سقوط البراءة في زمان الحديد – الحضارة ..

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

سقوط البراءة في زمان الحديد – الحضارة ..

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

سقوط البراءة في زمان الحديد – الحضارة ..

(محاولة لفهم قصيدة "التجوّل بين المزامير والموت في حديقة الذّهول" لمحمد محيي الدين باعتبارها "وحدة إضاءة").

***

لم ألتق بالشاعر السوداني الشاب المجدد حقاً محمد محيي الدين آن كتابة هذا المقال ولكنني تعرفت على إنتاجه الشعري من خلال ملف نشره الشاعر السوداني محمد نجيب محمد علي في صفحة "المساحة الأدبية" بمجلة الإذاعة والتلفزيون والمسرح لرابطة الجزيرة للآداب والفنون فهو من شبابها، ثمّ ثانياً من خلال الملف الذي نشره د. خالد المبارك في ملحق صحيفة "الصحافة" السودانية الثقافي لذات الرابطة، وأخيراً عبر مجلة
"الثقافة السودانية" التي نشرت القصيدة مادة هذا النقد في عدد أغسطس من العام 1980م.

لا أدّعي هنا بأني أول من كتب شيئاً عن محمد محيي الدين فقد سبقني إلى ذلكَ رفيقي في "جمعية الصّحو الأدبية" أسامة الخوّاض الذي خصّصَ جانباً من مقاله (محمد محيي الدين – أو الحبُّ في زمن الفقر)، المنشور بملحق "الصحافة " الثقافي، مؤخَّراً، للحديث عن الخصائص الفنية لشعر الشاعر. أنا هنا لا أتناول هذا الجانب في هذه القصيدة (التجوُّل بين المزامير والموت في حديقة الذهول) بل تركيزي هو على فهم هذه المحاولة بوصفها "وحدة إضاءة" لشيءٍ مما يجري في الواقع الاجتماعي اليومي، فكلُّ قصيدة- كما عرّفها النقد السايكو– سوسيولوجي خصوصاً– هي "وحدة إضاءة" لشيءٍ داخل الذات أو في علاقتها بمجتمعها و"الآخرين" .. على هذا الفهم تتأسّس خاطرتي في هذا المقال.

المقطع الأوّل:-

في بدء القصيدة يفجؤنا الشاعر ببطاقةِ تعريفٍ لمناخه النّفسيِّ الدّاخليِّ ولسباق الآخرين اللاّمبالين حيثُ سلطة
"سيف علي الكرّار" أو السعي من أجل الرزق وحيثُ السلطة لـ"القبضة الماردة".

يُضَمّن المقطع شيئاً من الواقع اليومي الرتيب والفاجع أيضاً، فالمذياع يأتي مستنسخاً ذلكَ ببرودٍ ولا اهتمامٍ كما كلّ يوم:- "المدافع تثقب أثداء كلِّ نساءِ العرب، إنّ بيروت عاريةٌ بالدّماء تستحمُّ، وقنبُلةٌ شطرت خِصرَ إفريقيا ........ و"جمّاع" مات .. الخ .. ". ومن هذا المقطع يُنْتَقَلُ بنا إلى وصفِ الرّعب والزّلزلة التي أيقظها ذلك النبأ "جمّاعُ مات" في ذاتِ الشاعر، فرعبُهُ كان مفاجأة بينما (الشّوارع عادية)، فهي لا زالت في لامبالاتها القاسية – أي ظلّت جموع (سبل كسب العيش) في لامبالاتها القاسية رغم النّبأ العظيم المذهل.. ثمّ من هناكَ إلى تأكيد سقوط الثقافة والتنوير وسط السّاعين وراءَ اللقمة حيثُ يُكرّر الشاعر صرخة مصطفى سند* في "بحره القديم" ضدّ "اللَّا ثقافة " المتحكِّمة فينا إدارياً وسياسياً واجتماعياً في جملةٍ واضحة الإشارة:- "يسقط إعلان معرض سوق الكتاب، من الحائط الأصفر الوجنات". وإزاءَ لا مبالاة "الآخر" بسؤاله عن ذلكَ الذّاهل "جمّاع"، عن ذاكَ الشاعر المتنقّل الرومانسي، عن ذاكَ الذي كان– عبر خياله الخلاّق– سفينةً للتنقُّل البديع ومُقابلته بعيونٍ (ذابلة) ردّاً على ما سأل عنه، يُدين الشاعر هذا الموت في الشعور (تلكَ الغفلة الروحية، إذا استعرنا تعبيراً صوفياً) على أنه دلالة على انتصار العقل النّفعي على فعل العشق أو العلاقة العاطفية الغنية مع الحياة. في زمنٍ كهذا، يقولُ الشاعر، إنّ جمّاع كان من غنّى للعشق ولم تستوعبهُ الهيئةُ المغريةُ لامتلاك "القبضة الماردة"، كما ولم يُدْمجُ في عصرٍ فيه (الحديدُ جسارة والبنوك–النقود حضارة). فقد مثّل أنشودة صفاءٍ في زمنٍ من ترابٍ و دونيّةٍ، أي:- "باباً جديداً، لمنسربِ الضوء/ حيثُ الظّلام تسربل بالموت/ غطّى عيون البيوت/ بأرديةٍ من تراب". على حين تواطأ الآخرون مع سلطةِ "القبضة الماردة" (الطّوابق الصاحية التي تتسلّح) ومع تعهُّر المدينة وزيفها وادّعاءاتها الأخلاقيّة الفارغة من أيِّ محتوىً إنسانيٍّ إيجابيٍّ:-

باسم إرجاع صوتك
كانت تُوزّعُ بعضَ الدّفاتر للمحسنين ..
وكانوا يلُمُّونَ باسمِ ذهولِكَ باسمِ جنونِكَ
أحذيةً ونقوداً وأدويةً
للمجانين والشعراء
تُوَزِّعها في المصحّاتِ –
تنشُرُها في الشوارع
عاهرةٌ – مدّت الكأس – للعائدين من القبر
بعد رحيلك ..

"العائدون"، في هذه القصيدة، يشتكون من انهيار القيم وموت البراءة، فالسّماء "الجَّمَّاعِيَّة" التي "استعصمت" ببعدها، بنقائها وخلوصها عن (عالم الكون والفساد)، قد غدت منها العمارات أقوى ولحقها رُكامُ التّلوُّث الأرضيّ (بيئياً وروحياً) ففقدت بكارتها بفعلِ عدوانيّةِ العصرِ الخُسْرِ و"جسارة" الحديد.

المقطع الثّاني:-

الرفاق القُدامى يتكلمون هنا عن الفن والذهول (عن حالةِ جَمَّاع) فيفتُونَ أنَّ خلاص الفنان إما في الفنِّ ذاته
(في روعةِ الفنِّ الأصيلِ الذي يُحيلُ العفنَ الجّاري مناراتٍ، قمم"، كما عند شاعرنا النور عثمان أبّكر*؛ أو في "التجوّل بين المزامير واللون"، كما عند محمد محيي الدين ).

أو في الذِّهول:- وهو ردّ فعل اللاوعي ضدَّ العالم القاسي. فكما آمنَ من قبل "لافكرافت" بأشباحه وأوهامه وأحلامه وأصرَّ على أنّها حقيقة، رغم ملامسة الواقع الحادة في برودتها، آمنَ جمّاع بذهوله، بانتصار الحُلُمِ الذي هو (بنفسجةٌ في جحيمِ المكان) على زمانِ سقوط الشُّعراء أصحاب الكلمة التي هي (شرف الرب)، كما يقول هاشم صدّيق*، وسقوط الغناء الطَّلاقة حيثُ النقود – الحجارة تنمو والحديدُ حضارة.

المقطع الثالث:-

في هذا المقطع نشهد موت المحبة – الطهر وسطوة عالم فيه المحبة ليست "حلماً طفلاً" بل عقداً يتمُّ عبر البنوك وعبر الصِّكوك إذ أنَّ المواقيت هي (مواقيت عرض البذاءة) التي يندحر فيها الخيال الفنّي "الخلاصيُّ" ويبقى زبدُ الاستهلاكِ العابر الزّائل.

تُختَمُ القصيدةُ– في "خرجةٍ " منسجمةٍ مع ما تقدّم– بالدّعاء عسى أن تُفتح لنا نافذةُ الخلق التي تهبنا حرية ً خالصةً (وإن تكُن آنيّة) من الذهول (الضياع النّفسي) أو الموت (تلكَ الأُرجوحة المُلغِزة). ذلكَ لأنَّ لحظةَ الخلق هي وحدها الكفيلة بإيقاظنا ومدِّنا بنبعِ حياةٍ ثرٍّ بالأحاسيسِ، الجّمالاتِ والألوان. قد يقولُ بعضُ مُرْهَفِيْنَا أنَّ الخلقَ، رُغم ما به من تجاوزٍ لليوميِّ (أو العاديّ)، هو أيضاً مُنْطَوٍ على مُعاناةٍ وكَبَدٍ مثَلَهُ في ذلكَ مَثَلُ أيِّ فعلٍ معاشيٍّ آخرٍ. لكن شاعرنا يرد على ذلكَ بأنَّ "الانتحار"، الذي هو عنصرٌ في الخلق، يختلف عن أيِّ انتحارٍ آخرٍ أو معاناةٍ أُخرى في كونه (انتحاراً جميلاً)، وفي أنّهُ خاصٌّ وفريدٌ وعانٍ للشاعرِ–الخالقِ وحده دونَ الآخرين اللاّمُبالين أو (العاقلين، فحسب). فالأخيرُ– وليسَ غيرُهُ– هو من يُثمِرُ (انتحارُهُ) أو (كَبَدُهُ) إبداعاً سمحاً وعطاءاً لا غرضِيّةَ فيه:-

فيا لحظةَ الخلقِ عودي
تعالَى
إلى النّبضِ عودي
تعالَى
إلى النّبعِ في داخلي
مزِّقيني
فوحدي، انطلقتُ
انقسمتُ
ارتفعتُ
احترقتُ
فلا تهجُرِيْنِي

وختامهُ يكونُ الدُّعاءُ ألاّ تهجُرِيْنا يا قدرةَ البوحِ الجّميل.

[align=left]31 أغسطس، 1980م.
[align=left]إبراهيم جعفر.

• شعراء سودانيّون منمازون.
• من مسودّة كتابي الموسوم استبصارات (مجموعة رؤى وتأملات نقدية كُتب غالبُها فيما بين عامي 1978 و1985).
صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

...
عمر عبد الله محمد علي
مشاركات: 514
اشترك في: الاثنين يوليو 25, 2005 7:53 am

مشاركة بواسطة عمر عبد الله محمد علي »

[size=24]
يا إبراهيم، سلام ومعزة..

شكرا على الكتابة المعتقة.


عمر
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

قريتها زمان؛ زمان المنبر ده يا إبراهيم. وأعتقد أنني كنت أفكر في كتابة تعليق. للأسف لا أتذكر فحوى ذاك التعليق المزمع. ولغير للأسف يقيني من أنه كان - وسيظل - يتضمن محبة لهذا التأمل النقدي البصير.
أضف رد جديد