نـضـــَّــر اللهُ وجه ذاك السـاقي، إنـّه:

Forum Démocratique
- Democratic Forum
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

أقساط أدبية رصينة تأتي متحينة المناسبات فتعلن عن ميلادها.. لا شيء يقال في معية الأشعار فهي فوق مقامات الرأي كأن الكائن يتلمظ فاكهة شهية.. تحيات يا أبو "جودة"
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

[align=justify]

أهلاً ومرحبا بالأخ محمد جمال الدين،

سعيدٌ عامَكم القادم، وإنني بتعليقكم إذن، لــَــسعيدُ ..

وتلك سعادةٌ سريعاً ما أخذتني في حمدٍ لذكرى جمال ودين، وجمال الدين "الماطالباني" و جمال الدين "ابن هشام النحوي" و جمال عبدالناصر، و عامر جمال الدين وجماليِّين كُثر، تواردوا على الخاطر عنباً وقَضبا، وزيتوناً ونخلا وفاكهة وأبّا؛ حتى لكدتُّ من شعور لسكون الخاطر على هدأة، أن أترنّم بقول أبي الطيب "جمالُ الدين واللغة" المتنبي:


تـَـملـّك الحمدَ حتى ما لـِمُفتَـخر ,,, في الحمدِ حاءٌ ولا ميمٌ ولا " DAL u"


مع وافر المُنى
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

------
مقالٌ لي، نشرتُه في صحيفتي التي أعمل فيها محرراً ...( الرأي العام) ..خلال ديسمبر 2013، وكذلك نشرتُه أيّاميها في "ســودانايل الغـَــرّاء، ولم أبخل به على سودانيزأون لاين" بيد أنّي أشعر بضرورة نشره هاهنا، لا سيما وقد عدّلتُ فيه بعض العبارات التماساً لتوضيح المفهوم ربما!..

فـــ ـــإليكموه:
(لا ضَرّكم كثيرا؛ ومن الضُّرِّ نَفعُ!)

-------
[align=justify][font=Verdana]
مِنْ طَرِفٍ قريب ..

جدلُ التغيير بين عَسكَر ومَـلَـكيـّة .. دخول المرحوم خير وخروج المحامي طه

التغيير السياسي الذي جرى بإحلالٍ وإحلاج، لعددٍ من القيادات السياسية في دَستِ الحُكم وصحن الوزارة؛ ما تزال تفاسيره قبل عقابيله تعتلج في صدور الكثيرين. تارةً يكتنفه الفتور لحالة كونه غير تام، باردٍ، لم يُدَقُّ فيه للحريّة بابٌ ولا للعدالة نافذة. كأنّما هو تغيير "دَخَل القَش ما قال كَش"، وذلك برغم ما سبقه من تحضيرات وإعلانات وبهرجات. وفي أخرى يتلبّسه الغموض، باعتباره قد جاء، أشبه ما يكون لقولة الفاروق "رض" يوم السَّقيفة، وما أدراك ما يوم سقيفةِ بني ساعدة : "فـَلتَةً وقّى اللهُ شَــرّها". وبينما يبدو التغيير كأمرٍ مدروس، ومعمولٍ له متعوبٍ لأجله؛ إلاّ أنّ أرجح التحليلات التي تمحض النُّصح، تصفُ التغيير بأنه قد جاء ضَربةُ لازبٍ! متأخراً بعض الشيء، أو فات عليه الأوان. أشبه ما يكون بعودة الابن الضّال، بل أكثر قُرباه تمِتُّ بِصِلةٍ بارزة إلى "حِيلة ودّ الرَّيِّس"؛ وود الرَّيِّس، واحد من أبطال أديبنا العالمي الطيب الصالح، في موسمه للهجرة إلى الشمال؛ وقد زعموا أنّه بزواجِه من شابّة تصغره بما يزيد عن خمسين عام، وهو المزواج طيلة عُمره الذي مضى، كأنما كان يرشو بزيجته مَلَكَ الموت كي يؤجّله. وهو الثمانيني يعتِبُ نحو قبرِه بإصرار، كطريق اتجاه واحد، وليس من رجوع.

إن كانت "فولة" التغيير الكُبرى، تمثّلت في خروج النائب الأول، الأخ علي عثمان محمد طه "المحامي". ففي تغيير سياسي سودانيٍّ سابق، فُجـِــعَ الشعب السوداني بفولةٍ أشدّ مراسا. تمثّلتْ في دخول المرحوم/ أحمد خير "المحامي" لدستّ الحُكم الانقلابي الأوّل (17نوفمبر1958). وزيراً للخارجية، وهو المدنيُّ، الرائدُ في فكرة مؤتمر الخرِّيجين، ثلاثينات القرن العشرين بمدينة ود مدني. تلك الفكرة التي نتجتْ من بذرة الجمعية الأدبية بودمدني السُّنِّي، فتلقّفها الساسة السودانيون الشباب، والأمدرمانيّون من بعد، ليُنشئوا علي رَسِــَنها مؤتمر الخرِّيجين العام. بِستِّينيّة مركزيّته، ولجنته التنفيذية، بـ"فيـليـِّيه " و " شـوقيِّيه" ومذكِّرتِه الشهيرة العام 1942 للسكرتير الإداري. بمطالبٍ للأمّة السودانية؛ لا تقلّ كثيراً عن مطالبٍ تضمنّها مقالٌ، للضابط الوطني المرحوم علي عبداللطيف، رئيس جمعية اللواء الأبيض، كان قد سعى لنشرِه في جريدة "الحضارة"، بحر سنوات العشرينات من القرن الماضي، فعاقبه المُستعمِرون بسنة سجن، ولم يُنشَر المقال حتى.

صالَ مؤتمر الخرِّيجين العام، وأسدى للوطن عديداً من النضالات والأعمال ولكن، تمدّدتْ عليه رعاية الطّائفية، فأضحى المؤتمرون يُغرِقون حاضرَ تلك الأيام ومستقبلَ البلاد، رَهناً بالسَّيـِّدَين، ومصالح بيتَيهما مع المُحتَلـَّـين حينها للسودان، بريطانيا ومصر. وهُما السيِّدان عبدالرحمن المهدي، و علي الميرغني، وقد التصق بأوّلهما شعار السودان للسودانيين، وكان شعاراً يُسعِد الإنجليز، بينما رفع الثاني شعار " الاتحاد مع مصر" فأفرح المصريين. ثم تحزّب للثاني: حزب الاتحاديين، وللأول، حزب الأمة. ولمّا احتدّ التنافس السياسي بين البيتَين، تخاصما سياسياً لبُرهةٍ من الوقت، ثم التقيا؛ وكان التقاؤهما شـَرَّا أُريد بمَنْ في السودان، وضدّ مطامح أهله في الحرية والعدالة والمساواة، على رأي السياسي السوداني الأريب، الأديب ورئيس الوزراء الأسبق، وأول وزير خارجية، ورافع عَلَم الاستقلال، باعتباره زعيم المعارضة في أول برلمان سوداني، مع رئيس الوزراء الأزهري، فوق سارية القصر الجمهوري (نفس القَصْر) في الأول من يناير1956: محمد أحمد المحجوب؛ وِفقَ ما جاء بكتابه "الديمقراطية في الميزان".

مرحى بالتغيير الآن وغداً، وكيف ما جاء، يزيلُ البَلَم الحاصل أو حتى يزيد الطِّين بِلـَّة. كذلك مَـرحى بالإصلاح الآن، بشرط أن يجيئ وسيماً، لا يتردّد، لا يُمالئ، لا يُداهِن؛ والأهم، ألاّ يسعى لجمع أشتات الفشل القديم في قيادته. من أهل الكورة وأرباب القِباب، وميسور الصِّحاب من فَلّ الوزارات، الفارغة إلا من عويل، ولا أهل المنافرة والتصايح بقتل الإنسان لأخيه الإنسان، بكلِّ الصّهيل؛ وقد قيل: تقطيع أوصالِه زيادةً في البَّيعة. معلوم بأنه قد جاء في الأثر: أنّ هذا الأمر لا يصلُح إلآ بما صلُحَ به أوّله، قوّة في غير عسفٍ، ولِينْ في غير ضَعفٍ. وواضح أنّ الأمر المَعني، ليسه بالشَّبيه لما بدأ بجُمعة الثلاثين من يونيو، ولا ذاك اليوم الشّهير، الذي شَهِدَ استشهاداً منابريّاً للدكتور الترابي، مُحْتَفياً بقوانين النميري الإسلامية: "إنّ الله تعالى، يُقيِّض لهذه الأمة رجلاً يُحيي موات الدين كل مئة عامٍ مَرّة" أو كما جاءت الخُطبة البلقاء للدكتور والمُستشار الرئاسي، القانوني الدستوري الإسلامي الديمقراطي الشُّوَري الشعبي، والسياسي، الذي لايثبُت على سرجِه ما تغيَّرت لفّات الأحصنة ..! بل يوغل في التحوّل ذاهباً مع الرِّيح أنّى اتّجهت مساراتها.

لقد حدث التغيير، أو بالأحرى، لقد بدأ التغيير السياسي الذي سيأتي ما بعده، لا محالة. فماذا يكون وراؤه يا تُرى؟ أيكون استقراراً سياسياً، وتعديلاً للموازين، المجالس، الهيئات، البرلمانات، الولايات، المحلِّيّات واللِّجان الشعبيات إلخ,,,؟ أيمكن أن تبدأ مسيرة الإصلاح بذات العَقليّات الجمعية الخاصّة، توسَم بأنها قيادية على طول الدّوام..! ولا نتاج لتلك القيادات المزعومة إلاّ الرّكام...؟ بل قيل ربما تؤثم، كونها كَدَّرَتْ المشرَب، وصعّبتْ الحَركة، وغلّتْ المأكل قبل الأيدي، ثم عسّرت التواصل الإنساني بالداخل والخارج. أم أنّ التغيير الحقيقي ما يزال يرمحُ في رَحِم الغيوب؟ ليس من وراءٍ له، ولا قُـدّام، إلاّ عزائمُ الشعارات البرّاقة، وزعومات الحلول التَّوّاقة رغائبياً، وفوقهما، كَدحُ الأيدي التي اخشوشنت بالغلاءِ والنُّدرة. في مملكة الجدب والاقتتال المُنهال بلا انتهاء.
لقد كان تشبيب الوزارة، هو التقليد الإصلاحي (الآيديولوجي يكاد)، الذي قام عليه التغيير الجاري. اندلق على أثره مدادٌ كثير بالصحف، وثرثرات كُثر على الميديا. كما لم يخلُ التشبيب من "نواحٍ" على أطلالِ بعض الوزارات البكّايات. تطاولت الاجتماعات القيادية لتأسيس شبابية الوزارات، ثم تتالت ذات القيادية مُتسرمِدة. في اجتماعات مطوّلة بعد التشبيب، وبين هذا وذاك، زاد الوحيح على ما مضى من توزير، وأشرقت وجوه بتسنُّم أهل الودّ، ورؤوس الميَّات الجُدد، والمقّدَّمَين في عشائرهم. للوزارات والمناصب الشبابية الجديدة. هكذا إذن يكون التغيير، ولا جُناح عليه، في كونه ربما يزيد الحيرة؛ فإنّما بالتغيير غير الغرير تتلاشى الحَيْرات رويداً رويدا. هل نقول ما أشبه الليلة بالبارحة..؟ ذلك أنّ جِدالنا السياسي تتكرّر تاريخيّاته التغييرية بشكلٍ مـُريب. ليس على رأس "كُلّ مئة" عامٍ فحسب، وإنّما أحياناً عند كل عشر سنين (عاشهم الوّدّ السّلطاني). إذن فها هو ذات المشهد يتكرّر؛ ونحنُ، على بُعدِ يومَيْن، نستقبل ذكرى إعلان استقلال وطننا السودان، من الاحتلال الثنائي الانجليزي المصري، ومن داخل البرلمان "القديم" ، في عيدِه السنوي الثامن والخمسين. فهل تشابه علينا البَطَر السياسي؟
لا مناص إذن من استجاشة، تُبرِّر احتفاءاً بالجدل السياسي الجائل بالتغيير واجب وطني (هتف الشعبُ من معداتِه!)؛ حتى وإن كان وقفاً على الشبابية الموضَّبة بالتوازنات. إذ يكفي تغييرنا الحالي شَرَفاً تاريخيّاً مؤثّلاً..! أنه يسير على ذات النهج الشبابي المطلوب، ومن قديم الزمان؛ ها هنا إذن، رَويٌّ عَذب يُثني على تقليد الشباب، مهام الوطن، لشاعر مؤتمر الخرِّيجين العام، المرحوم علي نور، في قصيدِه:

هذي يدي لسماء المجدِ أرفعها ,,, رمزٌ يشيرُ إلى المُستقبلِ الحَسَنِ..
دُقَّوا البشائر للدُّنيا بأجمعها ,,, وللعروبة من شامٍ إلى اليمن ..

في قصيدةٍ حماسية طويلة، يختتمها بالبَيتَيْن التاليين:

مَرحى لنا بأمانينا مـُحقـَّـقةٍ ,,, ومرحباً بالشِّباب العامِلِ الفَطِنِ ..
ما خابَ، أو ضَـلَّ أسبابَ الهُدى بلدٌ ,, ألقى وأسلَــم للشُّبّانِ بالرَّسَنِ ...

على الشباب الوزاري، إذن، التّمسُّك جيّداً بالشَّفرة، يقطعون بها المَهام الجِسام، وعلى الشيب الذي في سبيله للمُضيِّ للمزابل المُنتَظَرة، الانتباه لمصير "ودّ الرَّيِّس" حِذار أن يقع عليه ..! وقد نُسِب لإمام العادلين علي بن أبي طالب "رض" قوله: ما طار طيرٌ وارتفَعْ .. إلاّ كما طارَ وَقـَعْ.






-----
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »

العزيز محمد أبوجودة
تحية مترفة المحبة

لكم نحن سُعداء بالجلوس إلى كتابك ، فمداده ليس له ما يشبه ، ولا الحروف ولا الكلمات ولا الجُمل تشبه الذين عرفنا وشهدنا كتابتهم . فوق هذا وذاك حواف اللغة وحواشيها ، الوشي والرونق والجزالة . تلك منزلة في الصفاء لا يصلها المرء إلا بعد صمتٍ وخلوة ومِران . قرأت ما كتبته في ماضيك ، وعلى اتساق ينمو حاضرك ، بخلاف أحوالنا التي كان فيها الماضي أكثر جمالاً قبل مجيء " الهمج " ونشر أحماضهم القاتلة لمن يتجرعها .

أراك قد تجولت في حاضر " الهمج " ، والرّجة التي هزت جزع نخلهم الذي لا يلد إلا الحصى يحصُب بعضه بعضاً . لنلتمس قراءة في وثائقهم كتبناها قبل زمان ليس بالبعيد :

من وثائقهم {1}

ربما كتب كثيرون عن سِفر قيادي الحركة الإسلامية " المحبوب عبد السلام " المسمى ( الحركة الإسلامية السودانية - دائرة الضوء وخيوط الظلام - تأملات في العشرية الأولى لعهد الإنقاذ – طبعة 2009 م) . ولكننا اليوم نقف عند بعض ما أشار إليه السِفر من جرائم نظام " الجماعة " ، التي وردت وعليها غبار كثيف وتمويه لا يسهل القبض على تفاصيله ، رغم أن المعلومة متيسرة للجميع الآن بسعة ورحابة الرصد في السجلات المدونة، ولكن لكتابتها في وثائقهم طعم آخر. وما الخلاف الذي أظهر ما يسمى " خلاف العرّاب وتلامذته " إلى العلن ، والمحاولة المستميتة لكشف أسوأ قصص الجرائم المتعددة والمتنوعة في البلاد التي لحقت بتاريخ " الجماعة " منقسمة ومنفصلة ، فاعلة أو بعيدة عن الفعل المباشر ، صامتة أو متكلمة ، من الذين كانوا أعضاء في مجلس شورى الجماعة ، تنفيذيين أو مخططين ، مشاركين لقصة الجرائم المركبة للجماعة في حق الشعب السوداني وأفراده ،من التعذيب والتصفية الجسدية ، والطرد من الخدمة بلا جريرة وإحراق القرى والقتل الجماعي، ملوثة بكم هائل من الجرائم السياسية ، وجرائم متنوعة فيما يسمى بإعادة تشكيل الشعوب السودانية وفق رؤى " الجماعة ". وشملت العديد من القضايا التي يصعب تفصيلها في المال والعقار والتعليم والصحة والقوات المسلحة والشرطة والخدمة المدنية والقطاع الخاص والرأسمالية الوطنية وما يسمى بالخدمة الإلزامية وانفراط الأمن الموكل لحماية المواطنين والمواطنات في بيوتهم وفي الطرقات العامة ونهب المال العام والفساد الذي صار يحيا طبيعياً في البيئة كأنه الثلج والبرد ، يغسل أصحاب الخطايا .
فصلوا الجنوب بوضع المتفجرات في بطن لُحمة الوطن وفرقوا أبناءه وبناته ، فصار الطريق مفتوحاً للطامحين ليكوّنوا دولة جديدة جاءت على طبق من ذهب ، وسعي" الجماعة " الحثيث لتقسيم وهدم الدولة السودانية في خاتمة المطاف ، وهو الإنجاز الحقيقي للجماعة التي لا تؤمن في تاريخها بدولة المواطنة .
لسنا بصدد تلخيص السِفر الذي اجتهد فيه صاحبه ، ومن ورائه " عراب الجماعة " بلغته المميزة وبصمات أصابعه التي هي بادية الملامح والقسمات، تكاد تضبط نصوص اللغة وتنثر بُهار السِحر حين حاولت النصوص أخفاء مسئولية الشيخ الكبير " عراب الجماعة " كأن لا علم له ، مع أنه العالم بكل صغيرة وكبيرة عندما كان سيداً في مقره بشارع البلدية في الخرطوم . ومن جملة أهداف السِفر الخروج الآمن للفصيل الذي تم طرده من سدة الحكم عام 1999م ، وحاولوا بأيديهم وأظافرهم أن يقنعونا بأنهم صاروا معارضين لنظام "الجماعة" ، ويستحقون صك البراءة من جرائمه ، بالنسيان والتقادم ، أو بكتابة مثل هذا السِفر الذي أشرنا إليه ، ومجموعة هائلة من المقالات الرصينة التي يحاول أصحابها كشف بعض أسوأ القصص في تاريخ السياسة السودانية ودركها الأسفل بقيادة " الجماعة "، وبأقلامهم وهم يحاولون جهدهم للخروج الآمن من المحاسبة اللاحقة التي سوف تطاردهم إن كانوا ساعتها أحياء . فالدماء الحارة والضحايا والظلم المبين والفواجع الأسرية ، لن تغسله مقالات الذين يفرون من تاريخهم ، بالمشاركة أو بالصمت على الجرائم والتغريد خارج السرب .

{2}

لماذا الكذب الممنهج ؟
(كلنا يعرف الإسلام الذي يدَّعونه وهو يحذر من الكذب مُطلقاً، ويعدّه من خصال الكفر أو النفاق .. ففي القرآن نقرأ : { إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون } .
منذ أول يوم تحدث كبيرهم ، أن قوات البلاد المسلحة قد تحركت للإنقلاب عام 1989 م ، ولم تكن هناك إلا " جماعتهم " ، منها بعض العسكريين وبعض من المدنيين . استلموا السلطة بالمكر الكذوب وملكوا الدولة حوزةً لأبنائهم ولبنات التنظيم . ورغم الكذبة الكبرى وهدم الدستور والديمقراطية وسيادة الشمولية ، والتعذيب والقتل اللاحق ،فهم يقولون إنهم ربانيون ،متدِّينون وما جاءوا إلا ليقيموا الدِّين في الناس طريقاً ونهجاً ومسلكاً !؟
ونقطف من البيان الأول للانقلاب :
(..وقد تحركت قواتكم المسلحة اليوم لإنقاذ بلادنا العزيزة من أيدي الخونة والمفسدين ما طمعاً في مكاسب السلطة بل تلبية لنداء الواجب والوطن بايقاف التدهور المدمر ولصون الوحدة الوطنية من الفتنة السياسية وتأمين الوطن من انهيار كيانه وتمزق أرضه ...)

{3}

ونقطف من دستورهم الذي مهروه بخاتمهم عام 2005 م مفاتيح التقييم :
الحياة والكرامة الإنسانية
28ـ لكل إنسان حق أصيل في الحياة والكرامة والسلامة الشخصية, ويحمي القانون هذا الحق، ولا يجوز حرمان أي إنسان من الحياة تعسفاً.
الحُرمة من التعذيب
33ـ لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب أو معاملته على نحوٍ قاسٍ أو لا إنساني أو مُهين.
(3) يكون لأي شخص, تُتخذ ضده إجراءات مدنية أو جنائية, الحق في سماع عادل وعلني أمام محكمة عادية مختصة وفقاً للإجراءات التي يحددها القانون.
قسم رئيس الجمهورية
56ـ يؤدي رئيس الجمهورية المنتخب, لتولي منصبه, اليمين التالية أمام الهيئة التشريعية القومية:ـ
(أنا ................... أقسم بالله العظيم بوصفي رئيساً لجمهورية السودان أن أكون مخلصاً وصادقاً في ولائي لجمهورية السودان، وأن أؤدي واجباتي ومسئولياتي بجد وأمانة وبطريقة شورية لترقية ورفاهية وتقدم الأمة، وأن التزم بالدستور وأحميه وأحافظ عليه وأن أراعي قوانين جمهورية السودان وأن أدافع عن سيادة البلاد، وأن أعمل لوحدتها وأوطد دعائم نظام الحكم الديمقراطي اللامركزي، وأن أصون كرامة شعب السودان وعزته، والله على ما أقول شهيد).

{4}

أسرار يعرفها معظم الناس وبعضها مدوّن في دفاترهم عليها غيم وضباب مع الحيطة اللازمة :
ورد في كتاب أحد قيادات الحركة الإسلامية " المحبوب عبد السلام " ( الحركة الإسلامية السودانية – دائرة الضوء – خيوط الظلام – تأملات في العشرية الأولى لعهد الإنقاذ ) مجموعة من محاقن الجريمة مدونة بإتقان نورد بعض قطف منها:
(أ‌) ص 96
(كان تفويض مجلس شورى الحركة الإسلامية قد انتهى إلى الأمين العام ، الذي اختار ستة من كبار قادة الحركة وأعلامها المعروفين بسابقتهم وكسبهم القيادي المتصل ، مثَّل "سبعتهم "القيادة الشرعية ذات التفويض لاتخاذ القرار السياسي الذي ينقذ البلاد ويُمكّن للحركة الإسلامية . وبموجب ذلك التفويض ، الذي استصحب شورى الأجهزة الرسمية والشورى غير الرسمية التي تولاها الأمين العام كقرار الانقلاب لاستلام السُلطة .)
حاشية :
(أدى القسم ستة من قادة الصف الأول للحركة الإسلامية أمام الأمين العام بكتمان سر التغيير وأداء أماناتهم ورعاية عهد الحركة الإسلامية مهما اشتد عليهم في الابتلاء ، وهم : علي عثمان محمد طه ، علي الحاج محمد ، ياسين عمر الإمام ،عوض أحمد الجاز ، عبد الله حسن أحمد ، إبراهيم محمد السنوسي .)
(ب‌) ص 99
(اختار المكتب القائد رئيس الثورة ، ورتَّب حضوره ، واختار مجلس الثورة الذي زاوج فيه بين العناصر الملتزمة والعناصر القريبة للإلتزام بنهج الإسلام وأخلاقه ، وراعى أن يمثل أجيال ضباط القوات المسلحة ، وأن يمثّل كذلك السودان بأطرافه ووسطه ، جنوبه وشماله وغربه وشرقه ، ثم اتفق على الأفكار الأساسية للبيان الأول الذي أعده نائب الأمين العام ، ليطرق القضايا التي درج على إثارتها القادمون من العساكر الوطنيين في سنن الانقلابات المتوالية في العالم العربي وأفريقيا .)
(ت) ص 107
(في صباح 30 يونيو (حزيران) 1989م ، بدأ السودان عهداً جديداً بإذاعة البيان الأول لثورة الإنقاذ الوطني وأخذت الحركة الإسلامية شكلاً جديداً . بضع مئات من الضباط الملتزمين يعملون من وراء الانقلاب ، والمئات الأخرى من عضوية الحركة الإسلامية الملتزمين أدوا أداورهم العسكرية والمدنية في عملية إستلام السلطة وانسحبوا إلى الظل يواصلون عملهم في تأمين الثورة ، بينما بقيت مئات أخرى في سجلات الطوارئ إذا استدعى الأمر مدنياً أو عسكرياً ضمن المهن الحاسمة ، كالطب والهندسة أو القضاء والتدريس )
( انقسم مجلس قيادة الثورة إلى بضع لجان ، لجنة الأمن والعمليات العليا التي استترت في مباني المجلس الوطني ليلاً ، يرأسها نائب رئيس الثورة ويفرّغ لها أشد الأعضاء حماسةً ونشاطاً في أمر القوات المسلحة والأصغر سناً ، ثم اللجنة السياسية التي تجهر بنشاطها في ذات المبنى نهاراً ، يرأسها أكبر أعضاء المجلس رتبة وقدماً ورسوخاً في تنظيم الحركة الإسلامية فلجنة السلام والجنوب ولجنة الاقتصاد والخدمات ولجنة الإعلام .)
(لكن مهما تكن حركة الأعضاء الملتزمين أو عمل لجان مجلس قيادة الثورة ، فإن قلب الانقلاب الذي يفترض له سلطة نَظم العمل في وجوهه المتكاثرة وتوجيهها وضبطها وتنسيقها يكمن هنالك في مقر غير بعيد من وسط الخرطوم ، ولكنه محاط بأقصى إحراءات السرِّية والكتمان حيث يجلس نائب الأمين العام للحركة الإسلامية بعد أن ضمّ المعتقل الكوبري " سجن كوبر " الأمين العام وأكبر مسئول سابق عن العمل العسكري الخاص ، وسافر ثالث إلى خارج السودان ينتظر إشارة العودة ، وبقي إثنان في الظل يرقبان الأحداث ، وانحصرت إدارة الأمور الفعلية الموصولة بالوجوه الظاهرة لمهام الثورة في اثنين أثبت الزمان أنهما وجهان لعملة واحدة .)
(ث‌) ص 110
( فالمقر الذي أقام فيه نائب الأمين العام يغشاه ليلاً قادة أجهزة التأمين من الرسميين الجدد والشعبيين القدامى ، وتصدر عنه نهاراً القرارات الموصولة بقنوات مؤمّنة إلى الجهات الرسمية الملتزمة التي تتولى إصدارها الرسمي وإعلانها إن كانت تقتضي الإذاعة والإشهار.)
(ج‌) ص 111
(أحاط كذلك عمل أجهزة المعلومات والأمن بالجهاز التنفيذي الرسمي للدولة ، وتولى أعضاؤه الملتزمون حراسة أبواب الوزراء وأبواب كبار المسئولين كافة في الأجهزة المركزية والأجهزة الولائية ( الإقليمية آنذاك ) ، وأصبحت وظيفة ( مدير المكتب ) حِكراً لعناصر الأجهزة الخاصة بلا منازع ، فهم فضلاً عن طمأنة القيادة بأن كل شيء يجري أمام سمعها وبصرها ، يؤمنون قنوات الإتصال الفاعل السريع الذي يوافي شرط السرية والكتمان الذي كان مطلب المرحلة الأقصى ، لكنه اتصل في الزمان مُرسخاً أخلاق الدولة الأمنية المجافية لطبيعة الحركة الإسلامية السودانية المتحررة الشورية .)
( وإذ تولى مكتب الفئات المختص والذي ظل ضمن الأجهزة المستترة لاسيما شقه الأمني المعلوماتي الذي كان يستقصي أحوال العاملين في الأجهزة الرسمية بين يدي كل الانتخابات النقابية وانتخابات العمل والمهن منذ أول الحركة ، ثم انتظم واتصل بكفاءة وفعالية مع مراحل التخطيط الاستراتيجي بعد المصالحة الوطنية ، بدأ في عهد الثورة مرحلة جديدة أشد حساسية وخطراً عن مجرد الفوز بكسب المقاعد في نقابة أو اتحاد ، إلى المساس بجوهرعملية تأمين الثورة الإسلامية ، فوجدت عناصر الفئات ذات النزع الأمني والمعلوماتي في قوائم الصالح العام سانحة لحسم تاريخ طويل من الصراع المهني والنقابي )
(ح‌) ص 112
(ورغم أن نائب الأمين العام من مقره الحصين ، طفق يوضح في اجتماعاته حول تقارير الخدمة المدنية حرص الحركة الإسلامية أن تعمل من خلال أجهزة الدولة القائمة ، وليس خلق أجهزة موازية ، أو تعطيل صلاحيات العناصر غير الملتزمة ، فإن واقع الأمر قد مضى في محاولة إعادة تركيب دولة السودان بما يوافي أهداف الحركة الإسلامية ، وبما يجافي أصول فلسفة تنظيم الحركة نفسها أن تذوب في المجتمع ، فحاولت الحركة أن تمد ذراعيها لتحيط بجدار الدولة .)
(خ‌) ص 119
(فتولى شأن الأمن في الإنقاذ أولاً أحد قادة الجهاز قبل الإنقلاب ، وقد أصبح عضواً بمجلس قيادة الثورة ، ثم استبدلته ( بؤرة القيادة الخفية ) سريعاً بضابط إسلامي كبير من ذات دفعة رئيس الثورة ، ثم عين أستاذ جامعي من قلب أجهزة الحركة الإسلامية نائباً له ، لتبدأ قصة الحركة الإسلامية مع جهاز الأمن .)
الحاشية :
(تولى مسئولية الأمن لأول الثورة العميد إبراهيم نايل إيدام ، ليخلفه الفريق محمد السنوسي ، ثم عُين دكتور نافع علي نافع نائباً له .)
(د‌) ص 287
( ورغم أن الكثيرين جلبوا أبناءهم طائعين فرحين ، يبغون بناء لشخصياتهم بين يدي مرحلة تحول فاصلة في تاريخ الشاب نحو الجامعة ، ثم المهرجانات السياسية التي انتظمت كل الساحات لدى التخريج ، فقد أعقب كل ذلك حشد المتخرجين بالقوة إلى مطار الخرطوم ، ثم إلى جبهات القتال في مناطق العمليات ، مُخادعة لم تصدمهم في المقصد الذي سيؤخذون إليه ، فشهدت شوارع العاصمة أرتالاً من اليافعين مُطاردين ، وقد هربوا من الطائرات التي اُعدت لتحملهم كرهاً إلى الحرب ، قبل تَبَلّغ السمعة السيئة لتجربة الخدمة الوطنية كل انحاء السودان ، ليحيط المكر السيء بأهله في مأساة معسكر ( العليفون ) بين يدي عيد الفطر المبارك في مذبحة أخرى جددت ثانية ذكرى الدم المهراق في الأعياد من قِبَل قادة ثورة الإنقاذ الوطني .لكن المُخادعة أفضت إلى سمعة سيئة لجهاز الخدمة الوطنية وأسدت ضربةَ ثانية لقطاع الطلاب في الحركة الإسلامية ، كما لم تثمر نصراً في الحرب إذ لم يقاتل اليُفَّع المقهورون بما يصدّ غوائل الهجوم المجتمِع ، الذي أخذ يتبلور من كل الحدود ، كما أضيرت ذات سمعة المشروع الحضاري ، إذ لم يعقب الحادثة السؤال والتحقيق والعقاب بل رُعت الأقلام وجفّت الصحُف .)
حاشية :
(في 21/4/1998 م غرق في النيل نحو (70) طالباً من بين (1162) حُشدوا في معسكر السليت بمنطقة العليفون وهم يحاولون الهرب بالمراكب على الضفة الشرقية للنيل ، بعد أن تأكد لديهم مخادعة الأخذ بالقوة لمناطق العمليات . وفيما صرَّح "عبد الرحيم محمد حسين "وزير الداخلية لصحيفة الشرق الأوسط من القاهرة " يبدو أن سبب الهروب هو كرههم للقتال وخوفهم منه فضلاً عن أنهم أُجبروا على دخول المعسكر " )
(ذ‌) ص 121
(زاول التعذيب في بيوت الأشباح عناصر من الاستخبارات العسكرية ، شاركتهم عناصر من أبناء الحركة الإسلامية وعضويتها ، وجرت بعض مشاهده أمام عيون الكبار من العسكريين الملتزمين وقادة أجهزة الحركة الخاصة . واستنكرته كذلك فئة من أبناء الحركة ، واعترضت بالصوت العالي عليه داخل أجهزة الحركة ، ولكنها لم ترفع صوتها للخارج بالاعتراف أو الاعتذار في تلك الحقبة للذين وقع عليهم الظلم العظيم ، من كبار قادة المعارضة وصغارهم .)
(وإلى تلك العقيدة التي ما لبثت أن استشرت روحاً سائدة في أروقة الأجهزة الأمنية ، يمكن أن تُفهم الجرأة البالغة لاتخاذ بعض قراراتها والحماس الشديد لإعدام كبار الأطباء الذين شرعوا في محاولة للإضراب ، أو تورطوا فيها ، أو ما وقع بالفعل من إعدام لبعض المتاجرين في النقد الأجنبي بمن فيهم الذي أخطر المحكمة الميدانية الإيجازية المستعجلة أنه يحفظ المال ورثاً لا تصرفاً وبيعاً ، وفيهم كذلك أبناء لرموز في الديانة المسيحية كانت الثورة تحتاج أن تحفظ معهم عهداً ووداً ينفعها في عمرها الوليد وفي المستقبل ومما حرصت الحركة الإسلامية في سالف تجربتها أن تحسن رعايته . وإلى تلك الجماعة وتلك الروح تُعزى المجزرة المتعجلة التي ارتكبتها قيادة الثورة وقيادة الحركة ممثلة في نائب الأمين العام في (28) من ضباط القوات المسلحة – رحمهم الله – وأضعاف العدد من ضباط الصف ، بعد محاولة انقلابية فاشلة حاول المسؤولون عن تأمين الثورة أن يبرروا استيلاء الانقلابيين فيها على مواقع بالغة الخطر ، بأنها تركتهم يعملون أمام بصرها حتى يتورطوا بالكامل ويُقبض عليهم مُجرمين . وسوى مجافاة ذلك الزعم للقانون والأخلاق ، فإن مجافاته للحقيقة بدت غالبة ، إذ أن الأمور قد انفلتت بالفعل من أيديهم فجر التنفيذ ، وعوضاً عن إعمال آلية الدقة في المراقبة أعملت آلة العنف في الانتقام ، ما زعم أنه رسالة للقوات المسلحة لتكف عن الانقلابات لكنها لم تفعل وبقيت المسؤولية في عُنق الإنقاذ إلى اليوم ، أن تُخطر ذوي الشهداء كيف تمت المحاكمة ، وبأي قانون ، وأين دُفنوا وماذا تركوا من وصايا ومتعلقات شخصية .)

{5}

هذا بعض ما ورد في مستندات وثائقهم . لا يعدو أن يكون قمة جبل الجليد ، فلم تزل الأُسر تسأل عن أبنائها الذين افتقدتهم منذ الأيام الأولى لسلطة " الجماعة " وسلسلة من الجرائم طوال أكثر من عقدين من الزمان . هناك جرائم مركبة ومتقاطعة بالحرص والخوف من الانتقام ، مع العلم بأن الشعب السوداني طيب ولم تقتل الديمقراطية السودانية مجرماً ، ولكن الساكتين على تلك الجرائم شياطين خُرس ، كانوا يؤدون أدوارهم في قصة الشمولية وكانوا يعرفون تفاصيل التفاصيل .
ضد كل مؤسسات الخذلان ، بأئمتها و كتاتيبها ومدارسها وما اصطُلِح على تسميتهم هيئة العلماء وخلايا أمنها التي تقف دون نزع أسنان الشر . ضد هذه الصمدية المفرطة التي أباحوا بها لأنفسهم أن يُمسكوا دفة الحكم وهم الذين أتوا بليل وخرقوا الدستور . لم يختارهم أحد . وظفوا هم كل سبل (الاقتلاع من الجذور ) لتدمير الآخرين الذين يختلفون معهم وضد مشروعهم الذي يحكمون به وقد خربوا الأرض والموارد وشردوا البشر وقسّموا البلاد. اقتلعوا شجرات مؤسساتٍ راسخة من جذورها ، بدلاً من تطويرها . جردوا مؤسسات الدولة من الحيادية والنُظم وحولوها مُتعة لأربابهم وأبنائهم وبنات التنظيم وسدنتهم ومورداً لأموال السحت . استباحوا الأرض ووقّعوا المواثيق التي أفضت إلى المؤامرة الكبرى لتقسيم السودان إلى دويلات ، دون وعي منهم بالحروب المفتوحة في أرض الرعاة الذين حملوا عبء اقتصاد الدولة طوال قرنين من الزمان . كانت " الجماعة " أحرص الجميع على تلبية متطلبات الدولة العظمى الأولى في هذا العالم ، بتطبيق أحلام " الفوضى الخلاقة " في أرض الواقع . وقدمت لها خبرات التدمير بلا ثمن ، إلا أن يبقوا مستمتعين بأن يكون الوطن غنيمة وموارد أهله والأرض فيئاً يتوزعونه بينهم.
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }آل عمران26 . صدق الله العظيم .

6/4/2013
عبدالله الشقليني
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

[align=justify]

يا هلا ومرحبا عزيزي الشقليني

وسعيدٌ والله بإطلالتك، توثِّق لهؤلاء ال هؤلاء، ومن "وثائقهم تعرفونهم"


وكما لخّصتَ: ( جردوا مؤسسات الدولة من الحيادية والنُظم وحولوها مُتعة لأربابهم وأبنائهم وبنات التنظيم وسدنتهم ومورداً لأموال السحت . استباحوا الأرض ووقّعوا المواثيق التي أفضت إلى المؤامرة الكبرى لتقسيم السودان إلى دويلات ، دون وعي منهم بالحروب المفتوحة في أرض الرعاة الذين حملوا عبء اقتصاد الدولة طوال قرنين من الزمان . كانت " الجماعة " أحرص الجميع على تلبية متطلبات الدولة العظمى الأولى في هذا العالم ، بتطبيق أحلام " الفوضى الخلاقة " في أرض الواقع . وقدمت لها خبرات التدمير بلا ثمن ، إلا أن يبقوا مستمتعين بأن يكون الوطن غنيمة وموارد أهله والأرض فيئاً يتوزعونه بينهم.
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }آل عمران26 . صدق الله العظيم . )


فبالفعل، لقد جرّدوا وحوّلوا واستباحوا ووقّعوا بالتآمر و .. و.. ثم كانوا الأحرص على تلبية متطلبات الغادرين ال عارفين بمصالحهم التي تضر "أسياد الرايحة" ..


ما هو العزاء، إذن، في ما جرى ...؟ وبمعنىً أقرب: أين ال هؤلاء؟ بل أين نجوم ال هؤلاء، كأؤلئك الخمسة أو الستة..؟

لقد طوت بيداء "الوهم" مَنْ كانوا يحسبون أنهم الدُّرر! فأضحوا - في بُرهة الذين ظُلِمـــوا - كما البَــعَــر.




....
سؤالي، عزيزي بيكاسو، ألا تستشعر بعضَ مللٍ (كما أستشعِــرْ) من مكوثنا استرداداً وترداداً لِــ فِعال الظَّلَمَة فينا دونما ضييء أُفُق
يُحيل "مكرور" توصيفاتنا الحقيقة للخطل بأنه خطل! إلى أيّ Process يجيء منها ...؟


.....


مع وافر تقديري لحُسنِ تأتِّيك الهُمام










عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »


عزيزي محمد أبوجودة
تحية لك

مثلك مللت ، ولكن السبب عدم فرز الإسلاميين من غيرهم : أنصار السنة والمعتدلين والشعبي والمؤتمر الوطني والإخوان المسلمين والأنصار والختمية :
كلهم اصحاب الإسلام الذي يريد جمع السلطة والدنيا .
يجب نزع الجميع من المعارضة ، وبناء معارضة بدونهم جميعاً ، ولو تأخر الزمان .
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

لك التحايا
عزيزي الشــقليني،
كأنما تنظر من وراء بلور شفّاف! ما أسرع ما حان التمايز بين الصفوف! ولو بتوريد الخدود بالكفوف ...! تقول:
مثلك مللت، ولكن السبب عدم فرز الإسلاميين من غيرهم، أنصار السنة والمعتدلين والشعبي والمؤتمر الوطني والإخوان المسلمين والأنصار والختمية؛ كلهم أصحاب الإسلام الذي يريد جمع السلطة والدنيا . يجب نزع الجميع من المعارضة ، وبناء معارضة بدونهم جميعاً ، ولو تأخر الزمان .



وإليك مقالٍ لي في الاسبوع الأول من ديسمبر الماضي لعام 2013 إبّان "هوشة" التغيير.


الحكومة في كَبَد .. ومَخاض التغيير عسير ..!




[align=justify]تظلِّلنا هذه الأيام، إرهاصات التغيير الحكومي. الذي يطرق على الأبواب وبشدّة. فالاتفاق العمومي بضرورة إجراء التغيير، شاع وانماع " في الأربع قِبِلْ أغبر طويل الباع "، منذ انطواء تلك الصفحة الأليمة، من تظاهرات سبتمبر الأخير. احتجاجاً على تطبيق الإجراءات الاقتصادية. التي كانت في مقدّماتها ونتائجها، إجراءات قاسية على أغلب الناس. تمخّضتْ بدورها عن تفاقم أزمة الاقتصاد واقتصاد الأزمة. ثم تمحوَرت إلى أزمة وراء أزمة وبينهما ثالثة واقعة. على ذلك، فقد كانت الخسائر كبيرة في كِلا الجانِبَيْن؛ المحكوم فيهما والحاكم. ففي جانب المحكومين، تمدّد غول الغلاء في الشوارع المزدحمة بالفقر، وقَعَد بالبيوت المُغلَقة إلا على الشظف العفيف. اعتلتْ وجوه الناس القـتـَرات، وتأكّد الشعور العام، وقد تَبدّى بما يشبه ضياع الأحلام، بسوء ما تُنذِر به الأيّامُ القادمة من شرور.


على الجانب الحكومي، فالخسائر لم تنقص كثيراً؛ فقد انحطّتْ قيمة العُملة الوطنية مُقابل العُملات الأجنبية، تعسّر الإنتاج، وكسدتْ الأسواق، واضمحلّ الوجود الحكومي المُنظِّم لشؤون الإدارة وتفعيل طاقات الناس. فوق ذلك، فقد ارتفعتْ حِدّة الضغوط الخارجية على الحكومة، ازداد التكالب القُطبي على السودان بوتائر متسارعة. بجانب ذلك، فقد بدأ انفضاض سامر الحزب الكبير. الماسك بأعنّة الحُكم في استماتة لأكثر من عَقْدَيْن. تزلزل قوامه البنيوي، وأصبح أنصاره يتخارجون تحت دعاوى الإصلاح عبر المُذكِّرات، وأحياناً لدواعي السَّوْح على بيادر مُغايرة؛ ليفقد الحِزب الحاكم أرتالاً من مناصريه. للدرجة التي افتقرتْ فيها الحكومة إلى مَنْ يدعم رأيها الحِزبي، أو يُصدِّق تطميناتها الرسمية؛ ناهيك عن المثول لتوقّعاتِها أو الاستماع لمنطوقاتها المتكاثرة لبالبا. واقع الأمر، فقد انكمشتْ أعداد المُشفِقين على الحكومة، وجفّت أقلام المُناصرين لها؛ وذلك من بعد أن تحوّل أكثرُ تلك المنابر. إلى ترياق مُضاد لديمومة النظام كما هو عليه..! أو حتى بما سيكون عليه الحال في مُقبِل الأيام؛ زُهداً في الارتباط بحكومةٍ عصيّة على التغيير الحقيق. مع أنّ هاتيك المنابر الأعلام، كانت قد انتظمتْ في سِلكِ الحكومة منذ التأسيس، وصالتْ ثمّ جالتْ في فجرِها وضُحاها وعصرها. تزدهي بكونها تحمل شهادة المنشأ الخاصة بالحكومة، وأنها جاءت في ورقها وصناديقها، وقد قيل: دوام الحال من المُحال، يروح حال ويأتي حال.


يحدث كل هذا النزيف، البلاء الابتلاء، والحكومة ما تزال عامرة بالأعداد الكبيرة من الدستوريين، الوزراء ووزراء الدولة، المفوّضين، المديرين العامّين، والآخرين التنفيذيين، رؤساء الهيئات، والقطاعات والجماعات والبيوتات إلخ,,, كما أنها ذات الحكومة، تظلّ معمورة ومغمورة! بالعديدين من وُلاة ومُستشارين للولاة، مُعتَمَدين ومستشاري رئاسة مُعتَمَدين، وزراء ولائيِّين، وهلمّجرّا. وفي واقع الأمر، فهذا الجيش العرمرم، وجُلّه يزعم أنه من أرباب السيف والقلم والقرطاس والفَهَم، لم يزد حال البلد إلاّ خَبالا، ولم تكافئ كَثَرته ما رشّح من إقلال وإملال..! وهنا تظهر الحاجة للتغيير، وبأعجَل ما يتيسّر. بل تُلِحّ الضرورات أن يكون التغيير المُنجَز، وفقاً لشرائطه المعلومات. ومن ضمنها أن يتمّ تغيير النفوس أوّلاً، حتى يتغيّر ما بالقوم من إقلال وإملال.


إجراء التغيير، بلا شكٍّ، مُهِمّة شاقّة. خصوصاً في ظلّ اعتدادٍ بالنفوسِ عظيم. يتقوّل كثيرٌ من أفراده بــــــِـــــ "يا دُنيا ما فيكِ إلاّ أنا ". لا مناص إذن من إعمالٍ لبعض المعايير الترجيحية المُجرّبة، كشعار حكومة 17 نوفمـــــــــــــــــــــبر1958 (احكموا علينا بأعمالنا )؛ ولا يكون الحُكم إلا بالبراهين ووفقاً للأدلّة المادّية، ولله المَثَلُ الأعلى: " قُل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين". التغيير في حدِّ ذاتِه، أمرٌ مطلوب، ولا عَيْب فيه سوى أنه يُبدِل الطّالحين بآخرين صالحين. التغيير مطلوبٌ حتى في حالات الاستمرارية العادية؛ وبطبيعة الحال، فالتغيير يكون أكثر نُشداناً حينما تدلهمّ بالناس الخطوب، وتعمّهم الطوارئ وتعظُم البَلوى. تلك التي لا تُدفَع إلاّ بإنجاز التغيير، نزولاً على حُكم الوقت وسياق الرّاهن. بشرط أن يؤخَذ الناسُ بجرائرهم التي اقترفوها؛ وإلاّ بطُلُتْ آلاء القِصاص.


الشدّة والمشاق(الكَبَد) الذي تُعانيه الحكومة، من الممكن تلمّسه عبر مؤشرات جلية. فبقدرما سعت الحكومة لحلول القضايا الحيوية لمجتمعها، بقدرما اضطرُّت لتوظيف جيشٍ عرمرمٍ من الوزراء والمُستشارين والسفراء والمُديرين، وغيرهم أرتالاً من الموظّفين العامّين، حتى لتكاد خزينة الدولة تعجز عن دفع أجورهم وامتيازاتهم وحوافزهم، أو تقِف عليها فقط..! في نفس الآن، فقد بدا عجزُ الأداء واضحاً على كُلِّ المناحي. إذ ليس هناك من مُنجزات، لهذا الجيش العرمرم من الوزراء التنفيذيين. مع العلم أنّ بعضهم قد ظل قابعاً لفترة طويلة، دون أن يؤثر عن بقائه الطويل نجاح ملحوظ.




راهن اليوم السوداني، في حاجّة ماسّة للتغيير، وإلاّ فالواضح جداً، أنّ القادم سيكون أسوأ. ولعل في البُشريات التي تترى، تنثرها القيادات الحكومية العُليا بأنّ التغيير قاب قوسين أو أدنى، انعاشٌ لحيوات المواطنين. بأنّ الهَمَّ إلى رحيل، والغمُّ إلى انقشاع، القول مسموع والزّعل مرفوع؛ والحرص على التغيير حاسمٌ حازم مُتكامِل. يسعى بين الناسِ إصلاحاً للحال وتجويداً للأعمال؛ ولعل البداية الحقّة لمسيرة التغيير إلى الأفضل، تكونُ بترتيب الأولويات، فيتمّ اشتراع النُّظُم الإدارية الناجعة في طرد الفشل وتعديل التقصيرات في كل الجوانب التشريعية والتنفيذية. لأجل أن يتقوّى الحِراك الاجتماعي والاقتصادي والثقافي؛ وما إلى ذلك من مطموحات. لا مناص إذن، من الصحو الصّاحي، ومغادرة حالة النوم على القَذى، وقد قال بعضهم: لا تَنَمْ، واغتنم لذّة النومِ ... فإنّ تحت التّرابِ نوماً طويلا .. وقال آخر: (لا تَنَم بينما غيرك يتكلم، ولا تجلس وغيرك واقف، ولا تتكلم في موقف يستدعي الصمت)..

صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

[align=justify]




-------
ما بعد انتخابات أبريل 2010:
طريق التحوّل الديمقراطي مُغلق للصيانة..! **

(إنّ النعمةَ والقدرة إذا عدِمتا عقلاً سائساً وحزماً حارساً ودِيناً متيناً وطريقاً قويماً، أوردتا ولم تُصدِرا وخذلتا ولم تنصُرا، ونعوذ بالله من نعمةٍ تحور بلاء ومرحباً ببلاءٍ يورِثُ يقظة ويكون تمحيصاً لما نقَصَ من التقصير ولكن! مَنْ ذا الذي يشربُ فلا يثمل؟ ومن هذا الذي إذا سكِرَ عَقِل؟ ومَن ذا الذي إذا صحا لايعتقبُ من شرابِه خُماراً يصدِّع الرأس ويمكِّن الوسواس. من كتاب " الإمتاع والمؤانسة " لأبي حيّان التوحيدي).


ها قد انفضّ مولد الانتخابات السودانية العامة عن دُوار سياسي لا يُبشِّر بخيرٍ في تحوّل ديمقراطي موعود بعدما تكشـَّف عن واقعٍ بئيس باكتساح الشريكين الحاكمَين لمقاعد البرلمان كلٌ في ملعبه الخاص! وهذا اكتساحٌ لم يُسعِد متغلِّـباً ولم ينتزع اعترافاً من مغلوب وبالتالي لن يؤدِّي الى تحوّل ديمقراطي منشود. هذه حالٌ لم تورِث اليقظة المطلوبة عند أيِّ من الفِرَق المتنافسة فلم تجد غير أن تتكيء على حائط مبكى المكابرة كلٌ بما لديه محزون! والحال أنّ راهن السودان السياسي المأزوم بسوء الأحوال وتتالي المصائب المنهمر، لايتيح مجالاً لهذه المظاهر الزائفة بالفرح والشماتة عند المتغلِّبين فضلاً عن استنكافه استطالة ليالي العزاء والتجوال الهروبي لدى المغلوبين، والمغلوبون على أمرهم في سودان اليوم كُثر! تزيد أعدادهم ولا ينقصون.
***

لقد أجهد المؤتمر الوطني ،حزب الإنقاذ الحكومي القابض لما يزيد عن عشرين عاماً على مقاليد السلطة والثروة ودعوى قِسمتهما عدلاً بين آل السـودان، نفسـَه واقتصاد الدولة المنهوكة بسلسلة اجراءات تنظيمية وتعبوية في غير طائلٍ لأجل أن يفي بما التزم به كشريك غالب في إقامة انتخابات عامة تكون المعبر الحقيقي للتحول الديمقراطي وفق ما نصّت عليه اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا لعام 2005م ؛ وعلى نفس نهج الالتفاف الذي أدمنه حزب المؤتمر الوطني في إنفاذ مطلوبات الاتفاقية بما يرضي طموحه الفريد في الاستمساك بالسلطة مهما كلّف الأمر! فقد تمّ له ما أراد بعدما حشد للأمر من بين صفوفه الحكومية المتراصّة أفراداً يوصفون بأنهم أصلب العناصر لأصلب المواقف! وتحققّ لهم الفوز الكاسح بجميع الدوائر الانتخابية القومية والولائية في الشمال بما يقترب حثيثاً من مئة بالمئة باستثناء ما تمّ تجميده من دوائر، متوّجين ذلك باكتساح آخر في المناصب التنفيذية لرئاسة الجمهورية وولاة الولايات حيث لم يتركوا للآخرين شيئاً يذكر ولسان حالهم : الآخرون هم الجحيم! كذلك فعلت الحركة الشعبية لتحرير السودان بجنوب السودان حتى دون أن تجهد نفسها بسلسلة اجراءات تنظيمية أو تعبوية بعد أن اكتفت بنفوذ جيشها الشعبي وسماحة شريكها الشمالي الذي لا يجرؤ أن ينهَ عن تزييفٍ ويأتِ مثله! والقرينُ بالمقارن مقتدي. هكذا إذن، تؤتي نيفاشا الثنائية أُكلَها الماسخ ممثلا في شرعية مزيّفة يتقلـّدها الشريكان على حَردٍ ظاهر؛ ويا دارسـودان كم دخلك من شـر. وعلى الرغم من القول السائر بأنّ الهزيمة يتيمة وللنجاح ألف أب، إلا أنّ نجاح الشريكين في اكتساح الانتخابات العامة اكتسى مظاهر اليُتم وارتدى لبوس الهزيمة فانتهبت الظنون آباء نجاحه فتشاحنوا ثم طفِقوا يخصفون بهتافيـّتهم المعهودة عن ضرورة توسيع قاعدة المشاركة كأنما كانت غائبة عنهم! وذلك باستعدادهم لإشراك الأحزاب المُكتَسَحة في الحكومة، وتلك أحزاب قد رفضها الناخب السوداني بزعمهم. وبأنهم وحدويّون وأنّهم قادرون على حماية ثُغرة السودان من كيد الأعداء. من المُلاحظ أنّ الشريكين لم يتبادلا التهاني بالفوز الانتخابي الكبير ولا احتفلا بما احتملا من اكتساحٍ أشبه بالكُساح السياسي. بل سرعان ما انخرطوا في تشاكسهم المقيت؛ فهل من بقيّة في الشريكين تنهض بالأمر من بين رماد التهافت؟ أم أن الوطن موعود بحقبة أخرى من التشاكس السطلوي الذي يفضي الى إهدار طاقات البلد وأهله وقد زادت وتائر التدحرج نحو الهاوية.
***

مغبونٌ في فهمه السياسي ،إذن، مَن يظنّ أنّ حكومة ائتلاف للشريكين في مُقبل دورتهما البرلمانية الآتية بنوّاب الاكتساح المُبير للعملية الانتخابية، أقدرُ من غيرها في تصريف الأمور على الوجه الأمثل؛ أو بأفضل ممـّا كان عليه الحال بالأمس القريب وهم مطعّمين ببعض وجوهٍ معارضة لا تُسمن ولا تغني من جوع، فيما سُمـِّي بحكومة الوحدة الوطنية في الدورة البرلمانية التعيينية المنقضية بمرور خمس سنوات. تلك في جملتها كانت سنيناً عجافاً على البلد وأهله وطموحاتهم في النهوض وانصلاح الحال . كذلك فإن القضايا المصيرية لا تزال عالقة وأشدّ مِراساً وأكثر كَلَفة ممّا كانت عليه فيما مضى.
***

إنّ الإنجازات المزعومة للفترة الانتقالية الأولى لحكومة الوحدة الوطنية لا تسعف بأيّ تفسير إيجابي عمّا أسفرت عنه انتخاباتنا العامة في أبريل 2010م من تكريس لتسلط الشريكين على رقاب الناس، رغم مّا بذل الناس من رضا باتفاقية السلام الشامل لنجاحها في وقف الحرب الأهلية، فضلاً عمّا تمخّض عنها من واقع دستوري أكثر ملائمة لإجراء الحوار الوطني المنتج في مسائل الحقوق والواجبات والحريات العامة، لولا أنه واقعٌ مأزوم بفشل الشريكين المزمن. تجلّد الناس بالصبر المُر على انسداد الأفق السلطوي، كيما ينفتح على رؤية الواقع السوداني الأليم بما يعيشه الوطن من مآسي في دارفور، قبل وبعد مأكمة سوق المواسير! وما يُعانيه المواطن من عنف الدولة "غير المرشّد" في جميع مناحي القطر الشاسع وهيَ سادرة بهتافياتها وشعاراتها التي لاتستصوب النصح وقد تقتُل عليه! بل وفي انصراف التنفيذيين عن أوجب واجباتهم في التعرف ،ومن ثَم التعاطي الجاد، في ما يعتور حيوات الناس من ضنكٍ في العيش وموتٍ لأحلام البسطاء في حياةٍ كريمة واستقرارٍ معقول! وغنيٌّ عن القول أن قُدرة الأداء الحكومي وحُسن التعاطي في ادارة الشأن العام، كانت أوسع فرصاً في المرحلة الانتقالية الأولى بطول سنواتها الخمسـة منها عمـّا تبقّى من وقت قصير من عمر الفترة الانتقالية في ظل ما يجري من مماحكات الشريكين الحاكمَيْن. وإلى حين زلزلة الاستفتاء لشعب جنوب السودان في تقرير مصيره مع وحدة السودان أو انقسامه مستقلا بأرضِه وشعبه بإحسانٍ أو بغيره؛ وبالتالي ما يتبع ذلك من تداعيات ثقيلة الوطأة . بالمنتهى فإنّ المحصّلة النهائية الموضوعية ، وحتى بلسان المتحدّثين باسم كلا الشريكين، تفيد بأنّ اخفاقات حكومة الوحدة الوطنية في فترتها الأولى والطويلة، ترجح بإنجازاتها فمالعمل؟ أم ليس في الجانبَيْن نفرٌ رشيد؟
***

إن الهبّة التنظيمية والتعبوية الكبرى. من جانب حزب المؤتمر الوطني الحاكم لإجراء الانتخابات العامة. قد أخطأت وجهتها منذ أن احتقبت أهدافاً حزبية ضيّقة لا تتطابق والمفهوم الموضوعي لمسألة التحول الديمقراطي، تلك المنصوص عليها في اتفاقية السلام، كما أنه لم تتوثق أيّ بادرة قبول موضوعي من جانب تنفيذيي حزب المؤتمر الوطني، بما ستسفر عنه انتخابات التحول الديمقراطي إن لم تؤمّن على أغلبيتهم النيابية والتنفيذية التي اخترطوها في نيفاشا (52%) بعون الوسطاء الأجانب ثم عضّوا عليها بالنواجذ- كّسّرها القهّار- وهاهم الآن قد أكملوا الناقصة، بل وأغرقوا اليابسة التي كانت تتسع لهم وبقية المشاركين في استدامة صبر الناس، بل حُسن تطلّعهم الى انبلاج عصر التحول الديمقراطي وهيهات.
***

بالنتائج الماثلة للانتخابات العامة، والتي أفرزت واقعاً شمولياً يستبدّ بسلطة اتخاذ الأمر فيه حزبان متشاكسان يتقوقع كل منهما في شِقٍّ من السودان متحيـِّزاً بما في يده، فليس من كبير أملٍ في حُسن تحريك دولاب العمل الوطني بالطريقة المُثلى ؛ وبالتالي، لا أمل في إيجاد موطئ قدم لوحدة جاذبة تقيه شرّ التمزّق. لا توقُّعات عظيمة حول ما يرشح من مساعٍ متعثرة لحل قضية دارفور. كما أنّه لا مجال البتّة لانصلاح حال المواطنين المتأزم. ما استمرّت هذه السلطوية العمية عمّا يُخَيـِّم من بؤس وما يتطاير من وميض حروب قادمات، لا تُبقي ولا تَذر . لاسيما وأن كلاً من الشريكين حريص على المسارعة بالخروج بملفات القضايا السودانية للتدويل المواكب قبل أن تُقتـَل بحثاً بداخل الحوزة الوطنية. المشرئبة الى استقرارٍ موزون ولا تجد سبيلا . لقد استبدّ بأمر الحزبَيْن نفَـرٌ قليل العدد في مركزية طاحنة إن لم نقل أبوية متسلّطة! تقوم بمتون الأمر جميعاً ولا تترك لبقية متحزّبيها وهيئاتهم غير حواشي المجالسة والمواكلة فيما يشبه إيكال الأمر لخبـّازه ولا شبهٌ قريب. و بوصولنا الآن لمرحلة نشر الدعوات التي أطلقها الرسميون لانعقاد الهيئات التشريعية المنتخبة كِفاحاً سواء للمركز أو الولايات، فالناس موعودون بعجائب من الأمور. ستترى عليهم من فوقهم ومن تحتهم ومن بين أيديهم فأين المَفَرْ ؟
***

الأحوال الاستثنائية تستدعي تفكيراً استثنائياً، ومهما يكتنف مثل هذا التفكير الاستثنائي من صعوبات. تتعلق بموضعة مرئياته داخل منظومة دولة كائنة لها دستورها. المبني على اتفاقات وعهود وقواعد تنظيمية محددة، إلاّ أننا قد دخلنا مرحلة هذا التفكير في ما أرى، بمناداة رئيس البلاد المنتخب إلى تشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة لا تستثني حتى المقاطعين للانتخابات. عليه فإنْ استجابت المعارضة الى دعوة الشريكين بالانضمام الى ركب الحكومة حصرياً في السلطة التنفيذية اتحادياً، وولائياً في ما تبقى من فترة انتقالية؛ فالأوفق ألا تقوم مثل هذه الشراكة الانتقالية على نهج الترضيات ولا تنهض على أمنيات الحزب الغالب في شراء الوقت ريثما تـتــقشــّع سماواته الملَبـّدة بالغيوم. بل لابد أن تتحدد المهام في حكومة برنامج يكون للمعارضة فيها السهم الأغلب في نسبة المشاركة التنفيذية مجلسياً. بينما يتم الاعتراف للشريكين بمقاعد الرئاسة التنفيذية في المركز الاتحادي والولايات فضلاً عن أغلبيّـتهما في السلطة التشريعية في مختلف مستوياتها الاتحادية والولائية .
***

إن توسيع قاعدة المشاركة السياسية بمختلف ألوان الطيف السياسي السوداني ستثري بلاشك، مرحلة التحوّل الديمقراطي في ما تبقى من فترة انتقالية. تساعد في الآن نفسه على تجاوز حال الاحتقان السياسي. بسببٍ من نتائج الانتخابات العامة وما ارتبط بها من عدم اعتراف. بل وستكون الأقمن بوصف حكومة وحدة وطنية محدّدة المهام، وقابلة للمحاسبة أمام الرأي العام العريض للشعب السوداني الذي سيكون حارساً وشاهداً على اتفاقاتها وبرنامجها. بحسب الموجّهات الهادية بين الشركاء، وعلى نسق قول القائل :

إنّ نصف الناس أعــداءٌ لـِـ ... ــمَنْ وليَ الأحكام! هذا إن عَدَلْ..!

***






-----




** مقال نشرتُه بصحيفة "الأحداث" قبل أن تنتهي سَمبلة! في 13مايو2010 عُقيب خروجي من معمعة الانتخابات كمرشح مُستقِل للبرلمان، سمبلة برضو! .. والمتأمِّل لما يجري هذه الأيام، يرى أنّ الــ"سمبلة" ما زالت تسدّ الآفاق.
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

[align=justify]


سيرة التحول الديمقراطي والمصائب التي لا تأتي فرادى ..! (*)

تمرّ بلادنا بأزمات متطاولة تأخذ في رقابها أزمات متجددة فيندغم حابل المزمن بنابل المتجدد وتضيع أولويات البحث والنظر في حلول لهذه الأزمات ! لاسيما وأنّ الناظر والباحث والمسئول الأول والأخير عن ايجاد الحلول الموضوعية لهذه السلسلة الطويلة من الأزمات المعاصرة ، والتي تكاد أن تفتك بالناس، هو حكومتنا الديمقراطية المنتظرة . وتلك حكومة تركض في رَحِم الغيب حتى بعد الاكتساح المبير للانتخابات العامة! ولكنّ الأزمات لاتنتظر فالمصائب لاتأتي فُرادى!

أكبر مصائبنا في سودان الألفية الثالثة والتي تعترض سُبل الحلول المُعتَبَرة لبقية الأزمات المتراكمة، تتمثل صراحةً ،لكل ذي عينين، في استدامة تنافر الشريكين الحاكمين وتضاد وجهتيهما في الإقبال على أمور الحُكم بالنظر الصواب . بالمقابل فلكل شريك صحيفة اتهامه عن تقصيرات شريكه الآخر، بل كل من الشريكين بصير برؤية القشة في عين شريكه وعاجز ،كل العجز، أن يتلمّس عوجة رقبتو ،ذات نفسه، برؤية العود المتعارض قُبالة عينيه . مع كل هذا التنافر، والذي يورث التباغض، ففي اعتقادي أنّ التشابه بين الشريكين في سلطتيهما الحكوميّتين يخلق من الشبه أربعين ! فقد تنافرت المشارب ، أي نعم! ولكنّ أقدار الفشل السلطوي قد تساوت بقدر الأنصبة المتفق عليها لمزاولة هذا العكّ الذريع ! ولا عزاء للشعب السوداني المكلوم في ساسته وثوّاره أبناء ملوك الزمان ..! بل لا عزاء لتلك المفاوضات المضنية للتوصل لاتفاقية سلام شامل ، كانت ابنة بجدتها أوّل مـا تمّ التوقيع عليها ، فتزاحمت عليها أكفّ التهنئات والتغزلات وتمددت الطموحات وثاّبة لتتعثـر في بدء مشيتها نحو وزاراتٍ لها نصيبٌ في الثروة وأخرى للسلطة فيها صولجان !

تشقّق الروح الداخلي ،إذن، للاتفاقية منذ بدء التطبيق المجانف! لتضحى غاياتها مثار نزاع سلطوي لحوح، ومن نافلة القول ، أنّ أولى مناقب نيفاشا والتي تمثلت في إيقافها أطول الحروب الأهلية في أفريقيا، قد تبددت سراعاً بسببٍ من اندلاع حرب دارفور ولماّ تلتئم جراحات حرب الجنوب بعد! ومما زاد طين السودان الدمويّ بِلّة، أن حكومة الوحدة الوطنية للفترة الانتقالية الأولى قد فشلتْ فشلاً ذريعاً في استنطاق آليّات نيفاشا لتوطين السلام بما جوبهت به في دارفور ! وأنّى لها ذلك وهيَ حكومة متشاكسة تتجادل في تعريف المعرّف بالضرورة؟ وتتخالف ،قصداً، رؤى نافذيها حول الحلول المرجوّة .

لانقدح ،بالطبع، في أهمية وضرورة اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا 2005 ونؤمّن تماماً على وصف الزعيم الراحل الدكتور جون قرنق دي مابيور، بأنّها مولد للجمهورية السودانية الثانية؛ كذلك قد وصفها الرئيس البشير بأنها استقلال ثانٍ للسـودان، فضلاً عن كثير من التوصيف الإيجابي من أهل الجلد والرأس في كبش الاتفاقية وكذلك المتأملين خيراً فيها من قطاعات الشعب السوداني . بطبيعة الحال، فتلك أوصاف على جانب كبير من الاستحقاق لولا أنّ شيطان التفاصيل قد حلّ مع اجتراح تنفيذ الاتفاقية ليصبح أكبر الناقمين على سيرورة تنفيذها هما أهل الجلد والرأس " الشريكين المتعاقدَين المُنَـفِّذَيْن " وتلك الداهية الدهياء! والتي راكمت الخطايا ليأخذ بعضها برقاب بعض ليدخل السودان في نفقٍ مظلم جديد .

لقد أصبحت الوحدة الجاذبة في خبر كان ! منصوبة على حرّ الانتظار ليوم حاقّة الاستفتاء، وربما قبله ! كذلك تتصاعد التوترات العنيفة في دارفور بعد أن أوشك أمرها على انتهاءٍ ظلّ يتراءى ولا يظهر، بل يقوم ليتعثّر ! إلى ذلك فإنّ قضايا المناطق الثلاث في أبيي والنيل الأزرق وجنوب كردفان ببروتوكولاتها ومشورتها الشعبية ، لاتهدأ ثائراتها إلا كهدوء سابق للعواصف ! فتتزاحم المناورات والتسكينات . بين كل هذه الخُلل من الرماد السلطوي الوغواغ، فإن حال الإدارة العامة في القطر بأجمعه مُثير للرثاءِ إن لم يكن الغثيان ! فشؤون الموارد الاقتصادية متروكة للزمن يفعل فيها فعله وحفنة من المتشاطرين الذين يطلّون كل يومٍ بتطمينٍ انتاجيٍّ كذوب ! لاتسنده الوقائع المُرّة؛ فها هو ذا مشروع الجزيرة يشكو الفشل الإداري ويلوك تصبّرات العدم، مثله مثل كل المشاريع الزراعية العتيقة في سوداننا الموكوء بالخطط المُلتبسة والتمويلات المتعسِّرة بالإضافة للتنفيذ المفارق للخطط ،وبالتالي، الإهدار المزمن للفرص والطاقات .

إنّ النتائج السلبية الماثلة في سودان اليوم يتحمّل وزرها حكاّمه الحاليين في حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان، أؤلئك الذين شنّفوا آذان الناس بتنظيراتهم الكثيرة وإطلالاتهم الكثيفة من على ذُرى المنابر العامّة ، يتحدّثون كثيراً ولا يقولون شيئاً ولكنهم، من بعد، فقد أشــقوا أنفسهم قبل الناس بهذا الحصاد الهشيم تذروه الرياح ! إن لم تتيسّر الأمور لتحوّلٍ ديمقراطي حقيقي.

إن كان من وقفة مع النفس، فلابد من جردة لحساب حكومة الوحدة الوطنية التي انقضتْ بقليل خيرها وكثير شرورها التي تتبتّق حالياً ! كما أنه لابد من التسليم بأن منهج الحُكم الذي كان، لايمكن أن يعوّل عليه في ما تبقّى من فترة انتقالية تترصدها كثير من المفاصلات المؤدية الى انمحاق دولة السودان إن لم تتغير طرائق الحُكم؛ وباعتقادي، لابد من التواضع الجمعي أوّلاً بأنّ ما نحن بصدده الآن ليسه التحول الديمقراطي المقصود! طالما أنه تحوّل يهبّ حصرياً على نفس الاشرعة الممزّعة في ابحارها الأول.








-----
مقال نشرتُه بصحيفة "الأحداث" في الاسبوع التالت من مايو 2010م ..
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

[align=justify]



حكومة ديمقراطية بلا معارَضة برلمانية فاعلة..! (*)



لئن صدقت الأخبار الواردة هذا الاسبوع بأنّ تشكيل الحكومة الجديدة سيتم الإعلان عنه بنهاية الشهر الجاري، فإنّ البلاد موعودة خلال ثلاثة أيام بحكومةٍ ستكون الأولى من نوعها في السودان ؛ وذلك بما تتميّز به من غلبة تشريعية كاسحة بلا مُعارضة برلمانية تذكَر! وهذا ضد طبائع الأشياء في بلدٍ يتلمّس طريقه نحو التحول الديمقراطي الحقيقي وليس المزيف، كآلية ناجزة في التداول السّلمي للسلطة بين قواه السياسية، بل وقناعة متفق عليها ، بوجه العموم، حسبما ورد في اتفاقية السلام الشامل يناير 2005 وما تضمنته من كرائم الأهداف والوسائل بضرورة التقاسم العادل للسلطة والثروة بين أقوام السودان في تنوّعه الفريد ، وتحقيق التحول الديمقراطي والمصالحة الوطنية والحكم اللامركزي ومنح الفرصة السياسية لأهل جنوب السودان لتقرير مصيرهم في وحدة طوعية أو انفصال ميسور التداعيات ! كل ذلك تلافياً لعودة الصراعات الداخلية التي كلفت البلاد غالياً بما أزهقت من أرواح عزيزة وما بددت من موارد غزيرة .
***

إنّ القوى السياسية السودانية وبحسب مرحلة التطور السياسي التي تمرّ بها البلاد حالياً، تتعدد رؤاها وتشكيلاتها وطبيعة أنساقها طبقاً لخاصية التنوع الإثني في السودان ، وذلك فضلاً عن انقساماتها وتعاركها أكثر الأحيان في غير معترك، اللهمّ إلا مُعتَرك السُلطة من أجل الخروج من خانة المعارضة والتمتّع بمزايا الخصم والحكَم! كأنما الجميع يضع نصب عينيه المثل الشعبي : مَنْ بيده القلم لايكتب نفسه شقياً ؛ وبالأحرى : مَن بيده السلاح فإنه لن يتورّع من أن يخترط انجازاته عبر فوهة البندقية كيفما اتفق . على المؤتمر الوطني ،إذن، كحزبٍ مكتسح لمنافسيه السياسيين في الانتخابات الأخيرة فيما هو أشبه بانقلابه العسكري نهايات الثمانينات في القرن الماضي! أن يعي تماماً ما استفرد به من مسؤوليات جسيمة تتعمّق وتتضاعف كل صبح جديد . وتلك قضايا مصيرية تنتظر حلولاً نهائية ولن ينفع فيها بلاؤه السياسي ،مشهود الإخفاق، في حكومته الانتقالية الأولى للوحدة الوطنية والمنتهية بعد مضي خمس سنوات دون التوصل لحلول موضوعية لأمهات القضايا كأزمة دارفور، أو تنفيذ اتفاقية السلام الشامل، أو الضائقة الاقتصادية والتي تأخذ بتلابيب أغلبية المواطنين . بمعنىً جلي، فقد تشعبت الأزمات وتضخّمت لتصبح ذات ارتباط اقليمي متقلّب وبُعدٍ تدويلي يحصي الخطوات ويعدُّ الأنفاس ليقرِّر ما يقرره .
***

إنّ أظهر ما يستبين لنا من خلال تجربة حكومة الوحدة الوطنية الأولى المنتهية فترتها هذا الشهر، هو اختلاف معايير التقييم حول انجازاتها واخفاقاتها بين الفرقاء السـودانيين، وبالتالي تتخالف معايير التقويم والإصلاح! فعين الرضا بالمؤتمر الوطني كليلة عن كل عيوبه الظاهرة ، وعينُ منافسيه الساخطين لا تخفى عليها أصغر مساوئ حكومة المؤتمر الوطني في جُل ما فعلتْ وما زالت تفعل! وحسبُك من تخالُف في التقييم ، نتائج الانتخابات الأخيرة والتي لم تخرج من عباءة الشريكين الوسيعة التنفّذ! فهيَ لدى الرأي المعارض في أغلبه، مفارقة للمعايير المحلية والدولية وموثقة التزوير! بينما يتضاد تقييم هذه النتائج لدى الطرف الآخر والذي يرى فيها اكتساح مستحَق! فهاهو حزب المؤتمر الحكومي يفخر، من خلال بعض منسوبيه، بهذا الانتصار الكاسح لنتائج الانتخابات العامة مفسِّرين ذلك بفناء الأحزاب وانتهاء عهدها ، ملوّحين بتسطير انجازاتهم في لوح التاريخ السوداني بما حققوا من نجاحٍ لا يفسد بهجتهم به إلاّ إنكارٌ موثّق من جانب القوى السياسية المعارِضة ممثلاً في تقييمها السالب لتلك النجاحات المزعومة للشريك المتغلب، وبأنها لا تعدو عن كونها موبقات مُهلِكة تستدعي المثول أمام محكمة الشعب لتحكم بفضيلة الرجوع الى الحق لجبر ما أحدثته من مخاطر سياسية بالغة التعقيد .
***

على الرغم مما ورد بأعلاه من سلبيات تعترض سُبل الاستقرار والتنمية ، إلا أنّه في خروج الانتخابات من نفق العنف المتوقع ، وكذلك تسارع خُطى الشريكين نحو تشكيل حكومة الفترة الانتقالية الأخيرة على ضوء برنامج يستصحب تنفيذ اتفاقية السلام الشامل وإجراء تقرير مصير الجنوب في ميعاده المنصوب ؛ فإنه من المؤمل ان تستقيم خُطى الحكومة الانتقالية الجديدة إنْ توفّرت لها الإرادة السياسية الدافعة لإيجاد حلول للأزمات المتطاولة ؛ وتلك أزماتٌ إن بدت في يومٍ مَـا بأنها أكبر من طاقات الشريكين الحاكمَيْن ،على الرغم من مرحلة التسوية السياسية الجارية، فإنها لم تكُن كذلك عند التوقيع على اتفاقية نيفاشا والتي سدّت كثيراً من أبواب الشرور التي ألهبتْ الحروب بين بني الوطن الواحد كنتاج طبيعي لعدم الاستقرار وفقر التنمية منذ الاستقلال المجيد عام 1956. إلى ذلك، فإنّ في نزوع القوى السياسية المعارِضة ،في أغلبها، الى الزهد في مشاركة حكومية لن تكسبها جديداً ولا تتيح لها الفرص في الإسهام ايجاباً في حل قضايا البلاد الشائكة؛ ملمحٌ إيجابيٌّ آخر ربما زاد من فرص استقامة الخطى الحكومية في التعاطي الإيجابي للقضايا الشائكة وترتيب أولوياتها في هذا الشأن.

***
فيما يبدو للعيان، أن أحزاب المعارضة ، في أغلبها، ربما التزمت بإباءٍ وتعفّف عن المشاركة في السلطة التنفيذية بعد أن قاطع الانتخابات مَن قاطع منها، وشارك في الانتخابات العامة مَن شارك دون تحقيق ما ابتغى ! لا سيما وأن بعض منسوبي الحزب الحاكم قد بدّروا بأن الحكومة الجديدة لن تكون حكومة محاصصة، بقدرما هي حكومة لبرنامج الرئيس المنتخب ، وهو برنامج حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي لايقبل القِسمة على أكثر من واحد . إذن فقد تبددت الدعوة لتشكيل حكومة وسيعة القاعدة التشاركية شذر مذر! وبطبيعة الحال، فلن تعدم المعارضة السُبل لممارسة انشطتها السياسية، بقدر ما تتوفّر عليه من مهارة، لأجل تغيير الواقع الى الأحسن حتى دون أن يكون لها نواباً في البرلمان . كذلك فإنّ المعارضة السياسية التي سلّمتْ بحكومة الأمر الواقع بالأمس وسعتْ بشتى السّبُل أن تُدلي بدلوها في ترقية أحوال البلاد، لن يصعب عليها اليوم أن تلتزم جانب العزلة السياسية المؤقتة عن البرلمان الجديد! بعد أن فُرضت عليها من جانب القابضين على أمر السلطة . والمعارضة، في هذه الحال، ربما راهنتْ بقدرتها على فرض الرؤية الصحيحة " من منازلها!" على أهل السُلطة دون أن تضطر لمنح صك مبدئي بالقبول بأيِّ نوعٍ من التعاطي السياسي الشبيه بما مضى .
***
تفعل الحكومة المتوقع إعلانها خيراً بالناس إن التزمت جادّة الحق في تنفيذ البنود الكلية لاتفاقية السلام الشامل ، وأوّلها الالتزام التام بموجّهات الدستور الانتقالي لعام2005 واجتراح نوع من المؤسّسية المؤدية لتفعيل السُلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية لأقصى ما تستطيعه طاقاتها ،فما عاد الحال يحتمل، ولن تسلم الجرّة في كلّ مَرّة ! كذلك، على الحكومة الجديدة أن تجنّب الناس اعادة تجريب المُجرَّبين من كوادرها الذين ما أفلحوا قط! إلا في استدامة الفشل فيما يتعاورون من مهامٍ أكبر من طاقاتهم وأكثر سعة من اوفضة تجاريبهم الخاثرة ، تلك التي زهّدت الناس من أيِّ انصلاح قد يأتي قريباً .. وكل حكومة منتخبة والسودان بخير .







---------
(*) مقال قديم! نشرتُه في "الأحداث" في الاسبوع الأول من يونيو2010م ..
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

[align=justify]




مَنْ مُبلِغ النــُّواب عـَــنـِّي جُـمْـلةً ...؟ *


صحيفة " الأحداث" الغرّاء لابد أنها ستفعل، كما العهد بها إنباءاً وتنويرا ؛ فقد تقاطرت ضحى الاثنين الرابع والعشرين من مايو 2010 أسراب النواب الجدد تحفّهم العظمة! والنائبات على سوح المجلس الوطني بامدرمان ، في حُللٍ بهيّة احتفاءاً بهذا النصر المؤزّر الذي أدخلهم الميس المُسيّج بعد أن تخطّوا كل الحواجز المنصوبة وغير المنصوبة ، والتي كانت عصيّةً على سواهم من غير المنتمين لحزبَيْ الشريكين القاسمَيْن المُشتَرَكَيْن الأعظمين إلاّ قليلاً قليلا . فهذه هيَ الانتخابات الفلتة التي وقّى اللهُ شـرَّها من حيث ما احتازت وصفاً تقريرياً في عُرف المراقبين البُعداء منهم والقريبين، هوَ بين الجدّ واللّعبِ هزلاً وليس بالهزل! كأنّما المُراد زيادة الضوضاء بين الفُرقاء جميعاً وليأخذ كلاً منهم ما يلائمه ! وليركب من خيلِه أعلاها ! فهيَ عند بعضهم مثلاً يُحتَذى وعند الآخر لاتخرج عن مضرب المَثَل : ولا تلدُ الحَيَّة إلا حَيّة ! لا أكثر ولا أقل ؛ ومع ذلك، فهيَ على غير معايير الحيّات الدولية أو المحليّة . وطالما أنه من المُحال إرضاء الناس جميعا فهل عجزت كل هاتيك البيوتات ،وبما لها من خبرات دفينة، من أن تُدلي بالقول الفصل؟ ليرضى مَن يرضى عن بيّنة ويأبى من يأبى عن قناعة ؟ أم أنّ لها في تلك الشؤون مآربا ؟ حالٌ من عدم الرِّضا ،إذن، تسود الآفاق السودانية وترفدُ البلاد بمزيد اختناق سياسي، وليسها الليالي فقط! بل الأياّم حُبالى بما تحملُ في احشائها من عجائب تترى . وقد قيل: وإذا رايتَ عجيبةً فاصبر لها، فالدهر قد يأتي بما هوَ أعجبُ .
***


إنكم أيها السيِّدات والسادة النواب تأتون في زمان الغفلة جهيرة الصوت، وفي مرحلةٍ لليقظة مكتومة الأنفاس! فهل أعددتم لما للحدثان من خفقان؟ هل أنتم مستعدون لممارسة التمثيل الأمثل لأشواق ومطامح دوائركم التي ترسف في قيد التخلف ؟ تعاني من لميم الأمراض الطارف منها والتليد، وتضنى بالفقر الأفقر كأنما تقاتل خيلاً من فوارسها الدّهرُ ؟ إن حال البلاد لا يُسر صديق ولا يغيظ عدو، وقد جاءت بكم الصدف التي هيَ ، في بعض الأحيان، أبلغ من وعد . بيدكم الآن سُلطة الرقابة والتشريع ، وعداً أخضرا كآلية ناجزة لتعديل الميل المقيم والأذى المتراكم فهل من أملٍ مأمول؟ أم أنها سحابة صيفٍ عمّا قليلٍ تقشـّع عن هواء ساخن!

***

من المفروغ منه، أنّ أعباء الحياة اليومية في سودان اليوم تفوق قدرات الغالبية العُظمي من الناس، فلا يجدون غير أن يكمِّلوها صبراً أو يتمـّوها "موية" ومن الماءِ آسِنٌ وقِراح . أشدّما وأثقل ما، بل أفتك ما يؤذي الطيبين من الناس، أنّ قِلّةً محظوظة من بين الجمع السوداني الحزين لايصيبها ما يصيبُ الناس من قارعاتٍ ما لها عدد ! كأنما هي الفئة الناجية التي يكثر الحديث عنها في أزمنة التقاطعات الفكرية وآوِنة اشتداد الصراعات الاجتماعية الطبقية . فئةٌ يأتيها رزقها رغداً ميسوراً بما تتقلّب فيه من وظائف الدولة السّنية المُتوخّاة بعناية! تغرفُ من ودائعٍ غير مردودةٍ و رَيعٍ مبذولٍ لها خصِّيصاً دون رقيبٍ! تختارُ منه الأسنى بما يتعدد أمامها من خيارات تفضيلية ، وقد تجمع في البُرهة الواحدة بين عديد الوظائف والتكليفات والتشريفات دونما تأهيل كفاءة ولا وثيق موالاة لآفة عصرنا المُسمّاة بالعصبية المذهبية؛ بل ولا مخبور تجربة أو مهارة وبلا عِلمٍ ولا هُدىً ولاكتاب منير . بالحريّ فإن معيار التفاضل الحقيقي هاهنا يقوم على " الفهلوة " ويعتاش على موات الضمائر! والتمظهر بالورَع ! وتلك أحوالٌ لاتقع موقعاً حَسناً إلا عند المتفهلوين أو الذين في طريقهم كي يتفهلووا ! ونربأ بكم أن تجعلوا ، ياكرماء النواب وكريماتهنّ، لتلك الفهلوات مكاناً في مجلسكم الموقّر ، فالصدقُ يُنبئ عنكم لا الوعيد . فقد دخلتم الميس وليس بعد الميس إلا حُمّى الدريس.
***

أنتم يا كُبراءنا قد مَـرّ أغلبكم ، باعتقادي، من تلكم الناحية التي يزعمون أنها السكّة الناجية ! لم تضطروا للمرور عبر واضحات السّبُل ، تلك التي تكثُر فيها الخَيَّات والخيبات وتقف على أفواهها شرور الزمن تُبطِل إرادات ذوي العزم . دربُ الاستقامة غير معبّد إلا بالصِّعاب بينما غيره من الدروب مفروشة بالرياحين . هـا أنتُم قد انسربتم طاعمين كاسيين متسللين عبر اللفّة المحصّنة بالتدابير الباطنية . إحصاءاً مفتوح النهايات وتسجيلاً ممتد النفاذ بغير أجلٍ معدود تتجدد جداول أسمائه مع طلعة كل يوم للاقتراع، ومثل ذلك كثير في مراكز عديدة لاتستعصي على الإحلال والإبدال ولا تستعصم عن التدوير واعادة التحرير والخجِّ والتثوير بوجهة النظر الطامّة . أكثرُ من ذلك، أنّ تلك المراكز ومُضيفيها لم ترعوي عن التهديد والابتزاز لضعاف السـُّكان الذين سعوا صادقين في مبدء الأمر الى أن يكيلوا للإنقاذويين من عينة ما كالوا لهم ووزنوهم من قبل! ولكنّ الإطار الكُلي مفتوحٌ على دسام الجذرات وضِخام العصي! ومسنود بآلة الدولة الحزبية من حيث أنها غير معنية بالتعرف على الفروقات الجلية بين حزب الجماعة ودولة الجماعة مع بقيّة الناس! كيف لا وربُّ البيت الانتخابي بدُفِّ التساهيل ضاربُ ؟ وعلى ذكرُ التساهيل أو لعلّها التشاهيل، فقد راعني والكثيرين هول الضعف الإداري وعوَز الضمير لدى الطائفة العظمى من القائمين والقائمات على أمر محجّة الاختيار الحُر والنزيه! حتى وهو بالثمن الربيح! وذاك ضعفٌ إداري يجبهك عند دخولك هذه الحوزات الانتخابية في مراكزها القومية ومراكز ولاياتها وفروع محليّاتها وأحيائها وقُراها وفرقانها العديدة والمتباعدة ، فضلاً عن زوايا عوسها الفطير في الموقع الاليكتروني! . موظّفون وموظّفاتٍ كانوا يشكون العدم للعدم ويئنّون من المعاش والتقاعد بلا أملٍ ولا رجاء ، بعضهم قد فارق الضبط والربط منذ أزمانٍ خلت، وكثيرين منهم قد استطالت عليهم الحالكات من ليالي العطالة الكاشفة والمقنّعة . فالكل مدموغ بميسم النكبة السودانية العامة تدهمهم بغتةً أحابيل إنقاذوية في التوظيف القصير المُدّة بالشيء الفلاني ؛ فلا يلوون على شئ ! وقد تكاثر صليل الدراهم والدنانير، عابرة الحدود، يصمُ ويعمي عن مهمّات التدريب وشروط التوظيف ومسؤوليات الوظيفة العامة والخطيرة ،وتلك شروط يأتي من جماعها تحقيق انتخابات حُرّة ونزيهة.
***

لقد كان التدريب هوَ الغائب تطبيقاً في المستهدفين وحاضرٌ ببذخٍ في الميديا تصريحا وتلميحا ! بل إنّ موظّفي وموظفّات الاقتراع لم يسعفهم الوقت لهضم ما انصبّ عليهم فجأةً من محاضراتٍ متلوّة من كُتيِّباتٍ مزركشة وأوراق مشحونة بالشيء ونقيضِه ! كذلك فعل الزمان بوكلاء الأحزاب والمرشّحين ، فقد ضاق زمن التدريب بسببٍ من تأخير الوسائل وتجهيز المقار وترحيل المتدرِّبين ليتم حشره، في عُجالةٍ أشبه بالتعمُّد! قبل يومين أو ثلاثة من تاريخ بدء الاقتراع ؛ بل إنّ معظم العاملين المعيّنين قد توحّدت ساعة تعيينهم مع ساعة بدء التدريب . بالتالي، لم تخرج الساحة الانتخابية بجديد! اللهمّ إلا السـِّترات البُرتقالية التي أفضتْ ببعض يقين بأنّ المسألة جَدٌّ .. ولكنه يقينٌ لم يصمد كثيراً مع امتداد نهارات ذلك الصيف فوق صفيحٍ ساخن .
***

بالرغم من كل الرزايا المذكور منها والمنسي، فقد تمخّض الحِراك عن شيء ، لا هوَ بالكامل المرجو كما أنه ليس بالناقص المتروك طالما لم تهتز الأرض ولم تغب الشمس عن جديدٍ أشبه بالقديم ، بل لم يُغاضبنا القمر ! وعندكم الآن بعض مفاتح الأمر المُدلهم والأمل الممدود فداحةً . وللتذكير، فإن حرب الكُتل البرلمانية قد أشارت ، في بعض وجوهها، الى حيوية لهذا البرلمان الجديد كما ألمحتْ ، نفس الآن، الى جمودٍ عتيق في المسارعة بترحيل صغير الأزمات الى حاضنة تكبير الأزمات بمحاولات بحثها عن فتوى خارج دارة الافتاء البرلمانية الأساس! أكثر من ذلك، فإن برلمانات الولايات تنتظر منكم توظيف تلك المفاتيح في مغاليق أبوابها حتى يدخل الناس بكم ومعكم عهد التحوّل الديمقراطي بعد أن صدفت عنه الأبصار وغامت عن وجهته الأفئدة ؛ وبالمنتهى، لا يسعُنا إلا نمدد أكف الدّعاء سائلين لكم أن تملأوا أرض السودان عدلاً ،بالتوظيف الأسمى لسُلطتَي الرقابة والتشريع، بعدما ملّت ومُلئتْ تلكم الارض بالظلم والجور المتطاول وضجّت بالعبثية السلطوية . هذه أقداركم ، هيَ الآن من أقدار بلدٍ يئن بالتخلف وبالفقر وبالجهل والمرض ، وفوق ذلك، فإنه موعود بأن تذهب ريحه مع الذّاهبين في شرّ ممزّق ؛ ولسان حاله ينطق بقول المُثَقِّب: فإن كنتُ مأكولاً فكُن خيرَ آكِلٍ ... وإلاّ فأدركني ولمـّا أُمَــزَّقُ .












--------
مقال تم نشره بصحيفة "الأحداث" في الإسبوع الثاني من يونيو 2010م
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

[align=justify]




فضُّ جدالات الاهتبال فيما بين الوحدة الجاذبة والانفصال من اشتعال ..! *






مع التسليم التام في غالب شرائح المجتمع السوداني بأهمية تجذير الوحدة الطوعية بين شِقِّي القطر في جنوبه وشماله، إلاّ أنه لا تغيب عن بال المراقب العادي جهود حثيثة تُصعِّب من تحقيق الوحدة الطوعية وتستعيض عنها بوحدة قهرية تقوم على استدامة الأحوال على ما هيَ عليه! قبل، وربما من بعد، اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا 2005) من نهجِ حُكم تسلّطي يفرّق بين مواطني الوطن الواحد في المقامات والحقوق والواجبات بل وحتى الانتخابات! وللحقيقة، فإنّ تلك الجهود الحثيثة ،والخبيثة بنظرنا، يُمكن تحرّيها في عددٍ من الأصوات بحزب المؤتمر الوطني الحاكم وبعضٍ من مشايعيه . كذلك يمكن تحرّي قِلّة من أصوات الإنفصاليين داخل حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان، تجتهد في تعجيل حلول تقرير المصير بفارغ الصبر! وأغلبها تحرّكه ردّات الفعل، وذلك حتى تكتحل أعينها بمرآى السودان ممزّعاً بين الاتجاهات السياسية المتنافرة وتنفصل بما تعتبره " جنوبها المحبوب" بُغية أن ترتاح من وجع الشريك المتهوم ،بحق، في المماطلة بتحرِّي الدقّة في إنفاذ مقتضيات اتفاقية السلام الشامل.
***

لاشكّ في أنّ تحقيق الوحدة الطوعية سيزيد من وتائر استقرار السودان ونمائه، وبالتالي الحِفاظ الآمن على إنسانِه ومقدّراتِه . بالمقابل فإنّ في انفصال السودان مظنّة عُظمى ،تلامس تخوم اليقين، بالرجوع لمربعات عدم الاستقرار والتخلف فالتشرذم ومن ثَم فالعودة الى الحرب الأهلية الذميمة التي جثمت على صدور أهل البلاد طويلا . وما الحربُ إلاّ ما علمتُم وذقتُمُ! وما هو عنها بالحديث المُرجَّمِ .
***

إنّ الوحدة القهرية التي يسعى للاستمساك بها بعض وجوهٍ سياسوية متهارشة ! أصالةً عن أنفسهم الأمّارة بسوء الحُكم وشموليِّته وتجييره لذواتهم الفانية ومن والاهُم من الطامعين، لاتفرق كثيراً عن حالة كونها مشروع انفصال سريع "الذوبان" وبأثمان فادحة في الأرواح والممتلكات؛ والحال أنّ الحزبَيْن الشريكَيْن هما الأكثر مدعاة للمحافظة على وُحدة القُطر ، لو لم يكُن من أجل ميزات الوحدة الطوعية ومضمون ثمارها الطيِّبة للبلد الذي يحكمان، فعلى الأقل من أجل التزامهما بما اختطّـا ووقّعا من اتفاقية سلام شامل " تاريخية" لايغمطهم الشعب انجازهما الفريد في تقعيدها كمنصّة انطلاق حُكمي جديد كانت أولى فضائله إيقاف نزيف الحرب الذي أوهن البلاد كثيراً .
***

الوحدة الطوعية في مثل حالنا السياسي المائل منذ أزمان، غاية تُبتَدر إليها كِرام الجهود الخيِّرة لما تواتي به من ترميم لعُرى التواصل الانساني بين بني الوطن الواحد من خلال عمارة الأرض وما يقتضي عمرانها من مركوزات القِيَم الفاضلة في حياة كريمة تحفظ للمواطنين أرواحهم وتُبقي على سلامة أبدانهم وتحقق طموحاتهم في الرفاه الاجتماعي المنشود.
***

إذا نظرنا في سوداننا اليوم وإلى ماضيه القريب مستصحبين ما اشتجر فيه من مصالح على مَرّ سنوات تكوينه، وكذلك إلى ما توفّر من فُرصٍ للاستقرار والنّماء ؛ فإنّ الأحوال السياسية المعاصرة ، وعلى عِلاّتها الكثيرات، تُعُدّ الافضل والأجدر على اجتراح الحلول الموضوعية الناجزة لما يعانيه القُطر من تمزُّق وما يواجهه من تحديات جِسام . وها هنا يتساءل المرء: أفلا يؤدِّي كل هذا ،والذي يكاد أن يكون من المعلوم بالضرورة، لفضّ هذا الجدال السياسي العقيم حول مزايا الوحدة الطوعية ومساواتها في نظر البعض مع مزايا مزعومة لانفصالٍ غير مأمون العواقب؟ ألم تعجز الحركة السياسية الحاكمة حتى حينه عن الوصول الى اتفاقات مُرضية في قضايا أيسر تعقيداً من الوحدة القهرية ؟ لقد أعيا ترسيم الحدود بين شِقِّيْ القُطر،والتي كانت معرّفة ومعروفة من قبل!( مثلها في ذلك مثل كثير من حدود المديريات السودانية الأخرى والكائنة من قديم الدهور والآباد) الشريكَيْن فكيف بالإنفصال الذي لم يألفوا نزاعاتِه ، بل لم يوطّنوا أنفسهم على معاسرة مقتضياتِه؟ وبالتالي ليس لهم من طاقات لمواجهة مشاكِله .















==============
منشور بصحيفة "الأحداث" بالخرطوم - يونيو 2010
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

[align=justify]





حـكومة جديدة وجَـبْ تســديدها **



بعد مرور ما يقارب الستين يوماً من نبأ اكتساح المؤتمر الوطني الحاكم للانتخابات العامة في أبريل 2010 فقد تمّ أخيراً إعلان تشكيل الحكومة الجديدة، والمُناط بها قيادة المسيرة التنفيذية خلال ما تبقّى من فترة انتقالية قصيرة ومشحونة بأمّهات القضايا. وذلك بموجب اتفاق السلام الشامل في 2005 مُتعثِّر النفاذ حتى حينه. وفيما يبدو، فإن المؤتمر الوطني قد نثر من بين يـدَيْ قِـلّة من سادته العظام،كما جرت العادة، معدودَ عيدانِه السالم منها والمثلوم، الأليف منها والمتوالِف! ولم يألُ جهداً في عجمها وتصفيفها ليخرج على المنتظرين بتشكيلة حكومية واعدة وجديدة في بعض مظاهرها ولا تخلو،مع ذلك، من قِدَمٍ وسوابق تجريب بائسة في محتواها، سيعودان بها سِراعاً إلى القاع المألوف والمجرَّب! إن لم يدفعا بها للتعثّر في ثوبها الفضفاض ذي السبعة وسبعين عٌقدة وزارية .
***
على الرغم من الهمّة الشبابية التي تطعّمتْ بها التشكيلة الجديدة،وهذي بُشرى خير، إلا أنه قد تبَدَّت للعيان نواطير الحرس الإنقاذوي القديم،وهذا نذير شؤم، تلك التي ظلّت مستمسكة بمقاعد تنفيذية مفصلية في احتكارية مقيتة ؛ لا سيِّما وأنّ هذه الشخوص لم يتيسّـر لها تحقيق نجاحاتٍ مشهودة، بل شابَ تعاطيها التنفيذي كثير من القصور المعيب على طول ما جثمتْ ثمّ جمدتْ بلا حِراك يُذكَر ودون إنجازاتٍ تُعَد فيما تجترح من تعاطٍ سياسيٍّ غير خلاّق . هذا تفريطٌ في أمر الناس إن لم يكُن إفراط في التوالي بالعصبية المذهبية ما ارتبطتْ بالطاعة العمياء ! أو لعلّه إيغالٌ في اشتراء حُسن الصُّحوبية حتى وإن كان الثمن على حساب استقامة التكليف الحُكمي العادل ؛ وذاك أمرٌ كثيراً ما شنّف دهاقنة الحزبُ الحاكم آذانَ الناس به في الغدوِّ والرّواح بغير جدوى ملموسة ولا خُطّة مدروسة وإنما مجرد كلام والسلام .
***
في اعتقادي، أنّ الحركة الشعبية لتحرير السودان، باعتبارها الشريك الأساسي في حُكم الفترة الانتقالية بمرحلتَيْها، قد اتّسمتْ بغير قليل من الدّماثة إن لم نقُل المسكنة! أو لعـلّها اللامبالاة في القبول بخارطة توزيع الأنصبة التنفيذية وإكثارها دون لازمة من جانب شريكها المتنفِّذ حزب المؤتمر الوطني الحاكم . وإن صَحّ هذا الاعتقاد، فكأنّما الحركة الشعبية (وما يزال جنوبياً هواها) قد بلغ بها الحرد مبلغاً عظيماً ! وعلى ذلك، فإنها تضمر انعزالاً لا يتطابق وروح اتفاقية نيفاشا والتي تؤطِّر للوحدة الوطنية والتحوّل الديمقراطي مع غيرهما من الوسائل والأهداف السياسية التي ترمُّ من عَظْم السودان الذي بدا عليه الوَهَنْ وسرت فيه الهشاشة فأضحى قابلاً للكسر .
***
إنّ وراء الأكمَه ما ورائها ! وهذا ما نثِقُ فيه كثيراً بعد أنْ ضنّتْ الحركة الشعبية بوزراء صفّها الأوّل عن الحكومة القومية لتستعين بهم في الجنوب، كما زعمتْ! والحال أنّ الشراكة الحُكمية القائمة تحتاج لهذه المقامات الرفيعة " اتحادياً " علّ وعسى أن تثمر شيئاً في بلقع الراهن السياسي ونكباته الكبيرة في مختلَف مستويات القيادة السياسية الرشيدة، وهيَ الأشدّ حوجة إلى الجدّية في تنفيذ آلاء اتفاقية السلام الشامل باعتبارها المهمّة الرئيسية لهذه المرحلة الحَرَجة المتبقية والتي ستنتهي في يوليو 2011 وتتوسّطها زلزلة الاستفتاء لشعب جنوب السودان . وإنّها لزلزلة تفعل أفاعيلها، منذ الأمس، في كلا الشريكَيْن، وبل وتتمدد أفاعليها في بقيّة الرّكب السياسي المهموم .

***
دون التقليل من درجة القبولية الجيِّدة التي استُقبلتْ بها التشكيلة الجديدة للحكومة لدى الرأي السوداني العام، إلا أنه ليس من المضمون أنّ مزيَّة الهِمّة الشبابية في التشكيلة الوزارية الجديدة هي عامل الترجيح الأسنى في قُدرة الحكومة على التعاطي الجاد فيما ينتظرها من شؤون وأعمال وتوجّهات . ذلك أن معظم الوزراء ووزراء الدولة في هذه الحكومة لهم سابقة الاشتراك في مفاصل اتخاذ القرار التنفيذي في الفترة الانتقالية المنقضية في أبريل الماضي سواء على المستوى الاتحادي أو الولائي؛ وفي الغالب، لم يؤثَر عن معظمهم نجاحات في تفعيل ما يليهم من أمور تنفيذية، بل كانوا نِعم الكادر المولى الموالي! الذي يحافظ على مركزه السلطوي " في رقبتو " كحتمية لا تزاحمها أيّ احتمالات غير مضمونة الجانب . كذلك، فقد تجد هذه القبولية المعقولة في استقبال الناس للتشكيل الوزاري الجديد، تفسيرها في انزياح الهاجس الذي خيَّم على صدور الشعب بسببٍ من تمدّد الفراغ الدستوري الذي خلّفه حل حكومة الوحدة الوطنية السابقة دون أن ترشَح ملامح اتفاق بين القابضين على أمر السُلطة والحُكم والثروة حول التشكيل الحكومي الجديد .
***
على ضوء ما جاء بأعلاه، فإنّ التشكيلة الوزراية الجديدة ما هيَ إلا صناعة شريحة تنفيذية تُعدُّ على أصابع اليد الواحدة..! وليست نتاج قاعدة " حزبية" عريضة تتكامل فيها الرؤى والاتجاهات ضمن إطارٍ حزبيٍّ كبير . تلك الشريحة المتنفِّذة ظلّت قابضة ومتفرِّدة بالأمر الى ما يزيد عن عشرين عاماً بالإنقلاب ثم بالاتفاقيات العديدة وأخيراً بالانتخابات الكاسحة الماتحة من خزينة الشعب السوداني الغنيِّ وأمواله المواعيد! وبالطبع، فللذين شكّلوا الحكومة رؤاهم وبرامجهم التي على هديها يتخيّرون واجهاتهم التنفيذية من بين وجوه عديدة كلها تنتظر التوزير! بل إنها على استعداد لمقايضة المنصب التنفيذي بالغالى والرخيص دون أن يتخلل هذه المقايضة ولو كلمة " يفتح الله ". بالتالي، فالحكومة الجديدة ليست بحالٍ حكومة ديمقراطية تعمل حساباً للرأي العام في تعاطيها للشأن العام.

***
اللهمّ إنّا لانغمط الناس أشياءهم، ولا نبخسهم حظوظهم برغم ما يسدّ الآفاق من تلوُّن وتزلّف! وفي كل الأحوال، فلابد من التعامل العقلاني مع كبيرات الأمور والرّضا بما يجود به واقع الحال من اجتراحات تسعى، على عراجتها البائنة، إلى نهوض بلادنا وملافاة العجز الإداري المقيم بأمل تغيير أحوال الناس من سييءٍ الى أفضل. فالبلاء بعد الاختبار، والصبُر على بعض المكروه خيرٌ من تحمُّلِه كلَّه ! .. ومعلوم أن المكروه يحيط بواقعنا السياسي المعاصر ولذلك، نأمل من الحكومة الجديدة أن تحزم أمرها على الجدية المطلوبة للاقتراب من القضايا الماثلة، وألآ يستبعد أفرادها أن يصبحوا، بين عشيّة وضحاها، في وادي النسيان الكبير، ذاك الذي سكنه الآن أفرادٌ كانوا ملء السمع والبصر التنفيذي السلطوي بالأمس! ولله في خلقِه شؤون .






-----------------

مقال منشور بصحيفة "الأحداث" - الاسبوع الرابع من يونيو2010م
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

[align=justify]
..( مقال *)..


العاصمة القومية .. كَثَرة السـِّجال وقِلّة الفِعال واستدامة سـوء الأحـوال ..!

ليس من سببٍ يدفعني للتشكيك في النوايا الخيِّرة للقائمين على أمر الشؤون البلدية لعاصمتنا القومية الخرطوم في سبيل ترقيتها وإعلاء شأن ساكنيها. ويا لها من نوايا مرتقبة يسهُل تلقينها في واعية السّامعين من خلال الخُطط المبسوطة بأهدافها المتوخّاة. يتفاءل الناس خيراً طوال بثّ تلك الخطط وإشهارها من خلال تقعيد الكلام الكُبار كُبار في مواعينه الاعلامية الرّائجة . يتمدد التفاؤل بترداد الخطط والاهداف الخيِّرة وبتصاعد النبرة الحانية لأعالي الآفاق كأنما المطلوب فقط، إسعاد الخواطر وتلطيف الأجواء بحلو الكلام في نهجٍ أقرب لتغليف السّمِّ بالعسل! ولكنني أقفُ والعديدون على أكثر من سببٍ وسبب للتشكيك في جدوى ما تقوم به سُلطات الولاية وعسسها وجُباتها من أفاعيلٍ بالناس! تتعارض وسُبل ترقية العاصمة ومراعاة شؤون ساكِنيها المغلوبين على أمرهم! بل تحيلُ هاتيك النوايا الخيـِّرة عند حُكّامهم الى مجرّد ملمح لحجوة أم ضبيبينة " السياسية" القديمة المتجددة بدلالاتها الحائرة، مستصحبة للمَثَل السّائر : حشّاش بي دقينتو ! وقد صدق مَن أشار إلى أنّ النظرية "السياسية" رمادية ، بينما شجرة الحياة دائمة الاخضرار .
***

ليس خافياً على أحد أنّ المتعسـِّفين من نافذي الولاية ينتشرون، وقد يندسّون أحياناً ، بين طُرقات محليّاتها ومداخل جسورها ومضايق أسواقها المترهِّلة يترصّدون المارّة . يقمِّحون السائر والراكب والمنسرب خيفةً من العوارض! يوزِّعون غُصصاً من القهر والإفقار أشدّ لكاعةً من تطبيقات ومماحكات توزيع السلطة والثروة النيفاشوية. إنّهم يؤخِّرون المستعجِل ويوهمون المتأنِّي بنجاعة الإسراع بما هوَ أشبه بليِّ الذِّراع وَ فكِّ الكُراع! وذلك بما يتمتّعون به من سُلطاتٍ باتعة لاتأبه في كثيرٍ من الأحيان بالحقوق العامة ولا الواجبات؛ فلا يملك المغضوب عليهم تجاهها غير التسليم بأنْ لا أحد يعرِف اسمه أكثر من الحكومة! فيغمغمون حانقين على ما يصيبُ مشاريعهم الصغيرة من فشلٍ ذريع بأيدي أهل الحل والعقد. تتبدّد على إثر ذلك أمنياتهم المستطيلة في تلك المقولة الجميلة " ومستحيلة " تخفيف المعاناة عن كاهل المواطنين! وليس من تحقيق بعد كل هذا التبديد والعسف التليد .
***

إنّ سيِّئة الذِّكر " الكشّة " ما تزال هيَ الطريقة المُثلى لحفظ النظام وضبط الأسواق والأذواق، وربما هيبة الحُكم في عاصمتنا القومية ،فياللإفتراء إذن! يداوم عليها ولاة أمر العاصمة القومية وربائبهم من المتنفِّذين؛ على الرغم ممّا شاطَ بسببها من دماء لأبرياء من اللاّئذين بعرض السوق الحمقاء، كآخر معاقل السـّبوبة وتحريك الحال الواقف. وإن أنسَ لا أنسى فاجعة ذاك اليافع الذي راح ضحية الرعب الولائي! تطارده الصيحات الهاجمة وشهيّة المصادرة وقتياً لهوينات من أشيائه الصغيرة يجول بها في صبرٍ جسيم تحت هجير الشمس أو زمهرير البرد مُساقاً لملاقاة منيّته بوقوعه من بناية تحت التشييد بوسط الخرطوم مغدوراً به "عليه الرحمة" . لقد كان الحدث المأساوي من الشّهرة بمكان، وربما كانت له مشابهات لا تُحصى. مع كل ذلك فما تزال سُلُطات الولاية سادرة في غيِّها وصمّاء عن أن تُغَيـِّر طرائقها المميتة في سبيل ترقية العاصمة وضبط أسواقها حتى وإن كانت أثمانها مقتطعة من دماء ضُعفائها؛ فهل نضُبتْ الأفكار أم ساءت الأقدار؟ أم أنّ ضُعفاء الولاية المُستجيرين ببهرجها الكالح لا بواكي لهم ؟
***

مع كامل احترامي للقوانين وضرورة اتِّباعها ، ومع تسليمي الكامل بأنّ الجهل بالقانون لا يعفي من تطبيقه حال اختراقه ، فالقانون لايحمي المُغفَّلين كما يروج بين الناس ؛ ولكن العدل هو الغاية المنشودة من تطبيق القانون، وبالتالي، فالقانون وسيلة تتوسّل بها السُلطة لبلوغ العدالة . فإن كانت الوسيلة مؤدية للهدف بحسب النسبية وسيعة الاتفاق الشعبي، فبها ونعُمتْ، وإن كانت الأخرى فلا مناص من تغيير الوسائل تقليلاً للخسائر والتزاماً بالقيَم الفاضلة في المجتمع، وتحقيقاً لغايات العدالة من خلال الحفاظ على حقوق الناس حسبما يرتِّبها دستورهم الحاكم؛ ودستورنا القومي الانتقالي لعام 2005 وافٍ ، فيما نعتقد، بهذا الشأن الحقوقي العام إن تجمّرت له الكفاءات واحتشدت له الإرادات السياسية الخيِّرة وحسُنتْ النيّات والدوافع والمقاصد .
***

عاصمتنا القومية تغلي هذه الأيام في تنور الصيف اللاهب بارتفاع درجات حرارته منذ ساعات الصباح ، ناهيك عند الظهر . يتصبب الناس عرقاً من شدة الحرارة ومن شدّة الزحام في الطرقات وداخل عُلب الحديد التي تسير على عجلاتٍ بطيئات بفعل التزاحم وسوء الطريق! وهذا الابتلاء الصعب لا يقف عند هذا الحد المقدور عليه ،نوعاً ما، بشيء من طولة البال وتقدير عواقب المواجهات مع المتحفِّزين لها، بل والمُحَفَّزين عليها! ولكنه يزداد ضغثاً على إبالة بأصدقاء الشعب(!) الواقفين على خدمة شعبهم في الزّنقة " أم لساناً حار" في عزيمة لافتة لملاحقة يسير المُخالفات بما تستجلبه من غرامات تشيحُ عنها الوجوه بكل بؤس الدّنيا، ولا مَفرّ ! ولا مخارجة إلا بالإيصال "إيّاه" ثلاثون تُقصِّر الخُطى وتشيع في نفس الدّافع قتامةً ليس بعدها إلا غليان الدم في العروق والتجمّر للمروق من ربقة الظلم المنصبّ على الضعفاء منذ أزمان سياسية عرجاء ما تزال تعيد فينا خطلها القديم المتجدد على مَرِّ النُّظُم السياسية التي تنكّبت واضحات السُبُل.
***

بكثير من التفاؤل يتلقّى ساكنو العاصمة القومية ، هذه الأيام ، إخباريات مناشط الوالي القديم والمنتخَب حديثاً: دكتور عبدالرحمن الخضر وهو يتقلّد مسؤولية ضخمة في تسيير العمل الديواني كحجر أساس في بناء فعالية الحكومة الجديدة . فالخرطوم ، ما هيَ إلاّ السودان مُصغَّراً ؛ إن صلُح حالها انصلحت أحوال مدائن السودان القريبة والقصيّة منها . أمّا إن ساءت الطرائق بمثل ما يجري فيها حالياً، فلن تؤاتي الجُرأة الحميدة حواضر السودان وبواديه لتعديل قامة الأحوال البائسة. بلا شكٍّ كبير، فإنّ الخرطوم، قصبة البلاد من أدناها لأقصاها ،أقلّه حتى الآن! وتحوز بارتياحٍ على خانة المثال السّهل الإتِّباع، وبطرائق حلوله المبتدعة ،تهتدي بقيّة العواصم الإقليمية؛ أكثرُ من ذلك، فإنّ الشروط الادارية الملائمة للعاصمة القومية تُعَدّ بمثابة منصّة الانطلاق الكُليّة لتنفيذ برامج الحزب الحاكم ومشارِكيه المتحالفين معه وتعميمها بكل اليُسر على عموم البلاد .
***

لقد حدّدت ولاية الخرطوم ، وفقاً لبرنامجها الولائي الانتخابي، خمسـة محاور رئيسية تمثِّل جماع نشاطها التنظيمي والولائي لفترة حُكمها التي بدأت حديثاً . أولى تلك المحاور كما جاء بالصحف، هو المراجعات الادارية لشكل الحكم ، بالإضافة الى تشكيل المحليات وطرق انجاز المشاريع ومراجعة الرسوم وجبايتها والاهتمام بالخدمات وحصرها في عناصر رئيسية تتمثل في التعليم والصحة والمياه والطرق والكهرباء والصرف الصحي. هذه بداية تُبهج النفس " نظرياً " ولكن الحال " عملياً " ما يزالُ محلّلك سِــر؛ أو لعلّه محلّك قِفْ ! حسبما جرى سرده بأعلاه ؛ والحال أنّ الإدارة الحالية ليست ، في جميع أركانها، مُستَحدَثة! بل مُغرِقة في تعاطي هذا الأمر الشائك لعشرين عام خَلتْ ! فالبِدار البِدار يا هؤلاء المُكلـّفين بأمور الناس ، وبالأخص في محور المراجعات الإدارية لشكل الحُكم البلدي الجاري! فما عاد الحالُ يُبشـِّر بأيّ خير ،ولله الأمرُ من قبلُ ومن بعد.





-------

* مقال، نشرته صحيفة "الأحداث" - الاسبوع الأول من يوليو2010
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

[align=justify]



...( مقال * )


حكوماتنا المتعاقبة .. فداحة الادِّعاء وضيق الحيلة السياسية..!



في مقابل مظاهر البؤس وتراكم الاحباط والضائقة الاقتصادية التي تعتلي سوح بلادنا في المدن والأرياف، كنتيجة طبيعية لانخذال الطموح العام في التطور والنماء بسببٍ من التجريب السياسي الفاشل منذ حقب وعهود، لم تجد الحكومة وأربابها من المتنفِّذين غير أن تتوسّع في ادعاءاتها وتوقعاتها العظيمة بأن الغد هو الأحلى وأنّ الابتلاء "حدّو" قريب وأن دنيا الناس في السودان ستنفتح عليها بركاتٍ من السماء والأرض، بل ستصير حياة أهله الى بُلهنية العيش المرتجى . هذا وبما أنه قد تصالح كثيرٌ من المنكوبين بلأواء الحياة وضنكها مع مقولة : حلم "الجيعان" عيش ، فقد ظل أكثرنا في هذا الوطن الحدّادي مدَّادي وحَبُّوب، قابضين على جمر ذاك الحلم الذي لم ولن يتحول بسهولة الى واقعٍ مُعاش طالما اتسمت حكوماتنا المتناسلة بعبء الادّعاءات الوسيعة مصحوباً بقِلّة الحيَل السياسية البديعة، تلك التي تتنزّل بالنظريات والشعارات الحكومية الى برامج عملية، وتترجم أقوال نافذيها الى أفعال، وتحوّل أحلام مناصريها إلى حقائق يعمّ خيرها الجميع .

***
السياسة هي فنّ المُمكِن كما اصطلح الناس وليست، بأيِّ حال، نفيُ المُمكِن وتجريب الاستحالات كما يجري عندنا! وبالتالي فالسياسة الناجحة هي تلك القادرة على ابتداع الوسائل العملية المؤدية لتحقيق الغايات الكريمة من استقرار ونماء وهلمّـجرّا . بطبيعة الحال، فلن يتأتى لأيِّ من الحكومات القائمة على أمر الناس، التمتع بنسبيّـة مقدّرة في مَلكة ابتداع الوسائل العلمية والعملية "الممكِنة" مالم تتصالح أولا مع الواقع الذي تعيش . ولا يكون التصالح مع الواقع إلا بالمعرفة التامة بمصادر هذا الواقع وموارده، إمكاناته المتوفّرة وطموحات أهله، ومن ثَم ، السير بتلك الإمكانات هوناً من خلال الترتيب الصارم لتناول أولوياته الأكثر ارتباطاً بالقضايا العالقة . والسايقة واصلة ،كما يقولون، غير أنّه ،وبصريح العبارة، فإنّ "سايقتنا" السياسية ، الأشبه بساقية حجا ، كثيراً مـا ضلّت بنا الطريق ! إذ ظلّت تغمرنا بنهجها الإقصائي وتطمرنا بالاستراتيجيات الشاملة والخطط المرحلية الفطيرة، زاعمة بأنها الأجدر بتحقيق الشِّعارات الحالمة من أمثال: نأكل ممّا نزرع ونلبس ممّا نصنع! والنتيجة أنه لا زرعٌ آضَ ولا لبسٌ استفاض ! بل أصبحنا أقرب ما نكون من حكاية "وبِقَتْ" النهاية المحزنة، أو نكاد. دليلنا الملموس على هذه الرزية والذي لا يقبل الدحض ، يتمثّل سياسياً في حال اللاسلم واللاحرب التي تعيشها بلادنا منذ زمن ، كما يتمثّل اقتصادياً في حال اللاتخطيط واللاتهيئة واللاّحُسن إدارة ! وبالتالي ليس من عائدٍ ملموس في القطاعات الانتاجية.

***
تتعدد مظاهر الادّعاءات الكبيرة في سيرة حكوماتنا المتعاقبة . وإذا أردنا أن نؤرّخ لها على سبيل المثال، لما تجاوزنا ادّعائها الكبير في 1989 بأن نهج الإنقاذ الوطني وبما يتميّز به من ضبط وربط ، هو الأقدر على الحسم وتحقيق استقرار وأمن البلاد والعباد بما يستبطن من نجاعة في تحقيق الانجازات السريعة والبديعة في آن، وهيهات ! ذلك أنّ البلاد قد اتسعت فيها باحة الحرب الأهلية لمدة ثلاثة عشر عاما حسوما بسببٍ من ذاك الادّعاء الأجوف ؛ وبكلفة باهظة في الأرواح والممتلكات قبل أن تصل مثخنة الجراح الى توقيع ميثاق ميشاكوس 2002م بعد أن جنحت حكومة الأمر الإنقلابي "الواقع" مضطرّة ، الى السِّلم ولسان حالها : مُكَرهٌ أخاكم لا بطل ! وللأسى، لم يتم التوظيف السليم لحصاد ميشاكوس من إعلاءٍ واجب للحوار المنتج كآلية ناجزة ، بين الفرقاء ، في حل الأزمات عندما برزت على السطح أزمة دارفور في مبدئها . إذ سرعان ما ارتكست الحكومة الى نهجها العراكي القديم وادّعائها بنجاعة الحل العسكري في حسم الأزمات الداخلية ؛ فانجرّت في غير رويّة الى التعامل العسكري مع أزمة دارفور منذ عامها الأول في 2003 وذلك على الرّغم ممّا توافر بيدها من ميشاكوس 2002 وبالنتيجة، فإنّ أزمة دارفور المحدودة ، في مبدئها، قد تعمّقت جراحاتها وتوسّعت محرقتها لتتحوّل الى كارثة قومية تزداد فحيحاً مع الأيام وما تزال .

***
بعضٌ ممّا جرى سرده بأعلاه، كافٍ باعتقادي للتدليل على العجز السياسي الكبير والذي طغى على غالب نشاطات الحكومة في منشطها ومكرهها ؛ وتعزيزاً لهذا الدليل، فهاهي الحكومة ما تزال تطارد أحداثها التي تخصّها في سِلم وأمن مواطنيها بين عواصم الجوار الإقليمي وعابر القارّات . لاهثة الى الحوار مع الفرقاء بعد أن أضاعت فُرص الحل الآمن وكان في متناول يدها . وهي إذ تفعل ذلك، تتناسى أنّها قد لفظتْ ، أو كادت، ما تحصّلت عليه من اتفاقات سابقة في مسيرة الحل لكارثة دارفور . كذلك، فإنها لا تتعِظ كثيراً فيما يبدو، حينما تسلك نهج التهاون في الإنفاذ الحقيقي لاستحقاقات اتفاق نيفاشا؛ والذي وطّد سلاماً كان مفقوداً في جنوبيِّ البلاد وخطوط تماسـه بالشمال، بل كان للحرب الأهلية، أكبرُ الأثر في استدامة تخلف البلاد في عمومها عن ركب التقدم .


***
بدون شك، فإنّ العجز السياسي المرتبط بفداحة الادّعاء الحكومي، لم يقف عند طموحات البلد في السِّلم والأمن، بل تعدّى ذلك ليطبع أثره في كافة وجوه النشاط الاقتصادي والاجتماعي في البلاد. والسودان قبل اكتشاف وتسويق البترول، كان يتمتّع بشيء من المُلاءة الاقتصادية القائمة على النشاط الغالب لسكانه في الزراعة والرعي بأكثر من مُلاءته الاقتصادية المشكوك في أمرها حالياً حتى بعد تدفّق البترول السوداني ! ولعلّه من المناسب هاهنا أن نستذكر ذاك الادّعاء الأجوف للانقاذويين في تعليل انقلابهم على الديمقراطية الثالثة 86 – 1989 والمفيد بأنّه لولا انقلابهم على الحُكم لوصَل سعر الدولار إلى عشرين جنيهاً سودانياً؛ ولنتأمّل الآن في وصول سعر الدولار إلى أكثر من 2700 ،هذه الأيام، من نفس قيمة الجنيه السوداني القديم "ذات نفسه" لولا مكيدة تغيير العُملة السودانية التي أدخلت الناس في حيص بيص ما يزال يغبّش قدراتهم في العدّ والإحصاء السليم لأسعار السلع والخدمات ؛ ومن نافلة القول، إنه لمن رابع المستحيلات التوفّر على إحصاءٍ دقيق لمستوى الإفقار الذي حدث.

***
بوصولنا الآن الى بَرٍّ آمن ، بعض الشيء، بالتصالح العمومي "المكتوم" مع ما رشَح من انتخاباتنا العامة في أبريل 2010 برغم ما لحِق بها من وصمات بالتزوير وعدم شفافية ومخالفة للمعايير الدولية والمحلية ، فإنه لامناص من تفعيل أدوار مؤسسات الحكم التي تمّ تشكيلها وإجازتها مؤخّراً بناءاً على نتائج الانتخابات ،على عِلاّتها، في جميع مستوياتها التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وبالأخص، مؤسسة رئاسة الجمهورية كرُبّان لسفينة السودان التي طالت بها طيل الإبحار في بحور الظلمات. وحيث أنّ القضايا العالقة تسدّ أفواه الطُّرق! فسيكون من الأجدى تناول الأقرب حاجة للنظر والاستقصاء بحسب معطياته الزمنية والمكانية . بل ليت واحدة من مؤسساتنا الحُكمية تتبنّى إجراء تشكيل لجنة تقصِّي حقائق " حازمة " للنظر والفحص والمحاسبة والمجازاة لما يخيّم من فشلٍ وانهيار لواحد من أكبر مشاريعنا الاقتصادية (مشــروع الجزيرة) فقد طفح الكيل! وبلغ سيلُ العجز وسوء الإدارات الحكومية المتنفِّذة ما فوق الرُّكَب ! وكما قيل، كل حركة معاها بركة وكثير خير. وربّ شرٍّ تتّقيه دون خيرٍ ترتجيه .












------------
* مقال منشور بصحيفة "الأحداث" الخرطومية في النصف الأول من يوليو2010
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

[align=justify]



...( مقال * )


الراهن السياسي المأزوم .. مواجعٌ قابعة وأخرى على الطريق ..!



على الرغم من دخولنا مرحلة التحول الديمقراطي منذ بدء إعلان نتائج الانتخابات العامة منتصف أبريل 2010 فليس من تغيير قد حدث! إن استثنينا غياب بعض الوجوة السلطوية التي لم يحزن لغيابها أحد وإطلالة وجوه جديدة لم يفرح بحضورها الكثيرون حتى الآن. الأحوال في عمومها ما تزال تقبع في خانة السكون واللامبالاة، إن لم تتدحرج نحو الهاوية. الطرائق القديمة في إدارة الأمور اليومية هيَ نفسها السائدة الآن. ليس ثمّة تقدّم للأمام. جعجعة كثيرة ولا ترى طحناً؛ كأنّما هناك إلفة مع هذا الموات، أو هيَ استحالة في قدرة التعاطي المستحق مع ما يجوس من أزمات وضوائق في راهننا السياسي الغلاّب.

***
الجدِّية السياسية مفتقدة بشدّة، ناهيك عن أن تتّصف بالحيوية المفترضة بعد هذا التحوّل الديمقراطي المزعوم! مَردُّ ذلك في اعتقادي، يرجع الى التغافل الرسمي عن طبيعة المرحلة الانتقالية التي نعيش. وأنّها مرحلة تسوية تتطلّب نوعاً من المرونة السياسية وتغليب العام على الخاص في إرساء سُبُل الاستقرار. الهموم الحياتية لغالب الناس تتزايد ولا تنقص ولا تتغيّر كثيراً، بل تتمحور في ضرورات المعيشة اليومية، يمسون بها وعليها يصبحون وليس بالبال إلاّ بقيّة من أمل يبدّده الواقع الكالح في رمشة عين كما يقولون. والنتيجة أنه قليلا ما يحفل الناس بما يجري من تضميدات لإصلاح الحال المعيشي أو إحلال السلام أو تحقيق الوحدة؛ ونخشى أن نقول:ولا العدالة في مراقيها العليا بقدرما تسمح الطاقات والظروف والأوان.

***
مفاوضات سلام دارفور بالدوحة ما تزال مؤهلة للوصف بأنها مفاوضات مُستدامة لا تحظى بكثير اهتمام من جمهورها السوداني. قليلٌ مَن الناس يتابع تفاصيلها ويلمّ بسيرة أبطالها ومناضليها الأشاوس وخبرائها من داخل الحدود وخارجها؛ وأقلّ من أؤلئك المتابعين مَن هو آملٌ حقيقةً في خيرٍ سيأتي من بابها العالي! ويبدو أن الناس قد سئموا طول المفاوضات المكرورة بلا نتيجة ملموسة! فقد ظل الناس يُرزأون برتلٍ من المفاوضات التي لا تفضي إلاّ إلى مفاوضات آخرى وهكذا دواليك!

***
ألا يستوقف تطوال هذه المفاوضات أحدا؟ ألا يوجب ترقيماً وأرشفة لهذا الرتل المُصان من مفاوضات تكرر نفسها بين الفينة والأخرى حتى لا يدخل المفاوضون من نفس الباب الذي هجروه قديماً؟ من الواضح أن ترحاب الناس الأوّلي بمفاوضات الدوحة " الغرّاء، ومحسودة من بعض العواصم" قد انهار أو في سبيله الى الانهيار، وذلك لعدد من الأسباب. واحدٌ من تلك الأسباب، في اعتقادي، هو مغادرة حركة العدل والمساواة لهذا المنبر؛ بل وتعلـّقها بآمالٍ ومنابر أخرى تقيها شطارة الإنقاذيين " الزائدة " والسادرة في تقعيد ما يطيقونه من اتفاقيات قابلة للتدجين بالتي هيَ أحسن أو بتلك التي هيَ أسوأ! بالذات مع حركة العدل والمساواة، وبما لها من سوابق احتكاكات مع خصومها المفاوضين. هذه انتكاسة كبيرة وإهدار لزمنٍ عزيز في واقع ممتلئ بالأزمات و الخيبات والمُخيَّمات الآهلة بالنازحين في دارفور وغيرها من المناطق. وممّا يؤسف له أن علاقات السودان مع بعض دول جوارِه قد تأثرت سلباً بهذه المواقف التفاوضية المتلجلجة والتي تدوم وتدوم بغير أفق معلوم. وكما جرت به الحكمة ، فإنّ الوقوع في الشبكات سهلٌ، ولكنّ التأمّل في الخروج.

***
مسألة تقرير المصير لشعب الجنوب، ومع أنها تحظى بكل اهتمام، إلا أنه لا جديد في التناول المعمول به! فقد ظلّت الأحوال تتقلّب بين حدَّي التعاضد والتعاضض! فما يزال الشريكان الحاكمان يتماسكان الحِزز ويتجادعان بالتُّهَم ويملآن الجو صخباً بغير مرئيات تجبر بالخاطر السوداني المكسور! فإلى أين نُساق بعد كل هذه الرؤى المتناقضة وذاك البطء والاستباق بمفاوضاته واتّفاقاته المتراكبة؟ قد يبدو جلياً للعيان أن لكلٍّ من الشريكين يومُ بؤس يقترب فيه من فرض الانفصال ضربة لازب. ويومُ سعدٍ يهاتي فيه بالوحدة، بل والجاذبة كمان! تتعدّد الأصوات متنافرة الألسنة هاهنا وهناك. الواقع أنه لم يتغيّر شيء ممّا جرى قديماً منذ العام 2005 تاريخ تكوين حكومة الوحدة الوطنية للشق الأول من الفترة الانتقالية وما حفلت به من تشاكس سلطوي لا يزال يعشعش في الرؤوس المتناطحة، إن لم يبيض ويفرخ ويستعدّ للطيران!

***
صنوف المعاناة تتزايد على المواطن الغلبان، غلاءٌ في أسعار السلع الضرورية وعلى رأسها رأس القايدة " السُّكّر"! من الطبيعي أن تتقلّب بين حين وآخر، بعض أسعار السلع الضرورية بين العلوّ والإنخفاض، النّدرة والوفرة بحسب تقلبات عناصر انتاجها وطرائق إدارة توزيعها وتسويقها، وكذلك آليات العرض والطلب على هذه السلعة أو تلك الخدمة؛ لكنّه ليس من الطبيعي أن يترادف الفشل الإداري وراء الفشل! في حسم الأمر لآمادٍ لايعلم مداها إلا الله تعالى. وهذه الأيام، يشهد الناس مسلسلات مملّة من تبادل الاتهامات بين تجّار السكّر ومؤسسته وشركاتِه ووزاراته. كلهم يلعنون الاحتكار، ويُكثرون من البوبار، وإذن فمَن سرَق السِّعر واجتنى خبثَ الاحتكار في غلفة السلطة والتجّار ؟ ألا يُنبي هذا عن مُتنفـِّذين يتحكّرون في غير مراتبهم ؟ إذن فلابد من مراجعة هذا الأمر بكل الجدية المحاسبية والإدارية والقانونية حتى يكون نموذجاً لما يعقُب من أزمات تموينية، وحتى لا تتكرر نفس الأخطاء.

***
لم يهنأ الناسُ كثيراً بطموحات الولاة والوزراء على المستويين الاتحادي والولائي، بتأكيدات مجّانية التعليم في مرحلة الأساس، حتى أخرج الكتاب المدرسي لسانه للجميع! دع عنك الإجلاس الذي أقعد بكل طموحات الدولة في تحقيق شيء مفيد في وقته المعلوم. وأزمة الكتاب المدرسي ليست بالأزمة العادية طالما كانت مرتبطة بزمنٍ معيّن لمنهجٍ سنويٍّ محدد. وتزداد هذه الأزمة استشراءاً بقوّة عين الفساد الإداري والسلطوي إذ يموضع تجارة الكتاب المدرسي، والمطبوع على نفقة الحكومة، بارتياح في لجّة السوق التجاري، وعلى عينك يا نافذ! بل يتناول الناس غلاء سعره تجارياً دون كبير التفاتٍ إلى هذه العجيبة المدهشة! ممثلة في أنّ السُلطات الادارية والتعليمية في القطر المنكود تجهد نفسها في تقريظ قدراتها على توفير الكتاب مجّاناً ولا تستطيع أن تفعل شيئاً في تسرّب الكم الوافر منه للأسواق بأغلى الأثمان! أيّ أنه موجود ولا يحتاج لفترة اسبوعين تلاتة كما يقولون.
***
إضافةً لما ورد بأعلاه من أزمات، فهناك الكثير من المصائب التي تحيق بالمواطن السوداني من كل الاتجاهات. أزماتٌ طاحنة تخوض فيها البلاد منذ زمن وبلا وجيع حقيقي. وعودٌ علي بدءٍ، فإنّه ما من أحدٍ سيغالط في أنّ واقعنا السياسي مأزوم، وأن الناس في القطر يعيشون أوضاعاً سيئة تزداد معاناتهم بها يوماً فيوم. علاوة على ذلك، فإن التشكيل الحكومي الجديد لم يقدّم ،بعد، ما يُقنِع المواطنين بأنه قادر على اجتياز المنعطفات الصعبة؛ كأنما الحكومة تسير مغمضة العينين. وأن جهازها التنفيذي يفتقد التناغم بين مكوّناته ما يجعله ساكناً أمام أصغر القضايا! بالتالي فهو بالأكابر من قضايا الناسُ، أولى بالسكون المقيم، إن لم تستقم الأمور.








------------
* مقال منشور بصحيفة "الأحداث" الخرطومية في الاسبوع الثالث من يوليو2010
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

[align=justify]
..( مقال *)..


مشروع الجزيرة .. حالة شظف معطونة في تلف..!


يقولون: إذا كان الملاّح لا يدري إلى أيِّ وِجهةٍ يسير، فكلّ رياح تهبُّ عليه غير مواتية! هكذا حال مشروع الجزيرة الآن، أو هوَ بالضبط حالُ مَلاّحيــه غير المَهَرة! أؤلئك الذين يقودونه الى غير وِجهةٍ معلومة، اللهمّ إلا في خويصات نفوسِهم الشَّرِهة! إذ يعيش مزارعو المشروع ،هذه الايام، حالةً من الشظف، وتعمّ مرافقه العامة حالٌ من التلف والإتلاف المُستمِر، ويُعاني مُلاّك أراضٍ فيه بحدود ال40% من مساحته الكلية (وقد أضحت من أصول المشروع) ظُلم ذوي القُربى في عدم استلام إيجاراتهم عن ما مضى من سنوات أو تعويضهم عمّا تمّ نزعِه رسمياً! الغموض والتسيِّب الاداري هما سيـِّدا الموقف الحالي. والمخاتلة الاعلامية من جانب مسؤولي المشروع وقادة اتحاد المزارعين، تملأ المكان بأنّ الأمور سائرة في المشروع على قدمٍ وساق وليس في الإمكان أبدع ممّا هو كائن! وهيهات.

***

مسيرة تنموية طويلة تربو عن ثلاثة أرباع القرن، قطعها المشروع وكان له فيها اليد الطولى في دعم الناتج القومي السوداني باعتباره مشروعاً اقتصادياً قومياً يتمدد على مساحة زراعية خصيبة تزيد عن اثنين مليون فدان وتتمتع بريٍّ انسيابي سهل القياد. ومع ذلك، يقف المشروع اليوم على مفتَرق طُرق. يغرق في الفوضى بسببٍ من السياسات الزراعية والمالية المتراكبة والمتمادية والمنفلتة؛ ما أفقد شركاء همِّه الثلاثة ممثلين في حكومة السودان، والمزارعين وادارة المشروع ببركات، أيّ قدرة توافقية على السير به الهوينى ناهيك عن الحقحقة المطلوبة بعد هذا الميراث الزراعي التليد، وفي ظل هذه الحاجّة الماسّة لتطوير الانتاج الزراعي، في عالمٍ تتناقص فيه الغلّة ويقلّ فيه الغذاء بتزايد أعداد الجوعى!

***

لم يكن الانهيار الذي يرزحُ تحت خرابه المشروع وليد اللحظة. فذاك انهيار قد تواتر منذ حِقَبٍ سياسية متعددة، تسارعت فيها وتائر الفشل الإداري وتقزّمت فيها المساحات المزروعة رويداً رويدا، لأسباب تتعلّق بسوء الادارة الزراعية وسوء الرَّي وسوء التمويل وسوء التحضير وسوء التمثيل النقابي للمزارعين بالمشروع! وللأمانة فإنّ وتيرة الفشل الاداري للمشروع، قد تضاعفت في العهد السياسي الراهن، على الرغم من إعلائه شعارات الاعتماد على الذات، وبذله الاهتمام المقدّر في قمّة سلطته الحاكمة بضرورة تطوير المشاريع الانتاجية في السودان أملاً في زيادة الانتاج. بيد أنّ الناتج لتلك الشعارات وذاك الاهتمام الحكومي الكبير، قد تمخّض في مشروع الجزيرة عن فشلٍ ذريع! ذلك أنّ الإدارة الحالية للمشروع واتحاد مزارعيه، ويتصدّرهما جميعاً أنصار حكومة الانقاذ، قد عجزوا تماماً عن إيقاف الفشل المستمر لمسيرة المشروع، ناهيك أن يحققوا أيّ فتحٍ في تطويره وزيادة انتاجه واحترام كرامة مزارعيه؛ بل كانوا ،باعتقادي، الرهيفة التي تقطّعتْ بآمال المزارعين، وأهالت على طموحات الدولة كوماً من تراب.

***

لقد توفّر لهؤلاء المسؤولين "غير المسؤولين!" الكثير من الوسائل النهضوية لإيقاف فشل المشروع، غير أنّهم لم يكونوا بالجدية اللازمة ولا الحزم المطلوب. وكيف تتوفّر لهم الجديّة أو الحزم المطلوب وقد افتقدوا الخبرة والحس التاريخي بما يداورون من مهام. كما أنّه لم يُؤثر عن أغلبهم إلا التمادي في الفشل الاداري حيثما حلـّوا. وبسببٍ من هؤلاء المسؤولين، فقد تبدد استحداث النهضة الزراعية بالمشروع الى سرابٍ يلمعُ بالظمأ! بل أصبح قانون مشروع الجزيرة لعام 2005 مجرّد تصارخ في الهواء لايعدو عن كونه كلمة حق أُريد بها باطل! لم يدرك هؤلاء المسؤولون المقيمون دواعي الاستقلالية التي جاء بها القانون ولم يستفيدوا من حرية التركيبة المحصولية وغير ذلك من الآليات والوسائل المفيدة في ترقية وتطوير الناتج الاقتصادي للمشروع. لقد سقطوا سقوطاً شنيعاً باتّباعهم سُبل السياسوية وإغراقهم في المظاهر السالبة بتخصيص أكبر ريع المشروع للمصالح الذاتية في تجارات وارتخاصاتٍ مشهودة! فضلاً عن تسنّمهم أعناق المناصب المتعددة في الوقت الواحد دون أن يقدّموا إيجابية واحدة. لقد أضاعوا مسؤولياتهم في قيادة المشروع حينما تخالطت عليهم الأولويات بفعل المناصب المتعددة التي احتازوها في غير وجه حق. هذه هيَ السياسة العاطلة التي لا تنتج غير سياسويين فاشلين إينما قطنوا. وستطول حسرات المزارعين بالمشروع جرّاء هذا العبث السياسي غير المُنتج؛ مالم تتحدّد مسؤوليات الآثمين في ربقة هذا الفشل الكبير، وتفعيل قوانين البلاد ردعاً للمقصِّرين.

***

كما أسلفتُ، لم يكن الانهيار الحادث بالمشروع قرين هذه السلطة السياسة الحاكمة الآن، ففي أخريات شهر يونيو من عام انقلاب الإنقاذ 1989 على ديمقراطيتنا الثالثة، والثالثة واقعة كما يقولون! وصل الإشكال بين الحكومة الائتلافية ومزارعي مشروع الجزيرة حدّ الفِصال، واتّـجه المزارعون للإضراب عن الزراعة احتجاجاً على سوء الإدارة القائمة يومذاك وعجزها عن تحقيق مطلوباتهم المؤدية لإنجاح الموسم الزراعي، وضمان حقوق عملهم في حوّاشاتهم التي توارثوها أباً عن جد. استعصى الحل على قُدرات الحكومة الائتلافية، ولم تشأ أن تتنازل عن رؤيتها غير المقبولة بتاتاً لدى المزارعين. تمسّكت وزارة الزراعة ،حينها، بما تراه من حلٍّ مقدور عليه، تسكيناً للأمر ريثما تنصلح الأمور. وفيما يبدو، فقد كانت الوزارة متفائلة أكثر من اللازم في إمكانية الوصول الى حل سريع للإشكال. باعتباره من طينة الإشكالات السّهلة والممكن حلّها في ظل واقع مليء بجسام الحادثات من القضايا الماحقات؛ والتي يرزح تحت عبئها كاهل الحكومة الديمقراطية الائتلافية متعثرة الخُطى.

***

لم تصادف الحلول المقتَرَحة ولا التسكين المرحلي الذي انتهجته حكومة الديمقراطية الثالثة عبر ممثّليها أيّ اعتبارية لدى المزارعين؛ وازداد الأخيرون تمسّكاً بالحل الناجز أو الاضراب عن الزراعة! ولسان حالهم "يا روح ما بعدك روح" لاسيما وأنّ واقع تلك الأيام يتيح مجالاً لمطالبة الريِّس بأن يجيب الهواء من قرونو! وليس مثل هذا العصر الجبري ذي العين الحمراء والشفاه المتلمِّظة لأكل الكيكة منفردة! فقد كان الزمان زمان ديمقراطية وسيعة البراح في تصعيد المطالب والاحتجاجات الفئوية لمداها الأقصى. ولمّا عجزت الحكومة الائتلافية عن تحييد أنصارها بين مُزارعي المشروع لصالح ما توفّر لها من حلول، لم تجد غير الهروب الى الأمام والتهديد بأنها مضطرّة لاستجلاب مزارعين من مناطق السودان الأخرى كيما يحلّوا محل أهل الجزيرة المُضربين، حتى لا يتأخّر الموسم الزراعي عن موعده. في ظل تلك الأحوال، انتشرت مقولة فحواها بأنّ أراضي مشروع الجزيرة لا تعدو عن كونها أراضٍ حكومية، وأنّ الحكومة مَخيـَّرة في أراضيها! وتطابقت تلك القالة السلطوية بالفِرية الرائجة آنئذٍ "البلد بلدنا ونحنا اسيادا"؛ ليستعصي الفتق على الراتق! وتتأزم الأحوال مُمَهـِّدة أجواء قبول كبيرة للقادمين الجُدد من "بني إنقاذ" على صهوات دبّاباتهم يهللون ويكبرون بأن زمان الإشكالات قد ولّى إلى غير رجعة! وأنّ حكومة السودان ،ومع أنها في مختَلَف عهودها قد كانت أشبه بجنازة البحر يتطاردها العقلاء من غير أُولي الإربة ولا الدراية، فإنّها بسبيلها الى انفراج سيعود واستقرارٍ تنمويٍّ سيسود بعزيمة الإنقاذويين وحسمهم الناجز لما يُعاني منه المواطن في ظلال الحكومات الديمقراطية الضعيفة، وهيهاتٌ أخرى!

***

دخل مزارعو مشروع الجزيرة عصر الإنقاذ بأملٍ مأمول في انصلاح أحوال مهنتهم، تدغدغ مشاعرهم شعارات الحكومة الجديدة والتزامها بتوفير مطلوبات الموسم الزراعي الناجح من إدارة حقيقية وريِّ وميكنة زراعية وتمويل وغيرها؛ فتخلّ المزارعون عن إضرابهم الزراعي ثقةً فيما يسمعون، وأقبلوا على حقولهم مجتهدين وبين أيديهم ومن خلفهم وقُدّامهم نهّازو الفرص من قادة الإنقاذويين في أقسام وتفاتيش وقُرى وحواضر مشروع الجزيرة المروية؛ يزحمون المزارعين بدعاوي البعث الحضاري القادم والانتاج الوفير الذي يدقّ على الأبواب. ولم يمرّ الموسم إلا وكشّرت الإنقاذ عن نابها لتأخذ محصول القمح من المزارعين جبراً تحت السطوة الأمنية، وبما تراه من سعرٍ ليس بالضرورة أن يكون مُجزياً..! فقد عضّها الزمن الكلوب بتناقص المتوفر من مالٍ وطعامٍ وإدام! آنئذٍ ولم تجد غير أن تقايضه بفاتورة مقتطعة من المزارع الفقير؛ هكذا الحال الآن في مشروع الجزيرة، ادارة فاشلة ومزارعٍ مُستَــغَل يمتلئُ قلبه بالحسرة على هذا الضياع المُستمِر ودون توخّي نهاية لهذا الدرب من الآلام في أفقٍ قريب.






-------

* مقال، نشرته صحيفة "الأحداث" - الاسبوع الأول من أغسـطس 2010
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

[align=justify]
..( مقال *)..



النقد الأجنبي للمسافرين عبر صالات المغادرة الدولية..!


فيما يشبه فكّ آخر اليد، اتخذ البنك المركزي قراره بتسليم النقد الأجنبي المباع من الصرافات لأغراض السفر، للمشترين من المسافرين بعد دخولهم صالة المغادرة بمطار الخرطوم الدولي، وليس قبل ذلك بأية حال! مانحاً الصرافات مهلة حتى الثامن والعشرين من الشهر الجاري لترتيب أوضاعها ليتم تطبيق ضوابط القرار بحذافيره. وكان العُرف الجاري، بل ونُظُم البنك المركزي في هذا الخصوص، أن يتم استلام العملة المحلية من المشترين بمكاتب الصرافات وتسليمهم مقابلها من النقد الأجنبي في نفس المكان والزمان. في أشبه ما يكون بكلامنا الشعبي:أمسك ليْ وأقطع ليك! وفقاً للمعايير المتّبعة في هذا الخصوص؛ حيث تبدأ وتنتهي عملية البيع والشراء الحاضر من دون أن تتحوّل إلى تداين بدَينٍ إلى أجلٍ مُسمّىً بدخول صالات المغادرة وما أدراك! وبالتالي لا تتأثر هذه العملية المعقّدة بأيِّ فروقات في سعر صرف العُملة، والتي غالباً سوف تحدُث جرّاء تمدّد الزمن بين وقت الشراء بالصرافات وأوان الاستلام بصالات المغادرة الدولية، ما يفتح الباب واسعاً للتأوّل من المستفيدين في أيِّ جانبٍ وقعوا.
***

لقد صدر المنشور لينضاف الى منشورات المركزي ذات الصيت الإعلامي الكبير في الأسابيع الأخيرة، والتي لعلع فيها سعر صرف الدولار مقابل جنيهنا المقوّى ومتكّل بالشـِّعَب البترولية! ولكنه ،مع ذلك، مُضَعضعٌ بسوء تطبيق السياسات الاقتصادية والنقدية وغيرها ممّا يندرج تحت مسمى الشـِّعَبْ غير المنظورة، ربما! ويأتي تشبيه هذا القرار ،من جانبي، بوصف "فكّ آخر اليد" بسببٍ من طبيعة القرار، والتي لا تترك مجالاً لساسة البنك المركزي للتوغل أبوياً لأكثر من هذه الدرجة القاعدية؛ وهي درجة لم يكن لأحدٍ من المسافرين ولا مُتـّخذي القرار، أن يتوقع الوصول إليها بهذا الهبوط الاضطراري السريع والبلاد ما تزال تعيش في عصر عوائد البترول الدولارية. فالكلام هاهنا قد دخل الحوش، إن لم يكُن قد انحدر إلى البدروم! وفيما يبدو، فالقرار المتخذ تعوزه المرونة من حيث أنه لم يستصحب كم المعاناة الذي سيقع على عواتق المسافرين وأكثرهم يغادرون للعلاج أو الدراسة أو غيرها ممّا يندرج تحت مسمَّى العمليات غير المنظورة! وهذا توصيف ورد بصياغات الخبر في الصحف، وليس من جانبي. ولئن كانت هناك عمليات غير منظورة ومسموح فيها للصرافات ببيع دولار المركزي "النادر"! فمالذي يمنع من الاعتقاد بأنها هيَ سبب الطامّة؟ وبالتالي، فما أحراها بوقوف القرارات عليها ،وقوف شحيحٍ ضاع في التُّربِ خاتَمه، حتى تصبح عمليات منظورة ومحسوبة ومقيدة لأجل أن تسهُل مراقبتها ومراجعتها، ومن ثَمّ اعتمادها براءةً لذمّـة السياسات الاقتصادية السائدة وإقراراً بجدوى الرقابة المركزية الصارمة؛ قطعاً لدابر أي تلاعب متوقّع من سماسرة النقد الأجنبي وغيرهم من السماسرة غير المنظورين واجرك على الله.
***

مع الإقرار التام بأحقّية البنك المركزي في اتخاذ ما يراه من اجراءات تسهم في ترشيد استنفاد النقد الأجنبي الشحيح ،كما يقولون، إلا أنّ واقع الحال يفيد بأن القرار سيتسبب في ارتفاع قيمة النقد الأجنبي مقارنة بالعملة المحلية. وذلك بالرغم من أن المقصود من القرار عكس ذلك تماماً. فارتفاع الكلفة الإدارية بالعمل داخل صالات المغادرة ،بحسب افادة ممثلي الصرافات، سيفتح باباً لإضافة تكاليف جديدة على تقديم مثل هذه الخدمة؛ خصماً على جيوب المتعاملين من المسافرين المضطرين لشراء هذا النقد العاير! أضف إلى ذلك أن استلام النقد الأجنبي بهذه الطريقة، سيزيد من عذابات سفر هذه الشريحة المعنية من المسافرين في ظل سلسلة طويلة من اجرءات المغادرة ووعثائها من وعورات الاصطفاف أمام النوافذ المُعتمة لتكملة اجراءات السفر، والتزاحم أمام بوابات المغادرة في زمنٍ غير مُسعِف وأوانٍ غير مؤاتٍ لعدّ واستلام النقود الأجنبية؛ هذا إن لم يفقد المسافر صكّه في زحمة تحضيراته للسفر والتي قلّما تخلو من الجوباك! .. معلوم أننا هاهنا نتحدّث عن معاناة المسافرين الحقيقيين وليس المسافرين لأجل عيون اكتناز الدولار وربطه بخزائن سماسرة العُملات المنتشرين برّاً وجوّاً على عينك يا حكومة!
***

من خلال أدبيات خبر القرار، والواردة بالصحف المحلية، فقد اتضح أن البنك المركزي هو الذي يقوم بتموين هذه الصرافات بالنقد الأجنبي. وإلى وقتٍ قريب كان المركزي يموّن الصرافة الواحدة بما يعادل 250 ألف دولار اسبوعياً من العملات الاجنبية- كم عدد الصرافات العاملة يا تُرى؟- وبسبب شُح النقد الأجنبي فقد اضطر البنك المركزي لتقليل الضخ لما يعادل 70 ألف إلى 80 ألف اسبوعياً لكل صرافة، ما جعل بعض الصرافات تجأر بالشكوى من هذا التضييق المركزي! والحال أنّ المهمة الرئيسية لهذه الصرافات ليس بيع وشراء النقد الأجنبي، وإنما الهدف الذي تم التصديق بسببه لهذه الصرافات لمزاولة هذه المهمّة، هو استجلاب النقد الأجنبي من الخارج عبر العمل في التحاويل من خارج البلاد !! ونسبةً للظروف الاستثنائية -ويبدو أن الصرافات محظوظة بهذه الظروف الاستثنائية- فقد سُمِح بمنحها الدولار ضمن سلسلة القرارات الموجهة للصرافات من البنك المركزي. وكم كان على الأخير أن يُعلِّم الصرافات اصطياد السمك بدلاً عن أن يمنحها سمكة كل يوم! على رأي المَثل الصيني.
***

عند هذا المستوى من الرعاية النقدية الكاملة للصرافات، يتساءل المرء: أين البنوك العاملة تحت مظلّة البنك المركزي ،إذن، من هذه الهِبات غير المنكورة؟ وهل تأخذ نصيبها من هذه الهبات الغالية؟ولماذا تقوم الصرافات بمُهِمّات البنوك التي جُبلتْ عليها؟ وهل أثّر أو يؤثِّر هذا الضخ الدولاري عبر الأقنية المعلومة وغير المعلومة الى ارتفاع قيمته مقابل الجنيه السوداني "الجديد" ؟ فالأخبار تترى بوصول سعر صرف "شراء" الدولار الى 2.87 جنيه بعد أن كان في الماضي القريب يتراوح في حدود ال 2.25 جنيه.
***

خلفيات القرار تفيد بأن هناك اعتقاد لدى متّخِذ القرار بتسرّب النقد الأجنبي من الصرافات للسوق الموازي "الأسود" تحت ذرائع السفر المنصوص عليه بمنشورات البنك المركزي! ولذلك جاء القرار حتى يمنع هذا التسريب صيانةً لاحتياطات البلد من النقد الأجنبي بالمحافظة على سعر صرف معتدل وحقيقي من خلال تعديل آلية العرض "المنخفض" والطلب "المتزايد" للعملات الأجنبية لدواعٍ عديدة. وهذا اتجاه مقبول لولا أنه يستدعي التساؤل حول جدوى آليات الرقابة المركزية المعمول بها والتي ،فيما يبدو، قد مرّ من تحت جسورها كثير من التسرّب الضار للنقد الأجنبي والمؤذي كثيراً للاقتصاد الوطني! والحال أنّ رقابة البنك المركزي قد شغلت الساحة مؤخّراً باجراءات واتهامات لبعض الصرافات ومنسوبي بعض البنوك في التورط في هذه الأعمال غير المسؤولة؛ ولم ينصلح الحال باعتدال الصرف ولا قلّ الطلب على العُملات الأجنبية.
***

من الملاحظ أن التزاحم يزداد على الصالات الضيقة بالصرافات المنتشرة بعديدٍ من المناحي، مقارنةً بخلو صالات البنوك الفسيحة من مثل هذا التزاحم من أجل الحصول على العُملة النقدية الباتعة في مطاردة ما عداها من عُملاتٍ "جيِّدة!" نزولاً عند المبدأ الاقتصادي المعروف في قُدرة العُملة الرديئة على طرد العُملة الجيِّدة من الأسواق. وقد درجت الصرافات على تحديد عدد معين من المستفيدين يومياً بناءاً على سقف التمويل النقدي الذي تصيبه من المركزي، ومع ذلك، فالواضح أن هناك إهدار كبير لوقت وطاقات المسافرين في حرصهم للحصول على الدولار وغيره من العملات الأجنبية لضرورات السفر من علاج ودراسة، وسـينضاف الى ذاك الاهدار،لامحالة، معاناة جديدة ومهمومة بتحرِّي سلامة اكتمال العملية الشرائية الآجلة في وقتها ومكانها المعلوم في صالات المغادرة الدولية، وإلا كانت النتائج فادحة على المسافرين المضطرين.
***

للبنك المركزي أن يتخذ ما يراه مناسباً من قرارات تزيد من فعالية الضبط والرقابة التي يضطلع بها حفاظاً على موارد البلاد من النقد الأجنبي؛ ولكن أن تترادف هذه القرارات الكابحة في ظل اقتصاد موسوم بأنه اقتصاد حُر! وأن يكثر الضجيج حول هذه القرارات وما سبقها من قرارات متخذة في هذا الإطار من دون تحقيق الأثر الإيجابي "الاقتصادي" المنشود، فهاهنا مدعاة للتساؤل عن جدوى مثل هذه القرارات الضاجةّ والتي لم يؤثر عنها ولا عن سابقاتها تحقيق النتائج الملموسة في تحسين الأداء الاقتصادي العام وكبح جماح سعر صرف الدولار وعائلته من العُملات الأجنبية مقابل الجنيه السوداني الممحون؟






-------

* مقال، نشرته صحيفة "الأحداث" - النصف الأول من أغسـطس 2010
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

[align=justify]

..( مقال *)..


ورطة الوحدة بين النزوع إليها بسبق الإصرار والزهد فيها بالترصُّد..!

زعموا أنّ مؤذناً راتباً لصلاة الفجر قد خرج لرفع النّداء وكانت الشمس قد طلعت، فلمّا سألوه عن أسباب العَطلة أجاب: أنا خرجتُ في موعدي المعتاد، بيد أنّ الشمس بكّرت في طلوعها هذا اليوم على غير عادتها..! وتلك مزاعمٌ لا تنقطع عند بعض المتفيهقين والمتناضلين ممّن لا يبالون بتوريط نواميس الكون تبريراً لخطل تقديراتهم! وذلك حينما يجبههم الواقع الصلد بالحقائق التي لا تقبل الدحض. قريبٌ ممّا جاء بأعلاه، فإنّ تحقيق وحدة السودان طوعياً والابتعاد به عن شرور انفصالٍ ماحق، ليقتضي أوّلما يقتضي، الالتزام بما تمّ الاتفاق عليه في نيفاشا 2005 وتنفيذ بنود الاتفاقية في تطابقٍ مع ما ساد من روح وفاقية تلك الأيام؛ أو يصبح أمر تحقيق الوحدة رهيناً بتلعثمات ومزاعم البعض من القائمين على أمر السلطة السياسية الحاكمة في الحزبَيْن الشريكَيْن. كأنّما هذا الوطن التاريخي ليس له من وجيعٍ سواهم. وكأنّما اتفاق السلام الشامل ملكاً خالصاً للشريكَين المتشاكسين يفعلان به ما يشاءان. مع أنه اتفاقٌ تملّكه كل مواطني السودان. وبالأحرى، فهوَ اتّفاقٌ تأبى شمسـُه الوضاءة إلا أن تكشف زيف ما يرتأون من جدوى في إمكانية تحقيق الوحدة الطوعية ،فقط، عن طريق سبق الإصرار أو الترصُّد، ودونما استصحاب للعوامل الأخرى المرجِّحة للوحدة الطوعية أو الانفصال الآمِن في كلتا الحالتَيْن.
***

غنيٌّ عن البيان، أنّ هناك شِقٌّ حكومي يسعى لتحقيق الوحدة متوسِّلاً الى ذلك ، بل متسوِّلاً فقط! بسبق الإصرار عليها دون أن يسند هذا السّبق بما يدعمه من عوامل مرجِّحة لتحقيق الوحدة. بينما يترصّد شِقٌّ حكوميٌّ آخر لتحقيق انفصالٍ لا يبقي ولا يذر ،دون أن يأبه بأيّة مخاطر مترتِّبة، نكايةً فيما يدهمه به شركاؤه من مساومات وبيلة. وفي البال أنّ مَنْ فشَّ غبينتو خرَب مدينتو؛ بل ومدائن الآخرين المساكِنين! وإذا ظل الحال كما هو عليه الآن، فإن الخسران الأكبر لهذه التخريجات المتهالكة لن يقتصر على مُقتَرفِيها من نشطاء الشريكَيْن المُفَوَّض لهما حسم أمر الوحدة والانفصال ،وهذا أمرٌ يفوق طاقاتهم فيما يبدو! بل لن يقف الخُسران عند الشريكَيْن بكامل هيئتيهما كأصحاب مصلحة حقيقية وأولى في استقرار الوطن واستدامة السلام من خلال التنفيذ الجاد لبنود اتفاقهم للسلام. وستتمدد الخسارة الكبرى على وطنٍ بحالِه ومآلِه وآمالِه، بل وستطول جانب عظيم من جيرةٍ اقليمية تشكو نفس الضنى الخِلافي في إقرار العهود وإنفاذ الاتفاقات؛ إذ طالما أثبتت الأيام سرعة استجاباتها لما يدور بداخل هذا الوطن القارّة من تفاعلات.
***

في اعتقادي، أنّ مهر الوحدة الطوعية أو الانفصال الآمن الحُر النزيه، أجدر بألاّ يُستَغلى دفعه من جانب القائمين بأمر التفاوض ،للوصول الى برٍّ آمن، مهما كلّف من تنازلات سياسية أو تغاضٍ عن حفنة موارد طبيعية قابلة للنضوب في المستقبل المنظور؛ لا سيما وأن مثل هذا التغاضي وذاك التنازل سيكون لهما الموقع الحسُن في توطئة أكناف الاتفاق السهل على تنشئة مسارات الرُّحَل الآمنة بين الجانبين في مناطق التّماس التي توطّنت علاقاتها عبر الحقب المديدة. ذلك هوَ ما تُملي به ضرورات صيانة وترقية الموارد الطبيعية من تكامل بيئوي واجتماعي، غضّ النظر عن نتيجة الاستفتاء، وحدةً كانت أم انفصالا. فالأبقى هو السلام الشامل طالما حانت الفرص الملائمة، ومن قبل أن تتبدد ضياعاً كمثيلاتٍ لها في عصرنا السياسي المتقلِّب.
***

لئن أمكن تحقيق وحدة السودان عبر استمساك البعض من قيادييّ المؤتمر الوطني الحاكم بسبق الاصرار كآلية وحيدة ترجح بما عداها من عوامل استدامة الوحدة الوطنية، فستكون ساعتئذٍ وحدة قهرية؛ وبالتالي، غير ذات جدوى في تحقيق الاستقرار السياسي المنشود. بالمقابل فإنّه من الممكن الوصول للانفصال ضربة لازب! بناءاً على آلية الترصـّد المعمول بها عند البعض من قيادييِّ الحركة الشعبية كترياق مُضاد لسبق الاصرار الوحدويُّ الهدّام لدى رصفائهم في الناحية الأخرى ولسان حالهم: كُراع البقر جيّابة! وحينها سيكون انفصالاً غير مأمون العواقب، وغير معنيٍّ ببنود اتفاقية السلام الشامل واستخطاطها لعملية استفتاء آمنة وعادلة يمارسها شعب جنوب السودان في إطار من الحرية والنزاهة الضروريتين لتشييد قلاع السلام في عقول المتشاكسين من المتفاوضين، بديلاً عن هذه الحروب المشتعلة ،في غير حقٍّ، بتلك الحصون! والحربُ، أيَّ حربٍ!، سترجع بالبلاد الى ما قبل اتفاقية السلام الشامل وكأنّك يا أبازيد ما غزيتْ.
***

لاشك أنّ هناك قضايا تستعصي عن الحل الوافي والمفيد بدوره في تحقيق وحدة طوعية أو انفصال آمن ونزيه. فالخلاف على إكمال ترسيم الحدود قبل إجراء الاستفتاء، وما يرتبط بهذه الحدود من إنفاذٍ لقرار التحكيم الدولي حول أبيي، يمثل حالياً العقبة الكأداء والتي تتكسّر عند حوافها أغلب معالجات الحلول المتفاوَض عليها. إضافة الى ذلك، تقف قضايا ما بعد الاستفتاء من أمثال ديون السودان، الجنسية، العُملة والروابط الاقتصادية للمشاريع المشترَكة وغيرها من القضايا، تنتظر اتفاقاً عادلاً لابد من إحلاله مهما كلّف الأمر صيانةً لاستدامة الوحدة الوطنية.
***

لاشك أنه إذا استعصت الحلول الجلية للقضايا المعنية بمسألة الوحدة، فليس معنى ذلك أن تُعتَبَر أنها واقعة في خانة الاستحالات! فمن الممكن الوصول الاتفاقي الى منطقة وسطى حول جميع القضايا الشائكة. وللذكرى، فإنّ ما تمّ حسمه من قضايا شائكات عبر اتفاق السلام الشامل، لهوَ أكبر بما لا يُقاس بالاستشكالات الماثلة الآن؛ علاوة على ذلك، فإن منهاج التفاوض ما يزال قادراً على ردم الهوّات بين المتفاوضين إن خلُصت النيّات أو تمّ الاستيثاق ممّا ينتظر الوطن من ويلاتٍ حالة ما تمّ فرض الوحدة القهرية أو الإنفصال الحاقن!
***

في مواجهة جميع هذه القضايا، فإن طرائق التناول الجارية حالياً، وبالرغم من استعاناتها العديدة بالخارج ،القريبُ منه والبعيد، ما تزال بعيدة عن إحراز التقدّم المطلوب، والحال أنّ مؤقت العد التنازلي ليوم الاستفتاء، يطرق بشدّة على الأبواب. وعلينا أن نُنبِّه الى أنّ مصير السودان ، وهو متروك لقِلّة من نشطائه الذين شاءت أقدار الوطن أو لعلّها أقدارهم الذاتية، أن يتصدّروا قيادته في هذه المنعطفات الزّلِقة؛ ستترتّب مسؤولية ضياع استقراره ونماءه وسلامه المستدام على هذه الكواهل المتصدية لمشاكله في غير قليل من التشبُّث السياسي والاستعلاء بالرؤى الفكرية التي تُغالط حقائق الواقع..! وتُزري بما تمّ من اتفاقات وقرارات وبروتوكولات ..! وكما تَدين تُدان.




-------

* مقال، نشرته صحيفة "الأحداث" - النصف الثاني من أغسـطس 2010
صورة العضو الرمزية
محمد أبو جودة
مشاركات: 533
اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 25, 2012 1:45 pm

مشاركة بواسطة محمد أبو جودة »

[align=justify]

..( مقال *)..


مُلَّ المقامُ .. لكننا لم نفقد الأمل بعدُ ..!

لأبي العلاء المَعرِّي قولٌ سائر ضمن أبياتٍ جياد من شِعرِه، سرت مسرى الأمثال بما ألهمتْ من حكمة وما زوّدت من بُرهان. وذلك كلّما تشابَه الطارف بالتليد أو تطاحن المُرهَف بالغليد، حيث قال:

مُلّ المُقامُ فكم أعاشرُ أمَّةً ،، أُمِرتْ بغير صلاحِها أمراؤها..!

ولا شكّ أنّه مقامُ إملالٍ علائي يصعُب التدليل عليه، بل قد يستحيل ضبطه متلبِّساً به..! حتى وإن عنّتْ له تلك الرجعة الألفية التي أرادها له المفكر المصري عباس محمود العقاد. ذلك أنّ فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة، كان قد زهِد في الحياة والتزم التقشّف ولزِمَ قعر بيته غير مضطر لدفع غرامات عن المشي باكتراثٍ أو غيره ..! ولا مجبور على تناول الرؤى والأفكار، بنات حُريّة التعبير في مجتمعٍ ديمقراطي واعد، وهيَ بايتة أو مغربلة بفعلِ فاعل! وتلك أفانينٌ سلطانية، طلعتْ علينا بأُخرة، وأشبه ما تكون أنها تسعى إلى تحويل المشي والتعبير من حُرِّيات إلى حُفرات! وعلى مرأىً ومَسمَع من الشعب ومن نيفاشا السلام والدستور وحُرّاس الفضيلة. فالرُّجُلُ ،وأعني أبا العلاء، قد شاعت عنه صفة "رهين المحبِسَيْن" وقد قيلَ ثلاثة، ولم يخرج إلا مَرّةً واحدة تحت إلحاح أعيان بلدته وضُعفائها حتى يكفّ عن قريته الوادعة شرور سلطان حَلَبْ "صالح بن مرداس" الذي طغى. ومعلومٌ "إنّ الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعِزَّة أهلها أذِلّة وكذلك يفعلون" بظهرانينا وبشوارعنا وجرائدنا وتمُرنا. كان شيخنا أبو العلاء قد استعظم ما أراده عليه وُجهاء قريته وأعيانها بالتشفّع لهم عند الملك الغازي، فقال لهم: أيخرُج شاعرٌ لمُلاقاة مَلِكْ؟ ولمّا كان للضرورات أحكام، فقد امتثل الفيلسوف أخيراً لرغبة أهله، ولم يجد بُداً من مبارزة زئير الغازي المرداسي، بما يملك من سجعٍ حمامي تطرّزه الحِكمة ،وكُلُّ مُيَسَّر لما خُلِق له، فَسَلِمتْ جَرّة المعرّة تلك المَرّة. وطالما أنه قد تشابهت الليلة بالبارحة، فهل نتساءل عن وُجهاء وأعيان بلدتنا وعمّا إن كانوا سيُحرِّكون ساكناً ضد ما يتهدّدنا من تغريمٍ لمجرّد المشي! وتأثيمٍ لمجرّد التفكير في التعبير!

يقولون إنّ مَطَلُ الغنيِّ ظُلم، وأنّ من تأخير العطاء خذلانا؛ سيَّما وأنّ السجعات التحريرية المبذولة لم توفِّر كرامةً ولم تُؤتِ أُكلاً ،فامسكوا عليكم سجعاتكم يا هؤلاء، لكأنّما المعرّة القديمة مدينة إفلاطونية فاضلة يحكمها شعراءٌ فلاسفة يرهفون السمع، بينما تبدو مَعَرَّتنا المعاصرة موسومةً على خرطومِها بأمر اب تكَّــو وقراقوش الأيُّوبيَ! أو يقتل سادتها الصّمم عمّا يجري. والحال أنّ مَعرّة النعمان كان يتهدّدها أميرٌ واحد وبلدتنا المعاصرة ،ما شاء الله عليها، يتعهّدها بالوعيد والذي منه(!) أُمراءٌ "ما يدُّوك الدرِب" وهل أكثر من حكومة السبعة وسبعين! فضلاً عمّا يملأ دروبها من عسسٍ ومركباتٍ تسير على أربعٍ وقد فاقت تسجيلاتها مئات الألوف! ليس غائباً عنّا أنّ أجهزة إنفاذ القانون في بلادنا تقوم بأداء أعمالها حسبما وقَر في فهمها لمسؤولياتها المُناطَة بها،ووفقاً لما يطابق الذهنية القانونية الحاكمة وما تتوخّاه من آليّات وما يستتبع ذلك من تخويل للسُلطات بحسب التراتبية المتدرجة. كذلك يعوَّل كثيراً على معيارية مرشِّدة تقوم على ما يتوفّر من عناصر منفِّذة للمهام، تصيبُ أكثر الأحيان وقد تُخطيء أحياناً، وقليلُ الخطأ قد يورِث مهلكة! قلّ أن ينجبر ما تُحدثه من أضرار. فتداخُل السلطات وارد، والتعسف في التفسير متوقّع، واللجاج كثير. في معرض كل هذا، فكيف قفزت بنا شرطة المرور من التسويات الفورية ،بالزانة، بل زادت عليها تسويات ستقعُ على أرجُل الماشين؟ إذا تماشوا بغير "اكتراث"! كل ذلك ولم يتم تقييمٌ مفيد أو غير مُفيد لآثار تلك التسويات التي مضتْ بالثلاثين جنيها وقد قصّرت خُطى الكثير من المركبات، أو زادت القامة المرورية الحاكمة عُدّةً وعديداً.

حملت أخبار أول هذا الاسبوع أن جهاز الأمن والمخابرات الوطني قد قام برفع الرقابة على الصحف، بل أثنى الجهاز على الصحف ورؤساء تحرير الصحف لالتزامهم المسؤول بما تُمليه عليهم واجباتهم؛ ولكنه مع ذلك، فقد تذيّلت الأخبار بأن الجهاز يحتفظ بحقِّه الدستوري في عودة الرقابة كلية كانت أو جزئية متى ما دَعتْ الضرورة..! وليتَ الضرورة لا تستدعي؛ وإن كان لنا أن نستذكر شيئاً في هذه الخصوص ، فلا أقلّ من الإشارة الى يوم السادس والعشرين من سبتمبر 2009 حيث وجّه السيد رئيس الجمهورية بإيقاف الرقابة القَبلية على الصُّحف فأوقفتْ ،دون أيّ شنشنة! ويومها كان السيد الرئيس قد أشاد كثيراً بالميثاق الصحفي؛ فيا أهل الميثاق الصحفي شدّوا مهنيتكم بمواثيقكم ولا ترضون بديلاً عن الحرية. وعودٌ على بدءٍ، فقد قيل: بضدّها تتمايزُ الأشياءُ، وفي التنوّع ثراء وتكامل وتنامي وتعاضُد. لماذا إذن نحسّ أحياناً بأن هناك من يريد أن يصبغ كل هذا التنوع بلونية واحدة؟ وما أشقّها من وُحدة تلك التي تُبنى على نسق الصبغة الواحدة مع تجفيف ما عداها من صِبَغ أو صِيَغ. كان أبوالعلاء المعرِّي، سبّاقاً كعادته في قِيم المثالة الانسانية، وقد أُثِر عنه قوله:

وإنّي لو حُبيتُ الخلد فَرداً ،، لما أحببتُ بالخُلدٍ انفرادا ..
فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي ،، سحائب ليس تنتظم البلادا



-------

* مقال، نشرته صحيفة "الأحداث" - النصف الأول من سبتمبر 2010م ..
أضف رد جديد