الهوية؟ ( الهوية في السودان بين الواقع والافتراض)

Forum Démocratique
- Democratic Forum
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

الهوية؟ ( الهوية في السودان بين الواقع والافتراض)

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »


الهوية The Identity

سأتحدث هنا عن "الهوية" في إطلاقها لكن بتركيز شبه كلي على حالتنا "الظاهرة السودانية"!. سأحاول تنزيل "المشكلة" محل النظر إلى الأفهام بحسب فكرتي الخاصة غير أنه في خضمه ربما أجيء بآراء أخرى كتابية وشفهية ومواقف عملية جرت في الماضي والحاضر وأمثلة من الحياة اليومية المعاشة وسأحاول تفسيرها وتحليلها ونقدها وصب ما عن لي من زبدتها في خدمة "الإنارة" التي أطمح إليها. وسأسعي بما بوسعي أن يبقى حديثي عمليآ كل ما أمكن لا فلسفيآ ولا نظريآ عله يكون ملامسآ للواقع والوقائع بما يضفي عليها حزمة ولو ضئيلة من الضوء ستبقى مفيدة أو هكذا يكون ظني. وذاك منتهى الطموح!.

وخطتي الإجرائية لبوستي الجديد هذا، هي الإستفادة من وجهات نظري الأولية حول موضوعة الهوية المبعثرة في أماكن مختلفة من بوستي الآخر "الإنسان والمجتمع والدولة في السودان - نحو أفق جديد" كما أنني سأنقل مساهمتي الصغيرة التي أنشأتها في بوست الصديق محمد عبد الخالق إلى هذا المكان بتصرف بعد أن سقت مبرراتي "هناك" فيما يتعلق بهذه الجزئية. وكله أملآ في إشراك البعض منكم والقراء في تصوري الخاص لما يسمى بالهوية كما طامعآ في إثراء تجربتي الصغيرة بآراء ومفاهيم وموازين جديدة للأمور.

وشكرآ مقدمآ لمساهماتكم المحتملة، أشعر بأنها ستبقى مفيدة لي أيآ كان حجمها ونوعها. وشكرآ لصبركم وتفهمكم.

تحياتي،
محمد جمال الدين
آخر تعديل بواسطة محمد جمال الدين في الأحد أغسطس 08, 2010 2:23 am، تم التعديل مرة واحدة.
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

سأنقل بعض مساهماتي الصغيرة حول إطروحة "الهوية" إلى هنا كما أتفق دون دقة في الترتيب أو التراتب ومن بعدها نشوف مع بعض كيف تسير الأمور!.
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

مقدمة:
عندي إعتقاد أن هناك ثلاثة مستويات للهوية. هوية قيمية وهوية رؤيوية وهوية زمكانية. والهوية الزمكانية هي الهوية الكلية "الشاملة". كيف؟.
إذا رأى أحدكم أن في حديثي ما يستحق العنت ومشقة السؤال فإني أحيله إلى الخلاصات التي توصلت إليها في بوستي المذكور أعلاه "موجود بهذا المنبر ص 7 من البوست" في مسعاي الصغير لتعريف جديد شامل جامع مانع للمجتمع المدني وجدليته مع الدولة. كوني أزعم أننا إن لم نتعرف على طبيعة المجتمع المدني السوداني لن نستطيع أن نجيب على سؤال الهوية!.

لا يوجد شيء إسمه الدولة يقوم بمعزل عن المجتمع المدني والعكس صحيح. هناك ثلاثة مستويات تعيش في جدل مستمر أي تشكل بعضها البعض: القيم الإجتماعية (تشمل الدين والثقافة) والرؤى الشتيتة للعيش المشترك "الآيدولوجيات" والرؤية الموحدة للعيش المشترك وهي الدولة.
المجتمع المدني يتشكل على الدوام من بنيتين: بنية تحتية "قيمية" وبنية فوقية "رؤيوية". البنية التحتية تشكل البنية الفوقية والبنية الفوقية تشكل الدولة. مرة ثانية الدولة تشكل البنية الفوقية والبنية الفوقية تشكل البنية التحتية وذاك ما أعنيه على الدوام بجدلية المدني والرسمي "المجتمع المدني والدولة". إنها دائرة تدور في محيطها.

مع علاقة هذا بالهوية؟.

ليست علاقة فقط بل تلك عندي هي الهوية ذاتها!. حكايتي دي دايرة شرح كتير. أنا جاهز. بس عاوز شوية صبر!.

هناك ثلاث إشراقات يمكن أن يعبرها الناس في الواقع وعلينا الوعي بها موضوعيآ، وهي: حالة الإنتماء للبنية المدنية الأصيلة المفردة، حالة الإنتماء للبنية المدنية الفوقية المفردة وحالة الإنتماء للدولة = إتحاد البنيات المدنية مجتمعة في "زمكان" محدد. وهي بدورها تعتمل ثلاث حالات للهوية أو تمثل ثلاث مستويات للهوية، في الأولي هوية قيمية من قبيل "أنا جعلي أو دينكاوي أي أنا فارس أو أنا تجاني أي أنا زاهد/نزيه أو أنا عضوء الجمعية السودانية لحماية البيئة أي أنا إنساني/مستنير" وهي هوية غالبآ ما تكون بالإصالة وفي الثانية هوية موضوعية من قبيل " أنا شيوعي أو إتحادي ديمقراطي أي أنا أملك رؤية ذاتية للعيش المشترك" وهي هوية غالبآ ما تكون بالإكتساب وفي الثالثة هوية "زمكانية" أي وطنية من قبيل "أنا سوداني أي أنا أنتمي إلى رؤية موحدة للعيش المشترك" " وهي هوية تاريخية غالبآ ما تكون أصيلة ومكتسبة في نفس الأوان.!. ويمكن للفرد أن يشعر بشكل تلقائي أو يحدد لنفسه بشكل واعي قدر لا حد له من الهويات "الولاءات" الذاتية في مقابل الهوية الكلية "الدولة" أي الوطن والتي قد تتأتي "أي الوطنية" تامة أو ناقصة أو منعدمة بحسب الفاعلية الموجبة أو السالبة للدولة على هوية/هويات الفرد الذاتية = إنتماءات الفرد لبنيات مدنية مختلفة في مقابل إنتماء تام أو ناقص أو منعدم للدولة "الوطن" = إتحاد البنيات المدنية المختلفة في "زمكان" محدد هو السودان هذه المرة.
إذن عندما أقول "مثلآ" أنا جعلي تلك هوية قيمية وعندما أقول أنا شيوعي تلك هوية رؤيوية وعندما أقول أنا سوداني تلك هوية زمكانية. وتلك عندي جميع المستويات الممكنة للهوية في حدود ما يسمى ب "الوطن". والمستويان الأولان يشكلان المستوى الآخير وهو المستوى الشامل "الزمكان" أي الرؤية الموحدة "الكلية" للعيش المشترك "الوطنية". وعلية تكون الهوية عملية دينامية لا حدود لسيرورتها ولا صيرورتها.

وعندي ظن أنني لن أكون مفهمومآ بقدر ما أتمنى ما لم يقرأني المهتمون من وجهة نظري المعرفة للمجتمع المدني بوصفه الكل المركب في مقابل الدولة. أي أنه "دوز" كامل
One has to take it or leave it
والإجابة على سؤال الهوية متضمنة في هذا ال "دوز". إذ أن لدى محاولتي تلك عملت بقدر ما أمكنني على تعريف المجتمع المدني السوداني والدولة وجدليتهما "نظريآ وعمليآ" وفق معطيات الواقع السوداني.

وعليه أتمنى أن يقرأني البعض في بوست "المجتمع المدني والدولة" ولأن البوست طويل أستطيع أن أوصي في هذه العجالة بقراءة الصفحة السابعة، هنا:
https://sudan-forall.org/forum/viewtopic ... 427732cc1b

ودي،
محمد جمال الدين
آخر تعديل بواسطة محمد جمال الدين في الأحد أغسطس 08, 2010 3:12 pm، تم التعديل مرة واحدة.
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

ملاحظة ما:
سأعمل من جانبي وحسب فهمي طبعآ على عدم الخلط بين "الهوية" من حيث هي جوهر و معنى و إصطلاح و "صراع الهوية" من حيث كونه حراك إجتماعي يعتمل العدل كما الظلم.
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

تواصلآ مع الملاحظة أعلاه:

فعلى سبيل المثال فأن حبوبتي آمنة بت حماد "رحلت في منتصف التسعينات" وعاشت حوالي 90 عامآ في السودان "جبل أولياء" لم تكن تدري أنها سودانية بل كانت تتأفف من وصف أحدهم لها بكونها سودانية. إن أبغض شيء عندها في الدنيا ربما كان وصف أحدهم لها بأنها سودانية والعياذ بالله!. كانت تعتبر نفسها جعلية وبس وكلمة سودانية دي بقولوها للعبيد "مقطوعين الطاري" مش بنات أولاد القبائل الزيها. تلك هوية حبوبتي. هوية قيمية لا تقبل النقاش كما لا تقبل القسمة على إتنين.
حبوبتي بإنكفائها على هويتها العرقية "القبلية" لم تتطلع أبدآ للعيش مع الآخرين وذاك ربما تضمن حالة عدم الإعتراف بهم كبشر وفق إتفاقية جنيفا لحقوق الإنسان. لم تكن لديها أي رؤية للعيش المشترك، المستوى الثاني المحتمل لهوية ما معدوم (لم تكن حزب أمة ولا إتحادي ولا جبهة إسلامية ولا شيوعية، ولا شيء) لا ترى حوجة لرؤية سياسية كونها تعيش في أمن وطمأنينة أو كما في ظنها داخل جماعتها المدنية الجعلية ولا تعترف بشيء إسمه الوطن. وكم هو من البدهيات إن كنت لا تعترف بشئ إسمه الوطن كما نعرفه اليوم فلا حوجة لرؤية سياسية.
لذاك ربما كان لدى جدتي هوية واحدة لا غير "الجعلية" عندها قيم وشعر وغناء وحجاوي وسيف وسوط عنج وغنم وخراف وسمن وروب وعصيدة وذاكرة جدود أشاوس أسطعهم المكين نمر ومساعد. تلك هي جدتي. تلك هي هوية جدتي التي وجدت عليها آباءها وتمسكت بها إلى الممات. تلك هي الهوية في الحقيقة من حيث الجوهر. أما صراع الهوية فهو شأن آخر!.
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

الشعور بالهوية!!!

قلنا أن هناك ثلاثة مستويات للهوية. هذه المستويات الثلاثة ليست بسيطة أو مسطحة وإنما كل منها ينعم بتعقيد كبير في النوع وفي المقدار كما أنها في جدل دائب مع بعضها البعض وفي موار لا يهدأ له بال. وهن:

1- الهوية القيمية... الهوية القيمية هي قاعدة الهويات وأسها، تليها
2- الهوية الرؤيوية (تتشكل على أساس الهوية الأولى) وتنتهي ب
3- الهوية الزمكانية (تتشكل على قاعدة الهوية الثانية) وتمثل خلاصة الهويات.

بالإحالة إلى خلاصة قراءتي لجدلية المجتمع المدني والدولة المثبتة في البوست المذكور أعلاه لدى مداخلتي السابقة ص 7 من البوست المعني بتاريخ 28 نوفمبر 2009 قد نجد التصور التالي للهويات الثلاثة:

1- الهوية القيمية
تستند الهوية القيمية على ثلاثة منظومات قيمية رئيسية تقوم فوق كل منها تمظهرات إجتماعية بعينها غالبآ ما تكون مكان ولاء صارم للفرد كالقبيلة والطائفة الصوفية والنقابة العمالية. وتلك هي أمثلة حية للبنيات التحتية للمجتمع المدني. ولكل تمظهر مدني أصيل "تحتي" هدف محدد يقوم على أساسه . هذا الهدف على الدوام، هو: (البقاء أو/و المعاش أو/و الأمن أو/و الرفاهية) وفي سبيل هذا الهدف تتشكل القيم الإجتماعية في ثلاثة منظومات رئيسية في السودان (بحسب ملاحظتي الذاتية) تقف هذه المنظومات القيمية خلف مجمل تمظهرات المجتمع المدني الأصيلة "التحتية" في السودان. وتمثل سببآ جوهريآ في تنوع تمظهرات المجتمع المدني وتمايزها عن بعضها البعض، وهي:
1- منظومة قيم الجسدانية "الفروسية" 2- منظومة قيم الروحانية "الغيب" و 3- منظومة قيم العقلانية "الموضوعية". (مع الوضع في الحسبان إختلاط وتشابك القيم).

1- تقف منظومة قيم الجسدانية "الفروسية" خلف جل التمظهرات المدنية الإثنية "العرقية" وأهمها القبيلة والعشيرة. و"الجسدانية" تكون في إعمال طاقة الجسد في سبيل سيطرتها على العقل والروح في مواجهة الطبيعة والآخر. والهدف هو: (بقاء ومعاش وأمن ورفاهية الجماعة). وكل له حيلته. وأهم قيم "الجسدانية" هي: الرجولة والشجاعة والأمانة والكرامة والشرف والمروءة والشهامة والكرم. وهي قيم "نحن". وجسدها تمظهر هيكلي أس عضويته من الفرسان "أولى القربى = وشائج الدم".
ورمز مكانها المادي هو "السرج" ورمز فعلها هو "السيف". وأسمى معانيها "التضحية" وأسوأ مثالبها "الإنحيازية العمياء".

2- تقف منظومة قيم الروحانية "الغيب" خلف جل التمظهرات المدنية الدينية "بالمعنى الواسع للكلمة" وأهمها الطريقة الصوفية والطائفة والمسيد والمسجد والكنيسة والكجورية. و"الروحانية" تكون في إعمال طاقة الروح في سبيل سيطرتها على الجسد والعقل في مواجهة الطبيعة والآخر. والهدف دائمآ واحد: (بقاء ومعاش وأمن ورفاهية الجماعة). وكل له حيلته. ومن أهم قيم الروحانية: الزهد والتواضع والإيمان والإتكال على قوة ما ورائية. وهي بدورها قيم "نحن". وجسدها تمظهر هيكلي أس عضويته من المؤمنين ب"الغيب" = "عالم ما وراء الطبيعة المادية". ورمز مكانها المادي هو "السجادة" بمعناها الصوفي ورمز فعلها هو "الفزعة" بالمعنى الغيبي للكلمة. وأسمى معانيها "النزاهة" وأسوأ مثالبها "العبثية" كما "الإتكالية المفرطة".

3- تقف منظومة قيم العقلانية "الموضوعية" خلف جل التمظهرات المدنية "المدينية" ومثالها النقابة والمصنع. و"العقلانية" تكون في إعمال طاقة العقل في سبيل سيطرتها على الروح والجسد في مواجهة الطبيعة والآخر. والهدف دائمآ واحد: (بقاء ومعاش وأمن ورفاهية الجماعة). وكل له حيلته . ومن ضمن قيم "العقلانية": الإستنارة والتجربة والإنسانية والنظافة والنظام والإدخار. وهي قيم "أنا". وجسدها تمظهر هيكلي أس عضويته من الأفندية "الوطنيين" والمثقفين والمتعلمين بالمعنى الحديث للكلمة. ورمز مكانها المادي هو "المكتب" ورمز فعلها هو "القلم". وأسمى معانيها " الموضوعية" وأسوأ مثالبها "الإستغلالية" كما "الأنانية".

"القيمة" شنو؟:
"القيمة" تقوم من جسد الجماعة بمثابة الشفرة الجينية DNA من جسد الفرد. هي محور إالتقاء "تلاحم" الجماعة وإعادة إنتاجها "نسخها" كل مرة مع جعلها متمايزة عن الجماعات الأخرى ك"وحدة إجتماعية واحدة ذات خصائص متفردة". كما أن "القيم" هي القوة الخفية الدافعة الى الفعل الموجب في سبيل تحقيق الهدف الكلي والنهائي للجماعة وهو على الدوام (البقاء والمعاش والأمن والرفاهية). وبهذا المعني تمثل القيمة أيضآ معيار الجماعة للتفريق بين ما هو خير وما هو شر بالإحالة الى نجاعة الفعل من عدمه في نزوعه الى تحقيق "الهدف".

هل عند هذا الحد تنتهي الهوية أي تتوقف؟.
الإجابة بنعم صحيحة ... غير أن الإجابة بلا تكون هي الأصح!.
لماذا؟. قد يكتفي أحدهم بالشعور بكونه جعلى وبس "مثل ما فعلت جدتي آمنة بت حماد وعاشت في القرن العشرين" وقد يكتفي أحدهم بأنه قادري وبس مثل ما كان جدي "الفقيه فضل الله وعاش في القرن الثامن عشر" وقد يكتفي أحدهم بأنه حداد وبس ينتمي إلى جماعة الصنايعية على سبيل المثال. غير أن دروب الهوية لا تنتهي في العادة عند هذا الحد بحكم الضرورة. هناك معضلة عظيمة تجابه الإنسان وهي مشكلة "الآخر" مشكلة تجابهها البشرية منذ أن إختار الإنسان العيش في تجمعات بشرية كبيرة. إذ أن الجعلي سيجد نفسه في لحظة ما على إحتكاك مادي بالشايقي والدنقلاوي من ناحية الشمال وبالفونجي من ناحية الجنوب. عندها هناك أمر ما لا بد أن يحدث!. نستطيع أن نضعه في صيغة سؤال هو سؤال العيش المشترك؟. عند هذا السؤال يتشكل وعي جديد. تتشكل بالضرورة بذرة رؤية لكيفية العيش المشترك فوق قطعة جغرافية من الأرض "هي أرض الفونج والجعليين" على سبيل المثال. وعلى أساس هذا الوعي الجديد تتشكل هوية جديدة لا تجب الأولى بل تقوم فوقها وتستند عليها كلية. إنها الرؤية الذاتية للعيش المشترك. تستطيع أن تسميها مذهب يعتنقه الأفراد أو رؤية أو آيدولوجيا وهي في زماننا هذا تأخذ صيغتها العملية في شكل الأحزاب السياسية. ذاك هو المستوى الثاني للهوية (إتحادي، أمة، بعثي، وماركسي). هي الرؤية الذاتية للعيش المشترك وتبقى في نزوع مستمر الى أن تتحول إلى نظام صارم عبر كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة عبر التراضي "الوفاق" أو العسف المادي حتى تتحول في نهاية المطاف إلى دولة فأكون أنا جعلي عبدلابي وذاك سناري فونجي ننتمى إلى رؤية موحدة للعيش المشترك عبر التوفيق بين رؤآنا الذاتية ودون المساس بهويتنا العرقية تحت مسمى "السلطنة الزرقاء" أو كما كان يسميها أهلها. وذاك هو المستوى الثالث والأخير للهوية "هوية زمكانية" . وإلتماسي لمملكة سنار كمثال لا يجب أن يربك محتوى الفكرة المجردة لكونها في تقديري صالحة لجميع اللحظات التاريخية في السودان.

تلك محاولة مني أولى لمقاربة سؤال الشعور بالهوية كما تشكلها في حيز الوجود ودون أن أتحدث عن صراع الهوية. وعندما أتطرق إلى صراع الهوية سنجد أن الهوية الواحدة "المفردة" تبقى في توتر مستمر ونزاع مستمر في ذات كتلتها ومع هويات الآخرين. فلقيم قد تحارب بعضها البعض والرؤى الذاتية للعيش المشترك تفتك ببعضها البعض في سبيل تحولها إلى رؤية موحدة للعيش المشترك "دولة" ولا ينتهى الأمر بتشكل الدولة ففي كل مرة تبدأ دورة جديدة. وقيم تموت وأخرى تحيا ورؤى تموت وجديدة تنبعث من العدم وتنهتك الرؤية الموحدة للعيش المشترك مرات ومرات فتكون مروي ثم المقرة وتخرب سوبا وتنهض سنار وهلمجرا.

يتواصل...

محمد جمال الدين
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

2- الهوية الرؤيوية

قلنا أن الهوية تتشكل في ثلاثة مستويات أو قل تقوم في ثلاثة مستويات على الدوام وهن: المستوي القيمي والمستوى الرؤيوي والمستوى الزمكاني. وسبق أن تحدثنا عن المستوى الأول فتبقى لنا المستويين الأخيرين. وأبدا هنا من جديد بالمستوى الثاني وهو طبعآ "الهوية الرؤيوية".
من أحد معاني الرؤية هو "الفكرة". وهو ما يعنيني من معاني الكلمة. والفكرة المعنية هنا عملية جدآ نجدها في سؤال العيش "المشترك؟" كما أسلفنا الحديث. والعيش المشترك أمر جلل!. يبدو أن الناس لا تستطيع أن تتعايش فوق رقعة جغرافية واحدة يتضاجعون، يتناسلون، يتبادلون المنافع وينظمون شئون حياتهم الكثيرة ويكتبون الشعر دون فكرة ما محددة يتواطئون عليها "رؤية كلية للعيش المشترك" = دولة. من أين تأتي هذه الرؤية الكلية؟. تأتي بحكم الضرورة. يشارك في تأسيسها قدر كبير من الجماعات وفق رؤاهم الذاتية لكيفية العيش المشترك ومن المحتمل أن تنتصر جماعة واحدة لرؤيتها الذاتية وتفرض شروطها بالكامل على مجمل الجماعات الأخرى عبر العسف المادي وحده كما حدث في المملكة العربية السعودية عام 1934 ومصر عام 1952 وهو ذاته الأمر الذي حدث في تونس والجزائر وليبيا وسوريا وإستمر حتى الآن ويحدث في السودان منذ العام 1989. إذ أن الجبهة الإسلامية في السودان إنتصرت لرؤيتها الذاتية للعيش المشترك عبر العسف المادي وحده وصيرتها رؤية كلية للعيش المشترك قهرآ ودون إعارة أي إنتباه للرؤى "الذاتية" الأخرى العديدة التي بدورها لها وجهات نظر مختلفة لكيفية العيش المشترك فوق الرقعة الجغرافية المسماة سودان "مليون ميل مربع". ماذا جرى وماذا يجرى الآن بعد ما فعلت الجبهة الإسلامية فعلتها لهو أمر ساطع الوضوح.

كيف تتشكل الرؤية؟.
تتجلى من ضرورة العيش المشترك وتنبني بالضرورة على خلفية منظومة قيمية "هوية قيمية" وتبقى في نزوع مستمر إلى أن تصبح رؤية الجميع أي رؤية كلية للعيش المشترك أي دولة. وبطريقة عجلى كل هوية رؤيوية تبقى في مسعى دؤوب كي تصبح هوية كلية "زمكانية".
والرؤية المعنية قد يسميها الناس أسماء مختلفة وانا لا أتحرج بل ارى أن من أدق أسمائها المحتملة تكون: آيدولوجيا!. وهذا هو فهمي للرؤية الذاتية للعيش المشترك "الآيدولوجيا" كما قلت به من قبل في بوست "الدولة والمجتمع المدني". وأبدا هنا بالإجابة على سؤال ماهية الآيدولوجيا ثم أقدم سردآ مقتضبآ لكيفية تشكل الآيدولوجيا "رؤية ذاتية للعيش المشترك صادرة من جماعة ما، من كانت".


الرؤية الذاتية للعيش المشترك = الآيدولوجيا؟:

يجوز أن نقول أن الآيدولوجيا هي مجموعة الأنساق الفكرية التي تحدد رؤية مجموعة من الناس للواقع. تمام. هذا من الناحية النظرية. انها نسق فكري "مثالي" في مقابل الواقع "المادي". أليس كذلك؟. ويبدو أن هذا " النسق الفكرى" هو المتحول في المعادلة في مقابل الثابت وهو النسق المقيم "المادي" = الواقع. الواقع المادي = الإنسان كعظم ولحم والطبيعة بمعناها العريض. ولهذا تختلف الآيدولوجيات والواقع واحد على الدوام. كل ذلك من الناحية التجريدية. والكلام يمكن أن يذهب بلا حدود. لكن كيف تفعل الآيدولوجيا فعلها في أرض الواقع؟. هنا نستطيع أن نلتقي في المحك. من المؤكد أن الآيدولوجيا ليست شيئآ إعتباطيآ وإنما في الغالب هي مخلوق في مقابل هدف ملموس. هذا الهدف عندي يتمحور حول "العيش المشترك". لدرجة ان منظومة "آيدولوجية" واضحة المعالم مثل الماركسية يكون بشكل مستمر مرادفها "الشيوعية" أو الشيوعية العلمية بما يعنيه الإسم من دلالات تتمحور بدورها حول "العيش المشترك".
أعتقد أننا يسهل أن نتفق مبدءآ في أن الآيدولوجيا هدفها يكون في محاولة الإحاطة "الموضوعية" بالواقع.
وبعد دا؟. يعني بعد ما نفهم الواقع كيف يتنزل فهمنا على الأرض؟. فالآيدولوجيا ما هي إلا نتيجة نشاط ذهني "تراكمي" يقود إلى مسلمات نظرية تتحدث عن أفضل السبل لمعالجة مشاكل الإنسان في إطار حيزه الزماني والمكاني. أي بقاءه ومعاشه وأمنه ورفاهيته في مقابل الطبيعة والآخر.

وعليه تكون عندي الآيدولوجيا هي رؤية ذاتية للعيش المشترك (رؤية جماعة مدنية محددة) في مقابل الرؤية الكلية للعيش المشترك (الدولة). أي رؤية ذاتية للعيش المشترك نازعة إلى أن تكون رؤية كلية للعيش المشترك. وقد تعتمل هذه الرؤية "الآيدولوجيا" معالجات شتيتة لسايكولجي الفرد لكنها في الاساس هي عملية ترويد الناس في خضم حراكهم الهيكلي واللا هيكلي على العيش المشترك في "زمكان" محدد. أي الربط الواعي للمجتمع المدني بالدولة. بحيث لا تكون الدولة بشئ في نهاية المطاف غير رؤية موحدة للعيش المشترك وفق رؤية " آيدولوجيا" واحدة منتصرة عسفآ أو سلمآ أو رؤى "آيدولوجيات" شتيتة متحدة عضويآ ومنتصرة سلمآ أو عسفآ. (طبعآ أنا هنا أتحدث عن فهمي الخاص للآيدولوجيا أو بالآحرى إستخدامي للمصطلح في قراءتي للدولة والمجتمع المدني).

وعليه يكون عندي أي رؤية في جدل مع الدولة هي آيدولوجيا حتى لو رآها البعض بدائية أو غير مكتملة "النسق الفكري". والحكم بالبدائية أو قصور النسق الفكري لآيدولوجيا محددة دائمآ ما يكون مجرد وجهة نظر ذاتية متعالية غالبآ ما تكون منطلقاتها بدورها آيدولوجية. فالمهدية آيدولوجيا والميرغنية آيدولوجيا والشيوعية آيدولوجيا واللبرالية آيدولوجيا و"العدل والمساواة" آيدولوجيا و"الدستور الإسلامي" آيدولوجيا والسودان الجديد آيدولوجيا و "كوش" آيدولوجيا و "الوطنية-الإتحادية" آيدولوجيا و "السودان لكل السودانيين" آيدولوجيا وهكذا الأمر.

وسبق ان قلت في مكان ما من هذا الخيط بإقتضاب ما أعنيه بآيدولوجيا، على هذا النحو:

(سأضرب بعض الأمثلة وسأستعين مبدءآ بمثال عارض لكنه في غاية الأهمية عندي لكارل ماركس في طريق محاولة مقاربة معنى "منظومة القيم" ومصطلح "آيدولوجيا".

حاول ماركس في مرة من المرات أن يقول للناس ما يعنيه بكلمة آيديولوجيا من خلال ضرب الأمثال. فقد استخدم تشبيه قلب الصورة في غرفة سوداء، وهي العملية الإبتدائية لفن التصوير. وعليه فإن الوظيفة الأساسية للآيديولوجيا هي: إستنساخ صورة معكوسة للواقع (إنتهى تشبيه ماركس).

ويجوز عندي مبدءآ أن يفهم المرء أن هدف إستنساخ تلك الصورة المعكوسة للواقع، هو: محاولة فهم الواقع نظريآ. ومن ثمة العمل على إستيعابه أو/و تطويعه أو/و ترويضه أو/و تحويره أو/و تزييفه في صحنه الموضوعي أو ميدانه المادي. غير أن ذاك الهدف "الأولي" ما هو إلا الجزء التقني أو الفني من الصورة.

فالهدف النهائي للآيدولوجيا بما هي آلية منتجة عمدآ بقصد إستيعاب أو/و تطويع أو/و ترويض أو/و تحوير أو/و تزييف الواقع، هو "أي الهدف النهائي" هو: إضفاء قدر أكبر من المشروعية لفعل مجموعة "منظمة" إجتماعية محددة في إطار المجتمع المدني الكلي وفي مقابل الدولة. وزيادة على ذلك محاولة إدماج الكل في الجزء بوسائل في الغالب ما تكون تعسفية.

وان صح هذا الإعتقاد، تكون الآيدولوجيا هي الخاصية الجوهرية للبنيات الإجتماعية المدنية الفوقية "الجماعات و الأحزاب السياسية" لا البنيات المدنية الأصيلة "التحتية" (أي لا أحداث ومنظمات المجتمع المدني). كون وظيفة الآيدويولوجا الأولية هي إنتاج صورة معكوسة للبنيات الإجتماعية المدنية الأصيلة في سبيل الهدف الذي سقناه آنفآ. وبلغة أخرى فوظيفة الآيديولوجيا في الأساس هي الربط الواعي للمجتمع المدني "ببنياته الأصيلة" مع الدولة. كما أن الآيدولوجيا في البدء تكون بمثابة "سديم" الدولة.).


كيف تتشكل الآيدولوجيا "الرؤية الذاتية" عمليآ؟.

(القيم "التمظهر الأصيل".. ثم الآيدولوجيا "التمظهر الفوقي" .. ومن ثمة فالمصلحة المجردة "الدولة"


قلنا أن لا تمظهر مدني تحتي يكون ممكنآ إلا في حالة توفر ثلاث عوامل في ذات الأوان ودون نقصان: 1- قيم 2-هدف و 3-لائحة (اللائحة تعني الإطار النظري للهيكل ويمكن أن تكون مبتدعة أو مكتسبة أو موروثة "مكتوبة أو غير مكتوبة").

وعلى هذا النحو نستطيع رؤية أي تمظهر مدني أصيل أي تحتي من الداخل أي يمكننا قرائته وتشخيصه ومعرفة مرجعيته ومآلاته.

التمظهر الأصيل ينتج تمظهر فوقي بغرض الجدل مع الدولة والتمظهر الفوقي ليس بشئ غير حاضنة الآيدولوجي (سديم الدولة) والدولة في الاساس تقوم عند نقطة تلاقي المصالح/تعارضها أي مكان تقاطع "أهداف" التمظهرات المدنية الأصيلة. لهذا لا تشبه الدولة أي شئ آخر غير التمظهرات المدنية الاصيلة السائدة أي المنتصرة (على الدوام) إلا في حالة غزو من خارج حدودها الجغرافية والقيمية وهذا ما حدث مرتين في تاريخ السودان القريب وأدي الى تدمير شبه تام لبعض البنى الإجتماعية الأصيلة التي كانت سائدة (منتصرة) وطاح بدولتها. مثل الفونج في حالة الغزو التركي وقبيلة التعائشة في حالة الغزو الإنجليزي مما أدى بهما الى حالة شبه إنزواء في التاريخ. كما أديا (الغزوان) الى تخلق أشكال مدنية جديدة لم تكن معهودة قبل الغزو الأول وتوطدت أكثر بعد الغزو الثاني وتلك التمظهرات الجديدة المستندة على القيم الجديدة الوافدة مع الغزو تجسدت (كما قلنا سابقآ) في "النقابة" (تمظهرات المدينة) وهنا يتكشف القدر الأعظم من سر الصراع بين الريف "ذو القيم الأصيلة" مع المدينة "ذات القيم الوافدة".

القيم والآيديولوجيا والدولة:

لننظر مرة الى المنظومات القيمية الثلاثة عارية ثم نمتحن تجسدها (تمظهرها الأصيل) في الأرض عمليآ ولنحاول أن نتحسس كيف تتخلق الأشكال المدنية الفوقية (الآيدولوجيا) بضرب الأمثال الحية.

القيم عارية:

1- قيم الجسدانية (الفروسية): الرجولة والشجاعة والأمانة والكرامة والشرف والمروءة والشهامة والكرم.

2- قيم الروحانية (الغيب) : الزهد والتواضع والإتكال على الله.

3- العقلانية (الموضوعية) : الموضوعية والإستنارة والإنسانية والنظافة والنظام والإدخار.

القيم متجسدة (متمظهرة) بمراعاة الترتيب أعلاه:

1- قبيلة الرزيقات (أو للدقة إحدى عشائرها) هي تمظهر أصيل لقيم الفروسية

2- طائفة الختمية هي تمظهر أصيل لقيم الغيب

3- مؤتمر الخريجين هو تمظهر أصيل لقيم الموضوعية


التمظهرات الأصيلة "في الأمثلة الثلاثة أعلاه" تنتج أو تغذي بنية فوقية (آيديولوجي) بمراعاة الترتيب السابق:

1- حزب الأمة هو تمظهر فوقي للقبيلة (بمراعاة المثال أعلاه حصريآ)

2- حزب الشعب الديمقراطي (إئتلف لاحقآ مع تمظهر "نقابي" فوقي "مديني" بقيادة الأزهري إسمه الوطني الاتحادي) فأصبح الإسم الجديد الحزب الإتحادي الديمقراطي. هو تمظهر فوقي للطائفة.

3- الحزب الشيوعي السوداني + جبهة الميثاق + الوطني الإتحادي (الأزهري) هي تمظهرات فوقية للنقابة (النقابة كرمز لتمظهرات المجتمع المدني المديني الأصيلة "التحتية).


بهذا القدر أكتفي من محاولة تلمسي للمستوى الثاني للهوية من ناحية فنية. وسأحاول في وقت لاحق النظر في المتسوى الأخير للهوية "الزمكانية". ومن بعدها قد نستطيع أن نتبين عمليآ جدل الهوية في الماضى والحاضر وصراع الهويات على مر التاريخ وربما نجد عندها تفسيرآ لكل هذه الفوضى التي تضرب أطنابها في بلادنا!.

تحياتي،
محمد جمال الدين
آخر تعديل بواسطة محمد جمال الدين في الثلاثاء أغسطس 17, 2010 4:43 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

3- الهوية الزمكانية

سأسبق الأحداث وأجاوب على سؤال محتمل وهو ماذا أعني أنا هنا بالزمكان؟. المعني الحرفي طبعآ معروف وهو أن الزمكان دمج فيزيائي لكلمتي الزمان والمكان والمقصود من حيث المعنى لحظة زمنية ما طويلة أو قصيرة تتمدد فوق مكان جغرافي ما بما يحتويه من كائنات وأشياء وأحداث.

وأنا أصطحب هذا المعنى في معيتي بتصرف عندما أقول الهوية الزمكانية. ولن أكرر ما قلته سلفآ تفصيليآ ولكن وجب التذكير بالضرورة أن الهوية الزمكانية المعنية تتشكل إنبناءآ على هوية أو هويات رؤيوية تحدثنا عن كنهها بإستفاضة أعلاه. مرة ثانية الهوية الرؤيوية في حد ذاتها لا بد أن تقوم على هوية قيمية. القيم والرؤى مرتبطتان إرتباطآ حاسمآ بالزمان والمكان، يعيشان في جدل مستمر مع الزمكان. الزمكان بما هو لحظة زمنية "تاريخية" ومكانية "جغرافية" نستطيع أن نسميه الوطن. ذاك هو المعنى!. فالهوية الزمكانية هي ذاتها الهوية الوطنية. وعندي أيضآ أن كلمة وطن كلمة مرادفة لكلمة دولة. والدولة هي الرؤية الموحدة "الكلية" للعيش المشترك. أقول هذا إحترازآ كوني إستخدمت وسأستخدم كل هذه الكلمات المختلفة ذات المعنى الواحد في مواقع مختلفة في مناسبات مختلفة من كتابتي هذي.
إذن بكل بساطة الهوية الزمكانية هي الهوية التي تتشكل من هويات رؤيوية "ذاتية" تقوم بدورها على هويات قيمية. وبهذا المعنى تكون الهوية الزمكانية في طورها المثالى هي الهوية الكلية/الجامعة.

هل تستقر الهوية الزمكانية عند لحظة تمام تشكلها النهائي كخلاصة للهويتين القيمية والرؤيوية؟.

الإجابة حتمآ، لا!.

والسبب بسيط وهو "الزمان". فإن كان المكان ثابت من حيث هو قطعة أرض فإن الزمان متحرك كالرمال الزاحفة تعرى هذا المكان وتغمر آخر وهكذا. وقلنا أن القيم والرؤى مرتبطتان بالزمان إرتباطآ عضويآ. ويجوز أن أقول مجازآ أنهما مكان الرمل من زحف الزمان!. لا إستقرار. لا شيء يستقر. ولو أن شيئآ يستقر لكان حفيد أركماني في القصر الجمهوري بالخرطوم هذه اللحظة يحتفل بالألفية الثالثة لثورة أبادمك "الإله رأس الأسد" إله الحرب.

إذن لماذا تتحرك "القيم" مع الزمان وما علاقة ذلك بالدولة؟.

لا ننسى أن منظومات القيم التي نتحدث عنها (البنية الإجتماعية التحتية) لا تقوم في الفراغ وإنما تقوم في مقابل هدف واضح ومحدد هدف كلي مركب وهو "البقاء والمعاش والأمن والرفاهية". هذا الهدف ثابت على الدوام لا يتغير أبدآ غير أن وسائل تحقيقه تتغير وتتبدل بشكل مستمر مع الزمان مما يقتضي تحوير وتبديل وتغيير في منظومات القيم يلحقه تلقائيآ تغيير في البنى الإجتماعية التحتية. و أي حدث يحدث سلبآ أو إجابآ في المنظومات القيمية (البنية التحتية) يؤدي بشكل تلقائي إلى ردة فعل مباشرة في المستوى الثاني من البنية الإجتماعية "الفوقية" وهي بنية الرؤى. ونتيجة لذلك وكما هو منطقي ينعكس كل ذلك الحراك على الرؤية الكلية للعيش المشترك "الدولة" كون الدولة تقوم على البنية السابقة عليها. تتشكل القيم من جديد تتشكل الرؤى من جديد تتشكل الدولة من جديد. تتشكل المستويات الثلاثة للهوية في نسق جديد. والأمر أكثر تعقيدآ من هذا كون جدلية القيم والرؤى والدولة لا تمضى على الدوام بهكذا نسق بل قد يحدث في لحظة ما إستثنائية العكس تمامآ بحيث تتشكل الدولة تتشكل الرؤى ثم تتشكل القيم. أي تتشكل الهوية الزمكانية أولآ ثم الرؤى ثم القيم. عندي أنها دائرة تدور في محيطها. هذا بإقتضاب. قد أعود في وقت لاحق بمزيد من الإضاءة ما لزم الأمر.

وبهذا أكون قد انتهيت من محاولة شرح فكرتي تقنيآ لماهية الهوية. وتبقى علي ما لزم أن أتحقق من كيف تجري الأمور في الواقع المعاش. وهنا تبدأ الوقائع!.

يتواصل.....

محمد جمال الدين



محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

المعادلة المعتادة على الدوام هي أن تتشكل القيم تتشكل الرؤى تتشكل الدولة. تتشكل المستويات الثلاثة للهوية في نسق ما. تموت القيم تموت الرؤى تموت الدولة. تتشكل القيم من جديد تتشكل الرؤى من جديد تتشكل الدولة من جديد. تتشكل المستويات الثلاثة للهوية في نسق جديد. وهكذا.

في مرات نادرة تتعقد تلك المعادلة إذ يحدث في لحظة ما إستثنائية العكس تمامآ بحيث تتشكل الدولة "الزمكان" أولآ ثم تتشكل من بعدها الرؤى فلقيم.

هل دا حصل في الواقع؟. نعم!. حصل في السودان عام 1821 وحصل مرة ثانية عام 1899!.

في عام 1821 جاء إبن محمد على باشا "إسماعيل الذي قتله حرقآ المك نمر". إبن محمد علي باشا صنع "زمكان" بالإيد الشديدة، عبر العسف المادي وحده. زمكان لا علاقة له بالرؤى السائدة حينها ولا القيم الإجتماعية. فصنع دولة ثم لحقتها رؤى جديدة للعيش المشترك وتبع ذلك تخلق قيم جديدة رويدآ رويدآ. هي قيم العقلانية قيم المدينة قيم الرأسمالية قيم الفردانية. قيم غير معروفة بالكامل قبل دخول إبن محمد على باشا للسودان. هذه القيم الجديدة هي القيم التي تشكل وعي سكان المدن حتى اليوم و وعي ما يعرف بالمثقفين على مر تاريخ السودان الحديث وتخلقت نخبة إجتماعية جديدة عندها قيم إجتماعية جديدة ورؤى جديدة تواكب الحياة الجديدة التي فرضها الواقع الجديد وبرزت للوجود طبقة الأفندية التي تم تشكلها النهائي لدى الغزو الثاني "الإنجليزي". لدرجة أن كل الذين كتبوا عن المجتمع المدني السوداني في الوقت الراهن إعتبرو الغزو "التركي المصري" هو بداية تخلق المجتمع المدني السوداني وبلا إستثناء!. وعندي قناعة أنه خطأ معنوي ومنهجي جسيم أنبنت عليه مسلمات لا حدود لها من السوء!. ما يهمني هنا هو أن الزمكان بطريقة أو أخرى يستطيع أن يأتي سابقآ على الرؤى والقيم. وما تلي عام 1821 هو خير دليل. إذ بعده بدأت دورة جديدة للشعور بالهوية "الزمكانية" وتشكلت طبقة إجتماعية جديدة تقوم على قيم جديدة هي قيم الموضوعية قيم "أنا" لأول مرة في تاريخ السودان.

يتواصل...

محمد جمال الدين
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

جدل الهويات

1- الهوية القيمية خالصة (لا رؤية ولا زمكان)

جدتي آمنة بت حماد التي حكيت قصتها أعلاه تمثل "زول" صاحب هوية قيمية خالصة . هوية قيمية فروسية. إذ أن الهوية القيمية بدورها تتشكل في ثلاثة مستويات بحسب منظومات الفيم: 1- هوية قيمية فروسية 2- هوية قيمية غيبية 3- هوية قيمية موضوعية . كل زول لازم إكون عنده هوية قيمية بلا إستثناء في جميع الأمكنة والأزمنة. لكن ليس بالضرورة أن كل زول عنده هوية رؤيوية أو زمكانية. أضرب هنا مثال للهوية القيمية "الفروسية" الخالصة بالشاعر محمد بادي في قصيدته الرائعة : ( أنا اخو البت اللكعت قرن الخمرة النازة) عند هذا الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=UR4s6DqoWLs
تعجبني هذه القصيدة جدآ. سأعود لأحكي عنها ما تيسر.
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

الهوية القيمية غير محدودة لا في النوع ولا في المقدار. غير أن الهويتين الرؤيوية والزمكانية تبقيان مفردتان لا تتعددان في المعتاد. إذ أنني أستطيع أن أشعر بأنني جعلي "قيمية فروسية" وتجاني "قيمية غيبية" وعضو الجمعية السودانية لحماية البيئة "قيمية موضوعية" كل ذلك في نفس الوقت. فالهوية القيمية وهي أس الهويات غير محدودة. . لكني لا أستطيع أن أكون ماركسي وأنادي بالدستور الإسلامي في ذات الأوان غير منطقي وهو المستوى الثاني للهوية. الهوية الرؤيوية هوية مفردة. بذات القدر فإن الشعور بالهوية الزمكانية مفرد لا يتعدد فعندما أقول أو أشعر بأنني "سوداني" فليس من المحتمل أن يعتريني في ذات الأوان ذات الشعور تجاه أثيوبيا مثلآ. وتلك هي الهوية الزمكانية.

وعليه يستطيع المرء أن يكون جعلى تابع للطريقة الشاذلية عضو الجمعية السودانية لحماية البيئة هلالابي ضد المريخ (هويات قيمية) رئيس فرعية الحزب الشيوعي بالحصحيصا معارض للمؤتمر الوطني (هوية رؤيوية) وسوداني (هوية زمكانية)
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

قصيدة الشاعر د. محمد بادي تقوم في مستوى القيم. مافي رؤية ولا زمكان (ما في وطن). قيمية فروسية خالصة. هناك قيم تقوم على أساس هدف واضح تؤطره لوائح صارمة . شوف الرمزية الجميلة دي في المقطع أدناه (التركيز على الود حامد لما لاقوه تلاتة زبيدية مش واحد بس):

سمح الخمج الفوق أسيادو
سمح العز المن أجدادو
الجنيات المشو ما عادو
كان بالردة أكان اتنادو
غرب حامد وشرق بلة
كانوا بحلبو الضرع الدلة
كانوا بحضرو الخير القدحو معلا
الجنيات ما كفرت بنعمة الله
بالحيل آ جني إيه والله

ذات في يوم والغيمة تهتّف مطرا نقّع
فوق نوار الطلح الفقع
ريحة البرد إن جاتك عطرا فايت خمر الفوق أردافا مجضع
شفنا الوادي يقشقش في دمعات الليل
والتعل الشايل بدا يتفقع

تلب حامد فوق مخلوفة أب زور واتربع
طلق الرسن أب زمة وسوّا خبيبا بدّع
هوّد في رقّاب الصي
لا قوه ثلاثة زبيدية
خالفين سيقانن فوق السنكيت ورقاب ألبل بيناتن مرخية
محجوبات بالخرز الفصلو السوميت
كل واحد درقة وسيف وطبنجية وباقي جرابن مليان دنميت
الجنيات اتقبلو وضاقو الحارة وضاقو المرة
وكان حجازن صقر الجو
حامد كان عارفين ضاقوه رجال قبالكن
شوفو أرزاقكم أخير من ضو
حامد عوج الطندب آ وليدات
عوج الطندب نار القصب الهبلت ما بتعدلو
شوفو شلوخو مطارق رقدن
وكل تلاتة يمين سياف اتقبلو
حامد رابع مخ الترك البزبز من ضرب أهلو نهار الركزو تمام وإتعدلو
حبوب القارح ... ما دلة
ولدا ما ختالن زلة
شن قولك فيهو عليك الله
بالحيل آ جني إيه والله
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

قراءة في قصيدة ود بادي "أنا أخو البت"

أولآ لا أستطيع أن أكون محايدآ تجاه حبي وإحتفائي بهذه القصيدة الملحمة بما تنطوي عليه من فن وحكمة وتصوير بديع للحياة والأشياء.

نرجع للموضوع: قلت سابقآ أن القصيدة تقوم في مستوى "القيم" بعيدآ عن أي رؤية محتملة للعيش المشترك. وأفضل مثال للحتة دي هو الود حامد. حامد أصنج مخو مقفل رابع مخ الترك البزبز من ضرب أهلو نهار الركزو تمام وإتعدلو. ما بهظر. مافي مفاوضة. زح كدا. حطب الطندب أي مر. حامد نار القصب الهبلت. حامد ما عندو شيء أقولو ليك بعرف أحارب بس. حامد مصفحة. (تلب حامد فوق مخلوفة أب زور واتربع
طلق الرسن أب زمة وسوّا خبيبا بدّع
هوّد في رقّاب الصي
لا قوه تلاتة زبيدية
خالفين سيقانن فوق السنكيت ورقاب ألبل بيناتن مرخية
محجوبات بالخرز الفصلو السوميت
كل واحد درقة وسيف وطبنجية وباقي جرابن مليان دنميت).

حامد عمل شنو؟. طبعآ دخل المعركة وحده وبلا هوادة (الجنيات اتقبلو وضاقو الحارة وضاقو المرة وكان حجازن صقر الجو) ويبدو جليآ أن حامد هزم الزبيدية التلاتة هزيمة نكراء. وخرت جمالهم التلاتة وشال طبنجاتهم والدنميت كغنيمة. وجاء راجع للبت اللكعت قرن الخمرة النازة فزغردت في عنان السماء وجلساء معآ في رمل الحلة يحرسون القيم.

طبعآ واضح جدآ أن الزبيدية هم رمز للآخر. هذا الآخر لا يستحق شيء غير الموت. ما في أي طريقة للتفاوض أو الحلول الوسطية. القيم لا تقبل القسمة على أتنين كما هو متوقع. في الحقيقة حامد ما عندو أي رؤية للعيش المشترك. لا توجد. وبالتالي يكون الآخر لا محل له في الخيال إلا كعدو. ولاحظ معي أن الآخر بدوره قبيلة "زبيدية" منظومة قيمية فروسية. وناس مش ساهلين. رجال جد وجاهزين بدورهم للمعركة وللموت (تلاتة زبيدية خالفين سيقانن فوق السنكيت .. ورقاب ألبل بيناتن مرخية
محجوبات بالخرز الفصلو السوميت .. كل واحد درقة وسيف وطبنجية وباقي جرابن مليان دنميت). بس حامد عاد بتقدر، لا: ( شلوخو مطارق رقدن .. وكل تلاتة يمين سياف اتقبلو .. حامد رابع مخ الترك البزبز من ضرب أهلو نهار الركزو تمام وإتعدلو).

هناك فناء للآخر ولا شيء آخر!.

كيف نستطيع أن نقرأ كل هذا في مستوى "الهوية"؟. هذا ما أنا بصدده هنا.

يتواصل.....

محمد جمال الدين
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

قصيدة بادي تقوم في مستوى البنية التحتية للمجتمع المدني. وقلنا أن لا تمظهر مدني تحتي يكون ممكنآ إلا في حالة توفر ثلاث عوامل في ذات الأوان ودون نقصان: 1- قيم 2-هدف و 3-لائحة (اللائحة تعني الإطار النظري للهيكل ويمكن أن تكون مبتدعة أو مكتسبة أو موروثة "مكتوبة أو غير مكتوبة").

القيم تحدثنا عنها هنا كثيرآ وقلنا أن الهدف يكون واحد على الدوام مركب في الصيغة التالية: (البقاء، المعاش، الأمن والرفاهية). واللائحة من أمثلتها الصغير إقوم للكبير.

شوف معاي كيف تتمرحل ملحمة "البت اللكعت قرن الخمرة النازة" كونها تتحدث عن جماعة مدنية تحتية محددة؟.

1- هناك هدف من قبيل: (الجنيات الحزمو الجبه
وعرق الشتوي عليهم نايا و صبا
قول ما دله ..
رجالا حصدوا الحبه
عيشون هادو انكال واتعبا
ومنو كتير في الواطا انكبا
وباقي مصوبر واقف قبه
الحمد آلاف .. الشكر آلاف
الحمد آلاف الشكر آلاف
العيش الرقد أصناف أصناف
الولد الكان.. عزام .. حلاف...ضياف
الرزق الجانا مدلا.. الحلق الجاف اتبلا
بالحيل آ جني إيي والله
********
الوادي الجانا مترقن
مدد جناحو الطايل شرقا وغربا
القبلي بروقو على القلعات اضربن
الدكن البعدن قربن
فوق صنقور الحله الطالت كبن
قول للحله بيوتك خربن
قول ما دله.. الحلق الجاف اتبلا
بالحيل آ جني إيي والله
**********
مرحاتنا شرابهن يوت ماغبن
شبعانات في الشقل أب شوك ما شبن
الحومل ولدن وربن
حلماتن تقلن.. جرن.. فوق سيقانن كبن
اللبن العاتم في ضرعاتن جبن
المغصة إن كان ضرعاتن خربن
القرعة آ وليد .. السعن آ بنيه
القربة كمان... كبوها المية
المغصة إن كان ضرعاتن خربن
شوفو النعمة السالت فوق قيزان الرمله
ناس البندر لبن الشاي بالعمله

سمح الخمج الفوق أسيادو
سمح العز المن أجدادو
الجنيات المشو ما عادو
كان بالرد أكان اتنادو
غرب حامد وشرق بلة
كانوا بحلبو الضرع الدلا
كانوا بحضرو الخير القدحو معلا
الجنيات ما كفرت بنعمة الله
بالحيل آ جني إي والله
*****
والغيمة تهتف مطرا نقع
فوق نوار الطلح الفقع
ريحة البرد إن جاتك
عطرا فايت خمر الفوق أردافا مجدع
شفنا الوادي يقشقش في دمعات الليل
والتعل الشايل بدا يتفقع )..... واضح أن هناك رفاهية إجتماعية عالية. أمن كبير ومعاش رغد يحرسه حامد حطب الطندب نار القصب في مواجهة الزبيدية أي الآخر.

2- هناك قيم من قبيل: (أنا أخو البت اللكعت قرن الخمره النازه ..على وردان الصبوه الراكزه .. الجنيات الهازه صدورن لازه ورقا النص زي خيت الشلا ) و (ديل يوم عادوا اتلافو الجاهل بحقوق الله .. ديل كم لحقو البشهق ضايق وداوو العله ..الولد الجايب حقايب سفرو تقال تقال من جنس كتاب ومجله .. الحكمة النضم إياهو الكان.. الحكمة الولد اتوضا وصلى .. عادة البلد الدخلت فيهم سكنت سكنت ما ب تتخلا ) و (الولد الكان.. عزام .. حلاف.. ضياف) وحكاية حامد كلها قيم من قبيل الشجاعة إلى آخر الإلتصاق بقيم الفروسية. و
3- هناك لائحة من قبيل: (بعد الليل ما يهود ونحن نهود.. عاد أماتن ينادن ليهن) والمقصود البنات (اي الجكس بلغة الشارع) الحاجات ما سايبة ساي هناك لوائح محددة عند لحظة ما، البنات لازم إمشو على بيوتهم والا هناك مشكلة. أعني أن هناك لوائح محددة تقوم في المخيال الجمعي تحدد للفرد أفعاله وأقواله في إطار الجماعة.

يتواصل...

محمد جمال الدين
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

ثلاثة منظومات قيمية ، ثلاثة تجليات إجتماعية تحتية، ثلاثة أشكال للهوية، ثلاثة جدليات للهوية وثلاثة صراعات للهوية في مستوى البنية الإجتماعية التحتية وحدها!

البنية الإجتماعية التحتية (البنية المدنية الأصيلة) تنعم بتنوع هويوي كبير في النوع وفي المقدار وتعيش في جدل وصراع لا يهدأ لهما بال.

لنحاول تأمل المستوى الأول للهوية "الهوية القيمية" أي الفروسية بالإستعانة بالمشاهد المكونة لقصيدة الشاعر محمد بادي "أعلاه". ووجب التشديد بأننا في هذه الجزئية نتحدث بشكل أساس عن مستوى واحد للهوية وهو المستوي القيمي وليس ذلك فحسب بل المستوي القيمي الأول " الجسدانية أي الفروسية" العشائرية ويجوز أن نقول العرقية "الإثنية" لا الهوية القيمية في إطلاقها مع إني سأعقد بعض المقارنات في سبيل الإنارة. كما مرة ثانية وجب التذكير بأن الهوية لا تقوم في المستوى القيمي وحده بل بعد ما يزال هناك مستويان بذات القدر من الأهمية وهما: مستوى الرؤى ومستوى الزمكان، وذاك أمر سنأتي عليه في أوانه.

سبق أن تحدثت في عدة أماكن من هذ الخيط عن منظومات القيم التي أعني، ولكن هنا نحن في حالة استقصاء خاصة لمنظومة قيم الجسدانية.

قيم الجسدانية

قلت في مكان آخر أنني أشعر بأنه توجب علي أن أوضح بعض الشيء عن ماذا أقصد بالجسدانية في عبارة "قيم الجسدانية". إذ أن منظومات القيم الرئيسية عندي في السودان يمكن حصرها في ثلاثة مجموعات كبيرة هي 1- قيم العقلانية "الموضوعية" 2- قيم الروحانية "الغيب" و 3- قيم الجسدانية "الفروسية".

وأرى أن كلمتي العقلانية والروحانية ربما تكونا واضحتين في سياقهما ولكن "جسدانية" قد تكون غريبة في السياق الذي وضعتها فيه أو كما شعرت من بعض نقاشات الصحاب.

ماذا تكون تلك القيم؟. ولماذا هي جسدانية؟.

هنا حزمة متجانسة من قيم الجسدانية (كما هي مضمنة أعلاه): الرجولة، الشجاعة، الأمانة، الكرامة، الشرف، المروءة، الشهامة والكرم. و يجوز عندي تكنيتها بقيم الفروسية.
وهي عندي في الأساس قيم الأسرة الممتدة كما العشيرة والقبيلة. وهي قيم "ذكورية بحتة لدرجة أن صفة النوع "المذكر" تكون قيمة في حد ذاتها فيصبح الرجل الهمام "ضكران" ولا تكون الأنثي "المرأة" بشيء سوى بت رجال وإن ووصفت بالعفة والشرف فهي بت رجال أشراف، أصحاب مروءة وكرم ولا تكون المرأة ولا يجوز أن تكون شريفة وعفيفة أو كريمة ككائن قائم بذاته ما لم تكن تلك هي صفات الرجال من خلفها "ضكرانين تب" وإلا لن تكون بشئ سوى إمرأة "مكسورة جناح". ذلك هو المجرى العام مع إستثناءات لا يعتد بها. ولا تكون صفة النوع "نتاية" في اللغة الدارجة مقابل "ضكر" إلا ذمآ في مواجهة قيم الفروسية كون محور تلك القيم ورأس سنامها "الضكرنة" لدرجة أنه لا يوجد في اللغة السودانية "العربية" الدارجة ضد للإسم "ضكرنة" من ضكر مقابل نتاية أو إنتاية إذ أن "نتوية أو إنتاوية" كإسم من الصفة نتاية لا يوجد بمعنى معطل الإستخدام. لا حوجة له!. وهو الأمر نفسه بالنسبة لكلمة "رجولة" من رجل مقابل إمرأة. وبهكذا "قيم" فإن الغالبية الساحقة للتمظهرات المدنية الإثنية يقودها رجال "ضكور" في جميع أرجاء السودان بلا إستثناء يستحق الذكر وما أوضحها عند مكوك الجعليين وسلاطين الدينكا وشراتي الفور وعمد السلامات والتعايشة والبني هلبة وكذلك الأمر لدى النوبة والنوبيين والبجا والفونج وإلخ. وهو أمر يبدو في غاية الوضوح لدرجة البدهية. وخلاصة الأمر فالمجتمعات السودانية المستندة في تمظهرها كليآ أو جزئيآ على منظومة قيم الجسدانية هي تمظهرات ذكورية تشكلت منذ مئات السنين وظلت بنسب متفاوتة تحافظ على ذات القيم المتوارثة والتي تقف خلف تجلياتها وإستمراريتها في الوجود المادي.

ولماذا هي جسدانية؟.

تكون قيم "جسدانية" لعدة أسباب أهمها عندي:

1- هي قيم وشائج الدم (من جسد قديم إلى جسد جديد).

2- هي قيم الفروسية وبما ينطوي عليه المعني من إستخدام للجسد في مواجهة الطبيعة والآخر. إنها قيم صاخبة. هي من أشد القيم المشكلة للمجتمع المدني السوداني بأسآ وصيتآ وقوة (راجع ص 3 من هذا الخيط "نظرة في مرثية بنونة بت المك"). كما أن هناك إشارة متعلقة في مشهد "النار" أعلاه.

3- هي قيم القبيلة وبنية القبيلة في الأساس علمانية لا دينية وبذات القدر فهي لا عقلانية (راجع علمانية بنية القبيلة ص 3 اربع مداخلات) ... وإن صح ذاك الزعم تكون قيم القبيلة هي قيم الدنيا وبما ينطوي عليه المعنى من علاقة مباشرة بالعالم المحسوس، مرة ثانية "الجسد".

وأظنه من نافل القول أن القبيلة كما العشيرة والأسرة الممتدة يشكل الجسد "الدم" مركزها الحتمي. وبهذا يكون للجسد عند القبيلة قداسة لا حدود لها. فمن الجسد تخرج القبيلة وبالجسد تعيش وبفتوة الجسد تبقى وتحقق أمنها ورفاهيتها وعزتها وسط القبائل. ففي الجسد السر كله.... هو الدم!. الجسد مكان محرم "تابو" عظيم... هو مكان الشرف. ولهذا يكون غسل العار. أي غسل جسد القبيلة كلها بدم الضحية "إمرأة ما نامت على فراش رجل غريب". كما للثأر "التار" أيضآ علاقة مباشرة بالجسد. الجسد لا شيء غيره هو الحياة كلها منه تخرج إلى الوجود وبه تغيب في العدم.

ربما نلاحظ عند الخطوات المقبلة كيف أن قيم الجسدانية "الفروسية" تكاد لا تفارق مخيلتنا جميعآ مهما أدعينا البعد عنها!. إنها تشكل لا وعينا وتسيطر على قدر كبير من سلوكياتنا وتصرفاتنا.

خصائص المنظومات القيمية "الثلاثة"

أستطيع أن اقول بشكل مبدئي أن الخصائص الجوهرية للمنظومات القيمية الثلاثة تكون على الوجه التالي:
محور منظومة قيم الفروسية يكون في الجوهر "المضمون" مع التقليل من أهمية الشكل "المبنى"
ومحور منظومة قيم الغيب يكون في الجوهر مع إحتقار الشكل
ومحور منظومة قيم الموضوعية يكون في الشكل والجوهر على حد سواء
منظومتي الفروسية والغيب هما في الأساس سمة الريف
بينما تكون منظومة الموضوعية هي في الاساس سمة المدينة
كما أن منظومتي الفروسية والغيب هما منظومتا "نحن" بينما تكون منظومة الموضوعية هي منظومة "أنا".

وإذا ما ثبت لنا أن منظومتي الفروسية والغيب هما في الأساس سمة الريف فهذا لا يمنع أن يكون الريف في قلب المدينة والعكس صحيح فكثيرآ ما نجد ريفيين يمتثلون بالكامل إلى قيم الموضوعية أي "الفردانية". والأمثلة هنا لا حصر لها ونستطيع بسهولة أن ننظر إلى سلوك الأمدرمانيين الأصيلين لنجد أن قيم الفروسية ما تزال تشكل لا وعي معظمهم ويظهر ذلك جليآ في فخرهم بمدينتهم أو أحيائهم العريقة بدلآ عن قبائلهم كما هم أولاد بلد عوضآ عن أولاد قبائل. وسبق أن عقدنا في بداية هذا الخيط مقارنة عاجلة بين بعض أحياء الخرطوم ورد في نهايتها ملاحظة صغيرة حول أمدرمان تقول: ( نجد في واقع الحياة اليومية أن كثير من الأمدرمانيين يحيلون ذواتهم الى مدينتهم، ويجدون فخرا وعزا وكرامة في انتمائهم الى امدرمان (احساس عالى بروح الجماعة) و"نحن" تطغى على "الأنا". فالأمدرماني شهم وكريم وصاحب مروءة وعزيز وأصيل ونبيل وأخو أخوات أو كما يحاول أن يرسم ذاته في مخيلة الآخرين. وتلك كلها قيم "نحن" إذ يكون بعضها في نزاع مع قيم المدينة الخالصة مثل الكرم سمة الريف مقابل الإدخار سمة المدينة. وسأفرد في وقت لاحق مساحة خاصة للقيمة "إنسانية" كأحد ابرز قيم الموضوعية لما لها من علاقة تعارضية وصدامية واضحة مع قيم الفروسية.

وعندي إعتقاد أن منظومة الفروسية هي المنظومة الأكثر سيادة على واقع الحياة في السودان تليها منظومة الغيب. وإن صح هذا الزعم فإن العجينة الإساسية لنفسيات "الزول" تشكلها منظومتي الفروسة والغيب وتأتي منظومة الموضوعية في المرتبة الأخيرة في الريف وفي المدينة على حد سواء. فالمدينة في السودان لم تأخذ بعد هيئتها الأخيرة كمدينة مكتملة الشروط.

قيم الفروسية في ذاتها متباينة ومتمايزة عن بعضها البعض في حزمتها الواحدة في النوع والمقدار ومختلفة بذات القدر من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان. فقيم فروسية قبيلة الشكرية على سبيل الثال فهي ليست بالضرورة متطابقة مع قبيلة الجعليين أو أحد عشائر الدينكا أو الزغاوة أو النوبة. ذاك الإختلاف في نوع القيمة المحددة "الشجاعة" مثالآ كما عدد ومقدار القيم الحية المشكلة للتمظهر المدني المحدد هو العامل الأساس في أختلاف وتميز وتمايز القبائل والعشائر عن بعضها بالبعض كما أن ذاك الإختلاف في السمات المدنية يسقط على سلوك الفرد "الزول" فيكون له مزاجه الخاص ويجعل له سمات وصفات محددة يتعرف بها "بوعي أو بلا وعي" في عيون الآخرين.

لنتمتحن خمس قيم محورية من قيم الفروسية: (الشجاعة، الكرم، المروءة الأمانة والشرف)

فإذا جاز ترتيب قيم الفروسية من حيث الأهمية والممارسة لدى عشائر وقبائل بعينها سنجد أن هناك تأرجحآ واضحآ للقيمة المحددة من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان. فعند قبيلة الجعليين تكون القيمة "شجاعة" رقم "1" في ترتيب حزمة القيم من حيث الأهمية في نظر أفراد القبيلة. فالجعلى لا يخاف (الشجاعة تكون القيمة المحورية لدى الجعليين) دونها لا يكون الجعلي "جعلي". والقيمة "2" هي الكرم فالجعلى شجاع ثم كريم والقيمة "3" هي المروءة. فالجعلى زول شجاع وكريم "جواد" وصاحب مروءة "أبو مروة". ولا تكون الأمانة قيمة أساسية لدى الجعليين. والبطاحين يخدعون للترتيب القيمي الجعلى.

عند الشكرية القيمة المحورية هي الكرم تليه الشجاعة ثم الأمانة مع قدر أقل من المروءة مقارنة بالجعليين والبطاحين.

وعند الشاقية القيمة رقم واحد هي المروءة ثم الأمانة مع قدر أقل من الكرم والشجاعة مقارنة بالجعليين والبطاحين والشكرية.

والقيمة "شرف" تتقاسمها جميع القبائل في المثال أعلاه ما عدا قبيلة الشايقية. فالقيمة "شرف" عند الشاقية تمارس بقدر أقل حدة مما عند هؤلئك وعندي يكون ذاك هو السر من وراء تحرر المرأة الشايقية مقارنة بالأخريات من نساء القبائل لدرجة أصبح فيها مثال "icon" المرأة السودانية المتحررة هو مهيرة بت عبود "الشايقية".

كما أن ترتيب القيم ودرجة أهميتها تختلف كما هو الحال في المثال أعلاه لدى الدينكا والنوير والمحس والدناقلة والفور والمساليت والهدندوة إلخ. بل هناك تعقيد أكبر وهو إختلاف القيمة الواحدة المفردة "الشجاعة" مثالآ في النوع من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان. فقد نجد أن الشجاعة عن الجعليين مختلفة في النوع لا المقدار وحده "أي درجو ممارستها" بل في طبيعة ممارستها عما هو عند الآخرين. وهذا هو السر في أن السوداني الفارس يستطيع أن يدهش قدر من الخليجيين الفرسان بدورهم، السعوديون مثالآ، لأن الشجاعة عند السعودي هي ليست ذاتها شجاعة السوداني كما قد يكون الأمر ذاته لبقية حزمة منظومة قيم الفروسية. والأمر ينطبق على قيم الغيب كما بعض الشيء على قيم الموضوعية (الشيء الذي سأحاول معالجته عندما يحين الوقت المناسب).


يتواصل.....

محمد جمال الدين
آخر تعديل بواسطة محمد جمال الدين في الثلاثاء أغسطس 10, 2010 6:08 pm، تم التعديل مرة واحدة.
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

نظرة أشمل في جدل وصراع المنظومات القيمية (مكان الهويات)

الزول في نظر الزول الآخر (هوية قيمية في مواجهة هوية/هويات قيمية أخرى)

نبدأ بتقصي إفتراض ما كثيرآ ما عن لي حول ما يمكن تسميته بالزول الإنسان والزول الفارس.

وإفتراضي هو أن : الفارس زول غير " إنساني" والإنساني زول غير "فارس" . ذلك قد يكون أمرآ أقرب إلى الحقيقة الواقعية في كثير من المرات.

كيف؟.

القيمة "إنسانية" قيمة مطلقة المفعول. فالرجل أو المرأة الإنسان بالإحالة إلى القيمة إنسانية يفعل وينفعل في المبدأ مع الجميع ولمصلحة الجميع غير أن الفارس في المبدأ يفعل وينفعل مع جماعته فقط ولمصلحة جماعته فقط "العشيرة" مثالآ. ولهذا فإن القيمة "إنسانية" ليست من قيم القبيلة (لا تكون جزءآ من حزمة قيم الفروسية). لأن ببساطة القبيلة تتمايز عن القبائل الأخرى بسماتها المتفردة وتتعرف في مواجهة الآخرين بما تحوزه من شرف وعز وجاه. ذلك الشرف "المقام الرفيع" يتأتى عبر إلتصاق أعضاء العشيرة أو القبيلة المحددة بقيم الفروسية في مواجهة الآخر وعلى وجه الإطلاق. عندما نقول على سبيل المثال فلان "جعلي" فسرعان ما تخطر على بالنا صفات ومواصفات محددة مخزونة سلفآ في العقل الجمعي "إنه فارس" وهو يتعرف بكرمه وشهامته وشجاعته في مواجهة الآخر "الشايقي مثلآ" ذلك الوضيع الشرف كونه بخيل "فسل" وجبان... وتلك صفات تقف في الضد من قيم الفروسية. وهذا طبعآ إنبناءآ على المحمول الجمعي المحدد للجماعة المحددة وهم الجعليون هذه المرة. فمن مقام جماعة "الشايقية" يكون المنظور بالطبع آخر، فما الجعلي سوى زول أحمق متهور وعوير. (وذاك مجرد مثال توضيحي). لا توجد إنسانية عند الفروسية. هي في الأساس قيم الجسد "الجسدانية" وما ينطوى عليه الأمر من نقاء "الدم" في مواجهة الدماء الأخرى الأقل شرفآ ونقاءآ حتى لو كان ذاك الآخر ينحدر من ذات العرق الحقيقي أو المتوهم.

إن أعظم مثال يجسد قيم الفروسية يكون في أبيات الشعر الشعبي واسعة الإنتشار ، القائلة:

(1- نحن اولاد بلد نقعد نقوم علي كيفنا 2- في لقا في عدم دايمآ مخدر صيفنا 3- نحن أب خرز بنملاهو و بنكرم ضيفنا. 4- و نحن الفوق رقاب الناس مجرب سيفنا).

لاحظ معي كيف تترجم قيم "الفروسية" الى افعال بتتبع مبسط لأبيات الشعر " الشعبي" تلك مع مراعاة الترقيم الذي وضعته من عندي:
بقليل من اعمال التفكير سنجد ان القيم السامية الدافعة لتلك الافعال كانت كالتالي:
1- العزة
2- المروءة
3- الكرم، و
4- الشجاعة

تلك القيم "الفروسية" تقوم في الأساس وتفعل فعلها في مواجهة الآخر.. ذلك الآخر قد يكون في لحظة من اللحظات مكانآ للتجربة. تجربة السيف على رقبته والخلاصة إثبات جبنه وخنوعه وذلته في مواجهة
جماعة من الفرسان لا قبل له بها.
كما أن الود حامد "نار القصب الهبلت" في قصيدة الشاعر محمد بادي مثال آخر في غاية السطوع "رابع مخ الترك البزبز من ضرب أهلو نهار الركزو تمام وإتعدلو" و " حامد عوج الطندب". أي أن الفخر هنا يقوم على أن "ود القبائل" الجد "الضكر" لازم إكون "مخو مقفل" تمامآ في مواجهة الآخر!. ففي مشهد حامد عند لقائه مصادفة لآخر ممثل رمزيآ في قبيلة الزبيدية لم يكن في الأفق أي طريقة للحوار أو التفاوض على حلول وسطية. لا توجد. لأن ببساطة لا توجد رؤية ذاتية للعيش المشترك لدى حامد كممثل لجماعة عشائرية محددة ولا لدى الزبيدية كممثلين مباشرة لقبيلتهم بالإسم. وفي تلك الحالة هناك حل واحد لا غيره. وهو فناء الآخر وبلغة علمية genocide .

وفي كل الاحوال فان كل تلك القيم تصنعها الجماعة وفق عملية تاريخية طويلة ومعقدة تتمدد عبر اجيال بهدف تحقيق مصلحة الجماعة المحددة وضمان معاشها وبقائها وأمنها ورفاهيتها في مواجهة الطبيعة والآخر.

وكم هو واضح عندي أن "القيمة الإجتماعية" لا تشتغل إلا في سياقها المكاني والزماني (في إطار مجتمعها المدني المحدد، العشيرة مثالا). وأي خلع لها من سياقها المكاني والزماني سيحولها الى مسخ، أي سيلحقها تشويه وتزييف يتجسدان إما في سوء فهما أو سوء ممارستها. وفي أفضل الظروف يتم الحكم عليها من منطلق انساني كلي (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مثالآ). وعندها تكون لا شيء سوى فكرة مجردة. فلقيم لا تقوم في الفضاء الحر بلا هدف أو أطر أو مبررات بل عندها على الدوام هدفها وأطرها ومبرراتها في حيز زمانها ومكانها. فالكرم على سبيل المثال كقيمة يختلف في طبيعة وطريقة ممارسته من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان ... غير أن ممارسة الكرم كقيمة إجتماعية في إطلاقها تقوم في مقابل هدف واحد محدد على الدوام.

فللقيم الإجتماعية أطرها المحددة "تمظهرات إجتماعية محددة"، لا يمكن أن تستقيم بالكامل خارجها. فمثلآ لا أظن أن الكثير من الناس لا في السودان ولا بقية أرجاء الدنيا يتفقون مع "بنونة" بت المك نمر في رؤيتها "الجعلية" لماهية أفضل طريقة للموت. فبنونة ترى أجمل الموت هوالموصوف ب( دايراك يوم لقا بى دميك تتوشح ... الميت مسولب والعجاج يكتح). والرجل الذي تحب بنونة "أي فارس أحلامها" غالبآ ما يكون هو الموصوف ب: (الخيل عركسن ماقال عدادن كم... فرتاك حافلن ملاي سروجن دم). ومثل ذلك الرجل بالطبع لا يكون إلا جعليآ لدى بنونة. ولو أنني لا أستبعد تمامآ أن نعثر في الوقت الراهن على عدة نساء في سودان اليوم يمتلكن بجدارة ذائقة بنونة النفسية والجمالية.

مرة أخيرة فإن قيمة " الإنسانية" تقوم في صدام وتضاد مع قيم الفروسية. كونها قيمة "الفردانية" .. فالإنسانية قيمة لا تورث ولا تتأتى كمعطى جاهز. كما أن الإنسان "الإنساني" لا يضيف بالضرورة إلى جعبة الجماعة سهمآ بممارسته الفردية لقيمة الإنسانية. عكس ما يحدث لدي ممارسي قيمة من قيم الفروسية. أنظر من جديد أحد المقاطع المتعلقة من قراءتي لمرثية بنونة بت المك:

(وضعت بنونة مرثيتها باللغة العربية. لغة الدين الإسلامي. في تاريخ ليس ببعيد هو بداية القرن التاسع عشر. منذ قرنين سابقين على القرن التاسع عشر أو يزيد كثيرآ ما درس بعض السودانيين التوحيد وعلوم الدين الإسلامي في الأزهر بمصر (رواق السنارية مثالآ). كما حفلت الساحة قبل قرون عديدة خلت بأعداد لا حصر لها من المتصوفة القادمين من بلدان أخرى. كان الدين حاضرآ في حياة الناس. كما أن بنونة نفسها من قبيلة الجعليين المتصور انها متحدرة من العباس عم النبي محمد.

بل بنونة من قمة أسر النبلاء في القبيلة، أسرة الملك نمر، هي بنت المك نمر، زعيم القبيلة أي فارسها الأول بلا منازع، وقبل ذلك حفيد "العباس". برغم كل هذا. لا توجد أي إشارة في مرثية بنونة تؤمن بالقدر أو ترجو في "آخرة" كما لا يوجد تهليل أو تكبير أو جهاد بالمعنى الديني للكلمة. ففي مرثية بنونة هناك فروسية لا غير. خلاصة قيم دنيوية سامية.

فبنونة ترى الحياة في الفروسية، الحياة التى لا موت فيها. لهذا عندما مات أخوها موتآ طبيعيآ بفعل المرض لا السيف، رأته يموت. وما كانت ترجو له الموت!. كانت توده حيآ في قيمة الفروسية. فالفرسان الميتون في ميدان القتال لا يحسبون موتى. انهم أحياء يرزقون لكن ليس بالمعنى الديني بل بالدنيوي. انهم يعشون في قيمة الفروسية. كيف؟.

القيمة تورث للإبن أو الأخ وهكذا. وهو نفسه السر في تحدر بنونة من أسرة نبيلة، من أسرة فارس بن فارس أبآ عن جد. بنونة بنت المك نمر بن الفرسان "وارثين الشطارة". إن مرثية بنونة ليست مجرد حزن على عزيز، بل أكثر من ذلك. وليست مجرد فخر بفروسية أخيها الراحل بل أكبر من ذلك. فعندى أن مرثية بنونة تعادل "الإستئناف" في لغة اليوم أى مراجعة الحكم الصادر من محكمة .

أرادت بنونة بكل بساطة أن تقول: نعم لقد مات أخي "عمارة" الفارس خارج ميدان القتال، ولكن نسبة لتميزه وتفرده في القتال في حياته السابقة من قبيل (الخيل عركسن ماقال عدادن كم.. فرتاك حافلن ملاي سروجن دم) و (إن وردن بجيك في أول الوردات.. مرنآ مو نشيط إن قبلن شاردات ).

بالتالي ترجو من الناس "القضاة" إعتباره حيآ أي ضمه الى قائمة الأحياء في قيمة "الفروسية". وعندها فقط يستطيع أخوها "عمارة" أن يضيف سهمه في مسيرة نبل الأسرة كما بالتالى "العشيرة". ولقد فعلتها بنونة. معظمنا يعرف الآن أنه كان هناك فارسآ مغوارآ إسمه عمارة وهو ود المك نمر وأخو بنونة وأنه جعلي "حر").


إنموذج لصراع أو حرب القيم في صورة Stereotypes

كثير ما نسمع بعبارات مثل: عريبي، وراعي غنم، وروسي، ودرويش، وحلبي وعب. وهي بالقطع ألفاظ شتيمة هدفها تحقير وتقليل شأن من يرمي بها ونبذ سلوكه أو/و مظهره أو/و ملامحه الجسمانية. إنها ألفاظ قيمية تجد خلفيتها في قيم إجتماعية محددة تفرتض في ذاتها النقاء والكمال.

هل نحاول أن نتقصى منطلقات تلك الألفاظ القيمية؟.

من يقول لمن أنت "عريبي"؟. إذا علمنا أن المقصود بالعريبي إنسان ما ربما كان يلبس ملابس تقليدية من شاكلة عراقي وسروال أب تكة ومركوب ويتحدث بصوت جهور "عالي" ويتلفظ بكلمات صريحة "خشنة" ويتحرك بلا أجندة "تلقائي" عندها سنعلم بصورة جلية أن ذاك الحكم صادر من شخص آخر متمدن "من مدينة" أي صادر من خلفية قيمية عقلانية. والأمر ذاته يكون بالنسبة للفظ الذم "راعي" ويقولون سلوك رعوي. كما أن كلمة "روسي" كانت مستخدمة في جامعة الخرطوم لتؤشر إلى الطلاب المنحدرين من الأرياف البعيدة متضمرة الشك في صحة مظهرهم ومخبرهم با يعني بعدهم عن منظومة قيم العقلانية. وللفارس أحكامه الذامة بشدة للمتمدن من قبيل: الرجل: فسل، ما عندو نخوة عديم مروة، جبان، ما راجل، ما عندي كرامة، فارغ، بتاع قشور و مظاهر " والرجال ما تقيسها بتيبانها ما يغرك لباسهم والعروض عريانة" إلخ. والمرأة المتمدنة يتم التشكيك أيضآ في مخبرها كما مظهرها من قبيل ما "بت قبائل" صايعة متقرضمة وتشبه الأولاد إلخ. إنها حرب منظومتي المدينة و الريف... قيم الموضوعية "العقلانية" و الجسدانية "الفروسية" في مواجهة بعضهما البعض.

غير أن لفظي "حلبي" و "عب" يقفان في النقيض. إنهما لفظان يذمان الملامح الجسدية. اي ذم "الدم". ويبقى من الواضح أن قاعدة إنطلاقهما تبقى منظومة قيم الفروسية "الريف" لا الموضوعية "المدينة". وذم الدم يقتضي بالضرورة ذم جميع الصفات والسمات البشرية .. من قبيل "لا تبول في شق لا تخاوي العب الشق حساي و العب نساي". (وتلك هي سدرة منتهى العنصرية الجوفاء والبليدة ومن الأدلة المادية الواضحة على الشقوق المجتمعية الضاربة في الأصالة والتي وجب علينا الآن ردعها كل ما سنحت الفرصة وبلا هوادة).

و لفظ "درويش" حكم ذم مشترك تتقاسمه منظومتي قيم الفروسية والعقلانية. فالحكم بدروشة شخص ما من باب الذم يمكن أن يصدر من راعي أغنام من فيافي كردفان أو موظف بنك عتيق من سكان حي بيت المال بأمدرمان. والمقصود به الإشارة السالبة إلى مظهر أو سلوك غير منظم من المعتقد أن تكون مرجعيته من حيث الحقيقة أو المجاز منظومة قيم الغيب.

كما أن لمنظومة قيم الغيب بدورها أحكامها الذامة للآخرين لكن دون أن يكون المظهر أحد مواضيعها بل السلوك وحده كالإسراف في الأكل والشرب أو النوم أو الكلام ... (هنا الحديث عن جزئية التصوف من منظومة الغيب) إذ أن المنظومة القيمية الواحدة في ذاتها ليست بالضرورة كتلة صماء ومتجانسة على الدوام. فالقيم الواقفة خلف تمظهرات الكجور تختلف بعض الشيء عن تمظهرات "المسيد" كما الكنيسة تخلف بقدر محدد عن قيم المسجد مع أنها في نهاية المطاف كلها تمظهرات إجتماعية يستند وجودها في الأساس على قيم الغيب.


وبالقطع هناك عدد من الأحكام المسبقة Stereotypes
لا حصر لها تجد خلفيتها في واحدة من المنظومات القيمية في مواجهة الأخرى أو الأخريات من منظومات القيم. وما الأمثلة التي سقتها أعلاه سوى محاولة مقتضبة لتصوير ما أسميته بحرب القيم.

لدى الرابط أدناه قصيدة شعرية (صوت وصورة) يترافع عبرها أحد الشعراء عن أهل الريف في مواجهة هجوم أهل المدينة وتهكمهم على سلوك ومظهر أهل بادية البطانة (فيها أيضآ تعديد وتصوير وتجسيد لقيم الفروسية):

https://www.youtube.com/watch?v=ApxYyyObB9Q

يتواصل..

محمد جمال الدين
آخر تعديل بواسطة محمد جمال الدين في الاثنين مارس 25, 2013 7:09 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

المعادلة في فضائي الزمان والمكان:

جدل الهوية وصراعها يقومان في المستويين التحتي والفوقي للمجتمع المدني " الأفقي والرأسي" كما في مستوى الزمكان. أي المستوي القيمي والمستوى الرؤيوي الذاتي = المجتمع المدني و المستوي الرؤيوي الكلي = الدولة. والأمر لا يقف هنا بل يمضي في تعقيد أكبر بشكل مستمر كون كل هذه المستويات تعيش في جدل مستمر مع بعضها البعض.

فالمنظومة القيمية الواحدة تبقى في حراك مستمر في كتلتها الذاتية كما تكون في جدل وصدام دائم مع المنظومات القيمية الأخرى. وجدل الذات وصراع الآخر يعتمل الموت والحياة ماديآ ومعنويآ. وتأتى الرؤى الذاتية كبنية إجتماعية فوقية لتبقى بدورها في جدل ذاتي مستمر في كتلتها المفردة وصدام مع الرؤى الأخرى من ناحية وجدل وصراع دائم مع القيم الإجتماعية للبنية التحتية من ناحية أخرى ومع الدولة في نهاية المطاف. وهو أمر يعتمل الموت كما الحياة . وفي نهاية الأمر تأتي الدولة (تتشكل ويعاد تشكيلها بشكل مستمر) وتبقى أيضآ بدورها في جدل ذاتي في إطار كتلتها الذاتية المفردة وفي صراع مستمر مع الرؤى الشتيتة للعيش المشترك "البنى الفوقية للمجتمع" من ناحية وفي صدام محتمل على الدوام مع القيم "البنى التحتية للمجتمع". كما تبقى الدولة أيضآ في جدل وصراع دائم مع الدول الأخرى في محيط زمانها ومكانها. وهو أمر بدوره يعتمل الموت كما الحياة. وهكذا تدور الدائرة في محيطها. وإن جاز لي أن أجد تشبيها ماديآ للأمر فمن المحتمل أن أقول أن المكان هو قطر تلك الدائرة والزمان محيطها.

يتواصل....
محمد جمال الدين
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »


2- جدلية القيم والرؤى

ملاحظة هامة: "القيم" تعبير عن البنية الإجتماعية التحتية ومن أمثلتها القبيلة والطريقة الصوفية والنقابة العمالية و"الرؤى" تعبير عن البنية المدنية الفوقية وهي الآيدولوجيات متجسدة أي متهيكلة ومن أمثلتها حزب الأمة وكيان الأنصار، الإتحادي الديمقراطي، الحزب الشيوعي السوداني، مؤتمر البجا، الحركة الشعبية لتحرير السودان والمؤتمر الوطني.

في بوست المجتمع المدني ضربت مثالآ بالتحولات التي حدثت في البنية الإجتماعية التحتية في منطقة جبل أولياء في منتصف القرن الماضي وكيف أدى التحول في مستوى القيم إلى تغييرات جوهرية في سلوك الناس وطريقة أخذهم للحياة وفهمهم لها. ذلك التغيير الذي طرأ على قيم الناس كان سنده في التغيير الذي حدث في طريقة معاش الناس وسبل بقائهم وأمنهم ورفاهيتهم. عملية التحوير والتغيير اللتين حدثتا في مستوى "القيم" رويدآ رويدآ كانت مشعورة وجارحة جدآ وبطريقة مباشرة لجدي على ود حامد أحد زعماء عشائر الجعليين بجبل أولياء. لقد كان أمرآ يهدد سلطة جدي الزمنية بطريقة مباشرة. مما قاده إلى تبني تكتيكات مختلفة لمقاومة المد "القيمي" الجديد الوافد من المدينة. لكنه لم يستطع، الموجة كانت عاتية جدآ فوق طاقته!. لقد هزم جدي بطريقة نكراء وتحول من زعيم عشائري عظيم إلى رجل عجوز موصوف بالتخلف والرجعية والأمية من الأجيال الجديدة.

لنري كيف حدث هذا ولماذا؟.

يتواصل...

محمد جمال الدين
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »




مأساة الفارس على ود حامد

من وحي حديثي هنا عن جدلية "القيم والرؤى" خطرت لي حكاية واقعية حكتها لي "أمي" بطلها أحد أعمامها : على ود حامد (فارس من الجعليين). حكاية صغيرة لكنها في غاية الشطط.


في حوالي العام 1944 رفض على ود حامد هذا رفضآ قاطعآ خطة حكومية لإنشاء مدرسة إبتدائية هي الأولى من نوعها بمنطقة الجعليين في جبل أولياء. بحجة أن المدرسة "عنده" ما هي بشيء سوى دعوة صريحة للمثلية Homosexuality !.

إذ قيل أنه نهض متسائلآ ومتعجبآ وغاضبآ مخاطبآ المبعوث الحكومي، قائلآ : يعني عايز تسوي أولادنا "مايلين"*!.

وبناءآ عليه فقد تم بناء المدرسة في مكان آخر يبعد عدة كيلومترات من المكان الأول الذي خطط لها. وعلى النقيض من ذلك فإن جدي هذا لم يكن يرفض الدراسة في الخلوة برغم أنني لم أسمع بأنه كان متدينآ. بل على النقيض كان فارسآ مغوارآ ويشرب المريسة كل يوم. وأعتقد أن السبب هو أن دراسة الخلوة لا تشكل تعارضآ مع مرموزات القبيلة وقيمها.

بعد مرور كل هذه السنوات أستطيع الآن أن أخمن لماذا فعل جدي ذاك ما فعل؟. إن الأمر لا يستقيم أن يكون بتلك البساطة التي حكتها لي أمي وما يزال البعض يرويها بتهكم!.

في الغالب ما كان جدي متشككآ في أن المدرسة قد تشكل تهديدآ حتميآ لقيم القبيلة و ما المثلية Homosexuality التي قال بها إلا الترميز في حدة، كون المثلية تمثل النقيض ل"الضكرنة" أي الرجولة وهي من أسطع قيم القبيلة. والإحتمال الأكبر عندي أن جدي كان عنده قناعة ذاتية فطرية بأن المدرسة قد تؤدي بالأولاد الى مكانة يعصون فيها أباءهم وجدودهم بحكم حصولهم على معلومات ومعارف ورموز وافدة من المدينة. الشيء الذي قد يمثل تهديدآ مباشرآ لقيم "الفروسية" ما قد يقود الى هدم الهيكل فتختفي المنظومة الإجتماعية التحتية أي العشيرة في هذه الحالة. أي فإن جدي كان يرى في المدرسة "مؤامرة" متضمنة فعلآ رادكاليآ مدمرآ لبنية العشيرة وإستمراريتها .وقد كان جدي ذو حدس ثاقب ومحقآ جدآ في سياق "نظرية معرفته" الشيء الذي أكدته الوقائع اللاحقة كون المدرسة مقدمة حتمية لفرع محتمل من فروع مؤتمر الخريجين ( قيم جديدة مضادة للقبيلة) والتي يعمل أحمد خير المحامي على إنشاءها في الأقاليم وهي بالقطع تكون تلك ال Homosexuality عند "جدي" تمشي على قدمين!. وأحمد خير رجل معروف بعدائه الحاد للقبيلة والطائفة الدينية. فهو كان عدو جدي بلا منازع.

قلت أن جدي كان محقآ في رفضه للمدرسة الحكومية وفق نظرية معرفته. لقد أكدت الأحداث المقبلة صدق حدسه. فقد درس بتلك المدرسة ثلة من أبنائه وأحفاده بالمعنى العريض للكلمة. فحدث ان كانوا هم أول من أدخل "البنطال" في بلدتنا بدلآ من الجلابية والعمة والسروال البلدي وما تبع ذلك من تخليهم عن لبس "السكين" في الضراع وحمل "العكاز" فوق الكتف إضافة الى إهتمامهم الفائف بالنظافة مما يجعل منظرهم في عين جدي أقرب ما يكون الى البنات منه الى الرجال. وكانوا أول من دخن السجائر متخلين عن "الحقة" السعوط. وأصبحوا يستاكون بالفرشاة والمعجون بدلآ عن مسواك الأراك. و لبسوا ساعة اليد مرة بالشمال وتارة باليمين. كما أنهم تخلو عن "البطان". وعندما يأخذ الغضب بهم مأخذآ شططآ لا يقول أحدهم للآخر "ببعجك" (إشارة للطعن بالسكين) وإنما يقول له بديك "بنية" box. وأصبحوا بدلا عن "العرضة" في الأفراح "يسكسكون" (يرقصون بالطريقة الأفرنجية). كما أصبحوا يبغضون أكل العصيدة مع السمن أو "الروب" والكسرة (من دقيق الذرة) مع الويكة وحبذوا أكل الرغيف (من دقيق القمح) مع الفول المصري والبيض والكبدة وما إلى ذلك. والأسوأ من كل هذا لقد أصبح رأيهم في جدي سالب جدآ. إذ أنهم يكنون له بالغ الإحترام كأب وجد ولكن مع ذلك كثيرآ ما ينظرون إليه كشخص أمي ومتخلف out-of-date.
وأصبحو لا يفخرون كثيرأ بأصولهم الجعلية ولا يتحدثون كثيرآ عن نسبهم وأصولهم النبيلة بالقدر الذي كان يحدث في السابق. وعندما يقسمون "يحلفون" لا يقولون كالسابق "وحات رأس أبوي" أو "وحات تربة أمي" أو "علي بالطلاق" أو "طلق" أو "علي بالحرام" وإنما يقولون "وحيات ديني وإيماني" أو والله العظيم. كل هذه الإنقلابات المفاجئة جعلت جدي في حالة من الحزن والأسي وأرق الخاطر من مصير مجهول يتهدد نسله. كون بالإضافة الى كل تلك المآسي فإن هؤلاء الرجال الجدد أخذوا يمتهنون مهنآ هامشية وضيعة في نظر جدي مثل الأعمال المكتبية والحدادة والنجارة الخ. وتركوا مصدر الرزق الشريف والمشرف وهو الرعي في المكان الأول ثم الزراعة (الإقتصاديات التي عرفها جدي من الجدود وجربت في ضمان عيشهم وحفظ كرامتهم).

وأخيرآ جرى أمر بالغ الخطورة: "آيديولوجي"!. لقد تعاون هؤلاء الرجال الجدد مع حزب الأزهري "الوطني الإتحادي" حزب الأفندية. وكان من نتائج ذاك التعاون أن الرجل الذي فاز في الإنتخابات البرلمانية لعام 1953 بأعلى نسبة من الأصوات في دوائر الخريجين "دوائر الأفندية" فاز في الإنتخابات البرلمانية اللاحقة بتفوق ساحق في دائرة جغرافية هذه المرة هي دائرة جبل أولياء (مسقط رأس جدي) وهو الأفندي مبارك زروق مع انه ليس من أبناء المنطقة. لكنه المحامي "المديني" الأفندي المثقف، خريج كلية غردون التذكارية، أول وزير خارجية للسودان المستقل، الرجل "القيافة" ذو ربطة العنق "الفراشة" والذي غنت له بنات الخرطوم "عيون زروق جننونا".

الحياة لم تصبح أفضل في بلدتنا بعدما تم تبني قيم المدينة بل أصبحت أسوأ. إذ أن غزو المدينة لبلدتنا بمرموزاتها "المدينية" المنوعة شكل ضربة قاصمة لا لقيم العشيرة وحدها بل لهدف وجود العشيرة من الأساس ولبنيتها الهيكلية. دون أن يكون هناك بديلآ واضحآ يضمن بقاء ومعاش وأمن ورفاهية الناس. لقد تحدثنا أعلاه عن تجسد التحول في منظومة القيم عند المظهر الخارجي للرجال الجدد في بلدتنا. غير أن ذاك الشكل الخارجي للأشياء كان تحته القدر يغلى. إذ حدث تحول لا مثيل له في تاريخ بلدتنا فيما يتعلق بالانشطة المعيشية (الإقتصادية) وثقافتها. فتحول الإقتصاد من الرعي والزراعة الى الخدمات والتجارة بشكل أساس في كل منطقة جنوب الخرطوم ومن ضمنها جبل أولياء حاضنة بلدة الجعليين هذه. ولما لم يكن جعلي جبل أولياء أولي خبرة راسخة في الشكل الإقتصادي الجديد الوافد (كونهم في الأصل هم رعاة ومزارعون) فكانت النتيجة أن تحولوا من أهل عز ورغد عيش بفعل قطعانهم ومزارعهم في الماضي إلى حالة أشبه بالإملاق بنهاية الستينات من القرن الماضي.

وجاء قوم آخرون غالبآ ما كانوا مهاجرون من أرجاء السودان الأخرى أكثر رسوخآ في "الأفندوية" والتجارة فأكلوا على حين غرة الكتف. وتدحرج أهل بلدة جدي إلى الأدنى معيشيآ ثم الأدنى. ستجد ما قاله جدي محسوسآ هذه الأيام إذ أن منطقة الجعليين كانت قبل سبعينات القرن الماضي هي أغنى منطقة في جبل أولياء على الإطلاق من الناحية الإقتصادية والأرغد عيشآ والأكثر أمنآ والأغني قيمآ. أي كانوا أهل العز وبلا منازع!. وكانو ينظرون إلى سكان حجر جبل أولياء مجرد ضيوف وافدين لا حولة لهم ولا قوة. ويمدون لهم يد العون كل ما دعت الضرورة. إذ كانت ظروفهم المعيشية في غاية السوء مقارنة بمنطقة الجعليين. لكن إنقلابآ مفاجئآ في الأمور قد حدث كما قلنا أعلاه. إنقلاب عنده مبرراته الموضوعية. هل تتخيل معي أن بعض ناس الحلة الجديدة وحي التجار وديم البساطاب يسمون منطقة الجعليين في الوقت الراهن "الحلال" أو ناس البحر أوناس الشجر وكل ذلك يتضمن تصور مبسط للأمور أنهم أقل شأنآ من الناحية الإقتصادية وربما المزيد!. وهو أمر قاومه جدي على ود حامد بكل ما يملك كي لا يحدث. لكنه حدث!.

كانت تلك نتيجة المدرسة "وفق نظرية جدي". وقد تكون!. كونه لم تكن هناك خطة واضحة لماذا مدرسة؟..

كان الأفضل أن لا تقوم مدرسة في بلدتنا وإلا وان تحتم ان تقوم وجب ان تكون مدرسة تدرس الرعي والزراعة (مصدر معاش العشيرة آنذاك) لا غير. حينها فقط أتصور أن جدي كان سيقبلها . وعلى كل حال فقد أثبتت الوقائع العملية أن فكرة جدي ليست مجنونة تمامآ. وإنما مغزى حديثه هو أن "المدرسة" لا تشكل بديلآ للحياة الواقعية بل هي تزييفآ للواقع ما دامت لم تكن جدلية حقيقية مع الواقع .. ولم تكن في حينها!.

يتواصل... (صراع القيم والرؤى)...

محمد جمال الدين
--------------------
* مايلين = Homos مع أن جدي قالها عارية وبالدارجة... أوردتها كما هي عند البوست المعني، تحريآ للدقة!.
آخر تعديل بواسطة محمد جمال الدين في الاثنين مارس 25, 2013 7:03 pm، تم التعديل مرة واحدة.
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

ملاحظة ما حول اللائحة التي أعني:
المجتمع المدني = كل حراك جمعي هيكلي أولا هيكلي يقوم خارج منظومة الدولة وفق هدف وقيم ولائحة على مستوى بنيته التحتية وعلى رؤية "آيدولوجيا" في مستوى بنيته الفوقية.
القيم واللائحة والرؤى هم عندي اختزال للدين والثقافة (وعلى وجه الإطلاق) والتجربة الإنسانية العملية والعلمية و النفسية والجمالية في مجملها.
فلكل تمظهر مدني لائحة (مكتوبة أو غير مكتوبة) سواءآ أكان ذاك التمظهر تحتيآ أو فوقيآ كما للدولة بالطبع لائحة "دستور".

يتواصل....

محمد جمال الدين
أضف رد جديد