هـجوم وحـشى على معرض التشكيلى محمد حمزة ..

Forum Démocratique
- Democratic Forum
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

.

صورة
أحمد سالم
مصوّر مجهول


.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

.

صورة
من أعمال أحمد سالم، 1965
تصوير حسن موسى، 1981


.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

المعرض و المغرض 3

مشاركة بواسطة حسن موسى »

المعرض و المغرض 3


مصير سَحَرَة المدينة



درس "الأوسطى" العريفي:

عندما انشأت وزارة التربية " مدرسة التصميم"(سكول اوف ديزاين)كأول مؤسسة تعليمية متخصصة في تعليم الفنون التشكيلية، عام 1946،كان أهل الحواضر السودانية قد خبروا، قبل أكثر من عقد ، نتاج التشكيليين " العصاميين" على نهج علي عثمان و العريفي (الأب) و أحمد سالم و عيون كديس و جحا إلخ. لقد نجح هؤلاء الرواد في استنبات تقليد للرسم الإيضاحي الـ (
Figurative
) مسترشد بنمط التعبير المستجلب من تقليد الرسم الأوروبي، و ثبّتوه بالمداومة وسط جمهور الحواضر الوافد من خلفية ثقافية يغلب فيها نمط التعبير غير الإيضاحي
Non-figurative

و قيل بغلبة التعبير التجريدي ( بعد التحفـّظ على المصطلح " تجريدي"
Abstract

و بطريقة ما ، فقد تمكن رهط " العليعثمانيين" من إعادة إختراع فن " لوحة الحامل" الأوروبي بوسائل منهجية و بتقنيات مرتجلة، بالعون الذاتي، بسبيل تلبية حاجة جمهورهم المحلي لهذا النوع من الغذاء الإيقوني الجديد. و أعمالهم ، و إن لم تحظ بشرف العرض بالأسلوب الطقوسي الذي يعجب أبناءهم و أحفادهم من هواة المعارض، فهي قد استفادت كثيرا من إمكانية الإنتشار التي تتيحها امكنة مدينية عامرة بالرواد على مد العام ، مثل المقاهي ومحال التجارة الصغيرة و حوانيت الحرفيين و وسائل المواصلات إلخ.و قد كتب عليهم إختراع كل شيء تقريبا من خامات و ادوات و مساند الرسم.ففي وجه ندرة الألوان الزيتية رسموا بألوان بودرة التراب و زهرة الغسيل و أنواع الطلاء الصناعي و الفحم و أقلام الرصاص و الغواش و المائيات و الأحبار.و كانت مساندهم تتنوّع بين حديد الحافلات و الشاحنات و خشب ابواب و واجهات المحال التجارية أو جبس حيطان المقاهي و المطاعم أو القماش القطني المطلي بالصمغ العربي و المشدود على برواز خشبي لعاية انواع مساند الورق و الكرتون المستعاد من خامات التغليف و الصنـْدَقة.
و كانت مواضيع لوحات هؤلاء الرواد على قدر واسع من التنوع. و قد يتحولون من نوع فني لآخر بنفس اليسر الذي يتحولون به من تقنية لأخرى،يقود خطاهم حس براغماتي وقدر وافر من العفوية.و معظم هؤلاء الرواد كانوا ـ بحكم الصنعة ـ حرفيو خط و زخرفة و ديكور و كان رسم البورتريه و المناظر الطبيعية أو المشاهد المدينية لا يعدو مجرد تنويع تقني ضمن برنامج الخدمات الواسع الذي يبذلونه لجمهورهم.و أذكر مرة، في مطلع الستينات في الأبيض ، شهدت فيها عمل العريفي الأب ـ وسط جمهرة من المتفرجين ـ بينما هو منهمك لساعات في تزيين واجهة محل تجاري بتركيبة مدهشة من الرسم و الكتابة.كان موضوع الواجهة هو الصيد بالسلاح الناري إذ كان المحل التجاري متخصصا في بيع بنادق الصيد.و قد استهواني المشهد و أظنني داومت على الحضور ارقبه يعمل صامتا وسط تعليقات الفضوليين و المعجبين.كان العريفي يرسم بالبوهية مباشرة على سطح لافتة حديدية منظرا من الريف الكردفاني المخضر في فصل الخريف.و فوق خضرة الكثبان، كانت الكتابة الفارسية المهجّنة تحتل زرقة السماء في شكل قوس محدّب :
" محلات إبراهيم التمـّاري للسلاح"و على قوس مقعّر في مقدمة المنظر يكتمل التصميم البيضاوي للكتابة بأحرف لاتينية مرسومة بالمسطرة.
كان ذلك الإستعراض التشكيلي من أوّل دروس يفاعتي التشكيلية فيما وعيت من حرفية الصورة، و على يد " أوسطى" ساحر شغلته الصنعة عن الإلتفات ناحية الجمهور.كان ذلك الحدث " معرضا" عفويا غفل عن طقوسية المعرض.كانت تلك هي المرة الإولى و الأخيرة التي رأيت فيها العريفي الأب، و أعرّفه بـ " الأب" فارزا له عن الأبناء ( و الأحفاد؟) الفنانين الذين مروا على مدرسة التصميم و كلية الفنون و هم من طينة الفنانين المجوّدين كما تشهد آثارهم.
جحا الحاوي

جحا الحاوي

".. مثال الفنان " جحا" ينطوي على أبلغ الدلالات حول مآل العصاميين " العليعثمانيين" في حواضر السبعينات.فجحا كان آخر العنقود في حفنة التشكيليين العصاميين الذين عاشوا من بيع فنهم للناس دون أن ترتـّب لهم الدولة الرواتب المجزية بذريعة " دبلوم " مبرئ للذمة احتازوه في واحدة من مدارس الفنون.
كان جحا يكسب عيشه عن جدارة من رسم الوجوه (البورتريه) خلال سنوات الخمسينات و الستينات. و قد اشتهر جحا أكثر من صحابه الأكبر سنا، بفضل استفادته من تقنية الإستنساخ و من التوزيع الجماهيري الواسع، الذي حظيت به أعماله، سواء كانت من بورتريهات الزعماء الدينيين( آل المهدي و آل الميرغني) أو من ما عرف بـ " بنات الحلاوة "، و هن الفتيات الحسان الوجوه اللواتي كان يرسمهن على على أغلفة علب " حلويات ريـّا" و " حلويات سعد"، على نمط حسان الـ " بين آب "
Pin-up girls
مما جادت به الثقافة الشعبية الأمريكية في الأربعينات. و كانت صور "بنات الحلاوة " بمثابة نوع من صلة أو متابعة لتصاوير الأنثى المدينية التي رسمها الفنان الكبير"علي عثمان" على هدي شعر " حقيبة الفن".لكن بنات جحا كن أكثر انغماسا في في شعر أخيلة الأغنية المدينية الحديثة منهن في شعر أغنية الحقيبة.و ذلك حسب الإقتطافات الشعرية التي دأب جحا ( أو ربما كان ذلك من إضافة ناشره) على وضعها في أحد أركان اللوحة، من نوع: " دايما على بالي " أو" القمر بوبا"أو "غلاوة الريد "أو " لا و حبّك.." إلخ.و يبدو أن معاني شعر الأغنية المدينية الحديثة هي التي حفزت جحا على رسم وجوه فتياته على مرجع المكياج المديني الحديث الوافد للمدينة السودانية، بواسطة المطبوعات و السينما المصرية، من أصوله في السينما الأميريكية و مطبوعاتها الدعائية. فعند عدد كبير من حسان جحا كانت " تسريحة الكوافير " قد حلت محل المشاط التقليدي على نحو خجل، بينما تراجع تزجيج الحواجب " الهلالية" التقليدي لصالح قوس الحاجب المرسوم على مرجع " ماريلين ديتريش"و " غريتا غاربو" الوافد بواسطة صور" أسمهان" و " ليلى مراد". أما شامة " مارلين مونرو" فقد تعهّدت بها " هندرستم" و لداتها، ممن تربعن على " عرش الإغراء" في خمسينات و ستينات السينما المصرية،فأوصلنها لحضريات العاصمة اللاتي تولت " حلويات سعد " و " حلويات ريّا" ترويجهن بفضل جحا.
و قد نجانب الدقة لو انتصرنا لإناث النمط الأوروبي الحديث على نوع بهكنة الفنان علي عثمان المشلخة الممشطة الموشومة الشفة التي هجست خاطر شاعرنا المجذوب الشاب و لوّعته لسنوات.فجحا و جمهوره المديني لم يسلما من سحر أنثى حقيبة الفن" العليعثمانية"،و قد نجد في مجموعة بورتريهاته الأنثوية من " الحديثات " بقدر ما نجد من الـ " حقيبويات".ربما لأن فترة نهاية الخمسينات و بداية الستينات كانت فترة عامرة بالتحولات على صعيد المراجع الجمالية و السياسية و الأخلاقية لسكان الحواضر الحديثة.كان أهل الحواضر من بورتسودان حتى الفاشر ، و من حلفا حتى جوبا قد تعوّدوا على قص كرتون علب الحلاوة بعناية و استعادة البورتريه و بروزته أو حتى تسميره مباشرة على حيطان غرفهم ، على سبيل الـ " ديكور".و قد تجد صور " بنات الحلاوة " جنبا إلى جنب مع صور الزعماء الطائفيين كالسيد عبد الرحمن المهدي أو السيد علي الميرغني أو الزعماء الحديثين مثل السيد إسمعيل الأزهري أو الرئيس جمال عبد الناصر أو حتى نجوم الكرة مثل " برعي " أو " صديق منزول".و لم تكن آثار جحا المبذولة بشكل عفوي على مساند ورقية رخيصة تمثل " ثورة " حسب عبارة المجذوب في توصيف أثر الصور" العليعثمانية" في حياة أهل العاصمة،و إنما كانت نوعا من غذاء أيقوني يومي يتعهد به الفنان أهل الحواضر و يسكّن جوعهم إلى أيقنة جديدة، تعبر عن حالهم و تؤثّث خاطرهم البصري بأثاث من طبيعة المقام المديني الجديد.و لو اعتبرنا أن علي عثمان ـ حسب رأي المجذوب ـ كان يشكّل بالفرشاة المعادل البصري لأنثى الحقيبة، فإن جحا كان مشغولا بتعريف صورة الأنثى الحديثة التي كان يتغنى بجمالها فنانين من نوع إبراهيم عوض و عثمان حسين و عبد الدافع عثمان...


جحا
خاتف الألوان

مرة، في الأبيـّض ، في عام 1961، أتيحت لي فرصة مشاهدة جحا عن قرب و هو يرسم.كان جحا قد جاء لمدينة الأبيض لينجز طلبية فنية لحساب " شركة السجائر الوطنية". كان يرسم بالبوهية على لوحة إعلانات ضخمة ( حوالي 2 في 3 أمتار) صورة يد تقدّم علبة سجائر مفتوحة: " ثري تاونز فلتر"، فيما أذكر، و بجانبها بخط النسخ عبارة : " سيجارة السودان الأولى". و خلال إقامته القصيرة في الأبيض إنشغل جحا أيضا بعمل مجموعة بورتريهات بالقلم الرصاص على الورق لبعض من أعلام آل المهدي ( محمد أحمد المهدي، السيد عبد الرحمن ، السيد الصديق..). و هي أعمال كان قد طلبها منه بعض أعيان طائفة الأنصار في مدينة الأبيض.و كان بينهم آل كزّام أقاربه.و قد استفدت ، مع بعض صحاب الطفولة ، من فرصة جوار سعيد مع آل كزّام، أتاح لنا التسلل بعفوية داخل حوشهم بغرض مشاهدة جحا يرسم.
و على خلاف ما هو متوقع، لم يبد على الرجل أي ضيق كوننا ربضنا قربه نتفرج عليه و هو يعمل.على العكس كان جحا واعيا بحضورنا الصامت. و كان هو الآخر يرسم في صمت تام. إلا أن صمته و حركته و سكونه و مجمل هيئته انطوت على شيء من حضور مسرحي جعله يبدو كأنه ممثل صامت على خشبة مسرح سحري.نعم كان ثمة سحر في هواء ذلك الحوش. و بالنسبة لجمهور في مثل يفاعتنا ذلك الزمان، فقد سحرنا جحا تماما. و لا عجب ، فالرجل كان يشتغل بالسحر أيضا.بل أن بعض معارفه كان يعتبره حاويا أكثر منه رساما.و قد كانت " خفة يده " و حضوره المشهدي يمكنانه من مباشرة سلسلة من الإستعراضات السحرية القمينة بأكثر الحواة إحترافية، كأن يجعل بيضة تختفي من بين أصابعه ليخرجها من جيب أحد الحاضرين إلخ... ثم كانت هناك تلك "الأقاويل" التي تسري وسط المعارف بأن الرجل كان قد سافر إلى الهند و تعلم السحر من سحرتها إلخ.. و كانت عاقبة كل ذلك أننا قبلناه كساحر فنان أكثر منه فنانا ساحرا.
كان رجلا متوسط القامة في نحو العقد الثالث، و لو ألبسته ملابس عادية، جلابية أو بنطلون و قميص، لما ميّزته من عامة الناس. غير أن جحا الساحر ما كان ليتزيّى بزي عامة الناس.كان يتولى تصميم ملابسه بنفسه: قميص قطني أبيض واسع بلا ياقة، يصالح فيه بين القميص الأوروبي و ال" عرّاقي" على بنطلون أبيض واسع أقرب للسروال التقليدي منه للبنطلون الأوروبي.كان جحا يمثل أمامنا كنوع من " خاتف لونين" (و أكثر) كونه وجد مكانه بين الأضداد، بين الحديث و القديم ، بين السحر و الواقع، بين القرية و المدينة، بين التجريدي و الإيضاحي.
كنا نرقبه يعمل على اللوحة الإعلانية الضخمة بمصاريعها المفككة على حائط الحوش كما الـ
"Triptique
(اللوحة الثلاثية)، ثم يدخل ليستقر على طاولة عند مدخل الديوان ليواصل العمل في بورتريهات الأعلام المهدويين. كان الرجل الأمي قادرا على استنساخ الشعار الإعلاني في رسم صحيح و بأسلوب نسخي لا عيب فيه، مقطعا على مساند متفرقة، الأمر الذي يصعّد فعل الكتابة إلى مقام التشكيل التجريدي الخالص.(و ما الكتابة؟ ).



طبيب لأدواء المدينة

بعدها بحوالي عقدين من الزمان سنحت لي فرصة ملاقاة جحا في سوق أمدرمان، في واحدة من نهارات يوليو 81 .و رغم أن الزمن كان قد ترك بصماته واضحة على وجه الرجل،إلا أن شيئ من سحر الساحر بقي فيما وراء لحيته البيضاء و نظرته الوقورة المتعبة، و لا عجب فجحا الثمانينات قد هجر الرسم إلى السحر، إذ اضطرته ملابسات الطلب و العرض في سوق الرسم السوداني إلى التحول من مهنة الرسام إلى مهنة الساحر.صار جحا الثمانينات يكسب عيشه كساحر مديني عرّاف في واحدة من حارات مدينة الثورة.إنه ببساطة يستقبل الناس الذين يفدون عنده طالبين عونه لاستعادة شيئ مفقود أو مسروق، و قد يسدي النصائح لمن تطلب الزواج أو يبطل مفعول " عمل" شرير أصاب بعضهم إلخ.
و قد حكى " فيليب غوردون " محرر مجلة " سوداناو" كيف كان جحا يمارس صنعة الساحر البصير بنجاح:
"طرقات على باب دار الساحر، ثم دخل رجلان، فحييتهما بالإنجليزية، ذلك لأن تظاهري بعدم معرفة العربية يتيح لي أن أحضر جلسة الإستشارة السحرية دون أن يسبّب حضوري أي حرج.أحد الرجلين زبون سابق للساحر، و قد أحضر معه صديقا بحاجة لعون الساحر.وكان الصديق تاجرا في سوق أمدرمان جاء يطلب عون الساحر لإيقاف الكساد المتزايد لتجارته.فحتى زبائنه القدامى انصرفوا عنه مما جعله يعتقد جازما بأن جهة ما عملت له "عمل".و هو هنا ليستجدي الساحر أن يبطل مفعول "العمل".
قبل الطبيب أن يتولى علاج المريض.و جهّز أدواته في رصانة:
زجاجة مغلقة تحتوي على برافين و ماء ملوّن، وقنينة من الصفيح في شكل صاروخ صغير و زجاجة تحتوي على سائل داكن اللون.و جهاز نحاسي عليه شكل قبة تحترق فيه وريقات، بالإضافة لعدة قوارير أخرى تكمل مشهد التجهيزات.
بعدها كتب الساحر اسم التاجر على ورقة و أحرقها.و في أثناء الحريق كان الساحر يهز خليط البرافين و الماء الملون و يحدّق فيه بتركيز.فبدت أشكال فقاعات الهواء و نثار حبيبات البرافين تكوّن أشكالا غريبة بالفعل.و كان في ذلك المشهد ما يكفي لإقناع المؤمنين بالسحر أو حتى لزرع الشك في نفوس المتشككين بأن هناك شيئ خارق للعادة هنا.
و استنتج الساحر من تأويل أشكال البرافين أن هناك فعلا " عمل" استهدف تجارة التاجر.و نصح الساحر التاجر أن يعاوده لإستشارات إضافية بعد أيام.
و طبعا حين عاد التاجر أخبره الساحر أن مالك الدكان السابق قد استخدم بعض السحر ليفسد عليه تجارته. و أن عليه أن يبيع هذا الدكان و يشتري محلا جديدا، و ألقى عليه محاضرة موجزة في أهمية الإحتفاء بالزبائن. و في نهاية الجلسة غادر الرجلان و على محياهما رضاء ظاهر.
قال الساحر شارحا:أنا أعرف هذا الرجل،إنه غليظ الطبع دائما ما ينتهرالزبائن فانفضوا من حوله.و أنا لا أرى في البرافين أكثر مما يراه أي شخص آخر لكن هذه الحركات تجعل الناس يثقون فيّ و يصدقون ما أقول.أرجو أن يتمكن من معاملة زبائنه بشكل أفضل الآن،فمع دكان جديد في منطقة جديدة يمكنه أن ينجح مثل غيره.
و كيف أصبح صاحبنا ساحرا؟
"كان لي صديق هندي علّمني بعض حيل الحواة".." كنت أعرض هذه الحيل للناس فساد اعتقاد بأني على صلة بالجن. و بعدها بدأ الناس يأتون عندي ليطلبوا مني أن أعثر لهم على مفقوداتهم و بعض الأمور البسيطة الأخرى. فكان نجاحي يحفز الناس على العودة و صارت لي شهرة".
و هناك حادثة مهمة ثبتت في أذهان الناس شهرة الرجل كساحر:
"مرة قام بعض الناس بشراء كمية كبيرة من الحلي الذهبية لتتزين بها العروس في زفافها.و تمت سرقة هذا الذهب.بعدها جاءتني أربعة نساء و طلبن مني أن أعثر على الذهب المسروق.و كلما حكين لي تفاصيل إختفاء الذهب كاما ازددت اقتناعا بأن السارق لا بد و أن يكون شخصا قريبا من الأسرة أو من داخل البيت.فنظرت داخل زجاجة البرافين إلخ.ثم نظرت اليهن بتفرس شديد و كشفت لهم عن شكوكي.و أنا عادة أتفرس في وجوه زواري لأعطيهم إحساسا بالرهبة.ثم طلبت منهن أن يحضرن بعد أيام.
كانت شكوكي في محلها،و نجح الفخ الذي نصبته.فبعدها بسويعات عادت إحدى النساء و وقعت تبكي عند قدميّ." شكرا لك لأنك لم تفضحني" و قالت "لقد عرفت من الطريقة التي نظرت بها إلي أنك كنت تعرف أنني أخذت الذهب، و هاهو الذهب ، و قد أخذته على سبيل المزاح ليس إلاّ". فسلمتني الذهب المسروق كاملا غير منقوص."
".."و قد أغراني الحال أن أحتفظ بالذهب لنفسي،بل و قررت في نفسي أن آخذه فعلا، فالمرأة التي أعطتني إياه لن تكشف لأي كان أنها سرقت الذهب لتسلمه لي.لكن ضميري لم يسمح لي بسرقته.فقمت بعمل صندوق بفتحتين من كل جانب.وصممت داخله خزانتين منفصلتين.و أودعت الذهب في واحدة منهما.و انتظرت عودة النساء في الموعد المضروب.و حين دخلن حرقت بخورا غريبا في ركن الغرفة و أخرجت الصندوق الذي يحتوي على الذهب.و عرضت عليهن جهة الخزانة الفارغة، و حرقت بعض البخرات و وضعت رمادها في الصندوق، و بخفة قلبت الصندوق و فتحت الخزانة الأخرى فظهر الذهب. تعالى صراخهن من الفرحة، و طبعا كافأنني بكرم."
و هل يعيش ساحرنا بالكلية من حرفة الساحر؟
" لا ، فأنا رسام و معظم دخلي يأتي من بيع رسوماتي" فساحرنا ليس سوى جحا ، فنان أم درمان المعروف.
و ما موقف جحا من التغرير بالناس البسطاء الذين يعتقدون أنه ساحر؟
" هذه المسألة تعكر الضمير في معظم الأحوال، مرة ذهبت للتلفزيون و شرحت في برنامج للناس كل ما أعمله من حيل، و حاولت إقناع الناس بأن السحر كلام فارغ لا أساس له من الصحة، و كانت عاقبة ذلك أن جاءني المزيد من الناس ليقولوا لي :" طبعا أنت تظاهرت في التلفزيون بأن السحر كلام فارغ لأن الحكومة طلبت منك أن تقول مثل هذا الكلام".."و أنا أتوقع نفس ردة الفعل لمقالتك التي ستنشرها في سوداناو.
".." أنا لا أعقل كيف أن الأشخاص المتعلمين الذين يحملون درجات جامعية و يحتلون مناصب مهمة يعتقدون في مثل هذا الهراء. لكنهم يفعلون.و حينما أقول للناس أنني هجرت السحر يغضبون و يقولون أنني لا أريد مساعدتهم..".( سوداناو يناير 1979).




جحا..سحر عهد انقضى
إن تحول جحا من موقف الحاوي الذي يرفـّـه عن الحضور لموقف الساحر العرّاف الذي يملك أن يرى ما وراء حجب الواقع له علاقة وثيقة بالتحول في نوع سوق الفن الذي بنى عليه الرجل سمعته كرسام، صانع أيقونات شعبية لمنفعة جمهور الحواضر.و أظن أن الطلب و الرواج الكبير الذي لقيه جحا الرسام في الخمسينات و الستينات كان يغنيه عن التكسّب باسم السحر.لكن مع بداية السبعينات حصلت جملة من التبدلات في المراجع الثقافية و السياسية و الجمالية عند أهل الحواضر.فلم يعد أحد يطلب " صورة سيدي" بعد أن تكفـّلت ملابسات الصراع السياسي في السودان باستبعاد" السادة"، و غيرهم من زعماء الطوائف و العشائر التقليديين، من دائرة الضوء.فالسلطة السياسية و الإقتصادية و الثقافية قد تحولت( منذ مايو 1969) إلى يد جيل جديد من سكان الحواضر ممثلين في نظام الطبقة الوسطى المدينية الذي جسدته سلطة نميري و شركاه من الأفندية العسكريين و المدنيين.
و من جهة أخرى طرح التطور التكنولوجي جملة من التبدلات في مسار حركة الأيقنة الشعبية لسكان الحواضر الذين خبروا اللقيـّات البصرية المستحدثة للتلفزيون و السينما و التصوير الفتوغرافي و زخم حركة الفن البصري التي جادت بها خبرة أوروبا آنذاك.هذا الواقع الثقافي البصري الجديد تجاوز خبرة جحا الأيقونية سواء على مستوى المرجعية التقنية أو على مستوى المرجعية الجمالية.و انمسخ الخطاب التشكيلي الذي تحمله أعمال جحا إلى مجرد نوع أيقوني " شعبي" في المعنى المرذول للعبارة.و من جهة الجمهور ، كان للتضخـّم المفاجئ و المتسارع للكيان الحضري الذي كان جحا يتحرك داخله، و ما ترتب عليه من تحولات على الصعيد الإجتماعي،كان له أكثر من تأثير نوعي على طبيعة الإحتياج الثقافي لأهل الطبقة الوسطى الحضرية، بحيث تكشـّف مجتمع المدينة في الستينات و السبعينات عن شهية ثقافية كبيرة، و قيل عن نهم أيقوني عارم في ظل" التورّم" الإعلامي ساعد على تخلّقه الإستقرار السياسي النسبي الذي حققه نظام تحالف الأفندية (المتعسكرين و المدنيين) من طليعة الطبقة الوسطى الحضرية .
إن دخول أجهزة التلفزيون في معظم بيوت أهل الحواضر منذ منتصف الستينات، و تنامي ساعات البث، مع الإتساع و الغزارة التي شهدتها حركة الثقافة البصرية من سينما و فتوغرافيا و مطبوعات و عمارة حديثة أعادت تعريف الفضاء البصري للمدينة، بالإضافة لمساهمة كوادر كلية الفنون في فتح المناقشة العامة حول الدور الإجتماعي للفن من خلال المعارض المدينية ..كل هذا الحراك ساعد أهل الحواضر في تملـّك المراجع الأيقونية الكبيرة و اللقيات التقنية لحركة الثقافة البصرية المعاصرة و تجذيرها يوميا في تربة الواقع المحلي بشكل مكثـّف.
هذا التحوّل على صعيد المراجع التشكيلية لأهل الحواضر السودانية إنما يندرج ضمن تحوّل أوسع و أعمق لمجمل منظومة المراجع الثقافية التي يتأسس عليها " مفهوم للعالم" إصطلاحي و مستحدث، تمخضت عنه ضرورة فهم التناقضات الإجتماعية بين المنطق الإفتراسي الإستهلاكي لرأس المال و فرص يوتوبيا الرفاه التي تبشـّر بها التقنية العلمية الخلاقة.
و من حيث كونه علامة مهمة في تاريخ الثقافة الحديثة في السودان ، و من حيث كون المجتمع السوداني موجود أو " متورط "( كسر رقبة) في العالم، فإن فناننا جحا الحاوي الأمدرماني إنما يمـْثـُل كشاهد متميّز في قلب هذا التناقض الجهنمي للمجتمع المعاصر.
إن الشهية العارمة المنفلتة أزاء منتجات الإستهلاك الثقافي، التي أيقظتها في أفئدة الحضريين، مجموعة التحولات الإجتماعية للستينات و السبعينات، لم تكن لتقنع بالفتات الأيقوني الذي تطرحه خبرة فنان تشكيلي عصامي من نوع جحا.بل حتى لو حلّ محل جحا جيش من الرسامين العصاميين فإن النهم الأيقوني لأهل الحواضر كان أكبر من أن يتولاه جمع التشكيليين دون غيرهم.و هكذا كتب على الساحر الفنان أن يتراجع عن الموقع المتقدم الذي كان يشغله بين صنـّاع المبادرة الجمالية الأيقونية في سودان الخمسينات، و صار السوق الذي كان متاحا له يتقلص كلما تقدم مجايلوه في العمر، فتحول الفنان العصامي شيئا فشيئا إلى نوع من شاهد حبيب لسحر عهد انقضى.
و بعد
إن كان اثر جحا الرسام الشعبي الذي يعرض عمله في صالة عرض بحجم الوطن قد اضمحل بالتقادم فثمة أثر آخر باق ما يزال ينتظر العين البصيرة القادرة على النفاذ لمساهمة جحا القائمة فيما وراء فعل بذل اللوحات برسم النظر.ذلك ان جحا كان أيضا فنانا يعرض ذاته كشخص مبدع يحيا بين الأهالي و يبرّهم بذلك الشيء الإستثنائي الذي لا يحدث كل يوم: بضعة لحظات سحريات خارجة على المألوف بفضل موهبة هذا الحاوي المبدع.و هذا المفهوم في صناعة العارض طرف اصيل في مسار جحا الجمالي و هو ادخل في ما يسميه نقاد الفن المعاصرون بفن" الحدث" (هابيننغ) ـ في منظور "العرضة" ـ لو جازت ترجمتي لعبارة " بيرفورمانص" . و لفهم مساهمة حجا في مشهد العرض( الدرامي) فلا بد لنا من المزيد من الشهادات التي توثق لعروض الرجل السحرية و هو امر متاح لو تضامن عليه جمع التشكيليين و المهتمين الذين عرفوا عروض جحا الحاوي..و هو أمر لو تمّ لمكننا من موضعة جحا " خاتف الألوان" في موضع أصيل بين لون العرض القرافيكي و لون العرض المشهدي.
سأعود
ايمان شقاق
مشاركات: 1027
اشترك في: الأحد مايو 08, 2005 8:09 pm

مشاركة بواسطة ايمان شقاق »


سلام وتحية للجميع،

على سيرة الفنانين "العليعثمانيين" أو"الفطريين" أو الذين واللائي تعلموا وتعلمن بطريقة ذاتية فنون الرسم والتلوين. كانت قد وصلتني رسالة قبل فترة من استاذة جامعية، قالت انها في زيارة لها للسودان اشترت مجموعة من الأعمال للفنان إبراهيم سليم من فترة خمسينيات أو ستينيات القرن لماضي. و ارسلت مجموعة صور لأعماله، كما سألت إن كانت لدي معلومات عن صاحب الاعمال. ولعدم معرفتي به أو بأعماله، إستنجدت بالفنان علاء الدين الجزولي لمعرفتي ببحثه وتجميعه للكثير من المعلومات في هذا الاتجاه، فقال انه سمع عنه و رأى عمل من اعماله بإحدى المؤسسات العامة بالقاهرة.
لكن لضيق وقتي في الفترة الفاتت لم اتمكن من البحث كما ينبغي وفكرت في افتراع خيط للسؤال عن الفنان ابراهيم سليم وعما إذا كان هناك من يعرف أو تعرف عنه شيئاً، اظن ان هذا الخيط مناسب لوضع واحد من تلك الأعمال، فمواضيعها مشابهة لمواضيع الفنان علي عثمان، في رسم النساء.

ويا محمد حمزة جريمة تكسير الأعمال الفنية قديمة قدم الانسانية وإن إختلفت أسبابها (سياسية أو دينية كانت) لكنها لن توقف سيل الافكار والرسومات القادمة!


تحياتي
إيمان

ايمان شقاق
مشاركات: 1027
اشترك في: الأحد مايو 08, 2005 8:09 pm

مشاركة بواسطة ايمان شقاق »

صورة

------------------------
من أعمال إبراهيم سليم
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

التشكيل في مقام الصراع الطبقي

مشاركة بواسطة حسن موسى »


شكرا يا إيمان على إيراد سيرة ( و صورة) الفنان إبراهيم سليم. فقد اتاح لنا هذا التقديم التعرف عليه.و هناك آخرون ينتظرون بلا شك.أرجو أن يساهم الصديق علاء الدين الجزولي بما عنده.
و معذرة للمتابعين على الإنقطاع عن كلامات المعرض و" المغرض" لكن اليد قصيرة هذه الأيام( و العين خليها ساكت).

المعرض و المغرض 4
ملاحظات في فن المدينة السودانية


احترافية الهواة و هواية المحترفين في معارض التشكيل.



عاش الشعب :
مع الأفول النسبي لنجم التشكيليين العصاميين ، بدأ حضريو الستينات من شعب "الديوم" و" الثورات" وامتدادات العاصمة التي انفلتت من تثليثها الأسطوري، بدأوا يتقحّمون محافل " الثقافة" الحديثة التي كانت ، حتى عهد قريب، وقفا على الصفوة و الخواجات و فلول السياح الذين ضلوا الطريق إلى الخرطوم.و هو تقحّم كان وراءه تشجيع واضح ، أو مضمر ، من قبل السلطات الثقافية الرسمية و الشعبية.(بذريعة" الفن من أجل الشعب" ضد " الفن من أجل الفن" مما عرفته نقاشات مثقفي تلك الفترة)،مثلما كان وراءه بعض من " إنطلاقة" أكتوبر 1964 التي فتحت أعين غبش الحواضر إلى أن "الشعب" الذي يتحدث عنه الخطباء و يكتب عنه الكتاب ويتغنى به المغنون إنما هو هم أنفسهم و لا شيء غيرهم. كانت سنوات ما بعد اكتوبر 64 فترة مفعمة بالتفاؤل و بالأمل في تنمية إجتماعية عادلة و سعادة" شعبية" وشيكة.و قد تحولت" وزارة الإستعلامات و العمل و الشؤون الإجتماعية" إلى" وزارة الثقافة و الإعلام" ذلك ان السلطة الجديدةـ سلطة الطبقة الوسطى الحضرية ـ صارت ترى للثقافة" دورا" في عملية التنمية و في مشروع الوحدة الوطنية و في تعريف الهوية السودانية.في ذلك الزمان بدأ الشعب يمضغ العبارات الجديدة من شاكلة" الأصالة " و " المحلية" و" الهوية" و التراث"، و ظهرت" مدارس الخرطوم" الفنية و الأدبية تمجّد التمازج الثقافي و ترى في " الإنسان السوداني" الهجين فرصة خلاص القارة الإفريقية بشقيها العربي و الإفريقي.و لم لا؟ أليس هو جماع " الغابة و الصحراء"؟
وسط كل ذلك كان جحا و رهطه يفقدون زبائنهم التقليديين بالتدريج و ألقى عليهم النسيان الإعلامي بظل ثقيل و أحالهم "ناس كلية الفنون" إلى مجرد ذريعة للتندر على عهد انقضى.لكم النسيان الرسمي للتشكيليين العصاميين لا يسوّغ التعامي عن الخصوصية السوسيولوجية/ الثقافية لهذه الفئة المميزة من ممارسي الفن الحديث في السودان.
كون التشكيليين العصاميين كانوا يكسبون عيشهم من فنهم فذلك لا يعني بالضرورة أن القوم عاشوا في رغد ملوكي، مثلما لا يعني أنهم تنكبوا الفاقة و فقر النسّاك، مما روجت له خرافة " الفنان" في تاريخ ما للفن الأوروبي على نماذج " بيكاسو" و " فان جوخ".
و في الواقع ،إذا أخذنا بالإعتبار مثال جحا ـ فإن العصاميين كانوا يكسبون عيشهم على طريقة الحرفيين المتوسطين العاملين في الحياكة أو في البناء أو ميكانيكا السيارات إلخ.بل أن بعضهم قد يمارس مهنة أخرى بجانب مهنة الرسام.( مثل علي عثمان الذي كان يعمل عاملا بالسكة الحديد و عيون كديس الذي كان يصنع الأحذية ). و بالنسبة لمثال جحا الستينات، فإن قيمة الـ " بورتريه" متوسط الحجم ( حوالي 40 في 60 سم.) كانت تتراوح بين خمسة لعشرة جنيهات سودانية.و قيمة " يافطة" تجارية ( حوالي 100 في 150 سم) تحتوي على خط و شيء من الرسم التوضيحي والزخرفي كانت تبلغ الخمسين جنيها.و في نهاية الستينات كان الخطاط المزخرف الذي يعمل في ورش طلاء السيارات و الحافلات العمومية ، كان يملك أن يكسب بين سبعين و ثمانين جنيها في المتوسط الشهري. في ذلك الوقت كان الحد الأدنى الرسمي للأجور في حدود الثلاثين جنيها شهريا.
و اليوم، ضمن الملابسات الإجتماعية و الثقافية الجديدة ، فإن أبناء الجيل المتقدم من التشكيليين العصاميين هجروا صنعة الرسم إلى مهن أخرى أو أحالوا أنفسهم لتقاعد إختياري.بيد أن المراقب يلاحظ النجاح النسبي الذي ما يزال يلاقيه بعض عصاميي حواضر الأقاليم المتأخرين مثل أبو الحسن مدني في بورتسودان و عبد العزيز في الأبيض و ديدان في نيالا و آخرين مغمورين بحكم حركتهم خارج دائرة الضوء الإعلامي العاصمي. و هو نجاح يفضح طلبا شعبيا جادا لهذا النوع من التصاوير وسط قطاع من سكان الحواضر الذين لم يجدوا ضالتهم في الغذاء الأيقوني الحديثة الوافد عبر الإعلام المرئي أو المستنبت على يد خريجي كليات الفنون.و قد حكى لي الفنان المصمم القرافيكي عبد المنعم الخضر( من خريجي الكلية) في مقابلة معه بجريدة " الصحافة" (فبراير 1981) أنه حين تخرج من كلية الفنون(1969 ) إلتحق بالعمل كمصمم في" دار التغليف السودانية". و كانت المهمة الأولى التي أسندت له هي أن يعيد رسم بورتريهات الفتيات اللاتي كان جحا يرسمهن لصناديق الحلوى بنفس طريقة جحا.طبعا استهجن عبد المنعم الأمر و قال: " طبعا رفضت و تركت العمل في دار التغليف".و ضمن فترة التحول الإيقوني الكبير بين منتصف الستينات و مبتدأ السبعينات نجح بعض العصاميين المتأخرين في إحتلال منطقة وسطى بين أسلوب التشكيلي العصامي التقليدي و أسلوب التشكيلي خريج المدرسة النظامية.و من هؤلاء أعلام يعرفهم جمهور الفن الحضري في الأقاليم و في العاصمة مثل حسن محمد عثمان( حسن البطل) و عبد الله جبارة و نعمة مراد و عبد الرحمن بلية و عبد الوهاب الصوفي و آخرين يمكن أن ندرج بينهم فنان كأحمد سالم بفضل قدرته المدهشة على التطور و التكيف مع الواقع الأيقوني الجديد .و الخصوصية التي طبعت أعمال هذه الفئة الجديدة من التشكيليين العصاميين ( أو الـ" نيو العصاميين" لو جازت العبارة و هيهات) خلقت لهم وضعية جديدة تتبدى في توصيفهم كفنانين " هواة" تمييزا لهم من فئة الفنانين من خريجي كليات الفنون الذين يوصفون انفسهم أو توصفهم الصحف ضمنا بصفة الفنانين " المحترفين". و رغم أن عبارات " هواة " و " محترفين" في مشهد الفن السوداني الحديث تفتقر للدقة إلا أنها تتيح للمتكلمين في الشأن التشكيلي السوداني تصنيف الفئات الحاضرة في الساحة التشكيلية و فرزها على أساس إضمار طبقي لا لبس فيه.فحينما يتم توصيف فنان ما بصفة " محترف" أو " هاوي" فالصفة إنما تشير إلى شخص تلقى أو لم يتلق تدريبا أكاديميا نظاميا تتوجه شهادة مبرئة للذمة ( الطبقية) أكثر مما تشير إلى كون ذلك الشخص يتخذ أو لا يتخذ من ممارسة التشكيل سبيلا لكسب العيش.ناهيك عن حال الكثيرين ( من البيروقراطيين و رجال الأعمال) الذين يحملون دبلومة رسمية في الفنون و الذين يكسبون عيشهم من مهن أخرى غير ذات علاقة بالممارسة التشكيلية، دون أن يترتب على وضعيتهم الغريبة حرمانهم من إمتياز" الفنان المحترف".و في فترة السبعينات شهدت حواضر السودان حراكا معرضيا مؤثرا بفضل الدعم الإعلامي الذي كانت توفره الأجهزة الثقافية الرسمية للعارضين الذين كان وزير الثقافة يواظب على إفتتاح معارضهم العاصمية .و أذكر انني كتبت في تقرير صحفي عن المعارض التي اقامها بعض التشكيليين العصاميين( إحمد سالم،عبد الله جبارة، عبد الوهاب الصوفي، نعمة مراد،أبو الحسن مدني..) في الفترة بين 1976 و 1978 ".. و إذا نظرنا نظرة إحصائية لمعارض التشكيل التي انتظمت في العاصمة في السنوات الخمس الماضية فسنلاحظ بسهولة أن نسبة معارض " الهواة" تساوي ، إن لم تكن تتجاوز ، نسبة معارض" المحترفين". الأمر الذي يطرح سؤالا ضروريا حول مسؤولية المؤسسات المعنية تجاه هؤلاء " الهواة". (أنظر "معرض الفنانة نعمة مراد، حوار و خواطر ثلاث" ـ حسن موسى في" الأيام" ، مارس 1978).
لكن الجدير بالذكر في هذا المشهد هو ان حركة الجيل الجديد من التشكيليين العصاميين إنما تخلقت ـ و ما زالت ـ تحت شروط جديدة بينها توفر إطار مفهومي جديد وسط عدد كبير من تشكيليي كلية الفنون يتميز بقبول الفنانين العصاميين كأنداد داخل المشروع الجمالي المتخلق في السودان المعاصر.و في هذا الأفق، و نحن نقرأ الأدب النقدي الذي جادت به أقلام تشكيليي السبعينات يجب ان نشيد بدور الجهد الفردي المقدر لأستاذنا إبراهيم الصلحي في إنتباهه المبكر لأهمية التشكيليين العصاميين ( حسن محمد عثمان ( حسن البطل) و عبد الوهاب أحمد خليل (الصوفي) و آخرين).
و بين نصوص الأدب النقدي للسبعينات تقف سلسلة مقالات عبد الله بولا المعنونة " مصرع الإنسان الممتاز" كعلامة مهمة في مشهد التشكيل السوداني كون صاحبها يتناول بالتحليل و النقد الحركة الفنية السودانية كتعبير أصيل عن تجليات الصراع الطبقي التي تخوّل لفناني الطبقة الوسطى الحضرية ان يتعالوا بإمتيازهم الطبقي ( الدبلوم الأكاديمي) على الفنانين الشعبيين المزعومين مجرد حرفيين و صنايعية .يكتب بولا معرفا الفنان التشكيلي:
" التشكيلي في فهمنا هو كل من يعمل في صياغة أشكال المرئيات إبتداءا من " صانعي المراكيب"، و تتسع الكلمة لتشمل السمكري، مصمم الأزياء النجار، المعماري، المشاطة و الكوافير إلى آخر ما يمكن أن يتسع له خيال القارئ".." و لا أشك في أن المسألة بصورتها هذه تغضب اخواننا التشكيليين الذين يعتمدهم النقد الرسمي و المؤسسات الأكاديمية البورجوازية عمدا أو المتبرجزة جهلا.ما العمل؟
ليس عندي ما يخفف وقع الفاجعة ، و أنت يا سيدي التشكيلي المتخرج من كلية الفنون الجميلة ، و ربما الكلية الملكية، و الحائز على شهادة الإمتياز الإجتماعي ، و التي تسمى دبلوما أو خلافه، أيضا لا فرق بينك و بين " الحسين ود مهيوب" صانع العناقريب او " حسن كلاش "السمكري.كلكن تشكيليون و كلكم مسؤول عن تحقيق إضافة خلاقة لموروث البشرية من تاريح صياغة الأشكال المرئية لتستحق لقب " فنان" و لا جدوى من شهاداتك و إن بلغ عددها مائة و نيف.".."و ذلك ان الرسام على سبيل المثال، ليس خلاقا لأنه رسام، كما هو شائع و معتقد،إنما الرسام الفنان هو الرسام الخلاق الذي يضيف لتاريخ الرسم إضافة خلاقة.و الأمر يكون كذلك مع بقية التشكيليين بالمفهوم الأكثر شمولا"
( ـ أنظر مداخلات بولا و حامد يحيى الباشا في صفحة "ألوان الفن " الأيام 7 سبتمبر 1979 .أنظر ايضا سلسلة مقالات عبد الله بولا " مصرع الإنسان الممتاز" في " الأيام" سبتمبر 1976 و مارس 1977
).


سأعود
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

المعرض و المغرض 5

مشاركة بواسطة حسن موسى »

المعرض و المغرض5
..............
صورة الحقيقة و حقيقة الصورة
في الإشتباهات بين" ناس الكلية" و التشكيليين العصاميين

قلت في مطلع حديثي أن النجاح النسبي الذي ما يزال يلاقيه بعض عصاميي حواضر الأقاليم المتأخرين إنما يكشف طلبا شعبيا جادا على نوعية النتاج الأيقوني الذي يطرحونه لفائدة قطاع من الحضريين الذين لم يجدوا ضالتهم في نوع النتاج الأيقوني المعاصر، سواء في طرفه الأوروبي أو في طرفه المستنبت محليا على يد الفنانين السودانويين الذين خرجوا من تلافيف تقليد الرسم الأوروبي. و هو طلب يمكن تفسيره بموضوعة " الحاجة " الثقافية على أساس أن نمط الأيقنة "العليعثمانية" ، و إن لم يعد يلبي حاجة الأغلبية من جمهور التشكيل المديني ، إلا أنه ما يزال يعتبر لدى قطاع من الجمهور ، بمثابة مصدر ثقافي مهم منه ينهلون حاجتهم من أخيلة الواقع المديني. مثلما يمكن تفسيره ، من جهة أخرى،بكون نمط الأيقنة "العليعثمانية" إنما ينطرح كإحتمال بين مكونات الخطاب التشكيلي المديني. و كون " ناس كلية الفنون" قد تجاهلوه و أهملوه تعاليا، فذلك لا يعني إلغاؤه من الوجود و منعه من التأثير في ذاكرة قطاع لا يمكن إهماله من جمهور مستهلكي النتاج التشكيلي المديني المعاصر.
ترى هل يُلام " ناس الكلية" على موقفهم هذا؟ و هل كان في وسعهم الوقوف موقفا مغايرا من مسألة تتجاوز إشتباهاتها الأفق المدرسوي الضيق الذي يحكم نظرة أغلبهم للظاهرة التشكيلية السودانية؟مندري؟
بلا شك لا مصلحة لنا في دفع " ناس الكلية" من علياء أبراجهم العاجية( الأكاديمية؟) إلى منزلق "النزول إلى مستوى الشعب" سواء كان ذلك في معناه المرذول أو في معناه "المرذول جدا". لكن الطابع " الشعبوي" العفوي للخطاب التشكيلي عند العصاميين المتأخرين ليس أمرا يستحق المؤاخذة مثلما لا يعني تمسّك بعض " ناس الكلية" بكليشيهات الخطاب التشكيلي " الأكاديمي" و" المتثاقف" تزكيتهم إلى مقام التشكيلين الجادين.و الأمر، في تحليل نهائي ما، يقتضينا الإنتباه إلى استحالة تصنيف التشكيليين المعاصرين في السودان على أساس بضعة سنوات قضاها بعضهم في هذا المكان أو ذاك من مؤسسات التدريب الحرفي.كما أن عبارة " ناس الكلية" أو " الخريجين" من حملة الدبلومات لا تعني أن كل الخارجين من كلية الفنون يتشاركون نفس القاسم الإبداعي الأعظم لمجرد إحتيازهم على الورقة المبرئة للذمة.و المنطق نفسه يملك أن يسري على من سميناهم بـ" التشكيليين العصاميين". فكونهم لم يخرجوا من كلية الفنون لا يخوّل لأحد أن يتصور لهم ملامح تجربة إبداعية مشتركة تكسبهم سمة موحّدة و تمسخهم فئة منسجمة تقبل المقارنة و المقابلة مع فئة " ناس الكلية" أو مع غيرها.ِ

عائلة" روسو" السودانية :
في "كلية الفنون الجميلة و التطبيقية" كان القوم يصفون التشكيليين العصاميين بـ " البدائية"، في معنى السذاجة المفهومية و الغشامة الحرفية. و هو موقف فيه شيء من التعالي المجاني و كثير من ضيق الأفق المنتسب إلى " العلموية" السعيدة.و كثيرا ما سمعت بعض " ناس كلية الفنون" يتندرون على العصاميين معممين عليهم سذاجة التقنية بطريقة تسوّغ لهم سحب الدراية العلمية على خريجي الكلية بدون فرز.لكنما الواقع يطرح تمايزا جليا بين هؤلاء و أولئك .. بين أهل الغشامة التقنية المريعة المتمترسين وراء الساتر الأكاديمي و العارفين المموهين في زحام السوق وسط جمهرة الحرفيين و" الأسطوات".
و ربما أمكن تفسير الأمر بكون " ناس الكلية" ـ فيما يحلو لهم ان يتسمّوا تطيّفا، ‘نما يسقطون خبرتهم المدرسية، بما عرفوا في دروس تاريخ الفن عن الإتجاه " البدائي"(بريميتيفزم)، على مرجع التشكيلي الفرنسي المعروف بـ " الجمركي" ( هنري روسو)
Henri Rousseau
و الذي يعتبر من أعلام الرسامين العصاميين في تاريخ الفن الأوروبي. و تقنية" روسو" تعتمد استدراك القصور التقني ـ بالنسبة لأسلوب الواقعية( الفتوغرافية) الذي ساد مع استقرار تقليد الرسم الواقعي في القرن السابع عشر ـ و ذلك عن طريق سلسلة من الإحالات الأسلوبية الإيجازية لإتفاقات الرسم الواقعي المترسبة في الذاكرة الشعبية. فالرسام المصنف " بدائيا" لا يتبع النموذج الحي ( الموديل) الماثل في الواقع. و هو في الحقيقة لا يحتاجه ليرسم الموضوع ضمن اشتباهات العلاقة بين الواقع الحي للموديل و الواقع التشكيلي المقيد على المسند.أو قل بين صورة الحقيقة و حقيقة الصورة.إنه يلغي المسافة بين الحقيقة و صورتها و يشتغل بالصورة عن الحقيقة. بعبارة أخرى فهو يعنى بالصورة كحقيقة،أو قل :كـ "الحقيقة".على نحو تلك السيدة (المتفرجة البدائية) التي قيل أنها زارت معرضا لـ "هنري ماتيس" و توقفت تتأمل لوحة تمثل امرأة جالسة، ثم خاطبت الفنان قائلة:" ألا تعتقد بأن ذراع هذه المرأة طويل بشكل مبالغ فيه؟". قالوا أن " ماتيس" رد عليها بأدب:" سيدتي ، هذه لوحة و ليست إمرأة".
أقول: نجانب الدقة حين ندرج كل عصاميي التشكيل في السودان في خانة الـ " بدائية" لمجرد أنهم لم يمروا من" فلتر" كلية الفنون الذي هو ـ في نهاية التحليل ـ"تلاتي و قدّه رباعي"..
و إذا كانت ندرة أعمال علي عثمان المتاحة تجعلنا نتحفظ في صدد تقييم تجربته فإن فنانين مثل العريفي الأب و أحمد سالم و جحا و حسن البطل ( و آخرين) يستعصون بسهولة على الإحالة لباب" البدائية" و لو في المعنى المحمود للمصطلح.و على سيرة " المعنى المحمود" لمصطلح "البدائية"، فهناك نفر من خريجي كلية الفنون استعصوا و إلتفـّوا على التعاليم المدرسية ( الأكاديمية؟) لتقليد الرسم الأوروبي هروبا لواحة البدائية الأصيلة.و مناورتهم الذكية ترد الإعتبار لأسلوب الرسم المصنف " بدائيا" كإحتمال مشروع بين إحتمالات صناعة التصاوير. و في هذا المقام يمثل كل من " كوستا" بمناظره الجنوبية النضرة ، و السر المصباح ، صاحب حاملات الجرار الكردفانيات الكاشفات عن صدور عامرة بالبراءة، يبدوان على صلة قرابة حميمة بـ " روسو" الفرنسي، فكأنهم أفراد عائلة واحدة شتتها الأقدار التي رمت بـ " روسو" في فرنسا و قذفت بكوستا و المصباح وسط"ناس الكلية".و إذا كان كل من كوستا و المصباح يتجاهلان تحديدات قواعد اللعبة الأكاديمية التي يعرفانها تماماأ فإن كل من العريفي الأب و أحمد سالم يمتنعان ـ بفضل رصيدهما التقني الجليل ـ على الإحالة لمقام التشكيليين البدائيين.
إن تجربة التشكيليين " العصاميين" في السودان عامرة بالدروس و العبر.و هي تحتاج من الباحثين في الظاهرة الفنية المدينية لأكثر من مجرد التلخيص المستعجل الذي يختزل تركيبها و يبسطها كنوع من رجع الصدى لكليشيهات تاريخ ما للفن الأوروبي. فرهط العصاميين السودانيين ليسوا نسخة محلية من " البدائيين " الأوروبيين مثلما ان " ناس الكلية"( عدا بعض الإستثناءات) لا يمكن إعتبارهم نسخة سودانية من أكاديميي تقليد الرسم الأوروبي. لكن تبقى بين هؤلاء و أولئك كثير ـ و كثير جدا ـ من الأمور المشتبهات التي لا يكون الرسم بدونها.

سأعود
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

.

صورة
بورتريه بالباستيل ـ السر المصباح


صورة
بورتريه بالباستيل ـ السر المصباح

.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

.

صورة
منظر من الجنوب من أعمال كوستا ـ زيت

.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

.

صورة
الملك جون ـ زيت ، من أعمال موسى أبّكر

.
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »

الأحباء هنا وأخص الدكتور حسن موسى ،
تحيات زاكيات

إني أرى أن التوثيق لحركة الرسم والرسامين في السودان : ماضيه وحاضره ، يقتضي أن يتم
استحداث ملفاً منفصلاً ،
وأرى أن الملف الحالي بعنوانه ربما لا يقودنا للكنوز التي تحتويه إلا صدفة !
وعليه أتمنى أن يكون هنالك ملفاً للتوثيق ، أو عدة ملفات عن الرواد .
فهي غواية وصنعة لم تُحظ في سودان أنصاف المتعلمين بكثير اهتمام ،
وقد تذكرت تفاوت الوعي في لوحات الرسم ، فقد أقمت أنت معرضاً في السبعينات
و قد تنبهت أن مجموعة من النسوة دخلنَّ المعرض ، وبدأن محاورة حول النقش والألوان
والتراكيب في اللوحات المعروضة ، في حين لم يتفهم كثيرون من أنصاف المتعلمين شيئاً !!،
وقد أسفر ذلك لاحقاً المقال الشهير لك في صحافة سودان السبعينات :
( الإنسان العادي غير عادي )
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

و الكلام بالخيوط

مشاركة بواسطة حسن موسى »

الكلام بالخيوط .. و السفر أيضا

سلام لكل المتابعين لخيط " إعتداء وحشي على معرض محمد حمزة.."
تعرف يا شقليني أنا ايضا راودتني ـ في البداية ـ فكرة تخصيص خيط منفصل للتوثيق للفنانين الذين وردت سيرتهم في هذا الخيط العجيب.
لكني بعد تقليب الرأي استقريت على ضرورة المواصلة تحت عنوان الخيط الأصلي.ذلك أن مبحث الخيط الجوهري هو معرض التشكيل الحديث كفضاء تتقاطع فيه أولويات الفن مع أولويات العمل العام السياسي.و لا يخفى عليك أن معرض الرسم في السودان هو منبر سياسي عالي الكفاءة بقدر ما هو منبر جمالي لا مناص من إعتلاء منصته. أما مقالتي التي نوّهت بها" رجل الشارع العادي ليس عاديا " فهي جزء من ذلك الأدب التشكيلي/ السياسي الذي ظل يتراكم في فضاء العمل العام منذ ثلاثة أو أربعة عقود كتعبير عفوي عن الحيوية السياسية للحركة التشكيلية السودانية.و هو أدب تخلّق ضمن الحوار و الصراع الفكري الحر الباحث عن الإجابات لأسئلة ملحة محددة فرضت نفسها من طبيعة الواقع الإجتماعي دون أن تستبقه نية تصميم مشروع أكاديمي محايد كـ " التوثيق للفنان الفلاني" أو " رصد التيار الفلتكاني" .و أظن أن المواصله في خيط الأخ الصويم " إعتداء وحشي.. " ( ياله من عنوان بليغ ..) إنما تندرج ضمن روح الكتابة السبعيناتية بغاية عقلنة ما حدث في معرض محمد حمزة ضمن السياق الجمالي/ السياسي الراهن.يعني نواصل المناقشة و بعدين نفرز الكلامات و ناخد منها الخلاصة و نبوبها و نقيدها في مسند متاح للجميع . شايف؟
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

بليـّة في غاليري " قعر الحجر"

مشاركة بواسطة حسن موسى »

المعرض و المغرض 6



عبد الرحمن بليّة في غاليري" قعر الحجر"

و لعل مثال الصديق الفنان عبد الرحمن حامد جمعة ،أو عبد الرحمن بـِلـّيّة (أو " بليّا")، يمكن أن ينهض كتعبير اصيل عن فئة التشكيليين العصاميين الذين احتلوا الفضاء الأيقوني الممتد بين عمل جيل التشكيليين " العليعثمانيين" و عمل التشكيليين المعاصرين من خريجي كليات الفنون الذين يعملون ضمن مرجعية تقليد الفن الأوروبي المعاصر.ذلك ان عبد الرحمن بليّة انخرط في مباحث التشكيل بين التلوين و الرسم و الكولاج و نحت الجذور و الحريق على الخشب و نحت القرع بفضول جمالي و بهمة عالية مما مكنه من تثبيت أسلوبه المميز في معالجة خامة "القرع المر" حتى صار جمهوره المحلي البعيد من الخرطوم ( بين الدلنج و الأبيض و كادقلي ) يتعرّف على عمله أينما وجد. و ربما أمكن فهم الحظوة التي احتازها عبد الرحمن بلية لدى الجمهور الإقليمي بين الثمانينات و التسعينات بتوفر هذا الرجل العصامي على حساسية فكرية وسياسية سوغت له أن يندمج في دائرة النشاط الثقافي المحلي حتى انه صار بحق أحد مفاتيح محفل الحراك الثقافي في مدينة الدلنج لفترة ليست بالقصيرة. و في هذا المشهد يلخص الأستاذ محمد النور كبر أثر الحضور الفني لعبد الرحمن بلية في مدينة الدلنج ، بقولة بليغة :
" تجربة عبد الرحمن بلية بالنسبة لنا كل شامل".." كانت لوحات عبد الرحمن بليا تعرض في كل المعارض المتيسرة في مدينة الدلنج. و كانت تحمل أسئلتها الخاصة و محاولاتها الدؤوبة للإجابة على بعض الأسئلة الإشكالية. و كان جمهور المدينة يتجاوب معها على هذا الأساس."
و يروي محمد النور كبر أن بعض الأصدقاء من الكتاب و الفنانين الشباب المتحلقين حول عبد الرحمن بليّة في سنوات التسعينات ، قرروا إنشاء رابطة سموها" رابطة أصدقاء الفنان التشكيلي عبد الرحمن بليا".و أظن أنها المرة الأولى التي تحدث فيها مثل هذه المبادرة الفريدة في تاريخ التشكيل السوداني .و قد كان غرض اصدقاء عبد الرحمن الإحتفاء به و التضامن معه و حمايته بالذات بعد فترة أزمة وجودية جعلته يحرق كل أعماله الفنية في نهاية السبعينات.و قد قام اعضاء الرابطة بـ "تأسيس بيت خاص للفنان عبد الرحمن بليا" في الدلنج. و حسب رواية كبر فقد تحول هذا البيت لنوع من منتدى أو صالون ادبي تؤمه مجموعة الشبان المهتمين بالفنون و الآداب في الدلنج و بعض طلاب جامعة الدلنج .و قد كانت حيطان غرف الدار المتواضعة مساحة لعرض اللوحات و المنحوتات كما احتوى حوشها على مسرح بسيط للمناشط المشهدية و الموسيقية والقراءات الشعرية إلخ
أنظر مقالة محمد النور كبر "التشكيلي العالمي عبد الرحمن بليا: سؤال الوجود و التجديد" في الرابط :

https://www.sudanartistunion.com/vb/show ... php?t=1595

و تجارب الفنانين العصاميين( من شاكلة عبد الرحمن بليّة و آخرين..) حين تتكشف عن التركيب العظيم لتخلـّقات حركة التشكيل الحديث في السودان، فهي، في الوقت نفسه، تضيء قصور المواعين المفهومية التي استخدمها النقد المدرسي الدارج في توصيف و تقويم تجارب هؤلاء الفنانين الذين تخرجوا في مدرسة الحياة الكبيرة و استطاعوا أن ينحتوا لذواتهم الخلاقة مشروعية صلدة داخل الحلقات الإجتماعية التي تبنتهم و حمتهم ـ أحيانا ـ ضد صلف دوائر الفن الرسمي المسلّحة بالشهادات و بقناعات الرضاء الطبقي.
إن إحتفاء شباب الدلنج بـ "فنان المدينة" عبدالرحمن بلية، و تحلقهم حول عمله يمكن ان يضيء لحظة مهمة من إنمساخ المدينة ـ في نهاية الثمانينات ـ و تحولها من مجرد موقع جغرافي لمؤسسة تعليمية عريقة هي " معهد تدريب المعلمين" (تأسس 1948) إلى حاضرة إجتماعية كبيرة يهجسها الفرز الطبقي في سودان الحرب الأهلية المزمنة الملغوم بصراع الهويات و الإسبتعاد العرقي و الثقافي. و ليس عرضا أن يكون من بين الأسماء التي كانت تلتقي في " غاليري قعر الحجر" ـ لو جاز لي أن اسمي دار عبدالرحمن بلية ـ كتـّاب( مثل أبـّكر آدم اسمعيل) كرّسوا أقلامهم للدفاع عن " المهمشين"( في جنوب كردفان) أو عن " المجموعات الأفريقية" ضد تجاوزات الإستعلاء الثقافي و سموم القهر العرقي الذي تنفثه الدوائر المحافظة في سلطة الطبقة الوسطى العربسلامية في الخرطوم.و في هذا المشهد السوسيولوجي/ السياسي تمثل دار عبدالرحمن بلية و معرضه الدائم في حي " قعر الحجر" كنوع من نصب تذكاري لجيل جديد من جنود حرب الهويولوجيا السودانية التي نعرف كلنا تاريخ إنطلاقها و لا يعلم إلا الله أجل إنقضائها.لكن هذا النصب التذكاري الذي يتوسّل بوسيلة المعرض ليعرض لأهل الحاضرة الإقليمية الوليدة ( الدلنج أو نيالا أو جوبا أوبورتسودان أو القضارف إلخ) صورة هويتهم كما يريدونها هم و ليس كما تريدها لهم دوائر السلطة المهيمنة من مركز اعتباطي متنازع عليه،هذا" النصب/المعرض " هو في نهاية التحليل تجسيد حقيقي لغاية المعرض النهائية التي يمكن تلخيصها في كون المعرض، أي معرض ، إنما يبرر نفسه بقدرته على أن يعرض لرواده صورة الوجود كما يتمنونه.
و فيما وراء تفاكير جيوبوليتيك الفن يبقى من عمل فنان مثل عبدالرحمن بلية كونه يستجيب لطلب أيقوني محدد من طرف الجمهور المتحلق حول "غاليري قعر الحجر" في تلك اللحظة الغنية بتقاطعات الزمان و المكان.ذلك ان بليّة هو في نهاية" التخليل" صانع تصاوير.و صناعته تعتمد على بحث طويل جاد يتحرّى التصاوير في تلافيف الخامات و في فرص الأدوات مثلما يطلبها في شعاب البحث المفهومي المفحـّخة بمزالق فكرية مهلكة.و هو يفعل ذلك في براءة إنتحارية فادحة العواقب فيما روى محمد النور كبر من أمر حادثة إحراقه لمجمل آثاره الفنية في لحظة طفح فيها كيل الأسئلة الوجودية. كل هذا المسار المتشعب يؤهل صاحبنا لأن يخرّج تصاويره بفرادة أداتية و مفهومية تستحق الإعجاب.
المهم يازول،
هذه الملاحظات التي تسعى في درب تفاكير المعرض قادتنا للتأمل في التجربة المعارضية المتميزة التي تخلّقت بعيدا عن الخرطوم حول أثر الفنان عبد الرحمن بلية و لا بد لنا من وقفة متأنية لعقلنة تصاوير عبدالرحمن بلية يوم تتوفر لنا الوثائق الأيقونية المناسبة. و أنتهز السانحة لأسأل الصحاب أن يبذلوا ما في حوزتهم من معلومات و وثائق يمكن أن تسهم في توسيع هذا المبحث.و في نهاية التحليل أظن ان تجربة عبدالرحمن بلية ليست التجربة الوحيدة التي تخلّقت بعيدا عن الخرطوم.و أنا أتصوّر أن هناك العشرات من المبدعين المشتتين في أنحاء السودان ممن تعودوا العمل تحت شروط عتمة إعلامية ثقيلة و قبلوها كقدر لا فكاك منه.و أظن أن إضاءة هذا الجزء الغارق من " آيسبيرغ" الحركة التشكيلية تمثل أولوية كبرى لأهل البحث حتى يتيسر لنا عقلنة التحولات الحاصلة في جسم الثقافة التشكيلية في السودان.
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »

العزيز الدكتور حسن موسى
تحيات طيبات
نحن نتفق كثيراً فيما أوردت ولست بصدد ديباجة لفنانين رحلوا عن عالمنا وسيرة حياتهم كما يقرأها المؤرخون ظالمي الفن والفنانين ، بقدر ما نتناولهم بتصورنا أن للفن قضية ويتعين تناولها بكل أشكالها الثقافية و بمنهج نقدي ، ولكن العنوان قد حجب بالفعل الكثير الذي بداخل الملف . من السهل فتح ملف لا تقف الحواجز أمام أفكار كُتابه ، لكن العنوان يتعلق بالملفات التي بداخله بالفعل ويقود إليها مهما تطوف المتحاورون بعيداً . وعليه أرى أنه من حق الملفات بثقل ما تحمل أن تترُك الرضاعة وتستطعم في آنية واضحة تُسهِّل المشاركة والتفاكُر فلولا صدفة لما تعرفت على الكنوز التي تفضلت وتفضل بها المشاركون.
وأرى أن العنوان ليس مصيدة ولكنه يقول عما بباطن الملف ، وفي باطن الملف أشياء أشد خطراً .
للملف الكثير من فرص فتح موضوعات حول جهل مؤسسات الأحزاب عندنا في السودان بقيمة الفن على إطلاقه ، و ملف الصايم لم يستنفد كل أغراضه بعد وهنالك كهوف تنتظر منها هجوم العامة وأنصاف المتعلمين على مؤسسة الفن وفي دُنيانا أمثلة حية حول تشوه مصادر كثيرين ممن نعرف فينهضوا بعاهات ثقافية ربما دائمة من بعد أرذل العُمر ، فلا يستطيعون التغيير ...

وتذكرت أحد أساتذتي في هندسة العمارة الفنان : الدكتور عبد الرحيم سالم وهو شقيق الفنان أحمد سالم ، وقد أقام الدكتور عبد الرحيم سالم معرضاً وعرض لوحاته في إحدى القاعات في لندن منذ سنوات عديدة ... وهو على سبيل المثال يستحق ملفاً إذ هو مختص بالتجميل الطبيعي في مجال الهندسة المعمارية ، ثم غلبته غوايته الفنية فكان هو مدرسة ونهجاً مُتميزاً ...

والتحيات لك ولكل القراء

عبد الماجد محمد عبد الماجد
مشاركات: 1655
اشترك في: الجمعة يونيو 10, 2005 7:28 am
مكان: LONDON
اتصال:

مشاركة بواسطة عبد الماجد محمد عبد الماجد »

سلامات يا أهل الفن

د. حسن موسى

هذا جهد توثيقي رائد ورائع ويدل على نضوج مبكر لما فيه من حفظ لأعمال فنانين كثر. لا بد أن مشروعك الفني بدأ متخطيا الذات (الأنا) وانفتح على هموم الغير (النحن, إذا جاز لي). نأمل أن يجتهد معك في هذا العمل المهم كوكبة من البحاثة والفنانين والمؤرخين . نشكرك كثيرا.
طبعا أخونا كوستا كان صاحب رؤية فريدة وقد زاملته لفترة في الستينيات ومن بعد عرفت أن كوستا ماليث غيّر اسمه للسر ماليث بعد اعتناق الإسلام واتخاذ طريقة صوفية.

الأخ الأستاذ عبدالله الشقليني
حياك الله صاحب الأسلوب الذي سحرني كثيرا وحيرني في أحايين كثيرة. لك علينا فضل لو تذكر لما قررت أن ألج باب الكتابة في الصحف الإلكترونبة, أتذكر رسالتي لك وردك الناصح الأمين. لن أنسى ذلك.
وردت عبارات في مداخلتك الأخيرة آمل أن تكون بعض ظلالها إسقاطات من جانبي أنا لأني لا أتصور أنك قصدت ما بدا في ظاهرها (ولا ينبغي لك لأنا نعرف قدرك شامخا). فأنت لما تقول بـ :


وهنالك كهوف تنتظر منها هجوم العامة وأنصاف المتعلمين على مؤسسة الفن


لا يمكن إلا أن أتصور أنك بتقسيمك الناس لخاصة وعامة قد وضعت نفسك في مصاف الطبقة العلية التي لا يمكنها إدراك حكمة الجمهور الغالب ونظره الثاقب الذي يقعده العوز المادي والتنظيمي عن المشاركة في إحداث التغيير إلا في ساعة غضبة نبيلة. والمسؤولية التنظيمية هذه تقع على المثفين من الأميين وأنصاف المتعلمين والمتعلمين تماما. لا يوجد أي معيار يجعلني أنا أو يجعلك
أنت أو أي شخص آخر في موقع يحكم به على أن في تعليمه تمام وفي تعليم الأخرين نقصان. الفن والسياسة والاجتماع والكتابة والخطابة لا تحتاج لتعليم بالمعنى الذي يفاضل به بين الناس. كل ما نحتاجه هو التزود بالحكمة والصدق والنقاء وحب الناس مع استيعاب للمتوارث في المجتمع من علوم وفلسفات غير مكتوبة وشهب ومصابيح في عريق الفن المحلى بثرائه وتنوعه وفي مستودع الحكمة الذي يغذي المجتمع بما يحفظ تطوره في اتجاه لا يضيع معالمه الأساسية.
لدي ايمان بصدق النظرية التي تقول بأن 90 بالمائة من المعرفة يتكون في مراحل الطفولة الأولى ولا يتفاوت الناس بعدها إلا باقتراب أو ابتعاد من المنطق السليم (وهو فطري) والمبرأ من أغراض الساسة ومن يحملون على الساسة ولكنهم يشتركون معهم في تقسيم الناس إلى جهلة أو متعلمين. التعليم تثقيف لا يزيل الجهالة قط ورب أمي نقي التفكير ادق نظرا وأحذق منطقا من متعلم مثنى وثلاث.
معليش يا خوي لكن والله تقسيم الناس لعامة وخاصة دا ما خاش في راسي أبدا , أما مثقف وغير مثقف فممكن شريطة أن لا يكون المقياس هو التعليم المدرسي لأن لكل مجتمع مناهل و مناهج في التفكير السليم ومعالجة الأشياء (والسياسة, ولنا في أنظمة ما يقال عنهم زورا مجتمعات بدائية, لنا فيه خير شاهد على قدرات عالية على التعقيد والتقعيد وإن لم تكن لهم أبجديات).
المطرودة ملحوقة والصابرات روابح لو كان يجن قُمّاح
والبصيرةْ قُبِّال اليصر توَدِّيك للصاح
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »

العزيز عبد الماجد محمد عبد الماجد
تحيات زاكيات

تحية طيبة لك سيدي ، ولكل ما تفضلت به من إثراء للحوار ، ولك الشكر الجزيل على منحنا أكثر مما نستحق من الإطراء على ما نكتُب ، ولستُ من أهل التواضُع الكاذب ، فأنا أشارك الأحباء هنا وهناك بمثل ما يُقدمون وكلنا نُسهم معكم جميعنا في قضية الوعي بصور مختلفة .
لقد قُمتُ أنا بتكثيف العبارة أو الجُمل التي أطلقتها لأنها تحمل بين طياتها حزم لم تزل مغمورة بشأن الذين يقفون ضد الفنون عامة وفن الرسم خاصة . تلك ملفات لم يتم التحدث عنها ، وفي تاريخ أي منا كيف نشأت إمكانات خلاقة وهوايات مُبدعة في طفولتنا ، وخلال انتقالنا عبر مراحل التعليم المتوسط والثانوي ثم الجامعة ، في خلال كل تلك المراحل تساقطت همم الإبداع كما تساقط المُبدعون وتجد أن معظمهم ( تشيأ ) وخفت مصباح الإبداع من حياتهم وتحولوا أرقاماً ضمن القطيع بينهم وبين الفن ذاك الكائن الراقي ..بيدٌ دونها بيدُ .

كمٌ هائل من السُخرية الواضحة والمُبطنة واجهها هؤلاء المُبدعون من العامة ومن أنصاف المتعلمين وكما تفضلت أنت من بعض المتعلمين وغيرهم وهو باب يحتاج الكثير من التفصيل .
ربما عَبَرت أنت مجموعة هائلة من المفاهيم في حزمة مقال واحد ، ومن الصعب أن نُجيب بتعجل .
هنالك أسئلة وقضايا تفضلت أنت بطرحها وأحاول تفكيكها ليتسنى لاحقاً الحوار معك لأن الحوار وسيلة من وسائل معارفنا و تبادل تجارب بعضنا البعض بثرائها وهي تدفعنا للمعرفة ، وهو أمر حريٌ بنا جميعاً أن نشكر من جعل كل هذا مُمكناً .

وقبل أن نتحدث عن العامة والجماهير يمكنك التفضُل بالإطلاع على ملف ( سيكلوجية الجماهير ) الذي ابتدره الأستاذ محمد حسبو ، وقد تحدثنا عن الجانب السلبي في مسلك الجماهير ، فنحن نعتقد بمثل ما كان هنالك في الأنموذج الإيجابي الذي تحدثنا عنه أعلاه من معرفة ( الإنسان العادي ) فهنالك نماذج سلبية الفعل مما ذكرنا في الجملة التي اقتبستها أنت مما كتبنا ، وسنعودها بالتفصيل لاحقاً .

سأعود للإجابة عن بعض ما تفضلت به ، لأن له علاقة بالمصطلح ،وله علاقة بالتصنيف الذي أوردناه وله علاقة بتقسيم البشر ، وهي مسألة اكتشاف منذ زمان قديم أن الناس ينقسمون طبقات و فئات وأنواع تختلف وتتفق وتتناقض وتتصارع وتتداخل مصالحها وأشواقها كما سنشرح لاحقاً وهنالك أسئلة تحتاج إجابة :
ـ هل بالحديث عن التصنيف هو استعلاء ، وهل الحديث عن وجود طبقات أيضاً كذلك هو استعلاء ؟
ـ هل الفن والسياسة والاجتماع والكتابة والخطابة لا تحتاج لتعليم بالمعنى الذي يفاضل به بين الناس ؟
ـ كيف نصل للحكمة أو الحِكم ؟

وسأعود لأنك فتحت أبواب من الصعب الحديث عنها بتعجُل .
لك الشكر الجزيل مُجدداً
وإلى لقاء
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

آليغوري الغلابة في "صالون الخريف"

مشاركة بواسطة حسن موسى »

المعرض و المغرض7


الأعزاء بيكاسو الشقليني و عبد الماجد
شكرا لكما على النظر المؤازر و على الأسئلة الحديدة
و قد جاء في حكمة (أنسبها افتراءا) لسيدنا ماو عليه السلام " دع ألف باب للريح ينفتح ".


أليغوري الغلابة في" صالون الخريف"


و الأليغوري في التقليد الأوروبي هو المجاز الأدبي أو البصري او السمعي الذي يلخص القيم المجردة كـ "الصفاء و الحقيقة و الإخلاص إلخ" في كليشيهات بلاغية متعارف عليها ،ولم أجد في لغة العربان عبارة تفي بمحمول عبارة الـ " آليغوري"، فمعذرة، لكن المقصود هو عرض تداخل الوضعيات الجمالية و السياسية ضمن تقليد المعرض في السودان و ذلك حسب ما تثبّت ( بالتقادم؟) في الخطاب السياسي غير المباشر لصفوة الطبقة الوسطى الحضرية التي خلّقت من فضاء المعرض حيزا سياسيا عرّفت ضمنه مواقع الفرقاء الإجتماعيين، حسب مصالحها، بما يناسب سعة مواعينها الأيديولوجية.

لقد عرف التشكيليون العصاميون المتقدمون "عصرهم الذهبي" في الفترة بين الثلاثينات و الستينات. بينما عرفت السبعينات و العقود اللاحقة نفرا مميزا من التشكيليين العصاميين المتأخرين الذين شغلوا مقاما أيقونيا وسيطا لم تطاله حركة التشكيليين المحدثين من خريجي كليات الفنون ربما لأنها تجاهلت قيمته و ربما لأنها جهلتها بالمرة. و قد أشرت في السطور السابقة إلى أن هذا المقام الأيقوني الوسيط قد استطاع ـ في جيب النسخة الإيضاحية من التعبير الـ " بدائي"(بريميتيفيزم) ـ استطاع أن يستقطب إنتباه بعض التشكيليين الموهوبين من خريجي كليات الفنون ( السر المصباح و كوستا و موسى أبكر و آخرين) .
لقد أرسى العصاميون الأوائل أسس تقليد لوحة الحامل على مستوى شعبي واسع و طرحوا نتاجا أيقونيا بصريا أثـّث الحيز الثقافي المديني الجديد بما يتماشى مع طلب جمهور لم يعد قانعا بنتاج الأيقنة الريفية التقليدية.
و من جهة أخرى ساهم نتاجهم الموصوف بـ " الشعبية" و " البدائية"،ساهم ـ بحكم تعاقب الأجيال ـ في تأسيس نوع من" مرجعية مضادة":
Contre référence
استثمرها جيل المحدثين، ضمن إلتواء مناورة رسم حدود الهوية.و أقول بالـ " إلتواء"في تدبير الهوية كونه اعتمد منطق التعرّف على الذات المصطنعة بالتضاد مع نقيضها المتصوّر، استثمر جيل المحديثين رسم " العليعثمانيين" كمرجعية مضادة " نفعتهم في تأسيس جمالية صفوية تجهر بإنتمائها لخطاب المعاصرة الجمالية و تتباعد عن اسلوب العصاميين المحليين ،على طموح قومي" سودانوي" لإستلهام جمالية "روح الأمة السودانية" المودعة في ثنايا موروث حضاري صمدي، نافذ و مستمر عبر القرون. أو كما عبّر أحمد الطيب زين العابدين عن فناني "مدرسة الخرطوم" بأنهم " خلقوا عالمهم الفني الخاص ، إذ لم يكونوا معنيين بالحداثة باعتبارها علاقة تغيير فيما يتصل بالماضي و بالتقاليد فمجتمعهم مجتمع استمرارية "(أنظر ورقة أحمد الطيب زين العابدين في ندوة مدرسة الدراسات الإفريقية و الشرقية بجامعة لندن ضمن فعاليات تظاهرة " آفريكا 95"
The Art of the Sudan, the educational dimension.

أنظر أيضا تعليق بولا على مفهوم" الإستمرارية" عند أحمد الطيب زين العابدين في نسخة " جهنم" رقم 10 عدد سبتمبر 1998 فهي افضل من نسخة جريدة " الخرطوم").
في مقابلة مع التشكيلي سر الختم عبد الكريم، من أوائل خريجي كلية الفنون الذين ابتعثوا للدراسة في اوروبا، قال:" حين عدنا من إنجلترى كنا محتارين نرسم شنو؟نرسم زي جحا أو نرسم زي الخواجات؟ و فكرنا في التراث لغاية ما ظهر إتجاه مدرسة الخرطوم دا مؤخرا جدا"( مقابلة مع سر الختم عبد الكريم بمكتبه بوزارة التربية في 23/3/1981). و سر الختم عبد الكريم ليس سوى واحد من جملة التشكيليين الذين تعلموا ـ ضمن ما تعلموا في كليات الفنون الأوروبية و السودانية ـ أن يتأففوا من الرسم على طريقة " رسامي المقاهي".و معهم حق، فمشروعهم أكثر طموحا من مجرد بلوغ جمهور المقاهي . كانوا يطلبون جمهور" الأمة السودانية"، و قيل جمهور العالم بحاله،حلما عصي المنال مكنونا في ذلك المقام الغامض الذي يسمونه " العالمية".أي و الله، فأنت لا تبلي سراويلك على مقاعد الدرس طيلة العمر لتقنع بالترفيه عن رواد دكاكين " البسط و الزحلقة" لدى " الخواجة كوستي لويزو" أو "قهوة الزيبق" أو " قهوة يوسف الفكي"، حاشا و كلا..

ماذا فعل " الأكاديميون" إذن؟هل وقفوا موقفا في فداحة مشروعهم أم هم اكتفوا بالترفيه عن الخواجات العابرين و السياح المقيمين في فنادق العاصمة و مراكزها الثقافية و محافل حزبها "الواحد الفرد" الذي يغيّر إسمه كلما وصل " ضباط أحرار " جدد إلى سدة السلطة في السودان؟ طبعا تساؤلي متحامل ،إلا أنه ـ قبل كل شيء و بعد كل شيءـ مشروع تماما. و إذا لم يكن المقام مناسبا لطرح الأجوبة فهو ضروري لطرح الأسئلة في صدد المنفعة الإجتماعية لكل" هؤلاء الناس" من أولاد و بنات المسلمين الذين يسعون في الأسواق المادية و الرمزية و هم يبطـّقون حضورهم بهذه الصفة العجيبة: صفة الفنان التشكيلي التي تسوّغ لحاملها مشروعية تأسيس الجماعات و المدارس و الأحزاب ( حزب الفن؟ )والخوض ـ بتبعة أو بدونها ـ في ما يحلو له من أسئلة المشهد الإجتماعي من أسئلة الهوية ثقافية والتمازج العرقي والمصالحه و الحرب الأيديولوجية لغاية تقسيم للسلطة و الثروة الرمزية و المادية و ما يترتب عليه من قبض و بسط و جمع و استبعاد و استعباد و قتل و حرق و نهب و إغتصاب إلخ...
التشكيليون العصاميون ـ بحكم الخصوصية التي تطبع التاريخ المهني الشخصي لأي منهم، فهم لم يعتبروا أنفسهم أبدا كـ " جماعة" أوكـ : تيار" أو كـ " مدرسة" ذات هوية فكرية/فنية مميزة.و كل واحد من هؤلاء العصاميين كان يعتبر نفسه كمجرد فرد يمارس " صنعة" يتعيش منها ـ أو يدعم بها سبل كسب عيشه ـ بدون أدنى نزوع تفسيري أو تبريري و بدون جهد تنظيري غايته عقلنة الممارسة ضمن أفق إجتماعي تاريخي.و أظن أن الإمتناع عن التنظير الجمالي و الحرفي عند العصاميين يكاد يكون السمة المشتركة الرئيسية التي تميزهم عن غيرهم من التيارات التي ولدها تقليد الفن التشكيلي الحديث في السودان.و هو أمر مفتاح فهمه قد يكون في أن الحاجة للتفسير و التبرير الإجتماعي و الفني لم تكن واردة ضمن العلاقة التي بنوها مع جمهورهم.و هي علاقة قامت على بداهة العرض الذي يلبي طلبا عفويا عجالته لا تتيح براحا لمداولة نظرية تقتضي أدوات و مناهج مفهومية لم تكن متوفرة في ذلك الظرف الحضري الوليد. لقد استشعر العصاميون حاجة الجمهور الحضري للأخيلة الإيقونية الجديدة فاجتهدوا في تلبية الطلب لجمهورهم المسلم الذي كان يتلقف الغذاء الأيقوني المثير حال صدوره بدون أي تردد قد يصدر من جهة ذاكرته الدينية الملغومة بمنع التصاوير (لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة).
و من جهة أخرى فمن الضروري التنويه بالقرب الثقافي الحميم بين التشكيليين العصاميين و جمهورهم.ذلك ان جمهور الثلاثينات الذي كان يؤم منتديات المدينة لم يكن قد خبر تلك الهوة الإجتماعية و المفهومية التي حفرتها ملابسات الفرز الإجتماعي لاحقا بين " شعب" المدينة الذي أنمسخ " رجل شارع عادي" و فنانيها الذين صعّدهم الفرز الطبقي ( أبو دبلومة) إلى مقام مثقفي" الصفوة" الذين يحافظون على مسافة أمنية من " الشغب"( و التصحيف من عندي) و يتأملون تراثه و يستلهمونه و قد يطورونه عند مقتضى الحال. حال المصلحة الطبقية.و هكذا تعودنا ـ من علياء ضمير هذه الجماعة الطبقية "الفنية" المريبة ـ تعودنا أن نتحدث باسم" الشعب" عن " تراث الشعب" و" ثقافة الشعب" و " ذاكرة الشعب" من موقع المراقب الخارجي المحايد.و أحيانا من موقع" فاعل الخير" الذي يملك أن يجود بما يملك (و بما لا يملك) من أجل الشعب.و " الشعب" في أدب التشكيل السوداني فولة جبّارة يحتاج فحصها لفريق بحاله من الكيّالين البواسل و سنعود لها في مقام آخر.

ثمن الفن..رمزي؟؟

واحدة من المهام الجليلة التي أنجزها العصاميون تتمثل في كونهم ثبّتوا ممارسة التشكيل ك" صنعة" مثل غيرها ،على الصعيد الشعبي، و في وسط اجتماعي كان يجهلها إن لم يكن يتوجس منها بدوافع دينية: ( أنظر الحديث:" أشد الناس عذابا يوم القيامة هم المصورون").
و على الصعيد المادي لمهنة التشكيلي فهم أرسوا أسس " سوق" واقعي للجهد التشكيلي، سوق سلطة تحديد السعر فيه في يد المشكّل فيقدره على مواصفات موضوعية مثل زمن العمل و نوعيته و قيمته و قيمة المواد إلخ.و في وسط هؤلاء "الصنايعية" لم يكن هناك مكان لنوع العبارات الغامضة من شاكلة:" السعر الرمزي" أو : القيمة الأدبية" أو " العمل الفني لا يقدر بثمن" إلى أخر الأدبيات الغميبة التي افسدت على الفنانين تجارتهم يالتغييب المتعمد لكل الحدود و المواصفات الموضوعية للعمل الفني كـ " عمل" مادي له مقابل مادي في سوق العمل الفكري.
كان العصاميون بعيدين تماما عن أوهام اللاحقين من التشكيليين المثقفين ، ذلك أنهم كانوا يعتبرون أنفسهم حرفيي صور فحسب.و في هذا المشهد، فالـ " فحسب" تشرفهم كفئة مبدعة و تؤهلهم للإندماج، كفئة عاملة، ضمن آليات الإقتصاد الشعبي.و هم يفعلون ذلك بعفوية و بيس يحسدهم عليه الرعيل الأول ( و الثاني و الثالث و العاشر) من خريجي كليات الفنون الذين تورّطوا في" بيزنيس" تعيس، باعوا فيه و اشتروا، باسم الفن، بمال الشعب ( الميري) في معارض الصالونات المريبة. " صالون الخريف" ، كان إسم أول معرض لـ " إتحاد الفنون الجميلة السوداني" بتاريخ 17 يونيو 1956 .بعد ستة أشهر من إعلان الإستقلال.و قد ساهم في المعرض " أكثر من عشرين فنانا من أعضاء الإتحاد الذين ينجاوزون المئة(في ذلك الوقت)".." و قد ضم المعرض 63 لوحة ،معظمها بالألوان الزيتية، بجانب بعض اللوحات بالألوان المائية و ألوان الباستيل.(أنظر صحيفة " السودان الجديد" 18 يونيو 1956).
و قد لاحظ محرر صحيفة " الأيام" عشية الإفتتاح " أن الغلابة الزائرين لهذا المعرض قد رحّبوا به جميعا و امتلأت نفوسهم حسرة لأن الأسعار باهظة، أقلها خمسة جنيهات.و ستظل جدرانهم عارية معطالا كالشمس (كذا) لأن جيوبهم خلاء بلقع.. و لعل المعرض الشتوي الذي وعدنا به إتحاد الفنون الجميلة أن يكون أرخص صورا")" الأيام" 18 يونيو 1956).
على أنه ، خلافا لما قد يتخيله القارئ اليوم،فقد نجح فنانو "معرض الخريف" ـ رغم عوز الغلابة ـ نجحوا في بيع اغلب المعروضات. فمن اشترى بباهظ السعر؟
كتب محرر " السودان الجديد":
"..ابتاع السيد رئيس مجلس السيادة،(عبد الفتاح المغربي، و هو الذي قام بإفتتاح المعرض)،ابتاع ثلاث صور هي" البرميل الأزرق" من رسم الأستاذ شفيق شوقي، و صورة لـ " دنقلا" لصلاح عوض و صورة لـ " سواكن" من رسم عثمان عوض.
و ابتاع السيد رئيس مجلس الوزراء ثمان صور ، من بينها صورة لسيادته رسمها الأستاذ يوسف بلال.و أبدى السيد محمد عثمان يس،وزير الخارجية، رغبته في شراء عدد كبير من الصور لتوزيعها على مكاتب التمثيل السياسي للسودان. و اشترى القائم بأعمال السفارة الهولندية رسما لـ "فتاة سودانية" من إنتاج حسن الهادي.".
غير أن محرر "السودان الجديد" لم يقل ما إذا كان السادة رعاة الفنون الصناديد قد دفعوا ثمن الفن من حر مالهم أم أنهم اشترو بمال الشعب بحكم مناصبهم؟ طبعا من الصعب تخيّل السيد وزير الخارجية يشتري "عدد كبير من الصور لتوزيعها على مكاتب التمثيل السياسي للسودان" من حر ماله.كما أنه يصعب تخيل السيد رئيس مجلس الوزراء يوقع شيكا ، من حر ماله، لشراء ثمان لوحات دفعة واحدة، و إن كان" من بينها صورة لسيادته..".
مرة ،في مقابلة أجريتها عام 81 مع أستاذنا بسطاوي بغدادي، (رسام من أوائل خريجي كلية الفنون و عميد سابق للكلية)، قال بسطاوي معلقا على شراء اللوحات من المعارض التي كانت تقام في العاصمة:" معظم الشخصيات السودانية التي عرفت بأنها تشتري أعمال فنية من المعارض ، كانوا بيشتروها للدولة بحكم مناصبهم. كانوا بيشتروا للقصر مثلا. و فيه مجموعة كويسة، و لوزارة الخارجية و غيرها من المؤسسات الحكومية".(مقابلة مع بسطاوي بمكتبه بقسم العلاقات الخارجية بوزترة التربيةـ الخرطوم ـ 16 مارس 1981).
و هكذا يمكن القول بأن رعاية الدولة السودانية للفنون من خلال إقتناء أعمال الفنانين، قديم بعشرات السنين ، قبل ظهور شعبة المقتنيات في المجلس القومي لرعاية الآداب و الفنون، و قبل ظهور مصلحة الثقافة. إلا أن سياسة المقتنيات الفنية كانت تتوقف كثيرا على ذوق المسؤول الحكومي الشخصي. و على رغبته في عكس صورة "جميلة؟" عن السودان للأجانب. أما شعب " الغلابة" في بازار الفن العاصمي فلم يكن نصيبهم سوى الحسرات. إذ لم يفكر أحد أبدا في بناء متحف للفن الحديث أو غاليري وطني يمكن للشعب السوداني فيه أن يتأمل صورته في خلق الفنانين السودانيين.لقد ظل شعب الغلابة ينتظر ـ , أظنه سيظل ينتظر عقودا أطول ـ قبل أن يكف عن الحسرات و هو يرى الأثار الفنية التي " لا تقدر بثمن" تباع و تشترى بحر ماله لتلزم دواوين حكام غلاظ لا يدرون شيئا من أمر الواو الضكر.و مغزى كل ذلك أن " ناس الكلية" كانوا يبيعون نتاجهم للشعب أيضا و لكن بطريقة " غير شعبية " على الإطلاق.و هذا واحد من الفروقات " البسيطة؟" بينهم و بين التشكيليين "الشعبيين".
سأعود
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

المغرض 8

مشاركة بواسطة حسن موسى »

المغرض8

معرض الثقافة


أحمد سالم فنان في شكل جسر:
من بين العصاميين "العليعثمانيين" يبدو الفنان أحمد سالم كأفضل وسيط بين طريقتين في التشكيل.فهو تارة تشكيلي " مثقف" ضل طريقه بين العصاميين، و هو طورا عصامي متغرِّب بين "ناس الكلية"، نوع من " خاتف جيلين" كما قد تعبر البلاغة الشعبية.و أعماله التي تحمل سيماء العصاميين ، في الظاهر، إنما تنطوي على قدر معتبر من الفضول التقني و سعة في الحيلة التشكيلية تتجاوز ، من بعيد، الحدود التي وقف عندها عدد كبير من العصاميين "العليعثمانيين ", و لا عجب فسيرة أحمد سالم المهنية لا تشابه سير أصحابه" العليعثمانيين".و هو و إن اعترف بفضل علي عثمان عليه و على أبناء جيله في عبارته:" علي عثمان هو اللي علمنا كيف نرسم و شنو النـّرسمه"( في مقابلة معه بداره ببحري ـ يونيو 1978). فهو لم يتوقف عند" إرشادات" علي عثمان ، إذ أتيحت له الفرصة لتعلّم بعض تقنيات الرسم بشكل مدرسي منظم ، بالذات في الفترة التي تلقى فيها تدريبا مهنيا كـ " رسام فني" أيام عمله في وزارة الري بودمدني. على أن أحمد سالم، حسب معرفتنا له، استفاد لأقصى حد ـ حرفيا و فكريا ـ من صداقاته الحميمة مع عدد كبير من التشكيليين الأصغر سنا.الأمر الذي يجعل منه " عصاميا تقريبيا" عمله أقرب لأسلوب عمل " ناس الكلية" منه للعليعثمانيين.ذلك أن سماحة روحه الجمالي المنفتح على التجديد و قدرته على الحوار مع الآخرين مكّناه من أن يكون جسرا بين جيلين من التشكيليين مثلما مكناه من مواصلة الرسم و العرض بدون إنقطاع من الأربعينات للثمانينات.و خصوصية الفنان أحمد سالم تتمثل في كون الرجل الذي بدأ مشوار الفن مع العليعثمانيين ظل يواصل مساره الإبداعي مع جيل أولاده(إبنه عادل تخرج في كلية الفنون في منتصف الثمانينات).
لقد ولد الفنان أحمد سالم في 1927 في مدينة ودمدني، و أقام معرضه الفردي الأول ـ الذي يعتبره هو أول معرض تشكيل في تاريخ حركة التشكيل الحديث في السودان ـ في عام 1952 بقاعة" دار الثقافة " بالخرطوم. و قد أكد لنا أحمد سالم هذا الأمر في مقابلة معه أثناء المعرض الذي أقامه لأعماله بصالة " أبوجنزير" في يونيو 1976. و رغم أن بعض خريجي " مدرسة التصميم" الذين كانوا حاضرين في العاصمة منذ عام 1952 ، يمكن أن يعارضوا زعم أحمد سالم بغيره.يبقى أن الشيء المهم في مسألة معرض أحمد سالم بدار الثقافة هو أن معرض الرسم بدأ يتأسس على نحو جديد كشأن " ثقافي" و يتوجه لجمهور نخبوي من مثقفي العاصمة الذين يرتادون " دار الثقافة" خصيصا ليشاهدوا هذا الحدث الثقافي الجديد، بدلا مما كان سائدا عند الرواد العصاميين الذين كانت أثارهم تتوفر في أمكنة مدينية يرتادها الناس لأغراض أخرى ليس بينها بالضرورة مشاهدة العمل التشكيلي .
في السنوات التي أعقبت معرض دار الثقافة،و مع وصول الدفعات الأولى لخريجي "مدرسة التصميم" بدأ هذا الشكل الجديد من أشكال الإتصال الجماهيري يتجذر في الحياة الثقافية المدينية و أخذت المعارض تتنوع بما يتجاوز شكل لوحة الحامل.و بين نهاية الخمسينات و بداية الستينات بدأت الحواضر السودانية تكتشف معارض النحت (عبد الرازق عبد الغفار) و معارض الخزف ( نصيف اسحق جورج في المركز الثقافي الأمريكي) و تعود الجمهور على طقوسية هذه التظاهرة الثقافية الجديدة : فالمعرض يقام لعرض" الثقافة" ، ذلك ان "الثقافة" ضرورية لرفعة الوطن و لتنمية المجتمع إلى آخر تعاليم آيديولوجيا طبقة وسطى حضرية تستمد شرعيتها السياسية ( دوائر الخريجين) من شرط استنارتها الثقافية النسبية المتحصلة من واقع إمتيازها الإجتماعي.
و بذريعة الثقافة و التثقيف المتوجه للشعب الأغبش ـ و قيل " رجل الشارع العادي" تتحرك الأجهزة الثقافية و الإعلامية للسلطة لتحتفي بالمعرض كوسيلة عالية الكفاءة في تثقيف الجماهير. و قد يبلغ الإحتفاء الرسمي بوسيلة المعرض حد تحفيز العارضين ماديا بشتى الأساليب.
و قد كان قيام المسؤولين السياسيين الحكوميين بشراء أغلب معروضات معرض " صالون الخريف" في عام 1956 (أنظر الايام 18 يونيو 1956) أول مؤشرات أنتباه السلطات الوطنية للبعد السياسي للظاهرة الفنية الحديثة في تعبيرها المعارضي.
و قد تم تقنين الاستخدام السياسي لوسيلة المعرض بشكل حاسم، كما يتمثل في استقطاب الفنانين و استخدامهم في بروباغاندا النظام ، تحت نظام مايو ، و ذلك من خلال الأجهزة الثقافية الرسمية كالمجلس القومي لرعاية الآداب و الفنون و مصلحة الثقافة.فقد نظمت هذه الأجهزة الرسمية تقديم العون الإعلامي و التقني و المادي للفنانين العارضين كجزء من السياسة الرسمية للدولة.و في "العهد الذهبي" لمؤسسات الرعاية المايوية تم تكوين مجموعة رسمية من مقتنيات الدولة قوامها الأعمال التي كانت إدارة شعبة الفنون في المجلس القومي (أو في مصلحة الثقافة) تشتريها بشكل منتظم من الفنانين الذين دعمت الشعبة معارضهم.
و لا بد من وقفة متأنية عند الأسلوب الذي كانت أجهزة الثقافة المايوية تدبر عليه شؤون رعاية التظاهرات التشكيلية. ففي ثناياه تتكنّز مفاهيم مهمة في صدد موقع الفنان في الأفق السياسي للطبقة الوسطى العربسلامية في السودان.
سأعود
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

فيض إعزاز

مشاركة بواسطة حسن موسى »


ياسر عبيدي كتب:

عزيزى الأستاذ .. حسن موسى

لا أدرى من أين و متى إبتاع الوالد هذه اللوحات الأربعة – لم أتمكن من عمل "أبلوود" للوحات عن طريق موقع "سودان فور أوول"، الرجاء إرسال عنوان "ياهوو" أو "هوتميل" لأتمكن من إرسالها لك - و التى زُيّلت بتوقيع (زين العابدين على)، و لكنى أذكر جيداً يوم قام مُحتفياً بتعليقهم على جدران المنزل .. بل أعتقد أنه قام بـ"بروزتهم" بنفسه أو قام بتحسين "بروايزهم" فى فترةٍ ما بنقلهم من القديمة إلى الجديدة، و قد داوم عبر السنين على صيانتهم من التلف، .. فإذا كان (زين العابدين على) يمكن تصنيفه ضمن (التشكيليين العصاميين) .. ذلك يعنى أن تفسير إعجاب و تعلّق الوالد بلوحاته - بالذات لوحتى القطار و البنت و الساقية – نجده فى معنى ما أشرت إليه فى الجملة:
{أن النجاح النسبي الذي ما يزال يلاقيه بعض عصاميي حواضر الأقاليم المتأخرين إنما يكشف طلبا شعبيا جادا على نوعية النتاج الأيقوني الذي يطرحونه لفائدة قطاع من الحضريين الذين لم يجدوا ضالتهم في نوع النتاج الأيقوني المعاصر، سواء في طرفه الأوروبي أو في طرفه المستنبت محليا على يد الفنانين السودانويين الذين خرجوا من تلافيف تقليد الرسم الأوروبي.}

أبعث لك بلوحات (زين العابدين على) هذه علّها تكون ذات فائدة لأهل البحث فى الحركة التشكيلية فيما لو كان تصنيفه يدخل ضمن أولئك اللذين تصوّرتهم فى قولك:
{ و أنا أتصوّر أن هناك العشرات من المبدعين المشتتين في أنحاء السودان ممن تعودوا العمل تحت شروط عتمة إعلامية ثقيلة و قبلوها كقدر لا فكاك منه. و أظن أن إضاءة هذا الجزء الغارق من " آيسبيرغ" الحركة التشكيلية تمثل أولوية كبرى لأهل البحث حتى يتيسر لنا عقلنة التحولات الحاصلة في جسم الثقافة التشكيلية في السودان.}

و قد أوافيك بلقاء و صور لرسومات (تشكيلى عصامى) آخر لا زال يمارس نشاطه فى الخرطوم (2)

و أقبل فائق إعزازى و تقديرى




الأخ ياسر عبيدي
فرحتي كبيرة برسالتك الكريمة و حكاية الوالد مع كنزه الأيقوني إنما تدل على قدره الناس في بلادنا على الوفاء بفيوض الإعزاز الجليلة تجاه المبدعين المقيمين في عتمة اعلامية متصلة دون ان يمنعهم شرط العتمة من تأسيس العلاقة على قاعدة إحسان العمل. أو كما جاء في حكمة مولانا ملتون قليزر" آرت إز ويرك"
ايمان شقاق
مشاركات: 1027
اشترك في: الأحد مايو 08, 2005 8:09 pm

الفنان الفهيم

مشاركة بواسطة ايمان شقاق »


سلام وتحية للجميع،
فنان آخر من الفنانين "العليعثمانيين"، لكنه يختلف عنهم بمواضيعه التي لا ترتكز على النساء كموضوع أساسي في رسوماته. هو عم الفهيم، للأسف لا أذكر إسمه بالكامل. كان (وربما لا يزال) يشتغل كعامل بكلية الفنون ثم بكلية التربية قسم الفنون، له أعمال زخرفية في منحاها تعتمد على الخطوط والنِقاط والاشكال الدائرية والحلزونية والمثلثات، يشتغل على الدمورية المشدودة على الخشب بألوان البوهية غير الزيتية. أعماله متداخلة العناصر والاشكال بحيث لا يمكن تحديد موضوع اللوحة بسهولة ويسر، فتتزاحم عناصرها وتحدها خطوط حولها كما الامواج، وبداخلها زخارف من كل نوع ولون، يستخدم ألواناً فاقعة ومتنوعة بجانب الأبيض والأسود.
في إعتقادي أن أعماله تشبه لحد ما أعمال الفنان النيجيري توينز سيفن سيفن، لكن في أعمال توينز بالإمكان تمييز موضوع اللوحة وما بها من مخلوقات، ناس وأشياء رغم ازدحامها.

وعلى سيرة أستاذ السر المصباح، درس بالمدارس الثانوية لسنوات طويلة، كما درس بقسم التلوين لفترة منذ أن دخلنا القسم وأعتقد حتى وفاته في شهر يونيو من العام الماضي. عُرف بالعطف ولين الجانب، يرى في كل الاعمال مهما كانت درجة عدم إتقانها أمل في التقدم. كان محب لألوان الباستيل وقد حبب فيها عدد من طلاب التلوين في ذلك الوقت.


... و قيل جمهور العالم بحاله،حلما عصي المنال مكنونا في ذلك المقام الغامض الذي يسمونه " العالمية".أي و الله


الاقتباس أعلاه عبر عني تماماً، فكلما مرت علي كلمة أن فلان أو علان "الفنان التشكيلي السوداني العالمي" في الجرائد وغيرها من المنابر السودانية، كنت اتعجب فيها وفي "المجاملة" وربما "الكرم السوداني" بتكبير الكيمان والألقاب، وأظنها تعني فيما تعني أن أي مشاركة أو معرض خارج السودان، فيها شبة انك "فنان عالمي"!! وأظنك يا حسن موسى محسوب في قائمة الفنانيين التشكيليين السودانيين العالميين، والله أعلم.

تحياتي
أضف رد جديد