مأزق الأفندي

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
قصى همرور
مشاركات: 278
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 11:07 pm

مأزق الأفندي

مشاركة بواسطة قصى همرور »

أرفق هنا مقالات للأستاذ عمر القراي، كانت قد نشرت في جريدة الصحافة.. أملا في زيادة الاطلاع والمفاكرة..


تعقيب على مقال الأفندي «عن الشيخ الترابي وأزمة الحركة الإسلامية المعاصرة»* 1ـ2
د. عمر القراي

مأزق الأفندي..!!

في صحيفة «الصحافة» بتاريخ 25 -4-2006 ، كتب د. عبد الوهاب الافندي ، مقالاً على ضوء الضجة الاخيرة، التي اثيرت حول آراء د. الترابي** .. ولقد انشغل د. الافندي، عن جوهر القضية، الذي ينبغي ان يركز عليه كل مثقف حر، مهتم بحرية الفكر، وبكرامة الانسان.. فبدلاً من مواجهة اتجاهات «التكفير» ، وادانة مصادرة الحق في التعبير، من حيث المبدأ، على انها اعتداء سافر على الحقوق الاساسية ، ثم هي مفارقة كبيرة ، لاصول الاسلام ، المتمثلة في قوله تعالى «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، ترك د. الافندي كل هذا جانباً ، ليحدثنا عن الكتاب الذي شارك في اعداده «لفيف من الاكاديميين والمفكرين من مختلف انحاء العالم»، والذي كتب فيه فصلاً عن آراء الترابي .. لقد كان حرياً بدكتور الافندي، ان يدين الحملة الجائرة التي كفرت الترابي، وطالبته بالتراجع عن افكاره، قبل ان يحدثنا عن آرائه، و يسعى لتبريرها، او رفضها.

أقول هذا، دون ان اغفل عن ان د. الترابي ، هو الذي اسس للاعتداء على حرية الفكر ، وحرية التعبير في هذا البلد .. وذلك منذ اثارته لقضية حل الحزب الشيوعي السوداني65م، ثم اخراجه للمسيرة المليونية ، تأييداً لقوانين سبتمبر 83م التي قطعت ايادي الفقراء ، بينما كانت حكومة نميري تعلن المجاعة !! ثم ضلوعه في مؤامرة اغتيال الاستاذ محمود محمد طه ، وتصريحه اكثر من مرة ، بان الاستاذ الشهيد يستحق القتل ، بسبب آرائه ، التي اعتبرها الترابي ردّة !! والترابي هو الذي كان قد افتى بان الردِّة الفكرية لا غبار عليها ، ثم هو الذي اعاد مادة الردة في القانون الجنائي !! وهو الذي كان عرَّاب حكومة الانقاذ ، الذي ساقها الى تبني الشعارات الاسلامية، التي سجنت بها خصومها في بيوت الاشباح ، وعذبتهم بسبب آرائهم ، ثم رفعت برعاية الترابي ، وتوجيهه ، شعار الجهاد، وقتلت اخواننا في جنوب السودان ، وفي جبال النوبة بنفس دعاوي التكفير .. ولقد بدل الترابي ، وغيَّر كثيراً في مواقفه وافكاره ، وما حديثه اليوم - حين ردت اليه بضاعته - عن حقه في حرية التعبير، الا ضرب من عدم الصدق.

والاشياخ الذين هرعوا لتكفير الترابي، ليسوا افضل حالاً منه !! فقد كفروه لاباحته زواج المسلمة من الكتابي ، ورفضه لنزول المسيح ، لانه بذلك خالف نصوصاً من القرآن والحديث.. ولكنهم هم ايضاً ، كاعضاء في مجمع الفقه ، التابع لرئاسة الجمهورية ، قبلوا ان يكون نائب رئيس الجمهورية ، مسيحياً ، وان يكونوا تابعين له ، وموالين له ، فخالفوا بذلك قوله تعالى « يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء بعضهم اولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين»!!

ومهما يكن من امر الترابي وآرائه ، فإن د. الافندي لم يكن محدداً تجاهها، فتارة يبدو مدافعاً عنها ، وتارة يبدو ناقداً لها ، وبين هذه وتلك ، يضطرب ، ويتردد، ويحاول شرح معانٍ دينية عميقة ، بلا علم ، وبنفس منهج الجرأة الزائفة، الذي عابه علي الترابي .

حديث الذبابة وحديث النخل:

تعرض د. الافندي الى حديث الذبابة ، وتعليق الترابي المشهور عليه ، فقال «وتميز موقف الترابي بأنه اتخذ موقفاً جذرياً بدأ برفض المنهج التقليدي وهو التشكيك في صحة الحديث وبالتالي التشكيك في اعتقاد سائد بين المسلمين السنة بصحة كل ما ورد في صحيحي البخاري ومسلم .... وحجة الترابي هي ان البخاري بشر غير معصوم ولا بد انه اخطأ فيما اسناد بعض ما اورده. ولكن حتى لو كان البخاري على حق في روايته فإن من المحتمل ان يكون الصحابي الذي نسب اليه الحديث قد أخطأ فيما نقل او لم يفهمه كما يجب، والصحابة ايضاً غير معصومين بل ان بعضهم قد سجل عليه كذب وتزوير، وحتى لو تجاوزنا عن هذا واثبتنا ان السند صحيح وان الصحابي المذكور قد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بدقة وموثوقية، فإنه يحق لنا ان نرفض المقولة النبوية اذا كانت تتعلق بشأن دنيوي. فعصمة الرسول صلى الله عليه وسلم تتعلق بالتبليغ في امر الدين وهو القائل «انتم اعلم بشؤون دنياكم» كما ورد في الحديث الذي نصح فيه المسلمين بعدم تلقيح النخل، وهي نصيحة اتضح انها لم تكن صائبة» هذا ما قاله د. الأفندي يدفع به عن آراء د. الترابي، ويعلن صراحة، موافقته عليها !!

فلماذا الحديث عن التحري عن صحة الحديث ، وعن صدق الصحابة ، اذا كنا ببساطة «يحق لنا ان نرفض المقولة النبوية اذا كانت تتعلق بشأن دنيوي» كما قرر د. الافندي؟! ان الدقة في التحقق والتحري، سببها انه يجب علينا ، بمقتضى الايمان ، ان نقبل بتسليم ، ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم .. قال تعالى في ذلك «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً» وما يشجر بيننا ، انما يتعلق بأمور الدنيا ، وليس امور الآخرة.. فالترابي قد خالف نص هذه الآية ومعناها ، وهو لم يقل بتضعيف الحديث، كما حاول د. الافندي ان يوهم القراء ، وانما قال «هذا امر طبي آخذ فيه برأي الطبيب الكافر ولا آخذ رأي النبي ولا اجد في ذلك حرجاً ولا اسأل عنه عالم دين» «راجع كتاب الصارم المسلول لأحمد مالك» .. فالترابي يرفض رأي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يجد في نفسه حرجاً ، بينما انه لو قبله ، ووجد في نفسه حرجاً ، لاخرجه ذلك من الايمان، حسب ما نصت الآية !!

والترابي في رفضه لحديث الذباب قد بنى على حديث النخل ، والافندي تابع له في ذلك .. فقد ورد في الحديث «ان النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة ، وجد الناس يلقحون النخل ، فقال: لو لم تلقحوه لأثمر . فلم يلقحوه ولم يثمر. فقالوا : يا رسول الله لم نلقحه ، ولم يثمر قال: اذهبوا فأنتم اعلم بشؤون دنياكم» .. فحين لم ينظر الترابي والافندي بعمق ، ظنوا ان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخطأ ، بل ان الافندي قال في جرأة ، لا تدانيها غفلة ، الا جرأة الترابي «كما ورد في الحديث ، الذي نصح فيه المسلمين بعدم تلقيح النخل ، وهي نصيحة اتضح انها لم تكن صائبة» !! والحق ان الافندي هو الذي أخطأ ، ولما لم يكن هنالك ادب ديني مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا ورع يعصمه عن التورط في التهلكة ، فإنه لم يتردد في قول ما قال .. وخطأ د. الافندي يجئ من عدة وجوه:

1- افتراضه ان النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي عاش كل حياته ، في جزيرة العرب ، لا يعرف ان النخل يلقح ، مع ان هذه المعرفة ، متوفرة لأي اعرابي ، لمجرد معيشته هناك.

2- أسوأ من ذلك !! افتراضه ان النبي صلى الله عليه وسلم، يفتي في ما لا يعلم ، وهو بذلك يسلك في مستوى، دون ما طلب الله من المؤمنين ، في قوله تعالى «قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وان تقولوا على الله ما لا تعلمون» .. فهو عليه السلام ، لا يقول بما لا يعلم ، ولا يتحدث فيما لا يعنيه ، ولقد كان يسئل، فيصمت ، او يقول لا اعلم ، انتظاراً للوحي.

3- لو كان ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، في امر تلقيح النخل خطأ، لصححه الوحي ، وهذا مقتضى العصمة، فالمعصوم هو الذي اذا اخطأ صححه الوحي.

ان الفهم الصحيح ، هو ان النخل لا يثمر بالتلقيح ، وانما يثمر باذن الله، وهذه الحقيقة هي مقتضى التوحيد .. ولقد قصد النبي الكريم ، ان يدعو الاصحاب ، الى مستوى رفيع من التوكل ، حين دعاهم لاسقاط الاسباب ، اعتماداً على الله ، وتوكلاً عليه ، فقال «لو لم تلقحوه لاثمر» ، لان الله في الحقيقة ، هو سبب الاثمار وليس التلقيح .. ولكن الاصحاب ، لم يحققوا هذا المستوى من التوكل ، فلم يثمر النخل .. ولهذا دعاهم مرة اخرى، الى الاسباب، حين قال «اذهبوا انتم اعلم بشؤون دنياكم» !! أي ان دنياكم دنيا اسباب ، ولهذا اذا لم تؤدوا الاسباب، سوف لن تجدوا نتائج، الا اذا ارتفعتم من الاسباب ، الى رب الاسباب.

أما مريم ابنة عمران ، فإنها تركت الاسباب، ولم تلتفت اليها ، فتحقق لها ما تريد .. قال تعالى «كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب» فهي لم تترك المحراب لتكسب رزقها ، فارسل الله لها رزقها في محرابها ، بلا حاجة لسبب!!

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يعلم ان الاصحاب دون هذا المستوى الرفيع، من التحقيق ، ولكنه كان يشدهم اليه ، حتى يشمروا نحوه، ويحققوا منه اقداراً متفاوتة .. فقد ورد في الحديث انه صلى الله عليه وسلم قال «لا عدوى ولا طيرة» فقال اعرابي: يا رسول الله انا نرى البعير الاجرب يلحق بالقطيع فيحيل ما فيه من الابل جرباً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن اجرب اولها ؟!» فسكت الاعرابي . ففي الشريعة هناك امراض معدية، وواجب الاصحاء ان يجتهدوا في الابتعاد عن المرضى، ولكن في الحقيقة ان المرض بيد الله ، وانه ليس هناك عدوى!!

حديث الافندي عن الفكرة الجمهورية يفتقر للصدق:

يقول د. الافندي «ولعل الحل الجذري الابرز هو ذلك الذي لجأ اليه المفكر الراحل محمود محمد طه وحركته الجمهورية حين قرر نسخ كل النصوص القرآنية المدنية ومعها السنة وما تفرع عنها من موروث اسلامي، والبدء من جديد في استحداث تشريع اسلامي من نقطة الصفر. ولكن الحل الجمهوري واجه اشكالين رئيسيين: الاول هو انه حين كنس التشريع الاسلامي الموروث بأكمله بجرة قلم، احل محله رؤية تتطابق مائة بالمئة مع المنظور الغربي الحديث في الحريات وحقوق الانسان. والثاني أن مثل هذا الحل الجذري يحتاج الى دعوى بسند سماوي جديد وتصريح الهي مباشر من الهام او نحوه. أي بمعنى آخر ان الامر يحتاج الى وحي جديد ودين جديد وهو تحديداً ما تضمنته الدعوى الجمهورية، وهو امر يجعلها مشبوهة اكثر، خاصة عند اهل الحداثة الذين تستهويهم دعواها الاولى، ولكن يصعب عليهم تقبل محتواها الصوفي الميتافيزيقي».

ولو كان د. الافندي باحثاً جاداً ، او مفكراً مسؤولاً ، لما خاض في امر الفكر الجمهوري ، بهذه السطحية ، وهذه العفوية. ذلك لأن الفكرة مرصودة في كتبها ، ومسجلة على اشرطة ، وقد وضعت في صفحات الكترونية ، يطلع عليها من شاء ، من جميع انحاء العالم .. وكل من قرأ ولو كتابا واحدا للفكرة الجمهورية ، يعلم ان الاستاذ محمود، لم يقل مطلقاً بنسخ كل النصوص المدنية، ولم يقل بنسخ السنة، بل دعا الى بعث السنة .. وهو على التحقيق، لم يقل بـ «كنس التشريع الإسلامي الموروث بأكمله بجرة قلم» !! فهل يعارض الأفندي الفكرة، بأن ينسب اليها ما لم تقله، ام ان ما يليق به كباحث هو ان يرجع اليها في مظانها، ويناقشها فيما جاء في الكتب؟

ولما كان د. الافندي لا يعتمد على الفكرة الجمهورية، ولا يورد ما يصدق دعواه من كتبها، فإن ما قرر انه اشكالية تواجهها ، لا يقوم الا في وهمه فقط .. فهو قد قال ان اشكالية الفكرة الجمهورية الاولى ، انها قدمت رؤية تتطابق مئة بالمئة ، مع المنظور الغربي الحديث ، في الحريات وحقوق الانسان .. وهذا غير صحيح !! فالفهم الغربي الحديث ، يوافق اصول القرآن ، التي دعت اليها الفكرة الجمهورية، اجمالاً.. ولكن هنالك خلاف جذري ، بين الفكرة وبين الفكر الغربي الحديث ، لا يتسع المجال لتفصيله. ولكن فحواه هو ان الفكرة الجمهورية ، حين دعت للحرية ، والديمقراطية ، طرحت منهاجاً اخلاقياً تربوياً، هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، لتحقيق هذه القيم ، بينما الفكر الغربي لا يملك منهاجا ، ولا يهتم بالتربية الاخلاقية.

والاشكالية الثانية ، حسب زعم د. الافندي ، ان الحل الجذري يحتاج الى وحي جديد، وهو ما تضمنته الفكرة الجمهورية، وجعلها مشبوهة !! فأين ذكرت الفكرة الجمهورية ، انها دين جديد ، وانها تحتاج الى وحي جديد ؟! ان ما زعمه د. الافندي ، عار تماماً من الصحة ، ومنذور الحظ من الصدق و الامانة العلمية ، ثم هو يتناقض تماماً ، مع ما ذكرت الفكرة في كتبها .. فهل كان د. الافندي يعرف ذلك ، ثم ادعى ما ادعى ليخفف وطء مفارقات الترابي ؟! أم ان د. الافندي لا يعرف شيئاً ، ويعتقد حقاً وصدقاً ، ان الفكرة الجمهورية تدعو الى دين جديد ؟! وهذا ان صح ، فإنه جهل فريد من نوعه ، لا يجاريه فيه ، غير وعاظ التكفير ، امثال عبد الحي يوسف ، الذي حين اورد نصوصاً من كتب الاستاذ ، اضطر لبترها ، تزويراً ، وتحريفاً ، وكذباً ، حتى يستطيع ان يخلص الى تكفير الاستاذ محمود والجمهوريين.

____________________

* https://www.alsahafa.info/news/index.php ... 2147503451
** https://www.alsahafa.info/news/index.php ... 03048&bk=1
صورة العضو الرمزية
قصى همرور
مشاركات: 278
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 11:07 pm

مشاركة بواسطة قصى همرور »


تعقيب على مقال الأفندي «عن الشيخ الترابي وأزمة الحركة الإسلامية المعاصرة»* (2-2)
د. عمر القراي

مأزق الافندي

بيننا وبين الترابي

يقول الافندي «الشيخ الترابي اتهم من قبل خصومة بانه يقارب في دعواه الاصلاحية الشطحات الجمهورية، ولكن الترابي لم يدع وحياً جديداً وانما استصحب دعوى الحداثة الاكبر «ودعوى قدامى فلاسفة المسلمين حتى ابن رشد» من ان العقل الانساني هو في حد ذاته مصدر سلطة قد تعلو احيانا على اية سلطة أخرى دون سلطة الوحي ...». والفكرة الجمهورية ، كما ذكرنا ، لم تدع وحياً جديداً، وانما فهمت الوحي القديم ، فهماً جديداً، يقوم على اصول القرآن، وحاجة العصر، وعلى د. الافندي ان يرجع لمصادرها ، ليثبت صحة دعواه .. كما ان الترابي ، لم يعتبر العقل سلطة دون الوحي ، كما ذكر الافندي ، ممالاة بالباطل ، وانما اعتبره سلطة فوق الوحي !! فهو قد رفض النصوص ، لانها لم توافق عقله ، او عقل العلماء في عصره .. ففي حديث الذبابة مثلاً ، فضل عقل الطبيب ، على نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي زواج المسلمة من الكتابي ، فضل عقل الانسان المعاصر، على النص القرآني ، وهكذا في سائر مفارقاته .. فهل يقرب هذا، ولو من بعيد، لما دعا اليه الاستاذ محمود من الانتقال من نص قرآني فرعي، خدم غرضه حتى استنفده، الى نص قرآني اصلي، مازالت الحاجة اليه ماثلة؟!

ولعل الفرق الاساسي ، بين الاستاذ محمود و د. الترابي، هو ما اشار اليه د. الافندي ، حين قال عن الترابي «فقد اضطر مثلاً الى التراجع عن معظم اقواله حول زواج المرأة من كتابي وحد الردّة والتشكيك في البخاري والعصمة النبوية امام انتقادات التقليديين العنيفة. وقبل ذلك كان قد نشر كتيبه عن المرأة ، في مطلع السبعينيات باسم مستعار في اول الامر، ولقد ادى ذلك الى ازدواجية في الخطاب» !!

هذا التذبذب في مواقف الترابي ، وآرائه ، ثم تهربه عن مسؤولية قوله، بالتخفي بالاسم المستعار، هو اكبر الادلة على عدم الصدق ، وضآلة العلم .. وهو ما لا يستطيع د. الافندي ، ولا غيره ، نسبته الى الاستاذ محمود، فلقد رأى خصوم الاستاذ كيف ثبت على مبدئه حتى لقى ربه، والذين اطلعوا على افكاره لاحظوا ان الانسجام التام، هو ما يميز كل ما كتب، منذ اول بياناته ، وحتى آخر ما خطت يمينه.

أين يضع الأفندي نفسه ؟

يقول د. الافندي عن د. الترابي «فقد كانت للشيخ الترابي حلقة داخلية صغيرة من الانصار يخاطبها بصريح آرائه الفقهية، بينما كان يدخر خطاباً آخر لعوام الخلق ... واخذ يسود وسط هذه الصفوة المدعاة استخفاف كبير ببقية المسلمين وفهمهم للدين، بل وبكثير من تعاليم الدين» !! ولقد دل د. الافندي بهذا الحديث ، وغيره مما ورد في مقاله، على انه لم يعد يوافق د. الترابي .. فما رأيه في الجناح الآخر، من الحركة الاسلامية ، التي كان عضواً فيها؟

يقول د. الافندي عن الجناح الآخر للحركة الاسلامية «فلم يجدوا بأساً في الايقاع به وانكار سابقته، لانهم اصبحوا يرون انفسهم فوق كل شريعة وعرف، ولا نزال نسمع من بعضهم تصريحات يستخفون بها بالعباد أفراداً واحزاباً وأمة، اضافة الى ما نعلمه مما يتداولونه في مجالسهم ويتناجون به من آراء خلاصتها انهم قادرون على حكم الشعب بالحديد والنار والكذب والنفاق وشراء الذمم، وان الامة بكل من فيها من شمال وجنوب وشرق وغرب ليس فيها فرد او جماعة تستطيع تحديهم، وهو غرور اورد الترابي ما هو فيه، وسيكتشف تلاميذه قريباً أن شيخهم كان محظوظاً، لأن مصيرهم سيكون اسوأ بكثير» !! وهكذا ادان الافندي جناح الحركة الاسلامية الذي في السلطة، وكشف لنا عنهم ما يفوق سوء الظن العريض، وصورهم لنا كمافيا لا علاقة لها بالدين!!

ثم يخلص د. الافندي، الى الحديث عن ازمة الحركات الاسلامية المعاصرة فيقول «وهي ايضاً ازمة نخبة حديثة، اما انها اعرضت عن الاسلام اعراضاً، او انها فشلت اخلاقياً وفكرياً في قيادة الأمة باتجاه احياء الفكر الديني، فهي تتأرجح بين قيود التراث ومتاهات الخواء الاخلاقي الحداثي».

لقد بدأ د. الافندي عضواً في الحركة الاسلامية، تحت زعامة الترابي ، وقبل بحكومة الانقاذ ، وتعاون معها ، ثم اختلف معها ، دون ان يوضح سبب ذلك ، واخذ ينقدها ، اولاً ، لا من موقع الحداثة ، وانما لعدم تطبيقها للشريعة .. وبعد ذلك ، تبنى افكار الحداثة اكاديمياً ، واخذ يكتب عن الديمقراطية وحقوق الانسان .. وها هو ينتقد شيخه ، وينتقد رفاقه في حكومة الانقاذ، ثم يضعف اخلاقياً، عن ان يعلن في اية مرحلة من مراحل تحولاته، انه كان مخطئاً ، او انه تبنى فكراً جديداً سيحقق به الخلاص من ازمة الفكر الاسلامي المعاصر.. فاين انتهى به المطاف ؟!

واذا كان د. الافندي لا يقبل الفهم المتحجر الذي كفر الترابي، ثم هو في نفس الوقت يرفض اجتهادات الترابي، ويرفض الحداثة الغربية المشبوهة، ويرفض آراء الجمهوريين، دون ان يطلع عليها، ثم لا يقدم لنا فهماً بديلاً عن كل ذلك.. فهل يصف هنا، شيئاًً آخراً، غير نفسه حين يقول: «تتأرجح بين قيود التراث ومتاهات الخواء الاخلاقي الحداثي»؟!

__________________

* https://www.alsahafa.info/news/index.php ... 03476&bk=1
صورة العضو الرمزية
قصى همرور
مشاركات: 278
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 11:07 pm

مشاركة بواسطة قصى همرور »


عودة إلى مأزق الأفندي!!*(1ـ2)
د. عمر القراي

توقع بعض القراء، الذين تابعوا مقالي السابق في الرد على د. الأفندي، ان يرد بمواجهة المسائل المحددة التي أثرتها في ذلك المقال.. فيعقِّب مثلاً، على ما ذكرته من جهله بالفكرة الجمهورية، ثم عدم تردده في الخوض فيها، واتهامها دون الرجوع لمصادرها، بأنها تدعو إلى دين جديد، وتدعي وحياً من الله!! أو ما أثرته عن ان د. الافندي يقع في مأزق، فهو يعارض د. الترابي، شيخه السابق، ويعارض الجناح الآخر من الحركة الاسلامية، ثم لا ينفي أنه ما زال في اطار الفكر الاسلامي، ثم هو لا يحدثنا عن رؤية جديدة، تختلف عن اجتهادات الترابي، التي هاجمها، أو آراء خصومه الذين كفَّروه، وتتفق مع الاسلام، ومع مفاهيم الحداثة الغربية التي يزعم انه عالم بها.

لقد كان نقدي السابق، مؤسساً على ما كتب الافندي، فلم يترك لصادق مندوحة إلا الموافقة عليه، أو على أقل تقدير قبوله، وعدم التعقيب.. ولقد كنت لحسن ظني بالأفندي، اتوقع منه ذلك، ولكنه اخلف حسن ظني، فلم يواجه الموضوع كما تصوَّر بعض القراء، ولم يصمت كما توقعت أنا، وانما دار هنا وهناك، يباعد الامر ويقاربه، ويذكر اسمي على استحياء، وكأنه لم يكتب ليرد عليَّ**، وينسب لي التناقض فيما لا تناقض فيه، وذلك ليبرر لنفسه وللقراء، انه قد رد على مقالي، وانه يتابع ما يكتب حول آرائه، ثم يجنح مرة اخرى للتعميم، ليؤكد أنه غير متأثر بنقدي له، ولا يود متابعته بالرد المفصل، الذي يوهم القراء بأنه يستطيعه ثم يزعم أننا لم نفهم القضية الاساسية، ويخبرنا انها ليست تكفير الترابي، ولا هي قضية حرية الرأي، ولا هي مأزقه هو، ويقفز بنا الى مسائل جديدة مثل جدلية الوحي والفكر الانساني ويدعي أنها هي الموضوع الاساسي للحوار!! ولو كان د. الافندي واثقاً من ثقافته الغربية، ومن فكره الاسلامي، لما اضطرب كل هذا الاضطراب، في قضايا بدهية، كان عدم المامه بها، كافياً ليحرمه من الكتابة فيها، لو كانت الكتابة، تقتضي اي قدر من المسؤولية العلمية أو الدينية.

أسوأ المآزق ما لا يشعر به صاحبه

يقول د. الأفندي (وبالتالي فإن تكرار الحديث بأن العبد الفقير إلى مولاه يواجه «محنة» أو «مأزقاً» بسبب التدهور الذي اصاب الحركة الاسلامية عامة والسودانية خصوصاً يعكس محنة ومأزق من فرضوا على نفسهم الأمية ويريدون كما كررت سابقاً للكاتب ان يكتب ثم يقرأ نيابة عنهم، وهو دور للأسف لا نملك الوقت ولا الرغبة في القيام به. فلسنا وكلاء عن من فرضوا على أنفسهم الأمية خاصة في عصر الانترنت الذي يكفي ان تجري البحث فيه عن اسم كاتب فترِدك آلاف الصفحات عما كتب وما كتب عنه بكل اللغات. ونحن ننصح هؤلاء الاخوة بمداواة أميتهم بشئ من القراءة أو أن يسألوا أهل الذكر كما يفعل الاميون الذين يحترمون انفسهم قبل أن يخوضوا فيما ليس لهم به علم). هذا ما قاله الافندي، وهو ينضح بالغرور والادعاء، إذ يتهمنا بالأمية، وينصحنا بالقراءة، ويشرح لنا كيف نستعمل الانترنت كي نداوي اميتنا، أو نسأل أهل الذكر اذا لم نستطع استعمال الانترنت!! ولكن مع كل ذلك، عجز الافندي عجزاً بيِّناً، عن دفع الاتهام بأنه هو شخصياً يعيش في مأزق.. ليس بسبب التدهور الذي أصاب الحركة الاسلامية السودانية، وانما بسبب عجزه هو شخصياً، عن ان يتبنى رؤية جديدة، تمثل فكراً اسلامياً بديلاً، يخرجه من هذه الأزمة العامة، الى ما تطمئن به نفسه، ويصح به دينه.

فلو أن الافندي عقَّب على حديثنا السابق عن مأزقه، بأنه لا يعاني أي مأزق، وانه خلافاً للترابي، وخلافاً لجماعة الانقاذ، منسجم مع افكاره، ولم يغيِّر مواقفه ومنطلقاته، وانه حين ادان هؤلاء، يملك الفهم الاسلامي الصحيح، البديل عن تطبيقاتهم الخاطئة، ودلل على ذلك من كتابته التي ذكر انها تسد الافق، لواجه الاتهام الذي رفعناه في وجهه. ولكن الافندي فضَّل أن يقف موقف المتفرج، في لعبة لا تعنيه، ينظر فيها من عل الى الحركة الاسلامية، التي تربى في كنفها، وهي تعاني من محنة انقسامها، وفشل شعاراتها، وتكفير مرشدها، وفساد حكامها.. وكأن مهمته في الحياة هي مجرد النقد، وكأنه لم يكن الى وقت قريب، يعمل مع حكومة الانقاذ، التي وصفها في مقاله بالظلم والفساد، ولم يكن متبعاً للترابي كشيخه وقائده.. إن الافندي يريد ان يمسح تاريخه بجرة قلم، ويلقي باللوم على اخوانه في الحركة الاسلامية، ويظل هو رغم حيرته، بمعزل وكأنه المفكر الذي لا يعاني من اي مشكلة.. أليس هذا في حد ذاته، انفصاماً غريباً، يحتاج صاحبه الى علاج، ينبغي ان يشغله عن نقد الآخرين؟!

أما نحن فقد ركزنا على مأزق الافندي، لحرصنا عليه، لاننا نرى ان الافندي غاية في ذاته، وان واجبه الاساسي هو تدارك امر نفسه.. وذلك لان الاعتبار الديني الاول، هو اعتبار الانسان لنفسه، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا عليكم انفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم الى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون). وقال جلَّ من قائل (ومن يرغب عن ملة ابراهيم إلا من سفه نفسه).. فلماذا يريد د. الافندي ان يسفه نفسه، ولا يحفل بمصيرها، ثم اذا ذكر بذلك يتطاول على من نصحوه، ويصفهم بالأمية؟!

ولا عبرة لوصف الافندي لنا بالأمية، لأن فهمه لها فهماً سطحياً، فهو لا يعني اننا لا نستطيع القراءة والكتابة، وانما الأميه عنده مطابقة للجهل، وهذا هو الفهم الشائع، والسطحية دائماً، تأتي من اتباع الفهم الشائع.. والحق أن الأمية لا تعني الجهل، فقد كان أعلم الخلق وأكرمهم على الله أمي!! قال تعالى (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر).

أما الاستاذ محمود محمد طه، فإنه حين رفع النبي صلى الله عليه وسلم، نموذجاً تتأسى به البشرية جمعاء، في كتابه (محمود محمد طه يدعو الى طريق محمد)، رفع الأمية، كقيمة ايجابية، فقال (والأمية تعني سلامة الفطرة من زغل التحصيل وتعقيد التفلسف والتنطع الذي
يصاحب التعليم عادة).

ما هي القضية الأساسية؟

نحن نرى ان القضية الاساسية، هي ان الأفندي غير مؤهل لنقد الحركة الاسلامية.. لانه كان ولا يزال جزءاً منها، ولأنه في داخلها مضطرب الولاء والتفكير، ولأنه انتقد الترابي وانتقد جناح الانقاذ الحاكم، ثم لم يحدد رؤيته الاسلامية التي تختلف عنهما، ومن هنا تحدثنا عن مأزقه.. ولكن الأفندي لا يظن ان فكره، ومواقفه هي القضية الاساسية، بل يرى ان (القضية الاساسية التي اردنا معالجتها «وظللنا نعالجها من زوايا مختلفة لاكثر من اربعة قرون» هي المتعلقة بالفكر الاسلامي المعاصر، وهي انه فكر يستصحب الحداثة والعقلانية الاوربية المعاصرة في نظرته للتراث الاسلامي. والفرق بين الاسلاميين وخصومهم من العلمانيين هو ان الآخيرين يحاكمون التراث الحداثي الغربي. بينما يتخذ الاسلاميون موقف الدفاع عن التراث الاسلامي عبر محاولة المواءمة بينه وبين ما يصعب رده من مقتضيات الحداثة. ولكن موقف الاسلاميين الدفاعي يختلف أيضاً عن موقف التقليديين الذين يماثلونهم في بناء الخنادق الدفاعية في أن الحركات الاسلامية تحتضن بعض مظاهر الحداثة، بل تعتبر نتاجاً لها وترفض بعض توجهات التقليديين المحافظة).

هذا وصف الافندي للقضية الاساسية، وهو وصف خاطئ، ولكننا لا نود ان نقف عنده الآن.. فلو اننا سلمنا جدلاً، بأن وصفه هذا صحيح، فهل قدَّم حلاً للحركات الاسلامية أو العلمانية؟ وهل وضَّح للقارئ ايهما افضل اتجاه تبني الحداثة ام اتجاه التعصب الذي يرفض الحداثة أم اتجاه العلمانيين؟ وهل أبان عن موقفه هو من هذه التيارات؟

ان مثل هذا السرد القصصي، الذي يشبه الروايات الضعيفة، هو ما شغل به الافندي نفسه، خلال اربعة عقود، فلم يعطه وقتاً ليفكر في نفسه، ويهتم بمصيرها، واين يضعها بين هذه الجماعات المتباينة.

اما الخطأ في هذا الوصف، فيجئ من ان الحركة الاسلامية، لم تختر الحداثة عن قناعة، ولم تستصحبها عن نظر متعمق، يدرك قيمتها، وانما اضطرت إليها اضطراراً، حماية لمصالحها في الكسب السياسي، الذي لا علاقة له بالدين.. فالترابي نفسه بدأ متشدداً، ولقد صرَّح حين طرح الدستور الاسلامي لأول مرة، بأن غير المسلم، لا يجوز له مجرد الترشيح، لمنصب رئيس الجمهورية، وكان هو من وضع مادة الردَة في القانون.. فاذا قال اليوم إنه ضد التكفير، وان غير المسلم يمكن ان يتزوَّج المسلمة، وعارض حكومة الانقاذ التي كان عرَّابها، فهل فعل ذلك لانه أراد ان يستصحب الحداثة، ام لانه يريد ان يصاحب مصلحته، التي لا علاقة لها بالدين؟!

والافندي كنموذج آخر، بدأ مؤيداً لحكومة الانقاذ، وموظفاً فيها، ثم شعر بأن هناك هجمة عليها من الدول الغربية، التي تبنت مؤخراً اتجاه الهجوم على الارهاب والتشدد الاسلامي.. ولما كان يريد ان يظهر كمفكر وباحث، في جامعاتها، كان لا بد ان يركب موجة نقد التطرف الاسلامي.. وهو لا يمكن ان يقبل منه ذلك، الا اذا اثبت بنقد الحركة الاسلامية المكثف، انه لم يعد عضواً فيها، وهكذا فضَّل مصلحته الدنيوية على معتقده الديني!! والدليل على ان الافندي ليس مخلصاً للفكر الغربي الحديث، بل ليس ملماً به بالقدر الكافي، ما ظهر في مقاله عن فهمه للحرية، مما سنعرض له في موقعه.

_______________

* https://www.alsahafa.info/index.php?type=3&id=2147503968
** https://www.alsahafa.info/index.php?type=3&id=2147503772
صورة العضو الرمزية
قصى همرور
مشاركات: 278
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 11:07 pm

مشاركة بواسطة قصى همرور »


عودة إلى مأزق الأفندي!!*(2ـ2)
د. عمر القراي

مفهوم الحرية عند الأفندي

يقول الأفندي (من هنا فإن من قادوا حملة تكفير الشيخ الترابي لم يحالفهم التوفيق. فإنه يحق لمن شاء أن يخالف الترابي واجتهاداته ولكن لا يحق لهم التشكيك في عقيدته ونياته. ولا علاقة لهذا بما ذهب اليه البعض «عمر القراي في جريدة الصحافة.. على سبيل المثال» من ان التكفير اعتداء على حرية التعبير. فالقراي هنا يناقض نفسه حين يدافع عن حرية التعبير بينما يهاجم الذين يعبرون عن رأيهم الديني. فكما أشرت أيضاً في مقالة سابقة في «القدس العربي» فان حرية التفكير تستتبع حرية التكفير. ذلك ان توضيح اسس العقيدة في كل دين يشتمل على تحديد للاطار الذي يحدد حدود العقيدة وما هو داخلها وما هو خارجها. فأنظمة اللاهوت كما يقول محمد أركون هي نظم من الاقصاء المتبادل. والقائمون على كل ملة من العلماء وغيرهم يرون أن من واجبهم التنبيه الى ما يرونه خروجاً عن أُسس العقيدة).

أول ما تجدر الاشارة اليه، هو ان كل انسان حر، ولكن ثمن الحرية هو حسن التصرف فيها.. وآية حسن التصرف، ان تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الآخرين. ولهذا لا يجوز لك ان تقول انني حر في ان اقول ما اشاء، ولو كان تكفير الآخرين، والاساءة الى معتقداتهم وعقائدهم.. فالتكفير اعتداء سافر على حرية التعبير، الغرض منه في النهاية، اسكات صوت الشخص الذي تم تكفيره بإنهاء حياته، أو بإجباره على التنازل من معتقداته.. لهذا فالذين كفروا الترابي، طالبوا بإيقاف محاضراته، والذين كفروا الاستاذ محمود من قبل، طالبوا باحراق كتبه، وقفل دور حزبه.. أسوأ من ذلك فإن التكفير، يمثل إعطاء رخصة للمتطرفين، لأخذ القانون في أيديهم، وقتل الشخص البرئ، الذي تم تكفيره.. وهذا ما حدث للمفكر المصري د. فرج فودة، فقد افتى احد الاشياخ بكفره، فخرج عليه شابان من الجماعة الاسلامية، واردياه قتيلاً.. ولقد ذكر الشاب الذي حاول قتل الكاتب المشهور نجيب محفوظ، انه لم يقرأ أي كتاب من كتبه، وانما فعل ما فعل، لانه سمع فتوى من شيخ، يكفِّر فيها الكاتب الكبير!! فإذا جاء الافندي بعد كل هذا، ليحدثنا عن ان التكفير، لا يمثل اعتداءً على حرية التعبير، فإنما هو رجل لا يدرك معنى ما يردد.

إن الفكر الغربي الحديث، يعتمد في أمر الحقوق والحريات، على مرجعية الشرعة الدولية لحقوق الانسان، التي تتكون من: الاعلان العالمي لحقوق الانسان، والعهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، واتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز ضد المرأة.. وفي كل هذه المواثيق، تكرر تأكيد حرية الاعتقاد، وحرية التعبير عن المعتقد، وعدم حق الافراد او الدول في التغول على هذا الحق، بإرهاب اي شخص، أو اجباره على التنازل عن اعتقاده، أو تحقيره، والتمييز ضده، أو حرمانه اي مكانة سياسية، أو اجتماعية، بسبب دينه أو معتقده. فاذا كان الافندي يفهم هذا، فما هو التناقض الذي يأخذه علىَّ، حين ادعو الى حرية التعبير، وأدين في نفس الوقت، الاشياخ الذين كفَّروا الترابي، وامروه بالتوبة عن آرائه؟!

أما من حيث الفهم الديني، القائم على اصول القرآن، فإن كل شخص حر، في أن يؤمن أو يكفر.. قال تعالى في ذلك (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).. وواجب المسلم، ان يذكر الناس بالدين، ولا يجبرهم عليه.. قال تعالى (فذكر انما انت مذكر * لست عليهم مسيطر).. فإذا دعاهم يدعوهم بالحسنى.. قال تعالى (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).. ثم هو يجب ألا يلح عليهم، لأن هدايتهم ليست من واجبه.. قال تعالى (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء).. فاذا رفضوا الدعوة، وأبوا ان يدخلوا في الاسلام، فليس من حق المسلم، ان يسب معتقداتهم، ويسئ الى عقائدهم.. قال تعالى (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم كذلك زيَّنا لكل أمة عملهم ثم الى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون).

ان ما ذكره الافندي، من أن أصحاب العقائد لا بد لهم من وضع حدود لعقيدتهم، وتحديد من هو خارجها أو داخلها، وان العلماء لذلك يمكن لهم، بل من واجبهم تكفير من يرون انه يخالف اسس عقيدتهم، أمر معروف.. ولكن ما لا يعرفه الافندي، وهو يحتاجه ليخرج به من مأزقه، هو ان هذا المستوى هو مستوى الشريعة، وهو قد كان حكيماً كل الحكمة في وقته، ولكنه لا يناسب وقتنا الحاضر، لانه يخالف اصول الاسلام، التي تحدثنا عنها أعلاه، ويخالف الشرعة الدولية لحقوق الانسان.. ولهذا فأنا لا أدعو لتطبيق الشريعة، التي تقوم على فروع القرآن، وانما ادعو الى السنة التي تقوم على اصوله.. بهذا الفهم المؤسس الذي طرحه الاستاذ محمود محمد طه، فيما عرف بتطوير التشريع الاسلامي، في الانتقال من الفروع الى الاصول، ومن الشريعة الى السنة، الحل الجذري لأزمة الحركات الاسلامية، التي عجزت عن تطبيق الشريعة، كما عجزت عن رؤية المستوى الأرفع من الدين.. ولكن الافندي ذكر انه لا يريد ان يناقش الفكرة الجمهورية، ولكنه لم يستطع ان يهملها تماماً، فهو يرهق نفسه في امرها، دون طائل، ويصدق فيه قول القائل:

وعن مذهبي لما استحبوا العمى على الهدى
حسداً من عند انفسهم ضلوا
فهم في السُرى لم يبرحوا من مكانهم
وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا

لقد ذكر الأفندي، أنه خالف اخوانه المسلمين، حين طالبوا بإسكات سلمان رشدي، رغم ادانته لما كتب، فلماذا فعل ذلك؟ لقد افتى الامام الخميني، بكفر سلمان رشدي، ووضع جائزة لمن يقتله. فاذا كان الافندي يرى ان من حق الخميني، ان يكفِّر سلمان رشدي، قياساً على حق العلماء في تحديد من هو داخل العقيدة، فكيف يقبل بالتكفير، وينكر اولى نتائجه، وهي اسكات صوت الكافر؟! ان الشريعة التي أعطت العلماء حق حماية العقيدة، بتكفير من يرونه خارجاً عنها، هي نفسها التي امرت بإسكات صوت الكافر، ومصادرة حقه في الحياة، فليأخذها الافندي كلها، أو يتركها كلها!!

وتعصب أصحاب العقائد الى عقائدهم، ونعتهم من خالفهم بالكفر، هو ما جعل محمد أركون يعتبر اللاهوت اقصاءً منظماً. وما فات على اركون، هو ان اللاهوت يبدأ من مرحلة العقيدة، حيث الاقصاء للآخر، ويرتفع نحو مرحلة العلم، حيث القبول بالآخر، مهما كان اعتقاده، واعطاءه الحق في التعبير، وعدم تكفيره، فليقرأ اركون ان شاء قوله تعالى (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

ضعف الفهم الديني

ومن ضعف الفهم الديني قول الأفندي (والعقيدة الاسلامية هي ما تواضع عليه المسلمون وتوارثوه كما ان اللغة العربية هي ما تحدث به العرب)!! والخطل في هذا التقرير، هو ان اللغة قد صنعها الناس في حركة حياتهم اليومية، وطوروها لتعبِّر عن حاجاتهم المختلفة، بينما العقيدة جاءت من إلمامة السماء بالارض، لتهذِّب اعراف المجتمع، وتربطها بالاعالي.. والمسلمون قد يتواضعوا على مفاهيم، وعقائد، ويتوارثوها، ثم تكون مفارقة للدين، وتصبح جماعة المسلمين رغم كثرتها بلا وزن عند الله لمفارقتها للحق، فقد جاء في الحديث (يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كتداعي الأكلة على القصعة. قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل انتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل لا يبالي الله بكم).. فالجماعة ليست المرجع، وانما المرجع الحق، وان قل انصاره..

ولقد بنى الأفندي على تقريره، ان ما يتواضع عليه الناس هو العقيدة الاسلامية، رأياً فحواه أن الفكرة الجمهورية خارجة عن الاسلام، لانها قدمت فهماً لا يوافق عليه المسلمون.. أسمعه يقول (وبالمثل فإن من جاء بفهم جديد للاسلام يناقض ما تواضع عليه المسلمون «بغض النظر عن صحة مقولته او عدمها» يقف خارج أرضية الاسلام) هذا ما قاله الافندي.. فاذا فرضنا ان هذا الشخص، الذي خالف المسلمين، قدم مقولة صحيحة، فإنه يكون قد جاء بالحق، فهل يمكن ان نقول لمن جاء بالحق، إنك خارج على أرضية الاسلام لأنك خالفت ما تواضع عليه المسلمون؟!

ان الافندي الآن ينقد الحركة الاسلامية جناح الترابي ، وجناح الحكومة، وهو بهذا ضد الحركة الاسلامية السودانية، فهل يعني هذا انه بالضرورة يقف خارج ارضية الاسلام؟!

في مقاله السابق، تناول الافندي حديث تأبير النخل المشهور، فقال (فعصمة الرسول صلى الله عليه وسلم تتعلق بالتبليغ في أمر الدين وهو القائل «انتم اعلم بشؤون دنياكم» كما ورد في الحديث الذي نصح فيه المسلمين بعدم تلقيح النخل وهي نصيحة اتضح أنها لم تكن صائبة)، ولقد ذكرت رداً على الافندي ما يلي (وخطأ د. الافندي يجئ من عدة وجوه:

1- إفتراضه ان النبي صلى الله عليه وسلم، الذي عاش كل حياته، في جزيرة العرب، لا يعرف ان النخل يلقَّح، مع ان هذه المعرفة، متوفرة لأي اعرابي، لمجرَّد معيشته هناك.

2- أسوأ من ذلك!! افتراضه ان النبي صلى الله عليه وسلم، يفتي فيما لا يعلم، وهو بذلك يسلك في مستوى، دون ما طلب الله من المؤمنين، في قوله تعالى (قل إنما حرَّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وان تقولوا على الله ما لا تعلمون).. فهو عليه السلام، لا يقول بما لا يعلم، ولا يتحدث فيما لا يعنيه، ولقد كان يُسأل، فيصمت، أو يقول لا أعلم، انتظاراً للوحي.

3- لو كان ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، في امر تلقيح النخل خطأ، لصححه الوحي، وهذا مقتضى العصمة، فالمعصوم هو الذي اذا اخطأ صححه الوحي). انتهى حديثي في المقال السابق.

ولم يناقش الأفندي هذه الحجج، وتركها جانباً، ليقول (وبحسب القراي فإننا والصحابة وكل اجيال المسلمين السابقة على خطأ بل واسأنا الادب مع الرسول صلى الله عليه وسلم حين اتهمناه بالجهل بأمر تلقيح النخل وهو ابن الصحراء... هذا الفهم غاب كما ذكرنا عن كل اجيال المسلمين حتى فتح الله به على القراي وشيخه بوحي منه حيث لا توجد وسيلة اتصال اخرى مباشرة ليصحح بها الرسول هذا الفهم الخاطئ. وهذا يعني ان الرسول صلى الله عليه وسلم كتم الرسالة وغش المسلمين حين لم يوضِّح لهم الامر بهذه الصورة وهي تهمة أسوأ بكثير من الجهل بإجراءات تلقيح النخل)

وليس كل الاصحاب، وكل السلف الصالح، يتفقون مع الافندي في اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالجهل بأمر تلقيح النخل، لأن منهم من يعتقد انه صلى الله عليه وسلم، علم علوم الاولين والآخرين، فالبصيري امام المديح يقول مخاطباً النبي الكريم:

فان من جودك الدنيا وضرتها * ومن علومك علم اللوح والقلم

ولقد كتب السادة الصوفية كثيراً، عن الفرق بين علم الشريعة وعلم الحقيقة.. واوضحوا كيف ان النبي صلى الله عليه وسلم قد خاطب الاصحاب بالحقائق، ولم يكلفهم بها، وانما نزل لهم لما يطيقون من الشريعة.. وضربوا المثل بحديث النخل، وحديث العدوى، وحديث البقرة التي تتكلم وغيرها.. فهل اطلع الافندي على هذا العلم المبذول، قبل ان يقرر في سطحية مؤسفة، انه لا يتأتى إلا بالوحي؟!

ولئن كان وصف النبي الكريم، بكتمان الرسالة، أسوأ من اتهامه بالجهل بتلقيح النخل، فان هذا ايضاً ذكره الافندي، ولم نذكره نحن. وذلك لاننا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يؤمر بأن يبلغ الناس، كل ما وعي عن ربه، وانما امر ان يبلغ الرسالة، فهو القائل (نحن معاشر الانبياء أمرنا ان نخاطب الناس على قدر عقولهم)، واكبر من علم الرسالة، علم النبوة وعلم الولاية.. وفي حديث المعراج، المشهور الطويل، قال (علمني ربي ثلاثة علوم: علم امرني بتبليغه للخاص والعام من امتي وهي الانس والجن، وعلم خيَّرني في تبليغه، وعلم اخذ عليَّ كتمانه اذ علم انه لا يقدر على حمله غيري).. ومن أمثلة علم النبوَّة، الذي خير في تبليغه، واختار له بعض اصحابه، انه اخبر حذيفة بن اليمان بالمنافقين، ولم يخبر بهم بقية الاصحاب.. فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذا قدمت جنازة، لا يصلي الا بصلاة حذيفة. فهل يظن الافندي ان النبي صلى الله عليه وسلم، اذا لم يخبر الاصحاب عن سر اثمار النخل دون تلقيح، يكون قد كتم الرسالة؟!

ولقد كرر الافندي هنا، مرة اخرى، ادعاء ان الفكرة الجمهورية تقوم على وحي، رغم اننا طالبناه ان يثبت ذلك من كتبها فلم يقدر.. وهذا إن دل على شئ، إنما يدل بالاضافة الى على عدم الامانة، على الاستهتار، وعدم الجدّية، وعدم الاكتراث، والعجز عن النهوض بالمسؤولية العلمية، التي تقتضي التوثيق، وإبراز المصادر، وهو ما يفترض ان يكون الافندي قد تدرَّب عليه، في اوليات البحث العلمي، حين حضر درجته الاكاديمية، التي لم يكن في حديثه عن الفكرة الجمهورية، مخلصاً لمنهجها.

ورغم ان الأفندي قد علَّق على كل هذه المواضيع، إلا انه قد ختم مقاله، بأنها ليست الموضوع الاساسي، وانما الامر الذي كتب من أجله، هو الموقف من الوحي!! فان لم تصدقوا هذا فأقروا قوله (إن القضية المحورية في الجدل الذي ثار حول فتاوى الشيخ الترابي ليست هي قضية حرية الرأي، وهي مسألة مفروغ منها، وليست قضية إيمان الترابي من كفره. وليست هي من باب اولى قضية مواقف العبد الفقير الى مولاه السياسية. القضية اكبر من كل ذلك. وهي الموقف من الوحي والعلاقة معه وما هي مكانة العقل الانساني في التلقي والتأويل)!!.

__________________

* https://www.alsahafa.info/index.php?type=3&id=2147504002
أضف رد جديد