أستاذى الراوى والقاص إبراهيم إسحاق وفقه العتال موسى الهوساتى

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

أستاذى الراوى والقاص إبراهيم إسحاق وفقه العتال موسى الهوساتى

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

أستاذى الراوى والقاص إبراهيم إسحاق وفقه العتال موسى الهوساتى

وكأنى من مناغاتى لتلك اللوحة، التى أبدع إبراهيم إسحاق نحتها، بازميل يراعً سيالٍ نزاعٍ لتفاصيل ذلكم الموسى الهوساتى العتال، حتى كدت أحسب أنى حاضرٌ شاهد،
لذلكم العملاق، يجوب شوارع سوق الفاشر، حتى لان قلبى وتفطر على جسارته وصبره على تلك الأثقال يا لها من بركةٍ فى رزقه ويا له من رجلٍ جبارٍ فطن أدرك قيمة
اللقمة الحلال وقيمة الرزق المبارك.
فكم إستوقفنى ذلكم العاتى العفيف العنيف الأفيف، الذى إختار أن ينزع رزقه، بلا تردد، من فك الكواسر الجواسر، وليس من ممارسة الحيلة والبلطجه التى أصبحت شرعةً للثراء الحرام.
إن لأستاذى المبجل إبراهيم إسحاق، ذلكم، فخامةٌ فى العبارة ورخامةٌ فى الحرف، بائنةٌ بينونة كبرى، فى كل بوحه قصاً وروايه. يمتلك القاص الراوى إبراهيم إسحاق قدراتٍ
فائقة خارقه فى إمتلاك تقنيات كتابة النصوص ودربةٌ عاليةٌ فى بث سحر يراعه فيها وبث التوابل والبهار اللذان ييجعلان مذاقها رائعاَ لمن يطالعها من قرائه الكثر وذلك واضح
فى كل كتاباته مرتحلاً من دارفور إلى الخرطوم منذ أن كان طالبا بالثانوية أو الجامعة وبعد أن أصبح معلماً يدرس الأدب الإنجليزى فى المدارس الثانويه وأيضاًً فى طريق رجعته
ثانية إلى دارفور وإلى قريته ودعة الوادعه شرق فاشر السلطان وقد كتب لنا عن الفنون والآداب والثقافات والألسن وعن مهن الناس أبالة وبقارة وزراع وأصحاب حرف، من الرجال
والنساء لا بل بفصاحته تلك حدثنا عن الدوبيت وعن الجرارى والتوية والمردوم كذلك حدثنا عن الأفراح والأتراح، عن النفير وعن الفزع وحدثنا عن طقوس الزواج والحصاد والمسير
وحدثنا عن الرهيد والتردة والفوله وحدثنا عن النشوق والشوقاره والدمره فدوماً شيق العبارة جزيل القول دقيق آخذاً من صمد المصادر ومن الثقاة بحرص شديد، مؤسساً لنفسه بنياناً ثقافياً
متين، خالطا لثقافات تلك الديار العربية البقاريه، بثقافات الأبالة والمعازة والزراع واصقا لنفسيات الجميع بأسلوب الفنان النزاع لحقائق الجمال تلك الرابضه فى صخور المجتمع العصى
كما كان يفعل ملك التوليد سقراط. وقد صور عدل السلطان فى منح الهوساتى جملا ومنح البقرة للأبالى وبذلك أخرج مقابلة عكست حقيقة روحيهما بتقدير قيمة الأشياء كل وفقاً لهوايته
وهويته.
لم يكن إبراهيم إسحاق سياسياً بل كان فيلسوف سياسه منكراً لأبجدياتها جالباً لقوالبها الحقيقيه، لتكون طرائقاَ للحل ووسائلا يشعر بها الإنسان العادى بحجم دوره فى ترسيم خياراته
ودوره الإيجابى فى التغيير إن لم يتوافق مع طرائق الساسة، فى إشباع رغائبه وأحلامه ب يكون الإنسان فعال لا مكتوف اليدين تمارس عليه الألاعيب والوصايا بغباء سافر ويشاهد بملء
سمعه وبصره حقيقة السقوط والجنوح الخلاق للمآسى التى ربما تصل إلى أسوأ ما وصلت إليه الأن وذلك بتحجيم فعاليات الإداره الأهليه وسلبها لخصائصها، وتمليك الولاة لسلطات التجبر
والتسلط بخلق خلايا للعمل الإدارى تتناغم وأهوائهم الفاسدة ورغائبهم الأنانية الضعيفه وأحسب أن ذلك الأديب الذى أنكر معرفته بالسياسة، جدير بأن يكون مرجعية سياسية ليست بأقل من
صنوه التنجراوى السودانى الوطنى الأصيل
الأستاذ عبدالله آدم خاطر، الباحثة الناهل من مختلف مشارب الثقافات والمعارف المفيده، لمجتمعاته الثريه فى دارفور ولهيكلة إدارتها، وطرائق القبول لدى رعاتها وزراعها والصناع، وأحسب أن ذلك
الإبراهيم إسحاق الذى نادى وبصوت جهور على الإقبال لمعرفة الآخر ودعواه بإلحاق فنون أهل الغرب إلى ما وصلت إليه ميسرة التوثيق والتدوين والتعميم لدى أهل الشرق والبطانات التى صارت
فنونها وثقافاتها فى متناول أيدى الناس، وعلى قفى من يشيل منها ملاحماً تعكس حقيقة ملامحهم فى أدب الهمبتة والفروسية والغزل اللطيف وان فى الغرب ما يوازى ذلك الخراج لابل ما يزيد
عنه بثراء التنوع وتعدد الثقافات واللهجات، فيا أهل الميسرة من تلك الديار ذلكم هو دوركم وواجبكم بأن تنفقوا على أهل البحوث والإهتمام بحاتمية تخرج مكنوناتكم من كهوف حفظها البدائى، إلى
متاحف عرضها الفعال الأخاذ لألباب الغير والشارح لهم بنغم يشجيهم ويطربهم عن حقيقتكم التى تغيب عن أغلبهم وكذلك من خلال السرد الشاجى للروح، ألاحظ أن أستاذى فى دعابة أخوية تدل على
عمق الأخاء بينه وبين إبن بواديه وطلحه والذى تتشابه حقائقهما وتختلف طرائقهما وتأتلف فى إبداء الأسى ومحاولة الخروج منه ذلكم الذى نقدر صنيعه كذلك الأستاذ الجاهر فى قوله غير المسر له
أبداً الدكتور الوليد مادبو عليه منا السلام وإن دعواه لنا بلقائه محفورة فى عمق ذاكرة شفافه ووفيه وإذ نحمد كذلك للأستاذ كمال الجزولى الذى صعر خده علينا عندما كاتبناه وتكلس فى برج صمته
الرهيب ولكن نشفع له بابداعه قيامة الزئبق، بأن يتيح لمثل هذا العمملاق...بأن يأت لنا بسفره ذلك الذى أحسب أنه إلياذة يمكن أن تكون مرجعية فى الأدب والأنثربولجى والسياسة والإجتماع والإنسانيه
ذلكم الحافظ لدقائق اللحظات والمقدر لحميميات الأنس والعافى والمعجب لأدب النكتة والملحه والفاتح لقلبه وروحه وشارع أبوابه لكل أهل معرفته بسليقة البقارى وحضارية المتمدن العارف الواصل إلى ربه
وإلى قلوب محبيه وتلامذته بإحسان رفيع فيا أستاذى قد طال بن الأمد مذ فارقنا تلك المؤسسة التعليمية الجباره والتى جمعتنا بك وآخرون هم أمثالك فى الإبداع والعطاء، تلك المحمد حسين التى كانت
تئط بكم عقيقا من أدباءٍ ومفكرين وتربويين من الأوزان الثقيله، البروفسير المعز الدسوقى، الأستاذ والشاعر عوض حسن أحمد، والإعلامى الإجتماعى عوض أحمد صاحب قضايا الناس، والأديب الشاعر
والناثر المفكر النور عثمان أبكر، وكذا الأستاذ جعفر سعد والقاضى أبو الزين والإنسان محمد عبدالرؤوف والرياضى الجسور إبن الهاشماب عمر حسن التوم وأهل العلوم محمد المبارك شمعون وشمعون
الآخر والشايقى ضليع الرياضيات عليه الرحمه ونظارنا ونجت برسموم ومحمد الأمين فرحات وموسيقارنا الذى زرع فينا حب الوطن محمد آدم المنصورى برائعته تلك التى أتمنى أن تصير سلاما جمهورى

(قال الجد بوصينا
بعد ما سهى قالينا
بوصيكم على باب السنط ينسد
وقت ما تهب رياح الحقد
بوصيكم على الأطفال تربوهم
على الشقا فى هجير الصيف
على قتل العذاب والخوف
حروفكم تبقى للإشراق
ولى زرع الطريق آفاق
تقولوا الأم وقبل الأم
تقولوا بلدنا تتقدم
بوصيكم على حب الأرض والنيل
على وصل الصباح بالليل
بوصيكم)

ونحن لا نزال نقبض على جمر تلك الوصيه ونحفظ لذلك الجميل الذى أمطرتنا به
تلك الكوكبه من المجرات العصيه ولم لا ! فقد تعلمنا منهم فنون سحر الإبداع وتعلمنا منهم ماذا يعنى الوطن ومن ثم الإلتزام به وتعلمنا صحو الضمير وصحو الكلمات
المنسيه وتعلمنا القيثاره من مبدعها الرقيق عوض حسن أحمد فيا أستاذى نعلم أنك لست بمقل وإننا سوف لا ولن نمل حضورك مهما تكاثفت إطلالاتك علينا، عارضاً علينا
زخم الحقيقة فى قشيب ثيابها التى تجيد تطريزها وتلوينها وتضفى عليها إنغامك الإبداعية سباعية السلالم شفاك الله من ما ألمّ بك ولك التبجيل والتقدير والسلام.




منصور


منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

فقهُ العتَّال مُوسَى الهَوْساتي!

ضيف على الرزنامة

إبراهيم إسحق*

الإثنين

رمضان كريم. وليغفر الله لنا معشر البشر الخطائين. أما الوحيد المغبون في هذا الشهر الفضيل فهو، بلا شك، إبليس، ومعه، بالطبع، عشيرته المقيدون!

جارتنا البدوية في الرياض، على أيام الاغتراب، دخلت، ذات رمضان، على أم محمد؛ ولمَّا رأت بعضاً من مصلاياتنا مفروشة لم ترفع، قالت لأم محمد:

ـ "ما تخافون يا أم محمد يصلي عليها الشيطان"؟!

فما كان من أم محمد إلا أن ردت عليها قائلة:

ـ "يا أم فلان .. والله لو على رأيك نفرش ليهم الشقة دي من أولا لي آخرا سجادات"!

الثلاثاء

العنصرية، في ظني، هي أبغض شعور عرفته البشرية قاطبة. ولو سألوني عن العقار الناجع ضدها لقلت، دون أدنى تردد، أنه، بعد الإيمان بالله طبعاً، نكات السخرية المتداولة بين المجموعات السكانية، بعضها
على بعض! وربما يزيل التعجب من يقيني هذا مدى التأييد الذي رأيت لمقال لي بالغ التواضع يعنى بالحالة كما شهدتها في دارفور (مجلة "الثقافة السودانية"، أغسطس 1977م).

خلال الفترة ما بين 1983 و2005م زحمتني سنوات طوال وأنا خارج السودان، فلم أتابع الخط التفاعلي لنكات السخرية بين السودانيين وهم في معمعة التجارب مع ذواتهم. وكانت ثقتنا فيما يخص
استمرار التوظيف العلاجي للعنصرية بنكات السخرية نتلقاها، ونحن في الاغتراب، عبر أشرطة الكاسيت المكرسة للإضحاك النزق على أدروب والرباطابي والدنقلاوي وولد الجانقي والغرباوي وعربي
الجزيرة! ولكننا أيضاً كوَّنا، في الغربة، مجتمعاً سودانياً متكاملاً بالقدر الذي يجعل من مثل هذه النكات، في قلب تجمعاتنا تلك، بلسماً، ليس للشفاء فحسب، بل ووصفة إعجازية لربط النسيج الاجتماعي
في ما بيننا، كما في نموذج مهجرنا الصغير ذاك بمدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية.

الذي أهاج، الآن، هذه التداعيات عندي، وقلقلها، وأطار كل عصافيرها، زيارة مبهجة فاجأنا بها، الأسبوع الماضي، في بيتنا بمدينة الثورة بأم درمان، أحد أعلام حي النسيم بالرياض، الداعية الذي لا
نقصم ظهره بمدح، مالك زمام النحو والصرف، رجل أم دقرسي محمد علي محمد علي الحاج، بذات البشاشة التي عهدناها فيه من يوم التقينا معه عام 1990م، عباس مكي وفيصل فضل الله
وشخصي. طرقا الباب، هو وأمه التي ولدها، أعني إبنته التي أسماها على أمه، واحتضننا، فتدفقت ذكرياتنا كما فيضان النيل الراتب.

العودة من الاغتراب حالة لا أعرف قط كيف أصف تقلبات النفس فيها. أنت تريد، خلال أيام أو أسابيع قلائل، أن تخضع وتقيِّد، في خلفيات ذهنك، عالم الغربة الهائل، كي تواجه، بتصاديمه، مجتمع
البلد الذي غبت عنه لأكثر من عقدين من الزمان! وهو مجتمع لا يرى لك عذراً، لكن أوسام السنين لا تنجلي عن جسمك ولو معصتها بكل غسولات الانكباب على التأقلم الجديد، والشوق الخفي
إلى ذكرى تلك الأيام.

في أقل من ساعة، وعلى إبريق شاي سريع قدمته أم محمد، كنت وأخي الداعية نتلاقى عند سفح الجبل؛ هو نازل من اجواء الرياض، وأنا صاعد إلى ذكراها؛ أسأله عنهم فرداً فرداً، إخوان الصفاء
أولئك، ومن لم أذكره يعلم الله لا يقلُّ حبي له عمَّن ذكرتهم ولا حبة خردل، وليسامحني ربي .. رجل أم كدادة الصادق موسى، وعمدة دار حامد محمد التجاني قش، وولد ود مدني زكريا عوض
سعيد، وطويل البال فقاد الرجال مسلم الإمام أحمد، والنيلاوي الحنون عبد المنعم جاد السيد، وزول الشهيناب الباش مأمون الحاج، وشيخ الأصوليين أبو الحسن علي السماني، والزالنجاوي الركن محمد
جمعة، وأبو التيمان إبراهيم عبد الرحمن أحمد .. ولم ننس الذين ذهبوا إلى رحمة مولاهم ودفناهم هناك، ولا الذين عادوا مثلي لينتشروا في أصقاع السودان البعيدة.

تذكرنا كيف كنا ننكِّت سخرية من أنماطنا السلوكية، ونكتكت ضحكاً على بعضنا وأهلنا: أعراب الجزيرة الخام، الغرَّابة السذج، النوبيين الأعاجم، وناس النيل الحذاق الهنابيك! ما جلس اثنان منا كانا
في نسيم الرياض ذاك، إلا وتذكرا بدعاً مثل مزح أهل ام دقرسي، والعهدة على راويتها محمد علي الحاج، كشقي الحال ذاك عبَر بحر ازرق، في خمسينات القرن العشرين، وتوغل في غرب البطانة
حتى هراه الجوع والعطش؛ فلما رأى بعض بيوتات العرب، ذهب عندهم، فأنزلوه في الراكوبة، وسقوه ماءً بارداً. وبعد انتظار لم ينفد منه صبره جاءه القدح. وضعته الأعرابية وتنحَّت. كشف صاحبنا
الغطاء وسمَّى. المفاجأة أخذته، والمسغبة غلبته. يأكل كالمطرود. كانت الشعيرية، أيامها، جديدة في الأرياف. والمضيفة، رعاها الله، لم تجد ما (تلايق) به الضرَّابة إلا قليلاً من البصل والزيت
أشبعتهما نضجاً، وصبَّتهما على اللقمة مع الشعيريَّة والضرَّابة، ورفعتهم للضيف. يأكل ويعيِّر في الشعيرية:

ـ "آآآ .. الشعيرية؟! والله كن تستاهلي آلشعيرية! القال ليكي تقطعي بحر ازرق بالشرق دا نان قال ليكي النصيحة .. آلشعيرية؟! وانتي صدقتي نصيحتو .. آلشعيرية"؟!

الأربعاء

نحن نعرف الناس بأن نأخذ عنهم وأن نعطيهم. وقد أراد الله تعالى لي ألا أستلذ السفر إلا عندما يكون باللواري. فإذا أغفلت السفريات داخل دارفور، تظل أطول سفرياتي هي بين الفاشر وأم درمان.
ولعلي أستحضر منها ما لا يقل عن العشرين سفرية كم صادفنا خلالها من الصُم والبكم، وتواصلنا معهم. وفي الذاكرة تلك الهوساتية الطرشاء في محطة أم روابة نجادلها حول عدد حبات طعمية اللوبيا
الحلوة الحادقة المقلية على الزيت وفي عجائنها الدُّقة والشمار .. نغالطها حتي تتشعرن غيظاً، ثم نشتري منها شبعنا.

بدأتْ بي هذه الاسفار وعمري أربعة عشر عاماً، وكأنني لم أتب حتى اليوم .. يغفر الله لبعض الركاب من أهلنا الزغاوة والمساليت والفور والميدوب .. إذا ما تآلفوا في جماعة تراجعوا إلى محابس
رطاناتهم! ومع ذلك لم نعدم معهم خذ وهات في الأيام الخمسة أو الستة؛ فاذا ما دخلنا البليدات وقهاوي المحطات تراقدنا على العناقريب العرية وسألنا بعضنا عن قرانا وقبائلنا وسبل كسب العيش لدينا.

إن الالتذاذ الذي كنتُ أجده في هذه السؤالات التي لا تنتهي لرفاق السفر ومقدمي الخدمات في المقاهي يظهر على أجلى ما يكون في القصص القصيرة التي يرويها مسعود ود الكباشي، هذا لمن يكترث
للجانب الأخر من شواغلي بالخيال. فاذا أعوزني الفهم على مقاهي الأنضرابة أو في بارا أو أم بادر أو ود بندة، لم أكن لأستنكف عن السؤال عما يعني محدثي بكلمة كذا أو كلمة كذا .. أجده يضحك ويشرح لي:

ـ "الجقلا ياولدي ما بتعرفا؟! إنتو ما ناس ألبل"؟!

أقول له بصراحة، وهو يدرك الحقائق ويتغابى:

ـ "نحنا بقارة مستقرين بزرعنا ومواشينا في القوز الكبير".

وللحقيقة فهم يعلمون من مظهري بأنني ولد مدارس، لكنهم لا يبدون قط شكاً في نواياي الحسنة متى ما ألححتُ في سؤالهم. عام 1986م وجدتنا نغيِّر إحدى عجلات اللوري في مقهى خلوي لدى المثلث بين
سودري وكجمر والأنضرابة. ولم تكن هنالك إلا حامدية واحدة جاءت بلبن معيز رائب لتبيعه في المحطة. ولعلة ما كم تمنيت يومها لو أن لي معرفة بهذه البوادي تناهز ما لعبد الله علي ابراهيم، أو حسن نجيلة،
أو عبد الغفار محمد احمد. ثم يلح علىَّ عبد الغفار لأن رسالة الامتياز التي تأهل بها، إن لم تخني الذاكرة، كانت جمعاً من أم سعدون لأشعار الدوبيت المتداولة عن أبرز شعراء دار حامد تمساح أمبدة. وقد نشر
تلك الحصيلة، على ما أذكر، أستاذ الأجيال المرحوم قيلي أحمد عمر في أحد أعداد مجلة الخرطوم في سبعينات القرن الماضي. لم أكن لأتوقع نسياني لما حفظتُ من ذلك الدوبيت النقي الذي يذكرّني في مفرداته
ومجازاته وتراكيبه بشعر الأبالة في شرق دارفور؛ فكان لابد أن أسأل الحامدية عن تمساح أمبدة، ووالله لقد بوغتُّ .. الدايم الله .. مات؟! متى؟! قبل عام او عامين؟! شيء من ذلك.

الطيب محمد الطيب وشرف الدين الامين عبد السلام يرحمهما الله جمعا حصائل لا بأس بها من ديوان الدوبيت في غرب النيل الأبيض. لكنني أشك في أن أسعد الطيب العباسي وميرغني ديشاب قد منحا للبادية
الغربية ما أعطياه لبوادي الشرق. ويحتار المُتوَله مثلي بالشعر الشعبي .. لماذا لا يحمل الكردفانيون والدارفوريون، بعيداً عن الأكاديمية، دواويناً لشعرهم الشعبي بنفس القدر الذي نراه عند أهل البادية الشرقية؟!
هل أهملهم الآخرون أم أنهم والمأمول فيهم من أثريائهم يهملون أنفسهم؟!

متى يستطيع أدروب في بورتسودان، وحمد في الشمالية، وبلة في الجزيرة، ودينق في الجنوب، أن يقرأوا ويتمتعوا بجماليات شعر الهدَّايين، وتويا الأبَّالة، وحردلو الهمباتة الكردفاليين؟! إن كنا نريد، حقاً، أن نعرف ب
عضنا بعضاً فلا بد أن نتبادل الفهم بدقائق مكوناتنا. وتعرُّف السودانيين على ذواتهم الثقافية مفتاحه اللغة المشتركة، والإرادة الجَّادَّة الخالصة على أن نتقارب في خصوصياتنا. فلتكن أقل المعرفة عن بعضنا البعض
هي من فروض الكفاية التي يقوم بها النفر الكافي حتي يسقط عن الباقين .. مكترثين وغير مكترثين!

الخميس

هنالك شبه إجماع على أن المعضلة التي تفاقمت في دارفور لا يمكن تبسيطها في أقل من نصف درزينة من المسببات والنواتج غير المتوقعة. ويصلح لي، بفعل وجودي في المهجر، وقد فاتتني سنوات التخمير
المشئوم لما حصل (1991 ـ 2002م)، أن ألتقط ممن عايشوا تلك الأزمنة بعضاً من يقيناتهم. ومن ذلك تفاكرٌ لي مع الضابط الإداري المشبَّع بالتفاصيل حول التركيبة السكانية في دارفور الكبرى، محمد بشر
كرم الدين. ولأن محمد من (ودعة) فقد سألته عن أحوال المعلم موسى الهوساتي الذي تركته يشرح متون المالكية في المسجد الكبير هناك. ومحمد أصغر منا بما يزيد على عشرة سنين، لذا فهو لم يكن ليملك
خلفية معرفية كافية بالرجل، ومع ذلك وجده هناك، قال، في البلدات الكبيرة بالشطر الجنوبي والشرقي من شمال دارفور، عَلماً معرفياً يشار إليه بالبنان.

لقد رأيت هذا الرجل لأول مرة في أواخر الخمسينات من القرن العشرين في سوق الفاشر وأنا في الابتدائية. يتنادى التجار والعتالون بأن هنالك بالة خيش يجب أن تنقل من دكان فلان الى دكان عِلان .. أبحثوا
يا أولاد عن العتال موسى الهوساتي! بالة الخيش تحتوي على ألف جوال، والجوَّال لا يقل عن نصف رطل، ودكاكين الفاشر على مدرجات بحيث لا تصل بينها لا سيارة ولا كارو! لكنني رأيت الرجل بعيني رأسي
ينزل تلك المدرجات من عوالي سوق الفاشر الى أسافله، يتشلخ و(يتاتي) مثل البعير الممكون، على ظهره خمسمائة رطل، يقطع بها خمسمائة متر وزيادة، كأنه بغل مرشود .. فإذا ما حط عنه ذلك الثقل وشرب
ماءً بارداً تكشفت شفتاه الغليظتان عن أسنان بيضاء ضخمة كأنها حبات صدف مُشذب .. ويحمد الحامدون للرب المبدع الذى أنشأ من خلقه شيئاً بهذه الطرافة!

اختفى العتال موسى في الستينات من القرن العشرين ثم ظهر في السبعينات منها مُتبحِّراً في علوم القرآن الكريم والفقه والشرعيات، ولا ينقصه عمن درس في أروقة الدارفوريين وغيرهم بالأزهر الشريف الا الشهادة
والدراية المؤصلة بالقراءات وعلم الأصولين.

حدثني محمد بشر بأن المعلم موسى كان، ذات مرة، ضمن ركاب لوري أوقفه النهب المسلح بين بلدتي خزان جديد والشعيرية في تسعينات القرن الماضي. وإذا صحَّ فهمي لرواية محمد فإن الرجل راح يعظ أولئك
النهَّابين حول فداحة ما كانوا يفعلون. ولأن الوعظ الديني من كبائر النواهي عند المتفلتين وعموم الخارجين عن القانون، فقد أردوه قتيلاً!

اللهم تقبَّل الإمام موسى الهوساتي في عبادك الصالحين وأجرنا فيه.

الجمعة

سألت عدداً من المسئولين في دارفور عن تصّورهم لشكل الإدارة الإقليمية في مرحلة ما بعد الانتخابات، فلم أجد عندهم جواباً يشفي الغليل! ورغم جهلي الفاضح بالتشريعات الدستورية والقانونية في السودان، فإنني
أنكفئ على حزن لا يُسبر غوره، حيث أن هذه التشريعات، كيفما وجدت في الوقت الراهن، لم تفصح لدى من سألتهم عن منظور للمتوقع الذى سوف تجرى على بساطه النظري الانتخابات القادمة، افتراضاً، بل
قل تفاؤلاً، عام 2009م.

هنالك في وقتنا هذا ولاة يتحكمون تماماً في المجالس التشريعية الولائية، ويعيِّنون، بسلطتهم المخولة لهم من المركز، المعتمَدين الذين يطيعونهم طاعة عمياء! فكل ولاية، حسب اعتقاد من تحدثت معهم، هي كإقطاعية
من الحكومة المركزية لواليها لكي يحفظ فيها توازناً صعباً بين متطلبات التنسيق بين مرؤسيه وبين الإيفاء بالمطلوب منه في دائرة المركز. لكن الرقابة التشريعية والصحفية معدومتان. وأما الإدارة الأهلية فتعلقت في
الهواء، لا هى حيَّة فترتجى، ولا هى ميِّتة فتقام عليها المآتم!

إن صحَّتْ هذه الرؤية، فالمواطن سوف ينتخب، في العام 2009م، رئيساً للجمهورية، ومجلساً تشريعياً مركزياً، ومجلساً تشريعياً ولائياً، ثم يذهب، بعد ذلك، إلى داره ينتظر الفرج متى جاز له أن يحلم به!

في سبتمبر 2005م سألني بعض الصحفيين من مجلة (بلادي) عن تصوُّري لما يجدر أن تؤول إليه الأوضاع الإدارية في دارفور بعد السلام، فقلت لهم إن الذي آمله هو أن تلبس المعتمديات أجساماً إدارية شبيهة
بنظام المقاطعة County في الدول الغربية. فالوالي يأتي بالانتخاب حسب برنامجه المعروض على الجماهير، وكذا المعتمَد، وكذا أعضاء المجالس التشريعية في كل إقليم كما وفي المركز؛ فإن كان كل هذا مُضمَّناً
في الدساتير الإقليمية، فسوف يذهب المواطن إلى صندوق الاقتراع بنفس رضية كونه هو الذي سوف يعيِّن المسئول عنه، وهو الذي سوف يحاسبه. أما إذا ظللنا على حال العماء الدستوري والقانوني الذي أحسسته
لدى من سألتهم، فعن أية ديمقراطية نتحدث؟!

هذا هو مقدار فهمي حالياً، وربما يقع اللوم عليَّ، ولكننى، مخلصاً، وإن كنت لا أفهم الموجِّهات الكلية لقانون الانتخابات المجاز، أطلب أن يُرشدني خبراء القانون بحق مواطنتي وبحق "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا
تعلمون" .. واللهم لا تجعلني، قط، شيطاناً أخرس!

السبت

خلال شهر يوليو، أو لعله شهر أغسطس، من هذا العام إشترك الصادق الرزيقي، رئيس تحرير جريدة (الانتباهة)، في تجوال للمصالحة والتعازي في أقاصي جنوب دار الرزيقات، ثم رجع ليقدم وصفاً دقيقاً لما
شاهده هناك. جو البادية، حسب ما يتوقع زمن الرُشاش، كان رائعاً. لكن الرزيقي يعطينا أيضاً ملامح مؤلمة للغاية عن معاناة الأعراب البقارة في حياة التقشف والكدح بدوام مسيرهم في الخريف شمالاً ونزولهم
قبل الدرت جنوباً سعياً وراء الماء والكلأ. إنهم، باختصار، يعيدون إنتاج دورة حياة عمرها أربعة أو خمسة آلاف عام حفر ملامحها في صخور مرتفعات العوينات والهوجار والتبستي بالصحراء الأفريقية الكبرى
أجدادهم المهنيون من الجرمانت والقرعان فيما بعد العصر الحجري!

وكنت قد نشرت، عام 2005م، مقالاً أضفتُ فيه صوتي الخافت إلى أصوات بعض المجاهرين (نرجو ألا يكون بخجل) عما ينقصنا من تنمية في مجال اقتصاد الحيوان الأليف. وقد جعلت عنوان ذلك المقال
(توطين البدو ضرورة لاستقرار الريف السوداني)، وشددتُ أزري فيه ببعض الملاحظات الخبيرة للرحالة الانجليزي مايكل آشر. هذا الرجل يُبكِّتُ نفسه والرحالة الرومانسيين أمثاله في الشرق لأنهم يتحسرون على
تآكل معالم البداوة القديمة لصالح توطين البدو وعصرنة حياتهم! يقول آشر في كتابه (آخر البدو، بالانجليزية، لندن 1995 م): "لعل البدو هم المثال الأنصع في التاريخ لقدرة الانسان على التأقلم .. لقد صمدوا
حقاً لأن طرائقهم غير ثابتة .. لأنهم دائماً امتلكوا القدرة على الركوب والانزلاق فوق موجات التغيُّر"!

ذلك المقال تم توزيع طبعة جديدة منه ضمن محاضرة في متحف السودان القومي بتاريخ 16/7/2007م. لكن بعض أفاضل المفكرين الإستراتيجيين في هذا البلد انعطف بنا في الحديث عن أهمية التروي في هذه
النقلة لأن التراث السوداني البدوي الثري يجب ألا يُجتز من قواعده بعنف ضار .. وعَلِمَ الله أننا لم ندْعُ إلى جزٍّ ولا إلى بتر ولا إلى عنف ضار! نحن نقدِّر دواعي الرومانسية التي يعيشها المثقفون الذين يشاطرون
الوليد مادبو (غير الرومانسي) مهرجان الضعين السنوي .. لكننا نرفض محاولة حلِّ مشاكل البداوة السودانية بالنظرة الرومانسية الضيقة التي تحبس مصائر البقارة والجمَّالة والغنَّامة في توفر مواشيهم، والابداع حولها،
وحول اتباعهم على ذيولها في وهم الوجاهة القبلية، عراة وشقايا، وجهلة، ومهانين!

ينبغي أن نفصل ما بين الصورة التراثية للبداوة السودانية، وما بين الاحتياج الراهن والمستقبلي للتنمية، بحيث نعجِّل بالتوطين الذي يُخرج للبدو الماء من الأعماق، كي يستقر الرعاة وسائمتهم، وتأتيهم الأعلاف عند
مجمَّعاتهم، ويشيدوا بيوتهم بالمواد الثابتة، ويعمِّموا في مستقراتهم التعليم والصحة وبقية الخدمات، ويتابعوا الإعلام فينتموا إلى هذا العالم، ويحوِّلوا رأس المال إلى بنية اقتصادية تلائم عمليات الزمن الذي نحن فيه، والأهم
من كل ذلك هو أن يكفونا شرَّ الصراع مع المزارعين حول الموارد .. من بحر العرب، ان لم أغلط، قرأنا بأن والي جنوب دارفور السابق الحاج عطا المنان ساعد تسع عموديات بدوية على الاستقرار فدخلوا في الزمن الحضاري!

أيها البدو السودانيون، إلحِقوا أنفسكم بعصركم، واستقروا، ولو بإمكانياتكم الذاتية، ودعوا لمن يطارد فيكم الرومانسيات أن يتلهى بأخبار أجدادكم!

الأحد

إذا تحسر أهل دارفور اليوم على شىء فإنما يتحسرون على انعدام الأمن وما يترتب عليه من خراب اجتماعي واقتصادي. ويحكى أن فلاتياً انقطعت به السُبل، فأتي إلى (القاضي الأطرش)، وهو شجرة للسطان يجلس
عندها العاني والمتشكي وينتظر اللفتة السلطانية. وجاء أعرابي جمَّالي انقطعت به السُبل، هو الآخر، فجلس معه. أرسل السلطان إليهما، فسمع شكايتهما، ثم أمر أمين المال بأن يبعث أحد عماله مع هذين إلى زرائب
السلطان فيعطي كلاً منهما دابة يلحق بها أهله وزوادة صالحة.

ذلك العامل إما أنه بليد، وإما أنه ماكر ومخادع .. فقد أعطى الجمَّالي ثوراً مؤدباً، وأعطى الفلاتي جملاً، فخرج هذا يقود دابته .. وخرج ذاك يقود دابته، فلمّا غطت الشجيرات عنهما المآخذ السلطانية، أصبح كل
منهما يتلفت إلى الآخر .. حتى تجرأ الفلاتي فقال لصاحبه:

ـ "تبدِّل"؟!

فبادره الجمّالي:

ـ "وَيْ"!

فتبادلا الأرسن. نوَّخ الجمَّالي البعير، فما كادت ركبتاه الأماميتان تلامسان الأرض إلا والأعرابي عند السنام، ونهر فشبَّ البعير ناصية القوز، وغابا شمالاً نحو مشاتي الجزو على وادي هور .. يهز الفلاتي رأسه عجباً:

ـ "شيطان وركبا شيطان وشالاهم خلا"!

ثم ربت على ظهر الثور واعتلاه بقفزة ويمَّم جنوباً نحو .. (تلس)!

* روائي وباحث، رئيس اتحاد الكتاب السودانيين
URLEmailProfileEdit
رد على الموضوع
أضف رد جديد