أحوال الماء عند عبد القادر حسن المبارك

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

من " قلب السودان"

مشاركة بواسطة حسن موسى »

النور
سلام
و أنت في " قلب السودان" المدمّم حاول تشوف لينا مستنسخات إلكترونية من مائيات استاذنا جـُلـّي حتى نجمّل بها مقام الماء، و لك أجر المناولة.
ياخي مائيات أندرو واياث لو عندك ليها طريقة زدنا منها(و"البحر ما بيابى الزيادة" فما بالك بمُحيط المائيات الذي نغطس فيه كل يوم؟) عشان المائية الأوردتها أنا في الرابط عندها علاقة بمائية لمولانا رامبراندت في مقام "الكتابة/الرسم" و رامبرانت حيرجعنا لـ شيتاو ("القرع المر")، و القرع المر يجيبنا تاني لمحل عبد القادر المبارك و عبد القادر يرجعنا للموضوع الأساسي الذي هو السطح كما أورد عبد الماجد عن مولانا بيير بونار كرم الله وجوههم جميعا.
صورة العضو الرمزية
ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ
مشاركات: 487
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 12:26 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ »

شكرا للعزيزة إيمان شقاق ، التى مكنتنى من رفع الصورة فى الوست السابق وسأواصل فى نماذج الماء ، حتى يرتوى حسن موسى والجميع ...
آخر تعديل بواسطة ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ في الاثنين فبراير 18, 2008 10:25 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
الحرية لنا ولسوانا
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


ثم نزلنا قيسان وما أداراك ما قيسان. الخور الجاف ذو الأرضية الرملية يتلوى رابطا طرفي البلدة المتباعدين. كنا نسير لمدة طويلة من الاستراحة المجاورة لنقطة شرطة الحدود، حيث نزلنا، لنصل إلى البلدة الراقدة على حافة تل ممتد رأى في غمرة نشوته أن يجاري تعاريج الخور وهو يترنح ثملا بين قطبي النحت والترسيب. الخضرة العميقة الداكنة تحيط بالخور الرملي الجاف. قالوا لنا أن الخور يفيض في فصل الخريف فيغمر الضفاف ويحول بين سكان القرى الصغيرة التي تقوم على الضفة الثانية وبين الوصول إلى المدينة. أما حين وصلنا، وكان الزمان شتاء، فقد كان الناس يمشون بين الضفتين فوق رمال الخور. وكنا نرى مجاميع من الناس تتحلق في نقاط بعينها في بطن الخور. عرفنا أنهم يستخرجون الماء من حفر ضحلة يحفرونها في أرضية الخور، ولعلهم يسمونها "الجمام". والشتاء الذي تشتد وطأته أحيانا في وسط وشمال السودان بسبب انسياب الرياح الباردة التي تنساب من أوروبا متوغلة في جنوب الصحراء الافريقية، له تأثير ضعيف في منطقة جنوب النيل الأزرق التي تظل معظم الوقت دافئة. فشتاء جنوب النيل الأزرق، أشبه بـ "الدرت" في منطقة الجزيرة. وذلك احساس آخر لي معه ودٌ كبير.

كانت قيسان عالما جديدا طازجا دخل فجأة إلى وعينا، فتوسع به تصورنا لهذا القطر الشاسع الذي يضمنا ولا نعرف عن تنوعه وعن جماله الكثير. وما أكثر ما حبستنا النخب العربسلامية في تصورها المعلب لهذا القطر القارة الشديد التنوع. في قيسان، شأنها شأن كل الحواضر الصغيرة المنتشرة بعرض السودان وطوله استوطنت أسر من الأقاليم الشمالية ومن الوسط بغرض التجارة وأصبحت تلك الأسر جزءا من النسيج المكون لتك الحواضر.

كان للشمس وهي تدلق أشعتها فوق أوراق المانجو التي تلتمع تحت وطأة شواظها ساعات الظهيرة تأثيرا لن أنساه. وكذلك للرمل المتلأليء وهو رمل أبيض يخطف الأنظار. كنا نسمع ونقرأ عن ما يسميه أهل التلوين: المنظور اللوني perspective of color والمنظور الجوي atmospheric perspective ولكنه سمع يمثل ما يسميه أهلنا في الجزيرة: "سمع الجداد للبحر". فالدجاجة لا تذهب إلى النيل وتظل طيلة حياتها بين البيوت وهي بذلك إنما تسمع بـ "البحر" مجرد سمع ممن يتحدثون عنه حولها.

كنا نرى الزرقة التي تتناهى إليها مائيات ويليام تيرنر وهي تقترب من خط الأفق، ولم أتعرف أنا شخصيا على تلك الخاصية في الواقع إلا في قيسان. فقد أمضيت حياتي في وسط الجزيرة حيث الأرض إما خضراء وإما بنية. والترع المحيطة بالقرى تسد وجه الأفق. في قيسان رأينا الألوان وهي تبهت مندغمة في غلالة الزرقة التي تسربل خط الأفق. كانت الأشجار تنحو نحو الزرقة وكذلك التلال البعيدة. كانت المناظر ساحرة وآسرة وبتعبير الطيب صالح، فقد كانت المرئيات في قيسان مشعلةً للدفء الذي لا يفتأ يتكور تحت الحجاب الحاجز. قال مصطفى سعيد: ((حين أحس بذلك الدفء، أعرف أنني مسيطرٌ على زمام الموقف))، أو كما قال. ذلك الدفء يدفع الرسام للامساك باللوحة والنظر في الورقة البيضاء المحبحبة، ثم حملها مع بعض الفرش وبرطمانية بها ماء نظيف، ثم علبة الألوان، ومن ثم انتباذ موقع قصي يدخل فيه الرسام في محراب تأمل الطبيعية، ثم الشروع في مطارحتها الغرام بالريشة التي ينثال منها الماء بكل ألوان قوس قزح.

كانوا يعطوننا أوراق "الواتمان" بـ "القطّارة". فالمتاح دائما هو ورق "الكارتريدج" الرخيص. وحين تستلم ورقة "واتمان" من الأساتذة المشرفين تظل تتأملها حينا من الدهر، وتتحسس ملمسها بايروسية غير خافية. ثم تتحين لها لحظة احتشاد الطاقة الابداعية ولحظة التركيز الذهني ولحظة الصفاء. فقد كنا لا نمارس الرسم على أوراق "الواتمان" اتفاقا، أو في حالات الشرود الذهني وضمور الطاقة. فإن أنت أتلفت ورقة "الواتمان" برسم بئيس، فإنك تكون قد أتيت شيئا إدا. ولن تجد ورقة "واتمان" أخرى. فقد جعلتنا الندرة نخاف من التلوين على ورق "الواتمان". فالتلوين على ورقة "الواتمان" مؤجل دائما!! وحين خرجنا إلى العالم الغربي عرفنا عشرات الأنواع من ورق المائيات الفاخر، من شاكلة "فابريانو"، و"ستراثمور"، و"آرشز"، وبعض الورق الهندي المصنوع باليد، وتحسرنا على أيام الصبا حيث حال بيننا وبين التجريب الفقر وفسالة حكومة السودان مضافا إليها فسالة كليتنا ومعلمينا. في الغرب أحاط بنا الورق الفاخر من كل جانب غير أن الجذوة القديمة لم تعد تلك الجذوة .. ويا للحسرة!! وكما قال إدريس جماع: ((ذهب الصبا بعهوده، ليت الطفولة عاودتنا)). ولي عودة لمقامات الماء.
آخر تعديل بواسطة Elnour Hamad في الأربعاء فبراير 13, 2008 8:33 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
ايمان شقاق
مشاركات: 1027
اشترك في: الأحد مايو 08, 2005 8:09 pm

مشاركة بواسطة ايمان شقاق »

سلام للجميع،
احب أن أحيي الفنان عبد القادر حسن المبارك، وأشكره على مشاركته المتواصلة في موقع سودان ارتيستس قالري، منذ أن كان بالموقع عدد محدود من المشاركين والمشاركات.
أعجبتني أعماله المتفردة، واتذكر جيداً بورترية من أعماله بمخزن قسم التلوين (اياه)، منفذ بالوان الزيت على بورد، وعلى ظهر البورد مكتوب قدورة.به معالجات ذكية وحصيفة للوجه بدرجات اللون الـ كريمزون ودرجات البني، والملابس بدرجات الأخضر الداكنة.. مع خلفية شبه مهملة ويغلب عليها بياض البورد. كان هذا العمل من ضمن الأعمال التي نهتم (طالبات وطلاب قسم التلوين) بها ونعرضها في القسم للشوف وللتعلم.


العزيز عبد الماجد، أوافقك الرأي في أن أعمال الفنان عبد القادر المعروضة هنا ربما نفذت جميعها في فترة واحدة. ويبدو أنه كان مشغولاً بأسلوب أو فكرة محددة، إذ أكاد أن أرى إنشغاله ومطاردته للأشكال والألوان في بحث بصري دؤوب وكثيف. فتبدو الأعمال بنَّفَس واحد، وكأنها نفذت في ليلة واحدة، striking intensity and spontaneity.
قد يكون هذا سبب إنطباعك أن الأعمال "تكاد تكون لوحة واحدة مكررة".

تحياتي للجميع
صورة العضو الرمزية
ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ
مشاركات: 487
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 12:26 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ »

ساعود ، ببعض المائيات ...
آخر تعديل بواسطة ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ في الأربعاء فبراير 27, 2008 10:53 pm، تم التعديل مرة واحدة.
الحرية لنا ولسوانا
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

سلام يا أهل الفن ويا مرتادي مقام الماء.
قال شاعر الجمهوريين البروفيسر عصام البوشي:

لقد أوصدت غارَ حراءْ، بلا منٍّ، بلا استعلاءْ
وعرشك صار في الفرش، وعرشك كان فوق الماءْ!

عدت من السودان إلى الدوحة ليلة أمس يا حسن موسى. ولم استطع (آيه رأيك في "أسطع" هذه؟ مش فلسفة ولغة؟) كان أحد إخواننا يقول حينما يعجبه شي: "فلسفة ولغة" !! المهم لم "أسطع" أن أصل إلى أستاذنا عبد الله حسن بشير "جُلِّي" لجلب شيء من مائياته إليكترونيا، كما طلبت، لنجمل بها مقام الماء. غير أني عائد عما قريب وسأمكث أطول في المرة القادمة الأمر الذي سوف يمكنني من الوصول إليه. وعندي لكم من سبأٍ نبأً جديداً سأرويه قريبا.

المهم، سأثبت هنا شيئا من مائيات مولانا أندرو واياث :

في الصورة أدناه تظهر جارة أندرو واياث المسماة "هيلغا" ولعلها مهاجرة روسية، وقد رسمها أندرو أكثر من مائة مرة. والرقم هنا حقيقي وليس من أجل المبالغة. عاشت هيلغا بجوار وايث الذي عاش حياته كلها في مزرعة ولا يزال. وبالمناسبة واياث من المعمرين، ولعله قد تجاوز التسعين من العمر، ولا يزال يسير بقوة كما يسير "جوني ووكر". ورغم الشيخوخة لا يزال واياث يرسم. رسم واياث هيلغا جالسة، وواقفة، وراقدة، وجاثية على ركبتيها. رسمها في داخل الغرف، ورسمها وهي واقفة على عتبات الدار. تارة لابسة وتارة عارية. كما رسمها في وسط الحقول تارة عارية وتارة لابسة، أيضا. وحين سأل أحد الصحفيين زوجته قائلا: ما قصة أندرو مع هيلغا هذه؟ أجابت زوجته، بلا مبالاة: أظنه يحبها!!


صورة
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

هيلغا وهي جاثية

صورة

واحدة من "ثلجيات" واياث الكثيرة


صورة
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

صورة



صورة
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
مصطفى آدم
مشاركات: 1691
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 5:47 pm

مشاركة بواسطة مصطفى آدم »

النور
نوّرت أيامك،
هذه الزوجة " مسز واياث "عالمة بالباطن، حتى لا نقحهما في " جغابيب " العلم اللدني . أمّا المهاجرة الروسية " هيلغا" فلعلها الرومية الحسناء ( أتردد كثيراً في استخدام مفردة جارية) التي ألهمت ، كما ال " ميوز" الإغريقية ،مولانا الإمام إبن عربي " ترجمان الأشواق " فكان ما كان من إهراق للدماء و إزهاق لأرواح شفّت حتى أشرفت بالرؤيا على ما لا تراه العين التي ترى و لا تبصر . و أنت أدرى بكل ذلك .
( إىُ من درجات االحب الخمس التي أوردها مولانا إبن عربي غي مقدمة " ترجمان الأشواق" ترى مقام هيلغا؟ أو ربما السيدة واياث)
التحية و التجلِّة لأستاذ الأجيال عصام البوشي الذي أنار ، حين غفلة غليظة مني ، بصيرتي، و الكثيرين من طلابه و زملائه،بإعلائه المثابر لإنسانية البني آدم " الغلَّب الهدّاي " رغم جور السلطان و حيف الزمان.
و ما زلت " قانص " في مقام هذا الخيط المائي رغم أحوالي المائلة السائلة
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

العزيز مصطفى آدم

أسعدني تمديدك لموضوع "هيلغا" وجرجرتك له في وجهة أفق الروح، وأفق "أمور" شيخنا إبن عربي الكثيرة الطريفة. لا أشك أبدا في "صلاح" السيدة واياث. فهي ـ كما هو واضح من سعة أفقها ـ إمرأة مبصرة. فهي لم تدع لوجود هيلغا في عالم السيد واياث كملهمة وكـ subject matter أن يعكر عليها صفو وجود زوجها في حياتها. وهذا من العلم ومن كرم النفس وصفائها، والله أعلم.


كما يقول الأمريكان ? guess what. كان الذي أوصلني بسيارته إلى مطار الخرطوم أول أمس هو البروفيسر عصام البوشي. وقد كنا "في سيرتك" كما تجري العبارة الشائعة. لم أكن أعلم أنكما عملتما معا، إلا حين سمعت ذلك منه. عصام البوشي متابع لـ "سودان فور آل". كان يعلق على مقالي "التسامح الديني"، والكلام جاب الكلام، فأشار إلى كتاباتك، وتحدث عن أيامكما معا وعن اعجابه الشديد بشخصك. فلك تحياته وتحياتي.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

تجدون أدناه واحدة من صور هيلغا الشهيرة. أثبتها هنا لكي تتأملوها عن كثب. والتأمل عن كثب "بجيب التفاكير" فلربما أتاحت رؤية وجهها عن كثب فرصة لثبر أبعاد صلتها بواياث أو سر تعلقه بها. هذه اللوحة منفذة بتمبرا البيض وتمبرا البيض ليست سوى "ألوان البدرة" مستخدما معها بياض البيض السائل كمادة وسيطة medium لتحويلها من بدرة إلى معجون ومن ثم الصاقها بالفرشاة عبى السطح. وأنا وصديقي "الكاشف" حسن موسى ندرجها في إطار المائيات شأنها شأن "القواش" و"الأكلريك". فهناك المائيات الشفافة transparent, وهناك المائيات غير الشفافة opaque التي تندرج تحتها ألوان البودرة والقواش والبوستر والأكلريك والتمبرا.

تبَّقى أن اصحح معلومة وردت خطأ، وهي قولي أن هيلغا روسية. فالصحيح أنها بروسية المولد كما ورد في سيرتها. وقد كانت تخدم عجوزا يعيش بجوار مزرعة أندرو واياث وكان ذلك العجوز على صلة صداقة بواياث. وكان علاوة على صداقته لواياث أحد مواضيع واياث في بعض لوحاته. تعرف واياث على هيلغا في بداية سبعينات القرن الماضي عن طريق جاره العجوز هذا. وحين تعرف عليها واياث كان عمرها 32 عاما وعمره 55 عاما. واليوم فإن عمر واياث 91 عاما وعمر هيلغا 68 عاما.

نشأت الصلة بين واياث وهيلغا عن طريق ذلك الجار والصديق العجوز. ومن ثم تحولت هيلغا من مهاجرة انحصر عملها في بدايات أمرها في رعاية جار واياث العجوز، لتدخل عالم واياث الفني وتصبح أشهر موديل لرسام أمريكي مخضرم. تقول سيرة هيلغا أنها نفسها تعالج الرسم والشعر. والطريف أن هيلغا تحولت لتصبح راعية لأندرو واياث في كبره بعد أن مات مخدمها السابق، جار واياث وصديقه.




صورة

في عام 1986 أفردت صحيفة "تايمز" ملفا كاملا لواياث وهيلغا[/color]

صورة

[color=indigo]في عام 2007 تسلم واياث الجائزة الأمريكية القومية للفنون من الرئيس جورج دبليو بوش.


صورة
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »



في العام الثاني بكلية الفنون لم نذهب إلى جبال النوبة كما هي العادة، أو لعلني أنا الذي لم أذهب مع الذاهبين لسبب ما. المهم كانت رحلتي الثانية للرسم بألوان الماء إلى شرق السودان. ورحلة شرق السودان تتم في السنة الدراسية الثالثة. أنزلنا القطار في محطة جبيت وكانت إقامتنا في معسكر الجيش بجبيت. وهو معسكر منظم تحيط به الجبال من جميع الجهات. وعلى صفحة الجبال من جهة الغرب علامات بيضاء ضخمة نفذها الجيش. ولا أذكر ما ترمز إليه تلك الرموز بالضبط ولعلها كانت شعارات logos تدل على الوحدات العسكرية بمعسكر جبيت. ويبدو أن تلك الرموز حجارة تم نظمها على هيئات فنية تمثل "لوغو" كل وحدة عسكرية، وقام الجنود بدهنها بالجير الأبيض، فأصبحت علامات يراها العابرون من بعيد، خاصة ركاب قطار بورتسودان الخرطوم. فالخط الحديدي يمر بين معسكر الجيش بجبيت وبين الجبل.

أنزلونا في استراحة جميلة وكان البرد أشد مما ألفناه بسبب الارتفاع. وكعادة سودانيي الوسط فإن تجهيزاتنا للبرد من حيث الألبسة قد كانت بائسة. فقد كنا في غالب أحوالنا نترك لأجسادنا مقاومة البرد بالوسائل الطبيعية كارتجاف الأطراف واصطكاك الأسنان. كنا نحمل لوحات الموسنايت المشدود عليها ورق الكارتريدج وأحينا قليلة يكون عليها ورق الواتمان، ثم نذهب إلى سفح الجبل. وأذكر أنني رسمت منظرا للمعسكر من عل وأنا جالس على سفح جبل مجاور، ولعل من كان معي في تلك المهمة المائية الرسام القدير زميل الدفعة محمد مختار، الذي كان يدلعه شداد بمناداته "ود مخُّو". ولي عودة لمائيات "ود مخو". عموما لم يكن في جبيت ما يغري العين. فالمنطقة كلها جبال تميل إلى السواد تتخلها الأبنية الحكومية العسكرية.

تبرع لنا قائد المعسكر بسيارتي نقل روسيتين عسكريتين. وكان الرئيس نميري قد استورد ذلك النوع من العربات بأعداد كثيرة تم توزيعها على كل وحدات الجيش في السودان. حملتنا تلك العربات إلى محطة السكة حديد بمدينة جبيت فرسمنا بعضا من أزقة البلدة وبعضا من حركة الناس في السوق وحول المحطة. كما حملتنا في رحلة ثانية إلى مدينة أركويت، مصيف أفندية سودانيي ما بعد الاستقلال الذي كان حين زرناه مغلقا يمر بفترة بياته الشتوي السنوي. غير أنه بدا لنا ايضا وكأنه في طريقه إلى التدهور شأنه شأن سائر مرافق السودان في حقبة ما بعد الاستقلال. ويبدو أنه قد ولج الآن دنيا النسيان، إذ لم أعد اسمع عنه شيئا.

أعجبنا معمار أركويت الحجري وانسجامه مع المحيط. كما أعجبتنا فكرة تناثر الوحدات السكنية لذلك المصيف الرائع. خرجنا إلى طرف أركويت ووقفنا على حافة "جبل الست" الذي ُسمي بسبب تلك الخواجية التي ألقت بنفسها منتحرة من تلك الحافة الشاهقة. ومن يقف على تلك الحافة الشاهقة يرى امتداد الأرض تجاه مدينة سواكن وساحل البحر الأحمر كمن يرى من على متن طائرة تحلق على ارتفاع خمس ألف قدم. كانت أول مرة نرى فيها أنفاسنا وهي تخرج بخارا من أفواهنا وأنوفنا. كما كانت أول مرة يرى فيها أحدنا سحابة من بخار الماء تمر من بينه وبين من يقف قبالته. عير كل تلك المرحلة من الرحلة كنا نتطلع لزيارة سواكن. فقد رأينا كثيرا من رسومات الماء التي نفذت في أطلالها وبقايا أبنيتها التركية. وكنا نريد بالمثل أن تكون لنا لوحاتنا المائية السواكنية أيضا. وحين أعود، أحكي عن سواكن وبورتسودان والرسم بالماء في الأجواء الرطبة.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


قال الشاعر الراحل عبدالوهاب البياتي، نضر الله ثراه:

والشمس في الطرقات تحتضن البيوت، فتثير في النفس الحنين إلى البكاء

هذه بعض رسومي المائية للمباني وهي يجللها ضوء العصر الذي أحبه.


صورة

صورة
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

أدب الرحلة

مشاركة بواسطة حسن موسى »

أدب الرحلة

يا أهل الماء
الرسم بالمائيات بحر غريق ( و عن البحر فحدّث). و هذه بديهية نعقلها كلنا، و عليها نرخّص لأقلامنا الإبحار في ماء التعبير الأدبي بحرية تامة.و لو تأملنا في امتدادات هذه المناقشة التي بدأت بذريعة مائيات عبد القادر المبارك و تفرعت لموضوعات متنوعة من مشكلات الأداة ( فرشاة الخطاط الياباني "موريتا" لـ "أليشينسكي" البلجيكي و ورق الخواجة " وطمان") و قضايا التعلّم ( مائيات" جُلّي" و"ستيف هانكس"( الساعاتي) و" أندرو واياث " (مجنون هيلغا) و " تيرنر" و " بونينغتون") و تداخل الرسم بالكتابة عند المشاقين السودانيين و هندسة الروح عند " شيتاو" ( القرع المُر) ،و شرط " العقل المائي" ضد العقل الـ " ناري" في عبارة استاذنا محمود محمد طه، لغاية رحلات الرسم التي يطول عنها الحديث.فعلا لا يستقيم الحديث عن تجربة الرسم بالمائيات عند التشكيليين السودانيين بدون التأني عند تجربة رحلا ت الكلية، التي هي تجربة فريدة في سنوات التعلم بالكلية. و أظن أن أي من طلبة و طالبات كلية الفنون السابقين يملك أن يحكي عشرات الحكايات المدهشة و الذكريات الطريفة بمثل ما يفعل النور ، و النور يعرف أن سرده الممتع ما هو إلاّ طرف متواضع من ذلك النوع الأدبي الجليل المعروف بـ "أدب الرحلة"و الذي بقي منه في خواطر الصحاب التشكيليين ألف حكاية و حكاية.و أظن أن رحلات كلية الفنون كانت ـ بطريقة ما، و بالذات بالنسبة لطلاب و طالبات السنة الأولى ـ تمثـّل نوعا من " طقس عبور" عنده ينمسخ الطالب و الطالبة من مجرد طلبة عاديين لطائفة من الأشخاص المتضامنين حول تجربة حياتية مشتركة فريدة في نوعها هي تجربة الإنتماء لهذه القبيلة الحديثة المشاترة: قبيلة الفنانين.
سأعود
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

حسن موسى
غبت حتى حسبتك لست عائدا إلى "مرفعينك". فحسنا أن عدت. فأنا قد بقيت رافعا رأية هذا الخيط وحدي، إلا قليلا. وكما قال شاعرنا أحمد محمد صالح في "دائيته" المتينة "فينوس":

هُرعوا إليك جماعة، وبقيت مثل السيف وحدي!

المهم، اثبت أدناه شيئا عن ما علق بالذاكرة عن سواكن "مدينة الجن" أو كما قالوا.

نعم، لقد كنا نتحرق شوقا لسواكن تلك المدينة العجيبة التي خلق لها أساتذة كلية الفنون صورة أسطورية في الأذهان، بداية بالسيد "بيير غرينلو" الذي رسم كل تفاصيل معمارها وأصدر كتابا عنها لاحقا، مزينا بالرسوم وبالدراسات المعمارية، وانتهاء بكل الأجيال التي ظلت تزورها جيلا بعد جيل، أن أصبحت أكواما من حجارة الكورال البيضاء. وأصبح التجوال بين خرائبها صعبا لتراكم الأحجار في طرقاتها القديمة. أذكر أننا وصلنا سواكن ساعة الضحى وكان البرد شديدا والريح تزمجر. ملأنا أعيننا من مرأى المكان وبياض البيوت وزرقة البحر التي يمتزج فيها التيركواز بالخضرة، وتلك خاصية سواكنية صرفة. عبرنا بعربات الجيش الروسية، حول الجزيرة ورأينا مدخل الجزيرة، وسمعنا حكايا متنوعة ومثيرة عن قصر الشناوي ذي الثلاثمائة وخمسا وستين حجرة. كما سمعنا عن تصميمه الأسطوري ـ والعهدة على الرواة ـ الذي يجعل الشمس تدخل في كل يوم جديد حجرة جديدة، بزاوية تتميز بها تلك الحجرة.

في الطريق المقوس الذي يحازي حافة اللسان الأرضي الممتد شرقي الجزيرة، مررنا من أمام سجن سواكن الشهير. امتلأ هذا السجن باليساريين في بدايات السبعينات عقب انقلاب هاشم العطاء وإعدام قادة الحزب الشيوعي. ولعل بعضهم كان بداخله حين مررنا من أمامه. قالوا إن السجناء يعانون فيه من البرد ومن درجات الرطوبة العالية. كان منظر البحر شديد الروعة. وبقينا في الاستراحة المستطيلة القائمة على الشاطئ نرقب الجزيرة الغامضة عبر الخليج الصغير الذي يفصل بيننا وبينها. بدأنا كعادتنا في تدبير أمور مرقدنا ومأكلنا، كما شرعنا في شد الأوراق على البوردات بالورق المصمغ، ونحن نتحرق لدلق الماء المحمل بالصبغة السحرية على الأوراق مستلهمين تراثا شفاهيا وبصريا عن تجربة سواكن المائية، التي مثلت في مخيلاتنا تجربة منزَّلة من السماء، لا غنى عنها، وجسرا لا يتم العبور نحو النضج الفني إلا من خلاله. أذكر أنني بدأت برسم صندوق خشبي يمثل مرحاضا مقاما على الماء يجلس على لسانٍ أرضي ترابي رقيق يمتد حوالي الخمسين مترا داخل مياه الشط الضحلة.

في اليوم الثاني ذهبت في صحبة حسن موسى وآخرين ربما لم أعد اذكرهم على وجه التحديد، إلى داخل الجزيرة. رسم حسن موسى مدخلا لمبنى سواكني مشهور تطل واجهته من الجهة التي تلي البحرعلى الميناء القديم يربض أمامه من الجهة التي تلي شوارع المدينة، مدفعان قديمان سمينان قصيران. وقد رسم حسن رسما مائيا رائعا ظللت أتأمله لساعات. فقد كنت أعاضل الرسم معاضلة على طريقة "الساعاتية"، في حين أُعطي حسنٌ مزمارا، كما عبر علي المك عن بشرى الفاضل. أرجو إن كان حسن لا يزال يحتفظ بذلك الرسم، أن يجمل به مقام الماء هنا. رأيت هذا مدخل الذي رسمناه في عام 1973 على ما أذكر، في التلفزيون السوداني قبل شهور قليلة، وقد تدهور حال المدخل وانهارت كثير من الأبنية المحيطة به.

في تلك الجولة مررنا بالعم حسن حارس أحد مساجد الجزيرة، فحكى لنا كعادته عن أيام عز الجزيرة التي كان يسكنها خليط من أغنياء الحضارمة والأتراك والشوام، وغيرهم من الشعوب المتوسطية وغير المتوسطية. كان عم حسن يحكي بشغف وتأثر بالغين عن أيام الجزيرة الخوالي، وعن رش الشوارع بالماء كل يوم وإطلالات الحور المقصورات في الخيام، من خلال المشربيات الناتئة على صفحات الأدوار العلوية، وهن يرقبن الفرقة الموسيقية التي كانت تشنف في سويعات المساء أسماع ساكني تلك المدينة المترفة المستزرعة استزراعا في أراضي البجا.

سألنا العم حسن عن الصلحي الذي كان لا ينقطع عن زيارة سواكن فيما عرفنا، وأخبرناه بأن الصلحي قد استقر به المقام في انجلترا. في تجوالنا تعرفنا على كثير من المواقع التي سبق أن رايناها في رسوم من تقدمونا وسبقونا إلى سواكن. ومن مرأى الجزيرة التي تضم القصور المتهدمة ومرأي ما كان يحيط بها من حياة بيجاوية بائسة، ظلت ولا تزال، بدأت لنا صورة من صور التاريخ ومن مفارقاته العجيبة. في البلدة "السودانية" رسمت قبة السيد تاج السر المرغني وكانت من أفضل ما رسمت بألوان الماء حتى تلك اللحظة من حياتي. اكتشفت في تلك الرسمة وبمحض الصدفة أسلوب الطلية الفوقية بعد جفاف اللون. فقد أعطيت كل الورقة طلية رقيقة بلون أصفر ليموني مخلوط بالأحمر الاسكارلت وقد أعطت تلط الطلية كل الصورة مرأى الأصيل وروحه والضوء يسقط على جنبات تلك القبة وما حولها. ولقد أعجب ذلك الرسم أستاذنا عثمان بابكر، فظل يتأمله مليا ويقرظه. وأواصل قريبا
آخر تعديل بواسطة Elnour Hamad في الأحد فبراير 24, 2008 7:37 am، تم التعديل مرة واحدة.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


منظر جوي لسواكن سنة 1931
يمثل اللسان الممتد على يسار الصورة المكان الذي نزلنا فيه ومنه كنا نرى مرأى الجزيرة عبر الخليج. غير أن الذي رأيناه كان مهدما مقارنا بالحالة التي عليها المباني في هذه الصورة التي أخذت قبل حوالي الأربعين عاما من رحلتنا تلك إلى سواكن.
أما اليوم فقد أصبح مرأى الجزيرة مجرد أكوام من الحجارة والجير


صورة
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »



وتركنا سواكن إلى بورتسودان سالكين الطريق المسفلت الذي يربط بين المدينتين وهو جزء من طريق الخرطوم بورتسودان. كانت المسافة بين سواكن وبورتسودان حوالي الأربعين كيلومترا. وهي مسافة تعمرها أشجار شوكية متفرقة. أثر البحر في الجو شديد الوضوح. حين تستدير صوب الصحراء، ومن خلفها تلال البحر الأحمر التي تظهر في الخلفية من على بعد، ترى الأفق مغبرا. وحين تسدير صوب البحر ترى سماءً صافية وزرقة ذاخرة تبعث في النفس ما لا يحصى من جميل الأحاسيس. وهكذا انقسمت قبة السماء إلى نصفين واحد مزرق بديع، يخفي وراءه غموضا من ذلك الذي يطالع من رأى البحر لأول مرة. وقد كانت تلك أول رؤية لي للبحر. وبها خرجت من دائرة (سمع الجداد لى البحر). أما النصف الآخر من قبة السماء مما يلي جهة البر، فإنه نصف ينذر بالثبور وعظائم الأمور، فجوه (معتكر الجوانب أغبر) كما قال البحتري. وهو لا يذكرك بغير الشمس الحارقة، والفقر المدقع الذي يعيش فيه أهل تلك الجهات وهم يقفون تحت شواظ شمس الظهيرة بأجسادهم الهزيلة، وجلودهم المحروقة، وشعورهم الوديكة. فتنقبض الروح، وينكسر الخاطر، من فداحة ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.

كان حالنا ونحن ندخل في اقليم البحر وتجاذباته، مثل حال الإعرابي، "إبن القباب الحمر"، الذي رمي به القدر في "اللجة الزرقاء". فساءله ملك رومانسية الشعر العربي، على محمود طه المهندس، في استفهام استنكاري، قائلاً:

يا ابن القباب الحمر، ويحك، من رمى بك فوق هذي اللجة الزرقاءِ؟
من علَّم البدويَ نشرَ شـراعها، وهـداه للإبحـارِ، والإرســاءِ؟

مررنا بالمصفاة وبحي ترانزيت المليح ودخلنا بورتسودان من جهة الجنوب، ورأينا كرينات الميناء وأطراف السفن التي تشرئب من خلف الأبنية التي تحجب المرفأ. وتذكرنا لورنس دوريل وصورة الاسكندرية التي رسمها في "جوستين" والتي كنا قد قرأناها له قبل سنة أو سنتين خلون من رؤيتنا لبورتسودان. أراني أتحدث بضمير الجماعة هنا! ومبعث ذلك ربما كان ظني أن ذلك كان حال أغلبيتنا، والله أعلم.

خرجنا في يوم مطير يسميه أهل الشرق "الشبورة" ورسمنا الميناء وسفنه الرابضة والصومعة وعرفنا كيف لا يجف الورق في الجو الرطب، وكيف تخلق الرطوبة صعوبات للملون المائي الذي أمضى كل تجربته في مكان جاف فيه تجف ألوان الماء بسرعة الصاروخ! وبعد تلك التجربة بعقود، رأيت في أمريكا ملونا مائيا وهو يستخدم آلة تجفيف الشعر في تجفيف الألوان المائية أثناء الرسم، فأضفت ذلك إلي "بصارات" الخواجات التي لا تعرف الحدود. وأصبحت، من حينها، أستعين بآلة تجفيف الشعر في تجفيف الألوان حين لا يكون لدي من الصبر ما "يبل الآبري"، وأنا أرسم بالماء.

تجولنا في حديقة البلدية ورأينا الغربان التي تعمر أشجارها الباسقة، وعرفنا قصة تكاثر تلك الغربان. لا أذكر كم مكثنا في بورتسودان، غير أن الذي أذكره أنني لم أنجز أعمالا مائية كثيرة فيها. غير أنني عشت تجربة زيارتها وتشبعتها، وتأثرت بها تأثيرا بالغا. حتى أن بقاياها لا تزال معي، كما ترون. كانت تلك الزيارات السنوية التي نقوم بها من أجل الرسم بالماء فكرة ألمعية. فهي قد أتاحت لطلاب عاشوا حياتهم كلها في الوسط في قطر شاسع كالسودان، فرصة أن يعرفوا ذلك القطر، ويحسوا تنوعه ويخبروا عن كثب مركب فسيفسائه البديعة. وأنا كما تعلمون، لا أفتأ أذكر الصبي المشاكس، جان آرثر رامبو، الذي قال عند العاشرة وهو يغادر جدران المدرسة لآخر مرة: ((ليس من الخير أن نبلي سراويلنا على مقاعد الدرس!!)). وشخصي الضعيف ترك المدرسة كليا، مرتين في حياته، ثم عاد ليواصل مسلسل السأم اليومي المسمى تعليما إلى أن من الله عليه بالتخرج بعد "خراج روح". حين أرى تلميذا يحمل حقيبة وهو متوجه إلى المدرسة أقول: (لا حولا !!! إنه يبدأ الآن هذا السجن الذي سيستمر لستة عشرة عاما).

يقول مولانا جون ديوي، إن على المدرسة أن تصبح مثل الحارة، ومثل الشارع يتعلم الناس فيها دون أن يعوا إنهم يتعلمون ـ أو كما قال ـ. فالمدرسة النظامية كما نعرفها، عند مولانا ديوي وضع غير طبيعي! ولكن يبدو أنه لا بد منه. وليس لدينا ـ على الأقل حتى الآن ـ مناصا من أن نعمل على اصلاحها وجعلها أرفق بالروح وبالنفس وبالعقل. ففكرة المدرسة النظامية نفسها فكرة جديدة. فالناس قد ظلوا يتعلمون قبلها لآلاف السنين. فالمدرسة النظامية التي نعرفها اليوم، هي على الأرجح فكرة حداثوية تابعة لـ "ميكانيكيات" الحداثة الكثيرة. ويقول الأستاذ محمود محمد طه إن المدرسة التي ننشدها جدرانها الجهات الأربع. وحين خرجنا من كلية الفنون منسربين وراء إغواء الماء، إنما كنا في حقيقة أمرنا نستكشف الجهات الأربع السودانية. ولم تبق معنا رسوم الماء التي نفذناها هنا وهناك، بقدر ما بقيت معنا التجربة في جملتها، ويا لها من تجربة.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

يا أهل الماء ومحبيه

قبل أن أنتقل إلى جبل مرة، أرفع رسما مائيا للثلج الذي كان جديدا على عيني. فقد بهرني مرأى الثلج وأفعم مشاعري.
ولربما رأيت الثلج، حين رأيته أول مرة، كما رآه ابن سلالة بوينديا في "مائة عام من العزلة"، أو هكذا ظننت!




[url=https://www.up.5alid.com/up]صورة[/u
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

منهج الماء

مشاركة بواسطة حسن موسى »

منهج الماء


رحلة سواكن

"أذكر أنني بدأت برسم صندوق خشبي يمثل مرحاضا مقاما على الماء يجلس على لسان ارضي ترابي رقيق يمتد حوالي الخمسين مترا داخل مياه الشط الضحلة"
النور شكرا على إضاءة تلك الزوايا المهملة من ذاكرة ادب رحلة كلية الفنون. لقد ذكرني كلامك بتفاصيل ذلك الموضع المغموس في ضوء الأصيل الاصفر و المشبع برائحة هواء البحر العجيبة التي لم نخبرها و نحن نجوب فيافي الشق المغبر الحار الجاف المتلاف ،نعم كانت سواكن بالنسبة لنا تجربة مكانية غير عادية .فهي مدينة مسوّرة لها بوابة تفتح و تغلق و يقيم حراسها وراء المتاريس ذات المدافع الموجهة نحو الصحراء.و أظنها من آخر المدن المسوّرة التي ماتت موتها الطبيعي وراء أسوارها المنيعة.لو مشيت في الخرطوم ،في شارع الجامعة أو شارع الجمهورية، فقد تتعثر قدماك على أحجار تشهد على مآل " استحكامات غردون" التي بادت تحت أقدام الأهالي الغبش المسلحين بالسيوف و الحراب.ربما لأن الأتراك بخيلاء الغزاة و ثقتهم المفرطة في بأسهم العسكري ورّطوا أنفسهم في عمق البلاد دون ان يخطر ببالهم أنهم قد يضطرون يوما للإنتفاع بمهارب الطوارئ فاجتاح الأنصار استحكامات غردون و هيمنوا.أما سواكن فهي قد اختارت موقف البحر و أدارت ظهرها لأهل البلاد و جعلت بينها و بينهم أسوارا و بوابات و مدافع ،و لا عجب ، فهي مدينة في شكل بوابة بين دارين: دار الإسلام العثماني الذي تضمنه امبراطورية متصابية ممتدة من الباب العالي لبلدان المغرب و دار الحرب الإستعمارية لإخضاع سكان بلاد السودان و استرقاقهم و نهب خيراتهم في مشهد السوق الرأسمالي للقرن التاسع عشر. لقد تذكرت صورتك التي يمثل فيها ذلك الصندوق الخشبي المرتجل مرحاضا في شكل نصب باسل لذاكرة الثقافة العثمانية البائدة.كان ذلك الصندوق المستوحش في حافة لسان ممتد داخل الماء هو مرحاض الإستراحة الخشبية التي آوتنا في أطلال تلك المدينة المهجورة.و مرت بالخاطر تلك القولة الطريفة المشهودة: " العندو القروش يخرا بالشرق" مما روى "حامد جَوْ" مرة عن أهل الجزيرة حين يصورون سلوك الشخص المترف البذّاخ الذي لا يكتفي بـ "الخروج إلى الخلاء" مثله مثل الجميع، و إنما يستأجر مركبا و يعبر النيل للضفة الأخرى حتى يقضي حاجته بعيدا عن الأنظار.كم مرحاض يا تري شيدها في قصره الأبيض ذلك الثري الشناوي الخارج من ثنايا ألف ليلة و ليلة؟ هذا و الله من نوع الأسئلة التي كانت تخطر علينا في واحدة من تلك التأملات الوجودية التي كانت تتخلل الونسات أثناء تحضير بوردات الرسم. قالوا أن " قصر الشناوي" احتوى على ثلاثمئة و خمس و ستين غرفة في كل غرفة شهرزاد تزورها أشعة الشمس كل صباح من نافذة غرفتها. ثم انطوت صفحة الزمان و ذهب الشناوى صاحب الثلاثمئة و خمس و ستين جارية و انطمست أحابيل ألف ليلة و لم يبق لنا من تلك المدينة الواقفة عند البرزخ سوى حجارة بيضاء يتيمة قالوا أن اهل بورتسودان استولوا عليها و انتفعوا بها في تعمير مدينتهم.أما نحن فقد تفرقت بنا سبل كسب العيش و عبرنا المحيطات و القارات لنقضي حاجاتنا في بلاد طيرها العجمي ينطق أحيانا في لغة الضاد و الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
نعم أذكر مائية ذلك المبنى الذي أظن أنه كان يعرف ب" المديرية " أو " الحكمدارية". و الصورة التي اعجبتك كنت أنا ارى فيها عيوبا لا تحصى رغم قناعة خفية بكوني تقدمت فيها بضعة خطوات على صعيد تدبير حضور الماء في بعض المواضع. و ربما كان عدم اقتناعي قائما على وقوعي تحت سطوة نموذج (أو نماذج) لمائيات أخري سابقة حجبت عن بصيرتي ما رأيته أنت فيها. و قد نفذت صورة " المديرية" على ورقة " وطمان" ،متحريا خبرات متحصلة من " مزامير" مائيين مختلفي المشارب بين أهل الصين المجاهيل و بعض البريطان ( تيرنر ) و بعض المصريين من رسامي "دار روز اليوسف" لغاية مائيات استاذنا عبد الله حسن بشير (جلّي).و أظن ان لضوء شمس الشتاء في سواكن خصوصية بصرية تتجلى بالذات عند المناطق التي تتعارض فيها الألوان الأساسية المتناثرة في المشهد بين أنواع ابيض الأطلال و أنواع أزرق البحر و السماء.لا أدري أين ذهبت هذه الصورة،ربما ضاعت أثناء الترحال أو أظنني اهديتها أو أن بعض الأصدقاء اهتداها لنفسه عنوة ، باسم المودّة و الخوّة، في ذلك الزمان الملهم الذي كنا نعبئ فيه الأوراق بالرسومات و لا نبالي بحفظها فتؤول إلى من كانت في قسمته. نعم ضاعت معظم مائياتي و رسوماتي التي عملتها في تلك السنوات ، و أظن ان أولويّاتنا الحقيقية كانت تتلخص في "صناعة" المائيات نفسها أولا و أخيرا، أما "صناعة" الحفظ و الأرشفة ـ التي تعلمناها في بلاد الفسالة النصرانية ـ فهي من الصناعات التي لم تكن تخطر لنا على بال.و أظن أن إهمال الحفظ و الأرشفة لما كنا ننجزه في السودان إنما يتفسر ، من جهة، بكوننا،رسمنا تحت شروط غياب السوق الفني، الذي كان يمكنه، بذريعة " الطلب"، أن يحفزنا على التعامل مع رسوماتنا كأشياء ذات قيمة مادية.لكن الأرجح أننا كنا مأخوذين في تيه تلك "المدرسة" الواسعة التي "جدرانها الجهات الأربعة" حسب عبارة الأستاذ محمود. كنا ننظر لمائياتنا ضمن منظور البحث الأكاديمي كـ " دراسات و تجاريب" غايتها الإستكشاف و توصيل الباحث لنتائج تقنية كامنة في تلافيف المستنسخات الأجنبية.
المهم يا زول،
يبدو لي أن الشيئ الجوهري في المائيات هو الممارسة العملية نفسها. و لو كان الأمر بيدي لجعلت من عمل المائيات مادة إجبارية في نظام التعليم الأساسي ، تماما كما كان تعليم الخط مادة إجبارية في برنامج تعليم العربية لغاية الخمسينات. و ما زلت أذكر " كراسة الخط " التي كانت ترد ضمن مطبوعات وزارة المعارف المصرية بما تحتوي عليه من تمارين علي اساليب النسخ و الرقعة.ذلك ان دروس الخط العربي التي اتيحت لنا في المدارس الأولية إنما كانت تنطوي ، بطريقة عفوية، على تمكين التلميذ من تفهم البعد المادي لعملية الكتابة بوصفها وجها أصيلا من وجوه الرسم.و ما أعنيه بالبعد المادي لعملية الكتابة هو تلك الأرض المشتركة بين الرسامين و الكتّاب.أرض تتقاطع عندها الأداة ( القصبة او الريشة المعدنية) و المسند(الورق) و الخامة (الحبر و الحبر طرف في المائيات) و الجسد متجليا في حركة اليد الراقصة التي تمشق و تسحب و تلوي و تكسر و تقشط و تضرب تخطف و تنقط و تطرس و تطمس و ترفع و تحط.و لو سألت محمود عمر عن صديقنا القديم " حسن خليل" في" المدرسة الأميرية الوسطى" لحدثك كيف ان حسن كان يمضي سحابة يومه يحك سنة القلم المعدنية على " حجر مَسَنْ" انتقاه و صانه لسنين. و لم يكن هناك قلم يستعصي على بصيرته الأداتية النفـّاذة.كان حسن خليل ينظر في قطّة القلم و يجربها و يعوجها او يعدلها بأسنانة و يحكها على البلاط بدراية حتى تستحق صفة" السِنـّة الخطّاطة" كما كان يعبّر. في ذلك الزمان البعيد كان حسن خليل بيننا مثل ذلك الملك الأسطوري" ميداس" الذي يمسخ كل ما يلمسه ذهبا. و كان بامكانه ان " يصحح" قطّة " أجعص" الأقلام في دقائق معدودات.فكنا نثق في أحكامه التقنية السديدة و نتبصّر فيها دون ان يخطر ببالنا اننا كنا نخوض في" مبحث الأداة " الذي هو " علم" سرّي فالت من عادات نقد تشكيلي دارج على اثر نقد الأدب الكلامي. ترى أين هو حسن خليل الآن؟ مندري؟
و حين أزعم أن ممارسة المائيات ضرورية للجميع فمشروعية هذا الزعم لا تنبني على النتيجة المادية التي قد تتمثل في الأثر الزخرفي المعرّف كـ " صورة"، و إنما تتمثل في الحاصل الفكري المتخلّق خلال التمرّس على إتباع منهج صارم مركب بين لا نهايتي الإفراط و التفريط في تدبير علاقات البعد المادي و البعد" المعنوي"( يا لها من عبارة) للصورة.تلك الصورة المخاتلة ابدا التي تراوح بين عمق الخاطر و عمق المسند، صورة الماء في الماء بالماء ،و ما أدراك ما الماء؟ ذلك السائل الشفاف الذي يلوّن و لا لون له و لا أمان معه و لا ضمان. و حديث المنهج في مقام الماء طويل و مداخله شتى.و أنا في حيرة كبيرة ، منذ بداية هذه المناقشة ،لأني في كل مرة أشرع فيها في مقاربة سؤال المنهج عي منظور الممارسة المائية، تستجد في مشهدي أمور تفسد علي المسافة الضرورية التي أحاول صيانتها بين ممارستي و منهجي الشخصي و سؤال المنهج من حيث المبدأ.فالمسافة ( الأمنية؟) ضرورية لكل من يتأمل في سؤال المنهج الذي يحكم ممارسة المائيات.لكن ما اسميه بـ " المسافة الأمنية" الضرورية لإستيعاب معاني الصورة بـ " عدل" ( يا لها من عبارة) ليست بالضرورة "أمنية" للجميع . و" أدب المسافة "، يا صحابي، فـُولة كبيرة تفيض عن سعة مكيالي الراهن و العودة إليها بمكاييل و مقاييس أُخر أنفع.
كنت قد تطرقت لسؤال المنهج في ممارستي المائية ضمن مناقشة مع الصديق الفاضل الهاشمي في موضوع "عاهة " المنهج و " خرومه" كضرورة بحث.و في تلك المناقشة التي تمت ضمن خيط " جيوبوليتيك الجسد" عنّت لي فكرة تخلّق وسيلة المنهج و انمساخها حسب مقتضيات غاية الباحث و حساب عواقب ذلك الإنمساخ على موضوع البحث، على زعم أن خلاص غاية البحث في نهاية التحليل هي المنهج نفسه. هذا الموضوع الغميس ما زال يفسد علي زاوايا النظر في المائيات، مائياتي و مائيات غيري. و قد استقر رأيي على جلب هذه المناقشة هنا عساني أستفيد من تفاكيركم في " فرز المويات" و لو إلى حين فهاؤم :
"

"..
لو رجعنا لحكاية منهجي" ابوخروم"، فأنا أعتبر أن صفة " الخروم" وقعت لي في جرح،كوني وجدت فيها توصيفا دقيقا لطريقتي الخاصة ـ و لنسمها " غير الأكاديمية" حتى لا نقول " غير العلمية " ـ في مباصرة منهجية البحث في صدد التركيب اللاحق بظواهر الجسد التشكيلي في السودان.أقول :" طريقتي الخاصة" من باب الفرز لا من باب الفخر.كوني أجدني أستلهم " طريقة " ملوِّن المائيات الذي تفرض عليه طبيعة الخامة و سعة الأدوات أن يباشر تخليق الصورة على أساس تعاقب و تراكب العشرات من طبقات الألوان المائية التي لا قيمة فيها لأي طبقة مفردة بمعزل عن الأخريات ـ كون كل طبقة لونية تعنى بجزيئ من الصورة و تهمل ما عداه ـ بيد أن تنظيم تراكب الطبقات الإجمالية على مواضع مختلفة من مسطح الصورة يتيح للعين تلقي الحاصل النهائي الذي يجسّد الصورة الكليّة.أعني العمل النهائي الذي يستحيل إرجاعه إلى أي من مكوناته المفردة. و تقنية تخليق الصورة المائية أمر مركّب، كونها تستفيد من قصور الأدوات و تجعل منه نقطة قوة.فعلبة الملوِّن المائي لا تحتوي على الأبيض ، كما هو الحال عند ملوِّني " الغواش" و ألوان الزيت و " الأكريليك".و الأجزاء المعنية بالأبيض في الصورة المائية هي في الواقع " خروم" في نسيج المُلوَّنةأ كون الملوِّن يستثمر بياض الورقة لصالح الصورة و يهيئ السطح الملوّن بحيث تندمج المنطقة البيضاء من الورقة( الخرم) في المنطق اللوني للصورة..
و هكذا يربط منهج تخليق الصورة المائية عضويا بين أدوات الملوِّن و موضوعه في آن.يعني " من دقنو و افتل لو"، شفت كيف؟
لا عليك يا صاح فهذي بعض من خطرفات الرسامين، لكن ما أقصده هو أن منهجي المتسمي بـ " أبوخروم" واع بخرومه. بل هو يبتدر البحث على قناعة بجدوى الخروم. و كون الطحن الأولي " دُراش دُراش"، فذلك لا يمنع الحاصل من العودة للرحي ، بسبيل سد الخروم في كل مرة بأفضل من سابقتها، ضمن سيرورة كفاح بلا نهاية على جدلية التأثير المتبادل بين الغاية ، غاية البحث، و وسيلته.
و ربما كان المبرِّر المضمَر للتصاوير المائية يتلخّص في مسعى الملوِّن لبناء الصورة على أساس الخروم البيضاء.فالصورة المائية تتأسس منذ البداية على وعي بالأبيض ، قل : على حساب الأبيض.فكأن المصور يداهن حضور الأبيض و يهيئ تراكم طبقات الألوان إحتفاءا بهذا " الخرم " الأبيض على طموح يجعل من خرم المساحة البيضاء قلبا و أساسا للصورة و الله أعلم..
و هذه الطريقة (المنهج) في تخليق الصورة هي طريقة يندمج فيها المنهج كوسيلة مع المنهج كغاية، فكأن البحث في جملته ما هو إلا بحث في المنهج ، بصرف النظر عن نوعية الموضوع و تطبيقاته الوظيفية المحتملة.
و أظن أن متعة صناعة التصاوير المائية إنما تعتمد على الإستدراكات بلا نهاية ، التي تستهدف بذل الحاصل الختامي كقرينة على إحكام المنهج و تملّكه.و قد جاء في مثل (غير معروف) من عنديّاتي:"المنهج سلاح و المنهج كفاح".
و لو نقلت هذه الفكرة ، أعني فكرة المنهج الذي يتأسس على عاهة الأداة و قصورها الطبيعي، لو نقلتها إلى منطقة التعبير الجسدي الحركي ( في الرياضة و بعض الرقص) فستلاحظ أن منهج الخلق الحركي الجسدي إنما ينبني على أساس قصور أداة الجسد عن التحقـّق الحركي الحر ضمن أبعاد المكان و الزمان الفيزيائية.فجسدنا في وضعياته الحركية يظل محكوما بقوانين حركة الأجسام و مقتضيات الجاذبية التي تمنعه أن يعلو في الفضاء حرا( كما الطير على الأقل) وتنتهي كل محاولات حركته الرأسية بالسقوط على الأرض.لكن" ود ابن آدم" لا يقنع بسهولة فيعاود الكرّة المرة بعد المرة. و ينتهي به الأمر بأن يجعل من مجرد تكرار المحاولة ( الطوباوية) وجها في التعبير الجمالي، أو كما يحدث في تنويعات رقصة " العرضة" التي أراها من مشهد منهجي كمحاولات مستميتة للتحرر من أعصى القيود التي تحد من حرية الجسد : قيد فيزياء حركة الأجسام في الزمان و المكان الأرضيين. و ليس صدفة كون الراقصين الذكور بين أهل السودان ـ على إختلاف التاريخ و الجغرافيا ـ " يعرضون" فتوّتهم بتحدّي قوانين الفيزياء.
الفاضل،
عفوك و لكني مضطر لقطع هذه التعريجة داخل أرض الرقص، و سأعود لذلك مرة أخرى ، ضمن ورقة قادمة أعدّها في خصوص " ألعاب الأطفال الجسدية التشكيلية في السودان"، و سيكون فيها حديث آخر في صدد فكرة " الجسد الحي الحيوان" التي استرعت انتباهك..
هل هذه طريقة أكاديمية في البحث؟ مندري.و على كل حال ،فكوني أتبنـّى منهج الملوِّن المائي " أبو خروم"، لا يعطيني الحق في مصادرة حق غيري من الباحثين على مباشرة مباحثهم على منهجية صمدية ، كما منهجية ملوّن الزيتيات الأكاديمي الذي لا يأتيه الباطل من خلفه أو من بين يديه أو كما قال.و في النهاية طبعا " الحشـّاش يملا شبكتو" ، لكن يملاها بشنو؟
و خلاصة الأمر هو إن كانت أكاديمية المنهج تعني الإنغلاق في منطق قد يضحي بتعقيد الظاهرة باسم التنظيم المدرسي للأفكار، فأنا يا صاح خارج جنـّة المنهج و سقطها أو كما قال.و نحن قوم تقحّمنا أرض البحث " عنقالة " ساكت ـ بدون رخصةـ باسم الضرورات العملية التي فرضت علينا إختراع الإجابات البراغماتية لأسئلة الواقع الحي، فارتجلنا و باصرناو فشلنا في نواح و أصبنا في غيرها و ما زلنا ، و البركة فيكم.."


آخر تعديل بواسطة حسن موسى في الأربعاء فبراير 27, 2008 12:37 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

يا حسن موسى

أقول لك ما قاله العصامي المبصر عبد الرحمن الريح:

آيه دا كلوا يا حبيبي؟ بعض منو يجزي عنو !!

ورحم الله خليل اسماعيل. وأين أنتم يا أهل الأبيض؟ لم لم تكتبوا عن رائد الحداثة الغنائية والمسلكية خليل إسماعيل ؟! ومعذرة للتخريمة، ولا تخريمة في حقيقة الأمر!

لم أكن أظن أنك تذكر ذلك المرحاض ذا الثقب المفتوح على ماء البحر المالح، أو (بحر المالح). يا لها من أيام. حين أفكر في تلكم الأيام وفي سدف الزمان التي فصلت بيني وبينها، أحس أنني عشت أكثر من نوح عليه السلام.

المهم يا زول قرأت ما كتبت وشبعت، وانتشيت. وهذا يكفي. قال نبي الإسلام العظيم (ليس لابن آدم إلا ما أكل فأفنى وما لبس فأبلى). شفت الإشتراكية دي كيف؟ ونحن في موائد الفكر، ليس لنا إلا ما أكلنا فأفنينا. ومن كساوي حلل البريق الأسنى (مش حلل البريق بتاعة قناة النيل الأزرق)، ليس لنا سوى ما لبسنا فأفنينا. وكل الذي فوق التراب تراب. (البركة فيكم). وسأعود للتجلي الجمالي الكبير في جبل مرة، عما قريب. وأراك يا صاحبي قد شحذت قريحتي واستنهضت همتي، وأيقظت راقد شجني، كالعهد بك دائما، وما اسعدني بكل أولئك!!

قال إبن عربي:

وبوجه جمال، جلال، كمال صفاتك، أبتهج
ما القومُ سوى قومٍ عرفوك، وغيرهم، همجٌ، همجُ
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
أضف رد جديد