تكّكت في الراكوبة بالحنقوقة سروالي الطويل..
رغم ان الشعراء ـ كما جرى في الأثر ـ " يقولون ما لا يفعلون" إلا أن
صورة عمر الدوش في "آليغوري" المزارع الأمي الفقير حيرتني و أفسدت علي بهجة المقاطع الشعرية عالية القيمة في نص "سعاد".
لقد جمعتني الملابسات مع الصديق الشاعر الراحل اكثر من مرة في سبعينات العمل العام.في تلك السنوات كنا نعتني بالملبس(البنطلون الشارلستون "كراع فيل" المحزّم بحزام عريض و القميص المشجر المخصّر ذو الياقة المستطيلة و الحذاء ذو الكعب العالي) و بهيئة الجسد ( الشعر على موضة ال"آفرو" "بلاك بانثرز") على زعم مضمر فحواه أن مجمل هيئة الجسد في حركته (الرقص و الرياضة) و سكونه ولباسه ما هي إلا بعض من وجوه الإنخراط في الخطاب الإجتماعي (والسياسي) الرافض. بل كان العامة ينادون الشباب الضالع في الغواية الجسدية المستحدثة بـ " الرافضين".
أقول حيرتني صورة الشاب الريفي الذي يتكّك سرواله الطويل بالحنقوقة في الراكوبة (أها الراكوبة دي عرفناها ، الحنقوقة دي شنو؟) لأن عمر الدوش الذي خبرناه كان طرفا في حركة " الرفض " العفوية التي اتخذت من المظهر الجسدي وسيلة لطرح خطاب جمالي (و سياسي بالضرورة) قوامه التمرد على الموروث من نظم التمثيل الجسدي ضمن فضاء المجتمع السوداني.و عمر الدوش لا يكتفي بصورة السروال المتكّك ، لكنه يقتحم حلقة البطان و يركز" شان البت سعاد
أصلي عارف جنها في زولا بيركز و ينستر"
و"البت" إياها الجننت الشاعر خبرنا نموذجها على هيئة زولة بت مدينة، مثقفة، متحركة بين إجتماعات الجبهة الديموقراطية و نادي السينما و المسرح الجامعي و حفلات معهد الموسيقى و معارض كلية الفنون إلخ لا سبيل لها لفهم شفرة موقف البطان الذي يقفه الشاعر إلا ضمن مباحث الفولكلور البائد.هذه " البت" التي يجرها الشاعر معه لحلبة البطان ـ لا إيدها لا كراعها ـ لا بد أنها استشعرت وحشة كبيرة تفصلها عن هذا العاشق السكران الذي يحتمي بخدر الكحول من لسع السياط .ترى أي شيطان من شياطين الشعر ألهم عمر الدوش ـ الشاعر الحديث ـ أن يتطفل على حلقة الرجال المتباطنين و يفسد عليهم جلال طقس البطان المتوارث عبر أجيال أهل ثقافة التقليد؟ مندري؟
سأعود.
أثناء مطالعتي لهذا النص المقتبس من مداخلة حسن موسي في بوست مصطفي عبد العزيز البطل بعنوان ( النص الكامل لقصيدة ( سعاد ) للشاعر الراحل عمر الطيب الدوش لفت نظري وشد أنتباهي ذلك الوصف التجسيدي لمظهر شباب السبيعنيات في المدن الكبري ذلك المظهر في اللبس وطريقة تسريحة الشعر الآفرو او ( الخنفس ) وأطلاق اللحي وغير ذلك من اوصاف كثيره ورد ذكر جزءاً منها في النص المقتبس عاليه كانت تعبر علي نحو دقيق عن تلك الفتره من الزمان التي طبعها الرفض وميزها التمرد ونبذ المؤسسه وفقدان الثقة فيها أياً كان نوعها أن كانت مؤسسة سياسية أم عائليه دينيه أو بيروقراطيه وما الي ذلك وبالطبع كل ذلك كان نتاجاً لتأثيرات ماعرف آنذاك بثورة الشباب التي عمت كل من فرنسا والمانيا ومن ثم أنتشرت في جميع انحاء العالم، كان ذلك في نهاية عقد الستينيات الذي ارتبط بدوره بعدد من الأحداث السياسيه المهمه مثل بلوغ الحرب في فيتنام أكثر المراحل دموية، أغتيال مارتن لوثر كينغ في الولايات المتحده، حرب الأيام السته او ما يعرف بحرب النكسه في يونيو 1967، ربيع براغ 1968 وقبل ذلك الثورة الكوبيه في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات بقيادة (فيديل كاسترو) وبزوغ نجم المناضل الثوري (تشي جيفارا) فيها كل هذه الأحداث متضافراً معها أزدياد مد حركات التحرر الوطني للدول المستقلة حديثاً من الأستعمار، هذه هي الظروف الموضوعيه التي مهددت لظهور هذا التحول الكبير في طرق التفكير ومناهج الرؤى للعالم لدي الشباب في كثير من بلدان العالم وبتحديد أكثر كانت بداية ثورة الشباب وتاثيراتها موضوعنا الأساسي هنا في شهر مايو من العام 1968 مسجلةً نفسها في ذاكرة التأريخ كحدث تأسيسي لا يقل أهميةً من الثورة الفرنسية ذات نفسها، هذه الثوره التي تكمل هذا العام مايو 2008 عامها الأربعين وببلوغها سن النبوة هذي تتردد الآن في كثير من بلدان العالم الغربي والأوروبي أصوات تحاول الغوص في أعماق تاثيرات تلك الفترة الحاسمه والفاصله بين زمنين وربما أكثر وبما حققتة من تاثيرات مختلفة ومتباينه في شتي اصقاع العالم، ففي أوربا الغربيه مثلاً نجدها قد مهدت لطرح منجزات الحداثه النظريه والفكريه في ارض الواقع الممارس وتجسد ذلك في الثوره الجنسيه وابتعاد المزيد من الطبقات الشعبيه عن الحياة التقليدية وإعراضها عن القيم الروحيه، وفي اوربا الشرقيه كانت هنالك ثورة علي اشكال التسلط الأشتراكي الماركسي اللينيني ودكتاتورية الطبقة العامله (البروليتاريا)، بينما جاءت الأحتجاجات في العالم العربي رداً علي نكسة حزيران (يونيو) وفشل قوي التحديث وعجزها في احداث تغيير يرضي تطلعات الأجيال القادمه في المنطقة بعد هزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل، غير أن المهم هو أن بعد هذا الحدث التأسيسي اصبح الناس في العالم وخاصةً الشباب منهم يفكرون علي نحو مختلف لم يكن منتشراً من زي قبل.
كنت في معرض محاورتي مع الصديق عبد الخالق السر في البوست بعنوان (أحمد ربشة ذلك الطيف العبقري: ملف توثيقي كامل صور نادرة+وثائق) قد تعرضت لتأثيرات تلك المرحله علي نحو مرتبط بمجال الموسيقي علي وجه الخصوص الموسيقي بوصفها ظاهره اجتماعية لا تنفصل من كافة المشهد الاجتماعي بتحولاته المتعدده والمتباينه للتدليل علي فكرتي التي كانت تسعي الي محاولة وضع ما يسمي بتجربة الفنان احمد ربشه في حيزها الموضوعي قدر الأمكان والآن خطرت لي هنا فكرة تناولنا لهذا الحدث أي ثورة الشباب في ذكراها الأربعينيه من مختلف الرؤي التشكيليه او الموسيقية الدراميه والشعريه والسياسيه والأجتماعية وما الي ذلك ومن ثم السعي الي محاكمة تلك الفترة بما انجزت او اخفقت وبعد كل ذلك محاولة استنكاه الظروف المشابهه التي يمر بها عالم اليوم والمتمثله في احداث الحادي من سبتمبر 2001 وما يسمي بالحرب علي الأرهاب التي تقودها الولايات المتحده الأمريكيه وحلفاؤها من الأوربيون وغير الأوربيون اليوم في بعض دول العالم علي نحو مباشر مثل العراق وافغانستان وغير مباشر في اماكن أخري وبروز الحركات الأسلامية المتطرفه مثل تنظيم القاعده و(أسامة بن لادن) والذي يعادل نمو الحركات اليساريه المتطرفه ابان فترة السبعينيات، وتحقيق هذه الفكره سيتم من خلال الرصد التاريخي لتلك الفتره ومقارنته بما يحدث الآن... وياريت لو تمكن معاصرو تلك الفترة أمثال (حسن موسي) بالتفضل بعكس تجاربهم وأنطبعاتهم وتصوراتهم لهذا الحدث التأسيسي الهام ولربما توصلنا معاً لشئ يفك حيرته تلك التي افسدت عليه بهجة مقاطع الشعر عالية القيمة في نص (سعاد) وفي هذا المنحي مدخل جيد لمحاكمة تلك الفترة في وعي معاصيرها وذلك بالسؤال المفصلي عن مظاهر التغيير النفسي والوجداني الحقيقي منه والمتوهم عن تلك الفتره في وعي ذلك الجيل السبعيني الذي عاصرها وساهم في صنع شعاراتها وعاش احلامها الورديه؟.فهل كان ذلك كله مجرد (يوتوبيا) شبابيه لم يسمح الزمان بعد بتحقيقها وبذلك عاد الجميع الي علاقات الماضي التي كانوا قد ثاروا ضدها مثلما عاد شاعرنا (الدوش) الي الراكوبه والحنقوقه وخلع العراقي تبعه وركز في حلبة المباطنه ؟
أنا طبعاً شخصياً آنذاك وفي تلك الفتره لم اكن قد بلغت سن الشباب بعد بل كنت طفلاً لم يتجاوز السنتين من عمره يعني لسه في اللفه وكده. لكنني قد عايشت وعاصرت حيزاً لا باس به عن تلك الفتره في منتصف السبعينيات وعندما وعيت بها كنت في مرحلة الطفولة المتوسطه ووعي بها هنا يعني أنها أي تلك الفترة صارت مسجلة بسماتها في ذاكرتي أما وعي الحقيقي بها فجاء ومتأخراً.
هنا نص المداخله التي شاركت بها الصديق عبد الخالق في موضوع ربشه وساسعي الي تعميق مضامينها علي نحو اكثر تفصيلاً .
العزيز عبد لخالق ....وجميع المتداخلين .....سلام
ويا عبد الخالق شكراً تاني علي جهدكم المبذول ...وهذه محاوله مني لتوسيع محاور ما طرحته وبيقة المتداخلين عساها تصب في ما يفيد.
من المصادفات الغريبه او اللافته للنظر.مسالة أعادة أكتشاف الفنان الراحل (أحمد ربشه) من قبل بعض المثقفين والمهتمين والنقاد السودانيين في ظروف عامه قد تكون أشبه الي حد كبير بتلك الظروف التي ظهر فيها الفنان الراحل ربشه ذات نفسه الي الوجود كفنان موسيقي ومغني.أعني بذلك تلك الفتره التي تغطي نهاية الستينات الي نهاية السبعينيات في العالم بما حملته مِنْ أعاصير وعواصف عاتيه كانت تنشد تغيير العالم آنذاك في أعقاب التدخل الأمريكي السافر في فيتنام وممارستهم لدور شرطي العالم وما صاحب ذلك مِنْ جراء بوابة الجحيم الواسعه المنفتحه علي كافة قطاعات المجتمع الأمريكي وبقية المجتمعات التي ترتبط به مما جعل الكثيرين من مناهضي الحروب ودعاة السلم الي تنظيم صفوفهم عبر مختلف الوسائل واشكال التعبير منها ما هو سياسي مباشر وما هو أجتماعي فلسفي فني وعلي نحو أكثر خصوصيه مجال الموسيقي الشعبيه مثل موسيقي (البوب) كنوع من أشكال الرفض والمعارضه للسياسات التي تقوم بها الحكومه الأميركيه في دول ما يسمي بدول (العالم الثالث) وفي قمة هذه الأحداث تمت ولادة واحده من أهم الأساليب الموسيقيه التي ستعرف فيما بعد بموسيقي (الروك) والتي تعبر في مجملها من حيث النصوص وانماط التأليف عن تلك الفئات الرافضه لفكرة الحرب ومنهم جماعات (الهييبيز) وهم شباب الطبقه المتوسطه والغنيه في المجتمعات الغربيه و الذين أنتبذوا تقاليد وأعراف الحياة الصناعيه الحديثه وتخيروا لهم نمط حياة يخصهم يتصف بعدم الأهتمام بالمظهر الخارجي والمتميزين بشعورهم الطويله (الخنفس) والمظهر الغير مبالي كما ذكرت سابقاً ونمط الحياة المتمرد المعتذل طوعاً لكل أشكال النظم الأجتماعيه التقليديه التي توجب تغييرها لمصلحة السلام والعداله وكانت فرقة (البيتلز ) البريطانيه الشهيره بقيادة (جون لينون ) و (بول ماكارتنتي) واحده من أهم الأنجازات الموسيقيه لتلك الفتره التي سوف لن تقتصر تأثيراتها فقط علي المراكز الغربيه الكبري بل ستتجاوزها الي كافة انحاء العالم عبر السائط المتاحه آنذاك مثل (السينما) و(الراديو) وغيرها مما توفر مِنْ وسائل النشر الفني والثقافي وحتي في مجالات الموضه وتسريحات الشعر الكثيف المميزه لملامح ذلك الجيل في المدن والحواضر الكبري الرافض والمجدد والباحث عن علاقات أجتماعيه تستوعبه كما يرغب هو.
بطبيعة مجال الموسيقي سريع التحول والأنتقال . نال موسيقيي السودان نصيبهم وحظهم من هذه الموجه الهائله وتلك الرغبه الجامحه و القويه في التغيير والمغامره ولو علي مستوي أقل بكثير مِنْ ذلك الذي يحدث في المراكز الكبري فظهرت في تلك الفتره الفرق والجماعات الموسيقيه التي تستخدم بعض الألآت الغربيه الحديثه مثل ( الدرمز ) و( الجيتار ) و ( الباص جيتار ) وآلآت النفخ النحاسيه والخشبيه.والمتناوله لبعض أساليب التأليف الموسيقي المتأثر الي حد كبير بنمط التأليف الغربي نتيجةً لطبيعة الألآت المستخدمه بطبيعة الحال وأيضاً الأشكال الأيقاعيه التي تسعي الي محاكاة الأشكال الأيقاعيه الغربيه مثل (التويست ) و( الجيرك ) و(السامبا) و ( المامبو ) ........الخ.واصطلح علي تسمية هذه الفرق والمجموعات في السودان بفرق ( الجاز ) و ذلك ايضاً أعتماداً علي شكل الفرقه المخالف لذلك السائد آنذاك و الوافد الينا من تقاليد شكل الفرقه الشرقيه في تجارب كل من ( الكاشف ) و(عثمان حسين ) وغيرهم من فناني ذلك الجيل. وكانت للأحياء الشعبيه مثل حي ( العباسيه ) الأمدرماني وحي الديوم الشرقيه في الخرطوم والديوم في الخرطوم بحري دور مهم وأساسي في هذا الشأن ولا نستثني مِنْ ذلك عدد مِنْ المدن السودانيه الأخري. ومن أهم الرواد والمؤسسين لتلك الفرق آنذاك الفنان الشهير (عثمان المو ) وكبيرهم الذي علمهم السحر الفنان ( شرحبيل أحمد ) والفرق و المجموعات مثل فرقة (جاز العقارب ) وفرقة ( المدرعات ) ( صلاح براون ) وبعد ذلك جاءت فرق ( البلو ستارز) وفرقة (الأصابع الذهبيه ) بقيادة الراحل الموسيقار ولاعب الباسكيتبوول المغدور به من قبل بعض العناصر من القوات المسلحه المواليه لجعفر النميري (وليام أندريه) كما نحا بعض الفنانين التقليديين الي وضع الحانهم وتوزيع موسيقاهم علي أسس جديده ليست بمعزل عن التحولات الموسيقيه الكبيره التي شملت العالم اجمع وذلك باستخدامهم تقنيات موسيقيه متاثره ايضاً بالملامح العامه لتلك الفتره فاصبح ليس من غير المالوف ان تسمع الفنان(محمد وردي) مثلاً يضع لحناً مصاغاً علي اساس أيقاع( الجيرك) (الصوره) او (من غير ميعاد ) او الفنان( سيد خليفه) يحرك اوساط معجبيه بايقاع (المامبو) وان كان سودانياً كما ظهرت فيما بعد تجارب متاثره في الشكل علي بعض التجارب الغربيه مثل فرقة( البلابل) الشهيره وطريقتهم في اللبس و الأكسسوارات والمظهر العام التي تشبه الي حد كبير الفرق النسائيه مثل فرقة The Three Degrees(الثري ديقريز) و ( البوينتر سيستر ) وفرقة The Supremes (السوبرميس) المكونه مِنْ (فلورنس بالارد) و ( ماري ويلسون ) و المغنيه الشهيره (دايانا روس ).
مِنْ هذه المقدمه نحاول رصد الظروف الموضوعيه والتأريخيه المشابهه للواقع الحالي الذي تمثل فيه تاثيرات التحولات العالميه في مجمل نواحي الحياة في المجتمعات المركزيه منها والطرفيه المحليه و الأقليميه حيزاً كبيراً وواضحاً .نتناول ما يهمنا هنا بالتحديد مجال الموسيقي والغناء بأساليب ادائه المختلفه وقوالب التأليف والتوزيع لنصل بعدها الي لحظة الفنان ( احمد ربشه ) الوجوديه وتاثيراتها بوصفها حاله او نموذج يوجد نفسه من خلال المشهد العام لبناء فن الغناء في منطقة شرق ووسط افريقيا الأفريقيه العربيه اوفيما يعرف بمنطقة القرن الأفريقي ومن ثم في دولة السودان بغرض رؤيه اكثر موضوعيه وأقرب للواقع بدلاً عن الشطحات المبالغ فيها التي تاتي نتيجة لسيادة عامل الدهشه والعاطفه المفرطه في تناول التجارب بالتوثيق والنقد والأستنكاه وهذا ما لحظته من مداخلات بعض المشاركين التي سعت الي تحميل ما يمكن أن نسميه او نطلق عليه (تجربة) الفنان (أحمد ربشه) اكثر من طاقتها وذلك بجعلها نقطة تحول مركزيه في أسلوب الأداء الصوتي الغنائي الذي يمارسه الفنانين من الجيل الحديث نسبياً .مما يمثل هذا في بعض الأحيان نوع من الأجحاف في حق جميع من ساهموا في التأسيس لتطوير هذه الأساليب التي اوجدتها ظروف موضوعيه عده وشكلتها عوامل مختلفه منها ما هوضروري يتعلق بالتطور الطبيعي لعملية فن الغناء السوداني وموسيقاه شأنها في ذلك مثل كل الثقافات الموسقيه الموجوده في العالم ومنها ما هو ذاتي يتعلق برصد (الماكانيزمات) والتجارب والمحاولات التي لعبت دوراً أساسياً في التمهيد والتأسيس لتطور أسلوب فن الأداء الصوتي الغنائي عند المغنين السودانيين في الحواضر والمدن الكبري علي الأقل.
فأن أنا اردنا التاريخ والتوثيق لأساليب فن الأداء في الأغنيه السودانيه أعتماداً علي اساس التجارب الفنيه الفرديه بعزلها خارج اطرها الموضوعيه التي أنتجتها نكون بالضروره قد ذهبنا وبالتاكيد في الأتجاه الخاطئ. سيان في ذلك أن كان النموذج المأخوذ للدراسه هو الراحل (ربشه) او حتي الفنان العظيم الراحل والعلامه الفارقه (ابراهيم الكاشف) كيف يكون ذلك؟
اذا نظرنا الي الفتره الزمنيه المحدوده جداً التي قضاها الفنان (ربشه) في السودان والي العدد القليل والذي يكاد لا يذكر من الأغاني السودانيه التي قام بأدائها او حتي الصوماليه التي سجلت له وندرة بثها. سوف نخلص الي نتيجه أكثر منطقيه ولا تصب في أتجاه فكرة أن الفنان الراحل (أحمد ربشه) قد احدث هذا التحول الكبير في أسلوب او طريقة الأداء ( التكنيكي الحديث ) لدي المغنيين الذين ظهروا في منتصف الثمانينيات وحتي يومنا هذا وبالتحديد الفنانين الشباب أمثال (حمزه سليمان) و(هاشم خوجلي) الفنان العطبراوي المغمور وبتركيز علي الفنان الشهير ( محمود عبد العزيز ) الذي جاء أداءه متاثرا باداء الفنان ( الهادي الجبل ) الذي هو بدوره قد تاثر بالفنان الراحل ( ربشه ) في طريقة الأداء والأسلوب ومن ثم يغترب ويقضي جزءً كبيراً من حياته في بلاد الغربه الشئ الذي شكل قطيعة كبيره بينه وبين جمهور مستمعي الأغنيه السودانيه وكل ما سجل له في الأذاعه السودانيه حتي عودته من الجماهيريه العربيه الليبيه في منتصف الثمانينات تقريباً كانت اغنية ( اقول أنساك ) ولكيما يكون الفهم صحيحاً لتلك الظاهره المتمثله في تتطور أسلوب فن الأداء الصوتي البشري في الأغنيه السودانيه لمصلحة أسلوب الأداء الصوتي المدرب و المتاثر بتقنيات أساليب الأداء الصوتي البشري (الكلاسيكي الأوروبي) المقنن علمياً وتقنيات أخراج الألفاظ ونطق الحروف علي نحو سليم قدرالأمكان أن كان ذلك نغمياً اوتشريحياً يجب النظر الي عدة عوامل هامه ودراسة كثير من تجارب الفنانين والفرق والجماعت الموسيقيه ودور مؤسسة معهد الموسيقي والمسرح الهام جداً خاصة ً في وجود كادر التدريس والتدريب الأجنبي المتمثل في الأساتذه الكوريين بخاصةٍ في قسم الصوت الذين قامو بنقل تجاربهم في طرق الأداء (التكنيكي الحديث) المعاصر والمتحدر من مدارس وتقاليد الموسيقي الكلاسيكيه الأوروبيه والمتشح بأدبياتها ولغتها. وكان كما هو معروف الراحل ( ربشه ) من ضمن طلبة هذه المؤسسه بل من طلابها المميزين. وكذلك ألنظر الي التغيرات التقنيه التي حدثت في ادوات نقل الصوت وتقنيات التسجيل وما يتوفر بها من وسائل تكنلوجيه حديثه أدت بالضروره الي احداث تغيير كبير في تحسين المجال الفيزيائي للصوت لدي المغني المؤدي والمستمع. عليه نحن لسنا أمام تجارب فرديه يمكن حصرها في أسماء فنانين معينين مثل ( محمود عبد العزيز ) او ( نادر خضر ) الذين اري فيهما تشابه ظاهره اكثر من تشابه في الأداء الصوتي. ومن ثم نأتي وبكل سهوله نقوم بتتبع تاثيرات الراحل ربشه عبر ما تبع تلك الظواهر الموسيقيه . أذن المسأله في مجملها اكبر من ذلك بكثير وهذه التحول في طرق أداء واساليب الغناء في السودان هو تحول كبير له علاقاته الموضوعيه التي يمكن الأمساك بها.
سنحاول هنا رصد الظروف الموسيقيه الصوتيه التي كونت الفنان (أحمد ربشه ) في منطقته الأصل اي (الصومال) ومحاولة رصد الثقافات الموسيقيه الموجوده في المحيط الثقافي والمجال النغمي الأجتماعي والأقليمي بتاثيراتها المختلفه التاريخيه منها والجغرافيه والسياسيه حتي المتمثله في الأستعمار وما الي ذلك.
يتحدر الفنان الراحل (ربشه) من منطقه هي واحده من مجموع ثمانية عشر منطقه او اقليم ثقافي اجتماعي سياسي يتكون منهم (الصومال) الأ وهي منطقة ( بنادر ) الواقعه في الجزء الجنوبي لدولة الصومال وحاضرتها هي حاضرة الصومال نفسه ( مقديشو ) وكلمة ( بنادر ) ومفردها بندر علي ما اعتقد تاتي من اصول فارسيه وتعني حاضره او حضر كما في اللغه العربيه ويسكنها اضافة الي السكان المحليين الأصليين مجموعه من المهاجرين العرب ( العمانيين ) و ( اليمن ) الذين هاجرو الي الصومال في مطلع القرن الماضي هذا غير الهجرات القديمه للعرب والفرس الي الصومال الذين أختلطوا بالسكان المحليين مشكلين بذلك الهويه الحاليه للشعب الصومالي 1 وهذا يعني ان الفنان ( ربشه ) هو صومالي الجنسيه وليس نصف يمنياً والآخر صومالياً. كما ذكر هنا ووضع مجموعته العرقي في الصومال اشبه بوضع مجموعة ( بني رشد ) او ( الرشايده ) التي تسكن شرق السودان والمتحدره من الجزيره العربيه لكنهم سودانيين مئه بالمئه. المهم ما يميز هذا الأقليم ( بنادر ) هو التنوع والتعدد الثقافي والأجتماعي في ظل واقع ذو طابع حضري الي حدما اي ليس ريفيياً وهذه الخاصيه لها اهمية كبيره في موضوعنا هذا. كما يسكن هذا الأقليم مجموعة ليست بالصغيره من الهنود الذين دفعت بهم الرغبه في التجاره او جمعت بينهم المستعمرات ولمتاخمة الساحل الجنوبي للصومال للمحيط الهندي لعبت التحولات السكانيه في هذه المنطقه دوراً مهماً في تشكيل المجموعات العرقيه في هذه المنطقه المعروفه بالقرن الأفريقي.
فاذا نظرنا الي التنوع والتعدد الثقافي الغني في هذه المنطقه في مجال الموسيقي لتوفرت لنا مجموعه من ألأمكانات فيمكنك هنا ان تجد مثلاً الثقافات الموسيقيه التي تستخدم النظام النغمي ( الخماسي ) متجاوره مع ثقافات تستخدم نظم نغميه مقامية في اليمن مثلاً او تاثيرات الموسيقيه الفارسيه كذلك علاقات الخماسي في الموسيقي الهنديه التي تؤثر بشكل واضح في الموسيقي الصوماليه ويمكن ملاحظة هذا التأثير حتي في طريقة اداء ( ربشه ) نفسه خاصة في الأغاني باللغه الصوماليه ليمكن التحدث هنا عن نظام نغمي (خماسي) ذو طابع (آسيوي) يختلف اختلاف درجه عن نظام ( خماسي ) ذو طابع (افريقي) ويمكن التفريق بينهما بصورة عامه بأحتواء النموذج (الأسيوي ) علي علاقات لحنيه ( ميلوديه ) اكثر من النموذج الأفريقي الذي يميل الي تكثيف العلاقات الأيقاعيه حتي في تراكيب اللحن ولو انا نظرنا الي مسألة او حقيقة أن الكادر التدريسي في (معهد الموسيقي والمسرح) ينتمي الي التيار ( الخماسي ) ذو الطابع( الآسيوي ) سنصل الي حقيقة هي اقرب الي أن هذا التاثير في أسلوب الغناء المسمي حديث ينتمي الي هذه الفرضيه اكثر من نسبته الي الفنان الراحل ( ربشه ) ذو الحضور الضعيف في مشهد فن الغناء والموسيقي في السودان.وان أنا قلنا بسيطرة تاثير الطابع الخماسي ( الآسيوي ) علي مزاج الفنان ( ربشه ) وفي اسلوب اداءه المميز بتعميق الحاله اللحنيه ( الميلوديه ) ويتمثل ذلك في تحريك المفرده اللغويه في اكثر من مستوي نغمي صعوداً او هبوطاً مع الميل الشديد الي أعطاء حروف (العله) شخصيتها الصوتيه دون اجراء اي تحوير في نطقها وهذا ما كان يتبعه المغنيين القدامي مثلاً ( عثمان الشفيع ) او( خضر بشير ) و (سيد خليفه ) حيث كانوا يميلون أحياناً كثيره الي تحوير حروف العله ( الألف) و ( الياء) و (واو ) والغاء ملامح شخصيتها الصوتيه بدمجها مع حروف اخري بغرض تسهيل اخراج الصوت وأطالة النفس في المناطق الغنائيه المرتفعه في ترتيب النظام النغمي باستخدام طريقتين في اخراج الصوت ممزوجه بين (تكنيك) اخراج الصوت من (البطن) و(تكنيك) اخراج الصوت من (الرأس) وربما كان ذلك لحوجة او ضرورة أظهار الصوت في مجال صوتي فيزيائي فقير نشأ في ظروف قلت فيها امكانية وجود وسيط محسن لمجال (السمع) و( ألأستماع ) زي فترة الحقيبه وما تبعها مثلاً والذي يسعي التدريب الصوتي الي تجاوز هذه العيوب اذا جاز التعبير وهذا ما قام بفعله بالتحديد الخبراء الموسيقيين في ( المعهد العالي للموسيقي والمسرح ) قسم التدريب الصوتي وكان الفنان (ربشه) واحداً من الطلبه الذين تدرسوا علي ايدي هؤلاء الخبراء اضافة الي ما يملكه من خبرات او امزجه يحملها معه من منطقةالأصل في الصومال اقليم ( بنادر ) بتركيبته الثقافيه
المميزه. ومعه كذلك مجموعه من الفنانين المغنيين السودانيين الذين أنتهجو هذا السلوب في الأداء أمثال ( خليل اسماعيل ) و (عثمان مصطفي ) وغيرهم سنأتي لهم لاحقاً بشكل أكثر تفصيلاً.
وسنواصل في تناول هذه العناصر علي نحو اكثر تفصيلاً في محاولة الخروج بنظره موضوعيه الي تجربة الراحل (ربشه ) وتاثيراتها في فن الغناء في السودان.
وليد يوسف
هوامش:
(1)الموسوعه العربيه ويكيبيديا
[size=24]وليد يوسف