ناس الخرطوم

Forum Démocratique
- Democratic Forum
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

.

صورة

باب دار الحزب الشيوعي




حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

حزب المعرض

مشاركة بواسطة حسن موسى »

سلام يالنور و كلام كتير مستني في زوايا الخاطر..
آليغوريا " لعب الدافوري"نافعة في توصيف موقف المبدع المتعدد الغوايات. و في نهاية تحليل ما ، يجوز لنا أن ننظر لإنشغال معظم التشكيليين بالتشكيل نفسه كوجه من وجوه اللعب المجاني الذي قوامه المتعة التعبيرية.و أظن ، غير آثم، أن مجرد وجود هؤلاء التشكيليين الذين يلعبون الدافوري في أكثر من مضمار هو رحمة بالعباد.و من يدري فقد يكون الزمان المقبل علينا هو زمان الإنسان الذي يعبر الوجود متقلبا بين أبعاد الخلق الإنساني فتكون حياته نوعا عاليا من أنواع الإحسان.
زمان في السودان كنت أهدي أعمالي للأصدقاء ثم أدركتني فسالة بلاد النصارى فصرت أبيع أعمالي للأصدقاء بأسعر رمزية [ أعمل حسابك من " رمزية دي"]، و لما غمرتني فسالة القوم إقتصرت على إهداء المستنسخات فقط ، و الله يستر من سوء العاقبة.

الفاضل الفاضل
سلام
الحزب الشيوعي هو في أصله حزب فنانين، و كان مكضبني شوف نسبة الشعراء و الرسامين و محبي الموسيقى بين صفوف قياديه، ربما لأن المشروع الطوباوي الشيوعي في أصله مشروع فني..شايف
سأعود
صورة العضو الرمزية
ÑÇÔÏ ãÕØÝí ÈÎíÊ
مشاركات: 419
اشترك في: الخميس أكتوبر 04, 2007 11:54 pm

مشاركة بواسطة ÑÇÔÏ ãÕØÝí ÈÎíÊ »

يا دجانقو أفرز!
كتب حسن موسي: "الحزب الشيوعي هو في أصله حزب فنانين، و كان مكضبني شوف نسبة الشعراء والرسامين ومحبي الموسيقي بين صفوف قيادييه"!
ومن جهتي أعيد توجية السؤال لحسن موسي: هل تقصد الحزب الشيوعي بتاع 46 ولا الحزب الشيوعي هسة؟ ذلك لأن الحزب الشيوعي السوداني هسة، نسبة الشعراء والرسامين – محبي الموسيقي دي خليها لأنها فضفاضة جداً – بين صفوف قياديه تساوي صفر كبير جداً! دة إذا كنت قاصد "قيادييه" بالمعني التنظيمي. أما إذا قاصد قيادة تانية ففي الأمر أيضاً التباس وجب أن توضحه لنا.
سلام.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

الفرز

مشاركة بواسطة حسن موسى »

سلام يا راشد [ ياله من إسم]
طبعا الفرزواجب و أنحنا شغلنا دا كلّو شغل فرز.
جاييك أنا لقدام في حكاية قياديي الحزب الشيوعي.عشان مفهوم القيادة دا داير ليهو جكّة تانية.وهناك فرق بين القياديين الذين تم إنتخابهم و تصعيدهم لموضع القيادة دون أن يكون لهم تأثير فعلي في صناعة التوجهات الحقيقية للمنظمة التي هم على رأسها، يعني قياديين " شرافة" ساكت [ و للشرافة منفعتها ضمن بعض الملابسات]، و هناك القياديين اللابدين في الضل لكن وجهة نظرهم، بقوّة الفكرة، تخترق حجب "الشرافات" لتدرك جموع العاملين في المنظمة السياسية و تستقطبهم و تحتاز على ثقتهم.هذا النوع من القياديين هو الذي يوجه المنظمة السياسية بالفعل.و ربما كانت حكمتهم ايضا في حرصهم على البقاء في ظل قياديي الواجهة و الله أعلم.على كل هذا موضوع يحتاج لخيط بذاته.لكني ما زلت مصرا على رأيي في علو نسبة االفنانين بين قياديي الحزب الشيوعي في الظل و في الواجهة معا.و سأعود حتما
.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

الشعب في المعرض

مشاركة بواسطة حسن موسى »


الشعب في المعرض


كتبت هذا النص للمساهمة في الملف الخاص عن حركة اليسار السوداني الذي اصدرته مجلة " ساوث آتلانتيك كوارترلي" و قد قام بترجمته للإنجليزية الصديق مصطفى آدم.و أنا أثبته في هذا الخيط كونه يتداخل مع موضوع ندوة الميدان حول " الفن و السياسة في السودان" و أرجو أن يتضامن عليه نظر أهل البصائر النقدية فيقومون من عوجاته التي غابت عن بصيرتي و ينوبالثواب الجميع..
South Atlantic Quarterly(SAQ),Vol.109,No.1,Winter 2010, Duke University Press.
What is left of the Left?The View from Sudan.


الشعب في المعرض

مدرسة اسمها المعرض.
تهدف هذه الكتابة لتقصي الملابسات التاريخية التي تأسست ضمنها موضوعة المعرض، معرض الفنون البصرية الحديثة في السودان، كمجال لتحقق جمالية الحداثة في السودان،و ذلك من خلال تقصي الأبعاد السياسية للأدب المعارضي السوداني. ذلك أن معرض التشكيل بمجانيته وبطابعه الـخاص كحدث مشهدي محفلي ضمن الزمان و المكان الحضريين انطرح في الوسط الثقافي كأحد أميز وسائط الإتصال الجماهيري الحديثة.و خصوصية المعرض كوسيط اتصال تتأتي من الطبيعة المركبة لبنيته التي يمتزج فيها بعد الوسيلة المادية بمعاني الغاية الجمالية . و الطبيعة المميزة لوسيلة المعرض، كحيز لإنتاج خطاب فردي خاص يتوجه لجمهور محفلي عام، تكسب فعل العرض صفة العمل العام. و من حيث هو ، كوجه من وجوه العمل العام، فالمعرض يجر المعنيين به لفضاء الفعل السياسي و يثير اهتمام السلطات الرسمية و الأهلية. و من حيث هو، كفعل سياسي، فالمعرض أداة لا تستغني عن التأطير الأدبي المكتوب و المنطوق الذي يسبق فعل العرض و يلازمه و يعقـّب عليه.و غاية التأطير الأدبي لفعل العرض هي توجيه نظر رواد المعرض و فكرهم وجهة الأولوية السياسية لمن ينتج خطاب التأطير. هذا التأطير الأدبي للمعرض في السودان هو موضوع اهتمامنا من زاوية أن أدب المعرض الذي سنتعرض له هنا ينطرح كطرف في التقليد الأدبي العربي السائد يتأثر بتحولاته الإجتماعية و يؤثر فيها.و حين اقول:" التقليد الأدبي العربي السائد" فأنا أحمّل العبارة ميراث حظوة القول داخل مكونات النسخة الإسلامية من الحضارة اليهودية النصرانية." إنما امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون"(1)، في البدء كان الكلمة..و كان الكلمة الله.. و الكلمة صار جسدا" (2).

و الغاية الجمالية للمعرض تتجاوز مهمة توصيل التعبير الجمالي للجمهور لمقام مشهدي يصبح فيه فعل العرض نفسه تعبيرا جماليا أدخل في تصانيف المسرح العفوي الذي يتخلق في المنطقة الممتدة بين شكل الطقوس الإجتماعية البدائية و الـ " حدث" المسرحي الحديث (هابينينغ).
لقد تطور تقليد المعرض التشكيلي في السودان ضمن مشهد العمل العام بطريقة جعلت المعرض يبدو وسيلة سياسية بالغة التركيب نسبة لما تتمتع به من امتدادات طبيعية في فضاءات الفعل الإنساني المتباينة .
و قد اخترت مدخل الأدب المعارضي لمعالجة مفهوم المعرض، كمجال لتحقق جمالية الحداثة في السودان ، لأن أدب المعارض في السودان يمثـُل كوسيلة أتصال و توثيق لتاريخ الثقافة المعارضية ( ديسبلاي كلشر ) مثلما يمثل كحيز مشترك للتبادل الجمالي و السياسي يتقاسمه الفنانون مع غيرهم من السودانيين المهتمين بالمردود الإجتماعي للفنون على تباين دوافعهم.
فمن خلال أدب المعرض الحديث تم تخليق جملة من المفاهيم الثقافية التي تتجسد في شكل عبارات و مصطلحات ذات محمول مزدوج فني و سياسي في آن.و في هذه الأسطر أحاول إضاءة اصول المحمول السياسي للغة المستخدمة في أدب المعارض في السودان على زعم عريض فحواه ان أدب المعارض في السودان يمثل كأحد تجليات الفكر المادي في ساحة الثقافة السودانية المعاصرة .و هو امر للماركسيين السودانيين فيه مساهمة كبرى بفضل أنتباههم المبكر لوسيلة المعرض كشكل مشروع من اشكال العمل العام ذي المردود السياسي المجز.


لو تساءلنا اليوم من اين أتى المعرض التشكيلي؟فسنجد ان تاريخ المعرض كشكل اتصال حديث يرده مباشرة للتدبير السياسي البريطاني في السودان.فالإدارة البريطانية احتاجت لشكل المعرض كوسيلة بروباغاندا سياسية ضمن ملابسات تأسيس الدولة الحديثة في السودان. و لا ابالغ كثيرا إن استنتجت أن المعرض ، كشكل ثقافي للإتصال الجماهيري، ممارسة حديثة ارتبطت بداياتها الأولى بسعي الإدارة الإستعمارية لإستمالة الأهالي نحو مؤسسات الدولة الحديثة و في طليعتها المؤسسة التعليمية الحكومية. ذلك ان استقرار مؤسسات رأس المال الكولونيالي في سودان مطلع القرن العشرين ما كان له ان يتم بوسيلة العنف العسكري وحدها. فدولة الحكم الثنائي كانت مضطرة لإستمالة جزء من السودانيين لإستخدامهم في تشغيل آلة الدولة فكان بناء نظام تعليمي حديث على مستوى القطر من أولويات دولة الحكم الثنائي في السودان.
و قد عبرالشاعر البريطاني الإستعماري " روديارد كيبلينغ" اصدق تعبير عن تلازم العنف المادي و الرمزي في فعل الإستعمار حين قال في قصيدته المشهورة " مدرسة كتشينر":
« They terribly carpet the earth with dead
And before their canon cool
They walked unarmed
By twos and threes
To call the living to school »

في المعارض المدرسية لمدارس عهد الحكم الثنائي كانت موضوعات المعرض عبارة عن الأعمال التي أنجزها التلاميذ و المعلمون خلال العام الدراسي.و مناسبات العرض كانت تتحدد وفق تقويم الإحتفالية الرسمية مثل عيد ميلاد ملكة بريطانيا العظمى و عيد تتويج الملك و يوم الآباء..إلخ.و كانت صالات العرض هي نفس صالات الدرس، تعرض فيها الأعمال التشكيلية ضمن مجموعة الأعمال المدرسية الأخرى، كخرط الجغرافيا و التاريخ و رسومات العلوم الطبيعية ..إلخ.و في حقيقة الأمر كانت غاية هذه المعارض هي عرض المدرسة نفسها كمؤسسة ثقافية رسمية، مرتهنة بالدولة الحديثة في سودان مطلع القرن العشرين.سودان إعادة " الفتح".في هذا السودان، الذي لم ينس بعد تجربة العنف الإستعماري الثنائي،كان على سلطة الحكم الثنائي إقناع السودانيين بتبنـّي مؤسساتها الثقافية الجديدة و ذلك بإرسال أبنائهم لمدرسة الحكومة.



و ذلك حتى يتم تأهيلهم كعاملين في أجهزة دولة رأس المال الإستعماري الجديدة.
و قد لاقت المدارس الحديثة التي كانت تمثل رأس الرمح في توغل ثقافة رأس المال الكولونيالي ، لاقت مقاومة كبيرة من قبل السودانيين . فقد "كان النوع الجديد للمدرسة أمراً أجنبياً مفروضاً على المواطنين بواسطة حاكم أجنبي ، ومن ثم نظر إليه بعين الريبة والحذر ، فقد خشى المواطنون أن تحل المدرسة محل الخلوة وهي رمز التعليم الديني وخشى الفقهاء (الفكيان) والأسر الدينية من أن تؤثر على مركزهم الاجتماعي بل وعلى مصادر دخلهم، وخشى الآباء من أن يترتب على إلحاق الأبناء بالمدارس حرمانهم من مساعدتهم في أعمال الزراعة والتجارة وأبعاد الإشراف على سلوكهم وتصرفاتهم (في المدينة) وكأنت المدينة ترتبط في أذهان سكان القرى بالفساد . وخشى الآباء أيضاً من أن يكون التعليم سبباً في تقييد أولادهم بكشوفات الجيش أو قوات البوليس ".." أو أن يكون الغرض من المدارس نشر التعليم المسيحي ".."(3). ومن حينها تخلـّقت القرابة التاريخية بين الدولة والمدرسة من جهة والمعرض من جهة أخرى بأسلوب يجعل من المعرض، كشأن محفلي ،ادخل في شؤون الدولة الرسمية منه في شؤون الأهالي. وهو تخلق ما يزال يقي بظلال سلبية على واقع المعرض ضمن المشهد الثقافي المعاصر في السودان. ذلك ان الإلتباس القائم بين مفهوم السلطة، التعليمية ،سلطة المربي، في العملية التربوية، ومفهوم التربية كوسيلة قهر ثقافي في يد سلطة الطبقة المهيمنة " ،إنما يقوم كإلتباس فلسفي و سياسي قوامه التناقض بين أولويات التربية وأولويات السلطة ضمن منظور الصراع الإجتماعي . و هذا الواقع يثقل على وسيلة المعرض ،أياً كان توجهه الإجتماعي ، بأثقال المصالح الطبقية المتضاربة و يسلبه براءته و حيدته الظاهرة..
كانت الخرطوم في الثلاثينات عبارة عن قرية كبيرة، و كان أغلب سكانها الوافدون من الأقاليم قد أعادوا إنتاج أقاليمهم بشكل مصغر في أحياء العاصمة.و قد تولت المجموعات الحضرية الوافدة مع الدولة الإستعمارية من مصر و الشام و جنوب أوروبا [ أرمينيا و اليونان و إيطاليا]، تولت إستنبات أسلوب الحياة الحضرية الحديثة على مراجع الثقافة الأوروبية وسط سكان العاصمة. في هذا السياق الإجتماعي المتحول في أكثر من إتجاه خبر أهل الخرطوم
ـ بين الثلاثينات و الخمسينات ـ ظهور نوع شعبي جديد من المعارض بفضل جهود عشرات من الرسامين العصاميين الذين كسبوا عيشهم من تزيين منتديات المدينة ( مثل رسومات علي عثمان في "قهوة الزيبق" في الخرطوم) بتصاوير تحكي مشاهد الحياة اليومية . كانت مجموعة الرسامين العصاميين تبذل لأهل الحواضر غذاءا إيقونيا جديدا موضوعه الحياة الحضرية و تعرض للجمهور صورة إيجابية جميلة هي صورة أهل المجتمع المديني الجديد .
لكن المعرض ـ كشكل إتصال جماهيري و كتعبير جمالي لم يكن قد استقر بعد في الممارسة الثقافية للحضريين رغم أن إتحاد الفنون الجميلة السوداني الذي كان يجمّع خريجي كلية الفنون كان قد بدأ ينظم معارضه السنوية في فندق الـ "غراند هوتيل"( 1956 ) وسط جمهور يقتصر على اعيان النخبة الحضرية و بعض الأجانب
بعد الإستقلال استعادت دولة الديكتاتورية العسكرية الأولى (1958ـ 1964) مفهوم المعرض كوسيلة بروباغاندا سياسية لكسب تأييد قطاعات من مواطني الحواضر لجانب النظام الجديد. و في تلك الفترة عرف اهل الحواضر ظاهرة المعرض السنوي " معرض الثورة" الذي كانت الحكومة تنظمه في المدن المهمة و تعرض فيه منتجات المصالح الحكومية لمدة اسبوعين أو ثلاثة يتم فيها تنظيم الزيارات الجماعية لتلاميذ المدارس و لجماهير المدن.و قد توقفت المعارض السنوية التي تنظمها الدولة بسقوط نظام الديكتاتورية العسكرية في 1964 و عودة الديموقراطية.. و في فترة الديموقراطية الثانية بين 1964 و 1969 اختفت ظاهرة المعارض الرسمية الكبيرة من الحياة العامة مقابل العودة الخجولة لمعارض التشكيل في المراكز الثقافية الأوروبية ( المركز الثقافي الفرنسي و مكتبة المجلس البريطاني و معهد جوته و المكتبة الأمريكية).



" الشعب " في المعرض
في العقود الخمسة التي انقضت بين أول معرض جماعي لإتحاد الفنون الجميلة السوداني عشية الإستقلال(يونيو 1956) و المعرض الجماعي الأخير الذي نظمه" ملتقي التشكيليين السودانيين" بالتضامن مع "الإتحاد العام للتشكيليين السودانيين" (يونيو 2008) طورت حركة التشكيل في السودان ادبا للمعرض قوامه جملة من المفاهيم و المصطلحات التي تكتسب خصوصيتها الدلالية من إرتباطها بواقع العمل العام السياسي في السودان.و سأحاول في الأسطر القادمة تقصي الأصول السياسية لأدب المعرض التشكيلي في السودان.و من بين اهم المفردات التي انصاغت ضمن ادب المعرض التشكيلي نبدأ بفحص مصطلح " الشعب" الذي يتم استخدامه في الأدب المعارضي بشكل يجعل منه مفهوما محوريا يكسب خطاب الممارسة الفنية في السودان ثقله السياسي الراهن.
فماذا تعني عبارة " الشعب" عند الفنانين السودانيين؟.

أتناء تخلق حركة التحرر من الإستعمار شاع استخدام مصطلح " الشعب" في الأدب السياسي السوداني على زعم ان العبارة تشمل جملة اهل البلاد الرازحين تحت نير السيطرة الإستعمارية بدون فرز طبقي.وضمن واقع الصراع الإجتماعي لعشية الإستقلال بدأ المصطلح يتكشّف عن فرز دلالي طبقي لا بمكن تجاهله ،فـ " شعب" المركز لم يكن يحيا كـ " شعب" الهامش ، و" شعب" الأحزاب الطائفية ، الذي تحركه إشارة زعيم الطائفة ، كان يعاني نفس تصانيف الإستبعاد الطبقي التي كانت تثقل على" شعب" الحواضر المتحرر من قيود الطائفية لكن شعب الحواضر كان اكثر وعيا بوضعيته الإجتماعية و بتأثيره السياسي.وضمن جيوبوليتيك الثقافة الحديثة لفترة ما بعد الإستقلال كان مصطلح " الشعب" ينمسخ عند اهل الحواضر لـ " الغلابة" أو" الكادحين" ضمن خطاب سياسي ذي نبرة مطلبية واضحة.ففي المعرض الجماعي الأول الذي أقامه إتحاد الفنون الجميلة السوداني، بعد ستة أشهر من استقلال السودان، و الذي عرضت فيه 63 قطعة فنية لعشرين فنانا سودانيا،تم بيع نسبة عالية من الأعمال الفنية للوزراء و الأعيان و الدبلوماسيين الأجانب ( 4). و قد علّق محرر جريدة" الأيام" في حينها :
" إن الغلابة الزائرين لهذا المعرض قد رحّبوا به جميعا و امتلأت نفوسهم حسرة لأن الأسعار باهظة أقلها خمسة جنيهات، و ستظل جدرانهم عارية معطالا كالشمس [ كذا] لأن جيوبهم خلاء بلقع.. و لعل المعرض الشتوي الذي وعدنا به اتحاد الفنون الجميلة يكون أرخص صورا "( 5 ).
و فقراء المدن ،الذين سمّاهم محرر " الأيام" بـ " الغلابة"، هم في مشهد الواقع الإجتماعي فئة من "قوى العمل الحديث" التي ـ بحكم ارتباطها التاريخي بمؤسسات الحداثة الرأسمالية ـ قطعت شوطا ابعد في مسار القطيعة الثقافية مع التقليد الثقافي قبل الرأسمالي و نالت حظا من التعليم و الوعي السياسي يؤهلها للمطالبة بالتغيير الإجتماعي من خلال اشكال العمل العام الحديثة مثل النقابات المهنية و العمالية و الهيئات الديموقراطية. هؤلاء " الغلابة" يترادف اسمهم في القاموس اليساري الذي سك مفرداته الشيوعيون السودانيون ، مع "الشعب" او " الناس" أو " الجماهير" أو " الأهالي الغبش" أو" الكادحين" أو" الطبقة العاملة" عند مقتضى الحال.و وراء المترادفات تاريخ عمل نضالي تعليمي طويل للشيوعيين السودانيين منذ عهد " الحركة السودانية للتحرر الوطني" (حستو) في الأربعينات، و هي حركة سياسية سرية حديثة تعمل بدون إرتباطات طائفية أو قبلية خرج من صفوفها مؤسسي الحزب الشيوعي..( 6)
في أكتوبر 1964لعب الشيوعيون السودانيون دورا مركزيا في إسقاط النظام العسكري الذي ساد لست سنوات و ذلك من خلال تنظيم الإضراب السياسي العام.و هو حدث يعد مأثرة مهمة في تاريخ العمل العام في السودان.
و رغم ان " الشعب" قد حقق إنتصارا باهرا على نظام الديكتاتورية العسكرية من خلال " ثورة "أكتوبر 1964 إلا ان التجربة كشفت عن حدود الفاعلية السياسية للقدرات التنظيمية وحدها.فالحزب الشيوعي ـ في نهاية التحليل ـ يبقى حزب اقلية قاعدته الشعبية الضيقة تقعد به عن القدرة على ضمان تحقق مشروعه السياسي.،ففي اقل من عام استعادت القوى السياسية التقليدية مواقع حظوتها الأولى على مسرح الصراع الإجتماعي و استبعدت الشعب بل وتمكنت من منع نشاط الحزب الشيوعي بنص القانون و طردت نوابه من البرلمان في 1966.لكن درس " ثورة اكتوبر" 1964 ما زال باقيا في خاطر السودانيين . و ذلك بفضل جهود الشيوعيين في مخاطبة جماهير المدن و رفع همتها السياسية باعتبارها قوى قمينة بالتغيير الإجتماعي، إذا ما توفرت لها الأدوات التنظيمية المناسبة ، و قد رسخ في اذهان أهل الحواضر مفهوم" الشعب" كحقيقة ملموسة و ككيان فاعل قادر على التغيير، بل رسخ في اذهانهم انهم هم انفسهم الشعب السوداني ، مستودع السيادة الوطنية. و من حينها صارت لـ " الشعب" ـ هؤلاء الناس الذين يتحركون في تنظيماتهم النقابية و هيئاتهم الديموقراطية و يؤمّون المنتديات و المواكب السياسية ويجهرون بمطالبهم أمام سلطات سياسية متنازع على شرعيتها ـ صارت لهم حقوق و واجبات يسلم بها الجميع. و لم يعد أحد يشكك في حق الشعب في" الإلتقاء بالتيارات الثقافية الإنسانية أخذا و عطاءأ و التفاعل مع تلك التيارات التقدمية المؤمنة بمستقبل الإنسان و قدراته و كرامته(..) الإنسان السوداني الجديد المتفتح على النهضة الثقافية الديموقراطية تتنامى حاجته للتكامل و الوحدة و تنمية الخيال و التمتع بمباهج الحياة".( 7 ).


هوية لشعب التمازج:

لكن وعي الشعب بكونه شعبا لم يحجب عن الناطقين باسمه ، بين أبناء الطبقة الوسطى الحضرية ، رؤية الصعوبة التي يطرحها واقع التعدد العرقي و الثقافي في بلد الأشتات الذي ينطق في أكثر من مئة لسان.فعلى ضوء الوعي المتنامي بحال التركيب الإجتماعي و الثقافي و الجغرافي للمجتمع السوداني طرح المبدعون التقدميون موضوعة الهجنة كإطار جمالي لتعريف الهوية الثقافية للسودان.و سرعان ما تحول رجاء المبدعين الطوباوي المتفائل إلى برنامج سياسي يتمتع ، بشكل متزايد، بدعم مؤسسات سياسية مهمة.و افضل الأمثلة يبدو في التزامن الذي تم ضمنه تقارب التشكيليين، من فناني " مدرسة الخرطوم "، و الشعراء في مجموعة " مدرسة الغابة و الصحراء"، من موضوعة الهجنة الثقافية في منتصف الستينات. فشعراء" الغابة و الصحراء" (محمد عبد الحي و محمد المكي ابراهيم و النور عثمان ابكر و آخرين) طرحوا هوية التمازج العربي الإفريقي على نموذج " سنار"، عاصمة سلطنة الفونج التي قامت على تحالف البدو و الزنج، وفي مجال التعبير الفني كان الفنانون التشكيلون سبّاقون لبناء عقيدة ـ دوغما ـ جمالية نواتها الشعب. فإبراهيم الصلحي و أبناء جيله من الفنانين العائدين للسودان بعد دراساتهم في أوروبا (أحمد شبرين و كمالا و بعض تلاميذهم) صاروا يتساءلون عن طبيعة الفن الذي يمكن ان يناسب الشعب السوداني فخلصوا إلى ضرورة تأسيس " فن سوداني" على قاعدة " الفن الشعبي".و عند عودته للوطن اقام صلحي معرضه الفردي الأول في قاعة فندق الـ " قراند أوتيل" بالخرطوم (1960), و في حوار مع أولي باير ( 8 ) علق الصلحي على تلك التجربة بقوله:"تلك اللوحات كانت متأثرة بسيزان، ذلك انني حين كنت في مدرسة " سليد" كانوا قد اكتشفوا سيزان لتوّهم"
يقول الصلحي:"..
" حاولت ان استنكه ما يدور في عقول الناس لأنهم إن لم يقبلوا ما جلبناه معنا من أوروبا فلا بد انهم بصدد شيء آخر. شيء آخر كنت واثقا من وجوده في مكان ما عند الناس، شيء له علاقة بالخط العربي و بالوحدات الزخرفية، كنت اريد ان ارى ما يستسيغه الناس كموضوع جمالي"( 9 ).
و في حواره مع محرر مجلة " آفريكان آرت" الأمريكية( 10 ) يلخص الصلحي تجربة العودة لفن الشعب كنوع من إعادة النظر في جملة مسار تعليمه الفني القائم على مناهج التعليم الأوروبية الحديثة :" لقد تركت السودان ثم عدت إليه. ثم فجأة بدأت انظر حولي و بدأت ابحث عن الأشياء، عن الوحدات الزخرفية.لطالما فتنتني الوحدات الزخرفية في المصنوعات اليدوية السودانية المحلية و ما يصنعه المزارعين البسطاء و ما يحفرونه و ما يزخرفونه و ما يلونونه.و فجأة اعتقد ان جمالها وصلني و هزني بقوة شديدة.لقد عشت معها كل حياتي و مع ذلك فانني لم أرها إلا حين سافرت للخارج ثم عدت راجها بنظرة مختلفة للأشياء. حينذاك بدأت انظر ـ مسافرا عبر أنحاء السودان ـ ناظرا إلى كل ما يصنعه الناس، في بيوتهم و أسرتهم و بروش الصلاة و الطريقة التي يضعون بها السروج على ظهور الجمال أو الثيران. لشد ما فتنني كل هذا فبدأت أراقب و أرسم فقط "
وفي نفس الإتجاةـ إتجاة العودة للشعب، كتب أحمد شبرين ان" مدرسة الخرطوم" آلت على نفسها ان تكسب عناصر الخلق التشكيلي المحلي نكهة عالمية (11 ).

و لم يمض وقت طويل حتى تحولت مجموعة لقيات صلحي و شبرين المفهومية و التشكيلية لنوع من علامة مميزة" إمبلم" تنبئ عن استقرار تيار جديد في الساحة الثقافية هو تيار " مدرسة الخرطوم".
و قد لقيت مساهمة " مدرسة الخرطوم" بقيادة الصلحي شعبية كبيرة يمكن تفسيرها، من جهة، بالنجاح العالمي الذي اصابه الصلحي، كفنان إفريقي معاصر ،بفضل صلاته مع شبكة من الأشخاص المؤثرين ،في محافل التشكيل الغربية( الباحث الأفريقاني المعاصرأولي باير، و الباحث دنيس وليامز و مدير متحف الفن الحديث في نيويورك ألفريد بار) ، حتى ان السلطات السياسية جعلت من صورة الصلحي نفسه نوعا من ايقونة قومية للفن السوداني . ورغم أن الجمهور المحلي كان يجهل عمل الصلحي إلا ان وزارة السياحة السودانية وزعت ، في عام 1976 ،ملصقا سياحيا معنونا:" الفن السوداني المعاصر" ، يمثل الصلحي و هو يرسم .كان صلحي ـ الموظف الكبير في وزارة الثقافة ـ في تلك الفترة يتمتع بشعبية واسعة بسبب برنامجه التلفزيوني الناجح " بيت الجاك".و لكن المساندة السياسية و المادية و الرعاية التي احتازت عليها مساهمة الصلحي الجمالية من طرف دولة الطبقة الوسطى العربسلامية ، و التي رفـّعت تيار " مدرسة الخرطوم" لمقام الفن السوداني الرسمي ،يمكن فهمها ، من جهة أولى، بتوافقها مع تيار رد الإعتبار إلى الثقافات الشعبية التي جسدها رواج دراسات الفولكلور في الستينات و اعطتها دفعا قويا مكتشفات سوسيولوجيا الثقافة و تيار نقد الإثنولوجيا في أوروبا على خلفية حركة التحرر من الإستعمار. و من الجهة الثانية يمكن فهم الرواج السوداني لمشروع الصلحي و شركاه بكونه ، من وجهة نظر الواقع السياسي السوداني لفترة ما بعد الإستقلال كان يطرح إجابة سياسية جذابة لسؤال الهوية السودانية . و هو سؤال محوري في بلد قوامه التعدد العرقي و الثقافي. بلد نال استقلاله على خلفية حرب اهلية كان سؤال الهوية الوطنية منها ، وما زال، في موضع القلب. و قد طرح فنانو " مدرسة الخرطوم" تصورهم للهوية الثقافية السودانية كهجين بين العروبة و الإفريقية.بل أن بعض المتحمسين لهوية الهجنة " السودانوية" كانوا يرون فيها مفتاحا من مفاتيح حل مشكلة الهوية على صعيد القارة الإفريقية كلها. ( 12).


" أبادماك " إلة التعدد الثقافي":

الدور الذي لعبه الحزب الشيوعي في اسقاط النظام العسكري في 1964 كسب للشيوعيين قبولا سياسيا واسعا مكنهم من توسيع دائرة عملهم فيما وراء الأشكال التقليدية للعمل العام السياسي. و تحت شروط الحياة الديموقراطية انطلق الحزب الشيوعي ـ في النصف الثاني من الستينات ـ للعمل فيما عرف في ادبيات الحزب بـ " جبهة الإبداع"و تعبيرالـ " جبهة" لتعريف مجال العمل الإبداعي بين الكتاب و الفنانين السودانيين ينطوي على مدلول سياسي يمكن الحزب من تنظيم علاقة مؤسسية مع جمهور الكتاب و الفنانين و الديموقراطيين المستقلين عن جسم الحزب، مثلما ينطوي على مدلول أيديولوجي بجعل من فضاء النشاط الإبداعي ارضا للمواجهة الإجتماعية ضد قوى المحافظة في المجتمع السوداني.في تلك الفترة اطلق الحزب الشيوعي تنظيم" تجمع الكتاب و الفنانين" "آبادماك"( الإله المروي يمثل الأسد ذو الرؤوس الثلاثة كتعبير عن روح التعدد الثقافي و العرقي للمجتمع السوداني).و كانت اهم مآثر تنظيم ابادماك تتمثل في التوجه لـ "الشعب" في الحواضر و الأرياف لإستلهام تراثه الفني في ال" حرب" الآيديولوجية و لتنويره سياسيا ـ بوسيلة الفن ـ فكانت القوافل الثقافية التي تنطلق من العاصمة نحو الأرياف تنظم المعارض و الندوات و العروض المسرحية و الأمسيات الشعرية و في نفس الوقت كانت تحاول تجميع مآثر التراث الشعبي و أعادة توظيفها ضمن منظور حديث. .و على نموذج القوافل الثقافية لتنظيم أبادماك سعى الشيوعيون و الديموقراطيون في حواضر الأقاليم لتنظيم تظاهرات ثقافية تقوم على فكرة القافلة الثقافية التي تتحرك في الأرياف و تنظم المعارض و العروض المسرحية و الليالي الشعرية و الندوات لجمهور القرى النائية.( "طلائع النخيل" في مروي و" طلائع الهدهد" في مدني و" طلائع القندول" في القضارف و هي تجارب كان يؤطرها المعلمون اليساريون المتعاطفون مع الشيوعيين في المدارس الثانوية).لعبت تجربة أبادماك دورا كبيرا في تسويغ فكرة الفن كعنصر مهم في بناء هوية وطنية سودانية قائمة على منطق الوحدة في التعدد و في تقديم مفهوم الثقافة كأحد محفزات التنمية الإجتماعية.و لعل افضل تتويج سياسي لجهود حركة أبادماك يتمثل في إنشاء وزارة للثقافة مع جملة من الأجهزة الثقافية الرسمية( مصلحة الثقافة، مركز دراسة الفولكلور، المجلس الأعلى للآداب و الفنون، مركز ثقافة الطفل/ دار النشر إلخ) التي تعمل وفق خطة ستراتيجية ثقافية قومية رسمية غرضها توثيق و تشجيع تفتح الثقافات السودانية ضمن منطق شعار" الوحدة في التعدد". و هو شعار صاغه مثقفون ماركسيون ضمن زخم الوحدة الوطنية الذي كانت تسنده "إتفاقية أديس أبابا للسلام"(1972) . و هي الإتفاقية التي ابرمها النظام العسكري الجديد، نظام " الضباط الأحرار"، مع حركة" الأنيانيا" و التي أنهت الحرب الأهلية في الجنوب.

و يجدر القول أن تبني نظام "الضباط الأحرار" الجديد ( مايو 69) للإستراتيجية الثقافية للحزب الشيوعي السوداني قد تم بيسر كبير لأن الحزب الشيوعي ـ على خلاف المنظمات السياسية الأخرى ـ كان يتمتع بحظوة سياسية كبيرة لدى نظام" الضباط الأحرار" بالذات في العام الأول من عمر النظام و الذي استخدم الشيوعيون فيه حيويتهم الفكريةو التنظيمية و ثقلهم الرمزي الكبير لتدعيم النظام العسكري الجديد باعتباره " فصيل ثوري" يمنح القوى التقدمية فرصة لدفع عجلة الثورة السودانية،و هو تحليل استند على موقف سابق وارد في وثيقة مهمة من وثائق الحزب الشيوعي، تحليل فحواه أن " حركة النضال من أجل تقوية مواقع البديل المتجمع حول طريق التطور اللارأسمالي و التحرر من الإستعمار الحديث هو القانون الذي يحكم سير الثورة الوطنية الديموقراطية في البلاد" ( 13 .) و هكذا ساغت في المشهد السياسي حقيقة وجود شيوعي على مستوى وزاري ، رغم تحفظ الحزب. فقد كان للحزب وزراءه في الحكومة الجديدة لكنه لم يخترهم، مثلما كان له حضوره المميز داخل " مجلس ثورة " النظام الجديد بحكم اشتراك بعض عضويته في تنظيم " الضباط الأحرار" .و كان من عواقب العلاقة الحميمة بين الشيوعيين و النظام الجديد أن إتحاد طلاب كلية الفنون ،الذي كان يهيمن عليه الشيوعيون، كان اوّل منظمة طلابية عليا تشهر التأييد السياسي لإنقلابيي 25 مايو 1969،فقام الرئيس نميري بزيارة معرض خريجي كلية الفنون لدفعة 69/70 وألقى خطابا ضافيا دافع فيه عن دور الفنون في التنمية و التقدم و وعد بإنشاء كلية للفنون على قطعة الأرض التي منحت ، بعدها بسنوات، لمشروع "مسجد النيلين".لكن العاقبة الأكثر فداحة لقرب الشيوعيين الحميم من نظام" الضباط الأحرار" كانت تتمثل في استبطان الشيوعيين لقناعة كونهم شركاء في السلطة الجديدة.و هي القناعة المسئولة ـ في نظري ـ عن " حركة 19 يوليو التصحيحية" التي قادها عسكريون شيوعيون بغاية " تصحيح" إنحراف النظام الجديد عن الخط الثوري الأول الذي أسّس عليه شرعيته الشعبية بمساعدة الحزب الشيوعي.
و بعد الطلاق الدموي بين النظام العسكري و الشيوعيين عقب فشل " حركة 19 يوليو التصحيحية" صار النظام يلاحق الشيوعيين و كافة الديموقراطيين المتعاطفين معهم و يضيّق عليهم بفضل ترسانة من القوانين البوليسية التي كانت تهدف لإجتثات تأثير الحزب الشيوعي من الحياة العامة.و فعلا اختفي الحزب الشيوعي من مسرح النشاط العام ، بعد إعدام و اعتقال قيادييه و كوادرة و إختفاء ناشطيه، لكنه لم يختف من الحياة السياسية للسودانيين.

وبالرغم من الـ" ردة" اليمينية لنظام " الضباط الأحرار" عن الحلم الطوباوي اليساري بعد 1971 إلا ان النظام الديكتاتوري لم يتخلص بين يوم و ليلة من مؤسسات العمل الثقافي ولا من جملة القناعات السياسية القوية التي حقنها الشيوعيون في جسم الخطاب السياسي للنظام، ذلك ان اسئلة الثقافة و التنمية و الوحدة الوطنية التي طرحها الشيوعيون كانت اسئلة حقيقية لا مناص من مواجهتها داخل اروقة المؤتمرات الرسمية و في تفاصيل الأداء الثقافي اليومي .فبعد عام واحد من أحداث يوليو الدامية انعقد "المؤتمر القومي الأول للثورة الثقافية" في يونيو 1972 .و ناقش المؤتمر اهداف السياسة الثقافية و مضمونها. و أعقب هذا "المؤتمر العام للمثقفين"(سبتمبر /أكتوبر 1972) الذي تتلخص توصياته في تكثيف العمل على بعث التراث الحضاري السوداني و " ضرورة الإعتراف بالتنوع في الثقافة كوسيلة لإثراء الثقافة القومية و حل المشاكل الإقليمية ذات الطابع السياسي الثقافي" ( 14 )، و على ضرورة استنباط نظام من اللامركزية في الإدارة يعمل على التعبير عن حيوية هذا التنوع الثقافي " ( 15 )و يرى د. محمد عبد الحي، الشاعر الكبير و أحد اهم منظري هوية الهجنة الآفروعروبية في السودان، و الذي كان يتولى مسئولية مصلحة الثقافة ان" المؤتمر القومي للتخطيط الثقافي الشامل" الذي عقد في فبراير 1979 كان أهم هذه المؤتمرات " إذ انه عمل على التعبير الواضح المنظم عن التعدد و الوحدة في ثقافة السودان و اللامركزية الضرورية في إدارة العمل الثقافي و مشكلات العلاقة بين التأصيل و التغيير و في علاقة الثقافة بالتنمية الإقتصادية و الإجتماعية و هي الثلاثة عُمُد التي تقوم عليها السياسة الثقافية في السودان" ( عبد الحي، السياسة الثقافية في السودان ص 26).
إن إستمرار النبرة التعددية في الخطاب الثقافي الرسمي ـ رغم النكسة الديموقراطية لنظام النميري الذي شرع ( من خلال " لجنة إعادة النظر في القوانين" لعام 1977 ) في تعديل دستوره العلماني ليتوافق مع أحكام الشريعة ـ أمر قد يبدو غريبا لمن يراقب أحوال جيوتوليتيك الثقافة السودانية من الخارج.فالنظام ـ من خلال تصريحات مثقفيه ظل يتبنى دعاوى ديموقراطية الثقافة كسبيل لثقافة الديموقراطية في السودان.و ربما كان الأمر يجسد صلابة القناعات التعددية للسودانيين في وجه العربدة الدينية لرئيس حائر سلطاته بلا حدود . و قناعات السودانيين بالتعددية الثقافية يمكن فهمها بطبيعة الجهد الكبير الذي بذله الشيوعيون السودانيون في تثبيتها في جملة الوثاثق المهمة للحزب الشيوعي: فقد جاء في وثيقة " حول البرنامج" التي كتبها عبد الخالق قبل اسابيع من حركة 19 يوليو التصحيحية :
" بالنسبة للتجمعات القومية و القبلية الأكثر تخلفا، و فيما يختص بالثورة الثقافية الديموقراطية:
ـ لا بد من التشجيع الفعلي للنمو الحر لثقافات هذه المجموعات.
ـ و لن يكون هناك نمو فعلي في هذه الثقافات إلا إذا بعثت لعات و لهجات هذه المجموعات و عمدت الدولة الوطنية الديموقراطية بجدية إلى تشذيب تلك الأدوات، و التوسل بها في التعليم( وفقا للتجارب التربوية في هذا المضمار) و في النهضة الثقافية الشاملة.
ـ أن تصبح هذه الثقافات جزءا من المكونات العضوية للثقافة السودانية " (17 )
و يجدر القول ان قناعات التعددية الثقافية التي صاغها الشيوعيون ما كان لها ان تصمد في وجه الرجوع السياسي لنظام النميري بدون الثقل السياسي و الرمزي لإتفاقية أديس ابابا التي حققت السلام و أحيت التفاؤل بفرص سودان التنمية و الرفاه الذي كان يحلم بأن يكون" سلة غذاء العالم". في تلك الفترة صارت نظرية استهام التراث الشعبي لكافة شعوب السودان نظرية جمالية رسمية للدولة.



" ستوديو" الفنانين الديموقراطيين:

في سنوات السبعينات التي اشتد فيها التضييق الأمني على نشاط الحزب و منظماته الجماهيرية عاد الشيوعيون لإستخدام حيلة دفاعية قديمة اثبتت نفعها من قبل.هي حيلة " أشكال العمل القانوني" التي توجه كوادر الحزب نحو استغلال هامش الحرية المتاح قانونا تحت ظروف القهر و المنع السياسي الرسمى.و أستغلال " اشكال العمل القانوني كأسلوب في العمل العام تم أول الأمر بعد تجربة حل الحزب الشيوعي(1966) ومنع نشاطة و طرد نوابه من البرلمان على يد تحالف الأحزاب الطائفية و الإسلامية. لكن الفعالية الحقيقية لمفهوم " أشكال العمل القانوني" تجلّت في السبعينات و الثمانينات في أوساط منظمات المجتمع المدني المتعاطفة مع الشيوعيين. و لعل اقرب الأمثلة بالنسبة لي يتجسد في تجربة الـ " ستوديو" التي عشتها مع نفر من الفنانين التشكيليين بين منتصف السبعينات و منتصف الثمانينات. و "الإستوديو" أو " تجمع الفنانين الديموقراطيين" كان منظمة سرية تعمل وسط التشكيليين على صيغة العمل الجبهوي و قد تم تأسيسها في 1975 بمبادرة مشتركة بين بعض التشكيليين الديموقراطيين و الشيوعيين ممن خبروا العمل العام المشترك في " الجبهة الديموقراطية " أيام الدراسة في كلية الفنون.كان الإستوديو توسيعا لتجربة الجبهة الديموقراطية كونه شكل نوعا من حلقة وصل بين الطلاب الديموقراطيين في الكلية و التشكيليين الذين التحقوا بالحياة العملية . كانت نواة التنظيم تتكون من عدد من الأعضاء النشطين لا يتجاوز خمسة عشر شخصا لكن هذا التنظيم المحدود العدد كان يستفيد من شبكة العلاقات السرية الواسعة التي نسجها الشيوعيون لسنين عبر المنظمات النقابية و هيئات العمل العام الديموقراطية. و كان لنشاط مجموعة " الأستوديو" طابع العمل العام السري الذي يتلخص في تنظيم الحركة المعارضة لسياسات النظام على مستوى "إتحاد الفنانين التشكيليين" و جمع التبرعات لصندوق دعم المبدعين المعتقلين و المفصولين و إصدار نشرة مسموعة في شكل أشرطة كاسيت، مثلما كان له طابع العمل العلني المشروع في تنظيم المعارض و الندوات .في منتصف السبعينات كان نظام النميري في حالة عداء شامل مع الحزب الشيوعي لكن اجهزة الثقافة الرسمية بقيت مسكونة بجيوب نشطة من الشيوعيين او الديموقراطيين المتعاطفين مع أطروحات الحزب الشيوعي و الذين كانوا، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، يسهمون في نشر وجهة نظر الحزب في شتى القضايا الثقافية. لقد اتاحت لي الظروف ، في النصف الثاني من السبعين( 1975ـ 1978) ان اعمل مشرفا على صفحة أسبوعية إسمها " ألوان الفن و الأدب" في جريدة " الأيام" التابعة للإتحاد الإشتراكي.كانت مهمتي تقتصر على نشر متابعات النشاط الثقافي و الفني و الإشراف على مداخلات القراء حول مواضيع الفن و الأدب. و بالنسبة لي فقد كان عملى في "ألوان الفن و الأدب" يبدو لي كمواصلة لنشاطي النقدي في صحف الحائط في كلية الفنون.و اظنني حاولت ان اجعل من الصفحة الثقافية منبرا للمناقشة التي كانت دائرة بين الفنانين منذ سنوات حول أسئلة الفن و قضايا التنمية و الهوية الثقافية .و بحكم علاقاتي بمجموعة " الأستوديو" و من خلال صلات " الأستوديو" بمسؤولي " جبهة الإبداع" في الحزب الشيوعي تحولت الصفحة لمنبر من منابر العمل العام المعارض الذي يتم داخل هامش الحرية المتاح داخل إجهزة إعلام النظام.كان المسؤولن عن الجريدة يعون البعد السياسي المعارض للطريقة التي كنت اشرف بها على الصفحة الثقافية. لكن الشعبية التي حازت عليها الصفحة بين القراء حفزتهم على غض النظر عن الطابع اليساري الذي يطبع المناقشات الفنية.و اظن ان ضمان استمرار الصفحة كان يتمثل في إلتزامها بنوع من عقد غير مكتوب مع إدارة الجريدة. و هو عقد يتمثل في إقتصار الصفحة على معالجة المادة المصنفة "فنية" و تجنب المواضيع" السياسية" .كانت المادة "الفنية" تتلخص في التقارير عن معارض الرسم و الأعمال المسرحية و الأفلام و عروض الكتب بجانب نشر القصائد و تنظيم المداخلات الفنية للقراء.لكن المناقشة في المواضيع الـ " فنية " كانت في الغالب تجرّ أطرافها نحو الإستطرادات السياسية التي تمسخ المناقشة الفنية ـ غالبا بعفوية وأحيانا بتدبير مسبّق ـ لمناقشة سياسية.و هذا الواقع أكسب المناقشة الـ " فنية" نبرة حرية جذبت للمناقشة العامة قطاعات من القراء لم يكن سؤال الفنون التشكيلية بين اولوياتهم. في تلك الفترة تحولت المناقشة في "أزمة الفن التشكيلي"، موضوعنا المفضل، إلى نوع من مدخل جانبي مشروع للخوض في اسئلة "الأزمة السياسة " بالقفز فوق تفاصيل الواقع السياسي المباشر للنظام.كان الخطاب النقدي مركبا بطريقة كما عرائس الدمى الروسية التي تحتوي كل واحدة منها الأخرى في بطنها. كنا نحيل ازمة الفن التشكيلي في السودان لأزمة البرجوازية الصغيرة و نحيل ازمة البرجوازية الصغيرة لأزمة المجتمع الرأسمالي النيوكولونيالي إلخ.و على هذه الأرضية الفكرية المبسّطة بنينا شبكة من التحالفات السياسية و الجمالية و التنظيمية كسبت لجماعتنا كفاءة مشهودة كحركة معارضة. ففي الأدب النقدي المعارضي الذي تم على صفحات " الأيام" و صفحات الملاحق الموازية (في " الصحافة " و في " الرأي العام" و في " مجلة الثقافة السودانية") تعددت الأصوات المعارضة بين مساهمات فنانين و كتاب ينطقون عن حساسيات سياسية متباينة بجمعها هاجس المعارضة الآيديولوجية( باسم" الشيوعيين" او باسم الديموقراطيين و" الكريستاليين" أو باسم" الجمهوريين") مقابل مساهمات فنانين و كتاب من المدافعين عن قيم المحافظة او حتى المدافعين عن سياسات النظام. في نهاية مارس 1977 اقام عبد الله احمد بشير ،الشهير بـ " بولا"، معرضه الفردي الأول بقاعة مكتبة المجلس البريطاني بأمدرمان. و بولا من الشخصيات المحورية في حركة النقد التشكيلي منذ السبعينات فضلا عن كونه كان من بين الناشطين اليساريين الذين اسسوا حركة القوافل الثقافية في الأقاليم حيث كان يعمل معلما للفنون(" طلائع الهدهد" في حنتوب 1968 و" طلائع القندول" في القضارف 1969)..معظم أعمال بولا المعروضة في مكتبة المجلس البريطاني ( حوالي ثلاثين عملا) كانت منفذة بالأحبار الملونة على الورق.و كتب بولا في نص قصير يؤطر للمعرض ان إهتمامه بـ " خلق أشكال في حالة علاقات تركيبية تهدف إلى التجدد" يعطيه حرية اكبر في معالجة علاقات الأشكال بصرف النظر عن كونها اشكال توضيحية (فيقراتيف) او تجريدية.و يضيف بولا في نفس الوثيقةأن الأعمال التي عرضها تمثل جزءا من مساهمته الشخصية" في عمل جماعي تشرع فيه مجموعة من الشبان السودانيين تتحرك من مفهوم للعمل الخلاق يتجاوز روح التخصص الضيقة الأفق لتغطي كافة نواحي المعرفة اللازمة لعمل خلاق ذي طبيعة كلية(..)ذلك ان النشاط الذي لا يعرف مكانه في البناء المركب للمعرفة الهادفة للتغيير يصبح بلا غاية" (18 ).و كلام بولا في معرضه يمكن ان يقرأ كنوع من بيان سياسي مضغوط لحركة مجموعة "الأستوديو" و جملة المؤسسات السياسية التي تسندها، بشكل مباشر أو غير مباشر، لكن فيما وراء التصاوير و الأدب النقدي يكتسب معرض بولا اهمية من حيث كونه انطوى على إنتباه الفنانين للشكل الطقوسي لمحفل الإفتتاح.فقد جرت العادة ان معارض السبعينات يتم إفتتاحها بواسطة وزير الثقافة او ممثل له ( وكيل الوزارة او رئيس" المجلس الأعلى للآداب و الفنون" او مدير مصلحة الثقافة)، و ذلك بحكم المساعدة المادية و التقنية و الإعلامية التي تقدمها وزارة الثقافة للفنانين العارضين.لكن بولا تجنب حضور السيد وزير الثقافة باختياره لطفل ذي ثمان سنوات ( محمد الجزولي) لكي يقوم بافتتاح معرضه الذي كانت انتلجنسيا العاصمة كلها تنتظره. و مع إفتتاح الطفل محمد الجزولي لمعرض بولا تم بشكل حاسم تثبيت مفهوم معرض التشكيل كحيز للحركة السياسية التي تتم بالتداخل مع الحركة الجمالية. يقول بولا في إفتتاح معرضه:
" جرى و ساد زمنا طويلا، و بدافع الرغبة في تجميد الفن، القول بأن الفن نشاط كاشف عن اعماق النفس الإنسانية. و هذا القول على مافيه من الصحة، قول مضلل لأنه يتحرك من إعتبار التكوين النفسي للإنسان معطى قبليا. و النتيجة الحتمية لمثل هذا الفهم هي التعامل مع الفن باعتبار انه باعث و منشط للإسقاطات الشخصية الموجودة قبلا. و على هذا المنطق الميتافيزيقي يتأسس النقد السلفي الذي يصرف النظر عن قيم التشكيل الأساسية متوجها إلى البحث عن الموعظة و الإرشاد و البواعث النفسية للفنان المختزلة في تصور ضيق الأفق عن دور الفن الإجتماعي و النفسي.
يتحرك موقفي من موقع مخالف للمنطق السالف، إذ ارى ان المأثرة الحقيقية للعمل الخلاق ـ و منه الفن ـ هي تكوين و تأسيس هذه الأعماق بالأصل. فالتكوين النفسي للإنسان هو نتاج تاريخه الإجتماعي، متاج عمله الخلاق في المقام الأول. ذلك ان هناك ما هو نتاج للإنجازات المدمرة المسؤولة عن كل اشكال التدني النفسي التي لحقت بالإنسان.
صادرة اعمالي ضد مؤسسة القمع الثقافي، ضد تركة النقد الإسقاطي،ضد الغياب المتدثر بالرموز بديلا عن الفعل.."(19 )
و بين نصوص الأدب النقدي للسبعينات تقف سلسلة مقالات عبد الله بولا المعنونة " مصرع الإنسان الممتاز" كعلامة مهمة في مشهد التشكيل السوداني كون صاحبها يتناول بالتحليل و النقد الحركة الفنية السودانية كتعبير أصيل عن تجليات الصراع الطبقي التي تخوّل لفناني الطبقة الوسطى الحضرية ان يتعالوا بإمتيازهم الطبقي ( الدبلوم الأكاديمي) على الفنانين الشعبيين المزعومين مجرد حرفيين و صنايعية .يكتب يولا معرفا الفنان التشكيلي:
" التشكيلي في فهمنا هو كل من يعمل في صياغة أشكال المرئيات إبتداءا من " صانعي المراكيب"، و تتسع الكلمة لتشمل السمكري، مصمم الأزياء النجار، المعماري، المشاطة و الكوافير إلى آخر ما يمكن أن يتسع له خيال القارئ".." و لا أشك في أن النسألة بصورتها هذه تغضب اخواننا التشكيليين الذين يعتمدهم النقد الرسمي و المؤسسات الأكاديمية البورجوازية همدا أو المتبرجزة جهلا.ما العمل؟
ليس عندي ما يخفف وقع الفاجعة ، و أنت يا سيدي التشكيلي المتخرج من كلية الفنون الجميلة ، و ربما الكلية الملكية، و الحائز على شهادة الإمتياز الإجتماعي ، و التي تسمى دبلوما أو خلافه، أيضا لا فرق بينك و بين " الحسين ود مهيوب" صانع العناقريب او " حسن كلاش "السمكري.كلكن تشكيليون و كلكم مسؤول عن تحقيق إضافة خلاقة لموروث البشرية من تاريح صياغة الأشكال المرئية لتستحق لقب " فنان" و لا جدوى من شعاداتك و إن بلغ عددها مائة و نيف.".."و ذلك ان الرسام على سبيل المثال، ليس خلاقا لأنه رسام، كما هو شائع و معتقد،إنما الرسام الفنان هو الرسام الخلاق الذي يضيف لتاريخ الرسم إضافة خلاقة.و الأمر يكون كذلك مع بقية التشكيليين بالمفهوم الأكثر شمولا"( 20 ).

و جدير بالذكر أن بولا و الغالبية العظمي من مجموعة التشكيليين المتحركين داخل الشكل التنظيمي و الفكري للـ "أستوديو" لم يكونوا اعضاء منظمين في الحزب الشيوعي. لكنهم كانوا يشكلون دائرة من الفكر النقدي الصديق اظن ان الشيوعيين السودانيين استفادوا منها كثيرا في تطوير " حساسية" جديدة تجاه الإبداع و المبدعين.( 21).

" عاش الشعب" في المعرض :

و على قاعدة الأدب النقدي لحركة التشكيليين الديموقراطيين الذين نشطوا في السبعينات صارت مقولات تعريف الفنان و دور الفن في التنمية الإجتماعية و أسئلة الهوية وقضايا التعدد الثقافي عناصر مهمة في توجيه الخيارات الجمالية للتشكيليين الأصغر سنا. و افضل مثال على هذا التحول هو المعرض الضخم الذي نظمه نفر من التشكيليين الشباب ،أغلبهم من مواليد السبعينات ،و هو" معرض الملتقى 2008 " الذي نظمته مجموعة من التشكيليين المغتربين في بلدان الشرق الأوسط و في أوروبا و أمريكا و استراليا، ممن تحلقوا حول الموقع الأسافيري المسمى " ملتقى التشكيليين السودانيين" بالتضامن مع" الإتحاد العام للتشكيليين السودانيين". هذا المعرض الضخم الذي استمر لخمسة ايام في الخرطوم ( يونيو 2008) كان حدثا ثقافيا استثنائيا في العاصمة حيث اتاح لعشرات الآلاف من " شعب" العاصمة ان يؤمّوا هذه التظاهرة الثقافية الفريدة لمشاهدة اكبر مجموعة من المعروضات التشكيلية في مكان واحد( 1150 عملا لـ 270 فنانا )بجانب أن التظاهرة الكبيرة لم تقتصر على الأعمال التشكيلية بل تجاوز برنامجها حدود منطقة التشكيل ليشمل تقديم أعمال فنية متنوعة بين الرقص الشعبي و المسرح و عروض الأفلام القصيرة و الغناء فضلا عن ورش الرسم و المسرح التي أشرف عليها فنانون للأطفال و للكبار داخل المعرض. و المعرض يعتبر تظاهرةاستثنائية بما انطوى عليه تنظيمه من بعد سياسي واضح.ذلك ان المعرض تم بمبادرة أهلية و بالعون الذاتي تقريبا من طرف مجموعة الفنانين الذين تمكنوا من الحصول على بعض الدعم من الشركات التجارية الخاصة. و كان واضحا ان السلطات الحكومية بوزارة الثقافة قد اضطرت لتقديم بعض العون التقني ( أرض المعارض الدولية)" مقابل" افتتاح وزير الثقافة للمعرض.وقد تأكدت النبرة السياسية للتظاهرة الفنية بحضور بعض الشخصيات السياسية المعارضة لنظام عمر البشير لحفل الإفتتاح، كممثل "الحركة الشعبية" ياسر عرمان و محمد ابراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي .أما من جهة التشكيليين فقد كان المعرض بالنسبة لهم مناسبة للم شمل " قبيلة " الفنانين التشكيليين المشتتين بين الوطن و المنافي ولتثبيت قناعة جماعية قديمة بكون الفنانين يمثلون في المشهد الوطني كما الأسمنت الذي يربط مكونات الشعوب السودانية. و في هذا المشهد كان من الطبيعي ان يستعير محرر التقرير الصحفي للمعرض في المنتدى الأسافيري لـ " ملتقى التشكيليين السودانيين" صورة " عرس التشكيل السوداني" كأفضل تعبير عن هذا الحدث الفني ذي الأبعاد الرمزية المتعددة .(22)

يمكن القول بأن الأدب المعارضي في السودان قد ساهم بشكل مؤثر في تسييس الممارسة التشكيلية كظاهرة ذات ثقل سياسي و إن وفدت من خارج فضاء السياسة.
خلال عام 2008 نقلت وسائل الأنباء حادثتين موضوعهما مصادرة حق الفنانين التشككيليين في السودان في عرض اعمالهم بحرية على الجمهور السوداني.و في الحادثتين ورد اسم الفنان التشكيلي محمد حمزة كشخصية محورية:
الحادثة الأولي تتلخص في تنظيم محمد حمزة لمعرض يحتوي على اعمال فنية لمجموعة من الفنانين البريطانيين (20فنانا) و السودانيين.أقيم المعرض المعنون " نداء الفنون من أجل دارفور" في مدينة ويلز البريطانية اولا قبل ان يصل الخرطوم في شهرأبريل الماضي، و ذلك بالتعاون بين وزارة الثقافة و الإعلام المركزية و وزارة الإعلام و الثقافة الإقليمية بجنوب دارفور و جامعة قلامورقن.و قد اعترضت سيدة سودانية، تعرّف نفسها كـ " ابنة الفنان الفتوغرافي شوقي ابوعكر"، اعترضت على حضور لوحة لفنان بريطاني(ديفيد نايت) تمثل مشهدا لفتاة اوروبية عارية جالسة على فراش و خلفها يتمدد رجل عار. و هددت بسحب أعمال والدها من المعرض ما لم يقم المنظمون بسحب لوحة العارية او تغطيتها. و في البداية رفض محمد حمزة قوميسير المعرض كما رفض اسمعيل عبد الحفيظ رئيس اللجنة التنفيذية لإتحاد التشكيليين السودانيين ، رفضا الإستجابة لمطالب" بنت الفنان" ،و ـ تحت ضغوط من سلطات وزارة الثقافة ـ انتهت الحادثة بموافقة المنظمين على تغطية اللوحة موضوع الخلاف.و قد أثارت هذه الحادثة ردود افعال غاضبة من طرف نفر من المهتمين بالتشكيل.( 23 )

لكن فيما وراء غضب المعارضين الذي اتحذ طابعا سياسيا في مطالبة المحتجين للدولة بأن ترعى حق حرية التعبير كحق دستوري حسب دستور 2005 ، كشفت الحادثة عن كون منطقة الفن التشكيلي ما زالت تطرح نفسها كبؤرة معارضة و تمرد عفوي ضد تغول السلطات على حرية التعبير. و ذهب معظم المحتجين على سنسرة التعبير الفني إلى مطالبة الدولة بإحترام الدستور و احترام نصوص إتفاقية نيفاشا التي تضمن حرية التعبير كحق أساسي لكل السودانيين .
أما الحادثة الثانية فقد كان مسرحها " دار الأمة" بأمدرمان، و هي الدار التابعة لحزب الأمة القومي الذي يعتبر من أهم القوى السياسية السودانية.
و الحادثة تتلخص في قيام الفنان محمد حمزة بنتظيم معرض لأعماله في دار حزب الأمة القومي بأمدرمان بالتعاون مع " المنبر الحر للثقافة و الفنون" التابع لحزب الأمة و " جماعة القصر".افتتح المعرض، مساء الثلاثاء 26/8/2008 ، الأستاذ إدريس البنـّا، أحد قادة حزب الأمة و عضو مجلس رأس الدولة السابق الذي يحظى باحترام الأجيال من التشكيليين السودانيين كونه أيضا من أوائل خريجي "مدرسة التصميم" الأحياء.

كتب الأستاذ عاصم ادريس الصويم في موقع سودان للجميع.أورغ:
" مر يوم الإفتتاح لشكل طبيعي(..)و فوجئنا صباح اليوم التالي بتحطّم ستة لوحات(..)و قال محمد حمزة ان احد اعضاء المكتب السياسي قد قام يإلقاء إحدى لوحاته خارج قاعة العرض ساحبا إياها و هو يتلفـّظ بإساءات بالغة.." و ذلك لأن العضو المذكور لم يحتمل رؤية لوحات تمثل نساء عاريات بين المعروضات.
و تحت ضغط سلسلة الإحتجاجات التي حملتها الصحف( "الوطن" و" الأيام") ازاء المسؤولين عن حزب الأمة كونهم لم يبادروا بالإعتذار للفنان و لم يدينوا مسلك المسؤولين السياسيين المتورطين في الإعتداء على أعماله ، اضطرت قيادة حزب الأمة لتقديم توضيح و اعتذار في رسالة موجهة من الدكتور عمر محمد عمر، مدير" دار الأمة" بأمدرمان، لرئيس تحرير جريدة " الوطن"( 5 سبتمبر 2008). المهم في هذه الرسالة ـ بجانب الإعتذار للفنان و لكل من تأذى من سلوك المعتدين على المعروضات ـ هو نفي الحزب لأي صفة قيادية للأشخاص الذين اعتدوا على أعمال محمد حمزة و التأكيد على ان حزب الأمة سيشكل لهم" مجلس محاسبة" و معاقبتهم على هذا العمل " المشين".و أهم من ذلك التأكيد على موقف الحزب الإيجابي الداعم للإبداع و المبدعين تحت رعاية الإمام الصادق المهدي و اشرافه الشخصي.و اشارة مدير الدار للرعاية و الإشراف الشخصي الذي تحظى به الفنون من طرف السيد الصادق المهدي بصفاته كـ " إمام" طائفة الأنصار و المنظر الأيديولوجي للحزب و الزعيم السياسي، إنما تستند على مساهمة فكرية للصادق المهدي معروفة ، منذ سنوات، و منشورة تحت عنوان " المشروع القومي للفن التشكيلي". و هي مساهمة تندرج ضمن مسعى الصادق المهدي لبناء الجسور بين المؤسسة السياسية المحافظة و حركة المثقفين السودانيين المتبلورة حول مجالات الآداب و الفنون. (24)

و هكذا تشهد ساحة السياسة السودانية دخول زعامة سياسية تقليدية كبيرة في الحرب الآيديولوجية الدائرة في "جبهة الإبداع" من بوابة المعرض. هذه الأهمية التي يوليها إمام طائفة تقليدية و زعيم سياسي محافظ من وزن الصادق المهدى لعواقب ما يدور في فضاء المعرض تكشف عن استقرار معرض التشكيل كوسيلة مهمة من وسائل العمل العام ضمن المشهد السياسي السوداني. فزعيم حزب الأمة بات يعرف المردود السياسي المجرّب للإحتفاء بالفن و بالفنانين بحسبانهم قوة إجتماعية ذات ثقل سياسي لا يمكن تجاهله لكن إهتمامه برعاية الفنون للحد الذي يفتح فيه ابواب دار الأمة لفنان من نوع محمد حمزة ـ معروف بميله لإستفزاز الجمهور ـ يكشف عن إتجاه جديد في حزب الأمة لإستخدام المعرض كوسيلة تعليمية غايتها توطين مفاهيم الثقافة الحديثة بين جماهير الحزب التي بقيت لأجيال رهينة لثقافة "الإشارة " التقليدية.و " تحديث " حزب الأمة صار من اولويات الصادق المهدي و مجموعة الناشطين المقربين منه، ذلك أن التجربة السياسية التي خاضوها في العقدين الأخيرين علمتهم أهمية التكيف مع متغيرات مجتمع سوداني متحوّل تحت شروط العولمة الثقافية .و قد دافع مدير" دار الأمة" عن فكرةإقامة معرض لمحمد حمزة في "دار الأمة" بأن الجمهور الذي يؤم "دار الأمة" لمشاهدة معرض رسم هو جمهور شعبي متواضع قد لا يتجاسر على دفع ابواب صالات العرض في الفنادق الفارهة او في المراكز الأجنبية المعروفة بتنظيم المعارض في العاصمة. و هكذا إذا لم يذهب الشعب لحيث الفن فيجب على الفن ان يأتي لحيث الشعب. وهكذا يخلص الجميع إلى حسم سؤال الفن و السياسة في السودان بالهتاف اليساري القديم: "عاش الشعب".

يمكن القول بأن الأدب المعارضي في السودان قد ساهم بنصيب أوفر في تسييس الممارسة الفنية بين التشكيليين السودانيين، و ذلك بشحنها بمضامين سياسية رغما عن كونها ذات طبيعة فنية متحققة خارج مقام السياسية التقليدية.و فيما وراء تسييس الفنانين فإن المعرض الفني نفسه إنمسخ لتظاهرة سياسية. لقد أصبح للمعارض الفنية جاذبية لا قبل للمنظمات السياسية بمقاومتها و ذلك بسبب كفاءتها في تغليف المضامين السياسية في غلاف الفن البريء.و تحت شروط ندرة أمكنة العرض في العاصمة ،فأغلب الفنانين التشكيليين الذين يودون عرض أعمالهم في أمكنة العرض المتيسرة في وسط البلد، قد يغضون الطرف عن شبهة الإستغلال السياسي من قبل الجهة السياسية، المحلية أو الأجنبية ، التي تيسر لهم صالة العرض و ربما بعض المساعدات المادية و التقنية [و لا شيئ مجانا]،و الجهات السياسية التي ترعى معارض الفنانين التشكيليين تعرف أنها تتوسل بوسيلة المعرض التي لا تقتضي صرفا ماليا كبيرا، لعرض نفسها من خلال عرض وجه ثقافي إيجابي يتعذر رفضه حتى بالنسبة للخصوم السياسيين.لقد ظلت أمكنة العرض، الموجودة في الخرطوم، و لعقود طويلة، إما تحت سيطرة الدولة أو تحت سيطرة المراكز الثقافية الأجنبية.و لكن واقع تسييس المعرض كظاهرة ثقافية لفت أنظار المنظمات السياسية المعارضة في السودان. و في هذا السياق يمكن فهم مبادرة منظمة سياسية تقليدية كحزب الأمة في العناية بتنظيم معرض فن تشكيلي في "دار الأمة" بأمدرمان.و يبدو أن العناية بالمعارض الفنية هو إتجاه أصيل في التوجه السياسي الثقافي لمنظمة سياسية تبحث عن تجديد صورتها في خاطر الجمهور.و في الموقف الذي وقفته إدارة حزب الأمة، أبان أزمة " معرض الفنان محمد حمزة" ،خير دليل على إستيعاب حزب الأمة لدرس المعرض في الحياة السياسية السودانية.أن تسييس المعارض الفنية في السودان يمكن من بناء جسور جديدة بين مقام الفن و مقام السياسة.و كفنان منتبه لأهمية النشاط السياسي أظن أنه شيئ محمود أن يعي الناس في السودان تداخل أشغال الفن و السياسة.و هو شيء محمود لو نظرنا إليه من زاوية تنمية الفنون في السودان مثلما هومحمود حين ننظر إليه من زاوية فنون التنمية في السودان.
حسن موسى
دوميسارق 31 أكتوبر 08



.............................
الهوامش و الصور المرفقة:
1ـ سورة يس 82
2ـ أنجيل يوحنا، الإصحاح الأول
3ـ "وقد ظلت هذه المخاوف كامنة في صدور أبناء الريف ردحاً طويلاً من الزمن. ففي سة 1918 اعترض أبناء أحد البيوت الدينية الكبرى ، كما اعترض “فكي” الخلوة على إنشاء مدرسة أولية بـ "مقرات" بالقرب من "أبي حمد" وأطلق أهالي "مقرات" على المدرسة الجديدة التي شيدت بالقرب منها في سنقراب " : كنيسة سنقراب"
انظر محمد عمر بشير (تطور التعليم في السودان)
4ـ السودان الجديد، 18 يونيو 1956
5ـ الأيام 18 يونيو 1956
6ـ انظر محمد سعيد القدال، معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، دار الفارابي و دار كوش 1999
7ـ أنظر عبد الخالق محجوب وثيقة" حول البرنامج ص ص 44/45
8ـ إبراهيم الصلحي، جامعة بايرويت، 1983
9ـ حوار مع أ. باير. المرجع السابق
10ـ الصلحي في آفريكان آرت1967
11ـ الأيام 21 /6/1979
12ـ أ. توينبي. أفريقيا العربية و إفريقيا السوداء، سندباد، باريس 1979
13ـ الحزب الشيوعي السوداني الماركسية و قضايا الثورة السودانية 150 ـ 154
14ـ محمد عبد الحي في " السياسة الثقافية في السودان، ص 13 ، نشر اليونسكو، باريس )1981
15ـ انظر ايضا محمد عمر بشير، ورقة" التعليم و الوحدة الوطنية"، معهد الدراسات الإفريقية و الآسيوية، 1983
16 ـ انظر ايضا محمد عمر بشير، ورقة" التعليم و الوحدة الوطنية"، معهد الدراسات الإفريقية و الآسيوية، 1983
17ـ أنظر : عبد الخالق محجوب " حول البرنامج"2002، دار عزة. ص 50
18ـ انظر " مجلة الثقافة السودانية،" المعارض الأخيرة" ، حسن موسى .مايو 1977
19ـ انظر صلاح حسن عبدالله، مساهمات في الأدب التشكيلي،دار أروقة،الخرطوم، 2004 ، ص 229
20 ـ أنظر مداخلات بولا و حامد يحيى الباشا في صفحة "ألوان الفن " الأيام 7 سبتمبر 1979 .
(أنظر ايضا سلسلة مقالات عبد الله بولا " مصرع الإنسان الممتاز" في " الأيام" سبتمبر 1976 و مارس 1977
21ـ أنظر الحزب الشيوعي السوداني ،ورقة " نحو حساسية شيوعية تجاه الإبداع و المبدعين" أبريل 1976
22ـ أنظر كلمة مامون احمد محي الدين في موقع " ملتقى التشكيليين السودانيين" الرابط:
https://www.sudanartistunion.com/vb/show ... php?t=1589
23ـ أنظر صحيفة " الأحداث" عدد 29 أبريل 2008)
انظر أيضا الرابط :
https://sudan-forall.org/forum/viewtopic ... 4017#23155
24ـ أنظر الرابط:
https://sudan-forall.org/forum/viewtopic ... 56577f4017
ÃÈæÈßÑ ÇáÃãíä ãÍãÏ
مشاركات: 47
اشترك في: الأحد أغسطس 14, 2005 11:24 am
مكان: الخرطوم

مشاركة بواسطة ÃÈæÈßÑ ÇáÃãíä ãÍãÏ »

من مطبق معرض عبد الله أحمد البشير بولا




صورة



صورة
صورة العضو الرمزية
مصطفى آدم
مشاركات: 1691
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 5:47 pm

مشاركة بواسطة مصطفى آدم »

شغل نضيف يا أبّكر !
بتاع حبوبات من سحارة عتيقة!
وينك قاطع الحركة
ÃÈæÈßÑ ÇáÃãíä ãÍãÏ
مشاركات: 47
اشترك في: الأحد أغسطس 14, 2005 11:24 am
مكان: الخرطوم

مشاركة بواسطة ÃÈæÈßÑ ÇáÃãíä ãÍãÏ »

مصطفى ياصديق

السحارة ملك خاص لصلاح إدريس المشهور بالطويل والفضل له من قبل ومن بعد وهو الآن يسامر يوسف (سوس) ببيروت !
وكان بحثنا في السحارة جزء من مشروع (سري) مشترك تآمرنا عليه بقاهرة المعز أرجو أن يوفقني الله في كتمانه حتى حين.
بالله يا مصطفى حكي حسن دا مش متعة روحية خالصة ..
ما قاطع الحركة لكن الظاهر الحركة هي التي تقطعنا !!
الفاضل الهاشمي
مشاركات: 2281
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:14 pm

مشاركة بواسطة الفاضل الهاشمي »


كتب سيدأحمد خليفة مايلى مقتطفا من حديث طويل

صباح الـخير يا نقد

ومع ان أفكار وعقيدة الحزب الشيوعي كانت آنذاك «أي قبل الإستقلال» تصطدم بما نسميه ثقافة وتعبيرات تلك الايام الأحزاب الرجعية إلاَّ أن الحزب الشيوعي السوداني ترك هذا الفهم جانباً وعطل هذا المنطق في الماركسية اللا دينية وتحول إلى حزب سوداني خالص وتألف وتحالف مع الرجعية المزعومة وهي ما كان يسمى بالأحزاب الإستقلالية.. وطالب بإستقلال السودان وعارض الإتحاد مع هذا أو ذاك من دولتي الحكم الثنائي مصر وبريطانيا.
.....

...

ويكفي أن كل الزعامات السياسية التي القي عليها القبض بعد الإنقاذ والقيت بسجن كوبر 1989م، إختارته إماماً ليصلي بها الأوقات الخمسة رغم وجود الإمام الصادق (والاخوة) الترابي.. والأمر على ذمة من كتبوه وروه ولو كنت مع هؤلاء لصليت خلف نقد أيضاً



المصدر:
https://www.alwatansudan.com/index.php?type=3&id=19228


ترى ماذا نحن فاعلون بصلوات العباد فى خلواتهم/ن ??
هل نبحث فى علاقة ذلك بالوضع النفسى للنخب والمواقف الفلسفية ودورهم القيادى?
وماعلاقة ذلك ببرنامج الحزب الذي يصوغه عمليا مئات الاعضاء?
ماهىٍ أثقال الشخصى (الصلاة هنا مثلا) على شغل المؤسسة السياسية الاجتماعية?

أحيانا ارى فيها تبرما بالأخر وحريته الشخصية حتى وهى تصدر من سيدأحمد خليفة وكأنها ذم يشبه المدح. وتدخل عندى فى باب آليات القمع والعنف والقهر والتحامل التى خبرناها او نسمع دبيبها فى الوعى واللاوعى مصوبة نحو الآخر.

هل من اصلاح خطأ هذا النوع من القهر الذى لايخفى وسط الحزبيين كونى مارست شيئ منه فى ماضى ايام لا تخلو من طلاشة فى أحد ابعادها.

ام نرجع الى خطيات جدل المادة ومادة الجدل لاثبات وجود الله كأولوية نضالية فى بؤس الحاصل وتضاريسه? وماذا فعل الله بخيارات صاغتها ايادينا وأنفسنا(يداك اوكتا وفوك نفخ)

هى اسئلة لها علاقة بحديث ناس الميدان اعلاه

ابقوا طيبين

الفاضل الهاشمى
The struggle over geography is complex and interesting because it is not only about soldiers and cannons but also about ideas, about forms, about images and imaginings
ادوارد سعيد "الثقافة والامبريالية 2004"
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

ناس الميدان..صيانة القطيعة

مشاركة بواسطة حسن موسى »

[size=10]ناس الميدان

صيانة القطيعة

و نحن و قوف في" الإستقبال/ القراش" نتناقش في تفاصيل التحضير للندوة سمعت صوته:
" إزيك يا حسن موسى؟"
و ألتفت لأجدني وجها لوجه مع أستاذنا الفنان أحمد سالم و هو يملأ مدخل الإستقبال أنيقا في قامته المجلببة و عصاة في يمناه يتوكأ عليها
سألني باسما من وراء النظارة السوداء التي تحجب عينيه:
" عرفتني؟"، عرفته من صوته وكدت أقول:" و هل يخفى القمر ؟"
"كيف يا أستاذ؟ آخر مرة تلاقينا سنة واحد و تمانين لو بتتذكّر"،
كانت آخر مرة إلتقيته فيها في بيتهم ببحري في مطلع الثمانينات، و أنا أجمع مادة بحث ميداني عن الفنانين التشكيليين العصاميين في السودان.أذكر انه عرّفني على إبنه طارق الذي كان يافعا مولعا بالرسم.بعدها بسنوات تخرج طارق في كلية الفنون و صار علما بين جيل من التشكيليين السودانيين الأصغر سنا حتى أن بعض التشكيليين من دفعته في الكلية صاروا يعرّفون أحمد سالم بوصفه بهذه العبارة السوريالية : " دا الأستاذ أحمد سالم، أبو طارق أحمد سالم".. و أحمد سالم ، لمن لا يعرفونه ،يصنّف عادة في جيل الرواد " العليعثمانيين" الذين إخترعوا فن الرسم " من راسهم" ـ كما تقول بلاغة الشعب ـ و ليس " من كراسهم" كونهم انخرطوا في شعاب المغامرة التشكيلية الحديثة بلا عون من أحد ،أو كما قال بنفسه ، في واحدة من لقاءاتي معه في داره ببحري( يونيو 1978) :
" علي عثمان هو اللي علمنا كيف نحضـّر اللوحة و الألوان و كيف نرسم و شنو النرسمه". و لا عجب فقد كان هذا الـ "علي عثمان" في طليعة من عُرفوا ، فيما بعد، بـ " رسامي المقاهي"، مثل " العريفي"(الأب) و " عيون كديس" و "جحا" و غيرهم.ثلة من تشكيليي الحواضر العصاميين المتعددي المواهب، بغير تقعـّر نظري، حتى ان نقادهم وصفوهم ، إفتراءا، بـ "البدائية التشكيلية" و هم منها برّاء.و كان جمهور بين جيل تشكيليي " مدرسة التصميم" يصنفهم في خانة " الأسطوات الحرفيين" تعاليا، و في ذلك مجانبة للدقة و جور في حق هؤلاء الرجال الأماجد الذين اخترعوا فن الرسم على مقاس حاجة أهل الحواضر.و هم في نهاية تحليل ما، يقفون، في منظور تاريخ حركة الرسم الحديث في السودان، كرهط من المشتغلين بصناعة الرسام و يختلط فيهم المبدع بالحرفي، بنفس القدر الذي يشتبه به المبدعون بالصنايعية داخل "قبيلة" أهل الإمتياز الطبقي من حملة دبلوم كليات الفنون. بيد ان الفنانين العصاميين ، ضمن تصديهم العفوي للممارسة التشكيلية، و تحت شروط اللحظة التاريخية التي عبروها ، لم يكن يهجسهم الفرز النظري بين ما هو أدخل في " الإبداع" و ما هو أدخل في " الحرفوية"، كمثل ذلك الشقاق الذي شغل جيل اولادهم و بناتهم من تشكيليي السبعينات. فهم كانوا مشغولين بما هو أهم من الخوض في شقاقات تاريخ الفن الأوروبي الحديث،لقد كان شاغلهم المركزي يتعلق بالتأسيس لتقليد ثقافي جديد بين أهل الحواضر السودانية. و أظنهم مهدوا الطريق للفنانين الحديثين، من حملة شهادات مؤسسات التعليم الفني، و أعدّوا لهم مسرح القطيعة الجمالية مع التقليد الثقافي القديم المتوجّس دينيا من حضور آيات الثقافة الحديثة في حياة المجتمع المسلم.
و من خلال نتاجهم العفوي الحر استطاع التشكيليون العصاميون في ثلاثينات و أربعينات القرن العشرين، استطاعوا وسم المكان المديني بمياسم حداثة أيقونية أصيلة سوّغت القطيعة الضرورية مع التقليد الأيقوني لثقافة المجتمع قبل الرأسمالي و مهدت الأرض الأيقونية لجيل جديد من التشكيليين تهجسه اسئلة دور الفن في عملية التغيير الإجتماعي.ذلك ان القطيعة الثقافية التي كابدها الإنسان المديني في السودان كمشروع حداثي، اقتضت منه ان يستنبت بدائله الثقافية الحديثة في عجلة كبيرة ضمن شروط عسر مادي و رمزي غير مسبوق.و في هذا المشهد فقد ساهم الجهد الإيقوني الجليل للتشكيليين العصاميين في تقعيد المسلمين من أهل الحواضر السودانية على مقعد التقليد التشكيلي الحديث و تأهيلهم لقبول حركة الرسم الحديث كشيء طبيعي رغم التوجس الديني من مخاطر التصاوير في الموروث الثقافي للمجتمع العربسلامي في السودان(" لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب او صورة"[صحيح البخاري]).و في هذا المقام فنحن ندين لهم بالعرفان كونهم ساهموا في أنسنة المدينة السودانية و هندسوا البيئة الأيقونية الحضريةعلى مقاس ساكنيها.هذه المساهمة الجليلة ، التي عبرت تاريخ الثقافة في السودان دون ان يهتم بها الباحثون في سوسيولوجيا الثقافة، تردنا للتفكّر في مفهوم القطيعة الثقافية كمشروع متعدد الأبعاد تشتغل عليه مجموعات و جهات و أفراد حوافزهم متباينة و إهتماماتهم متنوعة لكن كل منهم يحفر لتوسيع القناة التي تنقل ماء الحداثة لري إحتياجات مجتمع حديث ينتظر في رحم المستقبل.

بعد السلام و التحيات و السؤال عن الأحوال تقدمنا لداخل حوش الدار و جلسنا على كراسي البلاستيك المصفوفة قرب الأستاذ محمد إبراهيم نقد فحيـّانا كما يحيـّي صاحب البيت ضيوفه، و حييناه كما يحيي أصحاب البيت ضيفهم، فالبيت بيتنا،و انضم لمجلسنا الأستاذ التيجاني الطيب و حيانا كما فعل نقد و رددنا عليه التحية كما فعلنا مع نقد.و نحن " سياد بيت"، في هذا البيت الغريب الفتـّان المبني من طوب القطيعة الكبيرة مع ثقافة التقليد قبل الرأسمالي في السودان. هذه القطيعة النبيلة التي تضامن عليها نفر من أهل الطبقة الوسطى الحضرية في السودان منذ مطلع القرن العشرين ، هي التي سوّغت بناء و بقاء هذه المؤسسة السياسية المشاترة المسماة بالحزب الشيوعي السوداني ، و هي التي أتاحت إندماجه في الحياة السياسية لأولاد و بنات المسلمين، رغم أنف العصاب الديني المطبق على البلاد منذ سنين هي عمر جيل بحاله.
و حين أقول : " نحن سياد بيت "، فأنا أعنينا، نحن الفنانون التشكيليون، و قد كنا ، و ما زلنا، شركاء أصيلون في تخليق القطيعة الثقافية مع التقليد الثقافي للمجتمع قبل الرأسمالي، و قدرنا أن نعمل مع الآخرين على مخارجة المجتمع السوداني من إلتواءات ثقافة الحداثة الرأسمالية بقطيعة أخرى، أشد وطأة بلا شك لكنها أقوم قسمة، بهدف تخليص الحداثة من أوشاب السوق و ميراث الثقافة الإستعمارية.
كنت سعيدا بجلوسي في معية هؤلاء الرجال المتحكّرين في عمق تاريخ القطيعة الحداثية فيى السودان، و بدا لي حرصهم على حضور الندوة نوعا من آليغوري على التضامن على صيانة هم القطيعة الثقافية.
و حدثنا أحمد سالم عن مشاريعه الفنية الراهنة و عن إنشغاله بتصاوير نحتية لأعلام الحركة الوطنية في السودان و أطربني أن هذا الشيخ الفنان الرائد ما زال مهموما بهم التشكيل رغم أن أجيالا من الفنانين الأصغر سنا هجروا الممارسة و فارقوا الفن "فراق الطريفي " كما تقول بلاغة الأهالي.

و أحمد سالم فنان في شكل جسر، إذ يمثل بين العصاميين "العليعثمانيين" ، كأفضل وسيط بين طريقتين في التشكيل.فهو تارة تشكيلي " مثقف" ضل طريقه بين العصاميين، و هو طورا عصامي متغرِّب بين "ناس الكلية"، نوع من " خاتف جيلين" كما قد تعبر البلاغة الشعبية.و أعماله التي تحمل سيماء العصاميين ، في الظاهر، إنما تنطوي على قدر معتبر من الفضول التقني و سعة في الحيلة التشكيلية تتجاوز ، من بعيد، الحدود التي وقف عندها عدد كبير من العصاميين "العليعثمانيين ", و لا عجب فسيرة أحمد سالم المهنية لا تشابه سير أصحابه" العليعثمانيين".و هو و إن اعترف بفضل علي عثمان عليه و على أبناء جيله ،)، إلا أن الرجل لم يتوقف عند" إرشادات" علي عثمان . فقد أتيحت له الفرصة لتعلّم بعض تقنيات الرسم بشكل مدرسي منظم ، بالذات في الفترة التي تلقى فيها تدريبا مهنيا كـ " رسام فني" أيام عمله في وزارة الري بودمدني. و أظن أن أحمد سالم، حسب معرفتنا له، استفاد لأقصى حد ـ حرفيا و فكريا ـ من صداقاته الحميمة مع عدد كبير من التشكيليين الأصغر سنا.الأمر الذي يجعل منه " عصاميا تقريبيا" عمله أقرب لأسلوب عمل " ناس الكلية" منه للعليعثمانيين.ذلك أن سماحة روحه الجمالي المنفتح على التجديد و قدرته على الحوار مع الآخرين مكّناه من أن يكون جسرا بين جيلين من التشكيليين مثلما مكناه من مواصلة الرسم و العرض بدون إنقطاع منذ سنوات الأربعينات .و خصوصية الفنان أحمد سالم تتمثل في كون الرجل الذي بدأ مشوار الفن مع العليعثمانيين ظل يواصل مساره الإبداعي مع جيل أولاده(إبنه تخرج في كلية الفنون في منتصف الثمانينات).
لقد ولد الفنان أحمد سالم في 1927 في مدينة ودمدني، و أقام معرضه الفردي الأول ـ الذي يعتبره هو أول معرض تشكيل في تاريخ حركة التشكيل الحديث في السودان ـ في عام 1952 بقاعة" دار الثقافة " بالخرطوم. و قد أكد لنا أحمد سالم هذا الأمر في مقابلة معه أثناء المعرض الذي أقامه لأعماله بصالة " أبوجنزير" في يونيو 1976. و رغم أن بعض خريجي " مدرسة التصميم" الذين كانوا حاضرين في العاصمة منذ عام 1952 ، يمكن أن يعارضوا زعم أحمد سالم بغيره.يبقى أن الشيء المهم في مسألة معرض أحمد سالم بدار الثقافة هو أن معرض الرسم بدأ يتأسس على نحو جديد كشأن " ثقافي" و يتوجه لجمهور نخبوي من مثقفي العاصمة الذين يرتادون " دار الثقافة" خصيصا ليشاهدوا هذا الحدث الثقافي الجديد، بدلا مما كان سائدا عند الرواد العصاميين الذين كانت أثارهم تتوفر في أمكنة مدينية يرتادها الناس لأغراض أخرى ليس بينها بالضرورة مشاهدة العمل الفني.
لك خالص الود يا أبا طارق و التحية لطارق و أخوته و أرجو أن تمتد حيويتك و أنت سالم من عوارض الزمان فتتمكن من إستكمال مشروعك الفني الراهن حول أعلام الحركة الوطنية في السودان ونتجمّل بالمزيد من آثارك الباقية كعلامات مميزة في مشهد حركة التشكيل السوداني.


ابوبكر
شكرا على التصاوير القديمة و على القراءة المؤازرة
سلام يالمصطفى ود ابن آدم الغلّب الهدّاي
و مثله للفاضل الفاضل. تعرف يا الفاضل كلام جدل المادة و مادة الجدل في منظور صلاة الزملا الشيوعيين دا عاوزليهو خيط مستقل.
سأعود
صورة العضو الرمزية
ÓíÝ ÇáäÕÑ ãÍí ÇáÏíä
مشاركات: 150
اشترك في: الأربعاء مايو 27, 2009 3:20 am

مشاركة بواسطة ÓíÝ ÇáäÕÑ ãÍí ÇáÏíä »

و هناك مثال آخر على تصعيد المناقشة من مقام أهل الصفوة الفكرية لمقام أهل النشاط السياسي، و في خاطري مثال التصعيد الذي حصل لسؤال " الهوية الثقافية" من مقام المناقشة الجمالية لمقام المناقشة السياسية الواسعة ، و هو تصعيد يستحق التأنـّي و التأمل،ذلك أن المناقشة السياسية الراهنة حول أسئلة الهوية الثقافية استولت على المتاع الإصطلاحي و المفاهيمي الذي صاغه مبدعون و مثقفون سودانيون تقدموا في دروب مناقشة الهوية منذ أكثر من خمسة عقود.[ و هذه أيضا فولة كبيرة مكيالها بعيد عن متناول اليد حاليا فصبرا]

في انتظار هذه الفولة حتى يتوفر المكيال.صورة
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

الصلحي بين سلطة الفنان و فنان السلطة

مشاركة بواسطة حسن موسى »

سلام يا سيف النصر محي الدين [ عاشت الأسامي]..
شكرا على القراءة الرشيدة و فولة " الهوية الثقافية" في منظور السياسة السودانية [ و غير السودانية ] تحتاج لأكثر من مكيال و لحزب بحاله من الكيالين المثابرين. و كما ترى فنحن ، كفنانين منتبهين لما يدور في ساحة السياسة، شغالين على فولة الفن و تأثره، و قيل تأثيره ، بعواقب الفعل السياسي، و دا قدرنا.و السياسيون السودانيون [ و غير السودانيين] ناس "ما عندهم قشة مرّة" حين يتعلق الأمر بتكبير الكيمان السياسية، و لا جناح عليهم في ذلك،بس الجناح بيحصل في جهة الفنانين الذين ينخرطون في زفة السياسة بغير بصيرة نقدية[ أو حتى ببصيرة إنتهازية في بعض الأحوال النادرة].و المتأمل في سيرة الفنانين السودانيين من زاوية علاقتهم بالسلطات السياسية يلمس بسهولة أن إشكالية الفن و السياسة في السودان" دبنقة" كبيرة وهشة بالغة التركيب. و تركيبها و تداخل ابعادها يفرض علينا كلنا مراعاة مسافة نقدية حذرة حتى نتمكن من تصعيد علاقة الفنانين و السياسيين من مزالق الإبتذال لمقام الفكر النقـّاد النافع.في ندوة ناس الميدان جرى حديثنا على محوري الفن و السياسة و ثارت أسئلة كثيرة أثرت المناقشة، و أنا أترك للأصدقاء في ملحق الميدان الثقافي مسؤولية تقديم محتوى الندوة للناس.و أكتفي هنا بإيراد نص قديم [2005] حول سؤال الفنان و السلطة كنت قد كتبته للمساهمة في إصدارة جمعية حول أستاذنا الفنان القدير إبراهيم الصلحي.و قد تكرم الأصدقاء في مجلة " الوسيلة" بنشره في عددهم الأخير. و أنا أعرف أن "الوسيلة" تطبع عددا محدودا من النسخ و توزع عددا أقل مما تطبع، و لذلك رأيت إثبات نصي هنا عساه يسهم في توسيع مداخل سؤال الفن و السياسة في السودان.

:::::::::::::


الصلحي.. العدو العاقل
بين فنان السلطة و سلطة الفنان
حسن موسى
2005أغسطس

ثمة تعريف دارج لتكعيبية بيكاسو فحواه أن غاية المشروع التكعيبي عنده هي عرض الحقيقة من كافة وجوهها في نفس الوقت، و ذلك في معنى أن الرسام يرسم حجما مكعبا بطريقة تمكن المشاهد من رؤية أوجه المكعب الستة على مسطح اللوحة.و قد انتفع النقاد بهذا المفهوم في تفسير تكعيبية بيكاسو كـاحتمال في الواقعية، و برّروا عليه بعض لقيّات بيكاسو الايقونوغرافية الشهيرة كرسم عينين على الوجه الماثل على وضعية البروفيل أو رسم التداخل في صور الأجسام التي تفقد كثافة المادة و تبدو كما لو كانت تشفّ عن ما خلفها.
و بدا لي ، و أنا أتهيأ لرسم صورة أدبية لـ " أستاذنا" الفنان ابراهيم الصلحي، أن أفضل طريقة لتقديم الصلحي هي رسم صورة "تكعيبية " تضيء الأوجه المتعددة لحضوره الابداعي المركب. والكلام عن تجربة أستاذنا الفنان ابراهيم الصلحي في حدود المقالة أمر عسير كون هذه التجربة الغنية الممتدة لأكثر من سبعة عقود تتجاوز سعة الكلمات، و ذلك لأن الصلحي ، من جهة أولى ، كشخص أفريقي من السودان،قد عبَر أزمنة و أمكنة القرن العشرين بانتباه كبير لأحداثها و مؤشراتها التاريخية الكبيرة،و انتباه الصلحي لأحداث و مؤشرات القرن العشرين أثّر عليه و على انتاجه الفني بقدرما جعل منه فنانا مِؤثرا في المشهد الافريقي للحداثة.
و من جهة أخرى فالصلحي، كفنان تشكيلي غير أوروبي، يعتبر تجسيدا حيا لصيرورة ما يتعارف الناس عليه اليوم بـ " الفن الافريقي المعاصر ".و عليه فقد استقر عزمي على معالجة صورة "استاذنا" من مداخل متعددة متداخلة تصون تعدد وجوهه الاجتماعية و الفنية و تراعي تداخل شؤوننا الجمالية و السياسية و الشخصية. هذه "الصورة الادبية التكعيبية" هي ،بطريقة غير مباشرة، صورة شخصية لي و لعدد من الفنانين السودانيين من أبناء و بنات جيلي ، بقدر ما هي صورة للصلحي، كوننا نعد الرجل بين فنانين مهمين نفعونا بتجربتهم الغنية علي درب الابداع .


قدّمت الصلحي بصفة" استاذنا"، بضمير الجماعة، رغما عن كوني شخصيا لم أتشرّف بتلقي الدروس على يد الصلحي، أيام كان يعلم الرسم في كلية الفنون بالخرطوم.ذلك أنني وصلت كلية الفنون في 1970 بعد أن كان الصلحي قد غادرها قبل عام لانجلترا.لكني ، و الحق يقال ، تعلمت الكثير من أستاذنا من جراء التأمل في تجربته الوجودية الغنية المتنوعة.
أقول تعلمت من الصلحي كيف يقف الفنان الحديث ، كممثل لذات ثقافية جديدة ذات سيادة، ، من بقية الفرقاء الثقافيين ضمن مشهد المجتمع المعاصر.فهذا رجل مسلم راشد يمشي في الاسواق في هذه الهيئة الجديدة، هيئة الفنان التشكيلي، و يقبله أهل الطبقة الوسطى العربسلامية ، بل و يجلّونه اجلالا ظاهرا كـ "فنان" ، رغم أن صورة" الفنان" في ذاكرة المجتمع الحضري الحديث ظلت متأثرة سلبيا بأنواع الغموض الموروث من فولكلور الرومانسية البوهيمية الاوروبية التي يلخصها القول الشعبي الشائع : "الفنون جنون". مثلما ظلت متأثرة سلبيا بمثال الصعلوك الحضري " الصايع" الذي لازم فناني الغناء و الموسيقى في حواضر السودان لعقود. و اذا أضفت لهذه التأثيرات السلبية ريبة المسلمين و توجسهم الديني من عواقب الصورة البصرية، و ما تحفظه الذاكرة الدينية من وعيد بعذاب رهيب للمصورين في يوم القيامة، فيمكنك أن تتصور المسافة الطويلة التي قطعها الصلحي و جمهوره ،و الجهد الكبير غير المنظور الذي كابده الجميع بسبيل تقعيد صورة الفنان الحديث و قبول وضعيتة المادية و المعنوية كوضعية اجتماعية تشرّف أهل الطبقة الوسطى المدينية العربسلامية.(1) فالصلحي هو من طليعة جيل "الفنانين الدارسين"، الذين يمتهنون الفن بشكل رسمي و مقبول، ضمن المشهد الاجتماعي. و حين أقول " الفنانين الدارسين " فقولي يحفظ مجد الفنانين العصاميين الذين سبقوا جيل "الدارسين" على دروب مغامرة التشكيل الحديث في السودان،و أعني الفنانين من رهط علي عثمان و أحمد سالم و عيون كديس و العريفي الأب و جحا و غيرهم من جنود التشكيل العصامي المجهولين، الذين كانوا ـ و ما زالوا ـ يكسبون عيشهم من بيع نتاجهم الفني على منطق سوق الصنايعية و الحرفيين الشعبيين.
ان القبول الاجتماعي الذي لقيه الفنانون من خريجي المؤسسات التعليمية العليا، ممن ينتمون الى الشريحة الحديثة الميسورة الحال من أبناء الطبقة الوسطى المدينية، انما تم ضمن سياق تاريخي فرض على الفنانين أن يقوموا بتعريف طبيعة دورهم الاجتماعي ضمن المرحلة التاريخية الجديدة التي أعقبت نهاية الاستعمار في 1956 .و قد استشعر الفنانون من جيل الصلحي ما ينتظره منهم المجتمع السوداني الحديث المتخلـّق على خلفية الشتات المادي و المعنوي وعلى واقع التناقضات السياسية و الثقافية التي عبّرت عن نفسها في شكل الحرب الاهلية في جنوب السودان منذ 1955.أقول : استشعر الفنانون ـ ضمن غيرهم من أعضاء صفوة الحواضر ـ حاجة المجتمع الجديد الى بناء وحدة وطنية سودانية تصون تماسك وطن الاشتات العرقية و الثقافية و الجغرافية الموروث من المستعمرين.و كان من الطبيعي أن يقوم أبناء الطبقة الوسطى العربسلامية بصياغة مشروع الخلاص الوطني ضمن سعة المواعين الثقافية لأيديولوجيا الطبقة الوسطى العربسلامية و بالاستفادة من أداتها الرئيسية: الدولة الحديثة و مؤسساتها.و قد حظيت المؤسسة التعليمية الرسمية بدعم الدولة المتصل باعتبارها أحد أهم أدوات تحديث المجتمع التقليدي و دمجه في حداثة السوق الراسمالي.و ضمن هذا الافق اعتنت الدولة السودانية المستقلة بكلية الفنون ضمن اعتناءها بمؤسسات التعليم الحديث الاخرى باعتبارها تمثل حيزا آيديولوجيا ضروريا لتقعيد فكرة الحداثة في ثقافة المجتمع السوداني الوليد. و غني عن القول أن فكرة الحداثة التي تبنتها الدولة السودانية تتطابق قلبا و قالبا مع الزعم الاوروبي الذي يفترض صيرورة وضعية للتقدم المادي و الروحي نحو يوتوبيا السعادة في مجتمع السوق و الوفرة الاستهلاكية.و قد لعبت كلية الفنون منذ سنوات تأسيسها الأولى في " مدرسة التصميم " على يد الاداري البريطاني الرسام " جان بيير غرينلو" (" القانون الاخضر" حسب عبارة تلميذه ابراهيم الصلحي)، دورا نوعيا مهما، كمختبر مفيد لتوطين مفهوم" الخصوصية الثقافية السودانية" وسط المتعلمين.و اهتمام " غرينلو" الاداري البريطاني بالخصوصية الثقافية السودانية يمكن فهمه ضمن استراتيجية سياسية للادارة البريطانية في السودان ، فحواها دعم التيارات السودانية تحت شعار " السودان للسودانيين" الذي رفعته الادارة البريطانية لتعبئة بعض القوى السياسية السودانية ضد الشريك الاضعف في دولة الحكم الثنائي: مصر، و ضد القوى السياسية السودانية التي كانت تحبذ " وحدة وادي النيل" مع مصر بعد استقلال السودان.
و" الخصوصية الثقافية السودانية " مفهوم سياسي فحواه اكساب حداثة واقع الالحاق لبنى السوق نكهة محلية مميزة، نكهة سودانية.وقد عرف عن " غرينلو" حماسه الكبير لتأسيس مناهج تربية فنية سودانية تستلهم قيم الاسلام و الافرقة في السودان.
ضمن هذا الشروط سعى الصلحي الأستاذ ـ في معية عدد من التشكيليين من أبناء جيله و تلاميذهم في كلية الفنون ـ الى تأسيس نوع من" اطار آيديولوجي" للفن السوداني على أساس فكرة " التمازج الثقافي" أو " الهجنة " بين المكونات الثقافية العربسلامية و المكونات الثقافية الأفريقية السابقة على العروبة و الاسلام. و قد ترجم الصلحي و رفاقه مباديء فن الهجنة على الصعيد العملي بمباحث آيقونوغرافية في بعض أشكال الموروث الشعبي فيما أسماه مزج الخط العربي بالزخارف الأفريقية لاستنباط مفردات تشكيلية من واقع حياة السودانيين. و كان عاقبة هذه المباحث الايقونوغرافية و الجمالية التي ابتدرها صلحي أن نفر من رفاقه و تلاميذه في كلية الفنون انخرطوا في الممارسة التشكيلية على خطى الصلحي بدون تحفّظ نقدي بالنسبة لاشكالية التراث الثقافي السوداني كما طرحها الصلحي . و ربما كان تفسير انخراط التابعين في مباحث الهجنة الايقونوغرافية السودانوية ، بدون نقد، يتفسر بالنجاح العالمي لعمل صلحي في اطار بعض مؤسسات الرعاية العالمية المهتمة بالثقافة الأفريقية المعاصرة ، و النجاح المحلي لفكرة فن الهجنة السودانوية لدى النخبة السياسية المحلية . و هكذا تضامنت عناصر النجاح العالمي و الحاجة السياسية المحلية بشكل عفوي ساهم في تثبيت تيار الصلحي و رفاقه و تلاميذه كفن سوداني قوامه الهجنة العربية الافريقية. و قد تم ذلك التحول ضمن سياق سياسي سوّغ لسودانيي الطبقة الوسطى أن يعتبروا السودان كـ "بوتقة "لأعراق أفريقيا أو كـ "جسر" بين أفريقيا و العالم العربي. و فكرة السودان كـ "بوتقة"أو كـ "جسر" أو كـ " وسيط" بين أفريقيا العربية و أفريقيا الزنجية كانت فكرة رائجة في أدبيات الهوية التي أنتجها مثقفو الطبقة الوسطى العربسلامية بعد الاستقلال.
و منظرو الهوية السودانية الذين يموضعون السودانيين في موقع الوسيط، الحكم بين افريقيا العربية و أفريقيا الزنجية، انما ينطلقون من فرضية سياسية قوامها وحدة القارة الافريقية بشقيها العربي شمال الصحراء و الافريقي جنوبها (3). و هي فرضية اعتباطية يكذبها الواقع التاريخي و الجغرافي و السوسيولوجي للمجتمعات التي تتقاسم الارض الافريقية،فالصحراء لم تكن يوما حاجزا أو خندقا يفصل بين الافارقة بل هي أرض مأهولة أهلها يتحركون في كافة الاتجاهات و يتداخلون مع جيرانهم على كل المستويات. كما أن البحار التي تحد أرض أفريقيا شرقا و شمالا لم تكن أبدا حواجز طبيعية، و انما كانت و ما زالت جسورا مطروقة للتبادل بين أهل القارة وجيرانهم الأسيويين و الأوروبيين.و حين أقول أن مفهوم الوحدة الافريقية كقدر مكتوب على الافارقة انما يعبر عن فرضية سياسية، فهذا التحليل يتجاوز رهط المثقفين السودانويين ليجد جذوره في أدبيات الفكر السياسي الافريقاني الاوروبي.و هو فكر تعود على رؤية أفريقيا ككيان اسطوري خارج التاريخ (4).
واختزال مشكلات القارة لمستوى التعارض بين مكوناتها العرقية يسوّغ للكثيرين تجنب مشكلات الواقع الجيو بوليتيكي للقارة. فالسودان ليس سوى واحد من بين هذه المجتمعات التي تؤلف، ضمن مجال الهيمنة الاستعمارية،كيانا اقتصاديا ناتجا عن أسلوب الانتاج الرأسمالي و مستبعدا ، في الوقت نفسه، من الاستفادة من ثمار التقدم الرأسمالي.(5) .
و اذا طمح هذا السودان المتعدد المتنوع ـ فيما وراء الثنائية الفقيرة الكاذبة للعرب و الافارقة ـ أذا طمح هذا السودان يوما الىدور الريادة في بناء القارة الافريقية فعليه أن يجتاز عقبات التخلف و سوء التنمية أولا.)

و حين أطلق الفنان البريطاني ذو الاصل الغوياني( غويانا البريطانية) " دنيس وليامز"، الذي كان يعمل في كلية الفنون في الخرطوم في مطلع الستينات ،على تيار فن الهجنة اسم " مدرسة الخرطوم" لاقت الفكرة قبولا فوريا من الجميع،(6).
و ذلك رغم أن أعضاء هذه الـ " مدرسة" لم يجتمعوا أبدا للتفاكر في الاشكاليات الاجتماعية و المفاهيم الجمالية الرئيسية التي تجعل منهم كيانا فنيا يسوّغ فكرة المدرسة الفنية.و كل الأدب النقدي الذي ساهم في تعريف الموجهات الاساسية لتيار الفن السوداني في الستينات لم يتجاوز بضعة تصريحات صحفية للفنانين أو مقالات كتبها فنانون و بحاث مثل الدكتور أحمد الزين صغيرون و أحمد الطيب زين العابدين
( 7) .و لعل ندرة الادب النقدي الذي كان يفترض فيه مصاحبة النتاج الفني لمدرسة الخرطوم ، تتفسر بكون معظم الفنانين الذين انخرطوا في عرض " مدرسة الخرطوم" انما كانوا من أصدقاء الصلحي و زملاءه كأحمد شبرين و كمالا اسحق و مبارك بلال أو من تلاميذه في كلية الفنون كأحمد عبد العال و ابراهيم العوام و موسى الخليفة . و قد جاء انخراطهم في مغامرة " مدرسة الخرطوم" كنوع من المؤازرة العفوية لمشروع فني وطني.و قد لاقت فكرة وطن الهجنة العرقية الثقافية رواجا كبيرا وسط صفوة الطبقة الوسطى العربسلامية فظهر بين الأدباء من طرحوا فكرة أدب الهجنة الآفروعروبية، في منتصف الستينات، على زعم أن الأدب السوداني يتميز عن أدب العرب الآخرين بـ "الدم الافريقي" الذي يتخلل أساليبه البلاغية السودانية (8) .
و لعل أفضل تجسيد لتيار أدب الهجنة في السودان كان يتمثل في ما عرف بـ " مدرسة الغابة و الصحراء " التي سندها، بانتاجهم الشعري و بتنظيرهم، شعراء مهمين مثل محمد عبد الحي و المحمد المكي ابراهيم و النور عثمان أبكر.و على أثر تجربتي" مدرسة الخرطوم" و" مدرسة الغابة و الصحراء" عرفت نهاية الستينات و بداية السبعينات مباحث و نقاشات في موضوع جمالية التمازج العربي الافريقي في مجالات الثقافة السودانية المتنوعة. و هي فترة بدأ فيها النقاش ، في الصحف السودانية ، حول موضوعات خصوصية" الموسيقى السودانية" بين التأثيرات العربية و الافريقية ،(9)، و في خصوصية" المسرح السوداني" بين التقليد الاوروبي الحديث و الموروثات الطقوسية الافريقية . لغاية خصوصية " الاسلام السوداني" كدين منقّح و مهجن بمعطيات المعتقدات الافريقية. و الصلحي على قناعة كبيرة بموضوعة الاسلام السوداني فيما عبر عنه في حديثه لأولي باير في حوار بمناسبة معرض الصلحي في بايرويت عام 1983 :
« .. Islam has always taken elements from local cultures. Lots of little customs, which could be described as paganism have been carried on socially and been incorporated into the lives of Muslim people.Many of the rituals we perform at weddings or circumcision are very old; certainly pre-islamic.” (10)

أخلص من كل هذه المقدمة الى أن الصلحي لعب دورا مهما في تقعيد صورة للفنان الحديث تتجاوز مقام المصور مزخرف المتاع و المكان الى مقام الفنان المهموم بحال المجتمع الحديث الذي يعيش فيه و بمصير الوجود من حيث هو كموضوع للممارسة الجمالية.و قد كان هذا أول درس وعيناه عن الصلحي.

قلت أنني ـ مثل كثيرين من أبناء و بنات جيلي ـ تعلمت من صلحي كيف يكون الفنان التشكيلي الحديث ضمن المشهد الاجتماعي.و رغم أننا لم نتبع الخيارات الجمالية و السياسية للصلحي، فقد ساعدتنا تجربة الصلحي، كفنان مهموم بمصير مجتمعه، في تطوير مفاهيمنا حول دور الفن الاجتماعي في بلد كالسودان، و ذلك من واقع المفاكرة النقدية حول أطروحات الصلحي الجمالية و السياسية. و أذكر انني حين وصلت لكلية الفنون بالخرطوم في 1970 ، كانت مفاهيم" الفن السوداني" التي طرحها الصلحي منذ بداية الستينات ، تحت مظلة " مدرسة الخرطوم"، ، قد تثبّتت في شكل مباديء أكاديمية نهائية يتضامن على صيانتها الجميع، في كلية الفنون و في خارج كلية الفنون ، و على صعيد الصفوة الثقافية و السياسية السودانية، أو حتى خارج السودان في الاوساط الاوروبية و الامريكية المهتمة بالفن الافريقي. و قد لا حظت ـ مع آخرين ـ غياب المنهج النقدي في البنية المفهومية و التشكيلية لمشروع " مدرسة الخرطوم" . فالمشروع يدعو الفنان السوداني لتأسيس نسخة سودانية للحداثة الفنية من خلال تهجين " التقليدي"( تقرأ :الشرقي) بـ" الحديث"( تقرأ : الغربي)، و ذلك على زعم يموضع الفنان المعاصر في موضع الحَكَم الذي يستعلى على التاريخ و يفصل بين النقيضين: الشرق التقليدي و الغرب الحديث.و على منطق التهجين يطرح " الخرطوميون" سلسلة من الاختزالات الجائرة في حق التركيب الكبير للظاهرة الجمالية المعاصرة في السودان، و ذلك حين يطرحون تمثلاتها البصرية في حدود الايقونوغرافيا الموروثة من التقليد العربي مختزلا لاحتمال فن الخط العربي و التقليد الافريقي مختزلا لاحتمال الزخرفة البدائية.و فكرة التهجين العربي الافريقي في أفق" مدرسة الخرطوم" بدت لنا فكرة مريبة لأكثر من سبب:
فمن جهة أولى بدا لنا أن فكرة الهجنة العرقية العربية الافريقية لا تنجو من شبهة العرقية السعيدة التي تتصور امكانية وجود أعراق عربية و افريقية خالصة النقاء في مكان ما، و ذلك فضلا عن كون فكرة الهجنة العرقية العربية الافريقية تنطوي على تصنيف عرقي استبعادي يستثني عرب القارة الافريقية من صفة الافرقة ، كما لو كانت الافرقة تقتصر على المجموعات الزنجية السوداء التي سكنت الأرض الافريقية قبل الآخرين.
و من جهة أخرى ،ففكرة الهجنة الثقافية العربية الافريقية تفترض للثقافة ، عربية أو أفريقية ، وجودا خالصا منزها عن الشوائب بما يؤهلها لانتاج الهجين بمجرد تمازجها مع ثقافة خالصة مغايرة.ناهيك عن كون اغلاق التنوع الثقافي للسودانيين في ثنائية العروبة و الأفرقة يفقر الثقافة السودانية و يعزلها عن جملة التأثيرات الثقافية الأخرى الموجودة خارج ثنائية العروبة و الافرقة، سواء كانت تأثيرات ثقافية قديمة أو تأثيرات ثقافية معاصرة.
قلت أن تجربة الصلحي ، بوصفه كمؤسس لمفهوم فن الهجنة الأفريقية العربية، ساعدتنا في تطوير مفاهيمنا الجمالية من حيث كونها مثلت بالنسبة لنا نوعا من مثال حي و يومي لتخلّقات العلاقة بين الفن و الايديولوجيا، و هو مثال كان يطرح علينا جملة من الاسئلة الاجابة عليها لا تكون بغير مشروع نقدي اجتماعي متكامل يتجاوز الحدود الجغرافية لاقليم الفن التشكيلي.و على مسند تجربة الصلحي اتيح لنا أن نطور من أدواتنا النقدية و مفاهيمنا الجمالية على الصعيدين النظري و العملي.بالذات حول أسئلة " دور الفنان الاجتماعي" و " الهوية الثقافية" و العلاقة بين " الممارسة النظرية و الممارسة العملية للتشكيل".و هي اسئلة معاصرة، كان الأوروبيون، و مازالوا، يطرحونها على انفسهم كلما قابلوا احدى تعبيرات الفن المعاصر غير الاوروبي.أذكر حين وصلنا فرنسا في نهاية السبعينات كنا ، صديقي الفنان عبدالله بشير بولا و شخصي، نعمل في مباحث جامعية تحت اشراف البروفسور" جان لود" أستاذ دراسات تاريخ الفن الافريقي في السوربون .كان بولا قد بدأ أطروحة الدكتوراه حول اشكالية" الفن و الهوية الثقافية في السودان"(11) بينما كنت أنا أتابع بحثي لنيل دبلوم " ميتريز" في موضوع "مؤسسات رعاية الفن المعاصر في السودان"(12) . و كان البروفسور " لود" يعبر عن دهشته، أزاء المداخل النقدية الجيوسياسية التي كنا نقارب بها موضوعات الفن المعاصر الأفريقي، و يتساءل: من أين لكم بمثل هذه الافكار ؟ و تساؤله كان يعبر عن فضول علمي كبير تجاه الشروط التي كونتنا كفنانين و كبحّات وافدين من القارة التي أفنى الرجل عمره في تفحص فنونها.في حينها كنا نحن ، من مشهدنا، نستغرب دهشة العالم الجليل و تساؤله المحيّر.فقد كان موقفنا يبدو لنا أمرا طبيعيا في سياق تجربتنا السودانية.
ولو كان الله قد مد في عمر الرجل حتى هذه اللحظة لكنت أجبته بـأننا توصلنا لبناء معظم مفاهيمنا النقدية في موضوعات الفن و الهوية من واقع معالجةالاشكالية المركبة التي طرحتها علينا مساهمة"أستاذنا" الصلحي في السودان.عسى أن يكون في قولي شيء من الانصاف للصلحي و لنا.


و في تحليل نهائي ما، أظن أن بين أهم الدروس التي تعلمناها من خلال الحوار مع الصلحي، كان هو درس مشروعية الخصومة الفكرية. و هو يتلخص في أهمية قبول الخصومة الفكرية و تأسيسها كأمر ضروري للمفاكرة النافعة و للتفتح الخلاق أمام الفنانين المهمومين بقضايا مجتمعهم المصيرية.و في هذا المشهد كان كثير من المراقبين و المتابعين للمناقشة التي دارت في السبعينات على صفحات الجرائد و المجلات السودانية يعبرون عن قلقهم من العنف الأدبي الظاهر الذي طبع المناقشة حول قضايا الفن و التراث في السودان و اشكالية الهوية الثقافية الوطنية.و رغم أن الصلحي تمكن ، على مستوى التنظير و على مستوى الممارسة، من أن يحفظ لنفسه موقفا وسطا بين مجموعتنا و بين رفاق دربه و تلاميذه السابقين في "مدرسة الخرطوم"، الا أنه كان يرى بُعد الحيوية الفكرية في عنف الجدال أكثر مما يرى بعد الاذى المجاني.و ما زلت أذكر تضامنه العلني مع مجموعتنا في منتصف السبعينات، في خصوص النقد الذي كنا نوجهه لكلية الفنون كمؤسسة تعليمية قاصرة عن أداء مهمتها التربوية.(13) .و رغم أننا لم نكسب الصلحي بالكلية في معسكرنا تلك الايام، الا ان تزكية الصلحي لبعض نقدنا كانت مفيدة كونها اضمرت الاعتراف بمشروعية الخصومة الفكرية و ان عبّرت عن نفسها في لغة عنيفة، سيّما و صلحي منتصف السبعينات كان قد استقر في المشهد الثقافي و الاعلامي المحلي كمرجع ثقافي كبير، بفضل موقعه الوظيفي المهم في وزارة الثقافة و الاعلام، و بفضل شعبيته الواسعة من خلال برنامجه التلفيزيوني الشهير " بيت الجاك"، و أيضا بفضا الاحترام الذي يتمتع به في أوساط المثقفين السودانيين خارج فضاء الفن التشكيلي.




في هذا المنظور كان" استاذنا" ابراهيم الصلحي بالنسبة لنا معلّم من نوع مختلف.معلم معارض يقبل مبدأ معارضة الفكرة بالفكرة ، بل و يفرح به فرحا ظاهرا.هذا المعلم المعارض هو أيضا فنان يحمل مشروعه الجمالي التربوي هما حياتيا يستغرقه و يستبد بملكاته الروحية و المادية كلها.هذا المعلم الذي يعز قناعاته الفكرية أيما اعزاز، تنطوي دخيلته على نوع من تحسّب ديني صوفي يعصمه من الركون لسلامة منطقه بشكل نهائي.فهو يجادلك الحجة بالحجة في مسائل الرسم و الآيديولوجيا دون أن يغفل لحظة من تأمين حججه بجملة من أدب الحكمة الصوفية الشعبية من نوع " الكمال لله وحده" أو " الله أعلم" و " ان شاء الله " أو " استغفر الله" و" كل من عليها فان " و " الدنيا كم كبّت و كم بتكب "و " الرجوع الى الحق فضيلة"(14) ، كما لو كان يرسم لنفسه خطوط رجعة تلقائية أو كمن يحفظ لنفسه هامش تحفّظ يمكنه من الوقوف على مسافة آمنة من انمساخ القناعات التي يبني عليها مشاريعه الفنية و الفكرية.و التصاق الصلحي المتحفّظ بقناعاته، ظل يلهمه انتباها مستديما للصوت المعارض لأفكاره . و قد كان لي ـ بين آخرين ـ كـ عبدالله بشيربولا و هاشم صالح و فتح الرحمن باردوس و عبد الله محمد الطيب و علاء الجزولي و صلاح حسن عبدالله و الباقر موسى و كوثر ابراهيم و أحمد البشير الماحي و عمر الامين .. ـ شرف اسماع الصلحي صوتا ناقدا معارضا لمشروعه الجمالي و لمشروعه السياسي(15). و كم كانت دهشتنا كبيرة من الاستجابة الذكية التي قابل بها أستاذنا نقدنا لمواقفه الجمالية و السياسية.أقول كانت دهشتنا كبيرة لأن خبرتنا في الحوار الفكري النقدي مع استجابات بعض رواد الفن في السودان كانت سلبية جدا.فبعض محاورينا من أنصار" مدرسة الخرطوم" لم يكن يتردد في اتهامنا بالتنكر للتراث الوطني و الاغتراب الفكري و عبادة القيم الثقافية الغربية المستوردة، لغاية تُهَم الامتثال للقوى الاجنبية. و هي أوصاف كانت تترجم في قاموس البوليس السياسي، أبان سبعينات ديكتاتورية نميري، في معاني الخيانة للوطن و التآمر مع الحزب الشيوعي السوداني المحظور.
قلت ان استجابة الصلحي لأسئلتنا استجابة ذكية، كون الصلحي يقبل كل الاسئلة ـ بلا استثناء ـ و يسمعها ويرد عليها في جدية كبيرة. و هو في هذا المشهد قمين بكل أنواع الاستدراك لتصحيح وجوه الخطأ بسرعة و بلباقة ، اذا تبين له أن ثمة خلل ما في طرحه . و المناقشة مع صلحي ممتعة كون الصلحي لا يتردد في أن يصحح نفسه في أي لحظة من مسار المناقشة، من أجل احكام طروحاته و تدعيمها.و ربما كانت هذه الطريقة في المناقشة أقرب لأسلوب الصلحي الرسام الذي يستأنف العمل على نفس الصورة ، محوا و تعديلا و اضافة بلا نهاية،، دون أن يغمض له جفن عن تشعبها و تركيب و جوهها المتزايد، بغاية احكام الحاصل البصري النهائي.و أظن أن الاستدراك مبدأ أصيل في منهج الصلحي التشكيلي، كونه قلّما يكتفي بالدفقة الاولى العفوية، و يفضل عليها المعاودة و و المراجعة و " الحك"، بغاية دفع المعالجة الشكلية لأقصى درجات التجويد في حاصل الصورة النهائي. و أظن ثانيا أن الصورة في خاطر الصلحي انما تنطرح كـ " حاصل نهائي" يصل اليه الفنان كفاحا و لا يبلغه الا حين تنتفي المسافة بين صورة الفكرة في الخاطر و صورتها على المسند المادي.بل أن الصلحي قمين بدمج الصورتين، أعني صورة الخاطر و صورة المسند المادي، في صورة واحدة تلغي الفرق النوعي بين طبيعة وجود الفكرة و طبيعة وجود العلامة المادية.و في أحاديث الصلحي عن تجربته البصرية حكايات و أحاجي مدهشة عن تداخل الخيال و الواقع.فهو يملك أن يرى مشاهد غريبة أشبه بالاحلام ، غير أنه يراها ضمن واقع الحياة اليومية ، مثل رؤيته للأموات ، كما يقول في حواره مع أولي باير(16):
« ..I used to see the dead.I saw my nephew three days after he had died « .. »I used to see “..” a man galloping on a hourse, coming in by one window and going out by the next. I had never told anybody about it.”
و أفضل حكايات الصلحي عن تداخل صور الواقع مع صور الخيال هي تلك الحكاية التي حكاها لأولي باير في حوار 1983 المطول الذي صاحب معرض الصلحي في بايرويت.ففي هذه الحكاية يحكي الصلحي أنه فوجي بأن أحد الاشكال التي رسمها في لوحة له في الخرطوم صار يتحرك كما الكائن الحي. و بعدها بسنوات وجد الصلحي نفس الشكل في" متحف الفن البدائي بنيويورك"(17)
« And when I saw that drawing I could recognise my own work ! I found that I had done that thing myself.Yet the little piece of paper underneath it said that it came from the ancient Paraka culture of Peru..”
كل هذا يجعل من الصلحي استثناءا بين أبناء جيله، كونه الوحيد، تقريبا، الذي ما يزال يطور من مقولاته الجمالية و السياسية عبر انخراطه في المناقشة الكبيرة في موضوع الفن و الهوية على الصعيد المحلي في السودان أو على الصعيد العالمي في فضاء الفن الافريقي المعاصر.(18)
و قدرة الصلحي على تجاوز قناعاته النظرية التي يؤطر بها ممارسته العملية شيء يستحق التأمل كونه يؤشر على أولوية الممارسة العملية على التنظير في خاطر الرجل.و لا عجب ، فالصلحي في نهاية التحليل رسام ممارس كتب عليه، تحت شروط جيوبوليتيك الفن السوداني ، أن يضطلع بالمساهمة في الجهد الآيديولوجي الوطني بتأسيس جمالية للطبقة الوسطى العربسلامية في السودان.ففي الستينات كانت أعمال الصلحي تبدو كما لو كانت بيانا بصريا ( مانيفست ) لمقولاته النظرية.ذلك أن تصاوير الصلحي كانت تنبني على حضور الخط العربي وطراز الزخارف الهندسية المزعومة أفريقية مع تنويعات لونية تتراوح بين الرمادي والأسود و البني باعتبارها" ألوان أرضنا"أو " ألوان السودان"، كما كان يحلو للصلحي وغيره أن يرددوا.
« ..as sudanese individual coming from the Sudan « .. » I find the colour in it particularly looks very much like our earth, and maybe that ‘s why I feel it’s Sudanese”(19)
لكن هذا التصريح الذي يداهن العواطف الوطنية للجمهور السوداني ، و الذي تكذبه الجغرافيا الطبيعية للسودان، يصبح سجنا حين يستنفذ الصلحي التشكيلي مباحث الألوان الترابية و يبدأ في التطلع لآفاق ابداعية جديدة. و في الواقع فقد هجر الصلحي" ألوان الوطن" مع منتصف السبعينات، وقادته غريزة التشكيلي الباحث نحو تنويعات لونية جديدة بالحبرو ألوان الفلوماستر الزاهية القوية، و البعيدة كل البعد عن أنواع البني و الرمادي و الاسود التي صارت نوعا من " ماركة مسجلة" عند حراس" مدرسة الخرطوم". في تلك الفترة اهتم الصلحي بطراز رسومات تقليد" التانترا" الهندية بعد مشاهدته لمعرض أعمال التانترا في غاليري هايوارد بلندن كما قال في حواره مع أولي باير في 1983:
« I was very excited when I saw the big Tantra exhibition at the Hayward Gallery in London « .. » I found it a highly balanced form of painting “..” I think it liberates you, it lets you meditate. I always meant to have painting as a platform for meditation.”..” and that is what I found in the Mandalas, particularly with the designs where the lines open up: with an entrance to them.it takes you in and you feel very much at ease with yourself” (P. 38)
و على درب التانترا " تحرر" الصلحي من أثقال" مدرسة الخرطوم" الاسلوبية نحو مباحث تشكيلية جديدة. و بين الثمانينات و التسعينات يهجر الصلحي الالوان ليتابع تجارب الرسم بالابيض و الاسود، كما في اعمال الحبر على الورق التي نشرتها في اضبارة تصاوير( بورتفوليو) دار " بومرانغ برس نوربير آس" عام 1991 .
“Painting in Shades:Ibrahim Elsalahi” (20)
،و لعله من الامور ذات الدلالة كون المهتمين بعمل الصلحي و نقاده و تابعيه لم يهتموا أبدا بمبحث الصلحي في منطقة التصوير الفتوغرافي. و هو مبحث لم ينقطع عنه صلحي أبدا منذ منتصف الستينات.و بخلاف الاعمال الفتوغرافية القليلة التي نشرت للصلحي في كتاب " مدينة من تراب " لعلي المك، الذي نشرته " دار جامعة الخرطوم للنشر عام 1974 ،(صّمم الكتاب الفنان حسين شريف)، فان عمل الصلحي الفتوغرافي ظل مجهولا للجميع تقريبا.
ولعل أفضل مثال على قدرة الصلحي على تجاوز أطروحاته القديمة هو التحول و التطور الذي حدث بالنسبة لمفهوم الصلحي لـ" مدرسة الخرطوم" بين قطبي الاسلمة و الافرقة : فمدرسة الخرطوم في تصريحات الصلحي الاولى في نهاية الستينات كانت تركز على الثقافة الاسلامية وعلى الخط العربي كمصدر ايقونوغرافي مركزي. و هي الفترة المتأثرة بمباحث الصلحي الايقونوغرافية في القسم الاسلامي من محفوظات المتحف البريطاني
فقد جاء في تصريح للصلحي منشور في مجلة" آفريكان آرت"، على أثر مقدمة د. أحمد الزين صغيرون لمطبوعة دليل المعرض الذي نظمته صالة " غاليري لامبير"
(Lambert)
بباريس عام 1967 :
« I was most facinated by the treasures of wounderful Islamic art they have there, and I kept woundering about the possibility of trying to bring that into my work. It was most valuable to me, and I thought , why not let it flow?”
(21)
و في تلك الفترة شارك الصلحي بثمان لوحات في معرض " الفن الافريقي المعاصر" الذي اقيم في " معهد لندن للفن المعاصر"
London’s Institute of Contemporary Arts
بالتضامن مع" ترانسكريبشان سنتر" بلندن
Transcription Centre, London
و" امباري كلب" بأوشوغو في نيجيريا
The Mbari Mbayo Club of Oshogo, Nigeria
و قد كتب " أولي باير" في مطبوعة المعرض مقدما الصلحي كفنان أفريقي
وافد من مجتمع اسلامي الثقافة
: Ibrahim Elsalahi… comes from an Islamic culture that knows no representaional art at all. When he returned from England, however, Salahi found that many of the ideas he had acquired from abroad isolated him in hid own country and that his work seemed meaningless and without character in Khartoum.He began to study arabic calligraphy – the most important artistic tradition inNorthern Sudan.His earlier pictures were simply decorative versions of Koranic verses. Later the letters began to sprout figurative doodles, and finally the image was disassociated from the characters and began to lead a life of its own.Even then the rhythm and structure of the arabic alphabet underlies most of his forms ..”(22)
و في منتصف السبعينات تحول خطاب الصلحي عن تمثلات الايقونوغرافيا الاسلامية ليشتمل على عناصر آيقونوغرافية أفريقية.و جدير بالذكر أن صلحي منتصف السبعينات كان قد استقر في السودان كموظف كبير في وزارة ثقافة نظام النميري.و هي الفترة التي تبنت فيها دولة النميري سياسة "الوحدة في التعدد بعيد "اتفاقية أديس أبابا" التي أوقفت الحرب في الجنوب ( عام 1972). و كأحد بناة أيديولوجية التمازج في اطار سياسة الوحدة الوطنية من خلال التعدد العرقي و الثقافي ، طور الصلحي خطابا تمازجيا يوصف الفن السوداني كفن هجنة بين العناصر العربية و العناصر الافريقية، بل أن الصلحي لا يكتفي باضافة ما تضامن الخرطوميون على تسميته بشكل تعميمي " الزخرف الافريقي"، في أسلوب ينمّ غالبا عن نوع من الاستعلاء الجمالي المضمر تجاه المكون الايقونوغرافي الافريقي، لكنه في مطلع الثمانينات يثبت اصالة المكون الايقونوغرافي الافريقي في قلب الممارسة العربية التي تجعل من الخط مركزها. ففي حواره مع صديقه أولي باير بمناسبة معرضه في ايوالوا هاوس عام 1983 يقول الصلحي ردا على سؤال باير
« Ulli beier : when you learned to write at the Khalwa [ traditional coranic school], was there an element of calligraphy in it already ?
Ibrahim ElSalahi: O yes, there was calligraphy and even decoration. We learned what is called the Sudanese hand,”..”and at the beginning of every section, you decorated your wooden writing board “..”so the artistic part started quite early.
U.Beier:what kind of decoration was this, abstract designs,arabesques?
I.El Salahi: Strangely, it was African rather than Arabic in character.You know in the Koran, at the beginning of each chapter there is a decoration on top and along the side…almost like a gate of paradise. It is the flowing kind of interlacing design , which is of an islamic nature, of an arabesque nature. But what we did was much more African, because we used criss- cross pattern and sharp triangles ans squares” (23)

و في نفس المقابلة مع " أولي باير" يقدم الصلحي تفسيرا "سحريا" لحضور الاقنعة الافريقية في اعماله.أقول " تفسيرا سحريا" لأن الصلحي و" باير" يعرفان أن السودان لا يعرف فن القناع الافريقي التقليدي، و صلحي نفسه يقر بأنه لم يسافر في غرب أفريقيا الا في وقت لاحق ،أي بعد تنفيذه لموتيفات الاقنعة في أعماله.و تفسير الصلحي السحري لحضور الاقنعة الافريقية في أعماله يبدأ بعبارة:
« What I am going to say right now migtht not make sense to a western mind “ (24)
و يحكي الصلحي حكاية جميلة عن كونه وسيط روحي " ميديوم " تتلبسه أرواح غريبة تنطق عبره و تجعله يعيش أحداثا غريبة لا يملك أزاءها سوى الامتثال.
« I thought I was being a medium for a spirit of some sort, something was working through me”..”
So answering your question about masks: I don’t know if I was hit by a spirit from West Africa working through me.Because I had never seen these masks before…” (25)
ومن يعرف الصلحي الباحث الذي يعرف مسالك المتاحف و دور المحفوظات الاثرية يجد صعوبة في التصديق بأن الرجل لم ير الاقنعة الافريقية من قبل، لكن ما يهمني من هذه الحكاية هو أن الصلحي يقدم نفسه عبرها كـ " كجور" . والكجور في تعبير السودانيين نوع من الـ "شامان" .وهو في جبال النوبة ساحر و طبيب و عراف و وسيط بين عالم الناس و عالم الارواح و القوى الماورائية. وبالنسبة للمسلم، يبدو خيار موقف" الكجور"الأفريقي، الذي يبذل روحه و جسده في خدمة الارواح و القوى السحرية لكي تعبر عن نفسها خلاله، هو خيار مناقض تماما لتعاليم الدين التقليدي على عقيدة الطبقة الوسطى العربسلامية في السودان.لكن الصلحي ليس مسلما فحسب ، انه فنان صاحب مشروع اجتماعي وطني يمكن تلخيصه بكلمة : الهجنة .و ليس عرضا أن الصلحي المسلم يتبنى موقف الكجور الافريقي ، لا بوصفه خيار فكري واعي و انما بوصفه موقف عفوي طبيعي مودع في دخيلة الشخص السوداني ، شيء فطري لا يملك الشخص الا الامتثال له.و بالذات في مطلع الثمانينات حيث بدآ نظام الجنرال النميري يعدل من قوانين البلاد العلمانية ليتبنى تطبيق قوانين الشريعة الاسلامية على السودانيين المسلمين و غير المسلمين بدون فرز. و الصلحي بهذا الموقف، موقف الكجور ،يسعى لتأكيد ثقل ميراثه الرمزي الافريقى، كما لو كان الرجل يسعى لتصحيح الاختلال الذي أحدثته السلطات السياسية في توازن معادلة الهجنة السودانية.
هذا الموقف لا يمكن عزله عن واقع الفرز السياسي و الديني الذي حصل داخل بنية أنصار" مدرسة الخرطوم" في مطلع الثمانينات.فمع تنامي نفوذ الاسلاميين الاصوليين داخل أجهزة السلطة السياسية، بدأت الاصوات التي كانت تدعو لمشروع الهجنة العربية الافريقية في التراجع عن مركز الصدارة في العمل الثقافي و السياسي. و من الأحداث الفنية المهمة في مطلع الثمانينات، يبقى ذلك المعرض الفني و التعليمي الضخم ،الذي نظمه، في " قاعة الصداقة" بالخرطوم في مارس و أبريل 1981 ، فنانون مقربون من التيار الاسلامي الرسمي، و على رأسهم أحمد شبرين و أحمد عبد العال وابراهيم العوام . و هم اشخاص كانوا من غلاة المدافعين عن مفاهيم " مدرسة الخرطوم " وراء الصلحي في الستينات و السبعينات..و قد موّل المعرض المتسمي بـ " معرض المخطوطات و الجماليات الاسلامية" تحت شعار " لا اله الا الله" ، من قبل" المجلس الاعلى للشئون الدينية و الاوقاف"، وأشرفت عليه رسميا" اللجنة القومية للاحتفال بالقرن الهجري الخامس عشر".
وفي الوثيقة التي تقدم للمعرض، كتب أمين لجنة المخطوطات و الجماليات الاسلامية ، الفنان أحمد شبرين: "ان هذا المعرض يعتبر مقدمة متعجلة لنشاط مستقبلي واسع، يمكن له التخطيط ليؤسس للمتحف الاسلامي و المكتبة الاسلامية في السودان". و في واقع الامر تكشف المعرض عن كونه" مقدمة متعجلة" لواقع سياسي جديد و لنشاط مستقبلي أكبر طموحا. نشاط بدأ بفرض قوانين الشريعة الاسلامية في 1983 و اختتم بكارثة الحرب الاهلية في جنوب و شرق و غرب البلاد.
و في الثمانينات و التسعينات اضمحلت دعاوى ثقافة الهجنة العربية الافريقية لصالح بروباغاندا الاسلمة و التعريب،و علا نجم الفنانين الاسلاميين المقربين من السلطات مثل أحمد عبد العال و محمد حسين الفكي و راشد دياب وآخرون ممن تضامنوا حول مفهوم جديد للفن الاسلامي المعاصر تجسد في نص بيان ما سمي بـ " مدرسة الواحد".( تقرأ :مدرسة الله) الذي صدر في الخرطوم عام 1988. و قد جاء نقد الفنانين الاسلاميين لـ " مدرسة الخرطوم" في بيان " مدرسة الواحد ": أن " مدرسة الخرطوم " " ظهرت كملمح حضاري تاريخي " .." و لكن دون وضوح نظري كاف ".
و اليوم بعد نهاية الحرب في الجنوب و توقيع اتفاق السلام و اقتسام السلطة بين الحركة الشعبية و الجبهة الاسلامية بدأت الدوائر الثقافية في السودان تشهد عودة الحياة لتيار الهجنة العربية الافريقية القديم.و عاد مثقفو الطبقة الوسطى العربسلامية لخطاب الأفروعروبية كأساس لبناء ايديولوجيا التمازج الثقافي و العرقي تحت شعار " السودانوية".و من الامور ذات الدلالة كون نظام الجبهة الاسلامية في الخرطوم قد وجه الدعوة مؤخرا لعدد من أعلام الحركة الثقافية السودانية المقيمين خارج السودان بين أوربا و أمريكا، و بينهم الصلحي، لزيارة الخرطوم الموصوفة ب " عاصمة الثقافة العربية للعام 2005 ". و قد تم استقبال العائدين و الاحتفاء بهم على أعلى مستويات السلطة السياسية حيث قابلهم الرئيس عمر البشير و رئيس الوزراء علي طه و وزير الثقافة عبد الباسط عبد الماجد.و في الاحتفال الرسمي قام وزير الثقافة بتوجيه اعتذار رسمي للفنان ابراهيم الصلحي عن الاهانة التي لحقت به في 1976 حيث كان الصلحي قد تعرض للضرب و الاعتقال من أمن نظام الجنرال النميري.و رغم أن نظام الجبهة الاسلامية لا يتحمل أدنى مسئولية سياسية أو أخلاقية في البلاء الذي وقع على الصلحي تحت نظام سياسي سبق نظام الجبهة الاسلامية بأكثر من عشرة سنوات، الا أن اعتذار وزير الثقافة للصلحي ينطرح كحيلة سياسية ذكية و مركبة.و من ضمن و جوه التركيب في اعتذار الوزير الاضمار بكون النظام الاصولي الاسلامي هو في استمرارية سلطة الطبقة الوسطى العربسلامية كما جسدها نظام النميري و غيره من الانظمة العربسلامية التي تعاقبت على البلاد.و في مشهد صيانة الاستمرارية يسوّغ نظام الأصوليين الاسلاميين لنفسه شرعية الحق في تصريف أمور الثقافة و السياسة في السودان.و النظام الاسلامي يبدو قيّما على مهمة لم الشمل القومي و استيعاب كل ألوان الطيف السياسي و الثقافي تحت مظلته. وبعبارة أخرى، فالنظام يفتح صفحة جديدة في الاعتناء بالثقافة السودانية كثقافة تقبل بالتعدد، شريطة أن يتم ذلك التعدد في اطار الاسلام، و يعتذر عن التدمير الذي قام به في السابق و يفسح للصلحي براحا في موقع الصدارة كفنان مسلم يحمل راية الهجنة السودانوية.
ترى ماذا سيفعل الصلحي في هذه الوضعية الجديدة؟
لا أحد يدري بعد، و هذا واحد من الاسئلة الكبيرة ، التي لا بد أن الاجابة عليها ستتجاوز شخص الصلحي، لتلمس اشكالية جيوبوليتيك الفن في السودان، بالذات حين نتأمل فيها على ضوء تجربة الصلحي مع السلطة السياسية في السودان. و هي اشكالية بالغة التركيب سواء نظرنا اليها من وجهة" فن السلطة" ، في معنى نوع الفن الذي يوافق مصالح السلطة السياسية ، أومن وجهة" سلطة الفنان"، في معنى المشروع السياسي الذي يتخلل عمل الفنان الجمالي.



هوامش و مراجع
(1) شهدت صحف الخرطوم في يناير 1981 سجالا عنيفا حول المنع الاسلامي للتصوير بين الاسلامي الأصولي التيجاني سعيد و الاستاذ الجامعي د. سيد أحمد نقد الله.و هو سجال بدأ بتساؤل من د. نقد الله حول مصداقية الحديث المشهور الذي يقول :" لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة".( أنظر جريدة الايام ،23 ـ1 ـ 1981 ). لنصوص أحاديث الرسول التي تعالج المنع الاسلامي للتصوير أنظر " صحيح البخاري" الجزء السابع، الصفحات 214 و217 ، كتاب الشعب، دار احياء التراث العربي، القاهرة ، بلا تاريخ.
(2)أنظر المراسلات بين حسن موسى و الصلحي في " مكاتيب الصلحي" في " جهنم" رقم 22 ، مارس 2003،"جهنم" نشرة دورية مجانية غير رسمية، يصدرها الكاتب منذ 1995 و توزع بين عدد من الفنانين و المهتمين بمسائل الثقافة في السودان.
(3) راجع د. أحمد محمد علي الحاكم"الجذور التاريخية للقومية السودانيةمنذ أقدم العصور و حتى بداية الدعوة الاسلامية. ورقة بحث قدمت في " مؤتمر القومية السودانية و الوحدة الوطنية" تحت رعاية جامعة الخرطوم و مجلس دراسات الحكم الاقليمي، الخرطوم ، مايو 1984 .و ايضا د. محمد ابراهيم أبوسليم ، في الشخصية السودانية، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم 1979 ، ص 19 .
( 4) تلك رؤية لم ينج من غوايتها مفكر في حصافة " آرنولد توينبي" الذي رأى مشكلة السودان في صيغة الثنائية العربية الافريقية كانعكاس لمشكلة أفريقيا في ثنائيتها العربية الافريقية:" ان مشكلة السودانين تعكس بشكل مصغّر مشكلة الافريقيتين، و لهذا فالسودان يملك مفاتيح مصير أفريقيا بقدر ما يملك مفاتيح مصيره الخاص. و لو تمكن من مصالحة المعسكرين الذين يتقاسمان شعبه، يكون قد طرح مثالا يحتذى، و شق طريق الريادة لبناء القارة الافريقية بأكملها"
A.J.Toynbee,Afrique Arabe,Afrique Noire, Sindbad, Paris, 1979)
(5)
Didar Fawzi,La republique du Soudan,1955-1966M Echec d’ une expérience de décollage économique dans la voie capitaliste,SNED, Alger, 1975)

(6)
“Denis Williams, 1923-1998, for information about D.Williams see the article of Carl E. Hazlewood in Nka No. 9, 1998”

(7) للدكتور أحمد الزين صغيرون، رسالة جامعية موضوعها الفن المعاصر في السودان ، جامعة فارسوفيا ، بولندا، في منتصف الستينات، لم أطلع على نصها الانجليزي، وله مقالات أهمها مقالته المنشورة في مجلة الخرطوم، بعنوان" الفنون التشكيلية المعاصرة في السودان 1965، و للاستاذ أحمد الطيب زين العابدين مقالة تعالج موضوع الفن السوداني المعاصر نشرت في مجلة الخرطوم عدد أبريل 1966
و للصلحي حديث عن استلهام التراث في الفن السوداني المعاصر نشر في مجلة الخرطوم ، عدد أكتوبر 1968 .
(8)أنظر د. عبدالله علي ابراهيم " حول مسألة القوميات في الوطن العربي: الآفروعروبية أو تحالف الهاربين" نشرت في " المستقبل العربي" العدد 119 ـ يناير 1989 .

(9) أنظر المناقشات التي نشرت على صفحات الصحف اليومية في السبعينات بالذات في جريدة الايام بين جمعة جابر و العاقب محمد حسن و أنس العاقب و مكي سيدآحمد و آخرين ، و هي نصوص متفرقة و مقابلات صحفية منها: حوار أجريته مع الموسيقي مكي سيد أحمد أيام كنت أحرر صفحتها الثقافية، يقول فيه مكي سيد أحمد الذي كان رئيسا لقسم الموسيقى بمعهد الموسيقى و المسرح :" الخروج على السلم الخماسي خروج على الطابع الوطني" ، (الايام عدد 11 ـ 4 ـ 1975
و أعقبه حوار آخر أجريته مع الموسيقي جمعة جابر في جريدة الايام عدد 17 ـ 4 1975 , يدافع فيه جمعة جابر عن التنوع في الموسيقى السودانية مستشهدا بالطابع العربي السباعي في موسيقى بعض أعراق غرب السودان.
أنظر أيضا لـ جمعة جابر " تراثنا و مفهوم السلم الخماسي" نشر وزارة الثقافة ، فيراير 1979 .
(10)(Ibrahim El Salahi, conversation with Ulli Beier,
Iwalewa- Haus,Universitàt Bayreuth,September,1983,P 26)

(11)A.Ahmed Bechir (Bola ),Art et Identité culturelle au Soudan, Thèse de Doctorat, Université de Paris 1,Dec. 1984.
(12)Hassan Musa,Le Patronage de l’ Art Contemporain au Soudan,Mémoir de Maitrise en Histoire de l’Art, Université de Paris 1, 1981
(13)أنظر الحوار مع هاشم م محمد صالح " الصلحي في الميزان" في الايام يوم 23 ـ 11 ـ 1974
(14) راجع مكاتيب الصلحي في جهنم رقم 22
(15) أنظر كتاب صلاح حسن عبد الله الذي يقدم توثيقا جيدا لحوار السبعينات حول قضايا الفن التشكيلي في السودان: مساهمات في الادب التشكيلي، تحليل نقدي لأدبيات التشكيل في السودان خلال الفترة من 74 الى 1986 ، نشر دار أروقة للثقافة و العلوم الخرطوم 2004
(16)
(I. El Salahi/Beier, ibid, p. 34)
(17)
(ElSalahi/Beier ibid,P. 33)
(18) أنظر جهنم 22 ، مكاتيب الصلحي: "و أنت بالنسبة لي كالمرآة التي أستعين بجلائها و قدرتها على عكس انطباع صادق لما أراه، فأعمل في ضوئها على تصحيح مساري ما استطعت الى ذلك سبيلا". رسالة من الصلحي بتاريخ 17/11/2002 .
(19)
(El Salahi speaks of his work, in African Arts ,1967:27)
(20)
Painting in Shades :Ibrahim Elsalahi.Edition Boomerang Press Norbert Aas,ISBN 3-9802212-4-5, Bayreuth 1991)
(21)
African Arts magazine,1967:27
(22)
in African Arts, Ibid
(23)
Ibid p. 24
( 24)
Ibid P. 32
(25)
Ibid P.33
ãÍãÏ ÃÍãÏ ãÍãæÏ
مشاركات: 27
اشترك في: الجمعة نوفمبر 14, 2008 8:29 am

مشاركة بواسطة ãÍãÏ ÃÍãÏ ãÍãæÏ »

سلام للكل
دكتور حسن موسى الحظ العاثر وحده الذي حال بيني وبين حظوة التتلمذ والمؤانسة بجدير مفاكراتك ، لكني كنت من المحظوظين في 2004 بحضور(شماعه) محاضره لك بمركز عبدالكريم ميرغني وفي ذلك بعض العزاء ، وقبل ذلك بكثير قرأت لك ما خرج من انياب غول (المشروع الحضاري).. جهنم ، دراسات سودانية ، أرشيف الملف الثقافي لجريدة الايام ، واخبار معارض هنا وهناك، وكتابتك المبذوله هنا في سودان الكل (ترجمه قاطعا من رويسي) ، المهم يازول نحن الاتربينا في كفاف المنع والمحل العريض ، نجرنا مباصرات أخرى للتتلمذ والمؤانسه لايضيرها كثيرا صعوبة جيتنا لبلاد الغال أو جياتك المَشَحْتفَه لبلاد السودان ، كما أن الخرطوم الغبت شاعرنا ود المكي (هــــذه لـيـســت إحــــدى مــــدن الــســـودان
مــــــن أيــــــن لـــهـــا هـــــــذه الألـــــــوان
مــــن أيــــن لــهــا هــــذا الــطــول الـتــيــاه
لا شــــك قــطــار الــغــرب الـشــائــخ تـــــاه
وســألــنـــا قــــيــــل لــــنــــا الــخـــرطـــوم
هــــــــــــذى عــــاصــــمــــة الــــقــــطـــــر
عــــلــــى ضــــفــــات الــنـــيـــل تــــقـــــوم
عــــــــــــــــــــــــــــربـــــــــــــــــــ ـــــــــات
أضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــواء
وعــــــــــــــــــــــــــمـــــــــــــــــــــ ـــــارات ) شأنها مربك. ونفس القطر الجابو جابنا( قطار الغرب) ومنذ بداية التسعينات من القرن المنصرم نكابد أغتراب غميس ومركب، في الاندماج بناس الخرطوم البتحبو ديل ومزاحمتهم في مغاني وملاعب وقيل قاعات درسهم ، مره نصيب ومرات نخيب ،يعني أسي بعد العميان جا شايل المكسر لخرتوم الجن دي ناس الخرتوم ديل بقوا خشم بيوت يعني في ناس الخرتوم وفي الناس القاعدا في الخرتوم ، أها ما نصيب الفئة التانية دي من عنوانك الفوق ده ؟.
المهم عموم أهل السودان اصابهم من معرفتك سهم، لذا شوف لينا نحن مباصره في جياتك الجايه ، أو يمكن ينفكا ساجورنا ونجيك في بلاد النور والثوره . عموما محل ما تكب سحابتك يأتينا خراجها شفت كيف(على قولك)..
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

بلد المحل العريض

مشاركة بواسطة حسن موسى »


سلام يا محمد أحمد محمود و شكرا على المتابعة [أما عنواني " ناس الخرطوم" فقد كنت أظنني توصلت فيه لمخارجة نفسي بأقل الخسائر لكن خاب ظني، و أهو يلمّها النمل و يطاها الفيل و الحمد لله على كل شيء]. على كل حال مرحبا بك في بلاد النور الخافت و الثورة المسوّفة و الماعارف يقول عدس عشان " ثورة" أهلنا الفرنسيس الأنا شايفهم ديل ما عندها طريقة إلا حمار الوادي يكورك و حمار الوادي ما فاضي ليهم. يا زول الثورة و الحداثة الجد جد ياها حقتكم الإنتو شغالين فيها في بلد المحل العريض القلتو إنت فوق..تقول أنكم تربيتم " في كفاف المنع و المحل العريض" و لكن حقت عليكم القولة المشهودة " السم الذي لا يقتلك يقوّيك" و بالمناسبة ، هل تعرف سودانيا تربي في غير كفاف المنع و المحل العريض؟





و بمناسبة ثورات بلاد المحل العريض هاك رسالة الصديق الفنان و الشاعر[ و أشياء شيقة أخرى] النور أحمد علي في سيرة" الآتي" و قد جاء في الأثر أن أول الغيث قطرة فهنيئا لنا كلنا.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

في سيرة " الآتي"

مشاركة بواسطة حسن موسى »

في سيرة" الآتي"

النور أحمد علي


قال معمّر القذافي في احدي شطحاته الفاخرة ،عندما اقرأ القرآن لا اقول « قل هو الله احد» وانما اقول «الله احد»، كأنما يضع الله في فمه. وانا اقول « وإنك لعلي خلق عظيم » في ازاحة بلاغيّة من محمد الي حسن و "هذاكلّه حسنٌ في وجه الرب"
فرحت حين كتبت لك اوّلاً ،وفرحت اكثر بعدد من الرسئل « الإئئية » وهذه نسبة الي الـ
.« E »

وفرحت ايّضاً ، حين طلبت كتاباتٍ بعينها لتنشر في جهنم ، وسكت حين وصلني إيميل بأنك لا تدري ماذا تفعل ! وقلت في ظني المحتال ، هذا إيميل منحول،لانني اعرف ان حسن رجل يدري ، ويدري انه يدري ، ونحن تبُعُ هكذا رجل.

اخونا حسن انت ذكرتني بخير.

انّ الخير الدي ذكرتني به كونك تعرف، وامّا الحسن الذي اذكرك به، فهو ذلك الذي يتجاوز الترتيب البلاغي لصيغ التفضيل.

واما الأتيّ فيذكره اكبر نحال في التاريخ العربي، كما يصفه ابن خلدون، وآعني أبن هشام في سيرته، بأنه ــ قزمان ــ هكذا بلا أب ولا أم ولا قبيلة.
تصور يا حسن، رجل في مدخل القرن الأول الهجري، وفي جزيرة العرب، وبلا هوية، حيث القبيلة، هي الهوية التي تمنحك القبول الاجتماعي.
هذا الآتيّ يذكره أبن هشام في بضعة أسطر، تماماً كما فعل ود ضيف الله مع ود تكتوك.

يقول أبن هشام، كان الصحابة لا يذكرونه الاّ بالآتّي وهي الدرجة الخامسة من التوصيف البلاغي للفعل اتي،

حتى كانت غزوة آحد، فقاتل الاتّي قتالًا عنيفًا وقتل سبعة من قبيلة النبي « قريش»، وكان النبي حين يذكر الصحابة الصحابي الآتّي يقول انه في النار؟ وعندما اثخنته الجراح ، حمله الصحابة الى منزل في اطراف المدينة لمداواته، فقال له احد الصحابة: «أبشر."
قال: بماذا ابشر؟
قال الصحابي: والله لقد قاتلت قتالًا شجاعًا، فإن مت فآنت شهيد، وان عشت فأنت بطل".
عندها قال قولته الجبارة «والله ما قاتلت الا لنسبي
ومنها انداحت «حالة كون الرجل ينتسب الى فعله"
وأنت أيها العزيز حسن ،أفعالك كلها مصلى.

ولا يجري معها.
وهذا مديح في مقام المديح .
أما كيف هو في النار فهذا «شغل ابن هشام".

قال أبن هشام، حين أرخى الألم كلكله على الجسم الجريح، نزع الأتيُّ سهماً من كنانته وقتل نفسه.

من ناحية الشرعيّة الديّنية، فقاتل النفس في النار ، حتى لو كانت نفسه، ومن هنا مرق تبرير غير مريح لـ "انه في النار"
ما بالنسبة له، فقد أكمل رسالته ، ونسب نفسه الى البطولة مباشرة، في عرف ذلك الزمن.

وأنت تذكر أن محمود محمد طه كان يقول ان الانسان لا يموت الا اذا ماتت فعاليته وفي ظن محمود اذا اكمل "رسالته".

هل كان الآتيُّ جمهورياً؟

وهل انقذته من مقبرة ابن هشام الي فضاء اشعر،حيث يسبح هناك ككائن سرمدي؟ اما «السهو» فهو مقام في التأمل ،او قل « صلوٌة »تتجاوز مقامات الالهه،او هو مقام من مقامات « ما في الجبة إلا الله» ،وحيث يتسامي الخليفة ليصبح مخلوفاً.

واما «صلوة» هذه المشبوحة في وسط الجملة،وبهذا الرسم الإملائي البائن امامك، فقد إكتسبت حصانتها المقدسة،والتي تتجاوز كلّ ما انجزه الفراهيدي ،في مجال تقعيد اللغة العربية ،وفي ظننا المتواضع لهجة قريش،اقول اكتسبت هذه الحصانة من ان يداً كريمة لاعرابيّ من القرن الاول الهجري كتبتها،علي ذمّة ابن خلدون ،مع ملاحظة ان من كانوا يكتبون المسند،ستة عشر شخصاً في ذلك الزمن الغميس.«ادي لازماتك"

هل تقبل هذا التبرير الاعرج ام انت مع فريق الفراهيدي؟

صديقي حسن لدي الكثير الذي يمكن ان يقال، كما قال الدنقلاوي حين رأى التيس اول مرة، في الحكايةالمروية ،«لبن كتير لكن درب ما في.» ولأول مرة أو قل لثاني مرة اعرف «انني النور الآحمر» الأولى من خالتي مدينة بت فرح،بود الزاكي حين سألت « إتّو الجنى اللحمر دا ود منو؟"
والمرة الثانية، في ناس الخرطوم، بالرغم من انني وافد على الخرطوم، ولكني اقبلها على علة حسنة.
وأخشى أن تكون هي الحمرة اللّباها المهدي.

صديقي حسن
أنت لا شك تذكر حكاية ود البصير مع عراب الشعر الشعبي السوداني الحاردلو حين اجبره التعايشي بتاعكم ،على بيع الحطب للنسوان في سوق الموردة، وقال الحردلو قولته التي اصبح نصفها مثلا "حتى ود البصير يسوينا في طيز وزّة".
ففي جلسة غير بريئة ،مع صحبة غير بريئة، ألمح أحدهم الى ان وجودي معهم يسويهم في طيز وزّة .
فكتبت « في مديح في طيز الوزّة » واليكها
ãÍãÏ ÃÍãÏ ãÍãæÏ
مشاركات: 27
اشترك في: الجمعة نوفمبر 14, 2008 8:29 am

مشاركة بواسطة ãÍãÏ ÃÍãÏ ãÍãæÏ »

سلام ياحسن موسى اظنها كده حاف اقرب تقوى ، لا شكر على واجب . وانا اعتبر المتابعه فعل كسول وعندي أي المتابعه هي خفيفه في الميزان ، ما أزعمه في فعل قراءة مثقفينا العضويين (مولانا قرامشي طبعا) -وانت منهم بإيدك وشديدك- هو التدبر وهذا امر ثقيل في الميزان ويتطلب بأس حديد وصبر ودربه ودباره واسعه(أهلنا بقولوا الفقري رايو واسع) .وياليتنا يوم البعث المعرفي نحشر في زمرة المتدبرين وحسن اولائك رفيقا ،أها بالله ده ما واجب؟، المهم يازول جواب الفنان و الشاعر[ و أشياء شيقة أخرى] النور أحمد علي في سيرة" الآتي" جاني مفتوح شارع زي مابقول حميد الشاعر وفتّح شوارع كتيره ووقع لي في جرح وما أكثرها.....، ونصب شِراك وقلوبيات تنذر بالآتي والذي أوله قطره. دحين النور احمد علي الشاعر والفنان (وأشياء شيقه أخرى) لديه حساب (إتفرج في جنس الكلمه دي) هنا في سودان فور اوول؟ عموما شكرا على العطيه والتي ليست عطية مزين ونردها ليك في الافراح .
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

حساب النور

مشاركة بواسطة حسن موسى »

سلام يا محمد أحمد محمود
المتابع المتدبر و شكرا على التعقيب المضيء.و أنا جد سعيد أن كلام النور أحمد علي الفنان و الشاعر[ و أشياء شيقة أخرى] قد وقع لك في واحد من الجراح الكثيرة.النور هو واحد من هؤلاء الصحاب " المتدبرين" القدامى ـ و هم كثر ـ الذين نكتشف من وقت لآخر أنهم بلا حساب في مصرف سودان الجميع هذا.فنسارع بتعيينهم بأمر جمهوري و نفتح لهم حساب سيك سيك معلق فيك "و كان حصلت جريمة و كان كترت غرامة".
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

[ع] عبد الله

مشاركة بواسطة حسن موسى »


[ ع ] عبد الله علي إبراهيم
يوم السبت 26 الساعة الواحدة ظهرا واعدت عبد الله أمام "كشك الجرائد" في تقاطع سوق "الخرطوم إتنين".و حقيقة لم أكن متأكدا من وجود كشك الجرائد المزعوم في تقاطع سوق نمرة اتنين لكني رجّحت وجوده من باب أن الموضع ، بحكم مركزيته، لا بد و أن يحتوي على كشك جرائد قديم منذ الأزل [ تقرأ منذ" الزمن الجميل"]. وصلت لموضع الموعد قبل عبد الله و اكتشفت أن كشك الجرائد القديم الذي صنته في ذاكرتي قد غير موضعه فاحترت و قلبت النظر في هيئة التقاطع حتى عثرت على كشك جرائد صغير منزوي جانبا.إنتظرت هناك و أنا على حسرة من كوني لم أهتم بسعاية" تلفان" موبايل أداوي به مخاطر المواعيد الخرطومية.خطرت ذكريات مواعيد السبعينات مع عبد الله الكادر الشيوعي المختفي من أجهزة أمن النميري،كانت تلك المواعيد المسائية معجونة بإحتمالات الحضور و الغياب حسب شروط التأمين. و لا عجب فقد كانت تلك أيام" التأمين"، و " التأمين" عقيدة تنظيمية مكنت جسم حزب الشيوعيين من البقاء على قيد الحياة في أصعب الظروف لكن ضريبتها بقيت مخصومة على حساب نوعية الحياة الفكرية بين صفوف اعضاء و أصدقاء الحزب[ سأعود لهذا لاحقا].كان عبد الله في السبعينات يعمل ككادر متفرغ لـ " جبهة الإبداع" . و عبارة " جبهة الإبداع" لقية آيديولوجية و تنظيمية بارعة، كونها تنطوي على المعنى الحربي لجبهة القتال الفكري، مثلما تنطوي على المعنى التنظيمي لمفهوم العمل العام الذي يتم بين حلفاء سياسيين مستقلين و متفقين على برنامج حد أدنى لعمل " جبهوي" محدد.قلت أن عبد الله كان يعمل ككادر متفرغ لـ "جبهة الإبداع"، و لا أبالغ كثيرا إن قلت أن عبد الله كان هو بلحمه و دمه "جبهة الإبداع" كلها في تلك الأيام فكأنه تلك الألهة الهندوسية المتعددة الأذرع، يكتب في أولويات التنظيم السياسي للمبدعين بيد و يواصل إنتاجه الأدبي كشاعر و كقاص بيد ثانية ثم يعالج النقد بيد الأديب بينما يد الباحث في التاريخ و سوسيولوجيا الثقافة تسعى في تأصيل الفكر المادي على تربة الواقع السوداني. رأيت عبد الله أول مرة في عام 1970 في ندوة حضرناها بولا و هاشم محمد صالح و النور حمد و آدم الصافي و آخرين من طلبة كلية الفنون بـ "دار الثقافة" ،قال لي بولا :داك عبد الله علي ابراهيم بتاع " الصراع بين المهدي و العلماء".كانت الندوة منعقدة حول الموسيقار اليوناني اليساري، ميكس ثيودوراكس، الذي كتب موسيقى فيلم السينمائي " كوستا غافراس": " زد"،.كنا قد شاهدنا، في نادي السينما، هذا الفيلم الذي يعالج نضال الديموقراطيين اليونانيين ضد ديكتاتورية الكولونيلات في اليونان،و كانت المشاهدة و الندوة و حضور ثيودوراكس في الخرطوم حاصلة على خلفية التوتر السياسي المتخلق آنذاك بين الشيوعيين وسلطة النظام المايوي .و ندوة " دار الثقافة" كانت واحدة من ثمار الحراك الثقافي السياسي العام الذي ابتدره نفر من المبدعين اليساريين في حركة " أبادماك" في سودان نهاية الستينات.و هي حركة كان عبد الله هو قوميسيرها السياسي و عرّابها الجمالي في آن.أظن ان تلك الحقبة العامرة بالتفاؤل الثوري تمثل في تاريخ الحركة الديموقراطية كنوع من "آليغوريا" لما يسميه شعراء اليسار اليوم بـ " الزمن الجميل"، نوع من فردوس سياسي و ابداعي مفقود قوامه التضامن على وعد الحرية و العدالة و الوحدة الوطنية و الديموقراطية و السلام و التنمية و الرفاه و..باختصار: السعادة الأبدية .
بعد أحداث "حركة 19 يوليو التصحيحية" إنتهى حلم " الزمن الجميل"و اختفى عبد الله من الحياة العامة لسنوات لكن ادبه السياسي و ابداعه الشخصي ظل يجد طريقه سرا للتداول بين الشيوعيين و الديموقراطيين المعارضين لنظام نميري.و أظن ان عبد الله، في خاطر حركة اليساريين الناشطين في جبهة الإبداع قد إنمسخ من حينها لأيقونة بطولية غميسة لهذا " الزمن الجميل"،و هو بالتحديد زمن الصعود الرمزي الكبير للحزب الشيوعي في خاطر الجماهير بين أكتوبر 1964 ومايو 1969 . و وجه الغماسة في وضعية عبد الله إنما يتأتى من كون تطور الأحداث،[ مغادرته للحزب في نهاية السبعينات و مصانعته لـ "الإنقاذ" في عهدها الأول ] الذي دفع به لمغادرة إطار الأيقونة اليسارية السعيدة،أفسد صورة البسالة البسيطة التي كان عبد الله يتمتع بها وسط جماهير اليسار الملتف حول الحزب الشيوعي السوداني..و ربما كانت تلك هي خطيئة عبد الله التي لا تغتفر في الخاطر اللينيني المشغول بترميم و " تأمين" جسد يسار سوداني مهزوم و مثخن بالجراح، و هي مهمة تعوّل كثيرا على ثبات الأيقونات و حضورها كصور نهائية تلهم من ينظر إليها الأمان و تمنحه الطمأنينة.كل هذه الملابسات تتضامن في النهاية لتجعل من عبدالله أفضل ضحايا خرافة "الزمن الجميل" و أشدها وطأة على قبائل اليسار المتعاطف مع حزب الشيوعيين السودانيين.ذلك لأن عبد الله، متلقي الحجج، لم يشأ الإنتحار السياسي بمعاداة اليساريين السودانيين و الإنخراط في صفوف أعداء الديموقراطية، على طريقة الجماعة الطيبين[ ناس " خالد الشوش"] الذين غنموا الفتات على موائد اللئام، لكنه استمر يتلقى حجج السياسة و الثقافة و يقول رأيه في البعجبو و المابعجبوا من تصاريف السياسة و الثقافة في السودان. و ربما كانت اكبر الصعوبات السياسية و الرمزية التي يواجهها عبد الله اليوم هي صعوبة تصفية تركة " الزمن الجميل" التي ورثها من عمله كناشط شيوعي في " جبهة الإبداع"، و ربما لم تكن عبارة " تصفية" هي الأكثر مناسبة في هذا المقام البالغ التركيب إالا أن عبد الله كمثقف سوداني صاحب فعالية فكرية في مجال العمل العام يحتاج لمكيدة وجودية كبيرة لإعادة رسم أيقونة جديدة على مقاس دوره الجديد.[ سأعود لهذا لاحقا].
في السبعينات تعرفت على عبد الله المختفي من خلال اللقاءات المتفرقة التي كانت تنظم هنا و هناك في نواحي الخرطوم، و هي لقاءات كانت عامرة بالمناقشات الثرية في قضايا الإبداع و السياسة في السودان.أذكر ان عبد الله ، في تلك الفترة أبدى اهتماما و متابعة لما كان يدور في صفحة " ألوان الفن و الأدب " التي كنت أشرف عليها في جريدة الأيام[ بين 1975 و 1978] و كان يبرّ الصفحة من وقت لآخر بمداخلات متنوعة في قضايا الأدب و الفن..
لم أر عبد الله منذ منتصف الثمانينات، رغم أننا داومنا على المواصلة الهاتفية و الكتابية من على البعد.و وقفت في الإنتظار حتى قال لي الصديق صلاح حسن، الذي جاء على نفس الموعد: أهو داك عبد الله.فنظرت ناحية الكشك وتوجهنا نحوه و هو مشغول يسحب الجرائد الواحدة تلو الأخرى.هذه حركة طالما ادهشتني، أعني طريقة ناس الخرطوم في شراء الصحف،فالناس عادة ـ أعني في عادة أهلي الفرنسيس على الأقل ـ يقصدون كشك الصحف و يشتري الواحد منهم صحيفته المعتادة، لكنك قلما ترى شخصا يشتري كل يوم دستة من الصحف المتنوعة بضربة واحدة.من يدفع مصاريف كل هذا الورق و الحبر و الكتاب الراتبين و المحررين و المصححين و المصممين و المصورين و الطابعين و الموزعين و الباعة؟ و أين يجد القارئ الوقت اللازم لقراءة كل هذا الأدب المكتوب؟قال لي صديق من " السكان الأصليين"لقارة الصحافة السودانية :" القصة ونسة ساكت،و الناس بشتروا الجرايد الفيها المشاكل و الشكلات، و ناس الجرايد فاهمين دا عشان كدة ممكن تشتري أي جريدة و إنت ضامن ونستك بتراب القروش".لكني أعرف أن عبد الله آخر من يقرأ الجريدة بحثا عن الونسة،فهو يأخذ كل الجرائد " من طرف" كما يأخذ الفنان التشكيلي خاماته و يأتي عليها بعين " سكانر" الباحث المدقق و يستخرج منها ما يقيم أود مبحث جيوبوليتيك الثقافة في السودان .أو قل هذه هي صورة عبد الله التي صانتها ذاكرتي بنفس المنطق الذي صانت عليه كشك الجرائد الخيالي عند تقاطع سوق نمرة إتنين عبر السنين. هذا هو عبد الله المكنون في حرز ذاكرة " الزمن الجميل"، أيقونة أخرى لا يطالها التحول على مر السنين .لكن عبد الله الذي أمامي رجل يأكل الطعام و يمشي في الأسواق ـ و قد عزمنا عبد الله على وجبة دجاج مشوي طيب عند طهاة أثيوبيين في أحد مطاعم "نمرة إتنين" التي يكسو طاولاتها بلاستيك أزرق مدهن تزينه عصافير بين زهور إقحوان وارد الصين أشك في أن عبد الله انتبه لها [ هذه الفولة، فولة التصاوير في شوف عبد الله تحتاج لمكيال من جنسها فلنتركها لحينها] ـ ..أقول أن عبد الله شخص ضالع بكليته في صيرورة العالم. و هو ـ و إن أهمل التصاويرـ يبقى وفيا لضرورة التحول و منتبها لعواقب الإنمساخات الوجودية المتواترة. و لا بد أنه سيكشف يوما عن أسبابه لمواصلة هذه الحرب الغريبة التي إنخرط فيها "على حين غرّة" ، كما بدا لي من مسافتي الزمانية والمكانية المستبعدة.و" الغِرّة"، في لسان العربان، هي الغفلة، و قد أخذنا عبد الله ،الباحث المؤرّخ و الناقد و الأديب، على غِرّة حين بذل نفسه مرشحا لرئاسة الجمهورية ينافس أهل البأس السياسي و المالي و العرقي و هو بينهم عرير الوجه و اليد و اللسان.ياله من موقف مستوحش عجيب. قلت لعبد الله: في البداية فهمت مسألة ترشيحك لنفسك لإنتخابات رئاسة الجمهورية كحيلة تعليمية غايتها إستخدام الإمكانية الإعلامية الجبارة لمسند" الإنتخابات" لتوعية الجماهير من خلال نقد و تقويم الأداء السياسي للأشخاص و المنظمات السياسية التي تخاطب المواطنين من واقع إنخراطها في العملية الإنتخابية.و من إجابته الضاحكة المقتضبة فهمت أن إنخراط عبدالله في الحملة الإنتخابية أمر على قدر كبير من الجدية و أنه ماض على هذا الدرب حتى النهاية. و خطر لي أن الحيلة التعليمية لعبد الله ربما اقتضت منه المضي حتى نهاية الشوط وعسى أن تكرهوا شيئا.
قلت أن عبد الله يقف بين أهل البأس السياسي و المالي و العرقي موقف الغريب، غريب الوجه و اليد و اللسان. لكن غربته المشاترة التي تظهر ضعفه تملك أن تتكشـّف عن جوانب قوّة مزلزلة في مشهد المنافسة مع الخصوم الإنتخابيين الأقوياء بما سرقوا من مال الشعب و بما انتحلوا من أخلاق الشعب و بما دالسوا و بما والسوا في حق الشعب.و قوة عبد الله تبدأ من موضع ضعفه المالي.و مجرد ضيق ذات يده يمكن أن يضيئ ، بنور النقد الأخلاقي ،تلك السعة المالية المريبة التي يدبر عليها بعض خصومه منصرفات حركتهم الإنتخابية.و مجرد وضعيته كمعلم [كاد المعلم أن يكون رسولا] يمكن أن تطعن في المشروعية الفكرية لبعض خصومه الذين يبذلون ذواتهم لرئاسة البلاد و هم لا يدرون شيئا من أمر الواو الضكر.و ترشيح عبد الله المثقف الضعيف الأعزل، إلا من سلاح الحكمة، ينطوي على دعوة واضحة لتحكيم المثقف.قال، في حوار مع عيسى الحلو، في "الرأي العام":
".. عشنا فترة ما بعد الإستقلال في ظل إنقلابات عسكرية أرادت المسارعة إلى إسعادنا عن طريق السيف أو فوهة البندقية، و أنا لا أفسر و أنت لا تقصّر.و يبدو أن الذي لم نجربه حقا هو الشوكة الأخرى.و هي بيض الصحائف، و أعني بها الثقافة، فكثيرا ما ظن الإنقلابيون و صحبهم أن بوسعهم حرق مرحلة الفكر و التربية و الوعي، التي هي مصابرة و مثابرة، و قال عنها أنطونيو غرامشي، الفيلسوف الماركسي الإيطالي المعروف، أنها،" الثقافة"،مما يعمل على المدى الطويل. و الثقافة ليست "ورجقة" و قيل و قال، إنها مما يعدل " الرأس". و هي شوكة مؤكدة أو قوة مؤكدة بالمحصلة النهائية"..
قال: " تفاءلوا بالوطن تجدوه" [ إنتو الشعر دا إلاّ يكتبوا عليهو " هذا شعر"؟] . يا زول الوطن [ و ما الوطن؟] قضيتو بايظة أنحنا متفائلين بيك إنت و بي الناس الزيك و ما عندنا شك في كوننا نجدك بعد أن ينفض هذا المولد الذي نعرف أن لا حمص و لا فول و لا زيت لنا فيه. سنعمل، " على المدى الطويل"، من أجل المولد القادم و أهلنا قالوا : "الفولة بتنملي و بقارة بجوا"، و شرحها في لغة أولاد أمدرمان:" وي شال أوفركوم"، و يوتوبيا "الزمن الجميل" ما زالت مشروعة و ضرورية و " سنهزم الفقر بأي وسيلة"[ الطيب صالح كمان]. و " ندق الصخر"لمّن دينو يطلع "قمحا و وعدا و تمني" إلى آخر كلام الشعراء و الأدباء و الفنانين التقدميين.و أعمل حسابك من " آخر كلام الشعراء" دي عشان أنحنا في أمة الشعراء دي حاجاتنا كلها تبدأ من الشعر..شايف؟
صورة العضو الرمزية
ãÍãÏ ÍÓÈæ
مشاركات: 403
اشترك في: الخميس يونيو 01, 2006 4:29 pm

شيخ حسن؟

مشاركة بواسطة ãÍãÏ ÍÓÈæ »

.
بين المئات من الناشطين الشيوعيين الذين جمعتني معهم ملابسات العمل العام في العقود الأربعة الأخيرة لم أتعرف إلا على شخصين فقط يواظبان على أداء الصلوات.أما البقية فهم لا يصلون مثلهم مثل بقية أولاد و بنات المسلمين .وكون أغلب الشيوعيين السودانيين الذين عرفتهم لا يقيمون الصلاة [ و قد يصومون أو لا يصومون وفيهم من يعاقر أم الكبائر عند اللزوم مثلما فيهم من يتجنبها ] فذلك لأنهم جزء من واقع إجتماعي ثقافي علاقة الناس بالدين ضمنه تتأسس بشكل عفوي دون تفكير و تأمل مسبّق في الإشكاليات الفلسفية لأسئلة الإيمان و الإلحاد،و قد تصح فيهم مقولة " الناس على دين آبائهم" .هذا الواقع لا يعني غياب نموذج الشيوعي الذي يتوصل ، بعد التأمل الفلسفي النقدي ، إلى تأسيس موقف فلسفي معقلن من قضايا الإيمان و الإلحاد.هذا النموذج المستبصر في أسئلة الإعتقاد الديني هو الآخر نادر في الحزب، مثله مثل نموذج الشيوعي المواظب على أداء الصلوات.و كل هذا يوصلنا لحقيقة أن أسئلة الإيمان و الإلحاد هي ـ حتى إشعار آخر ـ أسئلة ثانوية في مشهد العمل العام الذي إنخرط فيه الشيوعيون السودانيون منذ أربعينات القرن العشرين.و هو عمل عام سياسي لحمته و سداه من صميم قضايا الواقع العملي [ قضايا الحريات، الديموقراطية و أسئلة التنمية و العدالة الإجتماعية ]و أظن أن إهتمام الشيوعيين السودانيين بالكدح الفكري في إشكاليات الإعتقاد الديني لا يتجاوز إهتمامهم بالكدح الفكري في إشكاليات علم الجمال أو إشكاليات علم الفلك حتى. و ذلك لسبب بسيط يمكن تلخيصه في أن القوم ، ضمن إنخراطهم التام في أولوية الأسئلة السياسية، لم يجدوا يوما براحا يتيح لهم الإنشغال باسئلة الفلسفة. و حتى حين أنفرضت أسئلة الإعتقاد الديني على الحزب من مدخل السياسة [ قوانين سبتمبر مثلا] ظل الشيوعيون يسوفون و يؤجلون فتح مناقشة سياسية/ دينية لم يكونوا مهيـّئين لخوضها



يا سلام، أهو الاقتباس الفوق دا فيهو شطارتك يا د. حسن، يا أب كفّتين. أمّا الاقتباس التحت فدا فيهو شي جديد خلاف طلاشتك السياسيّة المعهودة، فيهو و أعوذ بالله من كلمة فيهو، شيء من شغل فقهاء السلطان و إن كان سلطان قلوب بلا صولجان، فالسلطان كما تعلم أخي حسن مختلفٌ ألوانه لذّة للشاربين..


و في هذا السياق السياسي،أفهم العبارة المنسوبة لسكرتير الحزب الشيوعي حين قال في حديث صحفي : مافي ملحدين في الحزب الشيوعي. كمحاولة يائسة لردع الشيوعيين السودانيين عن التمسك بتهمة الإلحاد التي ألصقت بهم إفتراءا فقبلوها كتهمة مرموقة نكرانها يوقعهم في الحرج الرمزي و قبولها لا يخفف من غلواء البروباغاندا المعادية.طبعا هذا لا يعني أن الأستاذ محمد إبراهيم نقد ينكر وجود نوع الشيوعيين الملحدين إلحادا مؤسسا على المستوى الفلسفي، لكن الأستاذ نقد يعرف أن تعميم نموذج الشيوعي صاحب الرؤية الفلسفية النقديةعلى جملة المتحركين داخل الحزب الشيوعي السوداني ينطوي على مخاطر سياسية عديدة أولها إهتزاز الصورة التي يحملها المناضل الشيوعي عن نفسه كناشط سياسي مشغول بأولويات الواقع الإجتماعي السوداني.




يا زول بي صحّك؟ أنا مما شفت صورك في ندوة الميدان و جنبك الشيخ السلطان قلت "ربّنا" يستر من ردّ الجميل.

و الله يا حسن موسى بقيت دايرليك دليل فالح إنت ذاتك...

.
صورة العضو الرمزية
ÓíÝ ÇáäÕÑ ãÍí ÇáÏíä
مشاركات: 150
اشترك في: الأربعاء مايو 27, 2009 3:20 am

مشاركة بواسطة ÓíÝ ÇáäÕÑ ãÍí ÇáÏíä »

قال: " تفاءلوا بالوطن تجدوه" [ إنتو الشعر دا إلاّ يكتبوا عليهو " هذا شعر"؟] . يا زول الوطن [ و ما الوطن؟] قضيتو بايظة أنحنا متفائلين بيك إنت و بي الناس الزيك و ما عندنا شك في كوننا نجدك بعد أن ينفض هذا المولد الذي نعرف أن لا حمص و لا فول و لا زيت لنا فيه. سنعمل، " على المدى الطويل"، من أجل المولد القادم و أهلنا قالوا : "الفولة بتنملي و بقارة بجوا"، و شرحها في لغة أولاد أمدرمان:" وي شال أوفركوم"، و يوتوبيا "الزمن الجميل" ما زالت مشروعة و ضرورية و " سنهزم الفقر بأي وسيلة"[ الطيب صالح كمان]. و " ندق الصخر"لمّن دينو يطلع "قمحا و وعدا و تمني" إلى آخر كلام الشعراء و الأدباء و الفنانين التقدميين.و أعمل حسابك من " آخر كلام الشعراء" دي عشان أنحنا في أمة الشعراء دي حاجاتنا كلها تبدأ من الشعر..شايف؟

كلامك ده يا دكتور من شدة شاعريتو الثورية و للا ثوريتو الشاعرية ما عارف خلاني افكر بجدية انو ادي صوتي لعبد الله على ابراهيم.
أضف رد جديد