جيوبوليتيك الجسد العربسلامي في السودان

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »


مشهد المشط:
و الغربة التي يكابدها الجسد المسلم في السياق الحضري الحديث هي غربة كبيرة مركبة و متجددة تطال كل مجالات الحياة المعاصرة من بين المعمار و ما يحيط و ما يخيط و ما يدخل البدن و ما يخرج منه.ان النسخة الأوروبية من الوسائل و الادوات الحديثة المقصود منها تيسير الوجود المادي للبدن في المحيط المادي و الرمزي انما صُمّمت في مبتدأ الامر بيد الأوروبيين على أساس ذاكرة الجسد الأوروبي و احتياجاته.و أذكر أننا حتى منتصف الستينات كنا نعاني الامرّين من استخدام المشط الأوروبي التقليدي ذي الاسنان المتقاربة، المصمم أصلا للشعر الاوروبي الناعم.و قد كانت راحتنا عظيمة حين وصلتنا، بنهاية الستينات، الامشاط الـ " آفرو " التي عمّمها الأمريكان السود أبان حركة التمرد على مواصفات الزينة و الجمال الأوروبية التي تمت على هامش حركات أفريقانية مهمة في أمريكا ( القوة السوداء) و في أفريقيا( الكل أفريقانية).و مع بداية السبعينات انتبه الشباب " الرافض" في حواضر السودان لـ " الخُلال"، مشط البجا المعروف الموجود منذ أقدم العصور.و على طول السبعينات التي راجت فيها بين شباب الحواضر موضة الشعر الـ " آفرو" كان عاديا أن ترى الشبان و الشابات يمشون في الاسواق و الخلالات مغروزة في الشعر المنكوش.و استقبال أدوات الحياة الحديثة الوافدة من الغرب الاوروبي الرأسمالي النصراني هو في النهاية أحد سبل الانخراط العفوي للسودانيين في النسخة الأوروبية لثقافة الحداثة. و لا بد لفولة تاريخ الحداثة السودانية من كيّال واسع الحيلة لكتابة الفصل الذي يخص شروط تبني السودانيين لأدوات الحياة الحديثة و آلاتها المتنوعة من مواعين وأثاث و أزياء و سبل اتصال و معدات علاج و عمار و دمار مما جميعه.





مشهد الكرسي:
و اذا كان المشط ال " آفرو" قد لاقى ترحيب شباب السبعينات الذي كان يتجمّل برموز حركة المتمردين الأمريكان السود (" الفهود السود"آنجيلا ديفيز و ستوكلي كارمايكل ) ونجوم موسيقى البوب (" جاكسون فايف" و جيمي هيندريكس عليه السلام )، فهذا المصير لم يكن من حظ كافة الادوات الحديثة الاخرى التي نستخدمها اليوم دون أن يخطر ببالنا نوع الاسئلة التي كانت تطرحها على مستخدميها من جيل الاجداد.و في هذا تحضرني حكاية طريفة حكاها مرة ، في منتصف السبعينات، صديقي الأبيضاوي الفنان و الشاعر محمود" الكنود"، كما كان صديقنا الراحل أدم الصافي يناديه ضمن مشاكساته الحبيبة، و هي حكاية بعيدة المرامي في صدد غربة الجسد" التقليدي/ الحديث" ضمن حداثة اهل الحواضر. أذكر أننا كنا نثرثر في مسالة القطيعة الثقافية بين الاجيال التي تستخدم نفس الكلمات لتتكلم لغتين مختلفتين تؤسسان لسوء الفهم كأسلوب في التواصل.كان محمود يتحدث عن جد له متقدم في العمر، و أظنه كان بين من شهدوا آخر أيام الدولة المهدية. كان ذلك الشيخ الجليل في حالة معارضة جهادية مستمرة تدين كافة مظاهر الحياة الحضرية الحديثة التي تنضبط على ايقاعها التفاصيل اليومية للناس.ربما لأنه كان قد خبر زمانا كانت صورة الحداثة فيه ترادف معاني القهر و التقتيل و الدمار الرمزي العنيف الذي صاحب استقرار مؤسسات الحداثة الرأسمالية في السودان.
قال محمود أن بعض الجيران في الحي كانوا قد نصبوا سرادقا كبيرا في الشارع، صفّوا داخله الكراسي لاستقبال المدعويين على شرف عقد قران ابنهم.و قبيل العقد بدأ المدعوون يتقاطرون على مكان السرادق حيث يستقبلهم أهل الدعوة و يوجهونهم لحيث يجلسون على الكراسي في انتظار اكرامهم ببعض المرطبات كما جرت العادة.قال أن الجد حين وصل الى السرادق سارع بعض المستقبلين الى الاحتفاء به، و قدم له أحدهم كرسيا و قال له:
ـ اتفضل اقعد يا شيخ فلان.
قال محمود أن الشيخ نظر شذرا لمستقبليه و قال غاضبا:
ـ تقعّدوني على كرسي ليه؟ أنا لوطي؟
و قولة الشيخ الغاضب تؤشر لكون الجسد من خلال أوضاعه الحسية المختلفة انما يطرح تعريفا رمزيا للعلاقة مع المكان بما يحتويه من ناس و حيوان و أثاث و أدوات وخلافة.و طبيعة العلاقة التي يبنيها الجسد مع المجال الاجتماعي، في أبعادة المكانية و الزمانية، تؤطّر لبرنامج " تعليم الجسد" بما يؤهله للاندماج في جسد الثقافة السائدة، بكفاءة و اتساق.و قد وضعت عبارة " تعليم الجسد " بين الأهلة كونها تنطوي على معنى مزدوج لمفهوم" التعليم " الجسدي. فمن جهة اعني بـ" التعليم" مفهوم التربية الرمزية و التقويم الاجتماعي بما يحدد للانسان معنى حياة الجسد ضمن اطلاق الوجود.و من الجهة الثانية أعني بـ " التعليم" التعبير الكتابي، سواء في شقه الوسمي الذي يتحقق حين " يعلّم" الناس الجسد بعلامات غرافيكية غاياتها جمالية أوسحرية أو هويوية أو علاجية الخ.، أو في شقه الحركي الذي يتحقق حين "يعلّم" الناس بالجسد المتحرك نفسه، و التعليم بحركةالجسد، و بسكونه، بحر واسع متعدد المجالات بحسب نوع المنفعة المنتظرة من الحركة ( فيسيولوجية، مهنية، جمالية ،علاجية الخ).و في هذا المنظور المزدوج للكتابة الجسدية" يعلّم" الجسد عن ذاته و يعلّم بها في آن، و ذلك من خلال لغة مركبة عامرة بالدلالات الحسية و الرمزية.هذه اللغة هي لغة" لسان الحال" الجسدي الطبيعي. و أستخدم عبارة "الطبيعي" في معنى الحيوي الحيواني الأولي، بما يسوّغ لي موضعة لغة حال الجسد الحيوان قبل لغة " لسان المقال"، في عمق الذاكرة الحيوانية للانسان. لغة حسية تنضبط على ايقاعها لغة الرموز المنطوقة و تتأسس عليها معاني التصانيف الرمزية لأحوال الفرد و الجماعة. فجسد الرجل و جسد المرأة انما يكون كل منهما على أحوال تدعم من هوية صاحبه ضمن تعريف الجماعة لدوريهما، و كذلك الحال بالنسبة لأجساد الأطفال و أجساد الكهول ذكورا كانوا أم اناثا.فلا جسد ينجو من تحديد الجماعة لدوره و لهويته عبر جملة الوضعيات الجسدية المباحة و الممنوعة.بل حتى جسد الميت يخضع هو الآخر للتحديدات و الهيئات التي تُرسم له داخل أعراف الجماعة التي عاش و مات داخلها. و للسوسيواوجي الفرنسي " بيير بورديو" في كتابه " الحس العملي" نظرات سديدات في علاقة أحوال الجسد بالتنظيم الاجتماعي ، و ذلك حين يجعل من وضعيات الجسد الحسية بابا في التعبير تتأصل عنده بعض الأشكال التاريخية للتعبير اللغوي.فـ " الحس العملي، بوصفه ضرورة اجتماعية تحولت و صارت طبعا،و تحققت على حال النمط الحركي القائم على الأوتوماتية العفوية للجسد، هذا الحس العملي هو الذي يكسب الممارسات الحركية معناها الاجتماعي.و ذلك بما تنطوي عليه هذه الممارسات الحركية من أبعاد خفية معتمة تغيب على بصيرة من يؤدونها، و بما تتكشّف عنه من مباديء ذاتية مشتركة. و ذلك لأن قصور من يؤدي الحركة عن الاحاطة التامة بمراميها هو الذي يكسبها معنى يتجاوز معناها في وعي من يؤديها.
كل النظم الاجتماعية توظف تلقائيا قابلية الجسد و اللغة للقيام بدور مستودع للأفكار المُستدرَكة التي يمكن اطلاقها من على البعد، أو بشكل مؤجل، و ذلك بمجرد موضعة الجسد في هيئة تعبيرية قمينة باستدعاء المشاعر و الافكار المرتبطة بهذه الهيئة في الذاكرة الجسدية الجمعية.و أهل المسرح على وعي بمرامي هذه الوضعية الجسدية الاستقرائية، كوضعية مولّدة لتداعيات المشاعر و الافكار.و هكذا ، فان الاهتمام بتنظيم الاخراج المشهدي، " الميزانسين"، في المحافل الطقوسية لا يقتصر على منفعة اكساب الجماعة مظهرا ارتساميا و انما يتجاوزها، فيما تتكشّف عنه استخدامات الرقص و الغناء الجماعي ،لمنفعة أخرى ، أقل براءة، هي منفعة تنظيم أفكار المشاركين و توجيه مشاعرهم عبر الضبط المحكم لأحوال التعبير الجسدي في الحركة و السكون ، بين الضحك و البكاء.
و تتحقق الكفاءة الرمزية لفعل التسلّط على أجساد الآخرين و على معتقداتهم من خلال القابلية الجمعية للتصرّف تحت تأثير الآلية اللغوية/ الحركية المركبة المودعة في تلافيف النفس، و ذلك بما يتيح فرصة تحييد هذه الاجساد أو فرصة استنفارها بمجرد الاستدعاء الايمائي "(بورديو ص 116). و يذهب بورديو باستنتاجاته لنهاياتها المنطقية حين يرى أن تقسيم العمل بين الذكور و الاناث في موضوعة جنس العمل المؤنّث و جنس العمل المذكر على الصعيد الاقتصادي، مقابل عمل الجنس المؤنث و عمل الجنس المذكر في المستوى العاطفي، انما يتأصل في خاطر الطفل بالتوازي مع الوعي بالهوية الجنسية. و ذلك من خلال آلية السلوك اللغوي/الجسدي المودعة في لحم الكائن الاجتماعي و في روحه معا. "ان علاقة الاصل بين الطفل مع أبيه و مع أمه، و لو شئت قل مع الجسد الابوي و مع الجسد الاموي، هذه العلاقة التي تطرح،في خاطر الطفل أكثر الفرص جلالا بسبيل استشعار كافة التعارضات الاساسية للممارسة الشاعرية/الاسطورية، هذه العلاقة، لا يمكن أن تموضع نفسها في أساس عملية تخليق مباديء الانا و العالم، و بالذات ضمن اي علاقة جنسية سواء كانت جنسية مثلية أو جنسية مغايرة، الاّ بوصفها علاقة قائمة على موضوعات مميزة جنسيا (مُجنّسة) رمزيا و ليس بيولوجيا. فالطفل يبني هويته الجنسية التي هي عنصر مركزي من عناصر هويته الاجتماعية، في نفس الوقت الذي يبني فيه تصوره لتقسيم العمل بين الجنسين، و ذلك اعتمادا على جملة متداخلة من المؤشرات البيولوجية و الاجتماعية المتعارف عليها في مجتمعه.و بعبارة أخرى ، فالوعي بالهوية الجنسية و استيعاب الوضعيات المرتبطة بتعريف اجتماعي محدد للوظائف الاجتماعية المناطة بالرجال و النساء انما يتماشيان مع تبني رؤية اجتماعية لتقسيم العمل جنسيا.."
Pierre Bourdieu,Le Sens Pratique, Les Editions de Minuit, 1980, (p. 132)
و لو عدنا لجد صديقي محمود الذي يستنكف الجلوس على الكرسي ، ففعل الجلوس، كما الوقوف و المشي و الاضطجاع الخ..،ليس سوى وجه من وجوه البيان الجسدي الذي يطرح أساليب و ألوان في بلاغة لسان الحال ضمن المجال التاريخي للجماعة . و في هذا الافق يمكن فهم موقف الشيخ المتوجّس من العواقب الرمزية لفعل الجلوس على الكرسي بكون الجلوس على الكرسي ينطرح كانخراط طوعي في شرك الحداثة الاجنبية التي فجرت بأجساد المسلمين و مالت بالمجتمع عن جادة الدين ، سيّما و الرجل ينطوي على ذاكرة تقليد ديني يترمّز الكرسي فيه ضمن آلات القدرة التي تمتنع على العباد. فالكرسي في تعريفه الاداتي هو ما يقعد عليه من أثاث المكان و هو سرير الُملك و أساس السلطة و مقعدها. و في لسان العربان يقال:" اجعل لهذا الحائط كرسيا"، أي اجعل له ما يعمدة و ما يمسكه، ثم أن الكرسي في التقليد الصوفي هو" العلْم" فيما يسمون " أهل الكرسي" بين طبقات العارفين، و العلم سلطان.و قد جاء في كتاب " اصطلاح الصوفية" لمحي الدين ابن العربي تعريف للكرسي بكونه " موضع الامر و النهي" .و كل ذلك يجعل من الكرسي علامة جليلة للقدرة في ذاكرة المسلمين.و الى الكرسي ترجع اشارة السلطة المطلقة في تعبير " آية الكرسي" :" وسع كرسيه السموات و الارض.."( البقرة 255). و يحفظ سجل الادب الشعبي لكرسي السلطان صفحات شيقات في أدب التصميم التشكيلي. قال الثعالبي : أن سليمان عليه السلام" أمر الجن اتخاذ كرسي يقعد عليه للقضاء، و أمر أن يعمل بديعا مهولا بحيث لو رآه مبطل او شاهد زور ارتدع و بهت"(قصص الانبياء) فتأمل في حال آلة تنوب عن الراعي في تدبير العدالة بين أفراد الرعية...و يورد الثعالبي اسم الجني المصمّم لكرسي سليمان في لفتة ذات دلالة على صعيد التنكير شبه التام الذي يكابده المصممون المعاصرون الذين يمارسون التشكيل خارج فضاءات اللوحة و المنحوتة.قال:" فعمل له صخر الجني كرسيا من أنياب الفيل و فصّصوه بالياقوت و اللؤلؤ و الزبرجد و أنواع الجواهر و حفّوه باربع نخلات من الذهب شماريخها الياقوت الاحمر" .." و على رأس نخلتين منهما طاؤوسان من ذهب.و على رأس الاخيرتين نسران من ذهب.".." و جعلوا من جانب الكرسي أسدين من ذهب، على رأس كل واحد منهما عمود من الزّمرد الاخضر".." و كان سليمان اذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى فيستدير الكرسي و رجله فيها، و يدور دوران الرحى المسرعة، و تنشر تلك النسور و الطوائيس أجنحتها و يبسط الاسدان أيديهما و يضربان الارض بأذنابهما، و كذلك يفعل الكرسي في كل درجة يصعدها سليمان.."هذا ليس كرسيا و انما هو آلة سلطة، آلة جهنمية غايتها قهر الغلابة من الجن و الانس معا فيرتدعون و يبهتون بمجرد أن يقع بصرهم على كرسي سليمان.
على مثل هذه الذاكرة دخلت حداثة رأس المال الكولونيالي بآلاتها الجهنمية و أنواع أثاثها المادي و الروحي الذي فرضته على المسلمين و وطّنت عليه مؤسساتها السياسية و الاقتصادية و الادبية و عمّمت عليه أنماط سلوكها الجسدي الحديث.و ضمن ذلك التوطين" الثوري؟"( أي و الله " الثوري" و عجبي من ثورة ثقافية بغير ثوّار) ابتذلت الحداثة الكولونيالية كل قداسة الكرسي في الخاطر الشعبي و مسخته الى مجرد قطعة أثاث عادية اجبارية تؤثث خاطر المسلم بجرثومة الرمزية الاوروبية الوافدة مع الغزاة الامبريالين و ترسم حدودا غير مرئية بين جيل ماقبل كرري و جيل ما بعدها ..
وسواء في بعده الاستخدامي المادي أو في بعده الروحي، فالكرسي يغير من طبيعة العلاقة العفوية بين جسد البداوة و الارض.فالجالس على الكرسي ليس كمن يفترش الارض.كون الارض " التراب " و " البسيطة " مساحة مشاعة للجميع ، للسادة و للعبيد و للدواب الخ .وصورة الارض في الترميز الديني تنطرح " نعمة " و " مهادا" ، من مادتها خلق الله الانسان و اليها يردّه، و التعبير الشعبي التقليدي عامر بالمعاني الجمالية التي تؤسس لقيم الثبات و الديمومة في صورة الارض.في هذا المشهد لعلاقة الجسد التقليدي بالأرض يبدو الكرسي امتيازا اجتماعيا وراءه تراتب مادي و رمزي.و ينطرح فعل الجلوس على الكرسي كقطيعة مادية و رمزية مع الارض، كون الجالس على الكرسي في علاقة مختلفة مع الارض، علاقة أدخل في فعل الهيمنة على الارض منها في فعل الاندماج العفوي للكائن الحي في عناصر الوجود الطبيعي.و تتعدد المعاني الرمزية لفعل الجلوس على الكرسي حسب نوعية الشحص الذي يباشر فعل الجلوس و حسب ملابسات لحظة الجلوس.فجلوس الطفل في حضرة الكبار أو جلوس الأنثى في حضرة الذكور في الأمكنة العامة أو جلوس المرؤوس في حضرة رئيسه الخ، يطرح كل واحد منها قراءة مختلفة للعلاقة بين الاشخاص الموجودين حول الكرسي.فالمرأة ان جلست على كرسي أمام الرجال فهي تجلس بطريقة معينة يقرأها الآخرون وفق شفرة الخطاب الجسدي المضمرة بين أعضاء الجماعة المعينة.
و على المستوى العملي يبدو الكرسي في خاطر أهل البداوة كنوع من عسف الادوات على حرية الجسد كونه يطرح لفعل الجلوس نحوا مجلوبا من لغة جسدية مغايرة. فالكرسي يحدد من مساحة الجلوس بحسب سعة ماعون الجلوس و طبيعة تصميمه المادي.وطبيعة الماعون تفرض على الجسد هيئة محددة لا يكون الجلوس بدونها، فالجالس على الكرسي قد " يستبد" لكنه لا " يقنّب"أو" يصنقر"أو" يتوهّط" او" يتحكّر" أو " يبرك "مثلما هو لا "يتفرشخ" و لا " ينفشخ"و لا "ينطمل"أو"يندمس"أو ينطج" أو حتى " يعرز" كما " الاسد العََرزْ جُوّة الزريبة" في عبارة ود الفراش( عون الشريف، قاموس اللهجة العامية في السودان 1985). و عسف الكرسي على حرية حركة الجسد غالبا ما يجد تبريره في اقتصاد حركة الاجساد و سكونها ضمن تدابير حضارة العمل المأجور.فمؤسسات الحياة الحضرية الحديثة من مدارس و معامل و محافل و دواوين تعرّف لحركة الاجساد لوائح تنظم مستويات الحركة و السكون بطريقة تراعي اولويات الاقتصاد قبل أولويات الشخص الذاتية.و كل قطعة اثاث حديث انما تنطوي على برنامج المؤسسة التي انتجتها ضمن ما انتجت من أدوات و مفاهيم تنظيمية حديثة.و ضمن برنامج الكرسي الحديث يخاطر المنتفع به بالسقوط ، أو بكسر الاثاث، ان لم يجلس وفق مقتضيات اللائحة المضمرة في تصميم الأثاث.و لو تأملت في الطريقة التي يجلس بها بعض أهل البادية على الكراسي حين تضطرهم ملابسات الوجود في الحواضر على استخدام الكرسي للمست بسهولة نوعا من الضيق اللاحق بهيئة الجالس القلق المرتاب بآلة الجلوس الحضرية ، رغم أن نفس الشخص قمين بالاستقرار في يسر كبير متحكرا على سرج ضيق فوق سنام بعير منفلت.و جلوس البدوي عل الكرسي يمّيزه عن أسلوب جلوس الحضريين الذين يستقرون على الكراسي في يسر و عفوية و لا مبالاة وراءها تعليم غير منظور ممتد على طول الحياة.و يمكن من هنا المرور على " مخدة" الرعاة النيليين الخشبية المصنوعة من أعواد شجر الأكاسيا.و أنا أقول "مخدة " من باب المجاز كون القوم يسندون عليها رؤوسهم كما نسند نحن رؤوسنا( خدودنا بالأحرى) على المخدّة الطريّة المحشوة قطنا و ننام و نحن نعجب منهم كيف ينامون على عود عجيب يابس يقطع الفقر.
و عسف الادوات على الجسد يمكن أن يقيّم كشيء " طبيعي" في صميم قوامة الثقافة على الطبيعة، و أنا أضع صفة الـ " طبيعي" بين الاهلّة ، ضمن قبول المجتمع الطوعي لمنطق تثقيف الطبيعة و تمدينها و تربيتها كوجه من وجوه مكيدة البقاء الانساني الجمعي.لكن شتّان ما بين عسف ثقافة تمخضت عنها حياة الجماعة على طبيعة تكابدها هذه الجماعة و عسف ثقافة غالبة مهيمنة على ثقافة أخرى مغايرة لها و مغلوبة و خاضعة.و عسف الادوات الحديثة على أجساد العربسلاميين الخارجين من الهزيمة هو بعض من عسف ثقافة رأس المال على الثقافة التقليدية على مشهد الداروينية الثقافية.و احساس الفجيعة الذي يغلف استجابات العربسلاميين لغوايات الأدوات الحديثة النافعة انما يعبّر، في نهاية التحليل،عن حسرة النوستالجي الذي يحن لجراحة القديمة الحميمة التي تشكل بعض هويته الثقافية حتى و لو برّأته أدوات حداثة رأس المال الأجنبية من كل جرح ( و هيهات).



مشهد الملعقة:
كان عمنا عثمان يضحك كلما حكى حكاية ذلك الشيخ الفاضل من أهل " صُقْع الجمل" الذي جمعته عزومة على فطور من عصيدة بملاح تقلية مع بعض الافندية و الاعيان بمدينة النهود، كبرى حواضر كردفان في الاربعينات. كان وسط الصينية قدح عصيدة ساخنة " بوخها يلوي"، بينما اصطفّت حول القدح مجموعة ملاعق صقيلة تلمع كما الفضّة، فجلس القوم و تناول كلّ ملعقة يباشر بها اقتطاع لقم العصيدة و تقليبها في التقلية التخينة قبل تغييبها في فيه بأناقة حضرية عالمة، و الشيخ يرقبهم في حيرة و عجب.
ـ " اتفضل يا شيخ فلان".
ووضعوا الآلة المعدنية الصقيلة في يمناه.فتوكّل الشيخ و غرز الملعقة في قلب قبّة العصيدة الساخنة و عرّج بها على مرق التقلية قبل أن يفرغ محتواها في فمه.قال عمنا عثمان أن الشيخ جحظ و زهق و زفر و ازدرد اللقمة الملتهبة بصوت مسموع قبل أن يرمي الآلة المذنبة مستنكرا:
ـ " النصيبة... لا تجيبي خبر لا تودي خبر؟"
قال العم أنهم ضحكوا و حاولوا أن يشرحوا للشيخ تقنية الاكل الحضري الحديث و مزايا أدوات المائدة الحديثة، لكن الرجل سخر منهم بدوره و احتج بكون الاكل باليد يجعل الطعام أحلى مذاقا.( و قد سمعت مرة حكاية مماثلة يرويها الفرنسيون عن مناقشة حول مزايا الاكل بالأصابع بين نابوليون الثالت و أحد سلاطين العثمانيين).. و المشط و الكرسي و الملعقة لا يمثلان سوى الطرف الظاهر من جبل الادوات التي راكمتها الحداثة الاوروبية على الجسد السوداني التقليدي في فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز عمر الجيل الاول من السودانيين المتعلمين.و قد مر زمان على المتعلمين الرواد اشتد فيه عراكهم بين أنصار البرنيطة و أنصار الطربوش و أنصار العمامة. في ذلك الزمان لم يكن بين المتنازعين من يتصور أن أولادهم و بناتهم يملكون أن يفتحوا ، في السبعينات ،مناقشة طويلة حول مزايا خميرة البيرة في فرد الشعر على طريقة " جيمي هيندريكس" و" آنجيلا ديفيس"، أو أن احفادهم( ناس محمد بهنس و قصي همرور)قد يتداولون الرأي في مزايا ضفائر "الراستا" الجامايكية، فسبحان مغير الاحوال من حال الى حال.
Enshrah Ahmed
مشاركات: 122
اشترك في: الخميس مايو 12, 2005 6:27 pm

Female Genital Mutilation in Sudan as an identity issue

مشاركة بواسطة Enshrah Ahmed »

Dears Hassan Musa, Alhashmi, Iman, Najat, Abdelmajed and the rest,

It took me sometime to decide whether to contribute to this discussion or not, though I was quite intimidated by it. My intimidation based on various grounds one of which is fact that I am an anti Female Genital Mutilation (FGM) activist.

The issue of FGM -not Female Circumcision or Female Sexual Organs Cut, as some people might want to call it, is a complex issue particularly in Sudan. FGM in Sudan has many representations in Sudanese public and private life. Here, I would like to share with you the debate on FGM as an issue of identity. In Sudan, there is an implicit and collective understanding that FGM is a prerequisite to prove the family’s Islamic and Arabic lineage i.e. it is a password to the Islamic and Arabic realm in Sudan. That is based on the fact that FGM is only practiced by the Arabised and Islamised population, many of whom would prefer to be called ‘Northerners’. As the National Islamic Front (NIF) has left none of our life aspects with out ‘damage beyond repair’, recent preliminary studies and observations have proven that, unfortunately, FGM has crept into new areas in Sudan particularly among the war displaced who wouldn’t have practiced it - if allowed to live in their own areas. It seems that the displaced have opted to practice FGM, as they would like to assimilate into the hegemonic Arabic and Islamic culture of the “North”, which is unfortunately “understandable”.

FGM is practiced by significant numbers of African countries whose justifications of the practice are neither ethnic nor religious. FGM in Africa is practice by Christians, Muslims as well as animists. Hence, for most of those African fellows, FGM is a pure African tradition, a situation that “Northerners” Sudanese would consciously avoid facing. The analysis here does not need any intelligence form me, because we all know that the “Northerners” had chosen to remove themselves from whatever linking them to their African ancestors. It is quite surprising as well as disappointing for some of them to discover that FGM is not being practiced by the vast majority of the Islamic and Arab countries. Their disappointment is based on their sudden discovery that they are not as Arabised and Islamised as they would wish to be i.e. their masters don’t do it.

For sometime I was following another discussion on FGM on a different Sudanese website where some participants came out with all sorts of arguments to justify FGM as a religious requirement with all its cloudy literature. A person can accept the discussion in its context, of course, however, I couldn’t believe my eyes when one of the participants wrote that “people in Saudi Arabia do not practice FGM because women in that country are veiled and they do not mix with men” hence their sexual organs should not be mutilated. I said to myself, if this is could constitute a valid argument to justify or not to justify FGM, then, what about Northern Nigeria where Sharia law is implemented, women are veiled as well as in absolute exclusion from men, why then is FGM practiced among Northern Muslims of Nigeria? Perhaps because they are just “Falata” i.e. their Islam is not as authentic as of the Saudis!!, as I am quite sure that what would have been his reply if he has been contested. It is an irony …I laughed again, here, if you don’t mind I would like to quote Dr. Frances Deng when he was interviewed by Sudan TV, sometimes last year. Dr Frances recalled a discussion, with one of his Northerner colleagues, on the issue of exempting Khartoum from Sharia law. What Dr. Frances said to his friend was “Why Khartoum could not be like Dakar” in terms of being a tolerant capital of a Muslim country. I think most of you are aware of the rest of this bitter story. Anyway, Dr. Frances friend’s reply was “For get it, those Africans do not know what real Islam is”.

FGM should be looked at as an old harmful traditional practice such as the “tribal marks” practiced by traditional communities in various parts of the world. However there is sinister element attached to FGM. This sinister element is - all forms of FGM- have been scientifically proven to be contributing to women’s psycho-sexual dysfunctioning-. The question is “WHY” a civilised nation would want to have half of its population sexually dysfunctional, with high rate of mortality during child birth. Or even high risk of death during the practice itself - in terms of many girls are left bleeding to death while they have been prepared to be the guardians of their tribe’s honour i.e. when the practice takes place. The vivid example here is the current FGM petition –Enaam- the Sudanese young girl who was left bleeding to death last December.

Sudanese people usually avoid talking about FGM, as all of you have agreed, particularly the so called “intelligentsia”. A friend of mine has said it well when the issue of FGM has come up in another context. He said, “yes we do not talk about FGM and when people talk about it, they should be very careful, because when you talk about FGM you talk about somebody’s mother or somebody’s sister”. According to this conversation it is clear that Sudanese people do not talk about FGM because of this SOMEBODY, who presumably a male figure. The sadness of the whole scene here is “Where is the mother or the sister herself” i.e. the unspoken part of the text, as some of you might like to call it...

Anyway, talking about FGM is painful as it reflects our gender, ethnic and religious identity crisis. For me, committing the act of FGM means total cheating and deception of the womankind in a patriarchal society. FGM is not only a reflection of the power relations and a clear portrait of girls’ and women’s positions in our society. FGM is a real indication of what a girl or a woman might mean in the collective and the individual memories of such a society.

Will get back

enshrah
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

مشهد العورة

انشراح
سلام
قرأت باهتمام كلامك عن الابعاد المركبة المتشابكة لموضوع الخفاض في السودان( بُعد الانتماء الهويوي/ بُعد السيطرة الذكورية التي تستهدف ضبط أجساد الاناث/ بعد اقتصاد الزواج البطرياركي/بعد التزكية الدينية" الطهارة"/بعد "الحياء السوداني" الخ). هذه الابعاد التي تجعل من الخفاض موضوعا شائكا يتحرّج السودانيون من الخوض فيه كونه كما تقولين:
« ..reflects our gender, ethnic and religious identity crisis »
و قد استرعت انتباهي ملاحظتك التي تناولتِ فيها تناقضات بعض انصار الخفاض ممن يتذرعون بغياب الحجاب الاسلامي، على الطريقة السعودية، لتسويغ الخفاض في السودان:
« I couldn’t believe my eyes when one of the participants wrote that « people in Saudi Arabia do not practice FGM because women in that country are veiled and they do not mix with men » hence their sexual organs should not be mutilated.. »
فالربط الذي يتم في خاطر انصار الخفاض الاسلاميين بين الحجاب السعودي و الخفاض السوداني انما يعتمد على مفهوم العورة في مشهد ثقافة الطبقة الوسطى العربسلامية في السودان،و "العورة" في لسان العربان تدل على القبح في قولهم:" عوّر عليه امره" في معنى قبّحه، و" عوّر عن فلان "في معنى كذب و ردّ عنه. و العورة هي ذهاب حس العين مثلما هي القذى في العين و الرمد و كل ما أعلّ العين و أوجعها. و الـ " عَور" بكسر الواو هو الشخص الرديء السيرة.و يقولون " فلاة عوراء" للأرض التي لا ماء فيها.و الاعوار هو ظهور العورة، يقولون "أعْوَرَ الفارس" في معنى: بدا فيه موضع خلل للضرب. و العَوْرة ج عورات هي الخلل في ثغر البلاد و غيره و يُخاف منه و هي كل أمر يستحيا منه .و العواربفتح العين او بكسرها هو العيب، يقال : سلعة ذات عوار، اي ذات عيب الخ( المنجد في اللغة).و حين يسقط مفهوم العورة على المرأة فهو يغطي بظله السلبي كافة صور وجودها المادي و الرمزي .فالأنثى عورة في معني الفتنة الوشيكة او القنبلة الموقوتة التي تتهدّد أهلها بالمحظور في اي لحظة و ذلك من واقع كونها انثى فقط.هذه الأنثى/ العورة/ المصيبة ،المعلقة بسبيبة الرقابة و الضبط المثابر من قبل أولياء أمرها، هي " قدح " مكشوف تغطيته واجب جمعي لكافة ذكور العشيرة حتى يسلم" الشرف الرفيع من الاذى" و هيهات.. .
الخفاض، في معناه الاجرائي، ينطوي على بعد معنوي قريب فحواه ضبط هذا الطرف من جسد الانثى الذي يترمّز كرأسمال لعشيرتها في مشهد تبادل الاناث ضمن قانون اقتصاد الزواج الذي يدبره الذكور. و الخفاض في معناه الأيديولوجي طرف من مفهوم حجاب الاناث باعتباره حجبا لعورة العورة.
.و حجب جسد الانثى/القدح/ العورة/ الفتنة في ذاكرة الثقافة العربسلامية انما يكون على اوجه كثيرة بينها الخفاض، الذي هو حجب للامكانية المادية للالتذاذ في الجسد المؤنّث، و بين وجوه الحجب الاخرى يكون صمت الجسد. و هو صمت أمام الرجال و كتم لكل ما يمكن ان ينبيء عن حضور الجسد من شاكلة رنين الحلي ("و لا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهنّ" ـ سورة النور 31)، اورائحة الطيب( كما في الحديث:" أيّما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية" ـ أبو داؤود و الترمذي و النسائي و أحمد).
وفيما وراء حجاب الخفاض، الذي تتولى تنفيذه النساء ،في انتظار" ود الحلال"، يبقى الزواج الاسلامي هو الحجاب الاكثر كفاءة بسبيل ضبط جنس النساء.و الزواج ،الذي يُكنّى عنه بـ "الستر" في بلاغة أهالي وادي النيل الاوسط ، هو زواج الاولوية فيه لبنات العشيرة. و هو واجب يُحثُّ علية "أولاد الحلال" المتوفرين ضمن ذكور العشيرة بعبارات مشهودة في بلاغة الشعب من نوع " غطّي قدحك" أو "استر عرضك".و من صورة الـ "قدح" في حرز الأب تنمسخ الانثى لصورة الـ " حرث" في حرز الزوج، لكنها تبقى رهينة الحجاب في كل حال.و ذلك طالما بقيت لها قيمة تبادلية في اطار اقتصاد الزواج.ويتسامح الشارع في حجاب الاناث اللواتي لا يقعن تحت طائلة الزواج بحكم العمر أو بحكم المركز الاجتماعي (الجواري غير مطالبات بالتحجّب و قد جاء في الاثر أن عمر بن الخطاب كان يضرب الاماء اللاتي يتجلببن و يتقنّعن و يتنقّبن تشبّها بالحرائر. و يذكر أنه ضرب أمة لآل أنس رآها متقنّعة ، فقال:اكشفي رأسك لا تشبهي بالحرائرـ الزيلعي، رفع الراية).و سماحة الفقه الاسلامي الذي لا يتشدد في حجاب الأنثى الطفلة التي لم تبلغ الحلم والانثى الكهلة التي لا يرجى نكاحها، تكشف عن جدل الحركة في الحجاب كجلد مفهومي أيديولوجي قبل أن يكون ساترا ماديا." الحجاب الفقهي ينطرح كجلد ثاني، جلد اصطناعي متحرك ينضاف للجلد الطبيعي يدعمه و يؤطره و يضبطة. و صفة الحركة تكسبه مرونة عملية عالية تمكنه من التكيف مع مقتضى الحال الفقهي.فللمرأة ان تضعه و تحكم من تحجبها أمام العين الاجنبية مثلما لها ان تخفّف من قبضته امام الاطفال او الرقيق " ( و سأعود لهذا الموضوع بتفصيل أكثر في الكتابة القادمة لنص "النظرة الثانية في كشف الحال و كيد الرجال"، و هو نص في موضوع الوسم الجسدي نشر في" جهنم "رقم 15، فبراير 2000 ).
و المفهوم الايديولوجي للحجاب يكشف عن كفاءته ضمن جدل الكشف و الحجاب الذي تنظم عليه الجماعة الحضرية العربسلامية في السودان تدابير تعليم و ضبط الجسد او " تقنيات الجسد "
« Techniques du cprps »
حسب تعبير مولانا " مارسيل موس" رائد الاتنولوجيا الفرنسية. و لو جاز لي ايجاز الغاية الايديولوجية للحجاب في ثقافة حواضر السودان العربسلامي ـ و هي غاية مغايرة لغايات الحجاب في مجتمعات الخليج أو السعودية اوشمال أفريقيا ـ أقول ـ بعد" هيهات" ـ ان الجماعة الحضرية العربسلامية في السودان انما (كانت؟) تنتفع بمفهوم الحجب المفروض على الاناث المبذولات في سوق الزواج لتسويغ فعل الانكشاف ضمن قانون تبادل الزيجات،فالحجب لا يستقيم بغير انكشاف.و أنا اعني بالانكشاف انكشاف جسد الانثى المحجوبة انكشافا كاملا ناجزا على رؤوس الاشهاد، و الانكشاف الناجز ضروري لتأسيس عقد الزواج ـ الذي هو عقد تبادل بين العشائر ـ على قيمة الوضوح التام بدون ادنى لبس أو عور.و اذا كان الحجب يدوم و يحتل الجزء الاكبر من عمر الانثى موضوع الزواج فان فعل الكشف القصير الخاطف و الفريد ينطرح كذروة للحظة الحظوة الكبرى في مسار حياة الانثى و هي تعبر من حال الى حال. هذا الكلام بهذه الطريقة المضغوطة لا يطمح لأكثر من الافصاح عن الغاية الرئيسية لمبحث " البعد الجمالي في جيوبوليتيك الجسد" الذي يشغلني منذ فترة.و هو المبحث الذي جرني اليه ،هنا، موضوع الخفاض في السودان ، و سأعرج على هذا المبحث من خلال معالجة موضوع رقصة العروس، و المسألة ـ في" تخليل" نهائي ما ـ هي مسألة بحث في التعبير التشكيلي في السودان من خلال مسند الجسد، فصبرا حتى استكمل مشاهد غربة الجسد المسلم عن صورته ضمن شقاق الحداثات المعاصرة.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »


مشهد الساجدة

خالدة مسعودي معلمة و مثقفة جزائرية من أصل قبائلي، و هي معروفة كمناضلة نسوية و ناشطة سياسية معروفة بمواقفها المشهودة ضد سياسات الحزب الحاكم في التسعينات و ضد الضغوط التي تمارسها في حق النساء الجماعات الاصولية الاسلامية في الجزائر.و رغم أنها قد تعرضت لأكثر من محاولة اغتيال من طرف بعض الاصوليين الجزائريين الذين لقبوها بـ " أخت الشيطان"، الا أن خالدة مسعودي تعتبر نفسها مسلمة و تقول في كتاب اصدرته مع الصحفية الفرنسية " اليزابيث شملا" في 1995 : "أنا مسلمة لكن الهي الذي اتوجه اليه لا علاقة له بالاله الذي يتوجه اليه القتلة و المغتصبون الذين ينتمون لجبهة الانقاذ الاسلامي"(ص 33).و في الكتاب/ الحوار الذي أجرته معها "اليزابيث شملا" تحكي خادة مسعودي عن علاقتها بالدين الاسلامي من خلال تجربة الصلاة التي كانت تمارسها بانتظام في سنوات شبابها الاول.تقول :
" كنت اصلي الى أن جاء يوم بدأت فيه هيئة الجسد في الصلاة تجعلني أحس يالاضطراب.بلا شك لأن تلك الهيئة كانت لها علاقة بكوني امرأة.فقد بدت لي وضعية السجود في انكباب الجسد و وضع الوجه على الارض مُذلّة.و أخذت ابحث في القرآن عن السبب الذي يبرّر هذه الوضعية و لم أجد شيئا.فقلت لنفسي: ان لله في خاطري فكرة جليلة و جميلة، و لا أدري ما الذي يجعلني انحط بهذه الفكرة بتبنّي الوضعية الجسدية للعبد المسترق التي جادت بها قرائح تجار الرقيق من بدو العربية السعودية، فلله في خاطرنا معنى مغاير. و من حينها عزمت على أداء صلواتي على غير طريقة المسلمين.و هكذا توصلت الى أداء الصلاة من خلال حركات أشبه باليوجا. و ذات يوم وجدني والدي في هذه الوضعية الجديدة فشرحت له قصتي. حذرني والدي قائلا:
ـ أنت لا تحترمي التقاليد. بل أنت تخرجين عليها، و يجب أن تعرفي أن ذلك سيجر عليكي المشاكل مع الآخرين، لأن السجود الذي ترفضينه يمارسه المسلمون في كل العالم، و بالنسبة لهم فأنت لا تصلّين.
قلت له:
ـ و بالنسبة لله؟
قال:
ـ بالنسبة لله نعم، لكن ذلك سيجر عليكي المشاكل مع الناس.
و رغم ذلك استمريت في أداء صلواتي على طريقتي، الى أن هلّت فترة امتحانات" الباكالوريا". و قبل شهرين من الامتحان رأيت التلميذات الاقل تديّنا ينقطعن للصلاة بغاية اجتياز" الباكالوريا" بنجاح، و بدا لي مسلكهن كما لو كان محاولة لرشوة الله. كان ذلك في عام 1977 .و خلصت من تأملاتي في أمور الدين و الصلاة الى هجران الصلاة و اعتبار العلاقة مع الايمان ومع الله مسألة شخصية.و هكذا تحوّلت بشكل نهائي الى مسلمة علمانية.."(ص 34)
Khalida Messaoudi, Elisabeth Schemla,Une Algérienne Debout, Flammarion, 1995
حكاية خالدة مسعودي مع حركات الصلاة تطرح بعضا من معاني أزمة الجسد المسلم المعاصر.فالدين الاسلامي يعلم المسلمين أن المرء لا يمتلك جسده كما يمتلك بعض متاعه أو بعض دوابه أو رقيقه. ذلك أن جسد المسلم ينطرح كمسئولية " عهدة " أو " أمانة" أو " وداعة" (وديعة) و كتكليف أكثر منه حقا.بل أن للجسد على المرء حقوق كما جاء في الأثر"..و لبدنك عليك حقا ، فاعط لكل ذي حق حقّه".جسد المسلم هو في ملكية الخالق، و في لغة الايمان فالانسان بكليته ، جسدا و روحا،انما يتعرّف كعبد مملوك لخالقه ، بل أن النسبة الوحيدة الممكنة بين الانسان و الله هي نسبة عبودية الاول للأخير، " و الخلق عبيد الله".
و في هذا الافق تنطرح حركات صلاة المسلمين ، و قل :" صلتهم" مع الخالق كتعبير عن قبول علاقة العبودية و استبطانها و تمثّلها في لسان الحال كما في لسان المقال.و في وضعية الركوع و السجود معنى التخلي عن كل هيئة يخلاف هيئة التسليم و الخضوع و الامتثال التام لمشئة الخالق التي ليس وراءها مشيئة، كما يذكر لسان مقال المصلي عند كل حركة بأن " الله اكبر".و الاسلام ليس الديانة الوحيدة التي تعبر عن العلاقة بين الانسان و الاله من خلال وضعيات الركوع و السجود، فمعظم الديانات السماوية و الارضية تتبنى وضعيات حركية مشابهة كالانحناء و الركوع و الانبطاح و تمريغ الانف على التراب الخ.غير أن المعاصرين من أولاد المسلمين و بناتهم، من نوع خالدة مسعودي ، مضطرون اليوم لاعادة النظر في الاسلوب الذي يعبرون به عن امتثالهم لمشيئة الخالق.ذلك لأنهم ، من واقع التربية الجسدية التي تلقوها، على مرجعية "صورة الجسد" في النسخة الاوروبية النصرانية لحداثة رأس المال،صاروا يقيمون على قطيعة متفاقمة مع "صورة الجسد" المسلم المحفوظة في أضابير الفقه الاسلامي. وخالدة مسعودي نموذج طيب للسواد الاعظم من مسلمي الطبقة الوسطى الحضرية، الذين يشكلون الفئة الاجتماعية الاكثر تأهيلا لانجاز مهمة الاصلاح التاريخي الضروري لدمج جسد الدين في سياق الحداثة.و خالدة مسعودي و أبناء و بنات طبقتها من المسلمين المحدثين يطرحون سؤال غربة الجسد المسلم بشكل حرج، ذلك ان هؤلاء المسلمين الذين انخرطوا بشكل نهائي في أحابيل صورة جسد السوق الأوروبي النصراني المتعولم، يجدون انفسهم بشكل مفاجيء، و بدون تحضير فكري مسبّق، أمام موضوعة " الخيار" بين الاسلام و حداثة رأس المال في نسختها الاوروبية.و غالبا ما يهجسهم السؤال: هل نحدّث( و " نُؤورب") الاسلام أم نؤسلم حداثة السوق؟و قد وضعت عبارة " الخيار" بين الاهلّة لأن هذا التساؤل نفسه انما هو تساؤل حداثي غير وارد عند المسلمين الذين يحيون خارج واقع الحداثة ( ان بقي بين المسلمين من فلت من طائلة الحداثة).و مهما كانت طبيعة الاجابة فان من يعالجها انما يتحرك داخل الاطار المرجعي لآيديولوجية الحداثة الغربية.
و آيديولوجية الحداثة الغربية بحكم تخلّقها ضمن ضرورات السوق الرأسمالي، و من واقع موقفها المهيمن فان امر " الخيار" الذي قد يتخيله المسلمون المحدثون يظل غير وارد في أفقها، يعني " عينك فوقه تركب فوقه" ،أو كما قال.و لسان حال سدنة السوق و حرس منظمة التجارة الدولية يقول للمسلمين أن يحدّثوا من الدين أو أن يديننوا من الحداثة، بطريقتهم،لكن المهم هو أن لا يعترضوا و لا يضايقوا نظام السوق و السلام.و هذا هو مغزى غربة الجسد المسلم المعاصر كونه ينطرح كقنطرة أخيرة من التناقضات بين الدين و الحداثة.
لقد اختتمت خالدة مسعودي حكايتها بعبارة:" و هكذا تحوّلت بشكل نهائي لمسلمة علمانية". و عبارة " مسلمة علمانية " التي اطلقتها خالدة مسعودي تلخّص في كلمتين كل اشكالية برامج الاصلاح التي اطلقها المسلمون الاصلاحيون في المجتمع الاسلامي المعاصر الذي تتفاقم فيه الصعوبات الوجودية و الاجتماعية على المسلمين الواقعين تحت طائلة الحداثة الرأسمالية فيتساءلون " ما العمل ؟" و هم، بين حيص و بيص، في ذلك الموضع الحرج من وزّة الحداثة.و بما أن العزائم تأتي على قدر أهل العزم، فقد تمخضت حركة الاصلاحيين الاسلاميين عن أشكال و الوان من أهل الاجتهادات الحداثية،فمن القوم من اختار صيانة الاسلام البدائي ـ و قيل " الابتدائي " ـ الموروث من السلف الصالح و السلام.. و السلام؟ سلام شنو يا زول؟قول :" و الحرب " عديل في حالة المتطرفين من شاكلة جماعة التكفير و الهجرة و الطالبان و القاعدة و القائمة تطول...ثم أن هناك بين الاسلاميين الاصلاحيين من " ينحاز " لقضية الحداثة كما ينحاز المسيحيون البورجوازيون لقضية الطبقة العاملة. و هؤلاء هم اولاد و بنات مسلمي الطبقة الوسطى من الثوريين الطوباويين الاماجد الذين جعلوا من الماركسية مذهبا خامسا ، على هدي ابي ذر الغفاري، و لي بينهم اصدقاء الدّاء و اعداء اعزّاء ، و لله في خلقه شئون. و بين اهل الافراط و أهل التفريط يمتد براح حداثي اسلامي واسع يراوح فيه الاسلاميون " المتصالحون" بأنواعهم ، من أهل الاسلام المتعلمن و العلمانية المتأسلمة.في هذا المشهد ينطرح اسلام الطبقة الوسطى الحضرية في المجتمع الاسلامي المعاصر كعقيدة يهجسها هم الاصلاح، عقيدة تتخللها قناعة عميقة بضرورة التحوّل للانسجام مع منطق الحداثة الصليبية المتعولمة التي تستعجل المسلمين، في كل مجال و على كل حال ـ و بالتي هي أحسن ـ حتى يعيدوا صياغة مقتضيات وجودهم المادي و الرمزي بما لا يتعارض و منطق السوق، و الاّ..و الاّ ماذا؟ و الاّ أصابهم عقاب و حصار و قصف و تدمير من طرف سادة السوق و حلفاءهم.ان صورة العالم الاسلامي كما يحبّذها سادة السوق الرأسمالي المتعولم تبدو في افق الصراع الراهن على صورة عبارة خالدة مسعودي: عالم اسلامي علماني، و السوق في تحليل ما هو آلة توحيد نهائي للمواصفات التنظيمية ، الانتاجية و الاستهلاكية. و هي آلة لا تطيق الاستثناء أو التسويف الذي قد يعترض أداءها بذريعة الميراث الثقافي لهؤلاء او لأولئك.آلة السوق لا تطيق الثقافة الا كترس اضافي يرفع طاقتها الانتاجية.
هل سينتهي شقاء المسلمين بامتثالهم لمقتضيات حداثة السوق و اعلانهم بقبول علمنة الاسلام على طريقة خالدة مسعودي؟ لا، و ستين لا..ان مشاكل المسلمين لن تنتهي عند هذا الحد، أعني حد العلمانية التي يملك المسلمون اختيارها و توليفها و تكييف الاسلام عليها من باب " الدين تلته و لا كتلته". فالعلمانية" خشوم بيوت " ،ولخبراء منظمة التجارة الدولية، بلا شك، نسختهم الخاصة من الاسلام المعلمن ـ و لو شئت قل : نسختهم الخاصة من العلمانية المؤسلمة ـ ( مثلما لهم نسختهم الخاصة من الديموقراطية و من حقوق الانسان ) و هي النسخة التي تتم صياغتها ابتداءا ، و انتهاءا ،بمقتضيات تحفظ للأوروبيين مركز الحظوة في ساحة السوق العالمي.و سيأتي يوم يموت فيه المسلمون العلمانيون من شاكلة خالدة المسعودي كمتطرفين آيديولوجيين ـ و قيل كارهابيين عديل ـ اذا تعارضت علمانيتهم الاسلامية مع علمانية خبراء منظمة التجارة الدولية. " الحي بشوف" كما جرت عبارة الاهالي، و من يتأمل في مشهد التحولات الدينية و السياسية المتسارعة، التي تتم في بلدان اسلامية مختلفة ، تحت ضغوط سادة السوق الرأسمالي المعاصر يملك أن يتصوّر نوع الشقاء الذي ينتظر المسلمين الـذين ناموا، " قافلين" على " تلت الدين ".و الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
صورة العضو الرمزية
قصى همرور
مشاركات: 278
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 11:07 pm

مشاركة بواسطة قصى همرور »

الأستاذ حسن موسى.. تحياتي وودي..

ظللت أتابع هذا الخيط منذ بدايته، استيناسا بموضوعه (أو مواضيعه بالأحرى)، وطريقة تناوله.. ورأيت أن كتابتك (مشهد الساجدة) شدتني للمشاركة بالتعقيب..

شدني حديثك عن خالدة مسعودي، كنموذج رؤية شخصية ل"مسلمة علمانية"، وكنموذج "طيب" سقته أنت "للسواد الاعظم من مسلمي الطبقة الوسطى الحضرية، الذين يشكلون الفئة الاجتماعية الاكثر تأهيلا لانجاز مهمة الاصلاح التاريخي الضروري لدمج جسد الدين في سياق الحداثة"، على حد تعبيرك..

سأحاول التعقيب على هذا الموضوع من عدة زوايا..

زاوية: خالدة مسعودي ومفهوم الدين..

أوضاع السجود والركوع، وبعض حركات صلاة المسلمين الأخرى وتوابعها (كالوضوء) بصورة عامة ليست حصرا على منهج العبادة في الدين الإسلامي، وهو أمر قد أشرت له أنت أيضا (والهندوس والبوذيين بتوضوا وبركعوا وبسجدوا عديل، والكتابيين عندهم السجود وغيره من شبه صور العبادة في الإسلام، كما هو مشهور).. غير أن خالدة المسعودي، كما يبدو، لم تلتفت لهذا الأمر، بدليل اختيارها لحركات "أشبه باليوجا" بديلا عن وضع السجود، رغم أن حركات اليوجا (أو منهج اليوجا بالأصح) هي في الأساس جزئية من منهج العبادة الهندوسي الأصل، وهو منهج يتضمن السجود والركوع وغيرها من حركات الخضوع والتسليم للقوى الخالقة، وباصطحاب نفس مفاهيم الخضوع التام لها.. وأوضاع اليوجا في حد ذاتها هي أوضاع تتخذ لضبط الجسد وتكبيل غرائزه التي تترجم إلى حركة دائمة، تفتقد للسكون الواعي والتسليم وترك الفعل (inaction).. واليوجا ليست منهاجا حركيا فقط (أي في صورة جلسات وأوضاع معينة)، كما هي التصويرة الحديثة لها في السوق الرأسمالي (مما قد يتسق بعض الشيء مع حديثك عن سيطرة السوق وتطويعه لمفاهيم الدين نفسها عند الشعوب لصالحه)، فاليوجا، مثلها مثل أي ممارسة جسدية دينية، لا تقوم بمعزل عن العقيدة الدينية.. ورغم أن الترويج العام لليوجا في الغرب اليوم يحاول تقديمها بهذه الصورة، إلا أننا، وباستمرار، نرى أن من يقرر متابعة هذا الخط بجدية من الغربيين ينتهي به المطاف إلى التعرف والتقدير للعقيدة الهندوسية (وسليلتها البوذية)، وإلى نمط حياة قريب، في استلهامه الروحي، لمعيشة الهندوس أو البوذيين، ولو صدر عن تسليم بالخلفية المسيحية، أو حتى العقيدة المسيحية نفسها (أو إحدى عقائدها بالأحرى).. والأمثلة على هذا الأمر كثيرة ومتواترة، بداية من اقتناء التماثيل الهندوسية والبوذية، وأشكال ثقافتها الأخرى من الموسيقى والكتابات والملبس والتعابير اللغوية وخلافه.. لأن خلاصة تجربتهم مع اليوجا، واحتكاكهم بأهلها، تفضي بهم إلى المعلومة الضرورية الماثلة في أن المنهج الديني في العبادة لا يقوم بمعزل عن العقيدة الدينية التي تطرحه.. هذا علاوة على الأمثلة الأخرى الصريحة فيمن بدلوا دينهم من المسيحية إلى الهندوسية أو البوذية (أو البهائية أو السيخية، حتى الإسلام نفسه.. الخ)، والعكس صحيح، بنسب متفاوتة (وهنا نذكر الإحصائية التي لم تقصر أجهزة الإعلام الأمريكية في التشديد عليها منذ ما بعد سبتمبر 2001، من أن الإسلام هو الديانة الأكثر نموا، من حيث عدد المعتنقين، في الولايات المتحدة اليوم)..

والهندوسية والبوذية (صاحبات اليوجا) أشد غلظة في ضبط وتكبيل الجسد من الديانات الكتابية، بصورة عامة، حتى متصوفي أولئك لهم مع الزهد والتقشف حكايات تفوق مثيلاتها (عند التعميم) بين متصوفي هؤلاء.. وعليه فإن خالدة مسعودي لم تفعل، في هذه الجزئية، سوى أن استجارت من الرمضاء بالنار.. هذا دون أن ندخل كثيرا في تفاصيل أن المعنى الديني، أيا كان، هو في الأساس يعتمد على مفهوم "العبودية" كما ذكرت أنت، أيا كان هذا الدين، والعبودية تقتضي المذلة، في مستوى من مستوياتها، من جانب العبد تجاه الرب.. هذا صحيح، غير أن العبودية (والمذلة) ومفهومها في هذه العلاقة يختلف اختلافا كبيرا في المقدار مع مفهوم العبودية بين البشر.. فالعبودية في الدين بصدد كرامة الإنسان، حين يصوب التزامه (الظاهري والباطني) تجاه القوى المطلقة (تجاه مثل عليا)، وبهذا لا تكون للقوى الأصغر منها (في إهاب الناس والسلطة والمال وغيره) سلطانا عليه، إذ أنه ليس عبدا لها، ولا يدين لها بولاء أو طاعة..

أما قولها (ان لله في خاطري فكرة جليلة و جميلة، و لا أدري ما الذي يجعلني انحط بهذه الفكرة بتبنّي الوضعية الجسدية للعبد المسترق التي جادت بها قرائح تجار الرقيق من بدو العربية السعودية، فلله في خاطرنا معنى مغاير)، فهو قول يمكن أن نقيس عليه لنعرف سبب استبدالها لحركة السجود بحركات "أشبه باليوجا".. وهنا سوف يظهر خلل كبير في منهج التفكير.. واقع الأمر أن رسالة الإسلام، وهيئة الصلاة، لم تكن فكرة تاجر رقيق، وقد كان أوائل أتباعها من العبيد كما كانوا من تجار الرقيق، وكلهم كانوا يصطفون سوية، ويقومون بنفس الحركات الجسدية في الصلاة، بما فيها تلك الوضعية.. هذا علاوة على أن "قرائح تجار الرقيق" تنطبق هنا على كل شعوب العالم في تلك الحقبة التاريخية، وليس فقط "بدو العربية السعودية".. وهذا علاوة أيضا على أن تاريخ الإسلام نفسه في نبذ علاقة الذل الغائرة بين السيد والعبد، في نظام العبودة (الاقتصادي والثقافي)، هو تاريخ يتحدث عن نفسه منذ بداياته.. وفي اليد الأخرى، نجد أن حركات اليوجا هي حركات قوم يسجدون لشيوخهم (وأحيانا ينبطحون بكليتهم)، كعادة أصيلة في نظامهم الديني، وهم نفس القوم الذين يؤطر دينهم، في نسخته المتجمدة الرجعية، لنظام التفرقة الحازمة، منذ الولادة، إلى أسياد وعبيد، وأطهار وأنجاس (نظام الطبقية الهندوسية المعروف)..

خلاصة ما أريد قوله من هذه الزاوية هو أن المشكلة ليست في أن تتبنى خالدة مسعودي ما تشاء من طقوس العبادة، أو حتى أن تلفظها كلها، فذاك شأن شخصي، ولكن في النهج التبريري الذي ساقته كمنطق وتعليل لتصرفاتها وقناعاتها الشخصية.. حتى في قرارها "هجران الصلاة و اعتبار العلاقة مع الايمان ومع الله مسألة شخصية"، فمنهجه التبريري غريب، إذا نظمناه في عقد واحد مع استنتاجاتها السابقة.. وكأن "اعتبار العلاقة مع الإيمان ومع الله مسألة شخصية" يقضي تباعا (أو بالعكس) إلى هجران الصلاة!

زاوية: غربة الجسد في المفهوم الديني..

قولك (حكاية خالدة مسعودي مع حركات الصلاة تطرح بعضا من معاني أزمة الجسد المسلم المعاصر.فالدين الاسلامي يعلم المسلمين أن المرء لا يمتلك جسده كما يمتلك بعض متاعه أو بعض دوابه أو رقيقه. ذلك أن جسد المسلم ينطرح كمسئولية " عهدة " أو " أمانة" أو " وداعة" (وديعة) و كتكليف أكثر منه حقا.بل أن للجسد على المرء حقوق كما جاء في الأثر"..و لبدنك عليك حقا ، فاعط لكل ذي حق حقّه".جسد المسلم هو في ملكية الخالق، و في لغة الايمان فالانسان بكليته ، جسدا و روحا،انما يتعرّف كعبد مملوك لخالقه ، بل أن النسبة الوحيدة الممكنة بين الانسان و الله هي نسبة عبودية الاول للأخير، " و الخلق عبيد الله")..

النظر لأزمة الجسد المسلم المعاصر من هذه الزاوية يعني تلقائيا أن هذه الأزمة مودعة في أجساد أتباع الأديان الأخرى أيضا، والمسيحية منها، حيث أنها أيضا تحمل صورا من التذلل والخضوع في العبادة (حتى النسخة الاوروبية المتعولمة منها، رغما عن الصورة المثالية لما يتمناه نظام السوق)، وأيضا يمكن الحديث هنا عن الكاثوليكية ومشكلتها العالمية المعاصرة في منعها (بصفة دينية) لاستخدام موانع الحمل في العلاقات الجنسية (هذا طبعا بعد التجاوز الفعلي الذي تم للتقرير الكاثوليكي الأساسي في فعل الجنس كخطيئة (من قولة تيت) حتى في إطار الزواج الشرعي (وهو من أبغض الحلال عند الكاثوليكية)، ناهيك عن ممارسته خارج إطار الزواج أساسا، حيث ينشط سوق موانع الحمل)، وهو وضع تعاني منه الشعوب الكاثوليكية الأفريقية أكثر، حيث يرتع الإيدز وأخوانه، والشعوب يمنعها "ورعها" من أن تستخدم موانع الحمل في علاقاتها الجنسية (الغير شرعية في معظمها)!.. ومن ثم المشكلة التابعة لهذه في منع الإجهاض (بصفة دينية أيضا.. يعني ما في ملكية للجسد بالمرة).. وهذا هو الحال مع بقية الأديان، إذ أن طبيعة الدين (كمنظومة فكرية تقتضي منهجا سلوكيا) تقضي بأن لا يتصرف متبع الديانة المعنية في جسده كما يحلو له، وإنما وفقا للقانون المنهجي لديانته في شتى النشاطات الجسدية..

كما أن المفهوم الديني، خصوصا في الإسلام، يقضي بعدم ملكية المسلم لأي شيء في الأساس.. فالدين الإسلامي لا يميز بين ملكية الجسد وملكية المتاع والدواب والرقيق، وإذا نظرنا لاعتبار الأولويات، فهو لا يملك المتاع والدواب والرقيق قبل أن يصل الأمر إلى فقدان ملكيته لجسده، وليس العكس.. إذا كان الدين الإسلامي يقضي بأن "الإنسان بكليته، جسدا وروحا، إنما يتعرف كعبد مملوك لخالقه" فمن باب أولى ليس هناك أي شبهة ملكية له على "المتاع والدواب والرقيق".. وكل ذلك إنما هو "عهدة" أو "أمانة" أو "وداعة"، وكتكليف أكثر منه حقا، على حد تعبيرك..

وبعد الاتفاق في أن مفهوم الدين فعلا لا يعطي الإنسان براحا مع جسده (مما لا يكفي للتوافق مع متطلبات النسخة الحداثية من السوق الرأسمالي)، بل وحتى خواطره، في سبحات أعلى ((يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن.. إن بعض الظن إثم)) ((وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله)) (وهذا لا ينطبق على الإسلام فقط).. بعد هذا نأتي إلى مسألة "غربة الجسد المسلم"، وطرحك لخالدة مسعودي، في تعبيرها المزعوم عن هذه الغربة، كنموذج "للسواد الأعظم من مسلمي الطبقة الوسطى الحضرية، الذين يشكلون الفئة الاجتماعية الاكثر تأهيلا لانجاز مهمة الاصلاح التاريخي الضروري لدمج جسد الدين في سياق الحداثة"، على حد تعبيرك.. لا أستطيع أن أرى كيف تكون خالدة مسعودي فعلا هي هذا النموذج، أو إذا كان هذا تقرير مبني على شواهد إحصائية أم على مشاهدة وتحليل شخصي.. ولكلا الحالتين تناولا مختلفا، وكلتاهما قابلتان للتداول، فالمشاهدة والتحليل الشخصي هي أداة أساسية من ضمن أدوات المفكر الاجتماعي، بمعزل عن الشواهد الإحصائية..

بيد أن الموضوع الأهم الآن هو قضية "غربة الجسد المسلم" نفسها، ومكانها من موضوع الحداثة، وانعكاسها المفترض على وضعيات الصلاة (كما يمكن أن يفهم من سياق نصك كاملا).. فالغربة هنا، بهذا المعنى، تصبح غربة أجساد جميع أتباع الأديان، وليس المسلمين فقط، كما أن المجتمع نفسه، من خلال وضعه لأعراف وتقاليد مختلفة (في كافة المجتمعات، الأوروبية وغيرها) إنما يعرض نفس المسألة من غربة جسد المواطن، وبذلك يصبح الموضوع موضوعا إنسانيا شاملا، في مواجهة نظام السوق الرأسمالي، ولا علاقة له بالجسد المسلم تحديدا..

وعند هذه الزاوية، أرجو السماح بإدلاء رأي شخصي في علاقة الجسد "المتدين" مع ذات المتدين (أو روحه بالأحرى)، فالمنهاج الديني يقوم في الأساس على عملية توحيد البنية البشرية، بمعنى "فض التعارض" أو "فض الغربة" بين الظاهر والباطن (اقرأ "الجسد والروح")، وهو يطرح نفسه، كمنهاج، بناية على هذه الفرضية، وهي أن الجسد في حالة غربة، من دوافع بيئية عدة (نظام السوق وزيادة)، ويحتاج إلى منهاج لتوحيده مع الذات، وهذا المنهاج يوفره الدين (أو يزعم أنه يوفره، كتعبير أكثر حيادا).. هذا هو جوهر الطرح الديني منذ بداياته التاريخية، وهو أول من أقر بواقع "غربة الجسد" بشمول العبارة، ولكنه يقدم منهاجا لحلها، لا للإمعان فيها.. فمشكلة الجسد المسلم اليوم، أو أي جسد متدين آخر، ليست في أن المنهاج الديني هو سبب غربته، وإنما في أن المنهاج الديني يحتاج للمزيد من العناية، أو أنه منهاج فاشل في الأساس، لكنه، في كلتا الحالتين، ليس هو سبب غربة الجسد المغترب أصلا.. أعتقد أن توضيحي لرأيي هذا قد يساعد القارئ في استفهام مرجعيتي الفكرية في المشاركة في تحليل علاقة الجسد المسلم مع نظام السوق الرأسمالي المعاصر، فغربة الجسد، في نظري، لن يفضها حتى الإندماج الكامل في ثقافة نظام السوق الرأسمالي، هذا إذا لم يزد فيها..

زاوية: الدين والسوق الرأسمالي..

قولك (و آيديولوجية الحداثة الغربية بحكم تخلّقها ضمن ضرورات السوق الرأسمالي، و من واقع موقفها المهيمن فان امر " الخيار" الذي قد يتخيله المسلمون المحدثون يظل غير وارد في أفقها، يعني " عينك فوقه تركب فوقه" ،أو كما قال.و لسان حال سدنة السوق و حرس منظمة التجارة الدولية يقول للمسلمين أن يحدّثوا من الدين أو أن يديننوا من الحداثة، بطريقتهم،لكن المهم هو أن لا يعترضوا و لا يضايقوا نظام السوق و السلام.و هذا هو مغزى غربة الجسد المسلم المعاصر كونه ينطرح كقنطرة أخيرة من التناقضات بين الدين و الحداثة)..

هذا قول دقيق ومفصح في مجمله عن واقع معاصر.. أكثر من ذلك فإن الخيار نفسه في (تحديث الدين وتديين الحداثة) ضيق جدا، فنظام السوق يريد النسخة الأكثر منفعة له من هذا "التحديث" أو "التديين" (كما ذكرت أنت أيضا، في فقرة تالية)، غير أن أحيانا، فإن هذا التحديث أو هذا التديين يجري بصورة مختلفة عن ما قد نترقبه..

نظام السوق قد دخل في صراع طوائف الأديان واستقطب منها ما يزيد منفعته، وأحيانا تكون منفعة السوق في غير النسخة "الحداثية" من الدين، حسب مفهومنا العرفي للحداثة.. فنظام جورج بوش الإبن لم يتبن خط الحداثة الديني في انتخاباته الأخيرة، وإنما استقطب الجماهير الأمريكية الأصولية في دعايته الانتخابية، وجعل من الكنيسة مركزا للترويج لها (قضايا الإجهاض وزواج المثليين والحرب على الإرهاب "الإسلامي")، وقد أفلح في نهاية المطاف، كما رأينا، في الفوز بالانتخابات بهذه الحيلة.. نظام السوق بصورة عامة لا يتبع منهجا معينا، فهو ينظر مكان مصلحته المباشرة، ويصوب نحوها، وعليه فإنه ليس في محل الدعم للحداثة الدينية أو للأصولية الدينية، فكلتاهما تغدو صديقته حين يحتاجها، وعدوته حين تضيق على نحو من طموحاته العريضه المتنامية.. قبل عهد قريب كانت طالبان، الممعنة في الأصولية الإسلامية (أي ضد الحداثة تماما) حليفة للبيت الأبيض، من أجل التخلص من التهديد السوفييتي، وبين ليلة وضحاها أصبح الحلفاء أعداءا.. ومنذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، وجورج بوش الإبن يستلطف الأصولية المسيحية لكي تدعم غزوه للعراق (وندع الحديث عن أفغانستان جانبا لبرهة)، بمسميات وأجندة ممعنة في الأصولية (رسول المسيح الذي أتي ليخلص أرض اليهود من أعدائها المتربصين، لكي يهيء الأسباب لعودة المسيح إلى أرض الميعاد)، وفي نفس الوقت الذي كان يستلطف فيه "الحداثيين الإسلاميين" في الضفة الثانية بأحاديث الديموقراطية والليبرالية والحرية الدينية والتعايش الديني ونبذ الديكتاتورية (صديقة اليوم والأمس في السعودية) ورفيقتها الأصولية الإسلامية (حليفة الأمس).. والأمثلة تكثر في هذا الصدد..

فنظام السوق، إذا، ليس ذا مصلحة معينة في حداثة الإسلام أو أصوليته، بل هو يلعب على الوترين، وحيث كانت المصلحة عند أحدهما، وكذلك يفعل بالأصولية المسيحية (واليهودية، وغيرها).. نظام السوق، باختصار، ليس نظاما منهجيا، يقصر دعمه على مدارس فكرية معينة، فهو ليس من متعاطي الفكر أساسا.. نظام السوق يزدهر وينتعش حيث الاضطرابات، والاضطرابات لا تكون إلا بوجود الأضداد، وبوجود صورة العدو ماثلة بشكل دائم في المخيلة، سواءا كان عند الحداثيين أو الأصوليين، وبهذا يلجأ كل طرف لقوة الرأسمال كلما "اتزنق"، ويستغله رأس المال لمصلحته كلما وجدها عنده، في تلك اللحظة وفي ذلك الموقف..

وعليه فقد يأتي زمن قريب، تكون فيه خالدة مسعودي، بإسلامها العلماني (أو علمانيتها الإسلامية)، شديدة التحرر بالنسبة لنظام السوق، وبشكل يجب معه ضبطها وإعادتها بضع خطوات إلى الوراء (حسب الطلب)، أو قد يحدث العكس أيضا.. غير أن العبرة الأساسية من هذا الديالكتيك (المتجلي في هذه المرحلة في صورة جبروت نظام السوق) هي أن عملية الحداثة الإسلامية لا سبيل لها، لكي تصل لما هو منشود عندها، إلا بالإنتباه لخطر نظام السوق، والحرص منه، ومحاولة اتقاء مكائده قدر المستطاع.. بغير ذلك، فإن أي فكرة إسلامية حداثية سوف تئد نفسها إذا قررت الانصياع لنظام السوق، بصورة أو بأخرى.. وما قيل عن الحداثة الاسلامية يقال أيضا عن المدارس الحداثية في بقية الأديان، ونعتها بالحداثة (أي مدرسة دينية معاصرة) يتوقف فقط على مدى اتجاهها نحو تطوير مشروعها الديني في إطار المجتمع، وطريقة طرحها لمضمونها الإنساني بلسان اليوم، لحاجة إنسان اليوم، وهو إنسان قد ضاق ذرعا، ويزداد ضيقا كل يوم، بنظام السوق وظلم الرأسمال.. وبغير اصطفافها (أي المدارس الحداثية) في صفه (أي هذا الإنسان) فسوف تظل غربة جسده ماثلة، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا..

ولك المحبة..
Conventional is neither neutral nor convenient
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

و يسألونك عن الروح..
ـــــــــــــــ
قصي
يا صاحب" الروح"
" قلت خذ روحي فقال الروح لي خل دعواها و هات الجسدا".(يا لها من عبارة)..
سلام جاك يا زول و شكرا على القراءة المتأنية و على الكتابة الرشيدة ،
و أنا يا صاح بين قراءك و أتابع ما يرد هنا و هناك و اتوقف كل مرة عند هذه العبارة الغميسة التي تلخّص بين ثناياها كل اشكالية أدب الجسد في الوعي الديني الذي اورثتنا اياه ديانات التوحيد. تقول ، حسب رأيك الـ "شخصي"(و هل يُعوَّل على رأي غير شخصي؟) " في علاقة الجسد " المتديّن" مع ذات المتديّن(أو روحه بالأحرى)" ـ و انت هنا تفترض التطابق بين معنى" الذات" و معنى "الروح" ـ، تقول:" فالمنهاج الديني يقوم في الاساس على عملية توحيد البنية البشرية بمعنى " فض التعارض" او" فض الغربة" بين الظاهر و الباطن(اقرأ " الجسد و الروح") .."أها يا قصي ترجمة الظاهر و الباطن بـ " الجسد و الروح" دي ما واقعة لي.منو القال انو الفي الباطن دا روح؟و اذا قلنا :" الجسد" دا ياهو جسد " أُم شمّامة و أُم دمّامة" المبوّظ على الموحّدين أمور دينهم، زي ما مبوّظ على الرأسماليين أمور دنياهم، بعدين الروح دي شن نفرها؟ الروح دي شنو؟ و جات من وين؟ و ماشة وين؟
و أنت تزعم، بغير حذر، ان الدين " هو اوّل من أقر بواقع "غربة الجسد" بشمول العبارة ". و لا يغيب على فطنتك ان الدين(كما السحر) ظاهرة تاريخية ظهرت في لحظة معينة من تطور المجتمع الانساني، مثلما لا يغيب عليك، بالتالي،ان غربة الجسد قديمة قدم المجتمع و انها ظلت ، و ما زالت ، تتخلّق و تتشعب ضمن تناقضات الوعي الفردي بحاجات الجسد في علاقتها بتناقضات الوعي الجمعي.و لن يغيب على فطنتك ، بالتالت،أن غربة الجسد ستبقى بعد ان تنقضي ضرورة الدين او بعد ان يستبدله الناس بوسيلة أخرى أكثر كفاءة( كوسيلة الفن او وسيلة الرياضة مثلا).و عليه فان كان زعمك بحظوة الدين و سبقه من باب التعبير الديني الايماني " ساكت" فلا جناح عليك ،و لن أنازعك في منطقة الايمان ،أو كما قال :" لكم دينكم و لي دين" ـ وأنا يا صاح على دين مولانا ابن المقفع لا أبيت ليلتي على غير دين.
قالوا أن ابن المقفّع كان قد عزم على اشهار اسلامه، و ذلك ضمن سعيه لتهيئة نفسه لوظيفة الكتابة لدى الخليفة المنصور.و قالوا ان الرجل أسرّ الى عيسى بن علي، عم المنصور،رغبته تلك، ففرح به عيسى و جلسا يتعشيان و يتفاهمان في تفاصيل الاشهار المنتظر في صبح اليوم التالي في المسجد.
قالوا ان ابن المقفع قضى ليلته تلك في معية عيسى بن علي، و قالوا ان عيسى استيقظ في منتصف الليل على صوت ابن المقفّع و هو يزمزم بشعائر صلاة مجوسية، فكلّمه في ذلك وذكّره بأنه سيدخل دين المسلمين مع الفجر.
قالوا أن ابن المقفع قال لعيسى:" اني لأكره أن أبيت ليلتي على غير دين".
أقول: و اذا كان زعمك بحظوة الدين و سبقه في خصوص غربة الجسد مستقلا عن موقفك الاعتقادي فهذا الزعم ، بشكله الراهن، لا يؤدّي، كحجة، في مناقشتنا الراهنة ما لم تدعمه بالمزيد من الايضاح، سيّما و أنت ـ من مرجعيتك الفكرية الدينية ـ توافقني في بعض استنتاجاتي التي ولّدتها أنا من مرجعية فكرية متنائية عن الدين( و هيهات).
, في تحليل نهائي ما، أظن أن فرضية فض التعارض أو فض الغربة بين "الجسد و الروح" ، حسب عبارتك، انما تنفعك في تسويغ ثنائية المادة و الروح ضمن اشكالية الوجود المادي للانسان عند تقاطع التاريخ و الجغرافيا.و مقولة" المادة" مقرونة بمقولة" الروح" هي نوع من حصان طروادة مفهومي يهيّيء للروح براحا غير مبرر على المشهد المادي الذي يستعر فيه الصراع بين الفرقاء الاجتماعيين. و هو براح ينتفع به القابضون على المقدرات و الخيرات المادية للمجتمع، ممن تعودوا على تخدير الفقراء بأحابيل روحية عجيبة من كون المال والماديات و متاع الدنيا الزائلة لا تصنع السعادة و لا توفر الخلاص ،و أن الخلاص الحقيقي هو خلاص الروح الى آخر كلام الدعاة الدينيين.و من وراء الروح يتسلل جيش عرمرم من المفاهيم " الصوفوية" الذاتية الاعتباطية التي تمتنع على اي قياس او ضبط عقلاني من شاكلة" الباطن"( ضد الظاهر و " الشريعة عليها بالظاهر" كما جرت العبارة الجبارة) أو" العاطفة" (ضد العقلانية ، او كما قال مقطوع الطاري ليوبولد سيدار سنغور الشاعر الكبير و عميل الامبريالية و منظّر الجمالية العرقية في عبارته المشهودة التي مازال الفنأفريقانيون من كل لون يحتفون بها:
"العاطفة زنجية مثلما العقلانية اغريقية"
« L’ émotion est nègre, come la raison hellène »
Liberté, négritude et humanisme, Editions Seuil, 1964.
و على هذا المشهد يباح اختزال تركيب ظواهر الوجود في مقابلات جاهزة من نوع " الشرق" ( ضد الغرب) و " التقليد " (ضد الحداثة) و " الفن " (ضد العلم) و " الخيال"( ضد الواقع) و الثقافة( ضد التجارة) و الروح( ضد الجسد) الخ..
أها يا قصي شوف حتى زولك دا، الزول الانت قلت ليهو :" خذ روحي".ياخي دا زول نجيض ما بنغش و عارف مصلحته وين،" روحك اعمل بيها شنو؟" قال ليك: "هات الجسدا" ... شفت كيف؟.

عصبة خالدة مسعودي
ـــــــــــــ
أما بخصوص خالدة مسعودي ، أنا معاك انو الزولة دي مشاكلها كتيرة ، و الماعارف يقول عدس.و أنا زاهد في تصحيح فكرتها عن اليوجا أو عن تاريخ الاسلام.و لا يغيب عليك ان خالدة مسعودي نفسها غير مهتمة باليوجا أو بتاريخ الاسلام، فهي كناشطة سياسية تنتفع بالتمثّل الدارج لليوجا كما سوّق له الاعلام الشعبي مثلما هي تنتفع بالتمثّل الدارج للاسلام في الخاطرالشعبي الجزائري الذي يتصوّر ان الاسلام اختراع سعودي أو افغاني.و على هذا يمكنك قياس منسوب الوعي بالدين عند " بعض" قادة الرأي في بلد كالجزائر.غير أن الشاهد في الامر هو أن خالدة مسعودي ـ مثلها مثل كافة الجزائريين الاماجد ـ تتمسك بالاسلام بطريقتها في تعبير " المسلمة العلمانية".و حتى لا أطيل عليك فخالدة مسعودي انما تُعلّق من عصبتها العلمانية الخاصة بها ، و أنا لا أدافع عنها هنا، لكن استغرابك من تبريرها ترك الصلاة متذرّعة بأن" العلاقة مع الايمان و مع الله" مسألة شخصية"، هذا الاستغراب يبدو لي غريبا حين يصدر من شخص بمثل مرجعيتك الفكرية الدينية.و يا حبذا لو أبنت بتفصيل أكثر في هذا الامر سيّما و أن موضوعة مفهوم الصلاة و تعريف طبيعتها و غاياتها هي منذ الستينات في قلب المناقشة السودانية التي احياها الاستاذ محمود محمد طه بخصوص تحديث الدين و أنت أدرى.
أما تعريجتك على" نظام الطبقية الهندوسية المعروف" الذي يعتمد" التفرقة الحازمة منذ الولادة، الى أسياد و عبيد و أطهار و أنجاس" فقد قرأتها، ُمغرضا ،كما لو كانت تزكية مجّانية لرق المسلمين على رق الهندوس، سيّما و انت تقول "ان المفهوم الديني، خصوصا في الاسلام، يقضي بعدم ملكية المسلم لأي شيء في الاساس".أها ناس " ما ملكت ايمانهم " ديل تعمل معاهم كيف؟ وما قولك في مزيد من الايضاح في هذا الموضوع، موضوع الرق في الاسلام ؟.
تنويه
ـــــــــ
و بعدين ياخي أنت تقول:" من باب أولى ليس هناك اي شبهة ملكية له على "المتاع و الدواب و الرقيق"..و كل ذلك انما هو" عهدة" أو" أمانة" أو " وداعة"، و كتكليف أكثر منه حقا، على حد تعبيرك.."و قد ضايقتني عبارتك " و كل ذلك" التي انتفعت بها في الربط بين مدخل الفقرة في خصوص ملكية" المتاع و الدواب و الرقيق" و عجزها في خصوص ملكية الجسد.فقد بدا لي أن العبارة بهذه الصيغة تخلق التباسا قد يحوّر مرمى كلامي و يجعل القاريء يفهم الاقتطاف الذي أوردته عنّي على اساس ان ملكية المتاع و الدواب و الرقيق تتساوى مع ملكية الجسد في كونها كلها عُهَد و تكاليف و أمانات و ودائع.خاصة و أنت تختم الفقرة بعبارة :" على حد تعبيرك".و عبارتي ببساطة تعارض بين مشروعية ملكية المتاع و الدواب و الرقيق و لا مشروعية ملكية الجسد.و لذا لزم التنويه كما تقول العبارة .

لا تبصق في سنغافورا
ــــــــــــ
لقد وردت مداخلتك و أنا اكتب" مشهد الاقعاء" بالاشارة لـ "مارسيل موس" أدناه. و قد وقعت لي عبارتك في جرح حينما قلت أن " النظر لأزمة الجسد المسلم المعاصر من هذه الزاوية يعني تلقائيا أن هذه الازمة مودعة في اجساد أتباع الاديان الاخرى أيضا.." ذلك أنها تجمع بين المسلمين و المسيحيين و اليهود و البوذيين و غيرهم من أهل الاديان الأرضية في سرج واحد على دابة السوق العايرة. قصي ، هل سمعت بحكاية بصاق الصينيين في سنغافورا؟
الصينيون في تقليدهم يعتبرون البصق دليلا على حسن التربية و كمال الصحة.كون البصق يتيح للشخص الممتليء عافية أن يتخلص من افرازات الجسد.و هكذا فقبل عقدين من الزمان كان الناس يقبلون البصاق في الامكنة العامة و في الحافلات بسماحة ظاهرة كأمر عادي.و كان من الشائع ان يقوم الصيني الجالس قبالتك في البص بارسال بصقة كبيرة بين قدميك متبوعة بنظرة باسمة لا تخلو من زهو.و في عام 1984 حاولت الحكومة حث المواطنين على مزيد من الاحتشام في مسالة البصاق في الامكنة العامة،فشرعت توزع على الصينيين أكياس من البلاستيك ليودعونها بصاقهم.غير ان اكياس البلاستيك لم تجد فتيلا.لان منظرالصينيين و هم يخرجون اكياسهم ليبصقوا فيها قبل القيام بطيّها و ايداعها جيوبهم من جديد كان أمرا غير محتمل.وبعد لأي توصلت الحكومة اليوم الى سن قانون يمنع البصق في الامكنة العامة، و كل من يقبض عليه متلبسا بالجرم المشهود يعرض نفسه لغرامة تبلغ ألف دولار.(أنظر : دليل ماليزيا سنغافورا في
Petit Futé, country guide, Malaisie Singapour, 2006/2007
و اذا كانت عاقبة تعبير جسدي في بساطة البصق تملك ان تجر على اهل سنغافورا أوخم العواقب المادية فما بالك بعواقب التعبيرات الجسدية الاخرى الأكثر جسامة؟

فكر السوق
ــــــــ
قصي، بقيت ملاحظة أخيرة تتعلق برؤيتك لنظام السوق.فأنت تقول:
"فنظام السوق ،اذا،ليس ذا مصلحة معينة في حداثة الاسلام أو اصوليته،بل هو يلعب على الوترين، و حيث كانت المصلحة عند احدهما، و كذلك يفعل بالأصولية المسيحية( و اليهودية و غيرها)..نظام السوق ، باختصار،ليس نظاما منهجيا، يقصر دعمه على مدارس فكرية معينة، فهو ليس من متعاطي الفكر أساسا.."
أوافقك ان نظام السوق انما يتبع مصلحته المادية حيثما كانت مع الاصوليين الاسلاميين او مع الاصوليين النصارى أو مع الاصوليين الصناعيين اليابانيين او مع الاصوليين الماركسيين اللينينيين الماويين في الصين او مع الشيطان نفسه.لكني لا اوافقك على غياب المنهجية و غياب الفكر عند سدنة نظام السوق.فآلة السوق الناشطة اليوم انما تعمل على منهجية عالية التركيب وعلى جهد فكري متقدم و مستفيد من جملة المعطيات العلمية و السياسية و الاقتصادية التي راكمتها الثقافات الانسانية على مر القرون.و كل الجهد المنهجي و الفكري لنظام السوق يمكن تسميته بـ " آيديولوجيا السوق" انما يستهدف صيانة و تنمية المصالح المادية للطبقة التي تمسك بمقاليد السوق.و نظام السوق يا صاح لا يستنكف عن الأيديولوجيا كما يفعل " أهل الروح" من" أعدقائي" و أصدقائي الشعراء و الغاويين الميامين الذين تروّعهم شُبهة الآيديولوجيا و تفسد عليهم بهجة التأمل الفكري الصافي المنزّه عن المصالح المادية .و قد قرأت من قبل كلاما عجيبا للصديق بشرى الفاضل يحذّر فيه من مغبة الآيديولوجيا على مستقبل الديموقراطية و التنمية في السودان و يوجه بضرورة الغاء" الحمولة الآيديولوجية" و الركون لبيوت الخبرة التقنية الموسومة بعبارة ال" ثينك تانك" و لا حول و لا قوة الا بالله. و أظن ان كلام بشرى ورد في الخيط
https://sudan-forall.org/forum/viewtopic ... 398b2#6946
المعنون:
في الديمقراطية والثقافة ومناهج النقد: موضوعات

كما قرأت في خيط آخر مناقشة بين الصديق النور حمد و الصديق الراحل الخاتم عدلان في نقد الموقف الآيديولوجي و علقت عليها في الرابط المعنون
حسن موسى في معرض "آفريكا ريميكس" بمتحف الفن الحديث
https://sudan-forall.org/forum/viewtopic ... 398b2#3200
وقد وعد النور بالعودة لهذا الموضوع.
و قبل أسابيع وقعت على مقابلة مع رئيسة حركة" حق" تقول فيها بالحرف: "..
ستظل حق تبشر ببرنامج سياسي غير ايديولوجى ، يسعى لتحقيق أهداف حتمية وضرورية للمرحلة ، وتبشر بوحدة كل القوى الديمقراطية لتحقيق مشروع النهضة الشاملة" .
( قول: يالنبي نوح ) وأنظر الرابط
https://sudan-forall.org/forum/viewtopic ... 2187d0549e
8e398b2
و المناقشة في موضوع الايديولوجيا في هذا الوقت الراهن من عمر التجربة الايديولوجية الحديثة تنفرض على الجميع بغير استثناء و قد تتعدد مداخلها لكن منتهاها سيظل يردنا ـ بطريقة او بأخرى ـ الى قدر" اللحم الحي" الشقي، هذا القاسم المشترك الاعظم الذي يلبك وجودنا الرمزي و يشدنا الى شرط حيواني لا ننتمي اليه و لا نطيق تخليا فنحتال عليه بأحابيل الروح و نتعزّى عنه بمكائد الماوراء و هيهات و ستين هيهات.
أنظر المناقشة في موضوع الآيديولوجيا في الرابط

https://sudan-forall.org/forum/viewtopic ... 398b2#4689
المعنون:
عبد السلام نورالدين ومحمد جلال هاشم وتبيدة شوكاي في ندوة

قصي
يا أخا الروح
و أهلنا يكنّون عن القرب الحميم في صحبة " الروح بالروح"
أظن أن لا مصلحة لنا في التعامي عن ذكاء اهل السوق و لا عن قدرتهم على الكيد الفكري المرهف اللطيف.فهم خصوم جبابرة و العاقل لا يستصغر خصمه مهما صغر، ولا شنو؟



جيوبوليتيك الجسد6

مشهد الاقعاء:
" لم نعد نعرف كيف نقعي, و هو أمر لا يقبله عقل، بل هو مما يشين أجناسنا و حضاراتنا و مجتمعاتنا. أذكر على سبيل المثال فترة عايشت فيها مجموعة من الجنود الاوستراليين(البيض)، و كنت، حين نتوقف للراحة في ارض مبتلّة او يجري عليها الماء،كنت أجدهم يمتازون عليّ بأمر عجيب.فقد كانوا قادرين على الاستراحة جلوسا على أعقابهم دون ان تلمس أصلابهم الارض المبتلّة.أما أنا فقد كنت مضطرا للبقاء واقفا و أرجلي في الطين"
Marcel Mauss, Sociologie et Anthropologie, PUF, 1968,p. 374
أطلق " مارسيل موس "(1873 ـ 1950)، رائد الانتروبولوجيا الفرنسية قولته الشهيرة في معرض معالجته للممارسات الجسدية كوجه في الاصالة الثقافية. و كلمة موس تضمر اضمحلال ذاكرة الجسد عند الغربيين و غربتهم عن امكانات التفتّح الجسدي، التعبيري و العملي، التي كانت متاحة لأسلافهم قبل الانخراط في الادب الجسدي للمجتمع الرأسمالي المصنّّع.
و " الاقعاء"، في لسان العربان، كأسلوب في الجلوس اعتمادا على " القعوة " ، و هي أصل الفخذ، أنواع.كاقعاء الكلب حين يجلس على استه مفترشا رجليه و ناصبا يديه،أو اقعاء الناس الذي ينهى عنه فقه الصلاة، الذي يعرّفه حين يضع الجالس اليتيه على عقبيه بين السجدتين حسب تفسير الفقهاء.أما أهل اللغة فيفسّرون الاقعاء بأن ينصب الرجل اليتيه بالأرض و ينصب ساقيه و يتساند الى ظهره.و قد جاء في الاثر:" أنه صلى الله عليه و سلم أكل مقعيا". و غالبا ما يرد معنى الاقعاء مرادفا للقَرْفَصَة. و " القُرْفُصاء" ( بضم القاف و الفاء) ضرب من القعود يُمدُّ و يُقصر، فاذا قلت : قعد فلان القرفصاء كأنّك قلت قعد قعودا مخصوصا، و هو أن يجلس على أليتيه و يلصق فخذيه ببطنه و يحتبي بيديه يضعهما على ساقيه كما يُحتبي بالثوب، فتكون يداه مكان الثوب" .." قال أبو المهدي: هو أن يجلس على ركبتيه منكبّا و يلصق بطنه بفخذيه و يتأبّط كفيه و هي جلسة الاعرابي.( مختار الصحاح للرازي، مكتبة لبنان 1987). و الاقعاء ، في تحليل ما، هو جلوس من لا كرسي له.و ربما لهذا السبب سمّاه ابو المهدي بـ " جلسة الاعرابي" المستغني بتقنية الجسد عن الاثاث ، على خلاف أهل الحواضر المتبحرين في فنون الجلوس على الأثاث و العارفين بآدابها. و ربما وجد الاقعاء أصله" الطبيعي" في هيئة من يجلس لقضاء الحاجة" الطبيعية".و هي طريقة في الاقعاء لا تلمس الاليتان فيها الارض.أو كما يعبر الكردفانيون " أُمْ قَـلَـلُو". و هي هيئة عملية في قضاء أغراض الاخراج حين يقتضي الامر " خروجا للخلاء" في الوسط الريفي، أو حين تفرض عمارة الحواضر شكل المرحاض" على الكريقة التركية".
و الاقعاء الذي عناه مولانا " مارسيل موس" هو هذا الاقعاء " الطبيعي" الذي لا تلمس الاليتان فيه الارض.و ملاحظة " موس" وردت في معرض وصفه لتصانيف تقنيات الجسد حسب العمر. فهو يعتبر أن" الاطفال يقعون بشكل طبيعي"(ص 274) قبل أن تطالهم تربية الجسد السائدة في الوسط الاجتماعي الحديث.و ملاحظة العالم الجليل ، على رجاحتها، تبدو لي مجحفة نوعا في حق الأوروبيين الذين يؤاخذهم على نسيان الاقعاء.ذلك أن الجسد ـ حسب مفهوم " موس " نفسه ـ انما يتعلم و ينسى ضمن منطق الضرورة الوجودية المادية و الرمزية. و منطق الحاجة و المصلحة الذي صار يدفع الأوروبيين المعاصرين الى استكشاف المناطق المعتمة من ذاكرة الجسد انما تنظمه ضرورة جديدة فحواها السعي لتجاوز أزمة الاحباط الوجودي للفرد ضمن المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي.و هو سعي غايته تأسيس روحانية جديدة على قاعدة الجسد.و ذلك باعتبار الجسد ضمانة يُعوّل عليها ـ من جهة أولى ـ ضد الانزلاق في شراك الروحانيات التجريدية السماوية والأرضية، مثلما يُعوّل عليها ـ من الجهة الاخرى ـ ضد الافقار و التبسيط المجحف الذي طبع الوعي المادي بالوجود بعقلانية وضعية بائسة المعنى.و تيار اعادة استكشاف الجسد، الذي اجتاح الثقافة الحضرية الاوروبية منذ سنوات الستينات، يعبّر عن نفسه بأشكال شتّى، بعضها منبثق من الاستبصار النقدي في تقليد التطبيب في الغرب الاوروبي مما تولّدت عنه مقاربات جديدة غير مسبوقة لموضوعة الألم ، كما في حالة مباحث الولادة بدون ألم، و التي لاقت في مستهلها استهجانا من طرف المؤسسة الدينية التي كانت تعقل تجربة الألم كجزء أصيل من فعل الولادة في الخاطر الأناجيلي.أوفي حالات المباحث الطبية الاوروبية التي تستلهم الممارسات الجسدية الوافدة من التقليد الآسيوي كاليوجا و العلاج بالابر و رياضات فنون القتال من كاراتي و تاي شي الخ.لغاية أستلهام أنواع الممارسات السحرية الشامانية الأفريقية او الأوسترالية، و تقاليد التعبير الجسدي التقليدي بأنواعه الحركية و الوسمية الخ. ومعظم الاشكال الثقافية الجديدة التي تبناها تيار العودة للجسد في المجتمع الأوروبي المعاصر يجمعها السعي الواعي و غير الواعي لاثبات صورة الهوية الفردية للشخص في لحم الجسد.و ذلك على اساس اضمار مشترك فحواه أن الجسد هو أول و آخر مساحة خصوصية مستقلة و قابلة للفلتان و الاستعصاء على ارادة السوق التي تسعى لبسط هيمنتها على كافة أرجاء المجال الحيوي للانسان المعاصر.
و ربما كانت قولة " مارسيل موس" الغاضبة في صدد الاقعاء تكتسب ثقلها الانساني من طبيعة موقفه الآيديولوجي النقدي تجاه نزق منطق السوق و لا أخلاقيته على صعيد تربية الفرد و تربية المجتمع.فمنطق السوق الرأسمالي، بما يجره على التقليد الثقافي للمجتمع من اعادة تربية الناس لصالح خدمة غايات الانتاج( من أجل الانتاج)، انما ينحرف بمبدأ الحس السليم و الصالح العام الذي تأسس عليه فعل المشاركة الاجتماعية في سياق المجتمع التقليدي قبل الرأسمالي.فمنطق السوق الرأسمالي لا يدمّر البنى الاقتصادية للمجتمع التقليدي فحسب، و انما يدمر وراءها مجمل البنى الثقافية التقليدية التي كانت تدعمها و تبرّرها في المشهد الاخلاقي للمجتمع.و ضمن تدمير البنى الثقافية التقليدية يرد اهمال أو نسيان الممارسات الثقافية الفردية و الجمعية التي كانت تؤطّر جسد الفرد كما كانت تؤطّر جسد المجتمع.و في هذا المنظور يرى " موس " نسيان الاقعاء مظهرا من مظاهر غربة الأوروبيين عن بعض اوجه ميراثهم الثقافي الجسدي قبل الرأسمالي.
قبل فترة شاءت الصدفة السعيدة أن التقي ببعض الاصدقاء في مدينة أوروبية بمناسبة حضور عروس أحدهم من السودان.و كنا نتونّس في أساليب تنظيم الأعراس في خرطوم الانقاذ و المكائد التي تتفتق عنها عبقريات الشباب الخرطومي في تنظيم المحافل الراقصة .و في لحظة غلبني فضول " علمي"، غالبا من واقع دراستي لطقوس رقصة العروس ، فسألت العروس ( الجامعية) عن آخر تطورات طقس" قطع الرحط " في السودان. و كانت دهشتي لا تقل عن دهشتها حين أجابتني في براءة: " قطع الرحط دا كمان شنو؟".
أظن أن "موس " يظل نافعا لنا اليوم و نحن نحوض في شقاق الحداثات من حيث كونه باحث انتروبولوجي صاحب رؤية اجتماعية انسانية و حس سياسي تقدمي يجعل من مبحثه في موضوعة " العطاء المتبادل" ضمن السياق التقليدي مشروعا في أنسنة الحداثة و اصلاحها أخلاقيا.( أنظر : رسالة في العطاء لدى أهل الشمال الغربي الامريكي)
Essai sur Le Don, in Sociologie et Anthropologie
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


الأخ العزيز حسن موسى

((سلامٌ على سلمى ومن حلَّ بالحمى، وحُقَّ لمثلي رقةً أن يسلِّما))
الشيخ، محي الدين بن عربي

تحيتي لآل بيتك قاطني دوميسارق، وآملُ في حجٍ قريب، إليهم.

أتابع هذا الخيط الشيق باستمرار، وأجد فيه الكثير من الجديد الباعث على التأمل في شؤوننا وشجوننا المتشابكة. وأرجو أن استميحك عذرا بالعودة إلى أصل هذا الخيط الذي انطلق منه، وهو قضية الخفاض. وأنا يا صديقي من الزمرة التي لم توقع على العريضة. وعدم توقيعي على العريضة لم يكن لكوني أنتمي إلى القبيل الذي أشرت إليه بكونه ربما رأى في الأمر مجرد فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإنما لكوني قد رأيت في عدم التوقيع فرض عين. وبطبيعة الحال، لم أمتنع عن التوقيع لكوني من مؤيدي خفاض الإناث. فكل ما في الأمر، أنني لست على بينة من أمري في جدوى حملة التوقيعات، وصحة منطلقها، وسلامة مقصدها، وخلو تقديمها من مزالق أراها محيطة بها إحاطة السوار بالمعصم. والمزالق تحف الشؤون الشائك عادة، وشأن والخفاض واحد من هذه الشؤون الشائكة.

أيضا، من المشاكل العويصة لهذه العريضة، في "نظري الضعيف" ـ كما تقول أنت ـ أنها مرفوعة أصلا إلى جناب السلطات السودانية الإنقاذية الراهنة! ويبدو أن الغرض من العريضة، أو المذكرة هو دفع السلطات السودانية عن طريق "الضغط الشعبي"، ـ وهو في هذه الواقعة بالذات ليس سوى "ضغط صفوي، وشبه صفوي" ـ لكي تصدر قانونا يحرم تلك العادة ويجرم من يجرونها على بناتهم. وينتظر للإنقاذ في هذا المسار المرسوم أن تعمل على إنفاذ ذلك القانون في مسارب ومنعرجات الحياة اليومية السودانية، في كل شبر من أنحاء القطر، من متابعة للمخالفين، وتقديمهم إلى المحاكم. فالأمر، على هذا النحو، يعطي تلك السلطات الغاشمة ذريعة جديدة للتغلغل في شؤون الناس. وهي أصلا سلطة مسرفة في ذلك النوع من التغلغل. كما أن ذلك يمد أمام ناظريها مساحات بكر، لمزيد من حشر أنفها في دقائق شؤون الناس الخاصة، دون حرص حقيقي على خيرهم.

نظرة في تكتيكات اليسار السياسية:

ظللت دوما متشككا في تكتيكات اليسار السوداني السياسية، المستظلة بشجرة الحزب الشيوعي السوداني. واليسار السوداني ثوب فضفاض يضم قبائل شتى. وقد كنت في مستهل شبابي، كما تعلم، ويعلم الكثيرون من أصدقائي في هذا المنبر، مستظلا ـ وبمضض لم أخفيه ـ بتلك الدوحة الباسقة المتجذرة في أدبيات الماركسية اللينينة وممارساتها التنظيمية، فيما يخص إدارة الصراع اليومي، وتأجيجه نحو نقطة الثورة الشاملة. ألا رحم الله أيام وأحلام الثورة الشاملة! وحين تحولت إلى الأستاذ محمود محمد طه، تحولت نحو أفق مختلف من آفاق اليسار، وضمني ماعون مختلف من مواعينه. وحين أختلف اليوم، مع مقترحي العريضة، أو المذكرة، والموقعين عليها، أفعل ذلك من منطلق يساري محض ـ إن صح أن هناك شيئا محضا ـ. أقول قولي هذا بقصد درء وسواس المزايدة ببطاقة اليسار الذي سرعان ما يعلو في صدور اليساريين النظاميين من حاملي خارطة الطريق إياها، خاصة حين يرى إمرؤ من الناس خلاف ما يرون. وما أنت ممن يحدثونهم ببدائه الأمور وبسيرة حركة اليسار في السودان. ولقد كنت مبينا في شرحك لموقف الأستاذ محمود محمد طه، في أربعينات القرن الماضي، حين قاوم إتجاه السلطات البريطانية لتجريم ممارسة الخفاض. وكما تفضلت أنت بالإشارة، فإن موقف الأستاذ محمود محمد طه قد أسيء فهمه من كثيرين. ومن بين من أساءوا فهم موقفه أكاديميون مرموقون، من بينهم الدكتور خالد المبارك، وصديقنا، الدكتور، محمد أحمد محمود.

أرى في هذه العريضة التي نبتت أثر موت طفلة سودانية، أثر إجراء عملية خفاض، واحدة من طرائق اليسار السوداني المستظل بدوحة أدبيات الحزب الشيوعي السوداني في تحريك وإدارة الصراع مع السلطات القائمة. وهي إدارة للصراع تقول تجربتنا فيها، أنها لا تعدو أن تكون سجالا من سجالات تسجيل النقاط التي ينتظر لها أن تتراكم نحو نقطة الإنفجار. ولكن، حين تنعدم الرؤية المقعدة وينقصم عظم الظهر الفكري للفعل السياسي، يصبح العمل في المعارضة السياسية خبط عشواء، و "رزق اليوم باليوم". وأخشى أن تكون بعض قوى اليسار السوداني قد أحست بأن الإنقاذيين على وشك سرقة "كرت الخفاض" من بين أيديها، وهي الظانة بنفسها حمل مشعل التقدم والتحديث، فسارعت بتحريك ملفه بعجلة من أحس بلسعة. الشاهد، أن الإنقاذيين قد شرعوا مؤخرا في تحريك ملف الخفاض. وقد حدث هذا قبل موت هذه الطفلة بفترة قصيرة. ويبدو أن الإنقاذيين قد رأوا أن الظرف السانح قد أظلهم لكي يعكسوا وجها حداثيا تقدميا لتجربتهم. فاقاموا في شأن الخفاض السمينارات، والندوات، والحملات الإعلامية، وما إلى ذلك. وأظنهم قد تحركوا في هذه الوجهة ليعكسوا للناس ما غشي "حسهم الحضاري" من تشذيب، وما غشيهم من زيادة في الحساسية تجاه عذابات البشر، خاصة الأبرياء من صغار الإناث اللواتي هن في عهدة الكبار، وذممهم!!. الشاهد أن قدرا معتبرا من الانقاذيين قد أصبح يقف ضد عادة الخفاض، وللإنقاذيين منطلقاتهم "السُنِّية" ـ إشارة إلى ما يسمى بخفاض "السُّنة" الممارس في جيوب من دول جزيرة العرب ـ. وهم ربما رأوا أن بعض الشر أهون من بعض. كما أن من بينهم من يرى أن عادة الخفاض من حيث هي عادة فرعونية ولا علاقة لها بالإسلام، سُنِّيْهِ، وغير سُنٍّيْهِ ولكل منطلقه، ولكل إمريءٍ منهم يومئذ شأن يغينه!.

حاول الإنقاذيون بالفعل، قبل فترة قصيرة، حث بعض فقهائهم المنفتحين على أفق الحداثة و"طيبات عطائها"، أن يفتوا في وجهة أن ليس لخفاض الإناث تأسيس إسلامي، خاصة ما يسمى منه بالفرعوني. والإنقاذيون تجار سياسة، ويعرفون كيف يلعبون بكروت متعددة، في أوقات متعددة. الشاهد أن كرت الخفاض عاد مرة أخرى مشكلا "عظمة نزاع" جديدة بين الحركة النسوية الإنقاذية ومسانديها من ذكور الإنقاذيين الحداثيين من جهة ـ وأعنى الحداثة المنضوية في بنية الرأسمال، المحبة لأطايب الربح ورغد العيش، والإغراق في اللذاذات مما جميعه ـ وبين شراذم جيوش اليسار الماركسي اللينيني المتراجعة نحو خنادق ومتاريس لم تتضح لها جهتها بعد. في هذا الإنسحاب غير المنظم من أرض المعركة، وهو انسحاب ضاعت فيه البوصلة، يقوم اليسار بإجراء عمليات تراشق مع الأنظمة القائمة عن طريق المزايدات حسيرة الطرف مما درجت الحركة اليسارية السودانية على القيام به عبر تاريخها في ما يسمى بالعمل الجماهيري. وفي حالة الخفاض، فقد تم عقد اللواء للذراع النسوي، ومسانديه من ذكور اليسار من مروجي أدبيات حقوق الإنسان النابتة في أوحال تربة المرجعية الغربية، والتي يراد لها التصدير وإعادة الغرس في فضاء حضاري وثقافي مختلف، وذلك باستخدام قوة التقنين، التي لا تسخدم التفهيم، ولا تأخذ بنهج العمل القاصد بجد نحو إنفاذ التحولات الأساسية، بقدر ما تستخدم التخويف من سوء المنقلب بإشهار سيف القانون.

في تقديري، أن دموع تماسيح كثيرة يتم ذرفها في هذا المعترك الذي ربما لا تكون فيه لبسطاء الناس ناقة ولا جمل. فبسطاء السودانيين، أبقى عليهم موروثهم من طقوس القبيلة، مضافا إليه الحبس المزمن في جيوب الفقر المدقع، والجهل، والعزلة، وانعدام فرص التعليم، وفرص التحديث، في مقام عجيب، ضمهم دهورا دهيرة. فظلوا عاكفين، على تقطيع أوصال أعضاء بناتهم التناسلية، عكوف العباد. هذا من جهة. أما من الجهة الأخرى، فقد أراد الذين يتحدثون بإسمهم من صفوة اليسار وراكبي موجة الحداثة المبنية على الوصاية، أن يجيئوا إليهم بقوانين تنبش في سراويل بناتهم، لتجرمهم وتقودهم إلى المحاكم! وأطرف ما في الأمر، أن الذين سيصبحون تلقائيا by default، مشرعين لهذه القوانين، وشرطة لها، وقضاة لها، هم أهل سلطة الإنقاذ السودانية القائمة الآن! أليس شر البلية ما يضحك!؟

وهكذا أصبح مساكين السودان وأمييه، واقعين ـ ولا حول لهم ولا قوة ـ بين سندان التقليد الراسخ القابض على تلابيبيهم، والجاثم على صدروهم منذ دهور طويلة، وبين مطرقة هذا النوع من الحداثة "المكلفتة"، التي يتم فرضها من علٍ، وبغير بصيرة وبغير دقة في التمييز. كل ما في الأمر أن الفصائل السياسية المتناحرة تعتليها بين فترة وأخرى موجة من موجات إثبات الذات: "أنا أفرفر، إذن أنا موجود". غير أن هذه "الفرفرات" التي تأتي في شكل فورات فجائية، ربما جعلت ـ إن قدر لها أن تنفذ في حيز الفعل ـ، حياة البسطاء أضيق وأحرج وأكثر إرباكا مما كانت عليه من قبل.

الخفاض ليس ظاهرة عربسلامية!

تقليد الخفاض ليس تقليدا عربيا إسلاميا، وإن جرت ممارسته في بعض الأقطار العربية والإسلامية. وتشير المصادر إلى أن الدول العربية التي تمارسه هي كل من مصر، والسودان، واليمن، وعمان، ودولة الإمارات العربية المتحدة. فالغالب على هذا التقليد هو أنه تقليد قبلي إفريقي شائع وسط العديد من القبائل الإفريقية يتركز أغلبها في منطقة جنوب الصحراء. وتقول الإحصاءات أن حوالي 28 قطرا إفريقيا تجري فيها ممارسة نوع من أنواع الخفاض. ويمثل الخفاض جزءا لا يتجزأ من طقوس تدشين الصغار حين يخطون أول خطواتهم في مدارج الرشد. وتقوم بهذا التقليد، وسط كثير من القبائل الإفريقية، منظمات قبلية تسند إليها القبيلة مهمة أخذ الصغار، بعد عزلهم من أسرهم، إلى ما يسمى بـالـ bush schools. في هذه المدارس التي يتم فصل الإناث عن الذكور، ويجري إعدادهم وتهيئتهم ليصبحوا رجالا ونساء راشدين قادرين على الإسهام الفاعل في حياة القبيلة كأفراد راشدين مسؤولين. وتسمى العملية في مجملها initiation أو "تدشين". والخفاض جزء من هذه العملية الإعدادية المتعددة الوجوه.
Perani & Smith (1998) The Visual Arts of Africa. Upper Saddle River: New Jersey (p. 87).

فالخفاض طقس قائم على النظام المعتقدي للقبيلة، شأنه شأن الشلوخ، بمختلف أشكالها، وتكسير الأسنان الأمامية، كما في جنوب السودان، وتطويل الرقبة بالحلقات الحديدية كما عند الزولو، وغير ذلك من طقوس التدشين عند عتبة النضج والإنتقال من الطفولة لمرتبة الرجولة أو الأنوثة. ويرى كثير من الباحثين أن استئصال عادة الخفاض لا تكون ممكنة من دون تغيير الأنظمة الثقافية والمجتمعية المحيطة بها. وهذا، بطبيعة الحال، لا يتم عن طريق القانون وحده. كما لا تكون ضربة البداية فيه بسن القوانين، قولا واحدا. وقد كان هذا هو رأي الأستاذ محمود محمد طه الذي صدع به منذ ستين عاما.

الآثار المحتملة للمنع عن طريق القانون:

الذين يقومون بإجراء الخفاض في السودان، لا ينحصر أمرهم في الأطباء، والعيادات، والقابلات القانونيات، في المراكز الحضرية وشبه الحضرية القليلة العدد. وإنما هم، في الأغلب، الأعم أهل الريف، في قراهم ودساكرهم النائية. ومن يمارسون عادة الخفاض على بناتهم، لا يرون فيها عيبا مثلما يراه المتعلمون الذين سمحت لهم ظروف تلك الديار الحزينة بالإلمام بطرف من قيم الحداثة، فأصبحوا يتحدثون منطلقين من ضمير الحداثة، ومن موقع حساسيتها المزعومة الكاذبة تجاه معاناة البشر. كما أن من يقومون بإجراء خفاض الإناث من سكان الريف، ربما لا يفهمون أصلا لماذا تتدخل الحكومة في شؤونهم الخاصة، كما هو الحال في شأن الخفاض. ولربما أدت محاولات وقف العادة عن طريق القانون والعقوبات التي ستطول العيادات، والقابلات المدربات، والقابلات غير المدربات ممن تمرسن في أداء ذلك النوع من الجراحة، إلى أن يقوم أهل البنت وأقرباؤها بإجرائها بأنفسهم، في ظروف من السرية والعجلة، مما يزيد من نسبة الأخطاء القاتلة. فلو حدث مثلا، نزيف لطفلة جرى خفضها في السر، وكان من الممكن إسعافها وإنقاذ حياتها، فإن وجود سيف قانوني مشهر، ووجود تهديد بالمساءلة القانونية، سوف تجعلان أهل تلك الطفلة يحجمون عن الذهاب بها إلى مراكز العناية الطبية. الأمر الذي سوف يفاقم من نسبة الخطر، خاصة في مثل تلك الحالات المهددة للحياة.

والحكومات التي تهمل العمل على رفع المستوى المعيشي لمواطنيها من حيث السكن الصحي المناسب، والمياة الجارية، والصرف الصحي السليم، ومن حيث فرص التعليم، والتغذية المناسبة، والتعليم المناسب، والخدمات الصحية المناسبة، لايحق لها أن تتحدث في شأن الخفاض، أو أن تتحرك بدعوى أنها تحمل هم الناس، خاصة الصغار، وأن لها توجها أصيلا قاصدا إلى إستئصاله. إذ لا يستقيم أن تهمل السلطات كل هذه الواجبات وتتركها جانبا، ثم تدعيى لنفسها حرصا على حياة الصغار وسلامة مستقبلهم! فالحرص على حياة الصغار يتم من خلال الحرص على ترقية حياة أولياء أمورهم، في المقام الأول، ومن جميع الوجوه. باختصار شديد: الحكومة ليست أحرص من أولياء الأمور على فلذات أكبادهم، مهما أدعت، وتلفعت بمسوح الحداثة الكاذبة الزائفة. الطريق للقضاء على عادة الخفاض طريق غير مباشر. فهو طريق يمر بأراضي مختلفة، وعبر هذه الأراضي الشاسعة البور تقع مواقع مفترض أن يقوم عليها السكن الصحي، والمأكل الصحي، والعلاج، والتعليم، والتثقيف، وملء الحياة بكل مثمر ومفيد وباعث على الإستنارة من الأنشطة.

جميعنا يعرف كيف أن الناس تحولوا بعد منع إستيراد الخمور الأفرنجية إلى السودان ومنع بيعها في الأماكن التي كان مرخصا لها ببيعها، إلى الخمور البلدية التي أصبحت تخلط، كما يقول البعض، بحجارة البطارية وغيرها من المكونات الضارة مما قاد في بعض الحالات إلى التسمم، والموت، وإلى العمى في حالات أخرى وسط المعاقرين. ولا أبحاث، ولا إحصاءات في هذا الصدد، بطبيعة الحال. فالسلطات لا تريد أن ترى أضرار قرراتها "المكلفتة"، فهي فقط "تطبق شرع الله"!! ولايهم من مات ومن حيي في ذلك السبيل. والمفتونون بأساليب الحداثة التي لا ترى بأسا في تغيير ثقافة البسطاء مستخدمة سيف القانون، ليسوا بأفضل حال، في تقديري، من مروجي البدعة التي أسموها زورا وبهتانا، "شرع الله"!! فذلك "شرع الله" وهذا "شرع الحداثة"، و"شرع الصفوة"، ولا فرق!!. وكلما تدخلت السلطات، ومن ورائها أنصاف المثقفين للسيطرة على من يدبون على وجه الأرض، وكلما عملوا على صب حياة كل دابة تدب، في قالب القانون (المعروف بكونه حمارا)، وكلما حاولوا دفع عجلة التطور، مستخدمين سلاح القانون وحده، كلما انسحبت الحياة إلى باطن الأرض (وقامت بتشغيل الكيبل الأرضي) ومدت لهم لسانها، وسخرت عمليا من جهلهم، وعجلتهم، وحذلقتهم، وانصرافهم عن أصل الداء. وما أكثر ما نندفع في إثارة بعض القضايا الشائكة منطلقين من عقدة الذنب، لعلنا نُسكت، ولو قليلا، أصوات ضمائرنا التي تقلقنا، لكوننا لم ننتفع من علمنا ومن ريادتنا ولم نجعل منهما مردودا عمليا نافعا ينعكس على حياة أهالينا.

حين ناهض الأستاذ محمود محمد طه، قبل نصف قرن من الزمان، إتجاه السلطات البريطانية لإصدار قانون يحرم خفاض البنات ويجرمه، ذكر، ضمن ما ذكر، حينها، أن الإنجليز ليسوا أحرص منا على صحة بناتنا ومستقبل حياتهن. كما ذكر أن العادات الضارة لا تحارب بسن القوانين وتطبيقها، وإنما تحارب بالتعليم وبالتوعية وبالأخذ الجاد بأسباب النهضة الشاملة. وقال بالتحديد، إن على الإنجليز، إن كانوا صادقين فيما يزعمون، أن يسارعوا بفتح المدارس في كل أرجاء القطر، ودفع القطر نحو النهضة الإقتصادية والإجتماعية الشاملة، بدل العمل على تجريم الأميين على عادات ورثوها من آبائهم وأجدادهم. والمحاولة القائمة الآن للتوقيع على عريضة أو مذكرة يتم تقديمها لوزير العدل والنائب العام الإنقاذي، لا تختلف في عموم تسبيبها الفكري، ومقصدها العملي، عن ما قام به الإنجليز في عام 1946 من استخدام لسيف القانون لإستئصال تلك العادة الضارة. وقد تعرض الأستاذ محمود محمد طه بالمقاومة لذلك المنحى الكولونيالي المتعجرف المتعالي بإشعاله ثورة رفاعة الشهيرة التي تبعه فيها رهط من أهالي مدينة رفاعة فعبروا النيل بالمراكب، وقاموا بمحاصرة مركز الشرطة في مدينة الحصاحيصا، وأجبروا السلطات البريطانية على إطلاق سراح المرأة التى تم اعتقالها بموجب ذلك القانون. الأمر الذي أدى إلى محاكمة الأستاذ محمود وإيداعه السجن لمدة عامين. ولكن، ما لبث أن عاد بعض الأكاديميين ليقولوا لنا بعد مضي قرابة نصف القرن من ثورة رفاعة: لو لم يقم الأستاذ محمود بثورته تلك، لكانت عادة خفاض الإناث في السودان قد انتهت! وللمرء أن يعجب وأن يشبع عجبا!! فالإنجليز الذين جاءوا بالآلة العسكرية الكلونيالية التي أزهقت أرواح ما يزيد عن عشرة ألاف سوداني في معركة كرري، في بضع سويعات، دون أن يطرف لهم جفن، هم نفس الإنجليز الذين ظن بعض أكاديميينا أنهم كانوا حتما سيتوفرون على الإيتاء بحل ناجز ينهي عذابات صغار السودانيات من عادة خفاض الإناث! وهذا لعمر الحق، ضرب من ضروب ((دفن الليل أب كراعا بره)). وإلا فليخبرنا هؤلاء الأكاديميون: لماذا لم تنته عادة الخفاض في مصر، وفي الصومال، وفي ما يقدر بثمانية وعشرين دولة إفريقية لم تحدث فيها ثورة مثل ثورة رفاعة؟

خلاصة الأمر فيما أرى، إن للإحجام عن التوقيع على المذكرة المقدمة "لوزير العدل السوداني والنائب العام السوداني" أساب أخرى غير تلك التي تفضلت أنت بإيرادها. وأردت أن أشير إلى طرف منها مجرد إشارة. ومن هذه النقطة أريد أن أدعو إلى تفاكر في سيرة المعارضة السياسية، وسيرة العمل المطلبي النقابي وغير النقابي مما عرفنا في سودان ما بعد الإستقلال. فالعمل المطلبي واحد من الإنجازات الشامخة للحزب الشيوعي السوداني، وللحركة اليسارية السودانية في عمومها. غير أن العمل المطلبي أسيء استخدامه، خاصة الشق النقابي منه. فقد ضاعت أهدافه في سجال تسجيل النقاط، بغرض إرباك الحكومات وإحراجها، مما قاد إلى إرباك الديمقراطية المتعثرة نفسها، حتى كفر الناس بمبدأها، أو كادوا. وكانت النتيجة أن أصبح الشعب، يستقبل، في عموم حاله، العساكر بالتهليل، كلما انقلبوا على الديمقراطية أثر "قعدة" ليلية، إمتلأت بالمناقشات التبسيطية الساذجة لمشاكل البلاد والعباد. سيطر اليسار السوداني على العمل النقابي، واساء استخدام النقابات، حتى وصلنا إلى ما يشبه النهاية التامة للعمل النقابي، وإلى نهاية مأساوية للمواعين المؤسسية التي حوت ذلك العمل النقابي. بعد قرن بالتمام والكمال، من إنشاء خطوط السكك الحديدية في السودان، وصلنا إلى نهاية مأساوية إلى ما سمي يوما بـ "سكك حديد السودان" فقد أصبحت اليوم، أثرا بعد عين! وكما قال الطيب صالح: ((فاقفرت الديار، وعفت الآثار، وجاء الجند وساقوهم إلى السجن))!!

ولسوف تكون لي عودة إلى موضوع البراغماتية والآيديولوجيا الذي تفضلت بالإشارة إلي. وأرجو أن يكون ذلك قريبا، إن شاء الله.


((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
قصى همرور
مشاركات: 278
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 11:07 pm

مشاركة بواسطة قصى همرور »

الأستاذ حسن.. وتجديد التحايا والمودة، مصحوبة بالشكر..

خشيت بداية أن تنساق تعقيباتي إلى خروج عن موضوع (أو مواضيع) الخيط ، بصورة عامة.. غير أني "استعدلت" عن هذه الخشية، فعلاقة الحوار المكتوب في صفحات الشبكة العنكبوتية تحكمه أعراف ثقافية مختلفة عن تلك التي في الندوات أو أركان النقاش أو ما شابهها.. أو هكذا سولت لي نفسي أن أعتقد، حتى أعقب دون خشية..

ومن تعقيبك على تعقيبي تولدت مداخل قضايا شتى، أرجو أن أتمكن من حصر أهمها (عندي) وسرد نظرتي فيها دون وكس أو شطط، با عتبار المتاح من زمن وأدوات فكرية..
(هذا وأنا في أثناء انتظار حديثك عن رقصة العروس.. أراها مقطوعة فنية جسدية تختزل في داخلها تاريخا مجتمعيا باهظا)..

عن الصلاة والمسائل الشخصية

قلت لي، عن خالدة مسعودي: (لكن استغرابك من تبريرها ترك الصلاة متذرّعة بأن" العلاقة مع الايمان و مع الله" مسألة شخصية"، هذا الاستغراب يبدو لي غريبا حين يصدر من شخص بمثل مرجعيتك الفكرية الدينية.و يا حبذا لو أبنت بتفصيل أكثر في هذا الامر سيّما و أن موضوعة مفهوم الصلاة و تعريف طبيعتها و غاياتها هي منذ الستينات في قلب المناقشة السودانية التي احياها الاستاذ محمود محمد طه بخصوص تحديث الدين و أنت أدرى)..

سمعا وإجابة.. دعني أولا أكرر هنا ما قلته أنا في تعقيبي السابق.. قلت، عن خالدة مسعودي (حتى في قرارها "هجران الصلاة و اعتبار العلاقة مع الايمان ومع الله مسألة شخصية"، فمنهجه التبريري غريب، إذا نظمناه في عقد واحد مع استنتاجاتها السابقة.. وكأن "اعتبار العلاقة مع الإيمان ومع الله مسألة شخصية" يقضي تباعا (أو بالعكس) إلى هجران الصلاة!).. ما عنيته أنا، باختصار، أن "اعتبار العلاقة مع الإيمان ومع الله مسألة شخصية" لا يقضي تباعا (أو بالعكس) إلى هجران الصلاة، أي أن العلاقة هنا بين النتيجتين ليست سببية تلقائية.. أي أن "اعتبار العلاقة مع الإيمان ومع الله مسألة شخصية" لا يعني أنني، مثلا، يجب أن أترك الصلاة، فالصلاة أساسا هي "مسألة شخصية" مع الإيمان ومع الله.. لخالدة مسعودي أن تهجر الصلاة، فتلك فعلا مسألة "شخصية" تخصها، ولكن تبريرها لموقفها هذا هو الغريب، خصوصا "إذا نظمناه في عقد واحد مع استنتاجاتها السابقة".. اعتراضي هنا ليس على مسألة هجران الصلاة، وإنما على المنهج التبريري للموقف الفكري.. أرجو أن أكون قد أبنت عن نفسي بصورة أوفى هذه المرة..

عن الدين وغربة الجسد

قولك (و أنت تزعم، بغير حذر، ان الدين " هو اوّل من أقر بواقع "غربة الجسد" بشمول العبارة ". و لا يغيب على فطنتك ان الدين(كما السحر) ظاهرة تاريخية ظهرت في لحظة معينة من تطور المجتمع الانساني، مثلما لا يغيب عليك، بالتالي،ان غربة الجسد قديمة قدم المجتمع و انها ظلت ، و ما زالت ، تتخلّق و تتشعب ضمن تناقضات الوعي الفردي بحاجات الجسد في علاقتها بتناقضات الوعي الجمعي.و لن يغيب على فطنتك ، بالتالت،أن غربة الجسد ستبقى بعد ان تنقضي ضرورة الدين او بعد ان يستبدله الناس بوسيلة أخرى أكثر كفاءة( كوسيلة الفن او وسيلة الرياضة مثلا).و عليه فان كان زعمك بحظوة الدين و سبقه من باب التعبير الديني الايماني " ساكت" فلا جناح عليك ،و لن أنازعك في منطقة الايمان ،أو كما قال :" لكم دينكم و لي دين" ـ وأنا يا صاح على دين مولانا ابن المقفع لا أبيت ليلتي على غير دين)..

أنا أزعم أني لم أتجاف عن الحذر حين قلت أن الدين "هو اوّل من أقر بواقع "غربة الجسد" بشمول العبارة".. فالدين "كظاهرة تاريخية" يؤرخ لبداية وعي الإنسان بغربته، والذي بدأ (أي الوعي) بشعور الخوف، في صوره المختلفة (الخوف على الحياة وعلى الرزق.. الخ)، ومن ثم جاءت التبعات العملية في مواجهة هذه المعضلة، والتي أتت بمنهاج الدين، في أبسط صوره البدائية.. وأزعم أكثر من ذلك أن الدين، كظاهرة تاريخية، أقدم من المجتمع نفسه.. فأنت، بمرجعيتك الفكرة، تنظر إلى الدين كناتج مجتمعي، أما أنا (بمرجعيتي الفكرية أيضا) فأنظر للدين كناتج عقلي سابق لمرحلة المجتمع البشري.. فالمجتمع نفسه، كألة اخترعها الإنسان، في حد ذاته ناتج لمراحل تاريخية قبله، خاضها الإنسان، واعترك تجربتها، مما تمخض عن هذا النوع من الهدنة بين مجموعة من الأفراد، والذي أصبح يسمى فيما بعد "المجتمع".. المجتمع نفسه، بالنسبة لي، هو آلية حياتية لا يمكن أن تصدر من غير عقل مفكر ذو تجربة (أو لنقل عقول شتى صهرت تجاربها الفردية في مكان واحد مجتمعة)، مما يعني أنه (أي المجتمع) وليد تجربة سابقة له.. وأزعم أنا أن مفهوم الدين هو مفهوم سابق لمفهوم المجتمع، عبر تاريخ التجربة البشرية.. أكثر من ذلك، أزعم أن الدين نفسه كان من الأدوات الأساسية (أو العوامل الأولية) التي شاركت، في مجموعها، في خلق مركب المجتمع.. منذ بدايته التاريخية.. هذا لا ينفي عندي أن علاقة الدين بالمجتمع قد أخذت صورا مختلفة بعد ذلك عبر التطور التاريخي للمجتمع نفسه (وللأفراد داخل صيغة المجتمع)، إذ أن مفهوم الدين أصبح يتطور أيضا من واقع انعكاسات المجتمع على العقل البشري، والعكس أيضا صحيح.. فهي قد صارت عملية تفاعلية، كل عنصر فيها يؤثر ويتأثر بالآخر.. حتى يومنا هذا..

هذا وأريد الوقوف أيضا عند عبارتك (و لن يغيب على فطنتك ، بالتالت،أن غربة الجسد ستبقى بعد ان تنقضي ضرورة الدين او بعد ان يستبدله الناس بوسيلة أخرى أكثر كفاءة( كوسيلة الفن او وسيلة الرياضة مثلا)).. إذا كان هذا زعمك من باب التعبير الإيماني، فلن أنازعك في منطقة إيمانك.. وأنا لا أقصد بقولي هذا أن أكيل لك بمكيالك (بالمفهوم السلبي للعبارة)، فقضية الإيمان عندي لا تنعزل أساسا عن موضوع الفكر وإعمال العقل، فللإيمان أيضا قاعدته الفكرية.. لكن دعني أسألك سؤالا استفساريا.. ماهي كفاءة الدين عندك، حتى يمكن استبداله "بوسيلة أخرى أكثر كفاءة (كوسيلة الفن أو وسيلة الرياضة مثلا)"؟ هل كفاءة الدين عندك تتعلق بنوع من "حصان طروادة مفهومي يهيّيء للروح براحا غير مبرر على المشهد المادي الذي يستعر فيه الصراع بين الفرقاء الاجتماعيين. و هو براح ينتفع به القابضون على المقدرات و الخيرات المادية للمجتمع، ممن تعودوا على تخدير الفقراء بأحابيل روحية عجيبة من كون المال والماديات و متاع الدنيا الزائلة لا تصنع السعادة و لا توفر الخلاص ،و أن الخلاص الحقيقي هو خلاص الروح الى آخر كلام الدعاة الدينيين"؟ هل هذه هي كفاءة الدين عندك؟ فإن كان كذلك، فلماذا تريد استبداله أساسا "بوسيلة أكثر كفاءة"؟ وهذه أسئلة استفسارية أيضا، وليست تقريرية.. أنا فقط لا أفهم معنى الحاجة للدين او حتى للفن أو الرياضة، كوسائل، عندك إذا كنت ترى أن مقولة "الروح" هي تلك المقولة "الطروادية" كما جرى تعبيرك.. هل الفن والرياضة، مثلا، لهما علاقة مباشرة وصريحة بالقيمة المادية فقط (ودعنا نركز هنا على الفن أكثر، دون تجاهل الرياضة)؟ وإذا كان كذلك، فما هو مجال المقارنة بينها وبين الدين عندك، حتى يكون "الاستبدال"؟

إذا كان هناك أي مجال ل"غير المادة" في منظورك، فما ذا تسمي هذا المجال؟ (وهذا سؤال استفساري أيضا).. أنا شخصيا أرى أن هناك مجالا غير مجال المادة، وأسميه، اصطلاحا، مجال "الروح".. هذا وقد تكون لنا عودة لموضوع "الغيرية" هذا.. فالفهم التوحيدي للغيرية، في الأديان التوحيدية، لا يرى غير "غيرية" المقدار، أو تفاوت المقدار، وليس النوع.. مما يقود للحديث عن موضوع "النسبية" في الفهم الديني التوحيدي.. يقول السادة الصوفية أن "الرحمة بخلق الله أولى من الغيرة على دين الله.. لأن الغيرة من الغيرية، ولا غيرية!).. ويقول شاعرهم:

ما في محبتها (ضد) أضيق به.. هي المدام، وكل الخلق ندمان

فمفهوم ثنائية "المادة و الروح" هو حيلة فكرية تخاطب العقل، لأن العقل لا يعرف الأشياء إلا بضدها، أي بالثنائية (وسليلتها "التراتبية").. وهنا مربط الفرس، وهذه هي النقطة التي يكون الحوار حولها أساسيا في موضوع إشكالية العلاقة بين المادة والروح في نظر "الماديين".. هذا القول، لا ينفي وجود الروح، كما لا يثبت وجود المادة على حساب الروح، إذ ما هي المادة أصلا؟ وما هو تعريفها عندك؟ أنت تقول أن موضوع "الروح" يتعلق بحيلة اجتماعية لتخدير الفقراء بأحابيل روحية "عجيبة من كون المال والماديات و متاع الدنيا الزائلة لا تصنع السعادة و لا توفر الخلاص"، فما هو تعريف "السعادة" عندك، سواءا أتت عن طريق المادة أو خلافها؟ هل هناك تعريف "مادي" للسعادة؟ وهذا سؤال استفساري أيضا.. وكل هذا دون الخوض في مرجعيتك الفكرية التي تقرر علاقة الدين بالصراع الطبقي والاقتصاد، فهو أمر لا تصعب إعادة النظر فيه، حتى بنفس المنهج "المادي"، لنرى أن موضوع "الروح" نفسه كان أداة استعملها هؤلاء الفقراء أنفسهم عبر التاريخ، كأداة ناجعة في توحيدهم وتقوية شكيمتهم، في ثوراتهم على الأوضاع الطبقية المجحفة، طلبا للعدل (وبالمناسبة، هل للإجحاف والعدل تعريف مادي؟)..

إن انعكاس العلاقات المجتمعية على العقل البشري هو نفسه انعكاس لا يتم إلا عن طريق وسيط (فالتفاعلات المادية نفسها لا تتم إلا عبر وسائط، كما تخبرنا علوم الفيزياء والكيمياء).. وهو نفسه انعكاس محكوم بقوانين سابقة له، كما تدلل الدراسات الفيزيائية الحديثة والقديمة.. والنظرية النسبية الحديثة في الفيزياء تقول أن الفرق بين الطاقة والمادة هو فرق في الذبذبة، فالطاقة مادة، والمادة طاقة، بهذا الفهم، على تفاوت في المقدار، غير أن "الطاقة" هذه لم يعرف الفيزيائيون كنهها حتى اليوم.. وعلى العموم فهذا موضوع ذو شجون..

رأيت، يا أستاذ حسن، أن يكون تعقيبي عليك مليئا بالأسئلة لأن تعقيبك كان يأخذ مثل هذه الصورة أيضا.. فأنت ترى أن صعوبة تعريف "الروح" نفسها تعني إعادة النظر إلى وجودها كوجود بإزاء "الوجود المادي للانسان عند تقاطع التاريخ و الجغرافيا" على حد تعبيرك، وأنت تسلم بوجود "الوجود المادي للإنسان" كأمر مفروغ منه، فما رأيك أن نبدأ بتعريف "الوجود المادي للإنسان" قبل ذلك، فأنت من بدأ مسلسل مراجعة التعاريف، مما يقضي بأنك على ثقة بما لديك من تعريف لمصطلحاتك.. وأرجو أن لا يوحي هذا بهروب من موضوع تعريف "الروح" من جانبي، فوجود الروح بالنسبة لي مرتبط تلقائيا بوجود المادة، حين نتحدث عن "الوجود".. لماذا يكون وجود الروح محل مسائلة امام محكمة المادة؟ من الذي جعل وجود المادة أمرا مفروغا منه في مقابل الوجود المزعوم للروح؟ ومن ثم وضع الشرعية القانونية العقلية لهذه المحاكمة الفوقية لوجود الروح من جانب الزاعمين بالوجود المادي الصرف؟ بل وأين "العقلانية" من كل هذه المفاهيم "الذاتية الاعتباطية" من جانب أصحاب المادة (أو كما يسمونهم)؟ هل إنكار ما لا نراه، مثلا، لمجرد أننا لا نراه، منطق "عقلاني"؟ (وهذا الأخير سؤال تقريري وليس استفساري، فالإجابة عليه موجودة وموثقة مسبقا في كل صور حياتنا اليومية المعاصرة، ولنبدأ بالكهرباء التي نتواصل نحن عبرها اليوم في هذا المنبر)..

وعلى العموم، فكرد أولي على أسئلتك، دعني أحيلك إلى كتابات للأستاذ محمود محمد طه، أراها تعبر عني خير تعبير، مما يغنيني عن إعادة السرد، ولكن لا يغنيني عن مناقشتها بعد ذلك حيث الحاجة، ولا أعلم إن كنت أنت قد قرأتها مسبقا (يمكن قبل ما يلدوني زاتو)، ولكن حتى لا أترك سؤالك معلقا، كضرورة لأدب الحوار، خصوصا من جانبي مع أمثالك (ودي ما مجاملة)..

بالنسبة لموضوع الروح، أحيلك لكتاب الأستاذ محمود (أسئلة وأجوبة -الكتاب الثاني) إذ يرد رد الأستاذ على أسئلة جاءته من (موسى أبو زيد) عن الروح وماهيتها.. أرجو أن تكون لديك فرصة للإطلاع على هذه الكتابة*، إن لم تكن قد فعلت (قبل مايلدوني).. كما أن هناك تناولا لنفس الموضوع، بسرد أقصر، في كتاب (أسئلة وأجوبة - الكتاب الأول).. ويمكن تلخيص القول هنا، تلخيصا لا يغني عن التفصيل في المصادر المذكورة أعلاه، بأن المادة هي روح في حالة من الاهتزاز تتأثر بها حواسنا، أما الروح فهي مادة في حالة من الاهتزاز لا تتأثر بها حواسنا.. هو اختلاف مقدار وليس اختلاف نوع بينهما، ولهذا يتعرَف كلاهما بالآخر، فالمادة في طرف الكثافة، والروح في طرف اللطافة، وطرف اللطافة هو الأعلى والأقرب للكمال، بمقياس التراتبية (أو حيلة التراتبية)، ولكن وجود كليهما غير قائم بذاته، أو منعزل عن الآخر.. فالجسد، بكثافته، يعبر عن المادة في مقابل الروح بلطافتها، في الجرم البشري الواحد، والروح هذه هي التي تعطي الفرق التمييزي بين "فلان" وتمثال الشمع لنفس هذا "الفلان"، على سبيل تقريب المعنى.. وهذا تلخيص، كما ذكرت، لا يغني عن التفصيل الذي أرجو مراجعته في موضعه المشار إليه..

اما قولك (و على هذا المشهد يباح اختزال تركيب ظواهر الوجود في مقابلات جاهزة من نوع " الشرق" ( ضد الغرب) و " التقليد " (ضد الحداثة) و " الفن " (ضد العلم) و " الخيال"( ضد الواقع) و الثقافة( ضد التجارة) و الروح( ضد الجسد) الخ).. هذا استنتاج ذاتي من عندك.. لا أراه يمت للقضية بصلة (خصوصا بالنسبة لسردي)، إلا إذا اتصل بتوضيح أكثر من جانبك..

عن النابلسي ومناجاته

جميل جدا تركيزك يا أستاذ حسن على بيت الشعر الذي أذيل به مساهماتي في هذا المنبر (كتوقيع تلقائي عند كل مساهمة).. ودعني أعرض لك صورة أكبر من القصيدة التي ينتمي لها هذا البيت، وهي للشيخ الصوفي عبد الغني النابلسي.. يقول فيها:

أنا موسى العشق ربي أرني بك أن أنظر ظبيا شردا
غصن بان فوقه البدر بدا.. أم غزال راح يغزو أسدا
أم مليح يتثنى مرحا.. حيث أضحى بالبهاء منفردا
لاح لي جمر على وجنته.. كلما أدنو إليه بعدا
فلعلي منه ألقى قبسا.. أو يرى قلبي على النار هدى
صار جهلي غيره معرفة.. صار غيي وضلالي رشدا
فإذا ما ظهرت من وجهه حضرة الغيب طلبنا المددا
....
....
قلت يا مولاي جد لي كرما بوصال.. قال لا لا أبدا
قلت فاسمح بخيال في الكرى.. قال لي ما لك طرف رقدا
قلت فالوعد به تسلية.. قال يحتاج يفي من وعدا
قلت خذ روحي، فقال الروح لي.. خل دعواها وهات الجسدا**

قولك (أها يا قصي شوف حتى زولك دا، الزول الانت قلت ليهو :" خذ روحي".ياخي دا زول نجيض ما بنغش و عارف مصلحته وين،" روحك اعمل بيها شنو؟" قال ليك: "هات الجسدا" ... شفت كيف؟).. أخذت قولك هذا في البداية من باب تسلية الحوار وشيئا من تأنيس وحشة الفكر (إذ أن للفكر وحشة)، وتعليقك فعلا قد أخذ مني الابتسامة عنوة واقتدارا.. غير أني خشيت أن لا يكون هذا قصدك، وعليه أكون لم أوقرك كما يجب، إذ لم أنظر لحديثك بالجدية المطلوبة.. لهذا أفضل أن أتناول هذا البيت بمنظار تصوفي (وهو بيت شاعر متصوف)، لشيء من إثراء الحوار، في نظري، أيا كان قصدك من تعليقك عليه..

قال له (الروح لي).. يعني دي خلصانين منها.. دي عندي أصلا من البداية (يعني حا تديني حاجة حقتي؟)..
(خل دعواها).. يعني بطل السلبطة..
(وهات الجسدا).. وريني تجسيدك.. في عبادتك وسلوكك.. لو بتحبني صحيح، حبك بظهر في أخلاقك.. في تجسيدك..

ده طبعا غير المعاني المتسلسلة التابعة لهذا الفهم، من الدعوة لتوحيد الجسد مع الروح، وبالتالي فض غربة الجسد (ده ما معناه إنو الروح عند الله والجسد عند الإنسان، إنما هي الحيلة العقلية المطلوبة في تحفيز السلوك، لإشعار الإنسان بإرادة مستقلة يعمل بها على الأخذ بالأسباب).. و المعنى التابع أيضا من أن الإنسان، في جوهره، إنما هو "الله زاتو" في طور التكوين، وده بياخدنا طوالي لي مستوى تاني من الحديث عن "تغريب الإنسان" في المفهوم الديني التوحيدي.. لي أنو المنهج في الدين التوحيدي قايم على "توحيد الإنسان" مع جوهره الأصيل، مش "تغريبو".. لكن نقيف لي هنا حسي في الموضوع ده..

عن ملكية الجسد وملكية اليمين

قولك يا أستاذ حسن (أما تعريجتك على" نظام الطبقية الهندوسية المعروف" الذي يعتمد" التفرقة الحازمة منذ الولادة، الى أسياد و عبيد و أطهار و أنجاس" فقد قرأتها، ُمغرضا ،كما لو كانت تزكية مجّانية لرق المسلمين على رق الهندوس، سيّما و انت تقول "ان المفهوم الديني، خصوصا في الاسلام، يقضي بعدم ملكية المسلم لأي شيء في الاساس".أها ناس " ما ملكت ايمانهم " ديل تعمل معاهم كيف؟ وما قولك في مزيد من الايضاح في هذا الموضوع، موضوع الرق في الاسلام ؟)..

لا.. حديثي لم يكن تزكية مجانية لرق المسلمين على رق الهندوس، ولعلاقة الرق في الديانتين عندي فهم تاريخي لا يبخس كلتيهما حقهما من التقدير.. ويمكنني أيضا، للمزيد من التوكيد، أن أقول أن للهندوسية عندي قدرا عظيما، لكونها الأخت الكبرى للديانات الشرقية، ولكونها صاحبة أقدم مفاهيم تصوفية توحيدية موثقة متكاملة عن ماهية الوجود، قبل كل الأديان العالمية المعروفة اليوم (كتابية أو غيرها)..

أما قولك (أها ناس " ما ملكت ايمانهم " ديل تعمل معاهم كيف؟ ) في الرد على قولي (ان المفهوم الديني، خصوصا في الاسلام، يقضي بعدم ملكية المسلم لأي شيء في الاساس)، فالإجابة عليه قريبة، وهي مأخوذة من نفس ناس (ما ملكت أيمانهم).. نجد في القرأن أيضا ((لله ما في السماوات والارض.. إن الله هو الغني الحميد)) وأيضا ((والله خلقكم وما تعملون)) (يعني "المتاع" ده زاتو الله خلقو).. فالفهم هنا، باصطحاب الآيات الأخرى، يشير إلى أن "ملكية اليمين" في تلك الآية إنما هي ملكية ارتفاق، وليست ملكية عين، يعني عهدة أو أمانة أو وديعة فيها مسؤولية، وفي هذا يقول أيضا ((واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت ايمانكم ان الله لا يحب من كان مختالا فخورا))، فلو لم يكن "ملك اليمين" هذا مسؤولية، لماذا يوصيهم به (زي ما بوصيه بالوالدين وذي القربى)؟ هذا علاوة على أن الشخص "ملك اليمين" هذا نفسه إنما هو ملك لله قبل أن يكون ملكا لسيده ((إن كل من في السماوات والارض الا اتي الرحمن عبدا.. لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)).. وهذا علاوة أيضا على الفهم المنطقي البسيط أن الذي لا يملك جسده ولا روحه لا يمكن أن تكون له ملكية منعزلة عن هذين خارج ملكية مالكه.. ((ولله ما في السماوات وما في الارض.. وكان الله بكل شيء محيطا))..

أما طلبك للمزيد من الإيضاح عن موضوع الرق في الإسلام، فلا مانع عندي، غير أني أحتاج لمدخل يجعلني لا أتحدث خارج ما تريد مني تناوله.. وأرجو، عند توفر ذلك المدخل، أن تعينني الظروف الموضوعية (من وقت وحضور ذهن) على تلبية هذه الدعوة..

هذا وأستميحك عذرا عن العبارة التي ضايقتك في تعقيبي، فهي ربما تخلق التباسا لدى القارئ فعلا، ولكن العزاء في أن حديثك موجود بعاليه كما هو بصورته التي وضعتها أنت، كما أني قد اقتبست جميع الفقرة المعنية في تعقيبي قبل أن أعقب عليها، وعليه فإن القارئ المتابع مطالب بأن يقرأ نصك قبل أن يقرأ التعقيب عليه، ويقرأ أيضا تعقيبي كله قبل أن يقفز لتلك الفقرة التي ضايقتك.. ورغم أني لا أريد أن أنفي المسؤولية تماما عن نفسي تجاه أي التباس قد يجري للقارئ، إلا أن مسؤولية القارئ أكبر بكثير هنا (وللقارئ دوما مسؤولية).. أنا لم أفترض من الأساس أن أي قارئ لتعقيبي سيقرأه قبل أن "يقرأ ويعي" نصك الذي عقبت عليه أنا (وهو فوقه مباشرة).. ورغم هذا عذرا، وشكرا على التنويه..

عن البصق في سنغافورا

قولك (لقد وردت مداخلتك و أنا اكتب" مشهد الاقعاء" بالاشارة لـ "مارسيل موس" أدناه. و قد وقعت لي عبارتك في جرح حينما قلت أن " النظر لأزمة الجسد المسلم المعاصر من هذه الزاوية يعني تلقائيا أن هذه الازمة مودعة في اجساد أتباع الاديان الاخرى أيضا.." ذلك أنها تجمع بين المسلمين و المسيحيين و اليهود و البوذيين و غيرهم من أهل الاديان الأرضية في سرج واحد على دابة السوق العايرة. قصي ، هل سمعت بحكاية بصاق الصينيين في سنغافورا؟)..

لا أزعم أني فهمت تماما ما قصدته بعبارتك هذه، وما تلاها من سرد عن بصاق الصينيين في الأماكن العامة كموروث ثقافي ذي دلالات إيجابية عندهم (وهو حديث طريف في جملته).. على العموم، أنا لست من المتضامنين مع التصنيف "الأرضي-سماوي" للأديان.. أتضامن مع تصنيف الأديان الكتابية (اليهودية + المسيحية + الإسلام) اصطلاحيا كما هو عند المسلمين بصورة عامة، غير أني أنظر للهندوسية والبوذية والتاوية (والسيخية والبابية والبهائية.. الخ) بمنظار لا يخلع عليها صفة "الأرضية" في مقابل صفة "السماوية" للأديان الكتابية.. لهذا كان تعميمي لجميع الأديان بالصورة التي كانت.. فهو تعميم مقصود في ذاته، ولم يأت استرسالا دون ضابط..

عن أيدلوجيا السوق

قولك (أوافقك ان نظام السوق انما يتبع مصلحته المادية حيثما كانت مع الاصوليين الاسلاميين او مع الاصوليين النصارى أو مع الاصوليين الصناعيين اليابانيين او مع الاصوليين الماركسيين اللينينيين الماويين في الصين او مع الشيطان نفسه.لكني لا اوافقك على غياب المنهجية و غياب الفكر عند سدنة نظام السوق.فآلة السوق الناشطة اليوم انما تعمل على منهجية عالية التركيب وعلى جهد فكري متقدم و مستفيد من جملة المعطيات العلمية و السياسية و الاقتصادية التي راكمتها الثقافات الانسانية على مر القرون.و كل الجهد المنهجي و الفكري لنظام السوق يمكن تسميته بـ " آيديولوجيا السوق" انما يستهدف صيانة و تنمية المصالح المادية للطبقة التي تمسك بمقاليد السوق)..

هذه نقطة صعبة الجدل بطبيعتها، في نظري، وعلى العموم أعدك بمراجعتها على ضوء كتابتك أعلاه.. ما أراه أنا، حتى الآن، أن نظام السوق لا يسير على فكر منهجي، مما يجعله قابلا للتشكل الحربائي حسب المصلحة.. هي حركة "غريزية" أكثر من "منهجية"، كما أراها.. هذا لا يعني غياب التفكير، ولكن ليس كقيمة، وإنما كخادم نافع، إذ أنه لا ضرورة له أحيانا (مرات عضلات ساي كفاية).. الفكر المنهجي دوما لا بد له من مركز، سواءا تمثل في أشخاص بعينهم أو منظمات بعينها أو مبادئ بعينها، وهذا ما يفتقده نظام السوق المعاصر.. هناك كيانات متعددة، في شكل منظمات أو دول، يشار لها كوجوه لنظام السوق، غير أن هذا النظام ليس ممركزا، عند التدقيق، في أي من تلك المنظمات أو الدول (أو مبادئها، إن وجدت)، وإنما تحكم علاقة رؤوسها الكبار مصالحهم الشخصية مع بعضهم، ومخاوفهم المتمركزة في طموحاتهم الخاصة (سواءا على المستوى الفردي أو التنظيمي الاقتصادي).. الأيدلوجيا بخلاف ذلك، في صورتها العرفية.. الأيدولوجيا تقوم على خدمة فكر، أما نظام السوق فيقوم على خدمة الفكر، أي فكر، له (وما مهم الفكر ده شنو).. والمكر الرأسمالي ليس بحاجة لمنهجية، فالمكر وسيلة دفاعية متمكنة عند الحيوان (أو الإنسان) الذي يطلب أكبر كسب يمكن الحصول عليه في اللحظة الآنية، بأية وسيلة متاحة، وهذه لا تحتاج إلى منهج فكري يتصل بالماضي ويؤسس للمستقبل في رؤية متسقة.. نظام السوق "ماكر" ولكنه ليس "مفكرا" كما أراه اليوم.. لهذا فإن عواقبه تكون عادة في قبضة الهواء، بصورة عامة، ومحكومة بخوف متواصل، على مستوى الأفراد والدول والمنظمات (أمريكا، مثلا، تصرف على تكنولوجيا الحرب صرفا هائلا، دون أي عائد ربحي ملموس لها غير شراء شيء من الاطمئنان المؤقت لسيادتها، والذي سرعان ما يبدأ بالتبخر مع ظهور معلومات استخباراتية جديدة عن تجارب دولة أخرى في تكنولوجيا الحرب أيضا.. ونفس المسلسل مع الدولة الأخرى إياها، وهلم جرا، والقائمة تطول).. واليوم، على سبيل المثال، صارت الصين (الشيوعية بزعمها) قوة نامية بصورة مخيفة، تهابها أمريكا في ظل نظام السوق (الرأسمالي)، ولو كان لنظام السوق أيدلوجية هنا، لكان في قمة أجندتها عدم تمكين دولة كالصين الآن.. ولكن نظام السوق، بعدم منهجيته، لا يملك هذا، مما يجعله قابلا، في سيرورته، لخنق نفسه بنفسه، ليسهل المهمة بذلك على "أعدائه" في الإحاطة به وهزيمته (وهو مايجرى الآن على قدم وساق، في نظري).. أو لعلها "أحلام زلوط" من جانبي؟

وتجديد المحبة..

______________________

* ربما تجدها في موقع الفكرة (alfikra.org) بعد حين.. إذ أنه كما أرى، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، في حالة من الصيانة العامة في هذه الأيام التي أرجو ألا تطول..

** ليست القصيدة كاملة، وإنما أوردت ما أستحضرته ذاكرتي منها..
آخر تعديل بواسطة قصى همرور في الاثنين مايو 01, 2006 6:30 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
Conventional is neither neutral nor convenient
صورة العضو الرمزية
سناء جعفر
مشاركات: 656
اشترك في: السبت إبريل 15, 2006 10:49 pm
مكان: U.A.E , Dubai
اتصال:

جريمة قتل عقوبتها زغرودة ...

مشاركة بواسطة سناء جعفر »

الاستاذ حسن موسى ..
ترددت كثيراً في الدخول والمشاركة في هذا الموضوع .. فانا من جيل طالته يد ( الداية ) الظالمة وعبثت بجسده عادات وتقاليد بالية ..
كان سبب ترددي هو احساسي بضآلة قلمي اليافع وفكري المتواضع امام هذا الكم من العمق والثقافة ..
لكني حسمت ترددي وقررت ان ارفع صوتي الضعيف ايمانا مني بضرورة محاربة العادات الضارة التي تسود مجتمعنا السوداني .. وليقيني بان الكلمة سلاح .. اكتب هنا ليسمعوا هناك ... وليعملوا اية جريمة يرتكبون بحق المراة تحت غطاء الدين والعرف ...
وهم منهم براء ...

ليل حالك .. رعد قاصف ..
برق لامع ... مطر دافق ...
ريح تزأر ... أمل يقتل ..
حلم يؤاد .. وحس يدفن
ضؤ واهن ..قلب مفجوع ودم مسفوح...
في الخارج ..دفوف تضرب ..وعجل يذبح ..

ابنة سبع تبكي وتصرخ ..
أمي وابي اني انتهك باسم الدين...
قطعوا لحمي باسم العرف...
سلبوا حسي بدعوى الحفظ ..

ابنة سبع ما زالت تصرخ ...
ومن خلف الباب أتت الجدة ..نظرت بجمود ..
وأمرت بهدؤ.. سوي السطح .. حفي الجانب ..زيلي كل نتؤ...
وتم الذبح .. واطلقت الام زغرودة طويلة ...

ابنة سبع زادت عشراً ... ثم ثلاثاً
تفتح قمر في عينيها ... وسرح الورد على خديها ..
تكور نهد .. تضمر خصر
تنافس حسنها مع فتنتها..

راءها الفارس المغوار ..فشد لجام الفرس وشهر السيف..
صال وجال... وتم النصر ...

ويوم الفوز ... حاول ان يظفر بغينمة ...
وان يستكشف ارضاً بكر جميلة ...
فوجد السطح أملس لامع ..
ووجد الحس ساكن خامد ...

أرغى وأزبد .. كيف يعيش نشوة نصره مع جسد بارد ؟؟
وبكت الطفلة .. وحكت القصة .. كيف اقتطع العرف جسدها البض .. وكيف انتهك الجهل سراً اودعه الخالق بكل كرم...

يئس الفارس من قطف ثمار النصر .. فشد رحاله .. ورحل ...
ساله البعض .. كيف تخلى عن كنز وجده ... فرد بكل بساطة ...
كيف اعاشر لوح الثلج ؟؟!!!....


مهداة الى كل فتاة عانت من قسوة الختان الفرعوني الذي اثبتت الدراسات انه يؤثر بصورة سلبية كبيرة على الناحية الصحية والنفسية للمراة ...

ارفع صوتي بضرورة محاربة هذه الظاهرة الموروثة من جهل ومطبقة بجهل ...
للصمت صوت عال ... فقط يحتاج الى الهدوء حتى يُسمع ...
للصمت غموض آسر .. يجذبنا اليه عندما يموج العالم حولنا بالصخب المؤلم ...
للصمت جمال وكمال وهيبة ووقار ...
للصمت بهجة سرية لا يعرفها الا من عاشه وتأمل معناه ...
للصمت جيرة طيبة ... ودودة ... مريحة ...
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

جيوبوليتيك الجسد

مشاركة بواسطة حسن موسى »

جيوبوليتيك الجسد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشهد الصفوة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النور
يا أخانا الذي في أم ريكا ذات العماد
" التي لم يخلق مثلها في البلاد"
و جورج دبليو ذي الأوتاد ..
سلام من على البعد .. و كلام.
حين اشرت في مبتدأ كلامي لـ "حرج الجمهوريين " عن الخوض في امر الخفاض، كنت انت (و بعض معارفي بين الجمهوريين الذين لم يوقعوا على العريضة) في بالي.و لكني سرعان ما لمت نفسي على هذه الغفلة التي تضمر مطالبة معارفي الجمهوريين بأن يقفوا " وقفة رجل واحد "( على عهدي بهم في سبعينات القرن العشرين)في هذا الامر العامر بالالتباسات، بينما هم اليوم في احوال شتى و قد تفرقت بهم سبل الفكر ـ و لو شئت قل: سبل " الفكرة"ـ أيدي سبأ.و الجمهوريون في هذا ليسوا نسيج وحدهم، فالفرز و التحوّل لا يستثني أحدا ،و هذه فولة سنعود لها لاحقا و الحمد لله على كل شيء.و ربما كان باعث غفلتي كوني كنت أتمناك بين من وقّعوا على عريضتنا للمطالبة بمنع خصاء الفتيات بحد القانون.وحين قرأت مداخلتك تبين لي اللبس الكبير الذي كنت أقيم فيه أنا حين كتبت ما كتبت في خصوص " حرج الجمهوريين".و هذا، يا صاح ،بعض من مزالق هذا الشأن الشائك، شأن الخفاض كتعبير بين تعبيرات سياسة الجسد العربسلامي السوداني، و" الحي بشوف" كما يعبّر الاهالي.
المهم يا زول ،رسالتك عامرة بألوان من الفكر و العبر الكثيرة التي لابد لنا من فلفلتها واحدة واحدة، لكني ، في هذا المقام سأكتفي منها ببعض عباراتك المفاتيح التي ربما مكنتنا من فتح أبواب جديدة للريح في صدد ما يعتمل في جسد سياسات الجسد:

" الضغط الصفوي":
ــــــــــ
طبعا الغرض من العريضة، كما تقول: " هو دفع السلطات السودانية عن طريق" الضغط الشعبي" ـ و هو في هذه الواقعة بالذات ليس سوى " ضغط صفوي، و شبه صفوي" ـ لكي تصدر قانونا يحرم تلك العادة و يجرّم من يجرونها على بناتهم".
و أنا استخدم عبارة الـ " ضغط الشعبي " من باب المجاز، و لو كان في وسع الشعب ان يتحرك و يضغط لأغنانا واقع حركة الشعب عن سن القوانين الحكومية. لأن واقع الحركة الشعبية الضاغطة يصبح اضمارا جمعيا، و الاضمار الجمعي قانون صارم يصونه الحس الجمعي و لمولانا " بيير بورديو" نظرات سديدات في هذا الامر، أرجو ان يتاح لي براح لعرضها ضمن مشهد سياسات الجسد في بلادنا.
وأنا اظن ان عبارتك: " ضغط صفوي" أكثر دقة في وصف حالنا الراهن. الاّ ان الضغط الصفوي هو الضغط الوحيد الذي بمقدورنا ممارسته حاليا. وهو ضغط " أضعف الايمان"، حتى اشعار آخر. و الاشعار سيحصل لو ساغ للضغط الصفوي ان ينمسخ ضغطا شعبيا، في تلك اللحظات التي تتوافق فيها رؤى الصفوة مع رؤى الجماهير الشعبية وتتقابل فيها مصالحهم المادية والرمزية، كما حدث في اكتوبر 1964 وفي لحظات تاريخية اخرى يحتفي بها شعب السودان. و في كلامك استنكاف ظاهر من الصفوة و أنت (و أنا) في صفوة الصفوة، ولا ينفعنا ان نتبرأ من هذا "الاثم" الوجودي مثلما لا ننفع حين نتباهى به على الاهالي الغبش. وجل ما ينوبنا من قدر الصفوة هو ان نبذل عائده لفائدة الصالح العام، وأضعف الايمان أن نصون بأسه عن الحاق الضرر بالناس.
و"جناب السلطات السودانية الانقاذية الراهنة" التي نرفع لها العريضة هي السلطة التي احتلت مقعد الدولة (حتى اشعار آخر) وهذا بلاء واقع لا نقبله وان لم يكن في وسعنا الراهن امكانية ردّه. لكن عجزنا الراهن عن إجلاء حكومة الانقاذيين من مقعد الدولة لا يعني اننا نتركها تعمل ما تشاء من عمايل المستبدين، بل سنثابر على مُزازاة الانقاذيين بكل الوسائل ـ بما فيها الضغط الصفوي إيّاه ـ حتى يتخذوا سبيل مصلحة الشعب السوداني. والمزازاة التي تحت يدنا حالياً تتجسد في حملة الضغط الإعلامي والفضح السياسي الذي نحن بصدده، على الأقل في منبرنا هذا المتسمي ب" سودان للجميع"، والذي يُفهم من حديثك إنك تصنّفه بين أدوات و"طرائق اليسار السوداني المستظل بدوحة أدبيات الحزب الشيوعي السوداني". وهذا إجحاف في حقنا كونك عارف(أكثر من غيرك) بطبيعة العلاقة التي أقمناها و نقيمها مع الحزب الشيوعي السوداني(ومع الجمهوريين) على مدى أكثر من ثلاثة عقود هي عمرنا السياسي والفكري. وهذه العريضة التي تبنيناها ودعمناها، بصرف النظر عن الدوافع السياسية للجهة التي قد تكون أطلقتها، سواء كانت الحزب الشيوعي أو حتى نظام الإنقاذيين السودانيين هيمسيلف(وهيهات)، فهي، في نهاية تحليلي، عمل صائب نافع للصالح العام حتى و إن كانت عاقبته إدانة و سجن بعض الأهالي الغبش المتمسكين بتقليد خصاء الفتيات. و لو ساغ للاسلاميين أن يسرقوا " كرت الخفاض"، كما تقول، من قوى اليسار السوداني فهنيئا لهم به، وهنيئا لفتيات السودان لو كانت هذه السرقة السياسية تجنبهن موس الطهّارات الخصّاءات، و هنيئا لنا كلنا. وأتمنى أن يلهمهم الله سرقة كروت الديموقراطية وكروت احترام الحريات وكروت احترام حقوق الأقليات وكل شي في الحيا جايز (شفت جنس البراغماتية دي؟).
أقول: إن الضغط الصفوي الديموقراطي المتمثل في مـُزازاة الحكومة المستبدة بمواعين الدولة السودانية تقليد ثابت في عمل الصفوة اليسارية السودانية، و قد جرّبناه تحت ظل دكتاتورية نميري المايوية وانتفعنا به في كسب قطاعات من الناس الذين استمعوا الينا ووعوا محتوى خطابنا النقدى ودعمونا بما مكننا من مواصلة العمل العام، سواء في الاطر العلنية المشروعة أو في الاطر السرية غير المشروعة الاخرى. وفي تخليل ما، أظن أن كفاءة الضغط الصفوي على المستبدين بالسلطة السياسية في السودان إنما تتأتّى من واقع أن خصوم الصفوة المعارضة الضاغطة هم في النهاية صفوة أخرى قيّض لها أن تحتل محل الدولة، والصفوة الحاكمة اليوم ما هي الاّ تيار آخر بين تيارات حركة الصفوة التي تمخض عنها جسم الطبقة الوسطى الحضرية في السودان. و لو نبشت في سيرة المسئولين السياسيين الذين تسنّموا سدّة السلطة في السودان خلال نصف القرن الماضي لوجدتهم، بخلاف بعض الاستثناءات النادرة، ينتمون إلى نفس شبكة العلاقات العرقية والأسرية و الدينية والمهنية التي تجعل منهم نوعاً من أخطبوط لا يفك قبضته عن جهاز السلطة الا ليعيد احكامها عن طريق أحد اذرعه الطويلة العديدة. وما ظهور موضوعات " المهمشين" و"الأفريقانيين" و"السود" الخ في الأدب السياسي الراهن الاّ كتعبير منطقي عن عواقب انفراد ابناء الطبقة الوسطى الحضرية العربسلامية بالسلطة ، في تجلياتها المادية والرمزية، في السودان على تعاقب الاجيال. لكن احتكار السلطة السياسية بين أعضاء الشبكة العربسلامية بدلاً من ان يؤدّي الى تحقيق نوع من الاستقرار السياسي ، بحكم التجانس و الانسجام المفترضين في القابضين على مقدرات الحكم، أدخل الشعب السوداني في متاهات من الصراعات التي لا تنتهي بين أعضاء النادي السياسي العربسلامي وبين العربسلاميين والآخرين. وقد عالجت الباحثة السودانية إيناس احمد ( جامعة بوردو) سؤال التجانس الظاهر في الأصول الاجتماعية و العرقية للقابضين على السلطات في السودان مقابل التنافر الفادح بين مشاريعهم السياسية، في محاضرة بعنوان" النخب السياسية في السودان" ، نشر نصها المركز الثقافي الفرنسي فريديريك كايو بالخرطوم في 2004.
تقول ايناس أحمد: ان "..كل اعضاء" الطبقة " السياسية ، سواء كانوا عسكريين أو أعضاء أحزاب، تزاملوا في المدارس الرئيسية الثلاثة (حنتوب، خورطقت ووادي سيدنا) أو تزاملوا في الجامعة".."هذه المؤسسة التعليمية تعتبر منبت النخبة الحاكمة التي تهيمن على البلاد منذ الاستقلال". و تتساءل أيناس أحمد:" لماذا يوجد عدم استقرار سياسي عميق برغم تشابه القوى السياسية المهيمنة وبرغم صلات التقارب بينها؟" و تجيب على التساؤل:
"برغم الوحدة الآيديولوجيية المشتركة تبقى الصفوة منقسمة " مفككة" تتميز العلاقات بين افرادها بالتشرذم. وفي الحقيقة فأن التسويات و الوحدة الآيديولوجية التي يتميز بها أعضاء هذه الصفوة الحاكمة إنما تقتصر على النظام السياسي الديني دون أن تطال لوائح أداء النظام ناهيك عن مبدأ التناوب على الحكم. إن موضوع التسويات يتردد كثيرا في الخطاب السياسي لهذه الصفوة ونماذج المساومات كثيرة . بيد أن المساومات و التسويات تبقى ظرفية مرتهنة بملابسات الاستيلاء على السلطة أو احتكارها. وبهذا فهي مساومات وراءها المناورات الحزبية خلال الأزمات السياسية. وهذا الواقع يفسر أيضا كيف ان علاقات الاتصال (وشبكة التداخل الاجتماعي الكثيف) غير الرسمي بين أعضاء هذه الصفوة لم تتطور إلى مستوى مواعين سياسية مؤسسية. إن النظام السياسي السوداني هو نظام طابعه التشرذم الحزبي، و عليه يمكن قراءة عدم الاستقرار السياسي على ضوء هذا الواقع المركب من الهيمنة الإيديولوجية للصفوة و من تشرذمها الحزبي." وفي انتظار ان تتعلم الصفوة السودانية من أخطائها فسنظل نتعقبها بأنواع الضغط المتاح حتى يطلع الصباح و نرتاح ..

" اليسار السوداني":
ــــــــــ
النور،
كلامك عن "اليسار السوداني" لا يخلو من اللبس الأخلاقي وأنواع التحامل المجاني، فكأنك تنتفع بهذه المداخلة في موضوع الخفاض لتصفية حسابات قديمة مع هذا الكيان الذي تسميه بـ " اليسار السوداني". ولا مانع عندي على تصفية الحسابات مع أي كان، وأنا يا صاح بين قوم عندهم حسابات مؤجلة مع الحزب الشيوعي و مع الحزب الجمهوري ومع الحزب التشكيلي (ومع" مشروع الجزيرة زاتو"على حد عبارة حامد جَوْ كرّم الله وجهه). لكن طريقتك في تصفية حسابك مع الحزب الشيوعي تعرضنا للضررالـ " كولاتيرال" لمجرد حضورنا على مقربة من محل الحساب. و"الحساب ولد" (و"الحساب بتْ" كمان).
تقول:
"ظللت دوما متشككا في تكتيكات اليسار السوداني السياسية،
المستظلة بشجرة الحزب الشيوعي "
السوداني

.."واليسار السوداني ثوب فضفاض يضم قبائل شتى
..
وحين تحولت إلى الأستاذ محمود محمد طه،
تحولت نحو أفق مختلف من آفاق اليسار،
..
وحين أختلف اليوم، مع مقترحي العريضة،
أو المذكرة، والموقعين عليها،
أفعل ذلك من منطلق يساري محض"

.. يا زول لا اعتراض لي على يساريتك الجمهورية طالما اعتبرت الجمهوريين ـ و بالذات جمهوريي ما قبل اغتيال استاذنا محمود محمد طه ـ احتمالا أصيلا من احتمالات تطور حركة اليسار في السودان. وأنا أفرز بين ما قبل وما بعد اغتيال الأستاذ محمود، وأصنف خشوم بيوت الجمهوريين، على أساس واقعة الاغتيال، بناءاً على ما أسمع و أقرأ فيما آل إليه حال "الأخوان الجمهوريين" في السنوات الأخيرة. و سأعود لهذا الأمر، أمر" فلول و شراذم "الجمهوريين، بتفصيل لاحقاً..هل قلت " فلول و شراذم الجمهوريين"؟ عفواً يا صاح، فلم يكن في نيتي استخدام هذه العبارة الجائرة، و لكن خطر ببالي لفت نظرك الى مدى القسوة المتكنّزة في لغتك وانت تقيّم تجربة اليساريين السودانيين ممن تخرجوا في مدرسة الماركسية اللينينية السودانية كتجربة تنعدم فيها"الرؤية المقعدة الخ" و تلخصها في عبارة ثانية أشنع من الأولى تجعل من عملهم في المعارضة السياسية مجرد " خبط عشواء ".
تقول:"..
بعض قوى اليسار السوداني".." الظانة بنفسها حمل مشعل التقدم والتحديث،
.."
وصفك لـ "بعض قوى اليسار السوداني"( ترجم الحزب الشيوعي السوداني) بعبارة " الظانة بنفسها حمل مشعل التقدم و التحديث" فيه اجحاف في حق قوم ـ رغم كل النقد المشروع الذي يمكن ان نوجهه لهم ـ عانوا الأمرين ـ و ما زالوا ـ بسبيل حمل" مشعل التقدم و التحديث" في السودان. و أنا استنكر عليك جور الخاطرة و جور العبارة، من جهة أولى، لأنك كاتب( و شاعر) عارف بمفعول الكلمات بحيث لا تمرق لك كلمة دون أن يكون مرماها معرّفا عن سبق القصد ببديهتك الأدبية التي تعرف كيف تستغني عن فضول القول وعواهنه. و أنا اعرف ان في جعبتك الأدبية أكثر من خيار اسلوبي قمين بتجنيبنا جور الفلتان البلاغي المقصود. ومن الجهة الثانية فأنا استنكر عليك الاجحاف في حق تاريخ العمل الجماهيري عند الشيوعيين السودانيين الذين ـ رغم كل النقد المشروع الذي يمكن ان نوجهه لهم ( تاني) ـ يعود لهم الفضل الأكبر في طرح تجربة ثقافية لعبت دورا مهما في التكوين الفكري و السياسي للسودان الحديث.فالشيوعيون السودانيون ـ رغم كل اختلافاتنا المشروعة معهم ـ لهم الفضل في تربية القوى السياسية الحديثة و تعليمها أشكال حديثة و متقدمة للتفكير و التنظيم و التعبير في اطار العمل العام ، و ذلك على تباين الألوان و الانتماءات السياسية، و أنت واجد بلاغة الخطاب الشيوعي( "البيان الشيوعي"؟) حتى في نصوص غلاة الأصوليين السودانيين. و هذا مبحث شيق من مباحث تطوّر البلاغة السياسية الحديثة في السودان.أقول هذا الكلام و في قلبي شيء من الضيق كوني اراني منذ فترة قد انمسخت لمحام منقطع للدفاع عن الحزب الشيوعي السوداني من" عمايل" المتحاملين و" اسفاف " المتعامين الشيوعيين وغير الشيوعيين.و الطريقة التي تعالج بها امر الشيوعيين السودانيين في حديثك، تنطوي على تحامل ظاهر يحفزني لانصاف القوم بما يهيء لحسابي المؤجل معهم ان يتصفّى على أساس من الوضوح ، و انا ـ في نهاية التحليل ـ لا أدافع عن القوم الا بقدر ما اسعى لانصافنا نحن الموصوفين بـ " الديموقراطيين" السودانيين من جور يصيبنا من وقت لآخر كلما صفّى احد الماركسيين اللينينيين السابقين حسابا مع الحزب الشيوعي السوداني.


" ذكور اليسار":
ـــــــ
تقول:
"... ذكور اليسار من مروجي أدبيات حقوق الإنسان النابتة في أوحال تربة المرجعية
الغربية، والتي يراد لها التصدير وإعادة الغرس في فضاء حضاري وثقافي مختلف،"
..
تقول " ذكور اليسار" كما تقول " ذكور الانقاذيين " و أنت أدرى بان اليسار السوداني الذي ننتمي اليه( أنت و أنا و الشيوعيون السودانيون) انما يتم تعريف الناس داخله مبدئيا ـ و" الشريعة عليها بالظاهر" ـ بانتماءهم الفكري و بموقفهم الاجتماعي قبل ان يتعرّفوا بانتماءهم لجنس الضكور او لجنس الاناتي. وما ذا تفعل برهط النساء اليساريات، ذوات المراس الفكري و السياسي، ممن أسهمن، ومازلن ، في دفع حركة الحداثة السودانية على أكثر من وجه؟ هل يعقل اختصار موقفهن في عبارة أناث اليسار و السلام، أم أن الامر، أمرهن ( و أمرنا) انما يقوم ـ في نهاية التحليل ـ على تركيب أكبر؟..
و أراك تقع في شر أعمالك حين اقرأ بقية عبارتك" ..من مروّجي أدبيات حقوق الإنسان النابتة في أوحال تربة المرجعية الغربية.." فقد حيّرتني، كوني كنت أحسبنا في زمرة قوم انقطعوا للترويج لأدبيات حقوق الانسان. و جعلت أتساءل : ما مآخذك على أدبيات حقوق الإنسان يا ترى؟ هل هو مُركّب " خضراء الدمن" الذي يدين" المرأة الحسناء "لأن الأقدار ألقت بها "في منبت السوء"؟ ( " ايّاكم و خضراء الدمن ..")
يبدأ أول بند في ميثاق حقوق الإنسان بالعبارة :
" يولد الناس أحرارا سواسية.."
و هي قولة حق لا ينال منها واقع إنتاجها ضمن بنية المجتمع الأوروبي الذي اخترع الهيمنة الاستعمارية و صانها لحماية مصالح القلة. أم لعلك تعترض على" أدبيات حقوق الإنسان" لأنها تنطوي على سم" المرجعية الغربية" إياه، و هو السم الأسطوري الذي يترصد الشرقيين ـ و قيل عموم أهل العالم الثالث ـ و يفسد عليهم بهجة الحياة في دفء الثقافة البائدة قبل الرأسمالية؟
و هل السم الغربي أشنع من السم الشرقي الهارينا دا؟
و بعدين ياخي، هل في مرجعية حاضرة اليوم غير المرجعية الغربية أُمْ" أوحال" دي؟
ما ياكا انت ـ زيّك و زي غيرك ـ قاعد و متوهط جوّاها و كمان مستفيد على أوجه كثيرة، ولا أظنك تقبل التفريط في امتيازاتك المادية و الرمزية التي حصّلتها من جراء الانخراط النهائي في هذه المرجعية الثقافية الغربية أم أوحال، التي تستعيذ من عواقب "تصديرها" على "فضاء حضاري و ثقافي مختلف". هذا الفضاء الحضاري المختلف الوارد في عبارتك، بغير تعريف، هو ، قطع شك، فضاء التقليد الثقافي قبل الرأسمالي الذي يلبّك ذاكرة الأهالي الغبش الذين تشفق عليهم من عواقب الوجود بين سندان"شرع الله" و مطرقة "شرع الحداثة".
تقول:"
..
أراد الذين يتحدثون بإسمهم من صفوة اليسار وراكبي موجة الحداثة المبنية على
الوصاية، أن يجيئوا إليهم بقوانين تنبش في سراويل بناتهم، لتجرمهم وتقودهم إلى
المحاكم.."
و ما يضيرك ان يتحدث القوم من صفوة اليسار باسم الأهالي و أنت تعرف أن من تسميهم بـ "صفوة اليسار" هم أولاد و بنات نفس هؤلاء الأهالي الغبش الذين تحتكر لنفسك حق الرفق بهم؟
..
..

أما بخصوص النبش في سراويل بنات الأهالي في عبارتك :
"أن يجيئوا إليهم بقوانين تنبش في سراويل بناتهم، لتجرمهم"
فأنا أرى أن غاية تحريم الختان، بحد القانون، هي صيانة حرمة الجسد المؤنّث و ضمان أسباب سيادته ضد أنواع الانتهاك التي تتذرّع بالتقاليد و العادات البائدة لمواصلة إذلال الإناث.
و تقول أن الاصلاح "لا يتم عن طريق القانون وحده. كما لا تكون ضربة البداية فيه بسن القوانين". وأنا لا أقول إن سن القانون سيؤدي بشكل أوتوماتي لإلغاء الختان، و لكن القانون يشكّل قاعدةً ماديةً ضروريةً يمكن أن تدعم جهود التنوير الفكري و السياسي لحمل الأهالي على التراجع عن خصاء الفتيات. وما يهم الناس من أمر "ضربة البداية" إذا كانت الغاية هي ‘يقاف خصاء الفتيات؟ وأنت تعارض فعل القانون بفعل التوعية، وأنا أعرف أنك تعرف إن القانون هو في حقيقته وجه من وجوه فعل التوعية. و فعل التوعية كما تقول أنت "طريق غير مباشر".." يمر بأراضي مختلفة"، بما فيها أرض التشريع.
و لو عرّجنا على ظاهرة تقليدية سودانية أخرى كالرق لفهمنا بسهولة دور القانون ، كـ " ضربة بداية" في دفع الأهالي المسلمين ـ الذين يجدون للرق أكثر من تبرير في النصوص الدينية ـ للتراجع عن استرقاق الناس، وفي الناس نفر يخاف (من القانون) و لا يختشي. قرأت قبل سنوات أن أهل موريتانيا واصلوا بيع وشراء الرقيق حتى مطلع ثمانينات القرن العشرين، حين أصدرت الحكومة قانوناً يمنع الاسترقاق في موريتانيا . و ذلك حين بيعت فتاة سوداء مسترقة في مزاد علني بموضع يسمّى "سوق عطّار" في مارس 1980 .
« Femmes d’ Islam , ou le sex interdit », Attilio Gaudio & Renée Pelletier, Denoël 1980,p.47.
و لربما ظل الناس يُباعون في السودان ، على الطريقة الموريتانية، لولا أن هيأت العناية للمسترقين نفر من المستعمرين الإنجليز النجوس الذين" سرقوا" كرت تجريم الاسترقاق من...
من مَنْ؟
(من الحزب الشيوعي السوداني طبعا..).

" ضمير الحداثة":
ـــــــ
تقول:
" والمحاولة القائمة الآن للتوقيع على عريضة
أو مذكرة يتم تقديمها لوزير العدل
والنائب العام الإنقاذي، لا تختلف في عموم تسبيبها الفكري،
ومقصدها العملي، عن ما قام به الإنجليز في عام 1946
من استخدام لسيف القانون لإستئصال تلك العادة الضارة.."
" ومن يمارسون عادة الخفاض على بناتهم،
لا يرون فيها عيبا مثلما يراه
المتعلمون الذين

سمحت لهم ظروف تلك الديار الحزينة
بالإلمام بطرف من قيم الحداثة،
فأصبحوا يتحدثون
منطلقين من ضمير الحداثة،"
و يهمني من هذا المقطع عبارتك " ضمير الحداثة"، لأن الاستاذ محمود في "ثورة رفاعة" ـ كما تقول، بغير حذر من مخاطر استخدام هذا المصطلح :" ثورة " ـ أقول: أن موقف الأستاذ محمود و أهل رفاعة الذين تبعوه للحصاحيصا لمحاصرة مركز الشرطة و استعادة ذويهم، إنما يعبر عن واحدة من اللحظات التاريخية التي تتقاطع فيها أقدار الصفوة السودانية الناطقة عن "ضمير الحداثة" مع أقدار الأهالي الغبش الناطقين عن ضمير التقليد الثقافي قبل الرأسمالي. ولقاء الصفوة مع الأهالي يقوم هنا على نوع من سوء الفهم الطوعي الغميس الذي يصونه كل طرف بقدر ما يرى فيه مصلحة على صعيد مشروعه الخاص. فمحمود محمد طه ، في نظري الضعيف، مثله مثل كل الناطقين عن ضمير الحداثة الإنسانية التقدمية، مثقف ابن عصره، لم يكن يداخله شك في ضرر الخفاض كطقس مرذول يحط من قدر النساء بانتهاك سيادتهن على أجسادهن، وفي نفس الوقت لم يكن الشك ليداخل محمود محمد طه في طبيعة الدوافع التقليدية التي حفّزت الأهالي الأميين، الفخورين بختان بناتهن ،على الاستماع لتحريضاته و اتّباعه في التمرّد على قانون تحريم الخفاض لحد مواجهة عنف الشرطة الاستعمارية. لكن محمود محمد طه، في حادثة رفاعة، كان يتصرف كداعية اجتماعي حداثي نبيل المقاصد أولويته العاجلة سياسية. و قد انتفع محمود محمد طه في حادثة رفاعة بطاقة الجسم الاجتماعي الناطق عن ضمير التقليد لكسب نقطة سياسية، ضد السلطات الاستعمارية، في إطار شقاق الحداثات المستعر بين حداثة المستعمرين( بكسر الميم) و حداثة المستعمرين ( بفتح الميم)، مثلما انتفع أهل رفاعة، الناطقين عن ضمير التقليد، بفرصة، نادرة في ذلك الزمان، هي فرصة الحصول على قائد منهم يمكن لهم أن يولّوه أمرهم، و إن نطق باسمهم في لغة حديثة لا يفهمونها. فمحمود في مشهد أهالي رفاعة كان نوعاً من مسيح منتظر، مسيح قد لا يفي بكل الشروط الأسطورية المتوقعة من المخلّص لكنه مسيح متاح ضمن شروط الزمان و المكان الواقعيين. و لعل حرّاس التقليد بين الأهالي قرروا أن يولوا ثقتهم لهذا المسيح المشاتر لأنهم استشعروا أن الرجل لن يخون برنامجهم البراغماتي البسيط المتلخّص في استعادة ذويهم من قبضة الشرطة ومواصلة خفاض بناتهم دون تدخل من طرف السلطات.
وتمثّلات سوء الفهم الطوعي بين الصفوة السودانية الحديثة و الأهالي التقليديين كثيرة في تاريخنا السياسي الحديث. وهذا باب للريح سأعاود فتحه ضمن مشروعي لفهم شقاق الحداثات السوداني. و كنت قد ابتدرته بكلام حول" السير عبد الرحمن المهدي و حداثة الغبش"، و في خاطري مواصلته على ضوء تجارب بعض رواد الحداثة في السودان. فصبرا.
و شتان ما بين اللبس في موقف محمود مع أهل رفاعة و اللبس في موقف السيد عبد الرحمن مع أهل الجزيرة أبا. فمحمود توسّل بطاقة القوى التقليدية لتسجيل نصر حداثي تحرّري( إقرأ يساري) ضد قوى الحداثة الاستعمارية، بينما توسل السيد عبد الرحمن بطاقة القوى التقليدية لتسجيل نصر حداثي رأسمالي (إقرأ استغلالي) مع قوى الحداثة الاستعمارية. و في كلا الحالتين بقي الاستاذ محمود و السيد عبد الرحمن في " ضمير الحداثة" ( بتنويعاته الأوروبية) بينما بقي أهل رفاعة و أنصار أبا في "ضمير التقليد" (بتنويعاته السودانية).
بيد أن حادثة رفاعة لا تنتهي عند هذا الحد، بدليل أننا نعود اليها و ننبش في تفاصيلها بعد كل هذه السنين. وذلك لأن هناك أسئلةً كثيرةً ما زالت معلقة في خصوص موقف محمود (والاخوان الجمهوريين) من عواقب هذا الامر. وأول الأسئلة هو لماذا طوى الجمهوريون صفحة مناقشة الخفاض في السودان ولم يعودوا لها رغم أن قانون السلطات البريطانية ظل ساريا في السودان بعد الاستقلال. وأنا أسأل هذا السؤال من واقع خبرتي بتجربة الجمهوريين و كفاءتهم العالية في إحياء و تنظيم المناقشات الشعبية الجادة التي لعبت دوراً كبيراً في تقعيد الفكرة الجمهورية هذا المقعد الجليل الذي نعرفه جميعاً. لماذا صمت الجمهوريون عن الخوض في أمر الخفاض في السودان كل هذه السنوات؟
النور يا أخانا الذي في البلاد..
أنا اسألك كل هذه الاسئلة ولا أتوقع منك أن تجيب عليها باسم الجمهوريين كوني أعرف أنك لست الناطق الرسمي باسم الجمهوريين ، ن كان ما زال هناك من الناس من يعرّفون أنفسهم كناطقين رسميين أو كورثة شرعيين لفكر الأستاذ محمود، أو حتى كممثلين لتلك الحركة الفكرية التي تزوّدنا من عطائها و تعلمنا من أدبها في السبعينات. وأنا في الحقيقة أعوّل كثيراً على إجابتك كصديق فكر تعودت معه على الخوض في كل ما قد يعبر الخاطر بلا عقد و بدون تابو. و في نهاية التحليل فلن ينتفع الناس من محاورتنا هذي إلا بقدر ما نتجاسرعلى تجاوز مدارات الكلام " الساكت" البوليتيكلي كوريكت الذي لا ينفع و لا يضر. ولا شنو؟
سؤال أخير: أين تقف أنت اليوم من الحراك المنتسب للجمهوريين و الذي يحييه نفر من الجمهوريين السابقين حول أفكار الأستاذ محمود محمد طه؟ و من هم الجمهوريون؟
النور
هذه الرسالة طالت و ما زال في الخاطر أشياء من حتى، و أظن أن من الأسلم إيقافها هنا حتى نستنير بأفكارك أو بأفكار غيرك في خصوص الأسئلة المعلقة
و سلام و مودّة..


قصي
يا صاحب الروح
سلام جاك و ألف شكر على عودتك لتفاكير سياسة الجسد. و هي كما تعلم تفاكير شاسعة واسعة و عامرة بأشياء شيقة من حتّى. و لا اظننا نخرج عن موضوع الخيط بسبب التخريمات الحانبية الضرورية، و من حيث اكتب، فموضوع الخفاض برمته ما هو سوى تخريمة أخرى ضرورية داخل مبحث سياسة الجسد الذي أتوسل اليه بوسيلة رقصة العروس.و رقصة العروس عندي وجه مركب متحوّل من وجوه التعبير الجمالي التشكيلي في السودان العربسلامي.

و لكي نقعّد المناقشة في المقعد النقدي الذي يليق بتعقيدها الحيوي ( الحيواني)و السياسي و الجمالي و الديني، فنحن نحتاج لبراح من الوقت ( و لو كان الوقت رجلا لقتلنا على بكرة ابينا)، و نحتاج للجهد النقدي الخلاق المتفرّد بشكل جمعي أو كما جاء في المثل غير المعروف:" صفقة الأيد الواحدة ما تكتل غزال"..
المهم يا زول ، في هذه العجالة ـ و العجلة أصل الشيطان ـ أنتقي من كلامك بعض المفاهيم التي تفرض نفسها و أعد بعودة متأنية.
تقول:
" فأنت بمرجعيتك الفكرية، تنظر الى الدين كناتج كجتمعي، أما أنا ( بمرجعيتي الفكرية أيضا)فأنظر الى الدين كناتج عقلي سابق لمرحلة المجتمع البشري.." و بهذه العبارة تحيلنا ـ بجرة قلم ـ الى مشهد الصراع الذي يوصفه الأدب الماركسي كصراع بين الفكر المادي و الفكر المثالي.و هو توصيف أقبله أنا على مضض لأنه يتصوّر امكان فكر" لا مادي".و الفكر في نظري الضعيف كله مادي، بما فيه الفكر الموصوف بـ " المثالي ".
و أنا أعتبر الفكر الديني فكر مادي متحقق ضمن الشروط المادية التاريخية لأهل الارض رغم ان أهل الدين الذين يتطلّعون الى السماء غالبا ما يتناسون الأرض، أرض الواقع الاجتماعي.و بمناسبة تساؤلك عن " كفاءة الدين"،فأنا اعتبر أن كفاءة اي دين انما ترتهن بمقدار ما يتجذر في واقع الارض.ذلك ان الدين، كظاهرة تاريخية، انما ينطرح كبناء رمزي مصطنع اصطناعا بغاية تلبية حاجات التنظيم الاجتماعي في لحظة معينة من تاريخ تطور الوعي الاجتماعي .و على هذا الاعتقاد أرى الدين ضروريا كوسيلة تنظيم اجتماعي طالما لم يتوصل الناس لوسيلة أخرى اكثر كفاءة من الدين على الصعيد الاجتماعي. و حين أقول : "أنا على دين ابن المقفّع أكره أن أبيت ليلتي على غير دين"، فأنا أيضا على فطرة الأعراب الذين قالوا "آمنا " فقيل لهم : لم تؤمنوا و لم تدخل ميتافيزيقيا الايمان في قلوبكم. أنا يا صاح زاهد في الايمان و الميتافيزيقيا البائدة، لكني أثمّن غاليا كفاءة الدين كماعون للفعل الاجتماعي و كضرورة عملية بعيدة عن التجريد الصوفي الشرقاني . و لمولانا" أوغست كونت" تفاكير سديدة في خصوص "الدين الوضعي" أرجو ان نجد لها براحا لنتأنّى عند ثناياها ضمن ونسات قادمات.و في هذا المشهد، مشهد الدين بدون ميتافيزيقيا( و هيهات )، فكفاءة الدين تهمّني من مدخل " الرحمة بخلق الله" أكثر مما تهمني من مدخل " الغيرة على دين الله"، شفت كيف؟ و هذا ( أيضا)" سؤال استفساري" كما تقول.
مودتي.



سناء عمر بابكر جعفر
شكرا على المداخلة الجسورة
القلم اليافع سيكبر بالمثابرة و الفكر المتواضع سينمو و يزداد تشعبا بتجارب الصراع و الصوت الضعيف سيعلو بالمران..
القيمة الجوهرية في مداخلتك هي التجاسر على الخوض في هذا الشأن الذي يتجنبه الكثيرون.و يوم تتجاسر النساء السودانيات على أخذ الكلام و التعبير عن أحوالهن و مطالبهن دون وجل، يومها ستنهار آيديولوجية المجتمع الذكوري وسيهل عهد جديد، ولا شنو؟
مودتي


ÚÒ ÇáÏíä ÇáÔÑíÝ
مشاركات: 33
اشترك في: الخميس أكتوبر 13, 2005 9:42 am

مشاركة بواسطة ÚÒ ÇáÏíä ÇáÔÑíÝ »

هذه المساهمة هي نفس سابقتها اعدتها لصغر الخط .... ارجو من ادارة الموقع تعديلها

لقد تاخرت هذه المساهمة لاكثر من اسبوعين لعدة ظروف حالت دون ذلك

د. حسن موسى والجمع الكريم

تحايا البعيد للبعيدين

بدأت متابعة هذا البوست منذ بداياته وحدث انقطاع "كبير" فيما بعد بسبب مشاغل أخرى في هذه الدنيا "بت الغلفا" كما عبر د. حسن موسى، وهي عبارة في سيرة "النبذ" السوداني ما سبقهم عليها شعب في الأرض حسب علمي البسيط ....

يقول د. حسن موسى "وليست بين يدي حاليا أية إحصاءات أو استطلاعات عن نسبة النساء السودانيات اللاتي يؤيدن ممارسة الخفاض على بناتهن لكننا يمكن أن نتّكيء على تقرير نشره قبل فترة "المجلس القومي المصري للسكان". ذكر في تقرير نشر في فبراير 1997، أن "ثمانية نساء من كل عشر مصريات يؤيدن مواصلة ممارسة الخفاض كعادة حميدة " (لوموند 26 يونيو1997)" فهل يستوي حال شعب السودان وحال مصر؟ وهل عندما لا نجد بيانات وإحصاءات لـ "شعب" ما عن مسألة ما نحيل المسألة إلى إحصاءات شعب آخر؟ هل يستقيم ذلك؟

أنني اقدر عاليا مساهمات د. حسن موسى في هذا البوست وفي الكثير غيره وما يزال لكني اعتقد ان استعماله وتعميمه النسب ونتائج الدراسات المصرية على السودان أمرا جانبه الصواب كثيرا.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

جيوبوايتيك الجسد 8


مشهد " ما يعجب الناس"
( مشهد جانبي للكريستاليين)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول المثل المعروف:" أكل اليعجبك و ألبس اليعجب الناس".و العبارة تلخص التناقض الازلي بين الانسان الحيوان المحكوم بقانون الحس البيولوجي و الانسان الكائن الاجتماعي المحكوم بقانون الجماعة التي يحيا و سطها.بين الجسد كحالة وجود مادي فريد و الجسد كوحدة اجتماعية ابتدائية تشبه غيرها من الوحدات التي تشكل معا جسد المجتمع.و قد ادى دخول قيم الحداثة العنيف السريع في مجتمعاتنا الى تعميق و تعقيد هذا التناقض بشكل فريد.فالشيخ الجليل الذي يستنكف عن الجلوس على الكرسي يتقاسم نفس النسيج الاجتماعي الثقافي الذي يحيا ضمنه أولاده و أحفاده الذين لا يتصوّرون أو لا يطيقون فعل الجلوس على غير الكراسي. و اذا كان الكرسي قد ترمّز في خاطر الشيخ الأنصاري كآلة مريبة قمينة بالانحراف بالمسلم عن جادة السبيل، فقد عرفنا، بين أحفاد هذا الشيخ، نفر من هواة الجلوس على الكراسي ، من متعلمي السبعينات، الذين كانوا يستعيذون من مرأى زملاءهم من طلاب كلية الفنون بشعرهم الطويل المنكوش على موضة الـ " آفرو" وهم يخطرون في القمصان المحزّقة الملوّنة و البنطلونات على طراز الـ " الشارلستون"( رجل الفيل) و قد زادتهم الاحذية عالية الكعب عشرات السنتميترات طولا و نحولا.كانت كلية الفنون الجميلة و التطبيقية في السبعينات قسما من أقسام " معهد الخرطوم الفني" الكثيرة ( تجارة و هندسة مدنية و هندسة ميكانيكية الخ)، لكن طلاب كلية الفنون تعلموا أن يصونوا خصوصيتهم الفكرية و السياسية ضمن مشروع استقلالي طموح، توارثته الأجيال بعد الاجيال، و غايته اخراج كلية الفنون من معهد الخرطوم الفني و تعريفها كمؤسسة مستقلة للتعليم العالي الجمالي .و حين وصلنا لكلية الفنون في مطلع السبعينات كان اتحاد كلية الفنون مستقلا عن اتحاد طلاب المعهد الفني كما كانت المنظمات و الجمعيات النقابية والثقافية و السياسية لطلاب الكلية تعمل باستقلال تام عما يدور بين" طلاب المعهد الفني" كما كنا نسميهم، كما لو كنا نحن خارج المعهد الفني.و كان من الطبيعي ان يتولد عن هذا الفرز بعض الحساسيات بين طلبة الكلية و" طلاب المعهد الفني".و كان من الطبيعي ان تتطور الحساسيات بين هؤلاء و أولئك الى مستوى المناكفات و الشقاقات الشفهية غالبا ، و الجسدية العنيفة من وقت لآخر، و ذلك حسب انعكاسات النزاع السياسي و الثقافي آنذاك.
و رواة التاريخ غير الرسمي لكلية الفنون يحفظون بعض الحالات التي تطور فيها الاستهجان المتبادل الى " دواس " ملحمي سالت فيه الدماء من الطرفين المتنازعين حول تعريف وضعية الجسد بين تناقضات الحداثة و التقليد.أنا لن أنسى ذلك النهار من عام 1974، في استوديو التلوين ، حيث كنا تحلّقنا حول تمرين" طبيعة صامتة" ، نرسم و نتندّر على محمد شدّاد، و هو يدندن شيئا من أغاني السيرة بأسلوب أدخل في غناء الهنود الحمر،حين دخل الدرديري محمد فضل الأستوديو تحيط به ثلّة من طلبة و طالبات الكلية، و هم يعبرون عن استنكارهم للاعتداء العنيف الذي تعرّض له الدرديري من بعض طلبة الاقسام الهندسية ( الاعداء) الذين استفزّهم ملبسه.و حقيقة ، كان الدرديري في ذلك اليوم قد تزيّى بزي يستحيل تجاهله حتى على النظر الأكثر تسامحا.فقد ارتدى الدرديري " تي شيرت "، ممزّق عمدا في أكثر من موضع و مربوط، بما تبقّى من الكُم، تحت الكتف الأيمن العاري. أرتدى الدرديري خرقته الممزقة عمدا( كـ " نوع من الفن " على حد عبارة العوام)،ارتداها على ما تبقى من بنطلون جينز ممزق عند الركبة و مثقوب في أكثر من موضع من الخلف بحيث يمكن للناظر ان يرى طرفا من لباسه الداخلي .و كان واضحا ان الدرد يري جاء الى الكلية ذلك الصباح و هو" مبيّت النية" على الاستفزاز.و كان الاستفزاز ، في تلك الايام ،قد استقرّ كاستراتيجية فنية و فكرية عالية الكفاءة، و ذلك بحكم عائده الاعلامي المجز في أفق" الجماعة الكريستالية" التي كان الدرديري ـ بطريقته ـ أحد أعمدتها في كلية الفنون.في تلك الأيام، كانت الـ " مدرسة الكريستالية" ،في ذروة عزّها الجمالي و السياسي الهش، تعتمد على محمد شداد و نائلة الطيب و الدرديري و أستاذتنا الفنانة الكبيرة كمالا اسحق.و رغم أن كل واحد كان يلعب دوره المميز ضمن الجماعة ، الا أن لمحمد شداد القدح المعلّى في التأسيس المفاهيمي و بناء التبريرات الآيديولوجية و الجمالية التي ضمنت للكريستالية براحا ضمن الفضاء السبعيناتي للمناقشة الكبيرة في موضوع الفن وقضايا الحركة الاجتماعية في السودان.في تلك الأيام ـ و أنا أصر على " تلك الأيام" كون محمد شداد ورفاقه الكريستاليين ، في " هذه الأيام "، هم أبعد ما يكون عن الموقف السياسي و الجمالي الذي كانوا يبشرون به في السبعينات، و هذه سنة الحياة و لا ينجو أحد من التحول .أقول : في تلك الايام كان محمد شداد ينظّر لموضوعات " تحرير الغرائز" لتحرير المجتمع و " توفير الجهد" و تحرير الممارسة الفنية من ربقة" الحرفية" لصالح "الرؤيا" الابداعية التي ترسم صورة" الوجود كمشروع كريستالة" عماده" شفافية" المعاني و الذوات.
حين دخل الدرديري الجريح استوديو التلوين وسط استهجان الطلاب كان من الطبيعي أن يهب محمد شداد ناحيته ليفهم منه كيف أصابه ما أصابه.و ما أن تحوّل الرهط الى خارج الاستوديو في الممر أمام مكتب عميد الكلية ، حتى عدنا الى ما كنّا عليه من ونسة و تندّر ، فمثل هذه الاشتباكات كانت جزءا من روتين الحياة في كلية " الفنون الحربية" في تلك الايام.بعد ذلك بلحظات رأيت محمد شداد يعود للأستوديو و بيده طوبة حمراء و يتناول جريدة يلف فيها الطوبة بعناية قبل أن يغادر الاستوديو على عجل.في تلك اللحظة لم أفهم مقصده، و انتابني خاطر مبهم أنه بصدد التحضير لواحدة من " الحركات " اياها التي عرف بها الكريستاليون.( تلزمني عودة متأنيّة لـ " حركات " الكريستاليين و تنقصني وثيقة " البيان الكريستالي" لاستكمال نص في خصوص محمد شداد ومن كان عنده فضل نص... فالأجر على الله). لكن خاب ظني ، فالحركة التي كان محمد شداد يحضر لها كانت أكبر من كل الحركات الكريستالية الطريفة التي عرف بها الكريستاليون في تلك الايام. اذ بعد خروج محمد شداد بلحظات و صلنا هرج عظيم و مرج تحرك كالاعصار من بوفيه المعهد لغاية باحة كلية الفنون بين استوديو تصميم المنسوجات و استوديو التلوين.و رأينا جمعا هائجا من عشرات الاشخاص يتجاذبون بالأيدي و وسطهم بسطاوي بغدادي عميد الكلية و قد تمزّقت ملابسه ضمن المجابذة التي حاول الفصل بين أطرافها، كانت هناك مجموعة من طلاب الاقسام الهندسية تحيط بزميل لهم يسيل الدم من رأسه، بينما أحاط جمع آخر بمحمد شداد و بعض طلاب كلية الفنون الذين انبروا للدفاع عنه ،محاولين ابعادهم من بؤرة التوتّر، حيث كان الطالب الذي اقتص منه محمد شداد لاعتداءه على الدرديري ما يزال يتوعّد و يهدّد .و في دقائق قليلة انتشر الخبر في نواحي المعهد الفني فامتلأت الباحة بزحام عجيب من الطلاب و الاداريين و العمال و الاساتذة ، و كل يدلي بدلوه في الامر.فهمنا ، فيما بعد ، أن محمد شداد قد ذهب للبوفيه و في يده الطوبة الملفوفة في الجريدة و قصد الطالب الذي اعتدى على الدرديري و ضربه بالطوبة على أم رأسه اقتصاصا .لكن الشكلة لم تنته عند هذا الحد ، فقد التقى الجمعان بنهاية اليوم الدراسي عند بوابة المعهد الفني و استؤنفت الملحمة بشكل موسّع أتاح لمن فاتهم الفصل الاول ان يفشّوا غبائنهم القديمة المؤجلة في الفصل الثاني.
هكذا كان أولاد المسلمين ، في تلك الايام البريئة، يقيمون ، على قلق ،عند تقاطع التقليد المحدّث و الحداثة التقليدية و يغيرون الباطل بيدهم ما استطاعوا الى ذلك سبيلا.و أنظر اليهم اليوم و قد أدركتهم الدياسبورا، بنت الغول المتعولم ( الامريكي) و منظمة التجارة الدولية، فجعلتهم في موضع حرج من الوزّة، يغضّون اليد و اللسان و يتعامون عن الباطل الذي يساكنهم ، و يتعقبهم اذا خرجوا، و يتحرّش بهم في حركتهم و سكونهم ، فسبحان مغيّر الاحوال من حال الى حال.


عز الدين الشريف
البعيد القريب
سلام جاك
و أنا معاك، مبدئيا، في ان احالة تحليل ظاهرة الخفاض في السودان "الى احصائيات شعب آخر" لا تجوز. و ذلك لأن خفاض المصريين (الذي يسمونه عندهم بـ " العادة السودانية" كما نسميه عندنا بـ " الخفاض الفرعوني" ) هو بالضرورة ظاهرة مصرية،, حين تتوفر لي مادة احصائية سودانية في خصوص خفاض السودانيين فلن أتوانى عن استثمارها.و انت تعلم يا صاح أننا نكتب و نتفاكر تحت شروط فقر وثائقي مدقع.
و أظنني سوّغت لنفسي استلاف احصاءات تقرير المجلس القومي المصري للسكان بذريعة كون الخفاض ضمن الملابسات التاريخية الراهنة ، سواء تم في السودان او في مصر او في النيجر أو في اليمن، انما هو ظاهرة حداثية ، في معنى كونه تعبير عن ردة فعل حداثية لمجتمع مقهور و حديث ـ و ان تجلبب بجلابيب التقليد قبل الرأسمالي ـ تجاه تجاوزات حداثة رأس المال المتعولم.و سأعود لهذا الأمر لاحقا.
أما عن سب الناس بغلفات امهاتهم كاختراع أدبي انفرد به السودانيون فهذه شتيمة عربية قديمة و العربان يتعايرون بـ" يا ابن العبراء" و أظنني أوردت مرجعا أدبيا لذلك في مطلع هذا الخيط..
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »


مشهد الفنان

مشهد مؤجّل لابراهيم عوض
أحد أهم أعلام حركة الحداثة الشعبية في سودان القرن العشرين.
ذهب خلسة بعد أن أرسى علامات جبارة في منظور الحداثة الحضرية ،
سواء في طريقة معالجته لفن الغناء او في أسلوب حضوره المشهدي أمام الجمهور السوداني.
و الكلام عن الأسلوب المشهدي لابراهيم عوض فولة كبيرة تحتاج لكيالين و كيالات من أهل الكيد.
و في انتظارهم نحجز لابراهيم عوض محل حظوة خاصة ضمن مشاهد جيوبوليتيك الجسد في السودان الحديث.
ÚÇÆÔÉ ÇáãÈÇÑß
مشاركات: 164
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 6:43 pm

مشاركة بواسطة ÚÇÆÔÉ ÇáãÈÇÑß »

حسن موسى صراحة كلامك دا
ما عايز قراية واحدة
عايز تركيز وقراية صباح والبوست سرح
فالصباح رباح ..
ÚÇÆÔÉ ÇáãÈÇÑß
مشاركات: 164
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 6:43 pm

مشاركة بواسطة ÚÇÆÔÉ ÇáãÈÇÑß »

واليمن، وعمان، ودولة الإمارات العربية المتحدة. فالغالب على هذا التقليد هو أنه تقليد قبلي إفريقي شائع وسط العديد من القبائل الإفريقية يتركز أغلبها في منطقة جنوب الصحراء. وتقول الإحصاءات أن حوالي 28 قطرا إفريقيا تجري فيها ممارسة نوع من أنواع الخفاض
سلام للجميع
الاستاذ النور ، الخفاض وجد في الجزيرة العربية قبل الاسلام ، ويمارس منذ الجاهلية رغم أن الرسول ، لم يخفض بناته ، كما هو مثبت ، ولكن ما يجعل المسألة واضحة في أفريقيا أن أفريقيا وبعض الدول الواقعة جنوبنا أو شرقغربنا ، هي أن تلك المناطق ربطت ممارسة الخفاض بالطقس ، وبالانتقال من الطفولة الى مرحلة الرجولة أو النسونة عند الفتيات ، أما عند أهلنا العرب أرتبطت بمتعة الرجل وأمتلاكه لمتاعه الانثوي ، ولقد قرأت في كثير من ذكر هذه العادة قراءآت متفرقة تؤكد ، ان الرجل هو وراء خفض البنات الصغار وأعادة طهارة المتزوجات لضبط الجسد الانثوي وفق الهوية الذكورية فيما يسمى بالعدل ، وأعتقد أن أعادة هذا الضبط أو التفصيلة تخص السودانيات فقط ، وقرأت لكاتبة مغربية اسمها خديجة أن رجل طلق زوجته فعاتبته قائلة : لماذا طلقتني وأنا ليس بي عيب والله غير ضيق في جبهتي ، فرد عليها ، لوكان الضيق في حيرك لما طلقتك . سوري على الفشاحة والتي هي حق ذكوري أقتحمه حيث لا يقبل من النساء ، وفي العقد الفريد لابن عبد ربهيقول الفرزدق :
وقال الفرزدق:
أنا شيخٌ ولي امرأةٌ عجوز تراودني على ما لا يجوز
وقالت رق أيرك مذ كبرنا فقلت لها بل اتسع القفيز
ومسألة الضيق كما زكرت قبلا عين سحرية مثل حزام العفة الذي عرفه الرومان ، لتجعل الرجل يعلم مدى أمتلاكه لهذا الجسد ومعرفة هل يلج غيره هذه الحرمة التي تخصه و وتدنس شرفه أم لا؟
هذه كلها أشارات تؤكد أهتمام ذكور العرب وتحوير أجساد النساء وفق هواهم الجسدي وتفصيلهن على المقاس ، وهذا يزكرني بجارتي النازحة من الشمالية الى تخوم الخرطوم حيث طلبت مني يوم أنا أقرأ لها خطاب من زوجها المغترب في السعودية وهي أمية رغم أنها تصغرني بخمسة أعوام ، فقرأت لها الرسالة ، ولكن تعجبت حين وصلت الى كلام لفت نظري فهو يطالبها بالاتي : أخبري أمك أن تخيط القفة وتضييقها ، فأنا نازل بعد اسبوعين ، فسألتها ماذا يقصد فأعلمتني بأنه يقصد أن تستدعي لها أمها الداية لتقوم بضبط الموضوع فكل ما ينزل أجازة لابد من هذه المسألة ، كانت تقول هذا وهي خائفة من هذا الامر المؤلم والذي لا يخلو من خطر ، طبعا دي واحدة من المسكوتات التي تمارس على قهر الجسد الانثوي وهي من أثر الخفاض الذي بعد أجرائه لابد من تكراره مرارا وبتشجيع من الرجل فاخبرتني واحدة معانا في الخليج بأنها تجري المسألة سنويا حتى يهدي لها زوجها مصاغا ، وبعضهن تجري المسألة كل ستة اشهر والمسألة محاطة بالخطر واحتمال تضيع اذا كانت الاجهزة ملوثة قبل مدة واحدة معانا شالقة قربت تموت ، ومعظمهن يجرن المسألة يا خوفا من ان ازواجهن يتزوجوا عليهن او طمعا في الهدية . الاحصاءت التي تتحدث عن ظاهرة الخفاض لا تتكم عن سلطنة عمان ، رغم أنها من الدول التي تجرى فيها هذه العادة لان شؤون المراة من الاشياء التي يغطي عليها المكر العربي ، ولم تحدثني ولا واحدة من العمانيات الا بعد معرفتي بأنها عادة موجودة وعرفت أن الطهارات من الطبيبات الهنديات !! فيا ترى أن هذه العادة كانت تمارس في الهند ولا صدفة وحرفة تقوم بها طبيبات الهند !!!
قبل مدة سالني رجل عماني وكانت معه زوجته قائلا: ما تعرفي حرمة سودانية تقوم بتجهيز الحرمات لان سمعنا أن السودانيات يسون ها الشئ ،( طبعا في دايات يحضرن الى الخليج زيارات خاصة لهذه الاشياء ) فقلت له أبدا هذه الشنطة التي أحملها بها أجهزة تصوير وليس أجهزة تحوير .
هذه العادة موجودة عند العرب ولكن يغطي عليها المكر العربي وهي عادة تتم في صمت ..


لان المسألة تدخل في باب الحرمات وحرمة الجسد الانثوي والتكتم على كل شئ يجري بشأنه ، حتى اسمها لا يقال فهي البيضة والنخلة وغيره من الرموز فهي سبية أو ظعينة أو ربة خدر أو حريم ، والخ من الامكنة التي ارتبطت باجساد النساء وتغييبهن فيها /.
لفت نظري بحثك القيم يا استاذ حسن الذي تحدثت فيه عن الادوات والحداثة عن المشط والكرسي ولم اكمل البقية ولكن تزكرت مشهد البدوي حين تجده في الشارع وهو يستعمل تلفون الشارع (عام) فهو يجلس نفس جلسته الكاريكتارية البنسميها ( ام قلالو) وهي جلسة صعبة ويجلس ساعات وهو يغازل حبيبته ، يجلس رافعا جلبابه ووزاره في رسم يجعلك تستغرب هذه المزج بين الحداثة والبداوة وعن هذا الانشغال وفضى البال الذي يجعل هذا الانسان يستهلك كل هذا الوقت فلا يكل ولا يمل وله في خلقه شؤون ، وحتى الموبايل مع الوزار يدخلك في نفس السؤال ، قبل سنتين التقطّ صورة لرجل سوداني من رفاعة في سوق الشمش ، ما لفت نظري مشهد هذا الرجل (عربجي ) وهو معنقل في الكارو ويجري محادثة من موبايله ولا ود ابزهانة في زمانو ، حتى حصانو ما مستوعب المسألة لانو كان يصدر أصوات عجيبة وهو يحسه بسوطه على السكوت ، والموبايل طبعا يحمله او يسعى اليه حتى من لم يمتلك حق قوته اليومي ولاحظت أن الطالبات يبتن القوى ولا يفرطن في حق الرصيد والذي يسعن اليه بشتى الطرق وعقلية السوداني التي خلقت محلات قدر ظروفك لم تعوز الحيلة في ادخال قدر ظروفك حتى في شحدة وشراء الرصيد ، واخيرا القيام بعمل موبايل مصمم خصيصا لهذا الغرض .
أكيد طلعت من الموضوع شعان كدا حاقمع روحي واقيف . [b]
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »



جيوبوليتيك الجسد 9
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشاهد من غربة الجسد المسلم

مشهد الفتنة الماشية...نحو الرقص

مشي الاناث، بين تصانيف الحركة الجسدية، يستأثر بنصيب الأسد من عناية الأدب الذكوري، و يستوي في ذلك الشرقيين والغربيين، القدماء والمحدثين. و ربما كان للأمر علاقة بطبيعة النظرة التي ينظر بها الأدباء الذكور لجنس الاناث عامة كنوع انساني متميّز و مخالف لنوع الرجال.و في الثقافة العربسلامية التي تربينا على مراجعها ينطرح جنس النساء كنوع ساحر غريب ومريب يستغلق على الفهم ويستدعي الحذر.
وسوء الفهم الناتج عن هذا الموقف يلقي بظلاله على مجمل العلاقات التي تنشأ بين الرجال و النساء ضمن المجتمع العربسلامي في السودان وفي غير السودان. وضمن هذا المنظور احاول معالجة ظاهرة المشي كممارسة ثقافية هي أكثر وجوه التحقق الحركي الجمالي بداهة، كون المشي، كممارسة جسدية ، متاح للجميع." قالوا ما هذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الاسواق.."(الفرقان 7).فالمشي، فيما وراء معناه الوظيفي، كانتقال من مكان لمكان، انما يكون ، في خاطر الماشي، و في خاطر الناظر ،و سيلة من وسائل التعبير الاجتماعي، بل هو لغة بلاغتها تتخلّق في اطار البيان الجسدي بأنواعه، بين اللعب و الرقص و الرياضة و حركات العمل على تداخل الأمكنة و الأزمنة. و تراث الثقافة العربسلامية عامر بآداب المشي و تصانيفه في خصوص حركة الذكور و الاناث ضمن المشهد الاجتماعي.
"وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا، و اذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" ( الفرقان 63).
" ولا تصعّر خدّك للناس ولا تمش في الارض مرحا ان الله لا يحب كل مختال فخور".."و اقصد في مشيتك و اغضض من صوتك ان أنكر الاصوات لصوت الحمير"( لقمان 18 ـ 19 ).
وهكذا فالمشي يملك ان يصبح وجها من وجوه العبادة مثلما يملك ان ينمسخ معصية حين يخالف الماشي اللائحة الدينية المتعلقة بأسلوب المشي، ومن حسن اسلام المرء اظهار التواضع والخنوع الى الله في مشيته. وقد ورد في الأثر أن النبي غض الطرف عن مشية الصحابي أبي دجانة الذي كان يختال بين الصفوف قبيل النزال.قال: "والله انها لمشية يبغضها الله في غير هذا الموقف". وجزء كبير من لائحة المشي الاسلامية يخص الرجال، ولا عجب فهم الماشون و هم الخارجون في الأمكنة العامة. ويبدو حض الرجال على المشي بتواضع وتجنّب الاختيال نوعا من مساعي تجنب الاستفزاز ضمن مجموعة الذكور الحاضرين في المجال العام، كون الاختيال لغة تحدّي معروفة بين الذكور سواء كانوا ذكور البشر أو ذكور الحيوان.و قد عبّر الشاعر السوداني عن التبدل في أحوال "ود الميرفاب" بين معاني التباهي والامتثال في معالجة بليغة لاسلوب المشي بين"التكلّس" و"التسلّس":
"ود الميرفاب الماسك الدرب يتكلّس
هانوه التـُرُكْ و طاع تبع الرسن سلّس"
(قاموس اللهجة العامية).
أما النساء فان مجرد حضورهن في الخارج يثير الفتنة. وقد جاء في الحديث:"ما تركت بعدي فتنة أشد على أمتي من فتنة رجالها بنسائها" (الشيخان و الترمذي)، وشبهة "الفتنة" توقع الاناث في المحظور، وحين تفرض الضرورة حركتهن خارج بيوتهن فالأمر يتم ضمن سلسلة طويلة من التحديدات التي ترمي لحجب الحضور الجسدي للمرأة والغاءه ما أمكن. وحتى حين يقع الحجاب على جسد المرأة كمعطى بصري فان المشرّع الاسلامي يتعقّبها في أبعاد الحضور الجسدي الأخرى كالحضور السمعي والشمّي الخ. فالمشرّع يحظر على الأنثى التنبيه على حضور جسدها بصليل حليها استنادا على نص القرآن"و لا يضربن بأرجلهنّ ليعلم ما يخفين من زينتهنّ.."( النور 31)، مثلما يحظر عليها التنبيه على حضور جسدها برائحة طيبها حسب الحديث:" أيّما امرأة استعطرت فمرّت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية"(أبو داؤود والترمذي و النسائي وأحمد..). بيد أن الحظر الديني الواقع على حضور الجسد المؤنّث انما ينطرح في منظور الثقافة العربسلاسلامية بوصفه وجها من وجوه التدبير الاجتماعي لعلاقة الاناث بالمجال العام أكثر منه أمرا يتعلق بطبيعة المرأة من حيث هي كأنثى. وذلك لأن الحضور الجسدي للمرأة ضمن المجال الخاص: "الحرم"، يمكن ان يعبر عن نفسه بتنويع واسع و بقدر كبير من الحرية الحركية، وذلك دون أن تطاله لائحة الممنوعات التي تترصّد المرأة خارج حيّز"الحرم". قالت عائشة، أم المؤمنين، التي عهد اليها النبي بـ "نصف" دين المسلمين: "سابقت رسول الله فسبقته، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني وقال: هذه بتلك". و يُرجّح من حديث عائشة أن فعل السباق لم يكن ممارسة استثنائية نادرة بين الزوج و زوجته، كون المسافة الزمنية بين حادثة السباق الأول وعائشة خفيفة وحادثة السباق الثاني و هي في "اللحم" لا بد أن تكون قد شهدت سباقات أخرى. وأظن أن قولة عائشة غنية بالدلالات حول نسبية علاقة الجسد المؤنّث بملابسات الزمان والمكان. كون فعل السباق، كلعب حركي جسدي غايته الفوز، يحرّر المتسابقين من كل لائحة دينية أو أخلاقية تقيد حركة الجسد ويحيل المتسابقين لمستوى التعبير الجسدي الفطري الذي يستوي فيه الانسان مع الحيوان. وفي هذا المستوى لا حرم ولا لائحة ولاشرع غير شرع الجسد الحي الحيوان. في هذا المستوى يتراجع المشرّع الاسلامي أمام منطق الجسد الحيوان في فطنة تشريعية براغماتية تستحق التسجيل، كونه يكشف عن اضمار باستحالة تقييد الجسد تقييدا ناجزا في كل الأحوال. وتراجعات المشرّع الاسلامي الكثيرة أمام منطق الجسد الحيوان باب يجيب الريح وهو مسدود ولا بد لنا من فتحه في براح لاحق.

مشية "سُليمة" الشرقية.
"بيير لوتي" باسمه الأدبي (واسمه الحقيقي "جوليان فيو" 1850 ـ 1923) روائي رحّالة و بحّار من أعلام الادب الاكزوتي الفرنسي. في واحدة من رواياته التي تستلهم وقائع صعلكاته الشرقية يصف لوتي شخصية عاهرة جزائرية اسمها "سُليمة" سحرته طريقتها "الشرقية" في المشي. "كانت تمشي وتجيء في الغرفة وكشحيها يتمايلان في خفـّة هي خلاصة عز الأنثى. هذا العز أفسدته وزيفته عندنا الأحذية النسائية الضيقة ذات الكعب العالي. لابد أن نساء العصر الانطيقي كن يراجحن من عجائزهن بهذه الطريقة التي تستحيل على غير الاقدام الحافية"
Pierre Loti,Suleima, Editions Mille et Une Nuits, 2000,p.30
لكن معارضة لوتي لمشي الشرقيات الـ "طبيعي" بمشي الغربيات "المزيـّف" تغمط التعليم حقه في صياغة خطاب المشي عند الشرقيات وعند الغربيات معا، ذلك لأن المشي، بحذاء أو بدون حذاء، انما هو في التحليل النهائي، وجه من وجوه الخطاب الحركي يكتسب عن طريق التعلّم الواعي و المضمر، وفي هذا نذهب مذهب مولانا "مارسيل موس" الذي يرى المشي كله اكتسابا. بل هو كفاح لا ينتهي بسبيل تحقيق افضل أساليب المشي كفاءة. وكفاءة الاسلوب الذي يتوصل اليه الماشي انما تتقيّم ضمن منظور الغاية الرمزية و المادية وراء الممارسة الحركية. وفي مقالته المشهودة عن" تقنيات الجسد"( أرجو أن أجد براحا لترجمتها للغة العربان) يورد "موس" ملاحظة الانثروبولوجي "الدسون بيست" في كتابه عن قبائل الـ "ماوري" النيوزيلندية (1925). وهي تتعلق بالطريقة المميّزة التي تمشي بها نساء الـ "ماوري":
"نساء الماوري يتبنين طريقة خاصة في المشي تتراجح فيها العجيزة بشكل مستقل وممفصل مع الجسد في آن. هذه الحركة الجسدية، التي قد تبدو خرقاء في نظرنا، هي عند الماوري مثار اعجاب كبير. فالنساء يدرّبن بناتهن على تبني و تجويد هذه الطريقة في المشي التي يسمّينها بـالـ "أونيوي". والام الماوري تلوم بنتها اذا بدا لها أنها قد اهملت المشي بهذه الطريقة المميزة. والتي هي ـ كما لاحظ موس ـ "طريقة مكتسبة في المشي وليست طريقة طبيعية، وفي النهاية، ربما لم تكن هناك طريقة طبيعية عند الكبار، كون حركة الجسد تتم غالبا تحت تأثير عناصر تقنية أخرى. فعندنا مثلا فالمشي بالأحذية يغيّر من موضع القدم على الأرض، و هو أمر نلاحظه حين نمشي حفاة" (ص 370).
(Marcel Mauss, « Les techniques du corps »(1934), in Sociologie et Anthropologie, Presses Universitaires de France, 1968




و مشهد لـ "الفَـزْرَة "
"بالله شوف البت دي ماشة معصّبه كيف، تقول زارقين ليها عصاية"
كانت تلك العبارة من عبارات "العم يوسف" الاجبارية كلما حط نظره على واحدة من الاناث المتعلمات اللواتي كن يمشين أمامه غير مباليات بنظرته البدوية الولهى. ومن المؤكّد أن نبرة عبارته القاسية كانت تحتوي على نوع من غبن خفي وشيء من التشفـّـي المكشوف مردهما الهوّة الزمنية التي يستحيل ردمها بين جيل "حديث" صاعد نحو الحياة و جيل "تقليدي" هابط ...نحو القبر.
كان عمنا يوسف(وهو شقيق عمنا عثمان الذي في مشهد الملعقة) قد تجاوز الستين الا أنه كان لا يخفي لوعته كلما مرت أمامه انثى. أي أنثى على اطلاق جنس الاناث.
كان الرجل الكهل يفسر ذلك بأن "شهوة النسوان حرارة قلب ساكت" ولا علاقة لها بالسن أو بعافية الجسد. كان بين مآخذ العم يوسف الرئيسية على الاناث اللواتي كان يصنفهن بعبارة "بنات المدارس" مأخذ اهمال"الفَـزْرَة " والمشي كما الرجال.
كانت تلك حسرة مزمنة لا ينفع معها عزاء في خاطر الرجل الظريف "الونّاس" بتعليقاته الطريفة التي كانت ترفّه عنا بين اقواس الفكاهة الذكورية، وأظن أننا كنا نضحك أكثر من واقع المفارقة بين نوعية كلام الرجل وعمره الحقيقي.
كان صاحبنا شخصا خفيف الظل جرابه السردي عامر بالطرائف من كل لون، و أنا اقول "صاحبنا" لأن عمره الذهني ماكان ليتجاوز العشرين رغم أن عمره الرسمي تجاوز العقد السادس.
وحين يتبسّط معنا في ونسات الشئون الايروسية فهو يفعل ذلك بمزاج تعليمي كما لو كانت العناية قد عهدت اليه بمهمة تربيتنا الجنسية.
كانت "الفزرة" في خاطره هي علامة الأنوثة الحقة وضمانتها. وقد حيّرتنا تلك القناعة زمنا دون أن نفهمها. وحقيقة كنا نقابل، في شعر"الحقيبة"، اشارات كثيرة تنطوي على تحبيذ لهيئة "الفزرة" كقيمة جمالية مطلوبة في الجسد المؤنّث، بما يغري باحالة "الفزرة" كمفهوم جمالي لذلك النفر من شعراء الحواضر الذين تولوا مسئولية اختراع أيقونات الأنوثة الحضرية الحديثة أبان العقود الثلاثة الأولى للقرن العشرين، ولا يعني هذا أن وضعية "الفزرة" هي من علامات ثقافة الحداثة الحضرية، فالتقليد الشفاهي لأهل وادي النيل يحفظ اشارات كثيرة لوضعية الفزرة كقيمة جمالية أنثوية. ففي الحجوة القديمة الشهيرة "النيتو و اللعيب" يسأل محمد الشاطر عبده بشارة:
"كيف ضهر اللعيب يا بشارة؟"
فيجيب بشارة:
"فتر و شبر ليهُ انفزارة"..
(الاحاجي السودانية لعبد الله الطيب، دار جامعة الخرطوم للنشر ، 1978 ، ص 48)
أخلص من هذا الى أن "الفزرة" في ذاكرة ايروس السوداني انما تنطرح كباب مهم في خطاب الجسد الناطق بلسان الحركة(والسكون). وضمن خطاب الجسد تقرأ "الفزرة" كعلامة عطاء وانفتاح من حيث كونها تكشف عن ما يخفيه فعل الانطواء في الجسد المؤنّث. وهيئة الانطواء تخفي عن النظر مكامن الغواية الايروسية المتمثلة في تكاوير الصدر والبطن والكفل.. والانثى التي تمشي "فزرا"، أي ثانية ظهرها للوراء ومهدلة من كتفيها، انما تمنح تكاوير جسدها "لزنا العين" ضمن اتفاقات لعبة الغواية البصرية التي يتواطأ عندها الناظر والمنظور اليه على لائحة سرية لخطاب الغواية،لائحة غير مكتوبة يصونها أولاد وبنات المسلمين في الهامش المسكوت عنه ضمن فضاء التربية الرمزية الايروسية للسودانيين. والتربية الرمزية الايروسية للسودانيين بحر غريق عامر بالاشتباهات السلوكية وبالأمور الغميسة التي صارت "تفوت على" جيل السودانيين الذين شبوا في المهاجر خارج الفضاء الرمزي لأهل السودان(كرهط الدياسبوريين من شاكلة "بنت الأحفاد" التي تسنتكر على السودانيين سلام الأحضان بين الرجال والنساءـ أنظر سودانيزاونلاين
https://www.sudaneseonline.com/cgi-bin/s ... 1147194935).
ومفهوم "زنا العين"، المباح ضمن شعاب التربية الايروسية لسودانيي الحواضر، ينطوي على سماحة تربوية براغماتية تسوّغ للسودانيين التحلل من أدب النظر الصارم الذي يصونه حراس الشريعة الاسلامية. فـ "العين تزنى" كما سواها من جوارح الجسد" ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه"(راجع الحديث عند البخاري و مسلم و أبو داؤود و النسائي و أحمد ) و"النظرة الثانية عليك" بيد أن الأهالي المبدعون يكيدون ويلتفـّون على النظر المُصَادَر بحجـّة أن" شوف العين ما بكتل الغزال" .
و اذا رجعنا لحسرة عمنا يوسف على اضمحلال "الفزرة" عند "بنات المدارس" فهي تصدر عن شفرة غميسة في التربية السودانية التقليدية التي مكرت في وجه المنع الديني وفاوضت حتى تمكنت من تهريب هذا الحيـّز الغميس المتحول من السماحة التربوية لكي تحفظ للعين حقها. ضمن هذه الشفرة يقرأ عمنا يوسف غياب "الفزرة " عن الجسد المؤنّث الحديث كما لوكان رفضا للانخراط في علاقة الغواية البصرية المضمرة بين جنس الاناث وجنس الذكور.
بين ذكريات عهد المراهقة حفظت الذاكرة طقسا جماعيا عجيبا كنا نصونه بوصفنا جمع من الذكور المهمومين بتأكيد امتياز الذكورة في مجتمع قائم على تلك القسمة التاريخية بين جنس سائد وجنس مسود.
كان طقسنا المتوارث(أبا عن جد) يتلخّص في اجتماعنا في الشارع تحت ظل العصر، بعيد ساعة الغداء، بغاية "كَحْل" الأعين برؤية الاناث العابرات في الفضاء العام وهن يقصدن المستشفى "يوم الزيارة". وعبارة "يوم الزيارة" تدل على اليوم الذي تخرج فيه نساء المدينة وهن في كامل زينتهن لزيارة ذويهن في المستشفى. ففي ذلك الزمان خصصت ادارة المستشفى اياما بعينها لزيارة النساء وأخرى لزيارة الرجال.ويوم "زيارة النسوان" كان الشارع المؤدي للمستشفى يتحول لنوع من مسرح واسع على خشبته تتحرك مجاميع نساء المدينة في حلل بهية، وعلى ضفتي هذه الخشبة الفريدة يكمن جمهور ملتاع من الذكور المتذرعين بكل الذرائع الواهية الممكنة لمتابعة المشهد من صالة لا تقل فرادة عن هذه الخشبة التي تمور بالحياة سويعة العصرية، وهل كنا نحتاج لأية ذريعة وهذا المسرح/الشارع هو فضاءنا بالأصالة؟.
كانت هناك قاعدة مضمرة تضبط ممارستنا المراهقة، اذ لم يكن طقس "الكـَحلْ" يتعدّى حد المعاينة لأمور أخرى كالأيماء او التعليق الشفوي. وربما كنا نمارس طقس "الكحل" بانضباط تام لعلمنا بهشاشة موقفنا المشاتر في نظر الأعراف السائدة، من حيث كوننا كنا نكحل أناث الآخرين ونحن على وعي بأن اناثنا يتعرّضن للطقس نفسه من قبل ذكور آخرين، على خشبات المسارح/الشوارع الأخرى، حال مغادرتهن حيّنا، و"شوف العين عمره ماكتل.." كما تعبر حكمة عزيزة على عمنا يوسف الذي كان ـ على كهولته ـ ينضاف لجمعنا المراهق من وقت لأخر بمزاعم الخبير في شئون الفراسة الايروسية. كنا نكحل الوجه الجميل ونحلم بنظرة من اللحظ الكحيل نبني عليها قصة حب ايجازي يدوم بضعة ثوان هي ديمومة عبور المشهد، وكان الرجل يسخر من غشامتنا زاعما ان الأولوية يجب أن تكون في معاينة العرقوب، لأن عرقوب الأنثى ينبيء عن الكنوز المخفية في الجسد الحقيقي المتكنـّز تحت الأحجبة الاصطناعية. وحديث العرقوب نوع بلاغي قائم بذاته في أد ب عمنا يوسف كونه يستدعي بعفوية تامة كل فراسة تاجر المواشي الذي يحذق تثمين البهيمة من على البعد دونما حاجة لجسّها. ورغم أن قراءتنا الرومانسية لخطاب أجساد الاناث المبذول في لحظة عبورهن أمامنا كانت تتعارض مع قراءته الحسية، الا أن حلفنا المراهق مع العم يوسف كان يجد تبريره في واقع الحرمان العاطفي و البؤس الايروسي المطبق علينا جميعا.
كان عبور الزائرات المتبرّجات ـ مرتين في الاسبوع ـ يوفـّر لنا برنامجا منتظما لممارسة فريدة تتأسّس بين متعة الحدث المشهدي العفوي (هابينينغ)
Happening
ومتعة الحدث الايروسي الجمعي. وعلى خشبة هذا الشارع/المسرح كانت الاناث العابرات يلعبن دورهن"الطبيعي" في تأجيج الرغبة المحرّمة المكبّلة بقيود التقليد وأحابيل التنظيم الاجتماعي. كان ذلك الشارع /المسرح مكانا عجيبا أشبه بساحة حرب يتنازع عليها فريقان، أحدهما ثابت: فريقنا، نحن الذكور من"أولي الإرْبَة" المتمترسين بين ظل العصر وامتياز الذاكرة الرمزية التقليدية، والآخر متحرّك: فريقهن، وهن عابرات، وقيل مهاجمات، بمكيدة مشهدية بارعة، مموّهة بعناية في طقس العبور العادي لتلك الأرض الممنوعة عليهن بـ "حد الشرع" نظريا. أولم يحضّهن الشرع صراحة أن "قرن في بيوتكنّ ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى"( الأحزاب 33)؟ فماذا اذن أخرجهن الى هذه الأرض الممنوعة عليهن، أرضنا،ـ وهن في أبهى زينة ـ ان لم تكن الرغبة في انتزاعها، وقيل إجلاءنا عنها بالمرة ؟
نعم، كان الشارع في خاطرنا أرض ملكيتها مثبتة للذكور بحكم العادات والتقاليد وبنص الدين الحنيف. وما كان للإناث المتبرجات أن يعبرنها إلا تحت شروط إستثنائية، أو في رفقة دقيقة التعريف، مع "بعولتهنّ أو آباءهنّ أو آباء بعولتهنّ أو أبناءهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهنّ أو بني إخوانهن ّ أو بني اخواتهنّ أو نساءهنّ أو ما ملكت ايمانهنّ أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال.." ( النور31 )..تبّا للحداثة، فانها بما فرضت من تدبير مغاير لأولويات التنظيم الاجتماعي مسخت حدود الزمان و المكان وأفسدت حدود الشرع التقليدي وأدخلت الذكور المسلمين في حيص بيص حين فرضت عليهم وضعية الدفاع ضد رهط الإناث الخارجات، بغير محرم(وبدون "إنفزارة") للعمل وللنزهة وأنواع البسط ، وفي أجندتهن غزو الفضاء العام الذي كان حكرا لجنس الرجال في زمان التقليد البائد. نعم كنا، في ذلك الموقف العجيب، حفنة من الذكور المتخندقين ندافع عن آخر الإستحكامات الرمزية للثقافة التقليدية، وفي أعماقنا يقين من كوننا نخوض معركة خاسرة بطريقة أو بأخرى. و ربما كنا نقبل يقيننا بخسارة المعركة ـ أكثر مما يفعل عمنا يوسف ـ من واقع كوننا كنا نجد عزاءا في حال التواطوء المضمر بيننا وبين "العدو" على إقتسام الغنيمة بالتساوي قبل بدء القتال.هذه الـ "غنيمة" السوريالية المشاترة تتلخص في تثبيت "زنا العين" كممارسة عادية لا يطالها العقاب الشرعي.
وهكذا كان كل شيء يتم بين لغة الجسد المكتوبة عبر تنويعات الحركة والسكون في فعل المشي وقدرة العين على قراءة الأدب الغيروسي الغميس المبذول لكل لبيب يفهم بالإشارة. هذه الإشارة شبه المكشوفة، شفرتها مودعة في ثنايا مواعين الثقافة الرمزية والمادية (الحركية والبصرية والسمعية الخ ...).وفي الأدب الشعبي تبدو ذاكرة الأدب الغنائي الحضري"أدب الحقيبة" منجما من الأمثال والمأثورات الايروسية التي تفتقت عنها عبقرية الأدب الذكوري في تعبيره الــ"إيري".( وأنا استخدم العبارة"ايري" في معنى "فاليك"
Phalic
وهو غير معنى "إيروسي"
Erotic)
أقول: في منظور أدب الحقيبة لم يكن مشي الإناث في الشارع مجرد حركة انتقال من مكان لآخر، وانما كان ذريعة لتحقيق انمساخ صورة المرأة من حال الشخص لحال الشخصية المشهدية التي تعرف دورها المحدد و تؤديه بكفاءة تامة. وبرنامج الأحوال الدرامية للأنثى التي تعبر خشبة الشارع غني بأدوار شتى من "فرع البان" لـ "الحمام" و"الوزّين" و"الغزال" و"ظبي الريل" وغير ذلك من أنواع الحيوان الذي لا يمشي على الأرض هونا وإنما يتباطأ عامدا ويعرض و يتبختر على حد قول شاعر الحقيبة (الذي ضاع مني اسمه):
"ظبي الريل تبختر بالآسات ظفر
معنى الحفلة كائن في واحد نفر".
ولا شك أن الاناث العابرات أمام مجلسنا كن على وعي تام بعواقب فعل المشي كممارسة مسرحية وبأبعاد المكان العام (الشارع) كمساحة حرة لزنا البصر على عينك يا تاجر. كأنما فعل المشي في مشهدهن قد تحوّل لنوع من فذلكة لخطاب الغواية المبسوط في الفضاء العام، فذلكة تتضمّن خلاصة المحسّنات الدرامية التي يجدن بها في حلبة الرقص ساعة الأفراح. كل هذا يجعل من فعل المشي في الشارع نوعا من وعد بما خفي أو استهلالا لأدب الغواية الإيمائية الذي ينتظر المحبين في حلبة الرقص مثلما يجعل من الشارع امتدادا عفويا لحلبة الرقص. وضمن هذا الاحتمال، إحتمال إنبهام الحدود بين الخارج (الشارع) والداخل(الحوش) تفك العين السودانية الخبيرة شفرة المشي تأويلا يؤدّي بالمشي لمقام الرقص في فضاء الدراما الشعبية المنعقدة في حفلة العرس، أو كما عبّر شاعر الحقيبة:
"شادي الحفلة طنّ و الإكليل سفر
والنـشّــاب تواتر للــفاطــر غـفــر
لاحم كتفه كفلـه و ما جـيده الوفــر
عمعم ديسه درعه و في بعضه انضفر
حاكى الغيــم تـنـقـّل يا غــالي الــوفــر
قول للـوزّة غـُوري ، في عـينك ضفــر"
و لا حول و لا قوة إلاّ بالله....


عائشة المبارك
سلام كتير
تقول حكمة العربسلام أن"لا حياء في الدين" فلا تعتذري عن "الفشاحة" فهي بعض من اختراعات الأدب الذكوري المقصود منه تسويغ قوامة جنس الرجال على جنس النساء بذريعة الصدفة التشريحية وحدها، والأمر في النهاية، أمر سيادة النساء على أجسادهن، أجلّ و أخطر من مقتضيات مراعاة لائحة الحياء العام التي يسهر على صيانتها "المطوّعون" من أراذل ذكور العربسلاميين. و لي ـ ضمن هذا الخيط ـ تفاكير مؤجّلة في منفعة الرفث الأدبي النسائي كوجه من وجوه التحرر من ربقة الأدب السوداني الأصيل إياه. والنزاع الحاصل في فضاء الجسد هو نزاع سياسي و فلسفي و أدبي في آن واحد.
الفاضل الهاشمي
مشاركات: 2281
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:14 pm

مشاركة بواسطة الفاضل الهاشمي »

يا ابا الحسن وقيل المحسنات البديعيه ذات نفسها
سلام من عندنا
،،،
هاك ..هاكم ..هاكن
مشهدين عنا لى

مشهد الرفث النسائى:
صراع الجندر عندنا وهو يتحرك فى فضاءات القمع والحظوات والهجمنات هذا الصراع يبدو انه يمر بمراحل شبيهه بالصراعات الماثله حول السلطه والثروه
والاثنوثقافه/الثقافه الاثنيه ....ولعلها تبدو احيانا كالحروب الاهليه المستتره ب والمتمترسه خلف كل اللغات بما فيها لغة الجسد ...
ولعل العبور من مملكة الضروره الى مملكة الحريه يمر بمنعطفات /مطبات الجسد ولغاته الماكره .. كنت ، ومعى الصديق عزت الماهرى ، نتامل الاسبوع النصرم و باعجاب وتكريم مداخلة الاخت عائشه المبارك اعلاه ...وتوقفنا عند احد وجوهها التى تقول "طظ" – او... ضفر فى عين الثقافه الذكوريه – حسب شاعر الحقيبه اعلاه ، و طظ فى عين الثقافه الذكوريه المتوهطه عندنا فى القبل راسمالى وفى الحاضر النيولبرالى باشكال ما....
وتذكرت تعليق حبوبتى طيبه – رحمها الله – وهى تبرنا بتربية ما حيال "لغاويس" الثقافه الذكوريه الغميسه وهى تتضارى خلف الجسد ... او توظفه لبسط سلطانها ... الراسماليه توظفه طبعا بخشم الباب عبر تسليعه من الدعايه لغاية الرقص والاستربتيز ....
وتعليق حبوبتى تلك المره عن احد مجانين الجزيره ابا الذين يمشون فى الاسواق خاصه فى موسم فيضان النيل الابيض ،،، لان الحكمه السائقه و السائغه بين الناس ان الفيضان يهيج جنونهم / جنونهن – ايوا وهن كثر –
قالت حبوبتنا ونحن نتحلق حولها – ابناء وبنات عمومه وخلافه - "الليله حمد النيل –وهو احد المجانين المشهورين- ماشى فى السوق منقاياتو بره" (جمع منقه) ...
كنايه عن عريه و تفاصيل "عورته" – شوف العباره الجباره دى وقول ياالنبى نوح-
فتراوح تجاوبنا لهذه العباره / التابو وهى تنطلق لمباغتتنا من حبوبتنا المحبوبه عندنا ولدى كل من حولنا ومن يطلب مشورتها فى الصغائر والملمات لحكمتها وقوة شخصيتها الخ... تراوح رد فعلنا من التعجب و الاعجاب شبه الصامتين مع ضحكه من والدى وعمى .. انا شخصيا كان رد فعلى ابتسامه خجوله وحذره وكأن العباره قد خدشت حيائى حيال بنات عمى او لعلها ساهمت مع غيرها من مربيتنا فى المساهمه فى تشكل نوع ما من تفاهم جندرى اكثر مرونه واقل حياء ...

مشهد الهارب الشاعر الناصر قريب الله:

والناصر قريب الله ( 1918- 1953) هارب من ضيق السجن الذكورى العربسلامى
فى الحضر السودانى النيلى الى رحاب الباديه .. يقول قصيده ام بادر 1946 والتى يقول مطلعها:
اى حظ رزقته فى الكمال واحتوى سره ضمير الرمال
والتى يتغنى بها الكابلى ...
يقول مشيرا الى السجن الذى هرب منه ب:
يا ديارا اذا حننت اليها فحنين السجين للترحال
الى ان يقول:
كم لوادى الوكيل عندى ذكرى زادها جدة مرور الليالى
وفتاة لقيتها ثم تجنى ثمر السنط فى انفراد الغزال
تمنح الغصن اسفلى قدميها ويداها فى صدر اخر عال
قيظل النهدان فى خفقان الموج والكشح مفرطا فى الهزال
شاقنى صوتها المديد تنادى والعصافير ذاهب الامال
فتغشيتها وفيها ابتسام يحمل الخسر فى كؤوس لآلئ
الى ان يقول:
لجزى الكاهلية الحب عنى ماجزتنى عن جرأتى واتصالى
يا ديارا اذا حننت اليها فحنين السجين للترحال
ولعل هناك براح ما سمح للشاعرالذكورى ان يورد قبيلة من صادفها فجاة بل المكان لغاية التجاسر بتسميه تلك "الذكرى" ب"الحب" لذلك "الغزال" " المنفرد" فى مشهد انفراد اطلق عقال "جرأته" ..حتى "تغشاها" ، والتغشى هو تداخل سلس كتداخل الليل فى النهار .. والآيه تقول "ولما تغشاها حملت حملا خفيفا" - نسيت سورة الآيه –
وشوف مشهد "سبكتاكل" ال "خسر" وسايكولوجيته المحيره بعد ان قضى الشاعر وطره فى البيت الاخير اعلاه ؟؟؟؟

فى مشهد السيره يقول محمد المهدى المجذوب (1919-1982) حول العروس السودانيه:
مهرة حرة وتنتظر الفارس يحمى حريمها والذمارا
المسافه بين الخطاب العربسلامى من محطة المهره والحريم عند المجذوب الى محطة خليل فرح وعازته العربسلاميه "انتى يا الكبرتوك البنات فاتوك" ، تلك المسافه
تحتشد بتناقضات الصراع فى الوسط السودانى مخضبه بدماء الحروب" الاهليه" المسكوت عن خرابها العظيم بين افخاد المخفضات من امهاتنا واخواتنا وزوجاتنا ، وتتجلى توتراتها فى مشاهد سايكلوجيا اللغه بما فبها لغة الجسد.

مع تحياتى
الفاضل الهاشمى
Ahmed Elmardi
مشاركات: 1279
اشترك في: الأحد مايو 08, 2005 8:08 pm

مشاركة بواسطة Ahmed Elmardi »

صديقنا حسن

هذ عمل بمنبر بحالو!.
شكرا لك

****

مشهد الفنان

مشهد مؤجّل لابراهيم عوض
أحد أهم أعلام حركة الحداثة الشعبية في سودان القرن العشرين.
ذهب خلسة بعد أن أرسى علامات جبارة في منظور الحداثة الحضرية ،
سواء في طريقة معالجته لفن الغناء او في أسلوب حضوره المشهدي أمام الجمهور السوداني.
و الكلام عن الأسلوب المشهدي لابراهيم عوض فولة كبيرة تحتاج لكيالين و كيالات من أهل الكيد.
و في انتظارهم نحجز لابراهيم عوض محل حظوة خاصة ضمن مشاهد جيوبوليتيك الجسد في السودان الحديث



لك من حضور ابراهيم المشهدى هذه الصورة


صورة


وصورة اخرى لـ نات كينق كول فى الاربعينات بشيكاغو




صورة
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

الفاضل الفاضل
سلام
كلام اللغة كوسيلة قهر (طبقي / جندري) يحتاج لموقع قائم بذاته كما قال أحمد المرضي في خصوص صورة ابراهيم عوض.و صورة ابراهيم عوض باب قائم بذاته في لغة لسان حال الجسد الحضري الحديث.و كل هذا يحتاج لفريق بحث متفرّغ قائم بذاته و هكذا " دواليبك".. شكرا لكما و صبرا.

جيوبولينيك الجسد 10

مشهد أولاد العرب

الرقص في السودان ينطرح كممارسة حركية شعبية ، مضمونها الرمزي و الجمالي يتباين بتباين السياق الثقافي الاجتماعي الذي يتحقق ضمنه فعل الرقص، كرقص دنيوي او رقص ديني. و بين أهل الدنيا و أهل الدين أفرزت حواضر السودان شريحة من الاشخاص ـ الذكور غالبا ـ الذين لا يرقصون، بل و يعتبرون الرقص ممارسة مشينة في حق" أولاد القبايل" كما عبّر الاستاذ عبد الله الطيب في معرض حكاية أوردها عن ذكريات اقامته مع بعض طلائع المتعلمين السودانيين في بريطانيا :
" في العصر ، لما أوقد الفحم و جلسنا للشاي، قال:".." إبنة زوجتي ، إحتفال عيد ميلادها غدا. يمكنكما أن تحضرا فاحضرا.
حاولنا إعتذارا فقال: ندعوكما، سيكون رقص،طبعا تعرفونه جيدا. و أنّى له أن يعرف أن أولاد العرب بالسودان لا يرقصون، و أنه يوشك من رقص أن يظن يعمل عمل أهل القريات. على أن أصنافا من الرهز قد جعلت تدب بين طبقات في البنادر منذ ظهور " التم تم" و العياذ بالله من الردّة بعد إيمان " ( من نافذة القطار، دار جامعة الخرطوم للنشر، 1980 ، ص 36).
" أولاد العرب" الذين لا يرقصون هم في الواقع نفر من طلائع حركة الأفندية العربسلاميين الذين أخرجتهم حركة الحداثة الرأسمالية ـ في نسختها البيوريتانية ـ من دفء و من مرونة جسد العشيرة ، فتخشّبت أعضاءهم و لم يعد بينهم من يتجاسر على التمايل طربا ، لا في حلقات الذكر بذريعة الدين و لا في حلبات الرقص بذرائع الدنيا، و لذلك علاقة بوضعيتهم التاريخية كقوم كان قدرهم عبور هوّة الوجود المعاصر على قنطرة غير مأمونة معلقة بين ضفة التقليد البائد و ضفة الحداثة المريبة . و هذا العبور المحفوف بالمخاطر من الصورة التقليدية للجسد الى صورته الحديثة عكّر عليهم وعي الجسد، بل و أفسده تماما.ذلك لأن الحداثة الرأسمالية النصرانية التي عبروا إليها لم توفر لهم بديلا إنسانيا لمعاني الجسد، كون معاني الجسد في سياق حداثة رأس المال تبقى رهينة لمنطق السوق الذي يدين كل حركة جسدية مجّانية لا تستهدف الانتاج بوصفها تبذيرا للطاقات. لا، أولاد العرب من أهل الحواضر لا يرقصون، فما الرقص الا من "عمل أهل القريات" و سلالات الرقيق الذين صاروا " طبقات" بين سكان البنادر و صانوا تقليد التعبير الحركي من خلال التمتم و الرومبا و السامبا و غير ذلك من أنواع الرهز الوافدة و المستنبتة التي استعاذ منها حارس اللسان العربي في بلاد السودان.
و واضح من كلام عبدالله الطيب أن الرجل لا يجمل الذ كر بين تصانيف الرقص، ذلك أن " أولاد العرب " بين أهله "المجاذيب"، و غيرهم ،إنما يرقصون لحد الصرع على إيقاع النوبة في حلقات الذكر، و كل ما في الأمر أنهم لا يسمّون ذلك رقصا. و " أولاد العرب " من الأفندية المتفرنجين هم قوم لا يرقصون و لا يتركون الأخرين يرقصون. و هم قد طوّروا ، و بعفوية كبيرة ،نوعا من موقف دفاعي ضد الرقص. و هو في حقيقته يعبر عن موقف اجتماعي و أيديولوجي ضد التعبير الجسدي كظاهرة بيولوجية و رمزية.موقف عماده عدم الثقة و التحسّب و التوجس من امكانات الجسد و مخاطر التعبير الجسدي.والتوجس السوداني من تعبير الجسد يستلهم أمشاجا من قيم الثقافة الجسدية التي استقدمها الأتراك العثمانيون في حواضر السودان الأولى ضمن المتاع العقابي لفقه الجسد في الشريعة، جنبا لجنب مع قيم الاحتراز البيوريتاني لنصرانية العهد الفيكتوري، التي استقدمها الانجليز ضمن استقرار مؤسسات الهيمنة الاستعمارية كمؤسسات التعليم و العسكرة الخ.و العلاقة بين مناهج التعليم في المدارس الأولى التي أسسها الانجليز و تقليد التدريب العسكري الحديث تستحق وقفة متأنية على صعيد المنظور السياسي لتعليم الجسد في السودان.
و بين مطرقة التقليد الفقهي و سندان التحديث البريطاني ـ طوال النصف الأول من القرن العشرين ـ تضعضعت صورة الجسد في خاطر المتعلمين من أبناء ( و بنات؟) الطبقة الوسطى العربسلامية و تبدّلت الأساليب التعبيرية للجسد و تأسست القطيعه مع ثقافة الجسد التي عرفها أسلافهم ممن خبروا الوعي قبل الرأسمالي بصورة الجسد.
و ضمن السياق الحضري لثقافة رأس المال الوليدة في السودان، أعاد العربسلاميون تعريف صورة الجسد على خلفية الفرز الطبقي الذي طبع تكوّن مجتمع الحواضر.و عبد الله الطيب حين يستعيذ بالله من ظواهر اجتماعية تنتمي للثقافة الحضرية الجديدة كـأصناف " الرهز" التي" جعلت تدب بين طبقات في البنادر" فهو يعبّر ببراءة عن موقف طبقي يتمازج فيه مرجع العرق بمرجع الدين، موقف استعلائي تجاه الـ" طبقات" الوليدة في البنادر المتخلّقة بين سلالات المسترقين و أعراق الوافدين لحواضر السودان من الأنحاء المستبعدة عن العروبة و الإسلام.
و بصرف النظر عن مدلوله الرمزي الديني أو الدنيوي، يمكن القول بأن الرقص يتطوّر بين أهل الحواضر السودانية (و بين غيرهم) عموما على أساس جملة من التقنيات الجسدية التقليدية و الحديثة و على غاية المتعة الجمالية الحسية، و هي متعة مركبة ،طرفها الذهني عند المشاهد الذي يفك شفرة الحركة الجمالية للراقص و طرفها الحسي عند الراقص الذي يخلق من تعاقب التراكيب الحركية و الإيماءات خطابا جسديا يتحقق على أبعاد المكان بين الأفقي و الرأسي و العمقي، و على أبعاد الزمان بين ما كان و ما هو كائن و ما سيكون.
و ضمن السياق التقليدي للرقص تنطرح المسافة بين المشاهد و الراقص كمسافة متحولة تملك أن تختفي في أي لحظة يعن للمشاهد فيها مغادرة موقف المشاهد ليندمج في مجموعة الراقصين، بينما تنطرح المسافة بين الراقص و المشاهد ضمن الرقص الحديث كمساحة مؤسسة في طبيعة الرقص الحديث المبذول غالبا كممارسة احترافية ، تعريف الأدوار فيها مضمر في عمارة مكان الرقص نفسه، و هي عمارة ترسم للمشاهدين مكانهم في جهة الصالة مثلما ترسم للراقصين مكانهم في جهة الخشبة.
و هكذا فـإن "أولاد العرب" من رهط عبدالله الطيب ، الذين رفضوا دعوة مضيفهم البريطاني للرقص، إنما يندرجون في جهة" الفرّاجة" من ساكني الصالة الذين يستغنون عن فعل الرقص بمتعة المشاهدة المتعالية (نظريا) و يمسخون تقليد الرقص الى نوع من فرض كفاية يقوم به المحترفون ـ و قيل"أهل القريات " ـ و من لف لفهم من أهل الطبقات التي بدأت تدب في البنادر، و هذي لعمري غربة في الغربة.
بيد أن الرقص يبقى أقوى من اعتبارات ثقافة رأس المال كونه يعبر عن حاجة داخلية حيوية /حيوانية تبريرها الرمزي يقوم على درجة عالية من التركيب الثقافي والاجتماعي .و في مقابل نموذج عبدالله الطيب الذي يكافح و يقمع نزوع الجسد الطبيعي للحركة الراقصة نجد بين "أولاد العرب" نموذج الراقص المتصالح مع نزوع الجسد للتعبير الحركي كما في تعليق "الصاوي" ضمن مداخلة قرأتها مرة في " المنبر الحر" في موقع سودانيزأونلاين، في خيط ابتدرته إيمان أحمد بعنوان:" عن الرقص و موسيقانا الداخلية"،4 يونيو 2004 .يقول الصاوي:
" ذكرني هذا البوست بوالدي رحمه الله، و كان عندما يسمع حسن عطية، عليه رحمة الله ـ فنانه المفضّل ـ يجلس للوراء و يغمض عينيه و يحرّك يده اليمنى للأمام ثم للخلف في حركة متناسبة مع حركة رأسه، و عادة ما تفلت دمعة من عينيه من فرط الطرب. و كنت أمازحه قائلا:
ـ يا أبوي إنت ما تقوم ترقص عديل.
و كان يرد:
ـ و منو القال ليك أنا هسّه ما قاعد أرقص؟
حقا كان يرقص بطريقة تخصّه وحده.."


و مشهد بنات الشّـُلُـك

(من رسالة بتاريخ 16ـ10ـ97 لمحمدأحمد محمود/ نشرت في"جهنم" رقم 4 أكتوبر 1997)
"..
وصلتني رسالتك و أنا أحضر ماكيت جهنم رقم 4 ، الذي يحتوي على تعليق بولا على محاضرة أحمد الطيب زين العابدين التي قدمها ضمن منتدى الفنون الافريقية بجامعة لندن أيام تظاهرة " آفريكا 95"، و أثارت عبارتك " الثقافة الديموقراطية " في خاطري أكثر من شجن و قلّبتها على أكثر من احتمال و عارضت ثقافة الديموقراطية بديموقراطية الثقافة، ثم قابلت بين الثقافة و الديموقراطية، و تساءلت :لأي حد ترضى الأولى بالثانية و العكس ؟و أدخلني كل ذلك في حيص بيص كما تقول العبارة الغامضة( و ما الحيص و ما البيص؟)..المهم يا زول ، سأعود للمسألة برواقة في وقت لاحق آخر.و كنت أنوي التقديم لحديث بولا في صدد " إستمرارية الثقافة في السودان" بصورة فوتوغرافية طريفة عثرت عليها صدفة ، في مجلة" قنطرة" التي يصدرها معهد العالم العربي بباريس. و الصورة تمثل مجموعة من راقصي فرقة الفنون الشعبية يؤدون رقصة من رقصات قبيلة الشلك . و قد نشرت الصورة ضمن ملف خاص بالسودان ، على شرف المعرض الآثاري بمعهد العالم العربي و التظاهرة الثقافية التي صاحبته، و التي شاركت فيها فرقة الفنون الشعبية السودانية في فبراير 1997 . و لو نظرت في هذه الصورة العجيبة لتساءلت :" من أين جاء هؤلاء الشـُّلُك ؟"، كونهم لا يشبهون الشلك الذين عهدناهم لا من قريب و لا من بعيد ( و أنت تعرف أن مؤسساتنا الثقافية الحديثة غنية بالكثير من الوثائق المكتوبة و المسموعة و المصوّرة في صدد تفاصيل حياة الشلك، و بالذات منذ أن شارك جعفر نميري في السبعينات في مراسيم تتويج رث الشلك).
المهم يا زول ، نظرت في الصورة التي تمثل أربعة فتيات من راقصات فرقة الفنون الشعبية، على رؤوسهن إيشارب يغطي الشعر و قد لبسن نوعا من فستان مشجّر واسع و طويل من الرقبة لغاية منتصف الساق و أكمامه طويلة لغاية المعصم. و كأنما الفستان الطويل لم يقنع القائمين على أمر الفرقة فدعموه بـنوع من " قرباب" يغطي ما بين نهاية الفستان و العرقوب، و ذلك قبل الوصول للنعل "الفاشري" اللامع.أغلب الظن أن من صمّم هذا الزي الجديد لبنات شلك الفرقة القومية للفنون الشعبية لم يقتنع بجهود جعفر نميري لدعم أسباب الحشمة على أجساد راقصات فرقة الفنون الشعبية في السبعينات.و إن لم تكن قد سمعت بحكاية جعفر نميري ، فهي باختصار، أن الرجل كان قد دعا شيخ الأمارات للتعرّف على فنوننا الشعبية من خلال عرض فرقة الفنون.و قالوا أن الرئيس و ضيف البلاد استقرا في الصف الأول ليستمتعا بالعرض الراقص. و مر كل شيء بسلام إلى أن علت الخشبة مجموعة من راقصات الزاندي ليؤدّين رقصتهن و هن يرتدين "رحاطة" تقليدية فوق نوع من : جيبة" قصيرة فرضها مصمم الفرقة بغاية إنقاذ ما يمكن إنقاذه.و يبدو أن الرئيس نميري قد فوجيء بالمشهد من حيث يجلس. و بدلا من أن " يدخل في أضافرينه" و يلزم مكانه، كما هي العادة لدى الأفندية الحسّاسين ،قام الرئيس حانقا و شيخ العرب وراءه و صفق الباب خارجا.كان في وسع النميري قفل الفرقة و تسريح راقصاتها بجرة قلم.سيّما و أن الفرقة كانت تابعة للقوات المسلحة في حينها.لكن هذا النميري كان "نميري منتصف السبعينات" قبل أن تدركه اللوثة الاسلامجية. و الحق هو أن الرجل كان تحت تأثير اللوثة التعددية.أيام كانت التعددية تشكل ضمانة للوحدة الوطنية التي لا تستغني عنها أي خطة للتنمية الاقتصادية.
المهم يا زول ،قالوا أن النميري إكتفى بأن أشار بزيادة الاحتشام في أزياء راقصات الفرقة.و قالوا أن ناس الفرقة بادروا بتعديل زي بنات الزاندي في الرقصة المعنية و ألبسوهن بنطلونات تحت الرحاطة.
و اليوم يبدو أن الدولة الاسلامية، بعد كل نفختها، ما زالت تحتاج لرقيص بنات الشلك و بنات غير الشلك من شعوب السودان الراقصة.
خطر لي أن هذه الصورة العجيبة إنما تمثّل الشلك كما يريدهم القائمون على أمور الدولة في السودان اليوم.شلك قابلون للإندغام في الرؤية العربسلامية للمجتمع السوداني، و يا حبّذا شلك متأسلمون، على الأقل في الظاهر ـ و الشريعة عليها بالظاهر كما تقول العبارة ـ و ذلك حتى ترضى عنهم الدولة العربسلامية التي يعرف أفنديتها أن المقاومة الوحيدة لمشروعهم السياسي الاجتماعي إنما تأتي من واقع التعدد الثقافي و العرقي في السودان.هؤلاء الشلك ، في نسختهم الإسلامية يتحولون الى نوع من مثال دعائي ينصر فكرة التعدد الثقافي" في إطار وحدة العقيدة الإسلامية " أو كما قال.
يبدو أن دولة الأفندية المتأسلمين تحتاج لراقصات فرقة الفنون الشعبية، بالذات في هذا المحفل الغربي المهم،حتى يتسنّى لها تقعيد إدّعاءاتها الثقافية ضد الانتقادات الكثيرة التي تواجهها في منطقة الثقافة. و قد سمعنا أن وزير الثقافة "أبو سيخة "، كان ينوي الحضور بنفسه لمرافقة التظاهرة الفنية السودانية في باريس ، لولا إحجام السلطات الفرنسية عن منحه تأشيرة دخول للأراضي الفرنسية.هذا الرجل، الذي كان يحمل سيخته في الستينات ضد فنون الشعوب السودانية، إكتشف للفنون الشعبية السودانية دورا في المشروع الجهادي لدولة الأفندية المتأسلمين حتى صار يطلب السفر لمرافقة البنات و الأولاد من أهل الرقص و اللهو و ما شابهها من ضروب الفنون المشهدية لغاية باريس، فسبحان مغير الأحوال من حال إلى حال.فقد عشنا و شفنا بنات الشلك يرقصن بالزي الإسلامي الشرعي و في باريس كمان. و إذا أصله الحكاية جابت ليها رقيص اسلامي فأولى ببنات الناس أن يقرن في بيوتهن و يرقصن لبعولتهن، و لا شنو؟
حسن موسى
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

.

صورة

.
أضف رد جديد