صيد النجوم!...حكى

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عدنان زاهر
مشاركات: 287
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:52 pm

صيد النجوم!...حكى

مشاركة بواسطة عدنان زاهر »

صيد النجوم!...حكى

البحيرة الصغيرة تقع شمال المدينة، يستغرق الوصول اليها عن طريق عربة خاصة، حوالى ثلاثين دقيقة. اما عن طريق المواصلات العامة فالرحلة تستغرق ساعة و نصف. عندما تذهب اليها عن طريق المواصلات العامة، يستوجب عليك أن تقطع مسيرة عشرة دقائق على الاقدام و انت تحمل على ظهرك كل معدات الصيد فالبص لا يصل الى شاطئ البحيرة.
استعدت انفاسى اللاهثة، بدأت اتأمل المكان، فانا لم أحضر هنا للصيد من قبل بل تعرفت عليه عن طريق الشبكة الالكترونية. المناظر الطبيعية مذهلة، اشجار خضراء تظلل معظم المناطق، أنهر صغيرة متفرعة عن البحيرة، البط والأوز يسبح فى دعة و اطمئنان و لكن طيور النورس تصيح طوال الوقت بلا خطر داهم، مما يبعث التوتر فى النفس. لافتة كتب عليها بخط بارز (لا تطعم الطيور حتى لا تغير عاداتها و تستقر فى المكان). تداعى الى ذهنى مقطع من قصيدة أمل دنقل "الطيور":
و الطيور التى أقعدتها مخالطة الناس،
مرت طمأنينة العيش فوق مناسرها......
فانتخت،
بأعينها فارتخت،
و ارتضت أن تقاقئ حول الطعام المتاح
ماالذى يتبقى لها....غير سكينة الذبح
غير انتظار النهاية.
جلس الصيادون فى خط مستقيم على طول الشاطئ و صناراتهم داخل المياه، ينظرون بتركيز عالى فى عوماتهم ، تتحرك أفواهم تمضغ شيئا لم أكتشف سره. لاحظت أن اكثر الجالسين من الصينين، توكلت على الحى القيوم "انحشرت" وسطهم قاذفا بصنارتى فى مياه البحيرة الساكنة. انقضى زمنا طويلا و العوامة لا يطرف لها جفن .. كأنى اصطاد فى حوض للغسيل أو حمام للسباحة!
ألم بى شئ من الاحباط و الملل قلت - و أنا اعلم أن كلماتى تحمل شحنة من التمييز- (هؤلاء الصينيون لا يحطون بارض الا و قضوا على الاخضر و اليابس بها.....حتى قيل انهم ضايقوا ستات الشاى فى شوارع الخرطوم )!
اخترت مكان قصيا قصدته مرددا (الخلا و لا الرفيق الفسل). عندما وصلت الى هنالك، وجدت صياد صينى عجوز يحتل المكان. وجمت. حردت الصيد و جلست أراقب العجوز. انتبهت الى انه يخرج بشكل متكرر صنارته من المياه ليعيدها من جديد دون ان يكل او يمل و دون وضع طعم جديد. قيل لنا أن الثائر محمد احمد المهدى كان يصطاد دون طعم حتى لا يخدع الاسماك، صدقنا فقد كانت عقولنا طرية. لاحظ العجوز مراقبتى له، أخذ يلتفت الئ بين فترة و أخرى و هو يبتسم. دفعنى حب للاستطلاع لم استطع له كبحا، سألته لم يفعل ذلك؟ نظر الى و لم يجب.
تداعت الى ذهنى صور من الماضى البعيد. صيد النيل هنالك له نكهته الخاصة و مذاقه المتفرد، مواقعه ماهلة و صيادينه حنان. "استرزقنا" و "سعيد ككى" تتواثب صورتهما فى المخيلة كلما جاءت ذكرى النيل و الصيد. بلا جدال، هما أحسن من عملا في صيد السمك بشواطئ أمدرمان. من منهما الأكثر مهارة فى الصيد؟ انقسمنا فريقين كل منا يمجد احدا. كان لكل منهما ميزات و قدرات لا تتوفر فى الآخر.
سعيد ككى برع فى الصيد "رقادى"، معرفة اماكن السمك "القميسة" و المهارة فى سحب الاسماك الكبيرة من المياه.
استرزقنا – لا أدرى لماذا اطلقنا عليه ذلك اللقب – تخصص فى صيد البلطى المتمنع و سمك الكاس المراوغ، أبو القدح المائى و فرد الشبكة برشاقة على مياه النيل الجارية.
كان يمتد النقاش بنا فى عرض مآثرهم، نحن جالسين تحت عمود الكهرباء الوحيد فى الحى حتى "انصاص" الليالى.عندما يحتد النقاش لدرجة العراك، نصل الى حل وسط، و هو أن نمنح كل منهما فرصة العام المقبل ليبرهن انه الأفضل. توصلنا أيضا الى اتفاق أن "السيسى" ليس فى مهارة حسن و استرزقنا، هو فقط مدعى و فى احيانا كثيرة كاذبا.
حكى لنا "السيسى" ذات مرة، أن المهارة التى لا يدانيها فيها أحد فى صيد السمك، امتلكها عندما اصطاد ذات صباح باكر عروسا للنهر. وعدته ان هو اعادها للماء ثانية سوف تمنحه "سر الصيد" و قد أوفت بوعدها!
كنا لا نستطيع مواجهته و دمغه بالكذب، فقد كان ضخم الجثة و صاحب عيون بارزة حمراء. لكننا عندما نستمع "تحت تحت" أنه يخشى الدخول فى معارك مع فتوات الحى و "شفوته"، نحس بالفرح و الشماته! الصدق أقول.....السيسى، رغم تحاملنا عليه فقد كانت قصصه لا تخلو من طرافة و فكاهة. عراكنا و رهاننا الطفولى انتهى بالتعادل المآساوى او كما كنا نقول "حبايب" .
استرزقنا المسالم قام بطعنه و ذبحه صبى جزار مهوس فى منزل للخمور البلدية فى حى "العلالى" بعد الانتهاء من شرب "كوتته" اليومية متأهبا للذهاب للنوم.
عربة مجهولة صدمة سعيد ككى فى الفضاء الواقع بين سجن امدرمان و اشلاق البوليس. تركه السائق مضرجا بدماءه و هرب. ظل ينزف حتى فارق الحياة.
اتساءل هل لا زال السيسى يحكى فى امانيه الخائبة ام هو الآخر قد رحل؟
هؤلاء الصينيون يجب أن يعلموا ان لنا تاريخا ممتدا و باعا طويلا فى الصيد و مشتقاته!
انتبهت الى أن الصياد العجوز يجلس بجانبى- ذكر دون ان أبادر هذه المرة بالسؤال – انه درج على الصيد فى هذا المكان قبل نصف قرن من الزمان. (البحيرة كانت تعج بكل انواع السمك الصغير و الكبير. ساعة من الصيد كانت تكفى لملئ اناءك بالسمك. حدث ذلك دون مقدمات، اخذت البحيرة تتضمحل و تنقص مياهها رغم هطول الامطار فى موعدها. اختفى السمك أو هاجر. ذات يوم لم اصطد حتى و لا سمكة واحدة. ظل الحال كما ترى و داومت بالحضور طيلة العشرة اعواما الماضية. لدى احساس لا أكذبه ان المياه سترتفع من جديد ، ستعود أسماك "التراوت" ، "الباص" و السالمون الضخمة) .
جمعت معداتى و نهضت. كنت لا ازال ممتلئا غيظا لا أدرى له سببا. عندما بعدت عن الصياد العجوز صحت بصوت عالى..."الصينى خرف" !



عدنان زاهر
أضف رد جديد