواية قد أسهموا في شيوع إنطباع عام بأن مجتمعاتنا جديدة عهد بهذا المنشط الفني وقيمه الجمالية ووظائفه في الحياة. ومما وطد هذا الانطباع ليس فقط ظهور هذا النشاط في شكله الحداثي غير المعتاد في ممارسات مجتمعاتنا وتقنياتها المتوارثة في خلق وإنتاج موضوعات لها قوامها البصري الفني، منها ما هو وظيفي عملي و منها ما له مدلول رمزي أو إعتقادي، ولكن أيضاً ما حدث بالفعل من إنقطاع مرحلي تاريخي في سيرورة الفنون البصرية، خاصةً مهن الرسم والتلوين والنحت، كمكون ثقافي لطبقات مؤثرة في حياة المجتمع الساسية والإجتماعية.
في الفقرات التالية محاولة لإلقاء نظرة عامة من منظور تاريخي على المكانة التاريخية للفن التشكيلي (الفنون البصرية) كأحد مكونات الحضارة السودانية، وكذلك محاولة تفسير الفجوة أو الفجوات في السيرورة التاريخية لهذا الفن.
أي محاولة للنظر في مكانة الفن التشكيلي ضمن مسار الحضارة السودانية لابد من إعتمادها على المادة الضخمة التى وفّرها علم الآثار السودانيSudanology ، وتشمل المادة الآثارية والنظريات المفسّرة لهذه المادة، خاصة الإعتماد على إسهامات المدرسة الآثارية الجديدة وممثليها من أمثال بيتر شيني وبروس تريقر ووليام آدمز وشارل بونيه وعلي عثمان محمد صالح وأسامة عبدالرحمن النور. وفي إعتقادي، إن من أهم إنجازات هذه المدرسة هو برهنتها على نظرية الإستمرارية الإثنية والثقافية للشعوب السودانية خاصةً سكان وادي النيل الأوسط والمجموعات الكبرى من حوله، والرباط التاريخي الدائم بين وادي النيل والثقافات في السهول الرعوية من حوله إلى الشرق والغرب والجنوب. وهذا يعني أن الحضارة السودانية تطورت وبرزت مكوناتها منذ نشأتها ضمن هذا الوجود الجغرافي الثقافي المتنوع، وإنعكس هذا التنوع على أنواع الفنون المنتجة.
وإذا نظرنا إلى واقع الممارسة والإنتاج للفنون البصرية في ضوء أدبيات علم الآثار في السودان وفي أدبيات تاريخ الفن بشكل عام نجد أن هذه الفنون بطبيعتها فنون منتجة في المكان، وتعتمد على خامات ومدخلات قابلة للتشكيل بحسب التقنية المتاحة للفنان. كذلك يحتاج تنفيذ الأعمال الفنية الكبيرة، مثل أعمال النحت والجداريات، إلى تجهيزات معينة مثل الورش و آلات النقل والرفع وكثير من الأيدي العاملة، هذا إلى جانب مخصصات الفنان وإعاشته مع بقية العاملين معه طوال فترة الإعداد والتنفيذ. كان هذا هو حال الفن التشكيلي في كل الحضارات الكبرى وفي الحضارة السودانية في مراحل دولة كوش والمرحلة المسيحية. وكما هو موثق في المراجع ومتاحف العالم ومشاهد في متحفنا القومي ومواقع الآثار، أبدع الفنان السوداني القديم في كل الأجناس التشكيلية الرئيسية: فى النحت، من الأعمال صغيرة الحجم وحتى التماثيل البشرية والحيوانية الضخمة، فى التلوين والخزف والنحت البارز والرسم والديكور وإبداع حروف اللغة المروية، كما نشهد في إنتاجه كل الأساليب الفنية الأساسية من واقعية حرفية ورمزية وتجريد.
هذا المستوى الكمي والنوعي من الإنتاج فى مجال الفنون التشكيلية يدل على نزوع تعبيري جمالي متأصل حتى قبل بداية نهضة دولة كوش في مرحلة كرمة، ويدل كذلك على وجود تقاليد راسخة من الإحترافية المهنية ووجود نظام تعليمي فى إطار المهنة مثل التلمذة ومرافقة كبار الفنانين والتدريب فى ورش الإنتاج. كذلك يدل بشكل جلي على وجود فكر ورؤى ومعايير نقدية مستصحبة بالضرورة لعملية الإبداع والإنتاج الفني تشكل فى مجموعها منظومة فكرية جمالية تعبر فى نفس الوقت عن طابع الثقافة السائدة فى المرحلة المعينة وعن آيديولوجية القوى الإجتماعية المسيطرة. فأى إنتاج فني هو تجسيد لفكر جمالي. هذا الإنتاج الفني يبرهن أيضا من خلال مراحل تطوره بحسب أدبيات علم الآثار على قدرة الفنان التشكيلي على تطوير قدراته الذاتية والإنفتاح والتفاعل مع ما يصله من التقاليد الفنية في الحضارات الأخرى، ثم التميّز فى تطوير أسلوبه الخاص. وربما أفضل مثال لذلك إبتداعه لشكل الإله أبادماك.
إتصل هذا الإنتاج الفني البصري صعوداً وهبوطاً حتى نهايات فترة الدويلات المسيحية فى القرن السادس عشر. ويمكن الحديث عن تحولات هامة بدأت مع تدهور الدولة الكوشية فى مرحلتها المروية فى القرن الرابع الميلادى أدت فيما بعد إلى هذه الفجوات. وهنا تلزمنا رجعة إلى مباحث تاريخ الفن. فمن المعروف هنا أن أعظم الأعمال التاريخية في الفن التشكيلي، خاصة في مجال النحت و الجداريات فى الحضارات الكبرى، قد تم إبداعها برعاية القوى المسيطرة سواءً في القصر أو المعبد أو الكنيسة، كما فى الحضارة الأوربية و فى الحضارات الشرقية، بما فيها الإسلامية، وفى الحضارة المصرية والحضارة السودانية. كانت الدولة تحت هذه القوى هى الداعم والمستخدم الرئيسي لهذا الجنس الفني التشكيلي، فهو من ناحية شديد التكلفة المالية خاصة فى أحجامه الكبيرة Monumental كما يتطلب قدراً من التنظيم والإدارة في عملية إنتاجه. ومن ناحية أخرى، كان هو الفن الأكثر تأثيراً فى تأكيد سلطة هذه القوى، فهو حضور بصرى طاغي أمام المشاهد وعنصر جمالي متميز و جاذب، ومن هنا دوره الهام في التعبير عن آيديولوجية هذه القوى المهيمنة إلى جانب حمولته من الرموز التى تجسد الفكر والمعتقد والطابع الثقافي العام السائد في المرحلة المعينة. لذلك، و كما لاحظ مؤرخ الفن آرنولد هاوزر، عادة ما تظهر أروع الأساليب الفنيه فى أفنية المعابد والقصور الملكية. إلى جانب الدولة متمثلة فى الطبقة الحاكمة هناك أيضاً طبقات النبلاء والأثرياء الذين أسهموا فى دعم هذا النوع الفني من خلال طلباتهم الخاصة. ومع إضمحلال المؤسسة السياسية الكوشية وتفكك وإنقسام دولتها في القرن الرابع الميلادي إلى ثلاث ممالك، المريس والمقرة وعلوة، فقد فن النحت والتلوين والجداريات أهم رعاته وإن تواصلت فنون المعمار والجداريات والتلوين بصورة عامة في المرحلة المسيحية، خاصةً في المقرة وعلوة معبراً عن الديانة الجديدة، لكنهما لم يرقيا لمستوى الإنجازات القديمة، على الأقل مما بدا في المادة الآثارية.
وعندما قامت دولة الفونج فى بداية القرن السادس عشر وأعادت توحيد الدولة مرة أخرى، كانت المملكتان ومؤسساتهم السياسية التي إستمرت لعشرة قرون قد ضعفت تماماً وكانت فنون النحت والتلوين والمعمار وتقاليدهم العريقة قد فقدت إرتباطها الوثيق بالدولة والقوى الإجتماعية الحاكمة. كذلك هناك، في ما أرى، عامل هام له دوره في عدم الإلتفات إلى هذه الفنون مرتبط بالتطور السياسي الإجتماعي للمجتمعات السودانية في فترة الفونج، وأعني عدم وجود إستقرار سياسي لمدة كافية في دولة الفونج يسمح بتكريس سلطة سياسية قوية وإستقرار إقتصادي نامي يفترض أن يؤديان إلى نشأة طبقة حاكمة متماسكة وطبقات إجتماعية مسانده ومرتبطة بها، كما يفترض أن يفضي ذلك إلى تبلور ونضوج آيديولوجية واضحة المعالم لهذه القوى الإجتماعية الحاكمة، يتبعها إفراز لأنماط وأساليب فنية تنعكس وتتواصل فيها، بالضرورةً، جوانب من الأساليب والتقنيات الفنية السابقة، إلى جانب الموضوعات والإبداعات الفنية التى ينجزها الفنانون والتي تجسد وتدعم هذه الآيديولوجية. من ناحية أخرى، هناك معتقد حول تأثير للإسلام على الفنون وجوانب الثقافة الأخرى مبني على فرضية متخيلة حول "إسلامية" دولة الفونج. فأولاً، هذه الفنون لم تعد تمارس أصلاً في فترة الفونج للأسباب التي ذكرناها. ثانياً، إذا تمعنا في الصورة العامة للفنون السودانية التقليدية كما تمارسها مجتمعاتنا في الوقت الراهن والتقاليد والطقوس المرتبطة بها، والتي من المؤكد ممارسة غالبيتها في فترة الفونج، وهي في ذات الوقت غير منسجمة مع المنظور الإسلامي التقليدي ناهيك عن الأصولي، سيكون من الصعوبة تصور أي تأثير سلبي إسلامي فاعل كان من الممكن أن يعوق إستمرار وتطور فنون النحت والتلوين والجداريات الموروثة، على الأقل إذا نظرنا إلى نوع ودرجة إستيعاب وممارسة تلك المجتمعات لما وصلهم من تعاليم الإسلام. ثالثاً، شكل وممارسة الفنون في المجتمعات التي تبنت الإسلام دائماً ما تقرره مكانة الفن في الموروث الثقافي التاريخي لهذه المجتمعات. فأعمال النحت، مثلاً، منتشرة في أرض مصر رغم أن فن النحت كان ومازال أكثر أنواع الفن المستهدفة من جانب الفكر الإسلامي التقليدي. وأهم أسباب ذلك أن هذا الفن كان نوعاً فنياً أساسياً في الحضارة الفرعونية على إمتداد تاريخها وأصبحت له تقاليده الراسخة في الثقافة والفكر الإستطيقي لذلك المجتمع. على النقيض من ذلك، لا توجد مثل هذه الأعمال وذلك التراث الفني في بلد مثل السعودية بسبب البنية الثقافية والبيئة الجغرافية البدوية لهذا المجتمع وموروثه الفني الرئيسي القائم على الشعر. كذلك إزدهر فن التصوير في المجتمعات الإسلامية غير العربية في أواسط آسيا وسبب ذلك أن التعبير من خلال الصورة كان جزءاً من موروثهم الفني لذلك يجدونه أمراً طبيعياً أن يعبروا عن معتقدهم الجديد من خلال الوسائط التي يحسون بأنها الأكثر أصالةً وتميزاً في إيصال المعنى.
من ناحية أخرى، لم يتلاشى، بالطبع، هذا الموروث البصري الفني فى أنواعه وأجناسه وأساليبه المختلفه كخبرة ورؤى جمالية، فقد تواصلت التقاليد الكوشية بشكل مدهش في التراث الشعبي المادي material culture الراهن. هذا النوع من الإستمرارية الثقافية يبدو نمطاً متكرراً فى كل الحضارات الكبرى عندما تضعف وتتحلل مؤسساتها. مثال ذلك الحضارة الفرعونية التى تواصل ميراثها في التراث الشعبي القبطي، والحضارة الإغريقية الرومانية التى تواصلت أشكال ثقافتها وفنونها فى العصور الوسطى الأوروبية وسط القبائل والمجموعات الشعبية، وكذلك حضارات الشرق الكبرى فى فارس والهند والصين، وفي حضارة بنين في غرب أفريقية. ففي كل هذه الأمثلة نجد قدرة العنصر البصري الفني على العبور من عصر إلى عصر. وفي الحضارة السودانية يكف إنتاج الأعمال الكبيرة تحت رعاية الدولة ويظل بعضها قائماً يقاوم الزمن، لكن تتبدى كثير من عناصرها وتقنياتها في المنتوج الشعبي في وادي النيل وما حوله وإن تغيرت المضامين والموضوعات، منها ما هو بغرض الزينة أو الوظيفة العملية أو الغرضين معاً. وهناك الكثير من المعتقدات ما زالت مرتبطة بعناصر بصرية مثل أدوات الزينة التقليدية والديكور المنزلي وأدوات وطقوس الجرتق لكنها تعود لعهود كوشية أو مسيحية. كل ذلك يمكن فهمه وتفسيره ضمن الإطار الأشمل لإستمرارية المكونات الثقافية من تقاليد معمارية وموسيقية ولغوية، إلخ وتطورها في سياق المتغيرات والتحولات التي تطرأ في حياة هذه المجتمعات.
وبعيداً عن خلاف المؤرخين حول مستوى الحياة الثقافية فى فترة الفونج إلا أنه فى نهايات القرن الثامن عشر نشأ تحالف من ثلاث شرائح إجتماعية إعتبرها المؤرخون طبقة وسطى بين الطبقة الحاكمة وبقية السكان من مزارعين ورعاة. تكونت هذه الطبقة من شريحة تجارية ناهضة (أسلاف الجلابة) وزعامات الطوائف الصوفية وجماعات (العلماء) خريجي المؤسسات الدينيه مثل الأزهر، وإزداد وزنها الإقتصادي ونفوذها الإجتماعي والروحي. وهى الطبقة التى بدأت بكتابة الأنساب وإصطناع الإنتماء للإصول العربية، كما تمدد نشاط الشريحة التجارية داخلياً كمنافس لإحتكارية سلطان سنار وتوسع خارجياً فى إتجاه مصر والنشاط التجاري فى البحر الأحمر. تزامن هذا التطور الإجتماعي والإقتصادي مع تحلل وتفكك دولة الفونج و مع حركة التحديث ونزعة التوسع العسكري التى تبناها محمد على باشا فى مصر ومن ضمن نتائجها غزو السودان وإستعماره. فى هذه الفتره تسربت إلى البلاد بعض من جوانب التحديث سواءاً في إدارة الدولة أو في إدخال وسائل نقل حديثة مثل البواخر النيلية، هذا إلى جانب نشأة مدن وبنادر جديدة وإتساع قطاع الحرفيين وتمركزهم فيها. كذلك إستمر تناسل الطبقة الوسطى تلك فى مكوناتها الثلاث، وإتساع التكوينات الطائفية وجماعات العلماء و إنتشار نشاط الجلابة فى كل انحاء البلاد.
مع الإستعمار البريطانى بدأت عمليات التحديث وحركة الحداثة بشكل ممنهج وإستجاب لها المجتمع السوداني ضمن ميراثه الحضاري التاريخي وفي سياق صراعه مع المستعمر. فمن منظور تاريخ الحضارات وتحاورها، إستصحب حالة الصراع هذه تفاعل ثقافى كثيف، فيه القبول والرفض والإنتقاء والتعديل والإضافه والتطوير و إبتداع البديل ... الخ. لذلك كان أمراً طبيعياً أن يفرز هذا اللقاء مع التحديث والحداثة الأوروبية حركة ثقافية وفنية واعية بذاتها مقابل "الآخر الحضاري" وباحثة عن ذاتها فيما توفر لها من تاريخ لأصولها وما إستوثقته بصيرتها من البيئة الثقافية المعاشة. بدأت هذه الحركة فى العشرينات وتواصلت إلى يومنا هذا في نشاط وأدبيات قادة الحركة الوطنية وأعمال الرواد من أدباء ونقاد ومغنيين وموسيقيين وتشكيليين، وهؤلاء الأخيرين لم يجدوا الإعتبار الكافي عند مؤرخي الثقافة السودانية.
في سياق هذه التحولات ظهر الفنان التشكيلي الحديث (الهاوي) مثل علي عثمان وعيون كديس وجحا. فكما أن مجتمع المدينة أخذ يتفاعل مع المستجد في ساحة الأدب والموسيقى أخذ كذلك ينتبه إلى الصورة image في الكتاب والمجلة والصحيفة والإعلان والسلعة وذلك ضمن زخم الوارد من المرئيات الجديدة؛ فالقطار والعجلة وعلبة الكبريت هم صور جديدة مضافة إلى حصيلته البصرية. وإذا تمعّنا في تطور هذه العلاقة الحداثية بين الصورة والثقافة البصرية السائدة نجد هناك تلازم بين درجة الوعي الإجتماعي بالصورة ووظائفها، خاصة لدى أفراد الطبقة الوسطى من التجار ورجال الأعمال وأصحاب المطاعم والقهاوي والموظفين، وظهور الرواد التشكيليين الحديثين. فهذه طبقة مستشعرة لمكانتها الإقتصادية ومتيقنة من وزنها الإجتماعي وأضحت واعية بمصادر القوة والسلطة وأوزانهما في المجتمع والدولة. فهي ليست قادرة فقط على إقتناء الصورة المرسومة لكنها في المقام الأول طبقة مدفوعة بالرغبة في إثبات ذاتها وتأكيد صورتها لنفسها وللأخر. فالصورة الشخصية (بورتريت) التي يرسمها جحا لأحد أفراد هذه الطبقة يرى فيها هذا الفرد موضعة لمكانته ودوره في المجتمع "يبصرها" هو و"يبصرها" الآخرون. كما أن وضع صورة، مرسومة أو فتوغرافيا، لزعيم طائفي نافذ أو رمز سياسي كبير في صالون المنزل أو مكان العمل أو على سلعة تجارية، مثل صورة السيد علي الميرغني فى عطور الشبراويشي، ما هو إلا إنحياز وحيازة في نفس الوقت لسلطة ما في المجتمع. هذا التطور رافقه، بالطبع، حوار جمالي متشعب على المستوى الشخصي وعلى المستوى العام، يتمحور بشكل أساسي حول الحس الجمالي aesthetic sensibility والذوقي taste ونوع ومستوى الإستجابة لشكل ومضمون الصورة. وهكذا أسهمت هذه العوامل الإجتماعية والثقافية في ظهور التشكيلي الحديث الذي وعى قدراته وطورها من خلال ما وجده من خامات ووسائط وتقنية وما توفر له من مرجعية أسلوبية في المجلات والكتب والفتوغرافيا، وما يبصره من حوله من بيئة طبيعية ومن قيم جمالية سائدة. علينا، إذن، أن ننظر إلى هذه النقلة الحداثية التشكيلية ضمن تاريخ ممتد للثقافة البصرية في الحضارة السودانية، وبذلك فقط يمكننا أن نفصح عن المضمون الإنساني الحضاري لهذه النقلة الفنية ونضعها ضمن وجود وهوية ممتدة للإنسان السوداني، لا مجرد حدث جاءت به الصدفة الإستعمارية لنتعلم وقتها أبجديات الثقافة البصرية.
يمكن القول أن عملية التوريث أو إسترداد مكانة الفن التشكيلي ضمن الثقافة السودانية بدأت بشكل عفوي عندما أخذ الرواد التشكيليين الحديثين إبتداءاً من العشرينات يدققون النظر فى ما حولهم من مرئيات، خاصة في عناصر الثقافة المادية الشعبية وما هو سائد من قيم حول جمال المرأة السودانية ومن عادات وطقوس حاول توظيفها فى مشروعه الفني الحديث، أي إنجاز اللوحه و إستخدام الصورة. ثم تحولت هذه العملية إلى بحث وإستلهام واعي وصارت محور جدل جمالي بين أجيال متتالية من خريجي كلية الفنون، خاصة من تفتح بصرهم وبصيرتهم على التراث التشكيلي الضخم للحضارة السودانية من حولهم. هذا ما يمكن وصفه بعملية إسترداد الذاكرة التاريخية التشكيليه والإنتماء إلى وجود فني حضاري واضح المعالم في كثير من نواحي حياة الإنسان السوداني. عملية أخذت وجهة الممارسة الإبداعية في سياق جدل فكري وخطاب آيديولوجي أكثر إتساعاً وعمقاً وذلك منذ ستينات القرن الماضي. وفي إعتقادي، هذه النقلة من ثنائية أو هجنة مدرسة الخرطوم الآفروعربية إلى مقولة السودانوية بمضمونها التاريخي الحضاري والحقوقي ما هي إلا دليل على بداية إستشعار أصيل بالإنتماء إلى الآباء التشكيليين الأوائل.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
الفكر الديني ضعيف، لذا فإنه يلجأ الي العنف عندما تشتد عليه قوة المنطق، حيث لايجد منطقاً يدافع به، ومن ثم يلجأ الي العنف.( ... )
أضف رد جديد