أنثولوجي الصورة الشخصية السودانية

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

صورة الإمام المهدي

مشاركة بواسطة حسن موسى »


تاج السر و سيدأحمد و الصحاب
شكرا على كلامات الفتوغرافيا السودانية، لكن كمان "صورة "الإمام محمد احمد المهدي دي فيها نظر و كده..
سأعود
صورة العضو الرمزية
تاج السر الملك
مشاركات: 823
اشترك في: السبت أغسطس 12, 2006 10:12 pm
مكان: Alexandria , VA, USA
اتصال:

مشاركة بواسطة تاج السر الملك »

سلام يا حسن
أها إجلي النظر يا صاحي
الصورة المهدوية دي رسمة على حسب ما عرفت، ما عندي تاريخا ولا تفاصيلا
حقيقة ما اهتميت كتير بيها، لكنها شيالة تاريخ فيما يلوح، و برضها بتعاين برة برة.
ننتظر
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

من فوق صورة

مشاركة بواسطة حسن موسى »

سلام يا تاج الفتوغرافيا
خيطك عامر بالكثير من التفاكير الجديدة [ و كذلك تصاويرك]و موضوع المحفورة المنسوبة للمهدي ذكرني مناقشة قديمة حول حقيقة هذه الصورة و صورة تلك الحقيقة التي انتحلها لنا البريطانيون أيام كانوا يخططون لـ " إعادة فتح السودان"
عندي نص قديم في هذا الموضوع ساحاول نسخه و بذله هنا و القدم ليهو رافع
صورة العضو الرمزية
تاج السر الملك
مشاركات: 823
اشترك في: السبت أغسطس 12, 2006 10:12 pm
مكان: Alexandria , VA, USA
اتصال:

مشاركة بواسطة تاج السر الملك »

و الله ياحسن، المحفورة دي لازم نسمع قصتها
وشكرا على توقفك عند حديث الفتغرافيا و تعليقك، و لنا شوط لم يبدأ بعد
و أعمال كثيرة، و نتمنى أن يشارك الجميع، فالأفكار زي مابقولو تمسك بخناق الافكار.
صورة العضو الرمزية
تاج السر الملك
مشاركات: 823
اشترك في: السبت أغسطس 12, 2006 10:12 pm
مكان: Alexandria , VA, USA
اتصال:

مشاركة بواسطة تاج السر الملك »

صورة

العم أحمد العبيد
تأريخ الأرض و الفن و الناس
صورة العضو الرمزية
تاج السر الملك
مشاركات: 823
اشترك في: السبت أغسطس 12, 2006 10:12 pm
مكان: Alexandria , VA, USA
اتصال:

مشاركة بواسطة تاج السر الملك »

صورة


Nicks of time
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

صورة المهدي الذي يشبه سير "لورنس أوليفيه"

مشاركة بواسطة حسن موسى »

سلام لتاج السر و الصحاب
أخيرا تمكنت من نسخ نصي حول " صورة " المهدي. و هو من المكاتيب القديمة في زمان ما كانت فيه دروب الأسافير سالكة لنا ، و كنا نكتفي بالورق الذي يسافر بالبريد البري و البحري و الجوّي. نشر هذا النص في "ج هـ ن م " رقم 2،مارس 1997 ، و قد نشره الصديق حسن الجزولي في جريدة " الفجر" في نهاية التسعينات و أظن ان بعض صحف الخرطوم نشرت جزءا منه دون استشارتي.قمت بإدخال بعض التعديلات و الإضافات التي سيلحظها من عرفوا الطبعة الأولى. سأواليكم بمجموعة التصاوير بعد ان تنمحي أميتي الرقمية .

........


في أصل الصورة.. صورة الأصل

صورة المهدي الذي يشبه لورنس أوليفيه !
يقال أن شهرة "نابليون" في أمريكا قد ازدادت كثيرا بعد أن لعب الممثل الأمريكي " مارلون براندو " دوره على الشاشة.و يحكي الأمريكان حكاية الشاب الذي دخل إحدى المكتبات باحثا عن كتاب حول "نابليون"، فسأله صاحب المكتبة: أي "نابليون" تقصد؟ "نابليون" الأول أو الثاني أم "نابليون" الثالث؟ فاحتار الشاب لحظة قبل أن يجيب: "نابليون" الذي يشبه "مارلون براندو"!
و الحكاية تلخّص إنتصار منطق السينما على منطق التاريخ في تقليد الثقافة الشعبية الأمريكية التي تجعل من السينما مرجعا للتاريخ بدلا من العكس، كما هو الحال في تقليد التعبير الأدبي الذي يستثمر أحداث التاريخ. طبعا المشكلة هي في كون الإنتشار الشعبي الواسع لوسيلة السينما السمعية البصرية يجعلها أكثر كفاءة من وسيلة الأدب المكتوب في أسر خيال الجمهور و تشكيله ليستقبل صورة التاريخ حسب الصياغة السينمائية. و الصياغة السينمائية، بوصفها وجها في التعبير الفني، ليست محايدة حيدة العلم . بل هي ترتهن برؤية الاشخاص الذين يدبرونها من واقع كونهم ينتمون إلى فئة لها خياراتها الثقافية المتوافقة مع مصالحها الإجتماعية، و بالتالي فالصورة الناتجة عنها ، في خصوص الناس و أمكنتهم و أزمنتهم ليست بريئة من شبهة الإنخراط في الصراع الطبقي [ أيوة الطبقي!] المحتدم بين السادة و المسودين.
و نحن ، كمستهلكين نظاميين للصور التي تضخـّها نحونا آلة التصاوير الأمريكية ، نجد أنفسنا في موقع الشاب الأمريكي الذي لا يعطي صورة "نابليون" فرصة خارج أيقونة "براندو". و أتصوّر أن جيل الشباب العربي [ و الليبي] الذي عرف سيرة البطل الليبي المقاوم " عمر المختار " ، من خلال فيلم المنتج الهوليودي مصطفى العقاد، قد بجد نفس الصعوبة في إحالة صورة عمر المختار إلى غير مرجع " آنطوني كوين "، سيّما و " كوين" قد لعب دورا في جسامة دور حمزة ، عم النبي، في فيلم العقاد الآخر " الرسالة "، الذي لا تخلو منه مجموعات الفيديو الأسرية وسط جمهور المشاهدين العرب و المسلمين .و كل هذا يحفزنا على التساؤل حول صورة التاريخ في ذاكرة الجمهور العربسلامي المعاصر الذي تعتبر السينما الأمريكية من أهم مصادر ثقافته الأيقونية.و مثال السينما ليس سوى الجزء البارز من " آيسبيرج" الثقافة الأيقونية العربية المعاصرة، و عن بحر تصاوير شبكات الأسافير و الأطباق و الكابلات التلفزيونية فحدّث و لا حرج!.
" من راقب الناس مات همّا "
في السودان، أذكر ان الرقابة السينمائية، في نهاية الستينات، كانت قد منعت عرض فيلم " الخرطوم" الذي يلعب دور المهدي فيه الممثل البريطاني الشهير" الـ " [سير] لورنس أوليفييه"، و ذلك بدعوى احتواء الفيلم على اختلاقات تجانب الحقائق التاريخية.و الفيلم الذي أخرجه ، في 1966، " بازل ديردين" و" ياكيما كانوت" [مخرج الفريق الثاني] يحكي صراعا متخيلا بين المهدي و الجنرال "غردون" الذي لعب دوره الممثل الأمريكي " شارلتون هيوستون".وهُيّئ للقائمين على الرقابة أن اعتراضهم على توزيع فيلم " الخرطوم" في السودان مكنهم من صيانة مهدينا عن حبائل التصاوير الغربية و النجاة بصورته من التغرير بذاكرة الأجيال الصاعدة، فلا تحيل تاريخنا الوطني لذاكرة السينما ولا تعرّف الإمام المهدي على أيقونة ممثل نصراني ، و لو كان في أهمية السير لورنس أوليفيه. طبعا هذا الحدب الوطني على صورة التاريخ السوداني لم يصمد طويلا أمام تطور تكنولوجيا التصاوير التي غمرت العالم بأشرطة الفيديو في السبعينات و يسّرت أنتشار نسخ الفيديو من فيلم " الخرطوم " [و غيره] للجميع بدون فرز.
المتأمل في صور المهدي التي بين أيدينا اليوم لايقاوم التساؤل حول أصلها. فما هي حقيقة هذه الصورة التي يملك بعض أهلنا ان يضحي فداءها بكل غال و نفيس؟ من صنعها ؟ومتى صنعت؟ و من أين جاءت؟ و لماذا و كيف استقرت هذه الصورة في ذاكرتنا التاريخية كأيقونة سودانية [ ميّة الميّة !] ، و نحن قوم، مازلنا ، على طبع البداوة، التوجس من الصورة الأيقونية كمظهر خدّاع و كوهم ، دارج في ثقافتنا حتى أننا نعبّر عن ريبتنا بالعبارة البليغة : " سماحة جمل الطين " و " من فوق صورة و من تحت قرقورة"، كون الصورة الأيقونية تملك أن تلتبس بالأصل و تضل عنه، و في ديننا ميراث التوجس اليهودي القديم من صناعة المصوّرين الذين هم " أشد الناس عذابا يوم القيامة " [ صحيح البخاري].و حين توصّف بلاغة الأهالي في الحواضر إستحالة حدوث أمر ما، فهم يحيلونه لمقام الصورة السينمائية و يبذلون العبارة " تلقاه في الشاشة الغشـّاشة " .
يخلق من الشبه أربعين
و " صورة" المهدي ليست وثيقة فتوغرافية بل هي رسم محفور مجهول الأصل [ حتى إشعار آخر]،أنجزه حفـّار بريطاني من مطلع القرن العشرين، منه تم استنساخ عشرات النسخ بواسطة رسامين سودانيين ذوي مهارات متفاوته، جلهم من رسامي "مكتب النشر" أو " قسم الوسائل" بوزارة التربية و التعليم.و ذلك ضمن السعي الرسمي لتوفير الوسائل البصرية الضرورية لمنهج تدريس تاريخ السودان.و على هامش مستنسخات وزارة التربية و التعليم تجدر الإشارة إلى عشرات البورتريهات التي تمثل المهدي و التي أنجزت بالقلم الرصاص على يد الرسام [ الأنصاري] العصامي " جحا" في فترة الستينات.و التي استنسخت بدورها، سواء عن طريق الفتوغرافيا "المُرتـّشة" أو عن طريق الشف و التطريس على يد بعض القائمين على نشر كتيبات " الراتب" المهدوي التي كانت توزع بين جماهير الأنصار في أنحاء السودان. و من جملة الصور المنسوبة للمهدي، مما هو متداول بين السودانيين اليوم، يمكن القول أن هناك عشرات النماذج المختلفة التي تمثل وجوها لا وجه شبه بينها بخلاف زاوية رسم الوجه على ثلاثة أرباعه [ و هي زاوية ذات حظوة ضمن تقليد رسم الوجوه الأوروبي كونها تمكّن من رسم الوجه بطريقة تجمع بين الجانبي،" البروفيل"، و الإستقبالي "، فرونتال"، في آن.]. صحيح أن الرسم يمثل في كل حالة وجها معمّما ملتحيا على استطالة و استقامة في الأنف، و لكن طريقة وضع العمامة تختلف من صورة لأخرى، مثلما تختلف طريقة تهيئة اللحية في علاقتها بالوجه.و وجه المهدي يبدو مشلخا في بعض المستنسخات بينما تختفي الشلوخ في بعضها الآخر.و رسم الأنف و العينين لا يستقر على هيئة واحدة، ففي اغلب الرسومات السابقة على رسم "جحا"، تم رسم الانف عاليا مستقيما على طريقة الأنوف المتوسطية بينما تبدو العينان ، على هيئة العيون الأوروبية المستديرة المحاجر برموش مؤكدة بائنة. و يبدو رسم ـ أو رسومات ـ " جحا" أدخل في طريقة تمثيل الملامح الإفريقية . فالوجه أقل استطالة و اكثر امتلاءا و الأنف يفقد حدته لصالح فطسة زنجية و تبدو العينان على انتفاخ يسير في الجفون. هذه العيئة العامة تكسب للمهدي نوعا من قرابة شكلية مع صور وجوه أعلام آل المهدي كالسيد عبد الرحمن و السيد الصديق إلخ.
متى؟ و كيف؟ و لماذا؟
الإنتشار الشعبي لصورة المهدي تأكد وسط أهل الحواضر السودانية مع بداية الخمسينات ، حين شرع آل المهدي في استثمار الميراث العائلي ضمن اللعبة السياسية لمؤسسة " المهدية الجديدة [ نيومهدية]، و ذلك لتحقيق استقطاب سياسي يتجاوز أبعاد العشيرة و الطائفة نحو أفق قومي سودانوي.و حين نستخدم عبارة "الميراث العائلي" فنحن لانعني شيئا بخلاف الصورة. ذلك ان محمد أحمد " الفقير" لم يورث آله شيئا من متاع الدنيا الفانية ، لكنه أورثهم صورة لا تقدّر بثمن! صورة الرجل/الرمز الذي لمّ شمل الناس على مشروع العدالة الإجتماعية و جعل من أشتاتهم " أمّة " مجاهدة ضد الظلم الإستعماري. و الإنتشار الشعبي لصورة المهدي كان يستهدف سكان المدن من " أولاد المدارس" الفالتين من طائلة " الإشارة" و القريبين من مرمى الصورة، بحكم كونهم تربوا على منطق أيقوني حديث يجعلهم أكثر حساسية لخطاب الصورة. ذلك ان الصورة ، ضمن ثقافة المجتمع المديني الحديث في السودان ،إنما تنطرح باعتبارها جزءا من ترسانة وسائل الإتصال الجماهيري الحديثة [ ماس ميديا] التي يتعلمها أهل الحواضر ضمن انخراطهم الحتمي في مشروع الحداثة.
و أغلب الظن ان قادة الـ " نيو مهدية " قد انتبهوا لمرامي الصورة ـ صورتهم هم، قبل أن ينتبهوا لصورة محمد أحمد المهدي ـ و ذلك بعد ان استشعروا المنفعة الإعلامية ذات العواقب السياسية [ و الإقتصادية] البيّنة وسط أهل الحواضر السودانية ، و بالذات في الفترة التي احتدم فيها الخلاف بينهم و منافسيهم الختمية على مسألة السلطة السياسية في السودان، عقب انفضاض حكم العهد الثنائي.ذلك أن صور زعماء الحركة " النيومهدية" [ و صور منافسيهم من زعماء الحركة الختمية ] كانت قد استقرّت كموضوع للتداول الشعبي الواسع منذ نهاية العشرينات.في تلك الفترة أنتج مصنع " الشبراويشي" المصري " نوعين من العطور، وضع على زجاجة أحدهما صورة السيد علي الميرغني، و على الآخر صورة السيد عبد الرحمن المهدي، و جاء عطر " كرومة" [ بصورته] ثالثا لهما.. و ذلك بعد استئذانهم جميعا " [ حسن نجيلة، ملامح من المجتمع السوداني،2 ص 156.دار الخرطوم للطباعة و النشر، 1994]. و بعدها ظهرت على قنينات الشبراويشي صورة " بنت السودان "، نوعا من " آليغوري" الامّة الشابة الماثلة على هيئة الـ " بين آب"
« Pin up girl »
سودانية ، " بت بلد" مكحّلة و مشلّحة و ممشـّطة و .. فكأنها خرجت من " حقيبة الفن" أو من تصاوير علي عثمان!
ثم تعددت المستنسخات الفتوغرافية للزعماء السياسيين لغاية نهاية الخمسينات.و كان أهل الحواضر، ضمن الفرز الإجتماعي الجديد، كانوا يعلقون صور زعماء الأحزاب و الطوائف و الشيوخ في بيوتهم و في المحال التجارية و مواقع العمل و المقاهي و الحافلات العامة كنوع من إعلان الإنتماء لهذا الفريق أو لذاك.و في السوق ، عند أهل " التشاشات" و باعة البراويز كنت ترى صور " السيدين" و أولادهما مطبوعة على ورق التقاويم أو مبروزة جنبا إلى جنب مع صور " البُراق النبوي" أو المستنسخات من الرسومات الشعبية التي كانت منتشرة في بلدان الشرق و التي تمثـّل" الإمام علي " يحيط به الحسن و الحسين و أمامهم أسد رابض.و إلى جانب ذلك كنت ترى صورة " محمد نجيب" و " جمال عبد الناصر "أو نجوم كرة القدم [ صديق منزول و برعي]، و نجوم الغناء المديني [ أحمد المصطفى و ابراهيم عوض ]. كل ذلك معروض جنبا إلى جنب مع مستنسخات الخط العربي من حكم و آيات قرآنية. في نفس الفترة كنت تجد عند باعة الآنية نوع الأطباق و الأكواب و السلطانيات و السكريات المصنوعة من الصيني ، تزينها صور" السادة" و المشاهير.كانت تلك الصور المبذولة على قارعة الطريق تمثل نوعا من الغذاء الأيقوني اليومي لأهل الحواضر الذين انخرطوا في منطق الثقافة الأيقونية للمجتمع الرأسمالي الحديث.مجتمع الاعلام الجماهيري[ ماس ميديا]، و هو مجتمع للصورة الأيقونية فيه نصيب الأسد في صياغة الوجدان الجمعي.
في منافع الصورة
كانت الأيقونة الفتوغرافية "المُرَتـّشة" للسيد علي الميرغني،تلك التي عهدناها في زجاجات العطر و التقاويم و الصحف و المستنسخات الشعبية، كانت تندمج غالبا في خلفية مفبركة بطريقة الـ " فوتومونتاج" تمثل مشهدا عاما لـ " مكة المكرمة " أو " المدينة المنوّرة".و كانت المنفعة السياسية المرجوّة من تلك التصاوير هي تسويغ الشرعية السياسية الدينية بقرينة الأصل العائلي النبوي للسيد علي الميرغني.و في المقابل تمثل أيقونة خصمه السياسي و الطائفي، السيد عبد الرحمن المهدي، كتسويغ آخر للشرعية السياسية الدينية بقرينة القرابة العائلية مع صورة الأب الذي بسط أبوته الرمزية على تاريخ الأمة السودانية بحالها!..
الوثائق الفتوغرافية التي تتعلق بشخصيات الفترة المهدية نادرة ، إن لم تكن منعدمة تماما.و هي في الغالب وثائق لا تتيح لمن يتأملها إمكانية تكوين صورة وثائقية واضحة لملامح الشخص ، أو الاشخاص الماثلين فيها.فالصورة المنسوبة للخليفة عبد الله التعايشي ـ إذا صحّت نسبتها للخليفة ـ لا تمنحنا فكرة واضحة عن ملامح الخليفة عبد الله كشخص . لكن ضعف القيمة الوثائقية لصورة الخليفة كشخص لا يعني أن هذه الصورة لا تحمل أي مضمون وثائقي على الإطلاق.ذلك لأن منفعة هذه الصورة إنما تقوم في مقام الرمز.كونها تنفع في تمثيل صورة الخليفة كرمز أو كأيقونة للبطل التراجيدي النبيل الذي قاد حربا خاسرة ضد آلة الإستعمار الغاشمة و رقد مجندلا على أرض المواجهة تنمحي ملامحه بين الدم و الغبار.
هذا يعني أن النظر في الصورة ـ مطلق صورة ـ مهما كانت نوعيتها إنما يعطينا بالضرورة موضوعا للنظر عليه نبني و نوجّه إدراكنا لمضمونها. و في التحليل النهائي غير الأخير، فالصورة المادية تمثل ، من جهة أولى، كذريعة ضرورية مقبولة تسوّغ لنا إسقاط افكارنا المسبّقة و تمريرها للآخرين في يسر يتعذّر بدون مسند الصورة. و من الجهة الثانية فغياب الصورة المادية يملك أن ينمسخ صورة نافعة في تخليق و تبرير الصورة الكامنة في الخاطر. و في النهاية ليس هناك أي مهرب من حضور الصورة إلا في الصورة. و هذا الإشتباه المريع في طبيعة الصورة يقيم في اصل شقاق التصاوير الازلي بين صورة الحقيقة و حقيقة الصورة، و هو شقاق ظل يهجس ديانات التوحيد في تعبيراتها اليهودية و النصرانية و الإسلامية.
ألبوم العائلة
و في " ألبوم" العائلة الأوروبية يحتوي باب صور أبطال الميثولوجيا الشرقية على " كليشيهات " الأنبياء و الفلاسفة الوافدين من الشرق :[ من آدم لنوح لكونفيشيوس لغاية موسى و عيسى و محمد..] مثلما يحتوي على كليشيهات الغزاة و المحاربين و المغامرين [من شاكلة "جلجامش" و "سميراميس "و "هانيبعل" و "جنكيزخان" و "صلاح الدين" إلخ.]. و حرص الأوروبيين على توفير و صيانة الصور الأيقونية لأعلام التاريخ الإنساني ينطوي على أكثر من دلالة في صدد علاقتهم بصورة التاريخ ضمن المشهد الأوروبي. ذلك أن ضرورة الصورة الأيقونية لفهم التاريخ حفزت القوم ، أكثر من مرة ، على إختراع صور مزيفة و تصديقها بغاية تسويغ بعض الشخصيات أو بعض الأحداث التاريخية التي بقيت بلا صورة أيقونية.
ففي عصر النهضة الأوروبية ، الذي استعر فيه السعي المنهجي لإستعادة صورة المجد الإغريقي و الروماني من مخلفات الآثار و أطلال الماضي، افتتح النهضويون بابا جديدا في علم الصورة، هو باب " دراسة الميداليات و العملات " [ علم" النوميات" أو الـ " نوميسمات"]
Numismatics
الذي نال حظوة بينة في دراسات آثار العصر الإنطيقي ، و لاحقا في دراسة تقليد البورتريه الأوروبي.و ذلك على زعم يعتبر العملات و الميداليات حوافظا أمينة لصور الرجال العظام في ذاكرة التاريخ. و قد شهدت الفترة التي اعقبت عصر النهضة رواجا كبيرا لأدب الصورة الأيقونية القائم على أمشاج من علم التحليل النفسي الشعبي و أساليب الفراسة التصويرية، بالذات حين استشعر الامراء و الملوك و البابوات و ذوو السلطات فرص الرواج الأعلامي عبر تقنيات الإستنساخ الجديدة التي تمخضت عنها التجربة التقنية لعصر النهضة[ في فن الحفر و الطباعة على الورق] في القرن الخامس عشر. بل أن الصورة المستنسخة للشخص أو للواقعة المعينة ، كانت تملك، ضمن بعض الملابسات ، أن تصبح قرينة دامغة على مصداقية المزاعم التاريخية للشخص الماثل فيها أو للواقعة التاريخية المتعلقة بها.و يعتبر كتاب " الموجز في ميداليات الأعلام، منذ بدء الخليقة، مع مختصرات حيواتهم و مآثرهم، حسب روايات رصناء المؤلفين " [ كذا!] لمؤلفه " غيّوم رويّي" الذي نشر في مدينة " ليون" الفرنسية عام 1553، يعتبر من أفضل نماذج التقليد الأوروبي في اختلاق صورة التاريخ البائد من وحي مصالح و أوهام و نزوات ثقافة راهنة تسعى لتوطيد سلطتها من خلال تسويغ و إعلاء صورتها. و الكتاب بختوي ـ كما يقول عنوانه ـ على صور الأعلام من " آدم " لغاية " آخر العنقود"، الملك " هنري الثاني" الذي صدر الكتاب في عهده [ 1547ـ 1559].و بين البداية و النهاية تجد صور فنانين مثل " رافائيل" و " مايكل أنجيلو" ، أو صور الفلاسفة من شاكلة " ديوجين" ، أو الأنبياء كـ " نوح" و " عيسى " و " محمد".و يورد المؤرخ البريطاني، " فرانسيس هاسكل" في كتاب شيق[ المؤرّخ و الصور ، غاليمار 1995] [1]
أن كتاب رويي صار مرجعا و نموذجا يحتذى في هذا الصنف من تآليف التاريخ، فخرجت على أثره كتب كثيرة عمّت الحواضر الأوروبية و مدّت أهلها بصور للماضي تنسجم مع متطلبات حاضرهم.
هذا التقديم ينقلنا للتساؤل التالي :
مع متطلبات أي حاضر تنسجم صورة الماضي المهدوي التي بين أيدينا اليوم؟

صورة الشرق و الغرب
إن صورة محمد أحمد المهدي المتداولة بين السودانيين اليوم ليست بحال وثيقة فتوغرافية تمثل شخص المهدي. فالرجل لم يقابل أي مصوّر فتوغرافي في حياته القصيرة الحافلة[1844ـ1885].و الرسم المحفور الذي يمثل وجها منسوبا للمهدي تم انجازه في بريطانيا العظمى ضمن ملابسات الحملة الدعائية الإستعمارية التي استهدفت استعادة السودان لحظيرة الإمبراطورية. طبعا الحفـّار البريطاني الذي انجز صورة المهدي [ و صور غردون باشا] لم ير المهدي في حياته و لم تطأ قدمه تراب السودان.و المصدر الأيقوني الذي ألهمه ملامح وجه المهدي ، صدر في الغالب من تلافيف النموذج الجسمي لصورة الزعيم الشرقي كما صاغها أدب و فن تقليد الإستشراق الأوروبي الرومانسي بين القرنين الثامن عشر و التاسع عشر.و هي فترة تأكد فيها للأوروبيين وجود عالم " آخر" و "دنيا جديدة" حقيقية ، عامرة بوعود الثروة المادية و الهلاك الروحي في آن.ففي عام 1798، حين كان " نابليون" يواجه المماليك في مصر و في سوريا [ لقطع طريق الهند على البريطانيين]، كان اليقين المطلق في مركزية الأنا الأوروبية قد تضعضع منذ أجيال.و ذلك سواء بفعل التهديد المباشر من الشرق القريب المتمثل في الأتراك العثمانيين الذين حاصروا " فينـّا" في 1683، و أحيوا في الذاكرة الأوروبية النصرانية ذكريات المواجهة الصليبية، أو بفعل تطوّر الوعي الذاتي لمفكري " التنوير" الأوروبيين الذين استفادوا من مقوّلة " الآخر" في نقد الهوية الأنانية الأوروبية.[ 2]. و مع نهاية القرن التاسع عشر كانت صورة الشرق في خاطر الأوروبيين قد استقرت في شكل كيان مركّب بصيغة الجمع. و ذلك بفضل تعدد و تباين المصادر التي كوّنت صورة الشرق في الوجدان الأوروبي. فهناك شرق الحضارات العريقة البائدة من الشرق الأقصى لمصر الفرعونية، و هو يتمفصل غالبا مع شرق الديانات الكبيرة ضمن خارطة زمانية/مكانية تمتد من " كونفوشيوس" لموسى و عيسى و محمد.ثم هناك شرق التجارة و المصالح المتناحرة للأمم الرأسمالية الناهضة في أوروبا و امتداداتها الإستعمارية. و لا تكتمل اللوحة بغير شرق التقليد الإكزوتي الأدبي و الفني الذي اختلقه أدباء و فنانو الحركة الرومانسية بالتضامن مع المستشرقين و المشتغلين بالدراسات الإثنولوجية و المبشرين و الإداريين الإستعماريين و تجّار السياحة..إلخ.
و من عواقب حركة الإستشراق على صعيد الثقافة الأيقونية أنها أورثت الأوروبيين جملة من الإتفاقات الأيقونية الدالة على موضوعات الشرق، و التي تثبّتت بطول الإستخدام الجمعي، ضمن تصانيف تشكيلية و علامات لغوية بصرية لا تخطئها العين.و هذه الإتفاقات الأيقونية تنبني على مجموعة من الإحالات لهيئة المكان الطبيعي أو المعماري أو لهيئة الملامح الجسدية أو أساليب اللباس أوأنواع المتاع المادي من آنية و أثاث، أو منتجات الثقافة غير المادية كطرائق الوسم و أساليب الكتابة و الحركة الجسدية و مناهج العمل الإنتاجي [ "تقنيات الجسد" مارسيل موس] إلخ. كل هذه الإتفاقات الأيقونية التي تحيل نظر الناظرين ناحية الآخر الشرقي، يتم اختيارها و تبنيها ،داخل الجماعة الأوروبية المعنية، ضمن اسباب ذاتية متراكبة مع حسابات المصالح المادية و الرمزية لمجتمع الأوروبيين. و هي اسباب لا يبالي الاوربيون فيها بكون " الآخر" يقبلها أم لا.فالمجتمع الأوروبي يعقلن خياراته من صميم أناه البدائية و حسب رؤيته الطبقية للعلاقة مع الآخرين.
ضمن هذا المنطق اختار البريطانيون صورة للمهدي من واقع رؤيتهم الخاصة، و بما يتماشى مع حاجة اللحظة التاريخية للمجتمع البريطاني الرأسمالي الذي درج على تسويغ لا أخلاقية الإستعمار بالزعم النصراني لمهمة التمدين و محاربة الرق و أيقاف زحف المتعصبين و إحلال قيم العدالة و التقدم و التنوير إلخ.لا سيّما و أن الرجل الذي وضعته الآلة الإستعمارية في مواجهة المهدي كان ـ حسب الصورة التي رسمتها له صحافة البروباغندا الإستعمارية البريطانية ـ كان بطلا شعبيا يتمتع بهالة حامي الحضارة النصرانية على تخوم البربرية، في العالم غير الأوروبي.[ في آسيا و في أفريقيا]. فالجنرال غردون الذي أوفدته الآلة الإستعمارية لإنقاذ السودان، وصل السودان تتبعه اسطورته العسكرية كـ " غردون الصين" [3]
و كانت المؤسسة الإستعمارية تتوقع منه انقاذ مصالح الإستعماريين في السودان بمثل ما فعل في الصين.
و ما كان للصورة الرائجة للجنرال غردون باشا، في بزته العسكرية الملبكة بالنياشين و الانواط البريطانية و العثمانية، ما كان لها ان تفعل فعلها في الجمهور البريطاني الفيكتوري ، إن لم تقابلها صورة في وزنها. صورة خصم رهيب مهيب يكسب الخصومة روعة المواجهة الحضارية بين الغرب و الشرق، و قيل: بين الحضارة و البربرية.و هكذا كان لا بد للإستعماريين الفيكتوريين من صورة لخصم غردون فاخترعوا للمهدي صورة من لا شيئ!
هل قلت "من لاشيئ"!؟
لا، لقد قلّبوا صفحات " ألبوم العائلة" العائلة الأوروبية و تأنـّوا عند الحرب الصليبية التي تمثل الإتفاق الجمعي الأوروبي الأكثر شعبية في ترسانة إتفاقات المواجهة الأسطورية بين الغرب النصراني و الشرق المسلم . و اختاروا من بين أيقوناتها صورة القائد الشرقي المحارب المحنك و المتدين المخلّص ،و القادر، على تعصبه العقائدي ،على تقدير جلال الخصومة، و محاورة خصمه العظيم في ما وراء ضجة المتقارعين و عجعجتهم. كان لا بد من أيقونة " صلاح الدين الأيوبي" لتمثيل صورة المهدي السوداني.و من غير " صلاح الدين" لتمكين " غردون الصين" من انتحال أيقونة " ريتشارد قلب الأسد"؟!
و هكذا يجد الرسام البريطاني ، المطالب باختراع صورة للمهدي في نهاية القرن التاسع عشر ، يجد نفسه محكوما بجملة من الخيارات الأيقونية الصادرة من الملابسات السياسية للحظة التاريخية و من توقعات مجتمع فيكتوري متلهّف لهذا النوع من الغذاء الأيقوني.
و رسامنا البريطاني ليس نسيج وحده، فقد عرف أورثنا القرن التاسع عشر حركة جمالية بحالها من الرسامين المستشرقين الذين امتهنوا تحقيق صورة للشرق من نسيج اوهام الغربيين. و قد وجدوا ضالتهم بالذات في تصاوير الزعماء الشرقيين التاريخيين الذين لم تطالهم يد الفتوغرافيا و لا ريشة رسامي الوجوه الأكاديميين. و قد انعكس تشابه المصادر الايقونية المتوفرة لدى الرسامين المستشرقين على نتائج عملهم في شكل نوع من القرابة العائلية بين ملامح أغلب الأيقونات الشرقية. فصورة المهدي السوداني البريطانية ، و التي تشبه صورة صلاح الدين أو صور السلاطين الاتراك في لوحات حركة الإستشراق ، لا تخلو من شبه عائلي يقربها من صور المقاومين المغاربة للإستعمار الفرنسي في اللوحات الفرنسية المصدر [4]. و القاسم المشترك بين هذه الشخصيات الشرقية يتمثل في كونها جسدت المقاومة الشرقية الروحية و المادية لهيمنة قوى رأس المال النصراني أبان الغزوة الإستعمارية لبلدان الشرق. و بصفتهم المشتركة هذه فهؤلاء الرجال ينمسخون من حال الأشخاص ذوي الفرادات لحال الرموز. و الرمز كعلامة يستغني عن تفاصيل الخصوصية الذاتية و يستبدلها بالعمومية الممنهجة بسبيل رفع كفاءة القابلية على الفرز كما في منطق كتابة "الهيروغلوفية" أو الرموز التصويرية[ حتى اجد ترجمة افضل لـ "أيديوغرام"]
Idéogramme
و يمكن القول، من جهة أولى ، بأن الجمهور البريطاني لم يكن ينتظر من رسامه صورة وثائقية للمهدي بل كان ينتظر منه رمزا.و من جهة أخرى ، جهة وطنية، يمكن القول ان أغلب سدنة المهدية الجديدة" النيومهدية" ، و وراءهم قطاع واسع من جمهور الحواضر العربسلامية في سودان ما بعد الإستقلال، لم يكن يحتاج صورة وثائقية تمثل المهدي، و إنما كان يحتاج رمزا قوميا يتـّفق عليه الجميع في داخل البلاد [ و في خارجها ايضا]، نوع من رمز يعمل كنواة لمشروع هوية وطنية جامعة في مواجهة العالم. و هو رمز متعدد المنافع في نفس الوقت. فسدنة الـ " نيو مهدية" المتواطئون مع قوى الإستعمار الجديد ينتفعون به في عملية الإستقطاب السياسي القومي لصالح مشروعهم السياسي العائلي.و أنصار النزعة " السودانوية" من ابناء الحواضر العربسلامية ينتفعون به في تسويغ الفكرة القومية السودانوية على محوري العروبة و الإسلام [ السوداني !] . أما منافع أهل الخارج من أيقونة المهدي فكثيرة و متباينة بتباين مصالحهم .فالأعلام الأوروأمريكي كثيرا ما يورد صورة المهدي السوداني ضمن الحملات الإعلامية التي تستهدف تهيئة الرأي العام لتقبل هذا المشروع السياسي أو تلك الخطة الدولية التي تمس التحولات في المجتمع الإسلامي المعاصر. و في حملات البروباغندا التي تصور المسلمين كدراويش مهووسين مارقين للجهاد ومستعدين للإستشهاد بسبيل الدفاع عن العقيدة.و صور ة المهدي السوداني و موجز سيرته يردان غالبا ضمن التقديم التاريخي للمقالات و الدراسات التحليلية التي تزعم تفسير ظاهرة العنف في الإسلام السياسي. و ذلك ضمن خلط متعمّد تمتزج فيه صورة المهدي السوداني بدعاة اسلاميين من أقاليم اسلامية بعيدة كمهدي المغرب و مهدي الصومال [1899] الذي حارب الإطاليين و الإنجليز أو مهدوي غرب افريقيا لغاية آية الله الخميني نفسه. و وسط الخلط والإلتباس العام [5] لا أحد يقاوم إغراء أستخدام صورة المهدي السوداني، بمناسبة و بدون مناسبة، كنوع من نموذج أولي " بروتوتيب" يفترض أنه أورث العالم المعاصر إرهابيين من عيار بن لادن .
عوارض المشاهدة
المشكلة مع منطق التصاوير تتلخص في ان تصاوير الخاطر تتمتع بسطوة كبيرة على الصورة الوثائقية للواقع. بل أن صورة الخاطر تملك ، في لحظة من إختلال البصر، أن تنفي صورة الواقع و تستبدلها بواقع الصورة الذهنية المعرضة لتأثيرات إختلال ذاكرة البصر .
و إذا كان اختلال البصر البريطاني قد ألهم المستعمرين أن يستخرجوا للمهدي صورة من ذاكرة الحرب الصليبية ، فإن أفندية الـ "نيو مهدية" في سودان السودنة ما قبلوا صورة المهدي، الوافدة من الذاكرة الصليبية للبريطانيين ، إلا ضمن اختلال بصرهم الناتج من جرّاء إنخراطهم التاريخي في ذاكرة المستعمرين البريطانيين. و هو انخراط رمزي ضروري لإستكمال آخر حلقات الإنخراط المادي في بنى الحداثة الكولونيالية. و اليوم لو تسنى لرسام سوداني معاصر قدر واف من شهادات العيان في خصوص ملامح المهدي الحقيقية، فإن الصورة التي سيرسمها، مهما بلغت درجة أمانتها الوثائقية سيكون مصيرها الإهمال، و قيل الإستنكار، من طرف أفندية الـ "نيومهدية". لماذا؟ لأنها لا تطابق الصورة البريطانية "الرسمية" للمهدي ، و هي الصورة التي ألفوها واستبطنوها في خواطرهم و أيدوها ما وسعهم.
روى صديق رسام أن أحد معارفه حمل إليه صورة فتوغرافية صغيرة بالأبيض و الاسود ملصقة على جواز سفر والده، و طلب منه رسم صورة أكبر و أكثر وضوحا تمثل الوالد حتى يعلقها في صالونه.قال الرسام أنه عندما أكمل الصورة و عرضها على صديقه، لاحظ على وجه الصديق شيئا من الإمتعاض أعقبه اعتراض ودّي فحواه أن الصورة و إن كانت رائعة إلا أن الشخص الماثل فيها لا يشبه والده.و شعر الرسام أن صديقه اخذ الصورة من غير إقتناع. قال الرسام أنه قابل صديقه بعد عامين و سأله إن كان ما يزال يحتفظ بالصورة؟ فأجاب الرجل بالإيجاب و أضاف: عجيب امر هذه الصورة! لقد علقتها في البداية في الصالون من باب المجاملة كونها لم تكن تشبه الوالد. لكن اليوم كلما نظرت إلى والدي وجدته يزداد شبها بالشخص الماثل في الصورة !
و بعد، ماذا نحن فاعلون بهذه الصورة المزيفة التي تلتبس بحقيقة هذا الشخص الماثل في مقام "أب" التاريخ السوداني الحديث؟ فلو حفظناها ـ على ارتيابنا المشروع بحقيقتها ـ فهي ستفسد علينا صورة "الأب " ، و لو لفظناها أوقعنا ذلك في حرج الفراغ الذي يغري الصور الأخرى باحتلال محل الصورة الغائبة. كافة الصور الأخرى التي لا نعرفها و التي قد تخرج علينا من ذاكرة الأدب الديني أو من ذاكرة المسرح السياسي السودانوي أو من ذاكرة السينما السياسية الأمريكية أو حتى من ذاكرة التعصّب العرقي المحلي بسبيل تلبية الإحتياج الأيقوني لشعب لم يعد يطيق غياب التصاوير بين متاعه المديني ، فكأنها ـ على حد العبارة الكردفانية البليغة ـ مثل الجمل الذي مات في زرع السمسم :" كان جرّيته يكسّر السمسم و كان خلّيته يعفـّنه "!
لقد عاش اسلافنا ظاهرة " سر الحرف" ، في التقليد اليهودي النصراني و الإسلامي ، ضمن علم للكلام يملك الكلم فيه أن يصير جسدا. و يبدو أننا نكابد اليوم " سر الصورة " على مشارف حضارة أيقونية يلتبس فيها واقع الصورة بصورة الواقع بما يثلم من كفاءة وعينا على الإمساك بتلابيب واقعنا.وإذا كانت علوم التصاوير المعاصرة "السيمياء لوجيا ؟"
تعقلن إشكالية شقاق التصاوير على رصيد خبرة الذاكرة المعرفية الأوروبية ، فإن لقيّات المباحث الأوروبية في هذا المجال ستبقى قاصرة عن الإحاطة بأوجه الإشكالية الأدخل في ذاكرات أخريات يغذين فكر قوم فلتوا من تأثير التقليد الأوروبي. على أن الخصوصية المفترضة لمباحث التصاوير على محاور التقاليد غير الأوروبية ستبقى بلا معنى ما لم تتمفصل مع مجمل المباحث الموازية[ الأوروبية المنطلق و غير الأوروبية] ، على منهج يموضع الإنسان المعاصر ضمن أفق الشراكة العادلة في منافع الصورة و في عواقبها.
دوميسارق 31ـ3ـ1997




ــــــــــــــــــــــــــ
[1]
Francis Haskell, l’Historien et les images.Gallimard,1995
[2] أنظر " الرسائل الفارسية" للفيلسوف الفرنسي " مونتيسكيو" " كيف يمكن أن يكون المرء فارسيا؟!" 1721]
[3] انظر الرابط
https://en.wikipedia.org/wiki/Charles_Ge ... rdon#China

[4] أنظر تصاوير يوجين دولاكروا في المغرب في الرابط
https://art.mygalerie.com/lesmaitres/del ... roix7.html

وفي هذا الرابط

[5] وقعت على صورة جديدة/قديمة للمهدي [ في العدد 22، شتاء 1996ـ97] من مجلة "قنطرة" التي يحررها باسم " معهد العالم العربي" بباريس ، ثلة من المثقفين العرب و المستعربين.و على غلاف العدد إعلان عن ملف خاص بالسودان و ذلك على شرف المعرض التاريخي و الآثاري الكبير عن السودان الذي يقيمه المعهد مع مجموعة من التظاهرات الثقافية عن السودان.و في صدر مقالة للباحث الفرنسي " هيرفي بلوشو" تبدو واحدة من تلك الصور المرسومة يمثل فيها الوجه الأيقوني المعهود للمهدي مشلّخا و على يمينها التعليق الآتي: " الصورة الوحيدة التي تمثل المهدي". و عند الركن الأيمن بأحرف صغيرة نقرأ وسم حقوق النشر المحفوظة لـ " كريستيان دلمي" .و إذا قلبت الصفحة فسترى صورة فتوغرافية تمثل النصب التذكاري لـ "غردون باشا" على جمل و في التعليق على يمين الصورة يمكنك أن تقرأ " نصب تذكاري لغردون باشا في الخرطوم". هذه الصورة من محفوظات وكالة " ماغنوم" و أما النصب التذكاري فقد غادر الخرطوم لبريطانيا مع الإستقلال. ترى ما مصلحة معهد العالم العربي في تقديم صورة السودان بهذا الاسلوب؟
ÅÓãÇÚíá Øå
مشاركات: 453
اشترك في: السبت سبتمبر 10, 2005 7:13 am

مشاركة بواسطة ÅÓãÇÚíá Øå »

الاخ تاج السر تحية طيبة
الخيط دا مفتول , ويصعب والحال هذا على المتابعة, فهل من دبارة لتقويم الفلتة. نتابع
الفاضل الهاشمي
مشاركات: 2281
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:14 pm

مشاركة بواسطة الفاضل الهاشمي »

فعلاً يا اسماعيل دعنى احاول اصلاح الفتلة هنا وعسى ان لا اكون قد (جبت ضقلا يتلولح) كما يقول اعرابنا. قرأت الموضوع بعد ان طبعته.

الفاضل
----------

في أصل الصورة.. صورة الأصل

صورة المهدي الذي يشبه لورنس أوليفيه !

يقال أن شهرة "نابليون" في أمريكا قد ازدادت كثيرا بعد أن لعب الممثل الأمريكي " مارلون براندو " دوره على الشاشة.و يحكي الأمريكان حكاية الشاب الذي دخل إحدى المكتبات باحثا عن كتاب حول "نابليون"، فسأله صاحب المكتبة: أي "نابليون" تقصد؟ "نابليون" الأول أو الثاني أم "نابليون" الثالث؟ فاحتار الشاب لحظة قبل أن يجيب: "نابليون" الذي يشبه "مارلون براندو"!
و الحكاية تلخّص إنتصار منطق السينما على منطق التاريخ في تقليد الثقافة الشعبية الأمريكية التي تجعل من السينما مرجعا للتاريخ بدلا من العكس، كما هو الحال في تقليد التعبير الأدبي الذي يستثمر أحداث التاريخ. طبعا المشكلة هي في كون الإنتشار الشعبي الواسع لوسيلة السينما السمعية البصرية يجعلها أكثر كفاءة من وسيلة الأدب المكتوب في أسر خيال الجمهور و تشكيله ليستقبل صورة التاريخ حسب الصياغة السينمائية. و الصياغة السينمائية، بوصفها وجها في التعبير الفني، ليست محايدة حيدة العلم . بل هي ترتهن برؤية الاشخاص الذين يدبرونها من واقع كونهم ينتمون إلى فئة لها خياراتها الثقافية المتوافقة مع مصالحها الإجتماعية، و بالتالي فالصورة الناتجة عنها ، في خصوص الناس و أمكنتهم و أزمنتهم ليست بريئة من شبهة الإنخراط في الصراع الطبقي [ أيوة الطبقي!] المحتدم بين السادة و المسودين.
و نحن ، كمستهلكين نظاميين للصور التي تضخـّها نحونا آلة التصاوير الأمريكية ، نجد أنفسنا في موقع الشاب الأمريكي الذي لا يعطي صورة "نابليون" فرصة خارج أيقونة "براندو". و أتصوّر أن جيل الشباب العربي [ و الليبي] الذي عرف سيرة البطل الليبي المقاوم " عمر المختار " ، من خلال فيلم المنتج الهوليودي مصطفى العقاد، قد بجد نفس الصعوبة في إحالة صورة عمر المختار إلى غير مرجع " آنطوني كوين "، سيّما و " كوين" قد لعب دورا في جسامة دور حمزة ، عم النبي، في فيلم العقاد الآخر " الرسالة "، الذي لا تخلو منه مجموعات الفيديو الأسرية وسط جمهور المشاهدين العرب و المسلمين .و كل هذا يحفزنا على التساؤل حول صورة التاريخ في ذاكرة الجمهور العربسلامي المعاصر الذي تعتبر السينما الأمريكية من أهم مصادر ثقافته الأيقونية.و مثال السينما ليس سوى الجزء البارز من " آيسبيرج" الثقافة الأيقونية العربية المعاصرة، و عن بحر تصاوير شبكات الأسافير و الأطباق و الكابلات التلفزيونية فحدّث و لا حرج!.

" من راقب الناس مات همّا "

في السودان، أذكر ان الرقابة السينمائية، في نهاية الستينات، كانت قد منعت عرض فيلم " الخرطوم" الذي يلعب دور المهدي فيه الممثل البريطاني الشهير" الـ " [سير] لورنس أوليفييه"، و ذلك بدعوى احتواء الفيلم على اختلاقات تجانب الحقائق التاريخية.و الفيلم الذي أخرجه ، في 1966، " بازل ديردين" و" ياكيما كانوت" [مخرج الفريق الثاني] يحكي صراعا متخيلا بين المهدي و الجنرال "غردون" الذي لعب دوره الممثل الأمريكي " شارلتون هيوستون".وهُيّئ للقائمين على الرقابة أن اعتراضهم على توزيع فيلم " الخرطوم" في السودان مكنهم من صيانة مهدينا عن حبائل التصاوير الغربية و النجاة بصورته من التغرير بذاكرة الأجيال الصاعدة، فلا تحيل تاريخنا الوطني لذاكرة السينما ولا تعرّف الإمام المهدي على أيقونة ممثل نصراني ، و لو كان في أهمية السير لورنس أوليفيه. طبعا هذا الحدب الوطني على صورة التاريخ السوداني لم يصمد طويلا أمام تطور تكنولوجيا التصاوير التي غمرت العالم بأشرطة الفيديو في السبعينات و يسّرت أنتشار نسخ الفيديو من فيلم " الخرطوم " [و غيره] للجميع بدون فرز.
المتأمل في صور المهدي التي بين أيدينا اليوم لايقاوم التساؤل حول أصلها. فما هي حقيقة هذه الصورة التي يملك بعض أهلنا ان يضحي فداءها بكل غال و نفيس؟ من صنعها ؟ومتى صنعت؟ و من أين جاءت؟ و لماذا و كيف استقرت هذه الصورة في ذاكرتنا التاريخية كأيقونة سودانية [ ميّة الميّة !] ، و نحن قوم، مازلنا ، على طبع البداوة، التوجس من الصورة الأيقونية كمظهر خدّاع و كوهم ، دارج في ثقافتنا حتى أننا نعبّر عن ريبتنا بالعبارة البليغة : " سماحة جمل الطين " و " من فوق صورة و من تحت قرقورة"، كون الصورة الأيقونية تملك أن تلتبس بالأصل و تضل عنه، و في ديننا ميراث التوجس اليهودي القديم من صناعة المصوّرين الذين هم " أشد الناس عذابا يوم القيامة " [ صحيح البخاري].و حين توصّف بلاغة الأهالي في الحواضر إستحالة حدوث أمر ما، فهم يحيلونه لمقام الصورة السينمائية و يبذلون العبارة " تلقاه في الشاشة الغشـّاشة " .

يخلق من الشبه أربعين

و " صورة" المهدي ليست وثيقة فتوغرافية بل هي رسم محفور مجهول الأصل [ حتى إشعار آخر]،أنجزه حفـّار بريطاني من مطلع القرن العشرين، منه تم استنساخ عشرات النسخ بواسطة رسامين سودانيين ذوي مهارات متفاوته، جلهم من رسامي "مكتب النشر" أو " قسم الوسائل" بوزارة التربية و التعليم.و ذلك ضمن السعي الرسمي لتوفير الوسائل البصرية الضرورية لمنهج تدريس تاريخ السودان.و على هامش مستنسخات وزارة التربية و التعليم تجدر الإشارة إلى عشرات البورتريهات التي تمثل المهدي و التي أنجزت بالقلم الرصاص على يد الرسام [ الأنصاري] العصامي " جحا" في فترة الستينات.و التي استنسخت بدورها، سواء عن طريق الفتوغرافيا "المُرتـّشة" أو عن طريق الشف و التطريس على يد بعض القائمين على نشر كتيبات " الراتب" المهدوي التي كانت توزع بين جماهير الأنصار في أنحاء السودان. و من جملة الصور المنسوبة للمهدي، مما هو متداول بين السودانيين اليوم، يمكن القول أن هناك عشرات النماذج المختلفة التي تمثل وجوها لا وجه شبه بينها بخلاف زاوية رسم الوجه على ثلاثة أرباعه [ و هي زاوية ذات حظوة ضمن تقليد رسم الوجوه الأوروبي كونها تمكّن من رسم الوجه بطريقة تجمع بين الجانبي،" البروفيل"، و الإستقبالي "، فرونتال"، في آن.]. صحيح أن الرسم يمثل في كل حالة وجها معمّما ملتحيا على استطالة و استقامة في الأنف، و لكن طريقة وضع العمامة تختلف من صورة لأخرى، مثلما تختلف طريقة تهيئة اللحية في علاقتها بالوجه.و وجه المهدي يبدو مشلخا في بعض المستنسخات بينما تختفي الشلوخ في بعضها الآخر.و رسم الأنف و العينين لا يستقر على هيئة واحدة، ففي اغلب الرسومات السابقة على رسم "جحا"، تم رسم الانف عاليا مستقيما على طريقة الأنوف المتوسطية بينما تبدو العينان ، على هيئة العيون الأوروبية المستديرة المحاجر برموش مؤكدة بائنة. و يبدو رسم ـ أو رسومات ـ " جحا" أدخل في طريقة تمثيل الملامح الإفريقية . فالوجه أقل استطالة و اكثر امتلاءا و الأنف يفقد حدته لصالح فطسة زنجية و تبدو العينان على انتفاخ يسير في الجفون. هذه العيئة العامة تكسب للمهدي نوعا من قرابة شكلية مع صور وجوه أعلام آل المهدي كالسيد عبد الرحمن و السيد الصديق إلخ.

متى؟ و كيف؟ و لماذا؟
الإنتشار الشعبي لصورة المهدي تأكد وسط أهل الحواضر السودانية مع بداية الخمسينات ، حين شرع آل المهدي في استثمار الميراث العائلي ضمن اللعبة السياسية لمؤسسة " المهدية الجديدة [ نيومهدية]، و ذلك لتحقيق استقطاب سياسي يتجاوز أبعاد العشيرة و الطائفة نحو أفق قومي سودانوي.و حين نستخدم عبارة "الميراث العائلي" فنحن لانعني شيئا بخلاف الصورة. ذلك ان محمد أحمد " الفقير" لم يورث آله شيئا من متاع الدنيا الفانية ، لكنه أورثهم صورة لا تقدّر بثمن! صورة الرجل/الرمز الذي لمّ شمل الناس على مشروع العدالة الإجتماعية و جعل من أشتاتهم " أمّة " مجاهدة ضد الظلم الإستعماري. و الإنتشار الشعبي لصورة المهدي كان يستهدف سكان المدن من " أولاد المدارس" الفالتين من طائلة " الإشارة" و القريبين من مرمى الصورة، بحكم كونهم تربوا على منطق أيقوني حديث يجعلهم أكثر حساسية لخطاب الصورة. ذلك ان الصورة ، ضمن ثقافة المجتمع المديني الحديث في السودان ،إنما تنطرح باعتبارها جزءا من ترسانة وسائل الإتصال الجماهيري الحديثة [ ماس ميديا] التي يتعلمها أهل الحواضر ضمن انخراطهم الحتمي في مشروع الحداثة.
و أغلب الظن ان قادة الـ " نيو مهدية " قد انتبهوا لمرامي الصورة ـ صورتهم هم، قبل أن ينتبهوا لصورة محمد أحمد المهدي ـ و ذلك بعد ان استشعروا المنفعة الإعلامية ذات العواقب السياسية [ و الإقتصادية] البيّنة وسط أهل الحواضر السودانية ، و بالذات في الفترة التي احتدم فيها الخلاف بينهم و منافسيهم الختمية على مسألة السلطة السياسية في السودان، عقب انفضاض حكم العهد الثنائي.ذلك أن صور زعماء الحركة " النيومهدية" [ و صور منافسيهم من زعماء الحركة الختمية ] كانت قد استقرّت كموضوع للتداول الشعبي الواسع منذ نهاية العشرينات.في تلك الفترة أنتج مصنع " الشبراويشي" المصري " نوعين من العطور، وضع على زجاجة أحدهما صورة السيد علي الميرغني، و على الآخر صورة السيد عبد الرحمن المهدي، و جاء عطر " كرومة" [ بصورته] ثالثا لهما.. و ذلك بعد استئذانهم جميعا " [ حسن نجيلة، ملامح من المجتمع السوداني،2 ص 156.دار الخرطوم للطباعة و النشر، 1994]. و بعدها ظهرت على قنينات الشبراويشي صورة " بنت السودان "، نوعا من " آليغوري" الامّة الشابة الماثلة على هيئة الـ " بين آب" « Pin up girl » سودانية ، " بت بلد" مكحّلة و مشلّحة و ممشـّطة و .. فكأنها خرجت من " حقيبة الفن" أو من تصاوير علي عثمان!
ثم تعددت المستنسخات الفتوغرافية للزعماء السياسيين لغاية نهاية الخمسينات.و كان أهل الحواضر، ضمن الفرز الإجتماعي الجديد، كانوا يعلقون صور زعماء الأحزاب و الطوائف و الشيوخ في بيوتهم و في المحال التجارية و مواقع العمل و المقاهي و الحافلات العامة كنوع من إعلان الإنتماء لهذا الفريق أو لذاك.و في السوق ، عند أهل " التشاشات" و باعة البراويز كنت ترى صور " السيدين" و أولادهما مطبوعة على ورق التقاويم أو مبروزة جنبا إلى جنب مع صور " البُراق النبوي" أو المستنسخات من الرسومات الشعبية التي كانت منتشرة في بلدان الشرق و التي تمثـّل" الإمام علي " يحيط به الحسن و الحسين و أمامهم أسد رابض.و إلى جانب ذلك كنت ترى صورة " محمد نجيب" و " جمال عبد الناصر "أو نجوم كرة القدم [ صديق منزول و برعي]، و نجوم الغناء المديني [ أحمد المصطفى و ابراهيم عوض ]. كل ذلك معروض جنبا إلى جنب مع مستنسخات الخط العربي من حكم و آيات قرآنية. في نفس الفترة كنت تجد عند باعة الآنية نوع الأطباق و الأكواب و السلطانيات و السكريات المصنوعة من الصيني ، تزينها صور" السادة" و المشاهير.كانت تلك الصور المبذولة على قارعة الطريق تمثل نوعا من الغذاء الأيقوني اليومي لأهل الحواضر الذين انخرطوا في منطق الثقافة الأيقونية للمجتمع الرأسمالي الحديث.مجتمع الاعلام الجماهيري[ ماس ميديا]، و هو مجتمع للصورة الأيقونية فيه نصيب الأسد في صياغة الوجدان الجمعي.

في منافع الصورة

كانت الأيقونة الفتوغرافية "المُرَتـّشة" للسيد علي الميرغني،تلك التي عهدناها في زجاجات العطر و التقاويم و الصحف و المستنسخات الشعبية، كانت تندمج غالبا في خلفية مفبركة بطريقة الـ " فوتومونتاج" تمثل مشهدا عاما لـ " مكة المكرمة " أو " المدينة المنوّرة".و كانت المنفعة السياسية المرجوّة من تلك التصاوير هي تسويغ الشرعية السياسية الدينية بقرينة الأصل العائلي النبوي للسيد علي الميرغني.و في المقابل تمثل أيقونة خصمه السياسي و الطائفي، السيد عبد الرحمن المهدي، كتسويغ آخر للشرعية السياسية الدينية بقرينة القرابة العائلية مع صورة الأب الذي بسط أبوته الرمزية على تاريخ الأمة السودانية بحالها!..
الوثائق الفتوغرافية التي تتعلق بشخصيات الفترة المهدية نادرة ، إن لم تكن منعدمة تماما.و هي في الغالب وثائق لا تتيح لمن يتأملها إمكانية تكوين صورة وثائقية واضحة لملامح الشخص ، أو الاشخاص الماثلين فيها.فالصورة المنسوبة للخليفة عبد الله التعايشي ـ إذا صحّت نسبتها للخليفة ـ لا تمنحنا فكرة واضحة عن ملامح الخليفة عبد الله كشخص . لكن ضعف القيمة الوثائقية لصورة الخليفة كشخص لا يعني أن هذه الصورة لا تحمل أي مضمون وثائقي على الإطلاق.ذلك لأن منفعة هذه الصورة إنما تقوم في مقام الرمز.كونها تنفع في تمثيل صورة الخليفة كرمز أو كأيقونة للبطل التراجيدي النبيل الذي قاد حربا خاسرة ضد آلة الإستعمار الغاشمة و رقد مجندلا على أرض المواجهة تنمحي ملامحه بين الدم و الغبار.
هذا يعني أن النظر في الصورة ـ مطلق صورة ـ مهما كانت نوعيتها إنما يعطينا بالضرورة موضوعا للنظر عليه نبني و نوجّه إدراكنا لمضمونها. و في التحليل النهائي غير الأخير، فالصورة المادية تمثل ، من جهة أولى، كذريعة ضرورية مقبولة تسوّغ لنا إسقاط افكارنا المسبّقة و تمريرها للآخرين في يسر يتعذّر بدون مسند الصورة. و من الجهة الثانية فغياب الصورة المادية يملك أن ينمسخ صورة نافعة في تخليق و تبرير الصورة الكامنة في الخاطر. و في النهاية ليس هناك أي مهرب من حضور الصورة إلا في الصورة. و هذا الإشتباه المريع في طبيعة الصورة يقيم في اصل شقاق التصاوير الازلي بين صورة الحقيقة و حقيقة الصورة، و هو شقاق ظل يهجس ديانات التوحيد في تعبيراتها اليهودية و النصرانية و الإسلامية.

ألبوم العائلة
و في " ألبوم" العائلة الأوروبية يحتوي باب صور أبطال الميثولوجيا الشرقية على " كليشيهات " الأنبياء و الفلاسفة الوافدين من الشرق :[ من آدم لنوح لكونفيشيوس لغاية موسى و عيسى و محمد..] مثلما يحتوي على كليشيهات الغزاة و المحاربين و المغامرين [من شاكلة "جلجامش" و "سميراميس "و "هانيبعل" و "جنكيزخان" و "صلاح الدين" إلخ.]. و حرص الأوروبيين على توفير و صيانة الصور الأيقونية لأعلام التاريخ الإنساني ينطوي على أكثر من دلالة في صدد علاقتهم بصورة التاريخ ضمن المشهد الأوروبي. ذلك أن ضرورة الصورة الأيقونية لفهم التاريخ حفزت القوم ، أكثر من مرة ، على إختراع صور مزيفة و تصديقها بغاية تسويغ بعض الشخصيات أو بعض الأحداث التاريخية التي بقيت بلا صورة أيقونية.
ففي عصر النهضة الأوروبية ، الذي استعر فيه السعي المنهجي لإستعادة صورة المجد الإغريقي و الروماني من مخلفات الآثار و أطلال الماضي، افتتح النهضويون بابا جديدا في علم الصورة، هو باب " دراسة الميداليات و العملات " [ علم" النوميات" أو الـ " نوميسمات"] Numismatics الذي نال حظوة بينة في دراسات آثار العصر الإنطيقي ، و لاحقا في دراسة تقليد البورتريه الأوروبي.و ذلك على زعم يعتبر العملات و الميداليات حوافظا أمينة لصور الرجال العظام في ذاكرة التاريخ. و قد شهدت الفترة التي اعقبت عصر النهضة رواجا كبيرا لأدب الصورة الأيقونية القائم على أمشاج من علم التحليل النفسي الشعبي و أساليب الفراسة التصويرية، بالذات حين استشعر الامراء و الملوك و البابوات و ذوو السلطات فرص الرواج الأعلامي عبر تقنيات الإستنساخ الجديدة التي تمخضت عنها التجربة التقنية لعصر النهضة[ في فن الحفر و الطباعة على الورق] في القرن الخامس عشر. بل أن الصورة المستنسخة للشخص أو للواقعة المعينة ، كانت تملك، ضمن بعض الملابسات ، أن تصبح قرينة دامغة على مصداقية المزاعم التاريخية للشخص الماثل فيها أو للواقعة التاريخية المتعلقة بها.و يعتبر كتاب " الموجز في ميداليات الأعلام، منذ بدء الخليقة، مع مختصرات حيواتهم و مآثرهم، حسب روايات رصناء المؤلفين " [ كذا!] لمؤلفه " غيّوم رويّي" الذي نشر في مدينة " ليون" الفرنسية عام 1553، يعتبر من أفضل نماذج التقليد الأوروبي في اختلاق صورة التاريخ البائد من وحي مصالح و أوهام و نزوات ثقافة راهنة تسعى لتوطيد سلطتها من خلال تسويغ و إعلاء صورتها. و الكتاب بختوي ـ كما يقول عنوانه ـ على صور الأعلام من " آدم " لغاية " آخر العنقود"، الملك " هنري الثاني" الذي صدر الكتاب في عهده [ 1547ـ 1559].و بين البداية و النهاية تجد صور فنانين مثل " رافائيل" و " مايكل أنجيلو" ، أو صور الفلاسفة من شاكلة " ديوجين" ، أو الأنبياء كـ " نوح" و " عيسى " و " محمد".و يورد المؤرخ البريطاني، " فرانسيس هاسكل" في كتاب شيق[ المؤرّخ و الصور ، غاليمار 1995] [1]
أن كتاب رويي صار مرجعا و نموذجا يحتذى في هذا الصنف من تآليف التاريخ، فخرجت على أثره كتب كثيرة عمّت الحواضر الأوروبية و مدّت أهلها بصور للماضي تنسجم مع متطلبات حاضرهم.
هذا التقديم ينقلنا للتساؤل التالي :
مع متطلبات أي حاضر تنسجم صورة الماضي المهدوي التي بين أيدينا اليوم؟

صورة الشرق و الغرب

إن صورة محمد أحمد المهدي المتداولة بين السودانيين اليوم ليست بحال وثيقة فتوغرافية تمثل شخص المهدي. فالرجل لم يقابل أي مصوّر فتوغرافي في حياته القصيرة الحافلة[1844ـ1885].و الرسم المحفور الذي يمثل وجها منسوبا للمهدي تم انجازه في بريطانيا العظمى ضمن ملابسات الحملة الدعائية الإستعمارية التي استهدفت استعادة السودان لحظيرة الإمبراطورية. طبعا الحفـّار البريطاني الذي انجز صورة المهدي [ و صور غردون باشا] لم ير المهدي في حياته و لم تطأ قدمه تراب السودان.و المصدر الأيقوني الذي ألهمه ملامح وجه المهدي ، صدر في الغالب من تلافيف النموذج الجسمي لصورة الزعيم الشرقي كما صاغها أدب و فن تقليد الإستشراق الأوروبي الرومانسي بين القرنين الثامن عشر و التاسع عشر.و هي فترة تأكد فيها للأوروبيين وجود عالم " آخر" و "دنيا جديدة" حقيقية ، عامرة بوعود الثروة المادية و الهلاك الروحي في آن.ففي عام 1798، حين كان " نابليون" يواجه المماليك في مصر و في سوريا [ لقطع طريق الهند على البريطانيين]، كان اليقين المطلق في مركزية الأنا الأوروبية قد تضعضع منذ أجيال.و ذلك سواء بفعل التهديد المباشر من الشرق القريب المتمثل في الأتراك العثمانيين الذين حاصروا " فينـّا" في 1683، و أحيوا في الذاكرة الأوروبية النصرانية ذكريات المواجهة الصليبية، أو بفعل تطوّر الوعي الذاتي لمفكري " التنوير" الأوروبيين الذين استفادوا من مقوّلة " الآخر" في نقد الهوية الأنانية الأوروبية.[ 2]. و مع نهاية القرن التاسع عشر كانت صورة الشرق في خاطر الأوروبيين قد استقرت في شكل كيان مركّب بصيغة الجمع. و ذلك بفضل تعدد و تباين المصادر التي كوّنت صورة الشرق في الوجدان الأوروبي. فهناك شرق الحضارات العريقة البائدة من الشرق الأقصى لمصر الفرعونية، و هو يتمفصل غالبا مع شرق الديانات الكبيرة ضمن خارطة زمانية/مكانية تمتد من " كونفوشيوس" لموسى و عيسى و محمد.ثم هناك شرق التجارة و المصالح المتناحرة للأمم الرأسمالية الناهضة في أوروبا و امتداداتها الإستعمارية. و لا تكتمل اللوحة بغير شرق التقليد الإكزوتي الأدبي و الفني الذي اختلقه أدباء و فنانو الحركة الرومانسية بالتضامن مع المستشرقين و المشتغلين بالدراسات الإثنولوجية و المبشرين و الإداريين الإستعماريين و تجّار السياحة..إلخ.
و من عواقب حركة الإستشراق على صعيد الثقافة الأيقونية أنها أورثت الأوروبيين جملة من الإتفاقات الأيقونية الدالة على موضوعات الشرق، و التي تثبّتت بطول الإستخدام الجمعي، ضمن تصانيف تشكيلية و علامات لغوية بصرية لا تخطئها العين.و هذه الإتفاقات الأيقونية تنبني على مجموعة من الإحالات لهيئة المكان الطبيعي أو المعماري أو لهيئة الملامح الجسدية أو أساليب اللباس أوأنواع المتاع المادي من آنية و أثاث، أو منتجات الثقافة غير المادية كطرائق الوسم و أساليب الكتابة و الحركة الجسدية و مناهج العمل الإنتاجي [ "تقنيات الجسد" مارسيل موس] إلخ. كل هذه الإتفاقات الأيقونية التي تحيل نظر الناظرين ناحية الآخر الشرقي، يتم اختيارها و تبنيها ،داخل الجماعة الأوروبية المعنية، ضمن اسباب ذاتية متراكبة مع حسابات المصالح المادية و الرمزية لمجتمع الأوروبيين. و هي اسباب لا يبالي الاوربيون فيها بكون " الآخر" يقبلها أم لا.فالمجتمع الأوروبي يعقلن خياراته من صميم أناه البدائية و حسب رؤيته الطبقية للعلاقة مع الآخرين.
ضمن هذا المنطق اختار البريطانيون صورة للمهدي من واقع رؤيتهم الخاصة، و بما يتماشى مع حاجة اللحظة التاريخية للمجتمع البريطاني الرأسمالي الذي درج على تسويغ لا أخلاقية الإستعمار بالزعم النصراني لمهمة التمدين و محاربة الرق و أيقاف زحف المتعصبين و إحلال قيم العدالة و التقدم و التنوير إلخ.لا سيّما و أن الرجل الذي وضعته الآلة الإستعمارية في مواجهة المهدي كان ـ حسب الصورة التي رسمتها له صحافة البروباغندا الإستعمارية البريطانية ـ كان بطلا شعبيا يتمتع بهالة حامي الحضارة النصرانية على تخوم البربرية، في العالم غير الأوروبي.[ في آسيا و في أفريقيا]. فالجنرال غردون الذي أوفدته الآلة الإستعمارية لإنقاذ السودان، وصل السودان تتبعه اسطورته العسكرية كـ " غردون الصين" [3]
و كانت المؤسسة الإستعمارية تتوقع منه انقاذ مصالح الإستعماريين في السودان بمثل ما فعل في الصين.
و ما كان للصورة الرائجة للجنرال غردون باشا، في بزته العسكرية الملبكة بالنياشين و الانواط البريطانية و العثمانية، ما كان لها ان تفعل فعلها في الجمهور البريطاني الفيكتوري ، إن لم تقابلها صورة في وزنها. صورة خصم رهيب مهيب يكسب الخصومة روعة المواجهة الحضارية بين الغرب و الشرق، و قيل: بين الحضارة و البربرية.و هكذا كان لا بد للإستعماريين الفيكتوريين من صورة لخصم غردون فاخترعوا للمهدي صورة من لا شيئ!
هل قلت "من لاشيئ"!؟
لا، لقد قلّبوا صفحات " ألبوم العائلة" العائلة الأوروبية و تأنـّوا عند الحرب الصليبية التي تمثل الإتفاق الجمعي الأوروبي الأكثر شعبية في ترسانة إتفاقات المواجهة الأسطورية بين الغرب النصراني و الشرق المسلم . و اختاروا من بين أيقوناتها صورة القائد الشرقي المحارب المحنك و المتدين المخلّص ،و القادر، على تعصبه العقائدي ،على تقدير جلال الخصومة، و محاورة خصمه العظيم في ما وراء ضجة المتقارعين و عجعجتهم. كان لا بد من أيقونة " صلاح الدين الأيوبي" لتمثيل صورة المهدي السوداني.و من غير " صلاح الدين" لتمكين " غردون الصين" من انتحال أيقونة " ريتشارد قلب الأسد"؟!
و هكذا يجد الرسام البريطاني ، المطالب باختراع صورة للمهدي في نهاية القرن التاسع عشر ، يجد نفسه محكوما بجملة من الخيارات الأيقونية الصادرة من الملابسات السياسية للحظة التاريخية و من توقعات مجتمع فيكتوري متلهّف لهذا النوع من الغذاء الأيقوني.
و رسامنا البريطاني ليس نسيج وحده، فقد عرف أورثنا القرن التاسع عشر حركة جمالية بحالها من الرسامين المستشرقين الذين امتهنوا تحقيق صورة للشرق من نسيج اوهام الغربيين. و قد وجدوا ضالتهم بالذات في تصاوير الزعماء الشرقيين التاريخيين الذين لم تطالهم يد الفتوغرافيا و لا ريشة رسامي الوجوه الأكاديميين. و قد انعكس تشابه المصادر الايقونية المتوفرة لدى الرسامين المستشرقين على نتائج عملهم في شكل نوع من القرابة العائلية بين ملامح أغلب الأيقونات الشرقية. فصورة المهدي السوداني البريطانية ، و التي تشبه صورة صلاح الدين أو صور السلاطين الاتراك في لوحات حركة الإستشراق ، لا تخلو من شبه عائلي يقربها من صور المقاومين المغاربة للإستعمار الفرنسي في اللوحات الفرنسية المصدر [4]. و القاسم المشترك بين هذه الشخصيات الشرقية يتمثل في كونها جسدت المقاومة الشرقية الروحية و المادية لهيمنة قوى رأس المال النصراني أبان الغزوة الإستعمارية لبلدان الشرق. و بصفتهم المشتركة هذه فهؤلاء الرجال ينمسخون من حال الأشخاص ذوي الفرادات لحال الرموز. و الرمز كعلامة يستغني عن تفاصيل الخصوصية الذاتية و يستبدلها بالعمومية الممنهجة بسبيل رفع كفاءة القابلية على الفرز كما في منطق كتابة "الهيروغلوفية" أو الرموز التصويرية[ حتى اجد ترجمة افضل لـ "أيديوغرام"] Idéogramme
و يمكن القول، من جهة أولى ، بأن الجمهور البريطاني لم يكن ينتظر من رسامه صورة وثائقية للمهدي بل كان ينتظر منه رمزا.و من جهة أخرى ، جهة وطنية، يمكن القول ان أغلب سدنة المهدية الجديدة" النيومهدية" ، و وراءهم قطاع واسع من جمهور الحواضر العربسلامية في سودان ما بعد الإستقلال، لم يكن يحتاج صورة وثائقية تمثل المهدي، و إنما كان يحتاج رمزا قوميا يتـّفق عليه الجميع في داخل البلاد [ و في خارجها ايضا]، نوع من رمز يعمل كنواة لمشروع هوية وطنية جامعة في مواجهة العالم. و هو رمز متعدد المنافع في نفس الوقت. فسدنة الـ " نيو مهدية" المتواطئون مع قوى الإستعمار الجديد ينتفعون به في عملية الإستقطاب السياسي القومي لصالح مشروعهم السياسي العائلي.و أنصار النزعة " السودانوية" من ابناء الحواضر العربسلامية ينتفعون به في تسويغ الفكرة القومية السودانوية على محوري العروبة و الإسلام [ السوداني !] . أما منافع أهل الخارج من أيقونة المهدي فكثيرة و متباينة بتباين مصالحهم .فالأعلام الأوروأمريكي كثيرا ما يورد صورة المهدي السوداني ضمن الحملات الإعلامية التي تستهدف تهيئة الرأي العام لتقبل هذا المشروع السياسي أو تلك الخطة الدولية التي تمس التحولات في المجتمع الإسلامي المعاصر. و في حملات البروباغندا التي تصور المسلمين كدراويش مهووسين مارقين للجهاد ومستعدين للإستشهاد بسبيل الدفاع عن العقيدة.و صور ة المهدي السوداني و موجز سيرته يردان غالبا ضمن التقديم التاريخي للمقالات و الدراسات التحليلية التي تزعم تفسير ظاهرة العنف في الإسلام السياسي. و ذلك ضمن خلط متعمّد تمتزج فيه صورة المهدي السوداني بدعاة اسلاميين من أقاليم اسلامية بعيدة كمهدي المغرب و مهدي الصومال [1899] الذي حارب الإطاليين و الإنجليز أو مهدوي غرب افريقيا لغاية آية الله الخميني نفسه. و وسط الخلط والإلتباس العام [5] لا أحد يقاوم إغراء أستخدام صورة المهدي السوداني، بمناسبة و بدون مناسبة، كنوع من نموذج أولي " بروتوتيب" يفترض أنه أورث العالم المعاصر إرهابيين من عيار بن لادن .

عوارض المشاهدة
المشكلة مع منطق التصاوير تتلخص في ان تصاوير الخاطر تتمتع بسطوة كبيرة على الصورة الوثائقية للواقع. بل أن صورة الخاطر تملك ، في لحظة من إختلال البصر، أن تنفي صورة الواقع و تستبدلها بواقع الصورة الذهنية المعرضة لتأثيرات إختلال ذاكرة البصر .
و إذا كان اختلال البصر البريطاني قد ألهم المستعمرين أن يستخرجوا للمهدي صورة من ذاكرة الحرب الصليبية ، فإن أفندية الـ "نيو مهدية" في سودان السودنة ما قبلوا صورة المهدي، الوافدة من الذاكرة الصليبية للبريطانيين ، إلا ضمن اختلال بصرهم الناتج من جرّاء إنخراطهم التاريخي في ذاكرة المستعمرين البريطانيين. و هو انخراط رمزي ضروري لإستكمال آخر حلقات الإنخراط المادي في بنى الحداثة الكولونيالية. و اليوم لو تسنى لرسام سوداني معاصر قدر واف من شهادات العيان في خصوص ملامح المهدي الحقيقية، فإن الصورة التي سيرسمها، مهما بلغت درجة أمانتها الوثائقية سيكون مصيرها الإهمال، و قيل الإستنكار، من طرف أفندية الـ "نيومهدية". لماذا؟ لأنها لا تطابق الصورة البريطانية "الرسمية" للمهدي ، و هي الصورة التي ألفوها واستبطنوها في خواطرهم و أيدوها ما وسعهم.
روى صديق رسام أن أحد معارفه حمل إليه صورة فتوغرافية صغيرة بالأبيض و الاسود ملصقة على جواز سفر والده، و طلب منه رسم صورة أكبر و أكثر وضوحا تمثل الوالد حتى يعلقها في صالونه.قال الرسام أنه عندما أكمل الصورة و عرضها على صديقه، لاحظ على وجه الصديق شيئا من الإمتعاض أعقبه اعتراض ودّي فحواه أن الصورة و إن كانت رائعة إلا أن الشخص الماثل فيها لا يشبه والده.و شعر الرسام أن صديقه اخذ الصورة من غير إقتناع. قال الرسام أنه قابل صديقه بعد عامين و سأله إن كان ما يزال يحتفظ بالصورة؟ فأجاب الرجل بالإيجاب و أضاف: عجيب امر هذه الصورة! لقد علقتها في البداية في الصالون من باب المجاملة كونها لم تكن تشبه الوالد. لكن اليوم كلما نظرت إلى والدي وجدته يزداد شبها بالشخص الماثل في الصورة !
و بعد، ماذا نحن فاعلون بهذه الصورة المزيفة التي تلتبس بحقيقة هذا الشخص الماثل في مقام "أب" التاريخ السوداني الحديث؟ فلو حفظناها ـ على ارتيابنا المشروع بحقيقتها ـ فهي ستفسد علينا صورة "الأب " ، و لو لفظناها أوقعنا ذلك في حرج الفراغ الذي يغري الصور الأخرى باحتلال محل الصورة الغائبة. كافة الصور الأخرى التي لا نعرفها و التي قد تخرج علينا من ذاكرة الأدب الديني أو من ذاكرة المسرح السياسي السودانوي أو من ذاكرة السينما السياسية الأمريكية أو حتى من ذاكرة التعصّب العرقي المحلي بسبيل تلبية الإحتياج الأيقوني لشعب لم يعد يطيق غياب التصاوير بين متاعه المديني ، فكأنها ـ على حد العبارة الكردفانية البليغة ـ مثل الجمل الذي مات في زرع السمسم :" كان جرّيته يكسّر السمسم و كان خلّيته يعفـّنه "!
لقد عاش اسلافنا ظاهرة " سر الحرف" ، في التقليد اليهودي النصراني و الإسلامي ، ضمن علم للكلام يملك الكلم فيه أن يصير جسدا. و يبدو أننا نكابد اليوم " سر الصورة " على مشارف حضارة أيقونية يلتبس فيها واقع الصورة بصورة الواقع بما يثلم من كفاءة وعينا على الإمساك بتلابيب واقعنا.وإذا كانت علوم التصاوير المعاصرة "السيمياء لوجيا ؟"
تعقلن إشكالية شقاق التصاوير على رصيد خبرة الذاكرة المعرفية الأوروبية ، فإن لقيّات المباحث الأوروبية في هذا المجال ستبقى قاصرة عن الإحاطة بأوجه الإشكالية الأدخل في ذاكرات أخريات يغذين فكر قوم فلتوا من تأثير التقليد الأوروبي. على أن الخصوصية المفترضة لمباحث التصاوير على محاور التقاليد غير الأوروبية ستبقى بلا معنى ما لم تتمفصل مع مجمل المباحث الموازية[ الأوروبية المنطلق و غير الأوروبية] ، على منهج يموضع الإنسان المعاصر ضمن أفق الشراكة العادلة في منافع الصورة و في عواقبها.
دوميسارق 31ـ3ـ1997

ــــــــــــــــــــــــــ
[1]
Francis Haskell, l’Historien et les images.Gallimard,1995
[2] أنظر " الرسائل الفارسية" للفيلسوف الفرنسي " مونتيسكيو" " كيف يمكن أن يكون المرء فارسيا؟!" 1721]
[3] انظر الرابط
https://en.wikipedia.org/wiki/Charles_Ge ... rdon#China

[4] أنظر تصاوير يوجين دولاكروا في المغرب في الرابط
https://art.mygalerie.com/lesmaitres/del ... roix7.html

وفي هذا الرابط

[5] وقعت على صورة جديدة/قديمة للمهدي [ في العدد 22، شتاء 1996ـ97] من مجلة "قنطرة" التي يحررها باسم " معهد العالم العربي" بباريس ، ثلة من المثقفين العرب و المستعربين.و على غلاف العدد إعلان عن ملف خاص بالسودان و ذلك على شرف المعرض التاريخي و الآثاري الكبير عن السودان الذي يقيمه المعهد مع مجموعة من التظاهرات الثقافية عن السودان.و في صدر مقالة للباحث الفرنسي " هيرفي بلوشو" تبدو واحدة من تلك الصور المرسومة يمثل فيها الوجه الأيقوني المعهود للمهدي مشلّخا و على يمينها التعليق الآتي: " الصورة الوحيدة التي تمثل المهدي". و عند الركن الأيمن بأحرف صغيرة نقرأ وسم حقوق النشر المحفوظة لـ " كريستيان دلمي" .و إذا قلبت الصفحة فسترى صورة فتوغرافية تمثل النصب التذكاري لـ "غردون باشا" على جمل و في التعليق على يمين الصورة يمكنك أن تقرأ " نصب تذكاري لغردون باشا في الخرطوم". هذه الصورة من محفوظات وكالة " ماغنوم" و أما النصب التذكاري فقد غادر الخرطوم لبريطانيا مع الإستقلال. ترى ما مصلحة معهد العالم العربي في تقديم صورة السودان بهذا الاسلوب؟
The struggle over geography is complex and interesting because it is not only about soldiers and cannons but also about ideas, about forms, about images and imaginings
ادوارد سعيد "الثقافة والامبريالية 2004"
Awad Mohamed Ahmed
مشاركات: 106
اشترك في: الاثنين نوفمبر 19, 2007 9:48 pm

مشاركة بواسطة Awad Mohamed Ahmed »

لسه مفتول
الفاضل الهاشمي
مشاركات: 2281
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:14 pm

مشاركة بواسطة الفاضل الهاشمي »

تقول شنو ياعوض مازلت الصفحة مشوبحة !!!

قول يانجاة تفزعنا

:)

الفاضل
The struggle over geography is complex and interesting because it is not only about soldiers and cannons but also about ideas, about forms, about images and imaginings
ادوارد سعيد "الثقافة والامبريالية 2004"
صورة العضو الرمزية
تاج السر الملك
مشاركات: 823
اشترك في: السبت أغسطس 12, 2006 10:12 pm
مكان: Alexandria , VA, USA
اتصال:

مشاركة بواسطة تاج السر الملك »

صورةنادرة،(أصل)، للسيد عبد الرحمن المهدي، وصلتني بواسطة أحد أفراد الأسرة لأعمال الريستوريشن،
استنسختها بتصوير مباشر متعجل بغرض إضافتها إلى حوار الأصل و الصورة
و المحفورات و مراجعها، الصورة من تصوير (جارو)، استديو في مدينة الأسكندرية بمصر، حسب ما علمت.


صورة
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

صورة الزمن

مشاركة بواسطة حسن موسى »

سلام يا تاج السر
بدينا نتعود على البوست المفتول العضلات !
لكن صورة" السيد" رائعة بما تحمل من آثار الزمن و لو كنت محل قريبك لحافظت عليها بجراحها و بندوبها التي تحكي سيرة الزمن السوداني.
سأعود بتصاوير جديدة حال استعدال الفتلة.
صورة العضو الرمزية
تاج السر الملك
مشاركات: 823
اشترك في: السبت أغسطس 12, 2006 10:12 pm
مكان: Alexandria , VA, USA
اتصال:

مشاركة بواسطة تاج السر الملك »

سلام يا حسن
الصورة دي مقايضة بواحدة مظبطة ( الطقة بالطقة)، وقد تم الأتفاق،وحصل التسليم و التسلم، وأصبحت هذه الصورة من حر مالي
لو فلست ببيعا للاسمثسونيان (تقرأ اسمثونيان)، و الحاضر يكلم الغائب
الفتلة دي زي باب زويلة، يا ريت الأستاذة نجاة ترجع الإنفتال، ليتضح المقال.
وقد قيل في الأثر، فاتل البوست كنافخ الكير أو قاطع الأثر.
تحياتي و شكري على المقال (شكري الشخصي)
لما حوى من إضاءات لازمة شافية كافية
سأفتش عن اللوحة الشهيرة لشيخ المورز، و التي تعتبر أول لوحة أروبية
تقدم الإنسان الإفريقي، في هيئة ملوكية يستحقها، لاالكومبارسية
التي لاحقته في كل تاريخ الفن العالمي (عتالي لكرسي قيصر و كليوباترا)
أم في قصور العباسيين و الأمويين وما شاكل، الرق و الإسترقاق
مكبل بالسلاسل.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

صور المهدي

مشاركة بواسطة حسن موسى »

صورة
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

صور المهدي اا

مشاركة بواسطة حسن موسى »

صورة
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

صور المهدي3

مشاركة بواسطة حسن موسى »

صورة
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

على اثر مهدي "جحا"

مشاركة بواسطة حسن موسى »

صورة
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مجهول

مشاركة بواسطة حسن موسى »

صورة
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

صورة كتاب "الراتب"

مشاركة بواسطة حسن موسى »

صورة
أضف رد جديد