محمود محمد طه،رحلة الكفاح و الخيال،محمد محمود

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

محمود محمد طه،رحلة الكفاح و الخيال،محمد محمود

مشاركة بواسطة حسن موسى »






ذكرى 18 يناير والدفاع عن حرية الفكر والتعبير

محمود محمد طه: رحلة الكفاح والخيال


محمد محمود


تصادف الذكرى الخامسة والثلاثون لإعدام الأستاذ محمود محمد طه يوم 18 يناير هذا العام وقوعها بعد الذكرى الأولى لثورة ديسمبر المجيدة وانعتاق السودانيين من نظام الحكم الإسلامي الذي فرضته عليهم حركة الإخوان المسلمين (الإخوان صاعدا). وكانت هدية الثورة لذكرى طه أن يتمّ إحياؤها والاحتفاء بحرية الفكر والتعبير هذا العام في الخرطوم وبعد منع دام ثلاثين عاما بانعقاد الندوة الفكرية الكبرى التي نظّمها مركز الدراسات السودانية بالتعاون مع جامعة النيلين وشارك فيها مثقفون سودانيون ومثقفون من بلاد عربية مختلفة. ورغم أن الإخوان بذلوا كل ما في وسعهم لمحو ذكرى طه إلا أنه حفر أثرا واضحا وباقيا ظلوا يطالعونه كلما طالعوا المادة 126 أو مادة الرِّدّة في قانونهم الجنائي. فهذه المادة والتي لم تكن موجودة في القانون الجنائي عندما أُعدم طه أنتجتها تحديدا مواجهتهم مع طه وظلّت عالقة بذكرى إعدامه — كانت تبريرا بأثر رجعي لهذا الإعدام وتهديدا قائما لكل من يقرّر الإخوان أنه قد ارتدّ.
كان فرض جعفر نميري لعقوبات الشريعة الحدّية وبدء تطبيقه لها بين ليلة وضحاها والمشاهد البشعة لبتر الأيدي والأقدام والمشاهد المذلّة للجلد صدمة من أقسى صدمات السودانيين. ورغم أن طرفا من الشريعة ظلّ قائما وسط السودانيين منذ الفترة الاستعمارية وهو قوانين الأحوال الشخصية إلا أن الحدود كانت أمرا مختلفا. فقوانين الأحوال الشخصية وعلى تمييزها ضد المرأة لم تصدم مشاعر المجتمع السوداني كمجتمع ذكوري وكمجتمع إسلامي تقليدي يعامل المرأة باعتبارها ناقصة عقل وبالتالي ناقصة الأهلية القانونية. أما الحدود برجمها وبترها للأطراف وتشويهها لجسد الإنسان وإعاقته وبجلدها وبقِصاصها الذي أحيا مبدأ وعقوبات العين بالعين والسن بالسن فإنها صدمت الحس الأخلاقي السليم الذي يتمتّع به أغلب الناس. وكانت هذه الصدمة هي ما أراده نميري بالضبط، علاوة على أنه رأى فيها وسيلة لإكساب ما يشبه الشرعية لنظام انقلاب عسكري كان فاقدا للشرعية أصلا.
وكان الجمهوريون، على صغر تنظيمهم وهامشيته، هم القوة الوحيدة التي عبّرت عن اعتراضها العلني على ما أطلقوا عليه "قوانين سبتمبر 1983" عندما أصدروا بيانهم الشهير "هذا أو الطوفان" في ديسمبر 1984. اعترض البيان على القوانين ورأى فيها تشويها للإسلام ولسمعة البلاد. إلا أن الاعتراض لم يعنِ أن الجمهوريين غيّروا موقفهم الأساسي المؤيد لنظام نميري إذ أنه قُدِّم كـ "نصيحة خالصة ومبرأة". وما يجب ملاحظته بهذا الصدد أن طه ينطلق أساسا من موقف مؤيد لتطبيق عقوبات الحدود — التي ظلّ دائم الدفاع عنها والتبرير لها — إلا أنه عبّر عن مأخذين على قوانين سبتمبر: مأخذ على مستوى محتواها ومأخذ على مستوى توقيتها. فعلى مستوى المحتوى يقول البيان: " ... فهذه القوانين مخالفة للشريعة ومخالفة للدين، ومن ذلك أنها أباحت قطع يد السارق في المال العام، مع أنه في الشريعة يُعزّر ولا يُحدّ لقيام شبهة مشاركته في هذا المال. بل إن هذه القوانين الجائرة أضافت إلى الحدّ عقوبة السجن وعقوبة الغرامة، مما يخالف حكمة هذه الشريعة ونصوصها ... " أما على مستوى التوقيت فيقول: " ... ثم إن تشاريع الحدود والقصاص لا تقوم إلا على أرضية من التربية الفردية ومن العدالة الاجتماعية، وهي عدالة غير محقّقة اليوم." ولأن أمل طه في نظام نميري وإمكانية تهيئته للأرضية التي من الممكن أن تزدهر وتسود فيها الرؤية الجمهورية لم ينقطع فإن البيان طالب "بإتاحة كل فرص التوعية والتربية لهذ الشعب حتى ينبعث فيه الإسلام في مستوى السُّنّة (أصول القرآن) فإن الوقت هو وقت السنة، لا الشريعة (فروع القرآن) ... بهذا المستوى من البعث الإسلامي تتحقّق لهذا الشعب عزّته وكرامته ... " وكما نرى فإن البيان طرح اعتراضه على قوانين سبتمبر في إطار اعترافه بشرعية النظام والأمل في قبوله للنصيحة وأن لغته ومحتواه تميّزتا بـ "اللِين" كما لاحظ عبد الله النعيم في مقدمة ترجمته الإنجليزية لكتاب الرسالة الثانية من الإسلام. إلا أن نميري وجد في بيان الجمهوريين فرصته لتأكيد عزمه على التنكيل بأي معارضة لقوانينه ولإثبات "شرعيته" الإسلامية الجديدة.
وعندما قرّر نميري التحرّك ضد طه كان هناك حليف قوي آخر يسنده وهم الإخوان المسلمون الذين أصبحوا يده اليمنى في محاكمه "للعدالة الناجزة" بعد فرض قوانين سبتمبر. وإن كان نميري قد حرّكته دوافع الحسابات السياسية بالدرجة الأولى، فإن الإخوان حرّكهم بالدرجة الأولى عداء مذهبي قديم وعميق علاوة على دافع السياسة. إن ما بينهم وبين طه كان ذلك العداء التاريخي بين الإسلام السني التقليدي وذلك النمط من التصوف الذي من الممكن أن نطلق عليه اسم "التصوّف الجذري" والذي مثّلته خاصة مدرسة محيى الدين بن عربي (ت 1240) ومثّله قبله الحسين بن منصور الحلّاج (ت 922) وكان طه حاملا للوائه. عبّر هذا التصوف عن شوقه للوصول لله والعلاقة به بلغة أكّدت على ذاتية التجربة الصوفية بوصفها تجاوزا لمحمد أو تجاوزا لما وصفوه بـ "الحجاب النبوي" الذي يقف بين العابد وربه. ومن الممكن القول إن طه قدّم نظرية من أكثر النظريات جذرية في هذا المضمار عندما تحدّث عن تجربته الصوفية بوصفها تجربة نقلته من مقام "المقلِّد" لمحمد لمقام الذي تجاوز "الحجاب النبوي" وسقط عنه التقليد ليبلغ مقام "الأصيل". وفي حديثه عن مقامات العابد العارف يشير لتلك الحالة العليا التي يتوق كل متصوف لتحقيقها وهي حالة الاتحاد مع الله (تلك الحالة التي أشار لها الحلّاج عندما قال: "أنا الحقّ") — وهي حالة يسبقها عنده اطّلاع العابد على أسرار تجعله يتحرّر من أسر التسيير ليحقّق حريته، ويصفها بقوله: "ههنا يسجد القلب، وإلى الأبد، بوصيد أول منازل العبودية. فيومئذ لا يكون العبد مسيرا، وإنما هو مخير. ذلك بأن التسيير قد بلغ به منازل التشريف، فأسلمه إلى حرية الاختيار، فهو قد أطاع الله حتى أطاعه الله، معاوضة لفعله — فيكون حيا حياة الله، وعالما علم الله، ومريدا إرادة الله، وقادرا قدرة الله، ويكون الله". بالطبع نحن هنا في منطقة خيال محض لا يختلف عن خيال من ادّعوا النبوة — وهو خيال يبلغ ذروته في حالة محمد في قصة الإسراء والمعراج (وإن كانت هذه القصة لا تتحدّث عن اتحاد بالله، فهذه لغة أخذها الصوفية فيما بعد من مصادر أخرى). وهكذا فليس غريبا أن إسراء محمد يقابله إسراء عند ابن عربي. وابن عربي لا يحجم عن استخدام كلمة خيال وهو يتحدّث عن التجربة الصوفية، ويقول عن إسراءات الصوفية: "فلهم إسراءات روحانية برزخية يشاهدون فيها معاني متجسّدة في صور محسوسة للخيال، يُعطون العلم بما تتضمنه تلك الصور من المعاني ... " ومقابل الصور الحسية التي تقدّمها مادة الإسراء والمعراج التقليدية أو مادة ابن عربي فإن طه يقدّم لنا صورة تجربة وجودية ويقول: "وليس لله تعالى صورة فيكونها ، ولا نهاية فيبلغها ، وإنما يصبح حظه من ذلك أن يكون مستمر التكوين ... "
ما كان بالطبع من الممكن للإسلام السني التقليدي أن يصمت على أفكار طه وخاصة ادعاء الأصالة وسقوط تقليد محمد في حقه. وهكذا كان من الطبيعي أن يتحرّك ممثلو المؤسسة الفقهية بدعوى قضائية ضده في عام 1968 وأن تصدر المحكمة الشرعية حكمها بردّته وتأمره بالتوبة عن جميع أقواله. وكان من الطبيعي أن يفتي الأزهر ضده ويصف فكره بأنه "كفر صراح ولا يصح السكوت عليه" وأن يطالب بمصادرة فكره والعمل على إيقاف "نشاطه الهدّام". وكان من الطبيعي أن يفتي عبد العزيز بن باز، رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي حينها، ضده ويصفه بالإلحاد ويحذّر من "الفساد الكبير" الذي "[سيترتب] على تركه والإعراض عنه" وأن يطالب بـ "إحكام الشرع الإسلامي للنظر في أمره والحكم فيه بما يقتضيه الشرع المطهر من قتل أو سجن أو غيرهما ... " كان هذا هو المسرح الممهّد للإخوان المسلمين ليلعبوا دورهم في جريمة إعدام طه.
لا يُعرف تاريخ ميلاد طه بالضبط، مثل غالبية أبناء وبنات جيله الذين لم يحفل أحد بكتابة تاريخ ميلادهم. ولكن وفي حالة هذا الرجل الذي لا يُعرف متى دخل العالم فإن الجميع، في السودان وخارج السودان، يعرفون أين ومتى خرج من العالم بالضبط — المكان واليوم والساعة. وهيئة موته اختلفت عن هيئة موت غالبية الناس في أنه كان موتا علنيا شهده الآلاف. ولعلّ طه كان في لحظة مواجهته لموته بعيدا عن هؤلاء الذين ملأوا المكان بضجيج تكبيرهم وتهليلهم. ولعلّه، وهو الذي كان ممتلئا دوما بالحلم الصوفي للقاء الله والاتحاد به، كان في تلك اللحظة في حضرة فرحه وهو يتهيأ للقاء من يحبّ. وكان هذا الفرح بعض ما شاهده المحتشدون عندما كُشف القناعُ الذي غُطّي به وجهُه فرأوا وجها مطمئنا مبتسما. ولعلّه استرجع في تلك اللحظة وعاش كلماته: "وحين تطلع النفس على سر القدر، وتستيقن أن الله خير محض، تسكن إليه، وترضى به، وتستسلم وتنقاد، فتتحرر عندئذ من الخوف ... "
حملوا جسده ودفنوه في مكان مجهول. بدأت مسيرة الطفولة من لحظة مجهولة التاريخ وانتهت رحلة الكفاح والخيال لقبر مجهول المكان.



محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مركز الدراسات النقدية للأديان.
[email protected]

لمشاهدة فيديو مساهمة الكاتب عن العلمانية في الندوة الفكرية بمناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين لإعدام الأستاذ محمود محمد طه يمكن الذهاب لموقع يوتيوب والاسترجاع بكتابة العنوان: محمد محمود حول العلمانية والديمقراطية في السودان أو استخدام الرابط التالي:
https://www.youtube.com/watch?v=wfsZ52H51jg
أضف رد جديد