كلية الفنون وشريط الذكريات

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
Ahmed Sid Ahmed
مشاركات: 900
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 3:49 pm

مشاركة بواسطة Ahmed Sid Ahmed »

سلام يا عبود وحسن وصلاح. وآسف للإنقطاع الذى فرضته ظروف.

كنت قد كتبت رسالة - إيميل - لصديق معتذرا عن عدم التواصل بقولى " القلم ليهو رافع "
فجاءنى رده قائلا " القلم ليهو دافع ".!
وها أنتم تحفزون وتدفعون وتشوقون للتواصل والمشاركة. أثرتم أشجانا وذكريات يصعب
كبحها. وأيضا يحتاج لم أطرافها لهذا الجهد الجماعى.

عصام قال :
" فاحكوا بالله ، اعيدوا سيرة البوست القديم ، والود القديم ( كما يمكن ان يستطرد أحمد سيدأحمد)...........
..." لقيتو شنو
اتوقعتو شنو
اكتبو فى المودة
لاقينها انحنا وين" إنتهى

ويا عصام ،كاتب و قارئ ومشارك حميم وهميم زيك لاقينو أنحنا وين؟ سنكتب لأنك تشجع على الكتابة.
وإنت برضو أكتب. الشفتو شنو ، والسمعتو شنو؟ والعجبك والما عجبك شنو. ومن ياتو موقع. صلاتك و صحابك من
من ناس الكلية.
وسأعود كتابة ورسم . وجاهز " موية وزيت "! والقلم جاهو الدافع. وقول يا رافع.
صورة العضو الرمزية
ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ
مشاركات: 487
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 12:26 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ »

يا أحمد ولد سيد الحمد
ياخي وين النور أحمد علي ...
إن شاء الله تكون صحته كويسة الآن...
مشتاقين والله لقلمه المبدع ... في شريط الذكريات ...

وبالمناسبة أنا ضربت تلفون لبشير زمبة ودعيته للإشتراك في سودان فور أول والمساهمة معنا في الكتابة ... وعلى الأقل يقرأ ...
الحرية لنا ولسوانا
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

سلام يا جماعة الخير، كما يقول عرب الخليج.
شغلتنا عنكم "الدنيا أم قدود" كما تتواتر مرارًا إشارات حسن موسى إلى هذا التعبير.
ورد في كتاب الطبقات عن الشيخ حمد ود الترابي قول شاعره: "الدنيا أم قدود طلّقها في سابع سما علّقها". أما أنا، العبد المفتقر إلى مولاه، فلا زالت الدنيا أم قدود تمسك بتلابيبي وتمنعني أن أرى ما أحب أن أرى، وأن أحس ما أحب أن أحس، وأن أسمع ما أحب أن أسمع، وأن أفعل ما أود أن أفعل. ولو كان لي الخيار لعبرت بحر عمري كاتبًا، لا غير. ففي كل معبرٍ ومنعرج من معابر ومنعرجات حياتي، أقول: سيجيء الوقت الذي أجد فيه الفرصة لأفعل ما أريد فعله حقيقة. غير أن ذلك الزمان لا يجيء، وقوى الجسد تتهاوى تحت معاول الزمن، ومع ذلك يبقى الأمل قائمًا. وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!.

وأعود لخيط التشكيليين عن ذكريات كلية الفنون الذي افترعه عبود. وهي ليست ذكريات وإنما reflection، وتفكُّر في ما قطعناه من هذه الرحلة المضنية. حين أنظر إلى قائمة المشاركين في سودانفورآل، والبلدان التي انتهى إليها هؤلاء المشاركون، أقول في نفسي يبدو أننا لم نستوعب بعد فداحة الكارثة التي ألمّت بنا! ولربما لن يتيسر لنا أن ندرك تمامًا فداحتها، فحلقاتها لا تزال تتابع وتنداح.

الزمان الذي ربط بين نهاية الستينات وبدايات السبعينات من القرن الماضي، كان زمانًا شبيهًا بحالة الحلم، والحق أن الحلم والواقع نطاقان متداخلان، بل هما، لدى التحقيق، شيءٌ واحد. حينها، كنا في فورة الشباب ننعم بطاقةٍ لا حد لها. وكان العالم حينها في جملته طازجًا، منتعشًا، وواعدًا، أو لعلنا كنا، بفعل هرمونات الشباب الدافقة في عروقنا، مستيقنين أن الغد سيكون حتمًا أفضل من اليوم، وللكيمياء في أحوال الإنسان شؤون! لحظتها كانت الوعود الدفيئة تتلامع بروقها عند حافة الأفق، فآمنا بها وحثثنا رواحلنا صوب وجهتها. ولربما يكون قد غرر بنا حينها الفكر المترجم الذي غرقنا فيه، ولم تتضح لنا، أحابيل المكر المندرجة في ثناياه إلا بعد وقتٍ طويل. الشاهد، كلما تقدم الزمن بنا، كلما أصبحت البروق التي تلامعت لنا عند حافة الأفق بروقًا خُلّبا.

نسج إبن عربي على منوال أحد سابقيه فقال:

عهدي بمثلِك عند بانك قاطعًا، ثمرَ الخدودِ، ووردَ روضٍ أينعِ
كل الذين رجـوْا نوالَك أُمطروا، ما كان برقُكَ خُلّباً إلا معي!

(نظم إبن عربي البيت الأول أعلاه ضمن قصيدةٍ كاملة. أما البيت الثاني الذي استعاره إبن عربي وضمنه قصيدته، فهو لشاعرٍ آخر).

يحب الإنسان أن يصل بفكره إلى نهاياتٍ يرتاح عندها، ولكن لا نهاياتٌ ولا راحة. ومع ذلك، كانت حقبة الستينات حقبةً شديدة الوهج في الحياة المعاصرة، وهذا ما جعلها تشد الكثيرين إليها بخيوط الحنين. وتوهج الستينات أمرٌ أجمع حوله باحثون كثيرون عبر أقطار العالم. نعم، كانت حقبة الستينات من القرن العشرين، حقبةً متوهجةً بحق، ولقد شمل توهجها كل أرجاء الكوكب. كان العالم لحظتها دافئًا مثل بيضةٍ ولدتها السماء لتوها. خرج الناس من أتون الحرب العالمية الثانية وظنوا أنهم قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الفردوس المفقود الذي ظل مجرد حلم مؤجلٍ عبر حقب التاريخ الدامية. لحظتها كان جيفارا يجوس في أحراش بوليفيا، حالمًا بهزيمة الإمبريالية، وكان الأمريكيون يصلون الفيتنام سعيرًا، في جنونٍ وعدم اكتراثٍ بالحياة الإنسانية، لم يشهد له التاريخ شبيها. وكان الروس يتباهون بيوري قاقرين وفلنتينا تريشكوفا وبطائرات الميج وصواريخ سام، غير مدركين نقص الحريات، ونقص الطعام، وأن ما يفصل بينهم وبين انهيار منظومتهم ليس سوى عقدين أو ثلاثة. وفي الشرق الأوسط كان عبد الناصر يلعلع من المذياع ليل نهار، غير مدركٍ أن السادات سيكون خليفته في بضعة أعوام. ووسط كل ذلك الهيجان والغليان، كانت روائح الخيانات البلجيكية الإفريقية تفوح من الأدغال الإستوائية، ويتم جر باتريس لوممبا إلى حتفه في عتمة الغابة الكونغولية، ليصعد موبوتو ويشرع في نهب ثروات الكونغو مع أولياء نعمته من الأوربيين، ثم يموت طريداً بعد ثلاثين عامًا أمضاها في ممارسة عبثية لحيل البقاء. أيضًا، في هذا الأتون الكوكبي المزمجر يشعل الطلاب ثورتهم في أوروبا، ويثور الجدل حول مآلات التحليلات الماركسية، ويوزع سارتر منشوراته في مقاهي باريس بنفسه، ويغرق البير كامو في أزماته النفسية البرجوازية. ويقلب الهيبز في غرب الأطلسي ظهر المجن للرأسمالية وطرائق عيشها، وتدخل الإف بي آي في حيص بيص. وفي السودان يسافر الأستاذ محمود محمد طه على الدرجة الرابعة بالقطار متنقلا بين عواصم الأقاليم داعيًا إلى مدنية إسلامية جديدة ترث الحضارة الغربية المادية بشقيها الرأسمالي والشيوعي. وفي عالم الفن الموازي، يواصل بيكاسو تهريجه في باريس، ويزدهر الكاريكاتير الإجتماعي في مصر في قبضة الديكتاتورية الناصرية، ويدخل صلاح احمد إبراهيم غابة أبنوسه، ثم يعلن غضبة هببايه، ويسافر ود المكي والنور عثمان أبكر إلى ألمانيا، ويعود السمندل إلى سناره الطينية التي ماصت قصورها أمطار السافنا.

ثم تأتي السبعينات، ويصبح شيوعيو اليونان قاب قوسين أو أدنى من السلطة، ويزور ميكي ثويدوراكس الخرطوم، ويحتفل اليساريون بفلم "زد"، ويقدم عبد الله علي إبراهيم ثيودوراكس للجمهور السوداني الذي غصت به دار الثقافة في الخرطوم. تلكم هي الأيام التي شاهدنا فيها في سينما كولزيوم أفلام الكتلة الإشتراكية مثل الفلم البلغاري، Farewell Friends والروسي "المدمرة بتمكن". جئنا إلى الخرطوم بعد عام من قصف الجزيرة أبا، وقتل الإمام الهادي، وبعد عامٍ واحدٍ فقط شهدنا إعدام قادة الحزب الشيوعي السوداني والعسكريين الموالين لهم. يومها كنا في الجريف غرب في حالة محنة في منزل شريف عبود شقيق خلف الله عبود. يجلس بيننا، واضعًا كفيه على رأسه المرحوم عبد الله محسي قريب آل عبود. لقد كانت حقبةً اختلطت فيها المرارات والفواجع بزهو الشباب وأحلامه الوردية، وبالقدرة على النسيان السريع والاندماج في مجرى اليومي والمعتاد من جديد.

هذه هي حالة المسرح الذي سبق مجيئنا إلى كلية الفنون الجميلة في الخرطوم، وحالته التي أعقبت مجيئنا إليها، وعيشنا فيها على حافة غابة السنط بين بداية السبعينات ونهاية النصف الأول منها. تلك هي الخرطوم التي كانت تقف على شفا الانهيار الملحمي الذي ألم بها.
(يتواصل الحديث).
آخر تعديل بواسطة Elnour Hamad في الأحد مارس 10, 2013 10:30 am، تم التعديل مرة واحدة.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ
مشاركات: 487
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 12:26 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ »

الأخ والصديق العزيز النور محمد حمد
سعادتنا لاتوصف بمشاركتك القيمة ... لقد توجت الموضوع بخلفية تاريخية لازمة لذكرياتنا أو قل الريفلكشنز والتفكر في أمرنا، كما ذكرت ... في تلك الحقبة الغنية من حياتنا ...

أهو يا صديقي أحمد سيد أحمد دخل علينا كاتبا من أفضل شهود العصر سلس الأسلوب، بعد أن كدنا نيأس من المشاركات ...
الحرية لنا ولسوانا
عادل السنوسي
مشاركات: 839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:54 pm
مكان: Berber/Shendi/Amsterdam

مشاركة بواسطة عادل السنوسي »

خلف الله عبود كتب:شكرا للصديق العزيز أحمد سيد أحمد على إفتراع هذا الخيط الذي لن أمل من الكتابة فيه ... والذكريات ذات طعم خاص لمن يجترها .. واضم صوتي لأحمد في الدعوة للزملاء في المنبر للكتابة عن كلية الفنون وجوها العجيب...
العزيز عادل السنوسي
شرفت البوست ونرجو المشاركة في الخيط بإنطباعاتك عن كلية الفنون وما تراه ...

نواصل...


----------------------------------------------------------

الأخ العزيز خلف الله ، سلام و1000 تحية، قرأت دعوتك الكريمة للمشاركة في هذا الخيط في وقتها ، ولكني لم افعل تردداً، ويبدو لي بأن ترددي كان ليس بدون داع، لأني رجحت بأنكم انت والأخ احمد سيد احمد ستتناولون ( طبيعي) فترة سابقة لعهدي بكلية الفنون، و لقد صدق حدسي. فأنا تخرجت فيها حديثاً( وجه ضاحك) عام 1981 ، يعني لست بقدركم ولا لحم سدركم ايها الديناصورات! ولكن صدقني فأنا في غاية الاستمتاع بمتابعة سردكم الجميل، وبدلاً عن المشاركة و التشويش عليكم بذكرياتي الخاصة عن فترتنا اللاحقة- و ربما افعل في المستقبل في بوست مستقل - سأتداخل معكم بين الفينة والأخري في هذا البوست الممتاز، خاصة اني اعرف الكثير من معاصريكم ، و علي رأسهم الراحل عثمان حامد الفكي وهو استاذي في بربر الثانوية، وقبله الاستاذ الراحل بدوره الاستاذ ابراهيم قرني، و محمد مختار الذي عرفتة في مدارس وكليات شندي( رحل ايضاً) وخضر ابوطربوش اطال الله في عمره ، وغيرهم كثر.

تحياتي عبرك يا استاذ خلف الله الي ابني اخيك احمد الشريف وعصام عبود، فقد عرفتهما في نيروبي و اقمنا معرضاً مشتركاً هناك في اواخر عام 1996.
الفاضل البشير
مشاركات: 435
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:56 pm

مشاركة بواسطة الفاضل البشير »

سلام الجميع, وبعد
كان بدر الدين حامد الامين الابداع نفسه فى كل شئ. وقد اختار ان يهتم بكلبة ضالة بين كلاب ضالة فالفته.
اطلق عليها اسم قجونا.
يكون فى المقهى فى لمة الشايات والافطار فينادى متى ما اراد : قجونا. فتاتي من اين؟ لا ندرى وفى لمح البصر.
هذا وحده ابداع وهاكم النقلة فيما ابدع.
ينفرد بدر الدين بقجونا فى مكان ما ويعلق عليها شعارات دامغة ضد الكيزان. وياتى الى المقهى
وينادى قجونا.
تاتي قجونا ويضطرب الكيزان عن بكرة ابيهم.الشعارات تشتمهم وتسفههم وهم بلا حيلة.
وبعد ان بلغت قجونا القاصي والداني عن مخازيهم وتكرر الامرمرارا, اكتشفوا القوى الاجنبية التى تدعم العميلة قجونا.
اكتشفوا بدر الدين وكمنوا له كمينا.تفاجا بدر الدين بكثرتهم وشرهم فنظر يمينا ويسارا واخذ يرقص ويراقصهم فانفجروا بالضحك وانصرفوا عنه.
صورة العضو الرمزية
ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ
مشاركات: 487
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 12:26 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ »

العزيز عادل السنوسي
تحيلتي وشكرى على المواصلة.
لا أرى مشكلة كتابتك عن الفترة التي عشتموها أنتم ...وبالعكس فسوف نجد نحن فيها بعض المعلومات والأجواء التي لم نعاصرها والتي توثق لما بعدنا ... وهو أمر هام جدا لنا لتعرف ما آلت إليه الأحوال في كلية الفنون ونحلل ونقيم ... ونستمتع أييضا بذكريات مكان كانت لنا فيه أيام ... وتواصل الأجيال لا يخفى عليك ..
سأنقل التحية إلى أحمد الشريف ... وهو الآن أكبر مشجع لي على مواصلة الرسم والتلوين والعرض ... شفت كيف يكون التواصل بين الأجيال؟
ومعنا الآن سيف اللعوتة ولميس ( من الفنانات الأكثر شبابا والأحدث تخرجا)، وآخرين من الشباب وومن مازالوا طلابا في الكلية نتبادل الرأي في حضرة أحمد الشريف وفي مرسمه العامر.
ألسنا نجدد ما كان عليه أستاذنا الراحل العظيم حسن الهادي حينما كان يجمعنا في السبعينات حسن موسى والنور حمد وشداد ومحمود عمر وشخصي في منزله العامر يوم الجمعة حيث النقاش الحر والتواصل المبدع؟

وشوف كمان ... أنا عندي موعد مع أستاذنا الجميل عربي لزيارته وقد دعوت معي خريجة الكلية قبل بضع سنوات، إيثار عبد العزيز الرسامة المبدعة والتي كانت طالبة في الثانوي حينما كنت أعمل موجها للتربية الفنية في سلطنة عمان وإكتشفتها هناك ثم درست بكلية الفنون ... وسوف نعمل توثيقا لتجربة الأستاذ عربي في برنامج إيثار في قناة أمدرمان (قاليري).
أها بعد دا عندك كلام؟
الحرية لنا ولسوانا
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

جئنا إلى ذلك الركن القصي من مدينة الخرطوم نحمل بين جوانحنا خليطًا من صبىً ومن شبابٍ ريفي وشبه ريفي. جئنا من قرى، ومن أشباه مدن، كالأبيض والقضارف، وغيرها. وحين وصلنا، كانت الخرطوم لا تزال بها بقيةٌ من حياةٍ وبقيةٌ من رواءٍ مديني. كان اميز ما يميزها، وقتها، قلة الازدحام، وانتظام حركة المرور، وسيادة الأفندية عليها. وقتها، كانت الخرطوم مدينة موظفين. يخرج موطفوها "المنغنغون" إلى عملهم مهندمون معطرون. يؤدون عملاً قليلاً في المكاتب، ولكنه كان منضبطًا كثيرًا مقارنةً حدث لاحقًا. كان من بين موظفي الخرطوم قطاع معتبرٌ من سمار الليل الذين ينهون يومهم بالاتصال ببعضهم بعضا عن طريق التلفونات الجالسة التي كانت تعمل، تجهيزا لـ "قعدة الليل". أما القعدة فتكون في كازينو وحديقة رويال" في شارع السيد عبد الرحمن، شمال مستشفى الخرطوم. أو "الكوباني" في الجزء الجنوبي الغربي من السوق العربي شمالي داخليات الطب. أو في "الليدو" وهو مطعم على سطح بنايةٍ في وسط الخرطوم في الشارع المائل الذي يربط صينية الحركة بميدان الأمم المتحدة. كما يمكن أن تكون القعدة في حدائق الشاطئ بأمدرمان كـ "الجندول" و"الريفيرا". قوام هذه الجلسات أو "القعدات" الشري الذي يمثل شراب صغار الموظفين لرخص سعره. ومن ماركاته الشري "أبو بنت"، و"أبو تراكتورين"، و"السايبرسCyprus . ومن قوام تلك "القعدات" أيضًا السمك، والشواء، وسلطات جروف النيل. كان لسمار الخرطوم ليلهم، فالمدينة أصلاً كان لها ليلها. حين ضمتنا داخليات الإس تي إس، وحين نكون فارشين المراتب على بلاط ميدان الباسكتبول، هربًا من حر الغرف، نكافح البعوض في الهواء الطلق، ونغالب سآمات الليل، ممسكين بألجمة خيول شبابنا الجامحة، ونهمها للحياة الذي لا تحده حدود، وحين يبرد الليل قليلاً، وتهدأ الحركة، ويزداد نعاس أضواء الزئبق في شارع الغابة، وتخف حركة المركبات، وتبدأ ثرثرتنا في الخمود، ويخيم فوقنا الصمت، يحمل إلينا هواء الليل القادم من جهة النيل، بين كل لفحةٍ وأخرى، صخب الموسيقى الصادحة في "غوردون ميوزيك هول". هناك يسهر كبار الموظفين، والأجانب، وأهل الجاليات الذين عاشوا في خرطومهم التي لا علاقة لها بالسودان. كانت غوردون ميوزيك هول تعمل حتى ساعات الصباح الأولى. كان الجميع ساعتها يشربون، وهم لا يدرون، الأنخاب الأخيرة للمدينة الحزينة، التي توشك أن تتخطفها كف العفريت.

لم أسكن مع المجموعة المذكورة في داخليات الإس تي إس المحاذية لشارع الغابة، منذ البداية. وإنما سكنت، في البدء، في داخليات الحلة الجديدة. وحين استقر بي المقام فيها وجدت أن حظي العاثر قد أوقعني في غرفة واحدة مع زميل لي سابق من حنتوب تم قبوله معي في نفس العام، ولكن بالأقسام الهندسية، وهو زميل لم أكن أطيقه أبدًا. فحين كنا في حنتوب كنا نسكن في داخليتين متباعدتين، ومع ذلك كان وجوده يزعجني رغم قلة المخالطة. فإذا بحظي العاثر يجمعني به في غرفة واحدة (3 أمتار في 3 أمتار). أحسست أن ذلك الوضع قد ذهب كلية ببهجة مجيئي لكلية الفنون. ولطالما حلمت بالمجيء لكلية الفنون. فلقد كنت أراها مخرجي الوحيد من "بِلى السراويل على مقاعد الدرس"، كما قال جان آرثر رامبو. خاصة وأنني أتممت حنتوب بـ "الله ويامين" من فرط مقتي لحجرات الدراسة ونوع الدراسة. أحسست بالاختناق من سكني مع ذلك الزميل، وأصبحت أتهرب من الغرفة، وأمضي كل الوقت في البوفيه، وفي التجول، ولا أعود إلى الغرفة إلا ساعة النوم. كانت داخليات الحلة الجديدة أفضل بكثير من داخليات الإس تي إس. ولكن بالإضافة لزميلي في الغرفة، الذي لم أكن أطيقه، كانت هناك مشكلة البص والرحلة اليومية من الحلة الجديدة إلى المعهد الفني في الخرطوم غرب، على بصات التاتا الهندية - باكورة الصناعة الهندية وقتها. لم أمكث في الحلة الجديدة سوى أيام. وحين أذكر أيامي القليلة في داخلية الحلة الجديدة لا أسترجع سوى يومٍ واحد ارتبط في ذهني بذلك المكان. ذلك اليوم هو الثامن والعشرين من سبتمبر من عام 1970 حين خرج الطلاب من غرفهم وكأنهم أُعلِموا لتوهم بيوم الحشر، مرددين في أصواتٍ خافتة وجلة، أن جمال عبد الناصر قد توفي. أذكر أني ذهبت إلى ميدان أبوجنزير ووجدت هناك الخرطومي الشهير "الخزين" وهو ينتحب من مكبر صوته اليدوي الشهير الذي لا يفارقه. كان كل ما أمضيت في داخليات الحلة الجديدة بضع أسابيع قليلة، انتقلت بعدها إلى داخليات الإس تس إس، لتبدأ المرحلة العذبة الصاخبة، التي لم تستمر لأكثر من عام. ولكنه كان عاماً كألف سنةٍ مما تعدون.

كما تفضل حسن موسى جئنا إلى كلية الفنون من بقاعٍ شتى من السودان. جئنا إلى الخرطوم في لحظةٍ مفصليةٍ، لنشهد جنوح دولة الأفندية نحو غروبها المأساوي الذي لا تزال حلقاته تتصل. فحين وصلنا كان نظام نميري قد أكمل عامه الأول فقط، وكانت شمس اليسار تقف بمقدار قامة الرمح فوق أفق السودان. كان همزة الوصل بيننا أستاذنا عبد الله بولا الذي درّسني في حنتوب الثانوية، كما درّس آدم الصافي في القضارف الثانوية. أما حسن موسى ومحمود عمر فقد عرفهما بولا عن طريق زملائه من أساتذة كلية الفنون. فلقد سبقت حسن موسى شهرته إلى كلية الفنون. فهو قد كان موهوبًا بصورةٍ استثنائية، مقارنةً بمن هم في سنه من طلاب الثانويات. كما كان ممارسًا من حيث كم الزمن الذي يقتطعه للرسم، بما لا يقارن بواحدٍ منا. أما محمود عمر فقد كان هو الآخر متميزًا، وكان صديقًا لحسن موسى في الأبيض الثانوية. وما أن وصلنا الكلية حتى قام بولا بتعريفنا على بعضنا بعضا، ومن بعد عرّفنا بخلف الله عبود، ودار السلام عبد الرحيم، والنور أحمد علي، وأحمد سيد أحمد، وبابكر كنديو، وغيرهم من الطلاب القدامى في الكلية الذين كانوا لحظتها يستظلون بمظلة اليسار. وهكذا كان التخلُّق الأول للبوتقة التي جمعتنا لأربع سنوات، ومن ثَمَّ لبقية العمر، ما مضى منه وما ينتظر.
(يتواصل)
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
سيد أحمد العراقي
مشاركات: 624
اشترك في: الأحد يونيو 21, 2009 11:44 pm

مرحبا مرحبا النور حمد وشفى الله النو أحمد على

مشاركة بواسطة سيد أحمد العراقي »



أستاذنا النور حمد...لك التحية

سعيد بعودتك طلة وكتابة....ربيع يأتى ليخفف رحيل الأحباب وكثرة المراثى وشفى الله النور أحمد على لياتى مطر فى الربيع

وليعذرنى أصحاب الخيط
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

شكرا يا عراقي
قال النابلسي:

يا نسيمات سرت سحرا من شذاها الكون قد عبقا
خبرينا عن أحبتنا وعن الأهلين والرفقا

غبت طويلا غير أن شوقي إلى الأحبة والأهلين والرفقا في هذا المنبر، ظل متقدا
هنا نرتاح قليلا من وعثاء هذه الحقبة التاريخية الحامضة.
وحين يصبح الحاضر مضطربا ومشوشا وغائما يصبح الماضى متكأ وملجأ!!
والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.

((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صلاح النصري
مشاركات: 607
اشترك في: السبت يوليو 01, 2006 12:32 pm

مشاركة بواسطة صلاح النصري »

سلام لكل الفنانين
توثيق جميل لذكريات جميلة , ودائما نلاحظ في السودان أن الماضي أفضل من الحاضر ,وده بسبب كوارث وازمات الحكم ,وكل نظام شمولي يسعي ليكون تأريخ السودان يبدأ وينتهي وبه , ما علينا ولكن لدي ملاحظة وحتي يكتمل توثيقكم لتلك الفترة , لو تطرقتو لسيرة بعض زميلاتكم من الفنانات , لانه ليس هناك أي ذكر لدور المرأة السودانية في الحركة والمدارس الفنية , قد نعول علي قلة العدد لكن قط شك لكم زميلات .
يا أهل الفنون كايس لي معلومة , حسن البطل هل هو حسن مكرنجة الرياضي وكان حارس مرمي ولا عب كارتيه , منتصف السبيعنات علي ماأذكر ذهبت لكلية الفنون لا أداء أمتحان القدرات ووجدت حسن مكرنجة موجود بحوش الكلية , وكان معي صديق الله يطراهو بالخير قال لي أحسن نرجع لي جامعتنا بدل نشيل خانة و الحكاية دي مانقدر عليها, وكان الكلام ده بعد سؤالنا عن جدول المحاضرات ووجدنا من الصعب التوفيق بين الدراستين , وأظن أن أسم مكرنجة جاء من كورة القدم فريق التضامن تحديدا والأخ حسن الذي أعنيه من سكان الثورة, وتربطني به معرفة وهو فنان عصامي
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


أين أهل الخيط؟ ابتدروه ثم سحبوا أغطيتهم عليهم وناموا!
سنخرجكم من كهوفكم! وكما قال جورج بوش الإبن حين كان يقصف كهوف تورا بورا:
We shall smoke them out
نوم العوافي، يا أهل الخيط، سنحرسه لكم حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا.
قال المتنبي:
ذكر الصبا ومراتع الآرام جلبت حمامي قبل وقت حمامي!
يوم أن فتحت كلية الفنون أبوابها للطلاب الجدد في سبتمبر 1970، كنت في الليلة السابقة أعزف الأكورديون في حفلٍ غنائيٍ في عرسٍ في قرية هزاوي في ريفي المسلمية بوسط الجزيرة. كنا في العطلة التي فصلت بين انهائنا الثانوية في حنتوب وبين دخولنا كلية الفنون. وكن ذلك المفترق هو النقطة التي انتثر فيها عقد المجموعة الموسيقية لطلائع الهدهد. و"طلائع الهدهد" كما عرّفت نفسها حينها، تنظيم طليعي شبابي نشأ في مدرسة حنتوب الثانوية عقب انقلاب مايو ومشاركة الشيوعيين في حكومة مايو الأولى وأجهزتها المختلفة. وقف بالرعاية وراء ذلك التنظيم أساتذتنا عبد الله بولا، ومحمد عبد العال مراد، وتاج السر مكي أبوزيد، وعبد العظيم خلف الله، وإلى حدٍّ ما، محمد بشير المر. حاولت الإعتذار عن الإشتراك في تلك الحفلة لصديقيّ؛َ وهما عازف العود بابكر بلة موسى، (قرية صراصر)، ومطربنا الصداح مضوي الطيب بانقا، (قرية وادي شعير). قلت لهما إن عليّ أن أحضر معاينة القبول للطلاب الجدد في كلية الفنون في العاشرة من صباح اليوم التالي للحفل ومن الصعب التوفيق بين الإثنين. لكنها أصرا أن أحضر للإشتراك في الحفلة، ورفضا رفضًا باتًّا أن يقبلا لي عذرًا.

كانت تلك الحفلة هي نقطة افتراقنا الثلاثة الذي استمر حتى يومنا هذا، ليبلغ الآن عامه الثالث والأربعين. كنا قريبين من بعضنا عبر مرحلة حنتوب، قربًا شديدًا ومكملين لبعضنا، ومستقوين ببعضنا، وعارفين ببعضنا، وأريحيين مع بعضنا، ومنفتحين على بعضنا انفتاحًا لا يصدق. عز علينا الافتراق ولعله كان في داخل كلٍّ منا احساسٌ بانتظار معجزةٍ ما تحول بيننا وبين ذلك الافتراق الحتمي. ويبدو أن تلك الحفلة كانت بمثابة "خم الرماد" لرمضانٍ طويلٍ من صيام الافتراق الذي هو سمةٌ لازمةٌ لعهد الطلب. كانت آلة الأكورديون التي أعزف عليها هي العمود الفقري للفرقة، مما جعل مضوي الطيب وبابكر بلة يصران على ذهابي معهما رغم المخاطرة الكبيرة. لم يكن أمامي مناصٌ من الرضوخ. وبطبيعة الحال يسّر لي الرضوخ أنني، في قرارة نفسي، كنت أفكر في إمكانية الجمع بين الحُسنيين. وذاك هو التصرف المتوقع لشخصٍ في تلك السن؛ (19 سنة، كما يغني وردي). كنت لا أود في قرارة نفسي أن تفوتني تلك "البهجة"، كما كنا نسميها. وبالفعل ذهبت معهم وأمضيت الحفلة وأنا أعايش ذلك الخليط من الابتهاج والمسرة وتدفق ادرنالين الشباب في العروق، المشوب بشيءٍ من الهم الذي لا ينفك يضغط، في الفينة بعد الفينة، على حواشي القلب. فاحتمال ألا أصل الخرطوم قبل العاشرة صباحًا؛ موعد المعاينة كان كبيرًا جدًّا.

انتهت الحفلة على ما يرام، ولكن في وقتٍ متأخر، ولم أنل من النوم إلا قسطًا قليلًا. وفي الفجر أقلني البص قبل طلوع الشمس إلى الخرطوم. عبرنا حقول الجزيرة المزوقة بمختلف المحاصيل كما هو الحال في سبتمبر، وأمضيت زهاء الساعتين في ذلك الشرود اللذيذ الذي يصبح صوت الماكينة وثرثرة الركاب غير المميزة موسيقى تصويرية. هذا حال من النسق العالي لا زال يعتريني كلما ركبت قطاراً أو طائرة، أو حافلة في رحلة طويلة. سار كل شيءٍ على ما يرام، ودخلنا الخرطوم مع الحد الفاصل ما بين الصباح والضحى، ووجدت نفسي فجأةً وسط هذا الرهط المتنوع الذي طالما سمعت عنه من بولا. ظللت أتأمل المكان، وأقرأ السحن، واتفرس في هيئات الناس، وأخمن مسارات السنوات الأربع القادمات، وأحلم أحلامًا لا ملامح لها.

كنا نتجول في ردهات الكلية كمن يجبوب أزقة قريةٍ في يوم العيد. كان ذلك هو الرهط الذي طالما حلم بولا بأن يجتمع في كلية الفنون، وقد اجتمع بالفعل في ذلك الضحى من العام 1970. كان حسن موسى "يخوجل" بمشيته المتميزة، وإلى جانبة محمود عمر محمود نحيلا كما المُترار. أما آدم الصافي فكان يتدفق حركة متعِّينا بوثوقٍ في الزمان والمكان، بظهره القصير وأرجله الطويلة وتشكيلات وقفاته الفجائية والتفاتاته المعبرة.

من الجانب الآخر قطع بنا بولا أعوامًا منذ الوهلة الأولى حين ربط بيننا وبين من يحبهم ويؤثرهم من طلاب السنة الرابعة، والسنة الثالثة. فلقد تعرفنا منذ أيامنا الأولى على طلاب السنة الرابعة خلف الله عبود، ودار السلام عبد الرحيم، ونجاة جاد الله جبارة، والنور أحمد علي. أما من طلاب السنة الثالثة فقد تعرفنا على أحمد سيد أحمد، وبديعة الحويرص، وبابكر كنديو. وبالطبع فقد عرفنا كثيرين من غير هؤلاء. لكن منذ البداية بدأت المعسكرات الفكرية والسياسية تتضح لنا، ولم يكن غائبًا علي أي أحد في الكلية أننا ندور في مدار اليسار. كنا نتصرف بعفوية، وببراءة، وبوثوقٍ ربما لم يخل من رعونة، فلم نأبه للحواجز وكان في ذلك تجاوز غير معهود لقواعد اللعبة المرعية. ولذلك بدأ كهنة المؤسسة وسدنة هيكلها في التوجس من هؤلاء العيال الجدد الذين لا يراعون قواعد اللعب المتعارف عليها. ومنذ تلك اللحظة بدأت تخندقات وصراع كتيم يطفح على السطه، ثم ينكتم. وهو صراعٌ وسم كل الأعوام التي تلت.

ضمتنا واحدة من داخليات الإس تي إس ذات الطابقين بسلمها الحلزوني الذي يدور حول الحممات ليوصل من يصعد عليه إلى شرفة دائرية أشبه بالمصطبة terrace تقود إلى الطابق الثاني. كانت الداخلية عنبرا مفتوحا تفصل كل سريرين طوليين متقابلين فيه الدواليب، كما وصفها حسن موسى. أما ممر الوسط فيربط كل العنبر. في الجهة الشرقية سكن كل من حسن موسى، ومحمود عمر، وآدم الصافي، والنور حمد، ولا أذكر ما إذا كان بدر الدين حامد معنا كل الوقت ام أنه يجيء ويذهب. وأصبح عالمنا مقسما بين هذه الداخلية وميز المقرن حيث يسكن طلاب السنة الرابعة، وبين ساحة الكلية وحجراتها. نعود من الكلية بعد الغداء فنغرق في الرسم والثرثرة وقبل المغيب نعود إلى البوفيه لاحتساء الشاي باللبن ثم نعود إلى باحات الكلية. كانت كلية الفنون مثل خلية النحل. فهي لا تخلو من مجموعة منهمكة في إكمال عمل. كان الاستديوهات تظل مفتوحة حتى منتصف الليل. أيضًا كانت الأمسيات تجتذبنا بسبب الرغبة في لقاء الجنس الآخر. وهي لقاءات تتم بين إثنين تحدد مسار عواطفهما، وأيضًًا بين رهطٍ لم تتحدد بينهم مسارات العاطفة، فيستمتعون بمجرد اللمة والثرثرة والتردد على البوفيه، والجلوس على النجيلة أو قواعد التماثيل المنتشرة في باحات الكلية. كانت الأمسيات مجالًا لانسراح العواطف المنتثرة في غير وجهةٍ بعينها، ولرؤية الثياب الأنثوية تبعث العطر والحفيف المشوِّق.

لله در أبو قطاطي وأبو عركي:

شفت التوب وما لاقاني أجمل منِّو
شوفوا التوب، وسيد التوب يكون كيفنُّو؟
نظرة سريعة مرت بيها ما اتمتعتَ
خطوة وحيدة بيني وبينا لو أسرعتَ
خلت طيبا مالي الساحة، ما اتشبعتَ
زيها ما في، لا شاهدت لاني سمعتَ

من جاراتا قادلة حلاتا دخلت بيتا
سرت حداها، داير ألقاها، تب ما لقيتا
متكي كتيفا، تلّت إيدا،
حتى الحنة ديك ما نسيتا
قادت ناري، لو تطفيها بس، ياريتا

حين كنا في سنتنا الأولى كان استديو التلوين لطلاب السنة الرابعة يضم كلا من خلف الله عبود ودار السلام عبد الرحيم، وربما محمد عثمان، وعمر مدني. طال الزمن/ ولم أعد اذكر بالضبط، وأرجو التصحيح ممن يذكرون أفضل. وبطبيعة الحال كان هناك عمر خيري الفنان المحترف الذي اتخذ من استديو طلاب السنة الرابعة محترفا له. أصبح هذا الأستديو مزاراً لنا فكلنا كان يحب التلوين ولقد ظللنا محرومين منه طيلة العام الأول. فالعام الأول هو عام متطلبات عامة ولقد أمضيناه كارهين متنقلين بين كافة أقسام الكلية. فمارسنا شيئا من الخزف لدى نصيف جورج اسحق، ومارسنا شيئا من النحت لدى محمد حامد العربي، ودرسنا أبجديات الخط العربي على أيدي المصري عبد المنعم عبداللطيف المصري، ودرسنا أسس التصميم على أيدي محمد إدريس، وعمل الصورة picture making على أيدي حسن الهادي، وشيء من المعلومات حول تصميم المنسوجات، ثم الرسم على أيدي مجذوب حاج أحمد رباح.

بدأنا نرتاد المدينة في الأمسيات وكان لأمسيات الخرطوم طعمٌ مميزٌ حينها. كنا نحب سوق الخرطوم أول المساء. وكنا كما يقول أهلنا في الجزيرة مثل "تيمان البرقو الديمة ما بتفرقوا". كنا نغشى دار القلم غربي شارع الجمهورية ونغشى مكتبة أخرى في عمارة أبو العلا القديمة نسيت إسمها. كنا نشترى "القلم" و"مواقف" ودوواين الشعر. كما كنا نغشى محلات ميرزا في المحطة الوسطى لنتغزل في أدوات الرسم، ونشتري منها ما نطيقه، خاصة بعد أن تدهورت الأحوال وشحت المواد في الكلية، خاصة في عامنا الثاني، وانعدم لون الزيت الأبيض وأصبحنا نصنعه بخلط بدرة الزنك بزيت اللينسيد.

حين نقصد وسط الخرطوم أول المساء كنا نأكل الفول على الأرض في بوفيه قشلاق السجون قرب مبنى إدارة السجون، شرقي المعهد. ثم نمشي بالطريق الترابي الذي يقاطع شارع علي عبد اللطيف بجانب السفارة الأمريكية، ودكان اليماني المقابل لها. وكان ذلك قبل أن تصبح السفارة الأمريكية دشمةً عسكرية، ممنوعٌ منها الاقتراب والتصوير. ثم نسير شرقًا لنمرق من ذلك الشارع المظلم إلى ضوء السوق وجلبته لدى البنك الصناعي في الركن الجنوبي الغربي لميدان الأمم المتحدة.
(يتواصل)
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ
مشاركات: 487
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 12:26 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ »

يا صديقي العزيز النور حمد
سلام ... سلام

أحمد سيد أحمد قاعد يقرأ ولكنه غتيت وبيقول أنه بيكتب بمزاج ... ها ها ها
لكن أنا محضر كلام كتير جدا ولكني قلت أستانس بالتحليل الجميل الذي تكتبه ولا أقطع عليك الوارد ... ثم أن زوجتي وأختك الأستاذة جواهر متوعكة بصورة شغلتني عن الإنترنت ...على أي حال سوف أكتب ... وسابدأ بالكتابة عن زميلاتنا حسب طلب الأخ صلاح النصري وهو طلب في محله ... وقد شهدت طالبات الفنون مشاكل كثيرة من زميلاتهن في جامعة الخرطوم اللائي كن يجئن منعمات ومستغربات من ( غبشة ) زميلاتنا المناضلات في كلية الفنون في العمل اليدوي والتجرد من حركات البنات المظهرية.
ثم سأكتب عن الأستاذ سمير جرجس الفنان السياسي النشط والعجيب جدا... ثم عن ود البلد القبطي الشهم صديقي وأستاذي نصيف إسحق صياد الطيور والحيوانات البرية وعبقري الخزف.

سأعود بعد قليل من الوقت.
الحرية لنا ولسوانا
صورة العضو الرمزية
ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ
مشاركات: 487
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 12:26 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ »

بنات الفنون...
وما أدراك ما بنات الفنون

عندما قبلنا في السنة الأولى في كلية الفنون، في العام 1968، كنا واحد وثلاثون طالبة وطالبا... خمسة عشر طالبا وستة عشر طالبة... وكان عدد زميلاتنا في السنوات السابقة أقل كثيرا من الزملاء ... حتى عدد أفراد الدفعات السابقة كان حوالى نصف عددنا... وقد ساهم هذا الوضع في نشوء علاقات حميمة بين الطالبات والطلاب، بورة لم تتح لمن قبلنا ... وسأتعرض لطبيعة هذه العلاقات ونتائجها في مجتمع كلية الفنون، فيما بعد.

طبيعة العمل الفني في الكلية طبيعة عملية تعتمد على المجهود اليدوي وهذا العمل في ذلك الوقت لم يكن غريبا على نساء السودان، ولكن الغريب هي الخامات التي يتم التعامل معها في كلية الفنون مثل الطين والخشب والأصباغ وهذه الخامات كانت تستدعي أن تتخلى البنات عن شئ كثير من الزينة والتلميع والمساحيق التجميلية التي تحرص عليها في العادة ويكتسبن بالتدريج، (غبشة) بسبب التعامل مع هذه الخامات والتعرض للغبار والطين والأصباغ... وقد اشرت لهذه الظاهرة لبنات الفنون في بداية هذه الذكريات، وكيف أن صديقات زميلاتنا، من الجامعات الأخرى، حينما كن ييزرن الكلية كن يستغربن من تلك (الغبشة) ويستنكرن هذا الحال المايل الذي آل إليه حال بناتنا في الفنون .. وإذا أضفنا طبيعة المكان الذي يجلس فيه الطلاب مع الطالبات اثناء تنفيذ العمل الفني، لرأينا أنه لايختلف عن أماكن تواجد العمال وبيئته هي بيئة العمال والحرفيين وقد تجلس الطالبات على الأرض دون خوف من إتساخ ملابسهن وقد تتأثر نعومة أيديهن بسبب إستخدام المعاول وحتى المقصات والفرشاة الكبيرة والمسامير إلخ...
كما أن مشاركة طلاب الفنون لطالبات الفنون في العمل اليدوي كان يلقي بظله على نوع العلاقة بين الإثنين، وهي علاقة ، على التحقيق، تختلف بين العلاقة بين نساء ورجال يتعاملون بأوراق واقلام فقط وهم يجلسون على مكاتب مكيفة أو بمراوح وعلى كراسي، حيث تكن العلاقة بينهم علاقة تفتقد الحميمية الناتجة عن علاقة العمل اليدوي لدي الحرفيين (الفنانين). وهذا العمل اليدوي بطبيعته يكسب الإنسان شخصية حرة ومنعتقة من التصنع والإهتمام بالمظهر على حساب الجوهر... ولهذا السبب تصير علاقة طالبات الفنون بطلابها علاقة أكثر حميمية من علاقة أصحاب العمل المكتبي، كما أسلفت ... زد على ذلك أن ممارسة الفنون أو العمل اليدوي تكسب الفرد من رجل أو إمرأة ثقافة فريدة ووعيا توحيديا داخليا ويساهم في تحريره من العادة ومن الإستكانة للتفكير المجرد الخاوي من التجربة العملية ... أي أنه كما يقول الأستاذ محمود محمد طه، يوحد البنية البشرية بتوحيده للعين والعقل والقلب "كتاب الإسلام والفنون"...
لكل هذا فقد صارت بنات الفنون من حيث تجربتهن هذه، أكثر حرية وإنطلاقا من غيرهن من طالبات الجامعات في العلوم النظرية...

نواصل.
الحرية لنا ولسوانا
صدقي كبلو
مشاركات: 408
اشترك في: الأربعاء مايو 11, 2005 9:02 pm

مشاركة بواسطة صدقي كبلو »

أخوانا خلف الله عبود واحمد سيداحمد و النور حمد والتشكيليون الذين أتوا أو سيأتون
أتابع هذا البوست بشغف فهو يحكي عن فترة عشناها بالطول والعرض في الحياة الطلابية والثقافية والسياسية في الخرطوم ‏وغيرها.‏
لفت نظري محاولة النور لرسم صورة عامة لتلك الفترة، أي لوضع خلفية او إطار تاريخي لتلك الفترة، وهذه مسألة تشغلني ‏منذ فترة وأفكر فيها كثيرا، نظر اليها النور بعيون ايجابية فرأى نصف الكوب الملئ، وأسأل نفسي لماذا يشعر جيلنا بحب تلك ‏الفترة، هل لأنه كان ينظر لها بنهوض اليسار منذ ثورة أكتوبر وصموده أزاء ضربة يوليو 1971. قلت أن النور نظر ‏لنصف الكوب الملئ، ولكن للأسف فترة الستينات والنصف الأول من السبعينات حدثت فيها أوسع هجمة على حركة ‏التحرر الوطني الأفريقية والآسيوية واللاتين أمريكية. الهجمة التي بدأت بمقتل لوممبا وإنقلاب توشمبي ثم موبوتو وانقلاب ‏عسكري ضد قاسم تبعته مجزرة وانفصال سوريا عن مصر وانهيار أول تجربة في الوحدة العربية وبينما نحن نقيم أول ثورة ‏شعبية ضد حكم عسكري في العالم تمت إنقلابات في غانا، مالي، الجزائر، أندونيسيا وصحبتها مجزرة للشيوعيين، وأمر ‏جونسون ببداية الحرب في فيتنام، ثم جاءت حرب يونيو وهزيمة مصر وموت عبد الناصر والسادات وافشاله لانقلاب علي ‏صبري وسماحه للاخوان بالعمل ضدالحركة التقدمية المقيدة بأجهزة الأمن، وإنقلابات عسكرية متوالية في أمريكا اللاتينية شملت انقلاب ومجزرة شيلي ، وأنا أنظر ‏لما حدث في لبنان بأنه خنق لرئة الحداثة والديمقراطية والعقلانية والتقدم في الشرق الأوسط. لماذا وسط كل ذلك كنا متفائلين ‏وكأن الهجوم لن يشملنا؟ يوجد ما يثبت أن السي آي أيه لها دور في إنقلاب عبود؟ ما دورها في مايو أو في الصراعات ‏داخلها؟ هناك حديث عن دور أجنبي في هزيم يوليو 1971!‏
الخرطوم الآن مفلسة وغير متناسقة عمرانيا وفقيرة ثقافيا لأنها استسلمت للغزاة منذ أيام نميري، صندوق النقد والبنك ‏الدولي أستباحوا البلاد ووقفوا الخطة السداسية لنميري وبدات البرامج الثلاثية وتخفيضات الجنيه المتوالية، حكم نميري ‏الاقليمي الشائه و تدخل نميري في حكم الجنوب وانتهاكه لاتفاقية أديس أبابا وشريعة نميري الاسلامية هي كلها نتاج لفشل ‏اقتصاده الذي سلمه لصندوق النقد والبنك منذ 1977. الخرطوم التي هبت في أكتوبر وشمت أباطها، لم يضع ثوارها في ‏حسابهم أن ما حدث وكان يحدث لحركة التحرر الوطني، يهددهم، وتسرب غصبا عنهم عبر غفلتهم وخلافاتهم ومحاولتهم ‏القفز فوق الموضوعي والتطور السلمي وثورة أغلبية الشعب لثورة الصفوة الانقلابية والتآمرية والتي تسعى لفرض التغيير ‏على الناس بدلا عن التغيير مع الناس وبالناس. فرطوا في قضاء مستقل وجامعة مستقلة وحركة نقابية ذات تقاليد ثورية ‏وديمقراطية وصحافة حرة وحركة ثقافية متعددة المشارب ومليئة بالابداع. فرطوا في حركةنسائية تنمو بوعي لتحرير حقيقي للمرأة. فرطوا في حركات مزارعين وحركات ريف ‏ديمقراطية تسعى للإصلاح في الريف وتناهض المركز بشكل سلمي وديمقراطي، بدأت كحركات قبلية وإقليمية للضغط وكان ‏أفقها يتسع بتجربتها للتتحول لحركات سياسية لها فعالية كما حدث لمؤتمر البجة واتحاد جبال النوبة. ‏
لكل ذلك يؤرقني النظر للنصف المملوء من الكوب، لأن تلك النظرة تعبر عن نستلوجيا جيل مهزوم ساهم في هزيمته، ولا ‏ينظر بشكل نقدي لتجربته ليرى غفلته واستعجاله وورفضه الالتحام بالناس العاديين والتعامل معهم باعتبارهم صناع التغيير ‏مثلما هم موضوع التغيير، فلا يمكن أن يتغيروا إلا بإرادتهم وبوعيهم، ولذا يصبح عبدالخالق محجوب ومحمود محمد طه ‏ابطال حقيقيين يستحقون الدراسة لأنهم أعطوا حياتهم لنشر الوعي والوعي المنظم.‏
أرجو ألا أكون قد إنتهكت بوستكم ولكن افهم الذكريات بأنها تفاكر نقدي.‏
آخر تعديل بواسطة صدقي كبلو في الخميس مارس 21, 2013 12:48 am، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ
مشاركات: 487
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 12:26 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ »

بالعكس يا عزيزي صدقي كبلو، فقد أثريت البوست... وبهذا يصبح الكوب مشاهدا في نصفه الممتلئ ونصفه الفارغ...
تحليل ممتاز وسوف أعود لمناقشته غدا فقد رأيته في آخر الليل، ولم أستطع الصبر، فكتبت هذا التعليق القصير ... ولي عودة مفصلة ... وأخال الدكتور النور لم يكمل حديثه وسوف يعلق بما يفيد. و.. فنحن أحوج لمثل هذه التحليلات، لنتدارك مصيرنا وسط هذا الإضطراب والردة السياسية والإجتماعية والتيه .
الحرية لنا ولسوانا
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

حين أعود بذاكرتي إلى تلكم الأيام _ ولي عودة إلى تعبير "تلكم الأيام" في السطور اللاحقة – أحس بأننا كثيرًا ما سددنا فجوات فكرنا آنذاك، بعاطفةٍ شديدة الجيشان. كان الشعر يحملنا على أهدابه، فنطفو معه في عوالمه. كنا نهرش أرجلنا من لسعات باعوض المقرن ونحن نفترش المراتب على بلاط ميدان كرة السلة بالقرب من ميدان الأسكواتش، في الركن الجنوبي الشرقي الأقصى من معهد الكليات التكنولوجية، ونغني مع ود المكي الذي كدنا أن نحفظ أشعاره عن ظهر قلب. تماهينا مع ود المكي، أحسن ما يكون التماهي، وهو يوجه إهاناته الشخصية إلى قيس بن الملوح. وكنا معه وهي يصور ويتشهى هايدي الأفعى، التي من البوق تغذت والطبول، والتي هي أحسن دورات الفصول. وكنا أيضًا محمولين على أجنحة درويش وغسان كنفاني، ومحمد بنيس، وأمل دنقل، وأحمد عبد المعطي حجازي. هذه العاطفة الطافحة فوق ثبج الشعر لم تمت، ومن الخير ألا تموت، فبقاياها المتقدة هي التي لا تزال تعيننا على حفظ التوازن، وهل من توازنٍ تركن إليه النفس في هذا العالم المجنون؟

أما كلمة "تلكم الأيام" فقد كتبتها وفي ذهني جملةٌ شعريةٌ من قصيدةٍ للراحل أحمد إبراهيم عبد العال. وهي جملة، لم تنفك تطن في ذهني، رغم تقادم السنين. تقرأ تلك الجملة: "في تلكم الأيام كانت الدنيا وليلها القديم في رحلةِ إرهاقٍ إلى ساحة التتويج". أهدى أحمد إبراهيم عبد العال، في فترة ميله القصيرة نحو الجمهوريين، تلك القصيدة إلى الأستاذ محمود محمد طه. والقصيدة، في ما أذكر، مكتوبة بخطٍ غرافيكيٍ حر على ورقةٍ مقوّاةٍ تشبه بطاقات الدعوات. ولقد شهدت تلك الفترة نهضةً كبيرةً في التحرر من قيود الخط العربي التقليدي، وهي فورةٌ شبيهةٌ بالهبة التي أخرجت شعر التفعيلة من قبضة موازين الخليل بن أحمد الفراهيدي. أعجَبَت قصيدة أحمد عبد العال الأستاذ محمود محمد طه، فعلقها خلف زجاج دولاب الكتب القديم الذي يقف عند رأس عنقريبه المعتمة الغارقة في بخور اللبان والند. ولعل مطلع القصيدة كان يحكي عن "وعلٍ يجوس في البرية"، فلقد طال الزمن، ولم أعد أذكر على وجه التحديد حقيقة منطوق ذلك النص.

كان أحمد عبد العال، عليه الرحمة، بارعًا في ابتكار التعبيرات الشعرية الغريبة الموحية، التي تدل على إطلاع حسنٍ على الآداب الغربية، وهو أمر تبدّى، كما هو بيِّنٌ هنا، في استخدامه لمجاز "طائر الرعد". فكلمتا طائر الرعد، كما هو معروف ترجمة لكلمة thunderbird، وهذا "الثندربيرد" مخلوقٌ خرافيٌّ مستخدمٌ في آداب السكان الأصليين لأمريكا الشمالية. وقد أصبح مجاز "طائر الرعد" يُستعار في الفنون البصرية، وفي الشعر وفي غيرها من سائر الفنون. ولقد تجاوزت استعارة رمزه الآسر ومجازه المشوق مجال الفنون بأنواعها لتدخل إلى عالم الصناعة والرأسمال، (والرأسمال لا يقصر، كما تعلمون!! "يقصر الملح")! فقد أطلقت شركة فورد منذ منتصف القرن الماضي على إحدى فئات سياراتها الرياضية السريعة إسم thunderbird. أسمى أحمد عبد العال إحدى قصائده "طائر الرعد"، ولا أذكر ما إذا كان عنوان القصيدة هو "طائر الرعد" أو أن تلك العبارة قد وردت فقط في متن القصيدة. المهم، بناءً على تلك العبارة أطلقت شلتنا "المشاغبة"، التي سبق أن عدّد أفرادَها حسن موسى في مداخلته في هذا الخيط، إسم "طائر الرعد" على صديقنا القريب البعيد؛ أحمد عبد العال. وأصبحنا لا نشير إلى شخصه في كل المحادثات التي تجري وسط شلتنا بأي إسم خلاف إسم "طائر الرعد". ولم يخرج ذلك الإسم خارج نطاق الشلة أبدًا.

لا أزال أذكر اجتماعنا مع أحمد عبد العال في غرفة محمد حامد شداد في منزلهم بحي المقرن. كان حي المقرن مكونًا من حيين منفصلين بينهما شارع، وخور جنباته مبنيةٌ بالطوب، حين كانت الخيران التي تحمل مياه الأمطار لا تزال معتناةٌ بها. القسم الشرقي من حي المقرن عمائر بيضاء، أغلبيتها فلل من طابقين لقدامى الأفندية من الغردونيين، ومن تبعهم في الأبهة بإحسان من أهل الطبقة الوسطى وما فوق الوسطى. أما من جهة الغرب فبيوت قصيرة مجللة بالزبالة هي "حلة المقرن" القديمة التي استأجر فيها زميلنا وصديقنا وزميلنا مكي محمد علي بيتا لأسرته. ومكي محمد علي أستاذٌ منتدب، حيُّ الشخصية، مشغول بالفكر وبالأدب وبالفن وبقضاياها. ولأساتذة المنتدبين إلى كلية الفنون، صفحةٌ خاصةٌ ربما قلَّبناها لاحقًا. تلك البيوت الطينية القصيرة هي البيوت التي كان الصلحي يبعث بالطلاب إليها ليرسموها بألوان الماء. أحيانا يبعثهم عدة مرات، ليرسموا نفس المكان، كما أخبرنا من سبقونا. ولخلف الله عبود مائية تصور أحد هذه البيوت الطينية القصيرة، وبؤرة تلك الصورة عربة كارو منكَّسة المقدمة تربض أما باب بيت، أرجو أن يكون خلف الله لا يزال محتفظًا بها فيرفعها في هذا البوست. في بيت مكي محمد علي الطيني، القصير الوطيء المستأجر تغدينا مرةً غداءً لا يُنسى. لاحقًا أصبح مكي قاصًا ونشر بعض الروايات.


أما قسم المقرن الشرقي فهو ، كما سلفت الإشارة، البيوت الإسمنتية البيضاء من طابقين التي يسكنها الغردونيون. هذا البيوت تحيط بالحديقة النباتية ذات الشكل الإهليجي. وتغطى الحديقة النباتية مساحةً تُقدر بعشرة أفدنة تقريبًا يحيط بها شارع مسفلت. على الجهة الشرقية من الحديقة النباتية يسكن عبد العزيز شدو، والفاتح عبدون، وعبد الرحمن عبدون، ولعله كان أحد أعضاء مجلس السيادة الأول عقب الاستقلال. هذه هي المنازل الفخمة بمقاييس ذلك الزمان. في تلك الجهة أيضاً، كان هناك ما كان يسمى بمعهد البحوث الصناعية، ونادي أساتذة المعهد الفني، والبنك الزراعي. كنت أبيع كتب الجمهوريين في معهد البحوث الصناعية واقف أمام تربيزة عز الدين الدحيش الذي كان موظفًا هناك، وهو في أوج نجوميته، وأتعجب من نجم يجلس خلف طاولة في مكتبٍ فارغ يغالب سأم يوم العمل في مكتب من مكاتب المصالح الحكومية. ولقد استضافت تلك المنطقة من حي المقرن معهد الموسيقى والمسرح في بداياته الأولى في فيلا مستأجرة. وحين تم الإفراج عن الفنان محمد الأمين، بعد واحدٍ من الإعتقالات المايوية، أستضافه طلاب معهد الموسيقى في حديقة ذلك المبني. أذكر أنهم ألبسوه أكليلا من الزهور احتفاءً بخروجه من السجن. في تلك الليلة البعيدة في النصف الأول من السبعينات سمعت بالعود، ولأول مرة، "شال النوار ظلل بيتنا" فأدهشتني لجدتها ومفارقتها للسائد، وانطبعت في فؤادي الغض، ولم تخرج منه حتى اليوم.


من الناحية الجنوبية لإهليج الحديقة النباتية كان يسكن الصحفي والمؤرخ التجاني عامر، وكان يسكن آل مغربي، وآل شداد. أما من الناحية الغربية فكان يسكن الصحفي المخضرم محمد سعيد محمد الحسن. وعلى الشمال الغربي من أهليج الحديقة النباتية كان هناك ميزان "جمع ميز" لطلاب المعهد الفني، أحدهما للبنات والآخر للأولاد. في ميز الأولاد عاش، ولا أجزم بصحة المعلومات التالية كلها، خلف الله عبود، وأحمد سيد أحمد "طبطب"، وكنديو، والنور أحمد علي، وغيرهم من طلاب السنتين الرابعة والثالثة. وفي ميز البنات كانت هناك دار السلام عبد الرحيم، وبديعة الحويرص، وفتحية محمد علي، وأسماء السنوسي، وأخريات. كنا نزور ميز طلاب السنة الرابعة والسنة الثالثة بكثرة. وكان لزيارات المساء تلك آثارٌ باقية في الذاكرة تستعصى على آثار الزمان. فقد ارتبطت ببرودة الليل في المناطق كثيرة الشجر كالحديقة النباتية، وصوت صرار الزرع، وأريج الياسمين المنبعث من الحديقة الكبيرة، ومن بيوت النخبة المتمدينة المحيطة بها، خاصة حين تختلط كل تلك المؤثرات الحسية بحالة شبابية كانت فيها الحواس في أوج تيقظها. يضاف إلى ذلك، أننا كنا نصحب الطالبات اللواتي يتأخرن في الأستوديوهات لوقتٍ متأخر سيراً على الأقدام، إلى أن نوصلهن الميز، فشوارع المقرن بالليل كانت موحشة، ومعتمة.

أعود لغرفة شداد المنفصلة عن الفيلا. كانت تلك الغرفة فوق شيءٍ أشبه بالجراج بالقرب من المدخل الرئيسي. فيها كان يسكن شداد محتفظا بخصوصيته بعيدًا، هونًا ما، من البيت الأم. في تلك الغرفة صنع شداد لنفسه عالمه الخاص به. كانت تلك الغرفة مكتظةً ومزينةً بأمور كثيرة عجيبة. في تلك الغرفة كان لقاؤنا بأحمد عبد العال في جلسة حوارية لم تخل من صخبٍ ولعلعة، فقد اتسمت بتباين الآراء حول الفكر والفن، وهذا ما جعل الأصوات تعلو فيها، ولكن في أريحية وود، رغم أن الخطوط الفكرية بقيت فيها متوازيةً كما كانت. وكان ذلك غريبًا جدًا أن يلتقي طلاب الصف السنة الأولى أو الثانية في نقاش يتسم بالندية مع طلاب السنة الثالثة والرابعة.

أمير شعراء غرب المعهد الفني

من الذكريات التي كان يرويها لنا خلف الله عبود، ورسخت في ذهني، وهي مرتبطة بالراحل المقيم أحمد إبراهيم عبد العال، حادثةٌ طريفةٌ جرت في المعهد الفني، قبل أن يصبح إسمه معهد الكليات التكنولوجية. روى لنا خلف الله عبود، الذي سبقنا إلى الكلية بثلاثِ سنوات، أن متشاعرًا من متشاعري المعهد الفني أرهق طلاب المعهد بقصائده الركيكة، وبحماسته المنقطعة النظير لشعره، وعدم قدرته على إدارك حقيقة أنه لا صلة البتة بين ما يكتب وبين الشعر. فانبرى أحمد عبد العال، وهو بطبعه صاحب مبادرة ومبادأة، للتعبير عن ضيق طلاب الفنون بذلك الشاعر الذي ينتمي إلى الأقسام الهندسية التي تحتل الجزء الغربي من المعهد الفني. لا أذكر التفاصيل التي ذكرها خلف الله عبود، ولكن يبدو أن أحمد عبد العال أطلق حملة للاحتفال بذلك الشاعر، ودعا إلى تنصيبه أميرًا لشعراء "غرب المعهد الفني". وبالفعل قام طلاب الفنون وعلى رأسهم أحمد عبد العال بتجميع مجموعة صاخبة من الطلاب اعتلى أحمد عبد العال في وسطها مكاناً مرتفعاً، ووقف في الطلاب خطيبًا، عاقدًا لواء "أمير شعراء غرب المعهد الفني" لذلك المتشاعر المزعج.

الطريف أن ذلك المتشاعر كان مصدقًا أن الإحتفاء به احتفاءٌ حقيقي. فكان في غاية الزهو، ولم يدرك أبدًا أن كل ذلك التهريج الذي يجري كان هدفه الوحيد هو السخرية منه، والتعبير عن الضيق به، خاصةً أن اللقب قد جعل منه أميرًا على شعراء "غرب المعهد الفني"، وليس على المعهد الفني ككل. والمعهد الفني آنذاك لا يتجاوز عدد طلابه الألف، يزيد أو ينقص قليلا. الشاهد، أن الرجل أزعج طلاب الفنون حتى احتفوا به من شدة الضيق! وهذه واحدةٌ من تعيُّنات المثل السوداني القائل: ((كان غلبك سدَّها وسِّع قدها)).

كان أحمد عبد العال شخصاً ذا عقلٍ نشطٍ، وجسدٍ نشطٍ، دلّت على كليهما انجازاته في الكتابة وفي الرسم. فقد كان مفرط الحيوية جم الحركة، جم النشاط، hyperactive ولربما تكون تلك الحيوية الدافقة هي التي استهلكت صحته، وجعلت إقامته بيننا قصيرة على ذلك النحو. ولي عودة لمداخلة صدقي كبلو في ما يتعلق بمدينتنا التي ماتت، والنضال الذي خبا أواره، بعد أن انبهمت مسالكه. فالأمر كما تفضل صدقي تفكُّرٌ في ما حاق بنا، وليس نوستالجيا أو فانتازيا.


((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

عشنا عقب دخولنا كلية الفنون في سبعينات القرن الماضي في شيء من بحبوحة بقايا "دولة الأفندية"، فكنا شاهدين على أيامها الأخيرة وسيرها المتسارع نحو أجلها المحتوم. أدركناها وهي تعبر أصيلها، الذي كان يشحُب، لحظةً إثر لحظة، وتابع مساره في مسلسل ذلك الأفول الدرامتيكي حتى غربت شمسها، وأحمر شفقها الدامي فغطى حافة الأفق. لم نقف مكتوفي الأيدي، ولم نكتف بالمراقبة، وإنما حاولنا، كلٌّ بطريقته، ما وسعتنا الحيلة، وقف عجلتها المتدحرجة نحو الهاوية. لكنها كانت مركبةً ثقيلةً متحدرةً من علٍ، فخارت قوانا وانزلقت المركبة عابرةً أصيلها نحو ديجورها الذي لا تزال فصوله تتوالى. لذلك، أجد من المهم جدًّأ أن يدلي المرء منا، نحن أهل ذلك الجيل، بشهادته حول ذلك الأفول المريع.

لقد كانت دولة الأفندية "دولة رفاهية"، ولكنها كانت دولة "رفاهيةً كاذبة". فهي دولةٌ ورث حداتها وقادتها تدليل المستعمرين البريطانيين لذواتهم، ولا غرو أن استحالت على أيدي هؤلاء الأفندية الذين ورثوها إلى بِدَل سموكن، وكدوسات، وليالي في غوردن ميوزيك هول، وبيوت درجة أولى في نمرة أثنين، والمقرن، ثم لاحقًا في العمارات، وعربات صوالين للسفر بالقطار، وتصاريح سفر مجّانية على سكك حديد السودان، وعلى سودانير، وعلى بواخر النقل النهري. وكذلك مساجين مساكين يخدمون سُخرةً في بيوت الموظفين الكبار. ولا ننسى البعثات الدراسية إلى الخارج، وتسهيلات ادخال العفش والسيارات إلى السودان، وكثير من جنس هذا. ونحن لم نراجع تلك السيرة المخزية لدولة الأفندية، وربما لن نفعل. غربت شمس تلك الدولة في حوالي العقد والنيف، ولم تَتِح لأحدٍ، بسبب سرعة تبخرها، فرصةً للمراجعة. بل إن "حكم الوقت"، كما يرد كثيرًا على لسان الأستاذ محمود محمد طه وقلمه، لم يكن ليسمح بشيءٍ من تلك المراجعة الواجبة. وما لبثت البلاد حتى جاءها نميري وركب معه بعضٌ من بني اليسار، فانقسم الحزب الشيوعي وأدى انقسامه إلى انتحاره "اللاإرادي" بعد عامين وشهرين فقط من قدوم مايو، وملأ الفراغ الذي خلفه اليسار المسخ المسمى الاتحاد الاشتراكي. ثم ما لبث أن بدأ الخراب العظيم. قال أدونيس - الذي كنا مفتونين به، وبحواره مع منير العكش في مجلة "مواقف"، في مطلع السبعينات - هذا البيت الشعري، وأظنه ورد في ديوانه: "مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف"، يقول مولانا أدونيس، أطال الله عمره، في بيته المفعم بالحذلقة الأدونيسية: "أتى العصفُ الجميل، ولم يأت الخرابُ الجميل". انعكست حالة القهر السياسي غير المسبوقة التي تعرض لها الشيوعيون عقب انقلاب يوليو 1971 على التعليم العالي والحركة الطلابية بشكل عام، وبطبيعة الحال على كلية الفنون.

أتت بـ "دولة الأفندية" "الكلفتة" التي لازمت الحركة الوطنية. فانتهى الاستقلال إلى أسلابٍ يتم تقاسمها. ولم يَعِف عن مغنم هذه الأسلاب سوى الأستاذ محمود محمد طه، وطلائع الشيوعيين. بخلاف ذلك، كانت "دولة غنائم وأسلاب" ولغ في ماعونها الآسن الجميع، فتآكلت حتى "هزلت وبانت كُلاها وسامها كلُّ مفلس". ونحن ممن نعموا بشيء من ريعها في نهاياتها. درسنا في المدارس الداخلية على نفقة الدولة في مدارس لم يكن ينقصها شيءٌ تقريبًا، وهذا شيء ربما صعب على الأجيال الجديدة تصوره. وحين جئنا إلى كلية الفنون، أعطوا كل واحد منا دعمًا ماليّا، يُسمى Bursary كان مقداره تسعة جنيهات. من هذه الجنهيات التسعة كنا ندفع الميز وكان لا يتجاوز الأربع جنيهات لكل الشهر. أما الباقي فنشتري منه الملابس، ونشترى مسلتزمات الصحة الشخصية كالصابون والمعجون وغيرها. وكنا ندفع منه أجرة المواصلات، ونشتري المجلات، والكتب والألوان، ونرتاد دور السينما، بل تمتد تلك "البيرسري"، التي كانت تعادل الثلاثين دولاراً وقتها، لتغطي مستلزمات المزاج من سجائر وغيرها. وكما سبق أن ذكرت قبل بضع سنوات أن حسن موسى كان يستلم من أسرته عشرة جنيهات إضافية أسمهت بقدرٍ كبير في "بحبحة" الشلة كلها.

كان سكان الخرطوم قليلون وقتها، وكان ذلك ظاهرًا في كل شيء. كانت حركة المواصلات سهلةً ومنتظمة. كانت سيدة المواصلات في النصف الأول من السبعينات بصات الفيات الإيطالية التابعة لمواصلات العاصمة. كنت تجدها مصطفّةً بالعشرات في الجزء الشمالي من ميدان الأمم المتحدة قبالة سوق الخضار القديم والجزارات. رسم هذه البصات حسن موسى مرةً بألوان الماء وأنتج صورةً جميلةً أدهشتنا. ولقد اقتنصت تلك المائية الحية روح نهار الشتاء في الخرطوم في تلكم الأيام. قال الناصر قريب الله، غشيت قبره سحائب المزن الهتون مخاطبًا معشوقته "أم بادر": "لست أنساكِ والبروقُ تجاوبنَ وروحُ النهار في اضمحلالِ". نفَّذ حسن موسى تلك اللوحة من منطقة الموقف مباشرة، في الجهة الغربية من ميدان الأمم المتحدة المقابلة لعمارة أبو العلا القديمة، وكان الجمهور الذي يرى طلاب الفنون جالسين يرسمون يعجب من فعل الرسم في الهواء الطلق. وكما قال المعري: "أقول والوحش ترميني بأعينها، والطيرُ تعجبُ مني، كيف لم أطِرِ؟!"

أشتهرت منطقة موقف المواصلات شمال ميدان الأمم المتحدة بأنها مكانٌ ثابتٌ للاعبي "ملوص"، الذين كثيرًا ما تهجم عليهم الشرطة، فينفضون، وما أن تختفي الشرطة يعودون سيرتهم الأولى يصخبون ويتغالطون ويتهاوشون في حين ينصرف عنهم ضحاياهم من "المخروتين" بحلوقٍ مرة. أما الجانب الجنوبي فكان يضم حلقة مديح تنتظم من بعد الضحى حتى يتقدم النهار. وصلت بصات الفيات تلك بعد أن انقرضت البصات الأمريكية الضخمة ماركة "بلوبيرد". وبعد أن نفقت بصات الفيات، بدورها هي الأخرى، وصلت بصات أبورجيلة في عهد نميري، وهي بصات مرسيدس برازيلية الصنع، ما لبثت، أن أصبحت، أثرًا بعد عين، في ما لا يزيد عن بضع سنواتٍ. ونحن، في ما يبدو لي، بحاجةٍ إلى مؤرخين ليؤرخوا لنا سيرة نظم المشتريات السودانية من الخارج، كالبصات، وعربات الجيش، والأسلحة. فهذه سيرة تتضمن في ثناياها قصصًا كثيرةً من جوانب الفساد الإداري، وسيرة فصول انهيار الدولة السودانية.

في حقبة الفيات، وهي حقبة النصف الأول من السبعينات، كانت بصات مواصلات العاصمة، تعمل حتى بعد الحادية عشرة ليلاً، وكانت وسيلتنا المفضلة لارتياد السينمات البعيدة كسينما النيل الأزرق والحلفايا، وغيرها. فقد كانت أجرة تلك البصات زهيدة "قرشين ونصف" على ما أذكر، كما كانت منضبطة جدًّا. كانت دور السينما تعمل مرتين؛ الدور الأول من حوالي السادسة حتى الثامنة والنصف، والدور الثاني من حوالي التاسعة حتى الحادية عشرة. كنا نتخير الأفلام وكان المعروض منها الذي يتسم بالجودة كثير جدا. ولقد جاءنا كل من محمود عمر، وحسن موسى من الأبيض بثقافة سينمائية كبيرة جدًا، فهما أولاد مدينة وكان شخصي، على سبيل المثال، إبن قرية لم ير السينما إلا في ود مدني في فترة حنتوب. وما سبق ذلك كانت السينما المتجولة التي تطوف على القرى، وهي تابعة لوزارة الإستعلامات والعمل وقتها، وكانت تبث أفلام تسجيليلة تشرح للأهالي جهود حكومتهم الرشيدة. أما سينما الدور المدينية فتجربتي معها، قبل المرحلة الثانوية، لم تتعد تلك التجربة البعيدة، حين أخذني خالي محجوب إلى الخرطوم ليستخرج لي شهاة تسنين، وعمري وقتها تسع سنوات. فنزلنا مع بعض أهلنا في حي ودنوباوي، وفي المساء أخذني إلى سينما برمبل وكانت في الميدان الذي يقع حاليا أمام بوستة أم درمان، وشهدنا يومها فلمًا مصريًا لتوفيق الدقن إسمه "سواق نص الليل". وحين ذهبنا إلى حنتوب كان ارتياد دور السينما بالنسبة لنا متقطعا، إذ يتم كل بضعة اسابيع، فنعبر النهر إلى ود مدني لارتياد السينما. اما السنة الأولى في كلية الفنون فقد كانت السنة الأبرز في تكوين ثقافتنا السينمائية ومعرفتنا بهولي وود وعمالقتها من الممثلين والممثلات والمخرجين. كنا نخرج من الاستوديوهات أو من باحة الكلية بعد الثامنة فنغشى بوفيه السجون لنتاول الفول ونعرج على سينما غرب جارتنا العزيزة لنرتاد الدور الثاني، وحين نخرج تكون بوابة معهد الكليات التكنولوجية قد أُغلقت فنذهب لـ "الشرمة" التي أحدثها قفز الطلاب الكثير فوق الحائط في الركن الجنوبي الشرقي الأقصى من سور المعهد قبالة أستاد الخرطوم فنقفز الحائط ونتجه إلى أسرتنا "ويا دار ما دخلك شر".
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

بيت ناس مكي

مشاركة بواسطة حسن موسى »

Elnour Hamad كتب:[size=24] .


أما من جهة الغرب فبيوت قصيرة مجللة بالزبالة هي "حلة المقرن" القديمة التي استأجر فيها زميلنا وصديقنا وزميلنا مكي محمد علي بيتا لأسرته. ومكي محمد علي أستاذٌ منتدب، حيُّ الشخصية، مشغول بالفكر وبالأدب وبالفن وبقضاياها. ولأساتذة المنتدبين إلى كلية الفنون، صفحةٌ خاصةٌ ربما قلَّبناها لاحقًا. تلك البيوت الطينية القصيرة هي البيوت التي كان الصلحي يبعث بالطلاب إليها ليرسموها بألوان الماء. أحيانا يبعثهم عدة مرات، ليرسموا نفس المكان، كما أخبرنا من سبقونا. ولخلف الله عبود مائية تصور أحد هذه البيوت الطينية القصيرة، وبؤرة تلك الصورة عربة كارو منكَّسة المقدمة تربض أما باب بيت، أرجو أن يكون خلف الله لا يزال محتفظًا بها فيرفعها في هذا البوست. في بيت مكي محمد علي الطيني، القصير الوطيء المستأجر تغدينا مرةً غداءً لا يُنسى. لاحقًا أصبح مكي قاصًا ونشر بعض الروايات.






يا النور دي واحدة من مائيات 1973، رسمتها تحت هجير الظهيرة و أنا واقف في الشارع على ورقة " كارتريدج" سريعة الجفاف بفعل الشمس.بيت ناس مكي كان ورا الشارع دا ممكن تلف يمين ورا الدكان الناصية و بعدين تاخد أول لفة شمال و لو سألت أي زول " ياخي بيت ناس مكي بي وين ؟" يوصلك للباب. أين مكي محمد علي اليوم؟


صورة
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

حسن موسى سلام
لقد أذكرت عهدًا مؤنسًا بنشرك لهذه المائية البديعة التي كدت أن أنساها!
حين كتبت عن حلة المقرن كانت صورتها غائمة ومبهمة هونا ما في ذهني بفعل تقادم الزمن ولكن المائية أحيت ذاكرتي.
تذكرت الدكان والمسجد، وشيئا من تفاصيل تلك "الحلة" الجالسة بين الغابة والمشتل، وكأنها تندس خجلاً من العمار الذي أحاط بها.
لا أدري أين هو مكي محمد علي الآن. فليدلنا عليه من يعرف.


تغنت جماعة عقد الجلاد بـ "جمال النيل والخرطوم بالليل". و"الخرطوم بالليل" إسم ثوبٍ نسائيٍّ سوداني أيضًا، كان قد شاع في حقبة الستينات. وهو ثوبٌ مُحلَّى بخيوطٍ معدنيةٍ براقة، وكانت الخرطوم تتلألأ بريقًا في "تلكم الأيام"، فأسموا ذلك الثوب على بريقها الليلي الذي ما لبث أن "خبا بعد التماع"، كما غنى زيدان من شعر إبراهيم ناجي. وكما قال سعيد عشا البايتات عليه الرضوان: "روح يا زمان، وتعال يا زمان!!". كانت أضواء النيون ذات الوميض قد دخلت لتوِّها، وكنتَ ترى الإعلانات التجارية ذات الوميض تزين واجهات وهامات المحلات التجارية فوق السوق الإفرنجي. كان سائقو التاكسي مهندمون وكاموا يغسلون سياراتهم ويلمعونها كل يوم. وحين يمرون أول المساء بشارع الجمهورية ترى انعكاسات أضواء النيون الملونة تنزلق على أسطح سياراتهم اللامعة. ثم ما لبثنا أن أظلنا عهد التراب! "وكل الذي فوق الترابِ ترابُ".

تلك كانت هي حقبة الستينات؛ "حقبة الصرعات الكوكبية" والثورات الكوكبية، وكنت الستينات وبدايات السبعينات هي عصر الألق في السودان، وكانت عصر الشعر، وعصر الآمال العريضة المخضلة قبل أن تنطفئ شموعها. في تلك الحقبة بدأنا نرى "لاس فيجاس"، مدينة القمار واللهو العظمى على وجه البسيطة، من خلال أفلام السينما، فنعجب من أضواء النيوين ذات الوميض التي تغطي تقريبًا كل واجهات أبنيتها. وانطلقت رأسمالية الخرطوم المسكينة والشركات الأجنبية القليلة في التأسي بلاس فيجاس وبأساليب الرأسمالية الأمريكية الصاعدة عقب الحرب العظمى. أسميت محلات المرطبات في أمدرمان "ميامي" و"مونتانا". كانت السيارات في الخرطوم دائمًا جديدة. وكان السوق في جملته مرتبط بأوروبا؛ فهناك الشركات الأجنبية كـ "جلالتي هانكي" و"ميتشل كوتس" و"سودان ميركنتايل" وهلم جرا. الشركات الأجنبية التي حافظت نوعًا ما على المظهر الحضاري للخرطوم استهدفها نميري، في سكرةٍ اشتراكيةٍ كاذبة، فقام بتأميمها بين عشية وضحاها، وما لبثت أن أضحت، في بعض سنوات، أثرًا بعد عين. من تلك الشركات، شركة خدمات ليس إلا؛ مثل شركة "البص السريع" الإسم الشهر في عالم النقل في السودان في الخمسينات والستينات. في تلك الحقبة كان سفر الموظفين لا يكون إلا بتلك البصات ذات المقاعد الوثيرة والزجاج المغلق. وقتها، كان السفر يتم باللواري. الموسرون والأفندية يركبون مع السائق، أما بقية الركاب فعلى هامة الشحنة المكونة غالبًا من صناديق البضائع، وكراتين الصابون، وصناديق البيبسي كولا، وجولات الحبوب والبصل وغيرها. السفر المريح على المقاعد حسنة التنجيد والزجاج الذي يحمي من الغبار لا يكون إلا بتلك البصات المقاتلة التي استوردها الخواجة، صاحب شركة "البص السريع"، وكانت مصممة لتسير على طرقات السودان غير المعبدة. كانت تصل الخرطوم بودمدني قبل تعبيد شارع الظلط، كما كانت تصلها بسنار وسنجة، والقضارف وكسلا، وكوستي. وكانت كل تلك السفريات تتم على طرقٍ غير معبدة. وكان للبص السريع إجازة خريفية، مدتها ثلاثة شهور. تبدأ من منتصف يوليو حتى منتصف أكتوبر، تجنبًا لوحل الخريف، الذي كان وقتها خريفًا حقيقيًا حتى في نطاق السافنا الفقيرة. في تلك الفترة يصبح القطار هو وسيلة النقل الوحيدة. كان يدير تلك الشركة الخواجة المالك، تعاونه حفنةٌ قليلةٌ جدّا من الموظفين. أمم نميري ومساندوه من اليساريين المتعجلين تلك الشركة، وأسموها "مؤسسة النقل الوطنية"، ودخلت بذلك بعد اجهاض انقلاب يوليو ضمن نظام استرضاء الجنرالات الذين تتم إحالتهم إلى المعاش. ولعلهم جعلوا على رأس مجلس إدارتها جنرالاً مُحالاً للمعاش كالعادة، لم أعد اذكر. خلقوا لها إدارةً مترهلةً مثل "إدراة عموم الزير"، فكانت الإدارة تزداد وتترهل، كما تزداد مخصصات "العاملين عليها، وفي الرقاب، وأبناء السبيل، هذا في حين كانت بصاتها تتناقص، حتى أصبحت شركة نقل بلا بصات، مثلما أصبحت سودانير شركة نقل جوي، بلا طائرات. بالمناسبة: أين "مواصلات الجزيرة" التي عبّأت طريق الخرطوم مدني في بداية الثمانينات ببصات "البارليه" الفرنسية؟ قال إبن عربي:

عبَّيْتُ أجيادَ صبري يومَ بينِهِمُ على الطريقِ كراديسًا كراديسا

وهكذا عبأت ولاية الجزيرة طريق الخرطوم مدني ببصات "البارليه" كراديسا، كراديسا، ولكنها اختفت، وكأن الجان اختطفها. هذا باختصارٍ مخل، بعضٌ من سيرة الدولة السودانية الغاربة، التي لا يريد أحدٌ أن ينبش فيها.

ونعود لأضواء الخرطوم المتلألئة في النصف الأول من الليل. كان شارع الجمهورية شارعًا براقًا تعلو هامات عمائره الإعلانات ذات الوميض. كانت هناك لوحةٌ ضخمةٌ من النيون ذات الوميض تعلن عن سجائر قولد ليف، وسجائر قولد ليف لمن لا يعلمون هو الطور الأحدث لسجائر البحاري، أو البحار ذي اللحية الذي تجلس صورته على واجهة الصندوق في إطارٍ من الحبال. كان البحاري قبل أن يتحول إلى قولدليف هو ملك السجائر في الخمسينات والستينات. كان السجائر المستورد منحصرا بشكل رئيس، في البحاري. أما المحلي فهو أبو نخلة، والبرنجي، ثم شامبيون، وكان ينتجها، على ما أظن، آل حجار. بعدهما أغرقت بال مال الإنجليزية السوق السوداني بالروثمانز والبنيسون آند هديجز. أما خلاف ذلك فلا شهرة له وإن وجد. وكان وجوده متركزًا على أغلفة المجلات المصورة التي تأتي من مصر وبيروت، حيث كنا نرى صوراً لسجائر مالبورو، وبيتر ستايفزانت، ونيوبورت، وغيرها. أيضًا كانت هناك لوحة إعلانٍ أخرى ضخمة لطيران BOAC قبل أن تصبح British Airways. وفي بداية السبعينات كانت هناك لوحة مضيئة قبالة المحطة الوسطى تعلن عن سيارات الفولجا والموسكوفيتش وذلك بعد أن بدأ الاستيراد من الاتحاد السوفيتي وبدأ احتكار البضاعة الإنجليزية للسوق السوداني يتراجع. كانت السيارات حتى بداية السبعينات سيارات بريطانية وألمانية وإيطالية. كانت البريطانية من ماركات مثل "هيلمان" و"كونسول" بأنواعها: "كونسول كورسير"، "وكونسول كورتينا"، إضافةً إلى "زوفير" و"همبر" و"إنجيليا" و"فوكسهول". أما الألمانية فيغلب عليها الأوبل، ومن موديلاتها: "أوبل ريكورد"، و"أوبل كاديت" و"أوبل كابيتور" بالإضافة إلى المرسيدس وهي سيارة صفوة الصفوة. أما الفلوكسواجن فقد اقتناها كل من هب ودب لرخص سعرها ولتوفر نظام الأقساط. وكان وكيلها في الخرطوم شركة سفريان. ولقد اقتنى كثير من أساتذة كلية الفنون السيارات الفلوكسواجن "بيتل"؛ منهم أستاذ الخط المصري عبد المنعم عبد اللطيف، وأحمد حامد العربي، وآخرين، ربما عبد المنهم تكستايل، ومحمد الأمين، وآخرين. أما أحمد مدرس الخط العربي فكانت له سيارة فيات 1100 تستوردها شركة قطان التجارية. الشاهد، أنه كان للسيارة الفلوكسواجن حضور كبير في باحات كلية الفنون. بعد تأميم الشركات انفتحنا على اليابان فدخلت "البرلينا" السيارة الصغيرة التي تنتجها "دايهاتسو" ثم التويوتا، ثم الداتسون التي كانت هي إسم النيسان. ثم اختلط الحابل بالنابل.

لم يكن السوق العربي نشطًا في الليل كما السوق الإفرنجي. ولذلك، لم تكن لافتات النيون شائعة فيه وكان النشاط التجاري في الليل ينحصر فيه في صفّي الدكاكين الواقعين جنوب ميدان الأمم المتحدة. وكانت أغلب هذه الدكاكين دكاكين أقمشة، وكانت حركة المتسوقين بالليل قليلة. كانت أشهر المحلات التجارية نشاطًا في السوق العربي بالليل محلٌّ للفول في الصف الثاني، نسيت إسمه، ولكنه كان يقدم فولاً بالجبنة وزيت السمسم "ما حصلش"، كما يقول المصريون. اشتهر هذا المحل بجودة الفول، مثلما اشتهر محل أبو العباس شمالي مستشفى الخرطوم. كما كانت هناك بعض الكافتريات النشطة التي تبيع السندويتشات والمرطبات والحلويات تقع في صف السوق العربي المواجه لميدان الأمم المتحدة من الجهة الجنوبية. وكان هناك محلٌّ شهيرٌ إسمه "جروبي" يفتح في مواجهة الجهة الشمالية من الجامع الكبير. هذه المحلات كانت تفتح حتى وقتٍ متأخرٍ من الليل، وأظنها كانت تلبي حاجة من يخرجون من سينما كولوزيوم، وهم متجهين إلى موقف المواصلات حول ميدان الأمم المتحدة. كل هذه الأماكن أصبحت أثرًا بعد عين. المحلات في العالم المتقدم تعيش قرونًا إذ يسلمها الجيل السالف للجيل اللاحق في تتابعية واستمرارية مدهشتين، خاصة الأعمال التجارية التي تملكها وتديرها الأسر. في السودان تبدأ الأعمال التجارية ثم ما تلبث أن تختفي. لا شيء يستمر أبداً! وهذا موضع مبحثٍ في مسار الاضطراب وتقلب السياسات، وكذلك في سياسات الاستهداف والكيد. السودان ظل يعمل بمختلف طاقاته ضد الثبات والرسوخ وضد الاضطراد والنمو! الخرطوم اليوم لا صلة لها البتة بخرطوم الأمس. فما ظل يجري فيها كان هدمًا عشوائيًا، تحل محل المهدوم، بنية تجاريةٌ عشوائيةٌ جديدة، لا تلبث أن يأتي من يهدمها، وهكذا دواليك.

المنطقة المحصورة بين تقاطع شارع القصر وصينية سانت جيمس هي الجزء الأكثر حيوية من شارع الجمهورية. إنها قلب السوق الإفرنجي النابض. هناك للبقالات رائحةٌ خاصة، وهي رائحةٌ أوروبيةٌ "بحتة"؛ خليطٌ من روائح الأجبان الأفرنجية، والباسطرمة، واللحوم المدخنة، والفانيلا، والبن الحبشي المحمص، وغيرها من روائح البضائع الأجنبية المتنافرة الممتزجة. لقد كانت تلك الروائح، بالنسبة لي، روائحَ مُسكرةً وغامضةً ومهيّجة للواعج الاتصال بالبلدان البعيدة، وبالحضارة الأوربية في منابتها التي كانت وقتها أبعد ما تكون من أن تطالها أيدينا. لقد كانت رائحة السوق الإفرنجي جديدةً علينا تمامًا. فهي مما لم تعهده أنوفنا قط، وليس لها في "ذاكرتنا الشمِّية" أية مرجعية. كنا نتسكع في فرندات السوق الإفرنجي المضاءة؛ بتعبير ود المكي: "عار الدكاكينِ، الأرائكِ، والفرندات المضاءة". كنا لا نطيق صبرًا عن تلك الجهة من المدينة، فقد كان بنا جوعٌ لا يوصف، بحكم أمزجتنا التشكيلية، للمشاهد البصرية والتجارب البصرية. وكان السوق الأفرنجي بالنسبة لنا المكان الأغنى باللون وبالحركة وبالأضواء، وبالبشر وبالإناث من مختلف الأجناس، وبالسحن المتباينة وبالعطور، وبكل ما يلهب الحواس ويشبعها. أيضًا كان السوق الإفرنجي قنطرة تربط بين خلفيات نشأتنا السودانية ومحدودية عوالمنا، وبين العوالم التي دلتنا عليها الكتب والسينما ومختلف المواد المقروءة. لقد كانت تجوالنا هناك أقرب إلى التجارب التأملية الروحية، منه إلى مجرد التسكع. وقد كنا وقتها مشاةً أشاوس. نترك منطقة المقرن حيث المعهد والكلية لنتجه شرقًا من خلال بيوت الأقباط والأجانب، التي هي قوام منطقة الخرطوم غرب، لنلج السوق بشقيه العربي والإفرنجي. كانت تلك الروائح تنبعث من أماكن بعينها أذكر منها بقالة تقع على شارع الجمهورية قريبًا من محلات أتينيه الشهيرة. أيضًا كان لمحلات زكي في شارع البرلمان رائحتها الخاصة، وهناك محل على شارع القصر يسمى الـ GB لم نكن ندخله ولكن رائحته الأجنبية النفاذة تخرج من مدخله، وتلفح أنف من يمر أمامه. كما كانت لمحلات "جنبرت" رائحتها الخاصة، وكذلك مخبز بابا كوستا. أما محلات إبراهيم ميرزا التي نحبها بسبب معدات ومواد الفنون فقد كانت رائحتها مختلفة. أيضًا كان هناك محل يسمى "سويت روزانا" بالقرب من دكان عمر عطية للأسلحة في أقصى الجهة الشرقية من شارع الجمهورية. وكان للمعروضات المصرية رائحتها الخاصة بها المتسمة بشيء من القدم. أما دكاكين الأقشمة، التي كان يديرها السودانيون فرائحتها آنذاك خليط من رائحة الأقمشة الجديدة ورائحة القش المبتل المنبعثة من مبردات الهواء المائية، ماركة "أيسك" و"أدميرال" التي تُصنع في المنطقة الصناعية في بحري. حينها لم تعرف الخرطوم مبردات الهواء التي تعمل بالفريون، ولم تعرف استيراد أجهزة تبريد الهواء.

في هذا الجزء من شارع الجمهورية كان هناك فندقا "صحارى" و"أكسلسيور". لم نكن نعرف شيئًا عن عالم الفنادق. نسمع بها من الصحف، كما يقول أهلنا في الجزيرة؛ "سمع الجداد بالبحر". (وسبب المثل، أن كل حيوانات القرى ترد النيل الذي هو "البحر". أما الدجاج فلا يرد البحر، وإنما يسمع به سمعًا فقط). حينها كانت تترد أسماء في ليالي الخرطوم الموسيقية "المغربنة" التي عادة ما يحتضنها فندقا "صحارى" و"اكسليسيور"، وكذلك ملهى "الكريزي هورس" في المقرن، فتتردد أسماء مثل "كمال كيلا وفرقته"، و"عامر ساكس" و"جاز العقارب" و"شرحبيل أحمد وفرقته" و"البلو استارز" حتى ظهر "وليام أندرية وفرقته"، وأمورٌ شيقة أخرى كنا نسمع بها كلها: "سمع الجداد بالبحر". زرت شارع الجمهورية قبل فترة قصيرة فبدا هذا الجزء من المدينة الذي كان متألقًا في يوم من الأيام وكأنه قد أصابته قنابل نابالم "البركة فيكم". يتباكى كثيٌر من نوستالجيي الخرطوم على ما يسمونه بـ "الزمن الجميل". علّق على تلك البكائيات عبد الله علي إبراهيم ذات مرةٍ قائلًا: "الزمن الجميل بتاع الساعة كم؟". في ما يلي من التفكر سوف أتحدث عن أكذوبة "الزمن الجميل". فنحن معشر السودانيين لسنا سوى حليمة التي رجعت لعادتها القديمة. فـ "الزمن الجميل" الذي تبكي عليه طبقة الخرطوم المدينية الوسطى المكلومة، كان زمنًا كولونياليًّا، إنجليزيًا صرفًا ولم يكن زمنًا سودانيًا، وقد ذهب مع أهله، ورجعنا نحن إلى سنِّارنا، ومهديتنا، وما هو محيط بهما بشكلٍ عضوي.
فإلى لقاءٍ جديد!
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
أضف رد جديد