نجلاء التوم

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

نجلاء التوم

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

ماكبث طليق في ضمير السودان: انتحارات الحركة الإسلامية السودانية*

بقلم: نجلاء التوم




يمكن أن نرى إلى انقلاب الانقاذ من ناحية انتحاريته الشخصية وانتحارية الحركة الاسلامية فيه. فالمعمار المعقد لهذه الجماعة قيد التفكك بفعل دينميكياته الداخلية ومعكوفاته الخصيصة التي انطوى عليها تربيةً وشحذاً وتدجين . وبقدر انهماك الحركة الاسلامية في مستنقع السلطة انهمكت السلطة في جسدها واختطفته من مركزيته و صرامته التنظيمية وانتهت به إلى نظام محكوم بمبدأين متناقضين هما الحركة الإزاحية والقبر. استلهم الاسلاميون في التمكين خيال وطموح السرطان، النمو حثيثاً باتجاه السيطرة الكاملة، التوسع الأفقي الذي هو اليتم أيضاً لإفتقاره للمركز. إن كل خلية يغزوها السرطان تتحول إلى منصة، إلى عبور باتجاه خلية أخرى. والخلية الأخرى بخلاف مؤقتيتها فهي موجودة أيضاً في الاحتمالات المكانية والزمانية كلها. يتحرك السرطان في الماضي بنفس طريقة تحركه في المستقبل، و هو يفتقر مع ذلك لأي لحظة ثابتة لأن وجوده مختَلج في الهناك، في الحج، في الازاحة المستمرة لهويته الحالية. لقد فقدت الحركة الاسلامية هويتها المنتحلة كأصل وانتهت إلى هويتها الحقيقية كعبور براغماتي مستمر في تحقيق شهوتها للسلطة. في هذا الفقدان المرتبك مسخت ماضيها ومستقبلها بالسواء. هذه التعرية هي غربة المؤتمر الوطني الحالية وفضاؤه الوحيد الممكن لأنه أكل كل فرصة في النجاة من نفسه. ها افقرت الحركة الاسلامية، بيدها وبيد عمرو (ها)، الطاقة السحرية لمغنطيس الدين. ومع توغل رموزها في آسان "الدنيوي"، وتخلع الخطاب الروحاني لم يعد ذلك المغنطيس أكثر من حديدة فزعة تستدعي الشفقة رغم التوسع الوهابي الكبير في وسط السودان، هذا التهدج الذي يغذيه اليأس والخوف من الغد أكثر مما هو مشمول برحمن الرؤيا و الابتكار. اما لماذا يتوهب وسط السودان دون عداه فذلك لأن لديه رمق الأمل؛ ترف الحاجة إلى الأمان، بينما غرقت الأطراف الأخرى ( أخرى لأن الوسط سياسياً واقتصادياً هو ايضاً طرف) في سيل من العنف جعل من الحياة مطاردة مفزعة للعيش تفشل بالتوازي مع الفرار المضني من الموت. ليس هناك حاجة لإله وهابي أو غير وهابي عندما لا يعود الإنسان إنساناً.

اختارت الحركة الاسلامية اعدائها بنفسها بعد إفراغ الساحة السياسية والفكرية من كل منظور، والعدو الرئيسي لها هو هذا الفراغ العجائبي الذي تقف حياله وحدها. لا يرقى هذا الفراغ لمرآة حتى ترى الحركة الاسلامية جسدها ولذلك تمشي الخيلاء وهي ترتدي عورتها بالذات. في هذه المتاهة الماركيزية التي ديكورها الرئيسيى قتلى ونازحي وفقراء بلادي اشتكل كل شيء عليها لأن تعريف الشيء عندها امتلاكه. لا تجرؤ الحركة الاسلامية على النوم وهناك فكرة حرة طليقة في هواء السودان. بهذه الركاكة يحارب جيش كامل من الرقباء كتاب الرأي والذي هو في اصله حركة هامسة محطها جدل افتراضي مع ثوابت أو شكوك القاريء. تكرس الدولة الاسلامية جزء كبير من عقلها لعقل ناقة التفكير الايجابي إلى مرق التوكل. بالنتيجة، الحوار الذي تجريه الآن هو حوار مع لا آخر مستمر هو نفسها، أي التأهل بكامل الإرادة للجنون. تكتب الحركة الاسلامية تكرسها إلى أن تفيض عنها وتمحوها، هذا هو الأفق. إن اقل نظرة إلى تاريخ النجاة كافية لمعرفة أهمية الحوار مع العدو. فالكائنات التي انقرضت هي بالذات التي اعوزتها القدرة على إدارة الحوار مع المعطيات المتغيرة لبيئتها. وفي معرفتنا بالموت فإن حقيقة الثبات فيه كحالة هي إحدى المعطيات القليلة التي نحوزها. إننا لا نعرف الكثير عما يحدث للموتى ولكننا نعرف أنهم ،فيزيائاً على الأقل، هناك، في القبر المعين في المكان، وانهم هناك دائماً، أي في التعيين الزماني ايضاً. لذلك يمثل القبر ثباتاً مزدوجاً من حيث أن ذلك الجسد هناك فقط وأنه هناك الآن وإلى الأبد. هذا هو ما يدعو إلى اعتبار الحركة الاسلامية في السودان جثة مؤكدة لأنها اختارت إن تكون هناك وأن تكون هناك إلى الأبد، في ذلك القبر المتوحد. هذا الثبات الموتي المقرون مع الازاحة المستمرة والتوسع على حساب الوجود الطبيعي لأي آخر، مهما كان، هو انتحار الحركة الاسلامية مرأى مسمع ليلة قدرها.لا تنتهي مسرحية اوديب قبل أن يعاشر امه جهلاً بها، ويقتل ابيه جهلاً به، ويفقأ عينيه إدراكاً لجهله. ومع كل ما نراه من تخبط و فحيح نعرف أن الحركة الاسلامية عاشرت وقتلت وفقأت وجودها ولم يبق إلا ان تدرك إن تلك الجثة المتحللة هي جثتها هي.
يكون من اللازم أن نتسائل، إذا كان كل ما بحوزة الحركة الاسلامية هو جثتها وتحللها، لماذا تفشل المحاولات المستمرة لإحداث تغيير سياسي. ما أكثر الأسباب، لكن طموحي مقصور على مساءلة طبيعة ذلك التغيير عينه اذا كان يستمد مادته وخياله وخياراته من الشروط السياسية والفكرية الراهنة التي ينتجها الخطاب الانفرادي للحركة الاسلامية الذي هو خطاب تآمري بطبيعته. للتوضيح سأستخدم ماكبث شكسبير بوصفه حالة ذهنية نشطة تكتنف دوافع ورغبات الحركة الاسلامية في السودان. بنى شكسبير مأساة ماكبث على فكرتين رئيسيتين هما النص والتأويل. والنص في هذه الحالة هو نبوءة بدت غامضة لكنها فسرت ماكبث بتحققه الكامل فيها. التأويل، من بين تعريفات أخرى، هو عملية تسمح بتجاور احتمالات المعنى كلها، ولكن هنالك معنى دون سواه يتحقق في سلسلة إجراءات استبعادية من جهة وإثباتية من جهة أخرى. في النبوءة الأولى تخبر الساحرات ماكبث، قائد عسكري ناجح، أنه سيصبح ملك اسكتلاند. هذا هو النص، وتأويله من جانب ماكبث هو بقية الأحداث. معنى هذ النص ليس موجوداً في أي مكان خارج شارحه. بمعنى آخر، نص النبوءة هو نص محايد ولا يحمل أي معنى في ذاته والمعنى الذي يحظى به محدد بدرجة ناشطية تأويله.كان يمكن لماكبث أن يفسر هذا النص في نطاق معرفي بسيط قائم على القرائن الحاضرة التي ترجح أن تقلده العرش مسألة مستحيلة. نطاق الاستبعاد يشمل ايضًا اختزال النص من مجال يحوي كل المعاني الممكنة إلى مجال لا يحتوي على أي معنى، ولذلك ينتهي ما يبدو كأنه لامعنى إلى الاهمال أو النسيان. ولكن ماكبث لم يهمل أو ينس تلك النبوءة، بل اختار أن يمنحها حياة نشطة ضاغطة لا تقبل التأجيل، واقعاً أيضاً تحت تأثير أن الساحرات صدقن في خبر ترقيته، فلم لا يصدقن في خبر عرشه. قتل ماكبث، تحت الثقل الهائل للمعنى الذي اعطاه بنفسه للنص، الملك دنكان. لقد كان ماكبث موجوداً في ذلك المعنى وليس العكس، كان ممتلكاً ومنتهباً بالكامل في شهوته للسلطة. هذه النبوءة التي تبدو وكأنها خلق لاحتمال جديد هو في حقيقة الأمر توسيع أفق ما كان دائماً حاضراً في ضميره. ما فعلته الساحرات في ماكبث هو تغيير افق النظر في المستقبل من منظور الربوة إلى منظور جبل، عالٍ بما يكفي لتكوين افق يسمح باحتضان ذلك الاحتمال الضخم الجديد. هذا هو ما حدث مع الحركة الاسلامية في شهوتها الداخلية الكامنة إلى السلطة منذ تأسيسها وهي رغبة قُمعت فقط من اجل تأكيدها، و من أجل الاستعداد لتحقيقها. فطوال فترة التأسيس وما تلاها من مغامرات سياسية تم تمييع هذا النص المركزي، الشهوة إلى السلطة، تحت اللسان الطهراني بأن الحركة الاسلامية حركة سياسية عقائدية لكنها ستظل ايضاً منظومة روحانيىة غايتها التربية والاصلاح. والسلطة لديها لا تعني الوصول إلى الحكم، هذه غاية مشروعة لكل حزب سياسي، لكن الحصول عليه، أي امتلاكه.في مقابل ذلك اللسان الطهراني ظل جسدها يقول اذا كان تمددي في الانتلجنسيا لا يقل عن فوراني في القطاعات الأخرى فلم لا: " العام 1979 م، غير بعيد من شاطىء النيل الأزرق، جلس بضع عشرات من طلاب العام الأول لبضع جامعات سودانية يرهفون السمع لمحدثهم تلك الليلة، الاستاذ علي عثمان محمد طه، المحامي يومها: (نحن اليوم في الحركة الاسلامية اشبه ما نكون بالمؤمن الذي قطع شهر رمضان صياماً وقياماً، وقد دخل في العشر الأواخر، يتحرى ليلة القدر، لقد قطعت الحركة الاسلامية في السودان غالب اشواطها وهي تتقدم اليوم حثيثاً لتشهد ليلة القدر)". ليلة القدر هي تتويج روحاني وتكثيف زماني. تتويج لأنها تصل بالعبادة مباشرة إلى غايتها؛ السلام. وتكثيف لأنها افضل من ألف شهر من العبادة، و ألف شهر حسب القرضاوي " تساوي ثلاثًا و ثمانين سنة وأربعة أشهر، أي أن هذه الليلة الواحدة أفضل من عمر طويل يعيشه إنسان عمره ما يقارب مائة سنة ." ليلة القدر إذاً هي لحظة التحقق الكاملة، لحظة الوصول، اختصار المسافات، الانتصار على الزمن، فما هي ليلة قدر الحركة الاسلامية؟ ما هو تحققها الكامل؟ ماهي غايتها وما هو وصولها؟ وما انتصارها؟
ليلة قدر الحركة الاسلامية صُنعت في لحظة الهرجلة التي تصاحب الدروس الأولى في الديمقراطية. انقضت الحركة الاسلامية على فصل محو الأمية الذي انتزعه السودانيون نزعاً من بين مستقبلات أخرى قاتمة. و خلال ثلاث وعشرون عاماً ،كانت أبعد ما تكون من السلام فيها، استخدمت الانقاذ اسلامها حتى استجار منها بالنار. بالنسبة للحركة الاسلامية حدث سقوط الترابي في انتخابات 1986 في سياق الواقع الخاضع للزمن الطبيعي، بينما انقلاب 1989 هو تسريع، تكثيف الزمن، الهروب من الطبيعي إلى الميتافيزيائي، إلى ليلة القدر. هنا تتطابق الحركة الاسلامية مع ماكبث، في فلسفة الشهوة القائمة بالكامل على ذبح القانون و المستلهمة بالأساس من تأويلها الغيبي و الخارق كذريعة . والآن، في تداعي روحانيات الحركة الاسلامية تحت ضغط الرغبة المطلقة في البقاء، هذا الرعب الذي يقود سفينة الحركة الاسلامية، يتحقق المعنى الكامل لها، معناها الذي استلهمته من ذاتها وليس أي معنى خارجها. الرغبة المطلقة التي لا يعادلها إلا الخراب المطلق. ولكن هذا الكشف المأساوي حدث في مسرح مأهول ومنكشف.السودان كله هو المسرح الذي استخدمته الحركة الاسلامية لتكتشف ذاتها وتكتشف خسارتها. في هذه الخسارة خسرنا مع الحركة الاسلامية ودفعنا أثمان ما لم نشري. لقد دخلنا معها في حقل اشارات جديد، منفصلين في تحققها هي ليس عن تحققنا فحسب، بل عن فهمنا لأنفسنا ولما يحدث حولنا. خلقت الحركة الاسلامية مجال من الغموض، والشك في المستقبل، والتشويش الممنهج اقعد كل فكر وكل نزوع إلى الخلاص. لقد تحولنا في مسيرة تحقق الحركة الاسلامية المأساوي إلى مأساة حقيقية. تحولنا من دولة "نامية" إلى لا دولة، ومن شعب يستكشف طريقه لبناء امة إلى قبائل وجثث.
بلادنا نطاق من الاحتمالات والمعاني والإمكان تشممه ضباع مستثارة للعنف، انها ليست بلاد بقدر ما هي ولادة.ما اغرى ماكبث الحركة الاسلامية بالركض طليقاً في ضمير السودان اننا كنا وما نزال غرقى تأويلات تحيلنا دائماً إلى محكومين، إلى سجناء و مطاردين و شعب. اننا كسودانيين نتطابق مع التعريف الرئيسي لمفردة شعب في "لسان العرب" حيث أن الشعب هو الجمع والتفريق والإصلاح والإفساد، أي الضد. اننا كل شيء ونقيض كل شيء. ورغم الغنى الذي ينطوي عليه هذا التعقيد لم نتلمس منه سوى القشور والتسطيح الذي يعكسه عنف وفقر الجدل الفكري والسياسي اليوم. هذا العنف هو الإجابة- التي فرضت نفسها - على كل الاسئلة الجدية التي لم تُطرح بشكلٍ كافٍ، أو طُرحت دون شغف، أو طُرحت محرومة من مناخ نقدي مستقر يسمح بتطوير وسك المفاهيم.اكتسب فخ الهوية، الذي اسُتدرجنا اليه بوصفه السؤال الرئيسي الذي في طويته تتكشف كل اسئلتنا الأخرى، مشروعية جديدة مقروئاً في صحيفة الصراعات الحالية. كأن هذه الصراعات كلها تحوز مركزاً ثابتاً، كأن هذا المركز الافتراضي الوحيد هو الهوية.
اعتبر ثنائية الغابة والصحراء واحدة من الانغلاقات التي ضُربت على الفكر السوداني. وهي انغلاق لأنها استجابة لنمط كسول يفترض أن الهوية مكون ثابت وأن الهوية في ثباتها قابلة للتصنيف القاطع وفقاً للثنائيات التي تضع الرب مقابل العبد والحكومة مقابل الشعب والعرب مقابل الافارقة. إن هذا التصنيف كما هو واضح هو مجرد تنازل، من الطرف الذي يعتقد أنه الأقوى، لتأكيد اعتقاده في قوته بهذا الاقتران. ومن ذلك أن الهوية العربية تعرف بنقيضها: يقول "لسان العرب": العرب جيل من الناس معروف خلاف العجم. وتحاكي هذه الروح المثل الاغريقي" اذا لم تكن اغريقياً فإنت بربري" و الحكمة الخالدة لجورج بوش "من ليس معنا فهو عدونا". هذه هي عواقب التورط في النموذج الثنائي الذي لا يتسع لأي قيمة خلاف علاقات القوة. مع ذلك يبقى الالتهاب الرئيسي في جرح الهوية هو السؤال نفسه، لأن توطين سؤال الهوية في مجازي "الغابة" و"الصحراء" الملطخين بالنظرة الاستشراقية خطأ لا يغتفر. لقد استهلكت اوروبا الاستعمارية مجاز الغابة(الطبيعة البكر/ الزنوج الأوباش) والصحراء (النقاء/ البدوي الجلف) بكل ملحقاته لأنه كان يخدم مشروعها الامبريالي ويسوغه اخلاقياً واضطرت لاحقاً للفظه وخلق مجازات جديدة تخدم مصالحها القديمة. و الناظر إلى السودان يرى أنه بحضاراته القديمة و مكوناته الثقافية و تعقيده الأثني و اللغوي لا يقبل الاختزال في ثنائية الغابة والصحراء ولا في تسوية الهجنة التي توصلت اليها والتي لم تسعفنا في تأويل و قراءة معظم الشفرات المكتنزة في ثقافاتنا المتعددة. الهوية معقدة ومتحركة ويمكن تمثلها فقط بوصفها عملية مستمرة وليس ابداً كمنتج نهائي. إن تعرض النسيج المروي لخيوط المسيحية لا يصنع فقط هوية مسيحية لكنه يصنع ايضاً نسيجاً داخلياً يحوي كل الهويات التي تدخلت في صناعة المسيحية. وفي هذا التعقيد يتدخل تعقيد آخر هو تعقيد اللغة التي انفتحت على نظام كامل من الاشارات والترميز يفاوض نظامها المركب بطبيعته. الهوية السنارية هي هوية متحركة ايضاً وهي التذبذب المستمر الذي يسببه الاشتباك بين مجموع كل هذه الهويات. إن حدوث الاسلام في الهوية السابقة له لم يلغ نظام الاشارات النوبية، النوبية المسيحية، أو الاشارت الوثنية ليصل إلى استقرار نهائي بل ظل وسيظل في جدل مستمر معها. يسري ذلك على البنية العميقة للغة التي هي اصلاً التعرض المستمر والوجود على حواف الإمكان وليس التحقق الكامل. الهوية هي هذه المساحة المراوغة متعددة الطبقات والاتجاهات و تجفيفها إلى عنصر أو آخر يلغي خاصية هذا الجدل والذي هو الدالة الرئيسية في تكوينها. سمحت المركزية الموغلة في النظر إلى الهوية في اطار العربي والمستعرب بتمرير جرائم كبيرة مثل تضييع اللغة النوبية و قمع اللغة البجاوية واهمال اللغات واللهجات الأخرى في جبال النوبة والانقسنا، ناهيك عن وقوع معظم القبائل النيلية والزنجية خارج حدودها. إن التفريط في أي لغة يعني خسارة وجهة نظر كاملة حول العالم و خسارة طريقة ناجحة في تحليل المعطيات وفهمها واعادة انتاجها، وخسارة امكانات غير محدودة في بناء البشر.
هذا التفريط هو في الواقع جزء دقيق في حلقة انفراط القومية السودانية. إن الركون إلى ثبات الهوية في لحظة سودان بعد الاستقلال، والتي هي لحظة ولادة مستمرة، إغفال لحدث الولادة نفسه بوصفه امكانية مستمرة وإعادة تشكل. برز سؤال الغابة أم الصحراء إلى السطح ومعه امانيه بأن ما يسائله هو معطى ثابت وليس قيد الحدوث. في الواقع، الهوية هي التعرض. هذه الهوية المتحركة تعرضت إلى تيار من المتغيرات المتسارعة فاق قدرتها على الامتصاص، الخاصية الطبيعية التي تسمح بالحوار، وبالتالي ساقها إلى العنف. في عملية التشكل و اعادة الصياغة لا تنمو الهوية دائماً في اتجاه ترقيها، بل في اتجاهات يحددها تعاطيها مع يقع فيها من تأثيرات. من ذلك دخول الكلاشنكوف، ليس كسلاح بل كمفهوم، في نسيج ثقافات المسيرية والقبائل الرعوية الأخرى في كردفان ودارفور. حيث حولت الأسلحة الصغيرة موازين القوى في النزاعات التقليدية حين تبخرت الكثرة التي تغلب الشجاعة في فعالية ودقة الكلاش. سمحت هذه التقنية بحدوث عمليات ازاحة شرسة في مكون هويات القبائل الرعوية، واصبح المرحال هجرة مضطربة تستصحب الحداثة في اسوأ تجلياتها. لقد اشتغل مفهوم الكلاشكنوف على قيم أساسية في بناء الوعي الرعوي، مدخلاً بالقوة ما كان نظاماً اقتصادياً تقليدياً في دائرة النظام الرأسمالي من باب استهلاكه للسلاح. كما أن دخوله أعاد تعريف الحرب وكل القيم المرتبطة بها محولاً ما كان جزءاً من نشاط اقتصادي إلى ثقافة كاملة للموت لأن "فعاليته" تكمن في حصده اعداد كبيرة من القتلى مقارنة بالأسلحة التلقيدية. لقد تخطى تأثير العنف نسيج الثقافة ودخل كمكون مثله مثل الثقافة في تشكيل الهوية. اصبح العنف مجال كامل ومسيطر يخضع الثقافة والقبيلة والاقتصاد والدين لأسئلته وليس العكس. هذه الإزاحات وغيرها ابعدت سراب القومية السودانية من هذه القبائل. القومية ذاتها التي ساهموا في تشيكلها في معاركهم مع التركية ومساندتهم للمهدي. حيث تحول الصراع البين-قبلي إلى اجندة مستمرة ملحة لن تسمح، حالياً على الأقل، للقبائل المستنزفة في العنف بالنظر إلى هويتها في سياق أكبر هو قوميتها السودانية. يأتي ذلك في وقت دخلت فيه القبائل الرعوية في مسئوليتها كمدافع رئيسي عن وجودها، مرات كمليشيا للحكومة ومرات كعدو لها، مدفوعة إلى العنف ولكن الأسوأ إلى بناء قوانينها الخاصة ودستورها الخاص كدول صغيرة تحرك عجلة وجودها بنفسها. لذلك فإن ابسط المسلمات مثل مسلمة "الشعب السوداني" تقع في الشك والتشويش. وذلك لأن مفهوم القومية لا يشير إلى كتل بشرية بقدر ما يشير إلى وعي ينظر إلى وحدة المصالح والمصير نظرة استراتيجية. هذه ليست إلا نقطة مايكروسكوبية في معنى التشويش، لا تفوق نوعاً ولا درجةً بقية النقاط بما في ذلك كارثة دارفور: هوية النازح، هوية المتَعرِّض، هوية القاتل والمقتول، وهوية المحتل تحت غطاء العمل الإنساني.
مسألة اخرى استحلبت طاقة السودان؛ واغرت به: اغراقه- لهزاله السياسي والاقتصادي والفكري- في صراعات اصطفتها رياح القوى التي اصحبت قدراً دولياً. إن التقاصر عن استيلاد اسئلة ومفاهيم وأطر فكرية جديدة شيء و التقاصر عن رد موجة الاسئلة المفروضة علينا شيء آخر. متى كان الصراع بين الاسلام والمسيحية سؤالاً رئيسياً لشرق السودان؟ الشرق الذي يدهسه العطش و ينتزع انسانيته الفقر هو ساحة حرب تحدث كل يوم وتنتهي بانتصار التخلف، وفي هذه القتامة يكون على ما يكاد أن يكون جثته الوقوع في شرك الحرب بين الأديان. ولكن الشرق أيضاً سيكون ساحة للنزاع الطائفي، لأن تدفق أموال الخليج لإخماد عطشه يعني أن هذا العطف الانمائي مشفوع لابد بتأسيس قلعة وهابية تصد رياح التشيع وتفتك بالنزعة الصوفية. تتولد اسئلة اللاعبين الدوليين في جثتنا الخاصة ونسهر جراها ونختصم. هذا الجنون هو حصادنا وما بشرتنا بها الحركة الاسلامية حين اغرقتنا في اسهال مشروعها الحضاري وفي صراعها المفتعل مع الغرب وفي لعبة سلم الخليج وثعبان ايران/اسرائيل.
في النبوءة الثانية لم يكن على ماكبث تغيير منظوره، فذلك الافق الذي شتل فيه حلمه بالملك هو نفسه الأفق الذي يسمح برؤية غابة تتحرك باتجاه القصر. كانت كل الاشارات السابقة لتلك اللحظة تشير إلى حدوثها. بنى ماكبث بنفسه الرحم الذي سيولد منه خصمه.كما أن الغابة التي تمشي لم تكن آتية من وراء ظهره بل ظلت دائما امامه، كان يعرف أنها آتية لا بد ولكنه لم يفهم ابداً منطقها. الغابة التي تمشي هي لغة أخرى، مجاز/حقيقة لم يتواصل معه ذكاء ماكبث. تحركت الغابة في مستوى معرفي معزول عن المستوى المعرفي الذي يتحرك فيه ماكبث لذلك فشل في حل الشفرة وتدارك مصيره. هذا العمى هو موهبة الحركة الاسلامية إلى جانب الاقصاء الجذري للآخر في كل اشكاله بحيث لم يتبق عود صالح تتوكأ عليه. لقد تضخمت أنا الحركة الاسلامية في السودان حتى ظنت أن السودان كله أناها. ودخلت هي ذاتها في التشويش الذي خلقته حتى ظنت أن مصيرها يتطابق ومصير السودان، و انها الحزب والدولة والشعب وهذا دليل آخر على جنونها. ولكن تحلل الخطابات، والأحزاب، والمقاربات الأخرى أخطر على الحركة الاسلامية من قوتها لأنه يسلمه للفراغ الذي يعني فيما يعني تخلق افق جديد ربما يكون راديكالياً بفعل الحاجة وبفعل الضرورة. ما يعطل تشكل هذا الافق حالياً هو الأمل في الخطابات القديمة النافقة، والتحركات الدولية والاقليمية المشبوهة. لكن ما أن ينقطع هذا الأمل ويسود اليأس ويطبق حتى تبدأ الولادات الجديدة التي سنضطر وسيضطر العالم للتحديق فيها مطولاً لفهمها .ستكون هناك غابة تمشي باتجاه القصر ولن تفهمها الحركة الاسلامية ابداً. لكن ذلك لن يحدث قبل أن يتم القطع الكامل بين الخطاب والمستوى المعرفي الذي تذوب فيه الحركة الاسلامية حالياً والمستوى المعرفي الجديد. إن فشل كل المحاولات الفائتة لإنتاج تحول سياسي سلماً وحرباً، هذا الاجهاض المستمر، سببه سيطرة الخطاب الواحد والذي ظل ينتج ويعيد انتاج نفسه متحولاً بذلك إلى الفضاء الصمد الذي يفسر كل الظواهر من حوله وفقاً لنظامه الفكري وذرائعيته السياسية. وليس من باب الصدفة أن الحركة الاسلامية تحتل الحكم و المعارضة في وقت واحد. اننا اذ نخرج إلى الشارع متظاهرين فإننا لا نخرج على انما نخرج في خطاب سياسي حددته الحركة الاسلامية ورسمت أبعاده كلها بما في ذلك احتجاجنا عليه. وعندما ننتخب أو نقاطع فإننا نتحرك بالذات في الاحتمالات التي تركها لنا ذلك السياق الواحد. داخل ذلك الخيال المهيمن تفقد كل ظاهرة معانيها المحتملة لصالح معنى محدد سلفاً (يُعتقل التغيير في حدود رد الفعل وليس في لا حدود الفعل )، لذلك تفشل المذكرات والمظاهرات والحركات والمفاوضات و الانتخابات والغد. لذلك تغرق كل اصوات الاستغاثة في الثقب الأسود لهذا الخيال. نحن مسجونون في عقل الحركة الاسلامية والخروج منه لا يبدأ بسؤال من أين أتى هؤلاء، ولا بسؤال الغابة والصحراء، بل بالشك في هذه الاسئلة وتقويضها للخروج منها إلى اسئلة جديدة تخلق الخيال والعقل الجديد.

نجلاء التوم
5-15 نوفمبر 2012
[[email protected]]



--------------------------------------------
* نشر في سودانايل يوم 18 - 11 - 2012.
أضف رد جديد