كلية الفنون وشريط الذكريات

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
عبد الماجد محمد عبد الماجد
مشاركات: 1655
اشترك في: الجمعة يونيو 10, 2005 7:28 am
مكان: LONDON
اتصال:

مشاركة بواسطة عبد الماجد محمد عبد الماجد »

.
صورة

و علي عبدالله, يا لهن من عيونٍ وأنامل.
_______________________________________________

هذا الخيط خيط عجيب
هنا أدب رفيع يا إخوتي فدعوني مع الشبق الحروفي. (استديو التشكيلي الفنان عصام عبدالغفار أخ الراحل التشكيلي الفنان عبدالرازق عبدالغفار
المطرودة ملحوقة والصابرات روابح لو كان يجن قُمّاح
والبصيرةْ قُبِّال اليصر توَدِّيك للصاح
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

سلام للجميع
حبسني من المواصلة مؤتمرٌ أمضيت فيه ثلاثة أيام حسومًا تدير الرأس.

ويا أحمد سيد أحمد "طُبطُب"، "لا سمعتو ولا جابو لي"! إنها الشيخوخة، التي أخذت بتلابيب الكهولة، يا صديقي العزيز. فأنا لم أنس حِنَّك عليَّ بالزبادي، وأنا وقتها مثل محمود عمر، أنحل من مترار، أعاني قلق مطلع العشرينات الممض، وفورات القولون العصبي التي جعلت حياتي جحيمًا لسنواتٍ متتاليات. أعرف أن فيك من السماحة ما أعول عليه للإعذار، فأعذرني.

أمضينا عامنا الأول في الكلية (1970 – 1971) وكانت مكانة الحزب الشيوعي في البنية المايوية تتراجع بوضوح. فقد أدي اختلاف الآراء حول الموقف من انقلاب مايو منذ حدوثه إلي انقسام داخل بنية الحزب. فقد أيد بعض قادته البارزين الانقلاب، بل دعوا إلى أن يحل الحزب نفسه. من هذا الفصيل المؤيد للإنقلاب عين النميري بعض وزرائه، ما جعل الحزب الشيوعي يبدو وكأنه مع الانقلاب قلبًا وقالبًا، رغم أن ذلك ليس صحيحًا. فالتيار الآخر الذي كان على رأسه السكرتير العام للحزب عبد الخالق محجوب ظل متحفظًا على فكرة الوصول إلى السلطة عن طريق الانقلاب. في 16 نوفمبر 1970 وفي فبراير 1971 أعلن نميرى عن نيته في القضاء على الحزب الشيوعي، وما لبث نميري أن حل نظيمات الطلاب والشباب والنساء التي كان الشيوعيون يسيطرون عليها. أدى ذلك الاستهداف المايوي لبنية الحزب الشيوعي إلى قيام انقلاب هاشم العطا المضاد في 19 يوليو 1971. كانت نقطة انقلاب 19 يوليو هي النقطة الفارقة في الاستقرار النسبي الذي كان ينعم به السودان. من تلك النقطة بدأت الأمور تسير لتصبح خارج سيطرة كل القوى السياسية. فكل ما فعلته مايو بعد انقلاب يوليو لم يتعد نطاق الحيل للبقاء في السلطة. فقدت مايو البوصلة، وفقدت البرنامج وفقدت النخب جميعها، إلا من انتفع منها بمايو، أو من علق عليها آمالاً لم تكن في محلها. ومن الناحية الأخرى، كان كل ما قام به الحزب الشيوعي السوداني لم يتعد نطاق المحاولة للعودة لحالته الأولى، بوصفه حزبًا ناميًا متزايد الجماهيرية، وذا تأثير على الشارع. فالمظاهرة التي أخرجها الشيوعيون عقب انقلاب هاشم العطا كانت كبيرة، وكانت آخر تحريكٍ معتبرٍ للشارع يقوم به الحزب في حياته. وعمومًا، لم ينجح الحزب الشيوعي قط في العودة إلى حالته التي سبقت انقلاب يوليو. فبعد انقلاب يوليو تعقد الصراع، وأصبح مواجهة بين الجبهة الوطنية "الأنصار، والاتحاديون، والإخوان المسلمون" من جهة، ومايو المتراجعة باستمرار من الجهة الأخرى. وما لبث أن تجاوز الزمن مايو والحزب الشيوعي، ومات الاتحاديون والانصار موتًا سريريًا، ثم ما لبثت ثورة مايو أن ماتت هي نفسها، وبزغ علينا في غمرة سكرات موت الديمقراطية الثالثة، فجر الإسلامويين؛ الفجر الذي لا شمس له ولا ضوء فيه، فهو أشبه بفجر انتاريكتيكا القطبي في غبش شتاء القطب الطويل.

اهتممت بأن أقدم هذا العرض الموجز لانقلاب يوليو لأنه مثّل في تقديري نقطة فارقة في تاريخ السودان الحديث. ويبدو أن العسكر يساريين وغير يساريين كانوا عنصرا أثر تأثيرا سالبا جدا على مجريات الحياة السياسية السودانية وعلى مسار بناء الدولة. وبالنسبة لي كان انقلاب يوليو هي نقطة المفترق التي عبرت بعدها من عالم الشلة إلى عالم الأستاذ محمود محمد طه. وقد سبق أن قلت في هذا الخيط، أن العام الأول في كلية الفنون (1970-1971) هو عام كألف سنة مما تعدون، كما تجري العبارة القرآنية. كل المشاهدات التي شاهدتها في الخرطوم ورصدتها في هذا الخيط هي في الغالب الأعم حصيلة ذلك العام الغريب. ورغم انتمائي للجمهوريين الذي بدأ في العام 1972، بقيت على صلة بشلتي (حسن موسى، محمود عمر، آدم الصافي، بدر الدين حامد) بحكم الدراسة في الكلية، وبحكم الرحلات السنوية، ولكنني ابتعدت من كثير من التفاصيل مما جري بعد اليوم الدراسي. وسأعود لهذا التحول الذي جرى لي بشيء من التفصيل لاحقا. فلقد ظللت متجاذبا بين التزامي الجديد وبين عالمي القديم.

عقب انقلاب يوليو 1971، أصبح الطلاب اليساريون محاصرين ومطاردين وبدأ إسم سجن دبك شمالي الخرطوم يكتسب شهرته. ومع ذلك كان صوت اليسار عاليًا جدًّا في كلية الفنون، وفي معهد الكليات التكنولوجية. وكانت معارك السيطرة على الاتحاد قائمةً على قدم وساق. حين جئنا في نهايات العام 1970 كان رئيس الاتحاد هو خلف الله عبود وانتهت دورة ذلك الاتحاد، ومال خلف الله عبود نحو الأستاذ محمود محمد طه وتبعه في ذلك الميل شخصي المفتقر إلى مولاه، وكان حادينا في ذلك الميل أخانا الراحل إبراهيم قرني. انعكست أحداث يوليو 1971 على الوضع في الكلية وبدت خطوط معسكري "التحرر" و"المحافظة" تتقاطع بشكلٍ حاد. مال أساتذة الكلية، المحافظون بطبعهم، نحو مايو. ولقد حافظ أساتذة كلية الفنون على الطابع المحافظ لأعضاء هيئة التدريس بإبعاد الطلاب المتمردين من فرص مساعدي التدريس بالكلية. ففترة الأربع سنوات التي يمضيها كل طالب في الكلية كانت كافيةً جدًا ليتم تصنيفه، وتحديد فرصته في أن يكون في المستقبل عضوًا في هيئة التدريس. ومن هنا يبدأ "طبخ" نتائج الامتحانات وتحديد سقف الدرجات للطلاب الموهوبين من ذوي القدرات العالية، الخارجين عن الرضاء العام لإدارة الكلية وهيئة التدريس، المسبحة بحمد إدارتها آناء الليل وأطراف النهار. ولا أظن أن ذلك المسلك المفتقر للأساس الأخلاقي كان حصرًا على كلية الفنون وحدها، وإنما كان مرضًا عامًا مستشريًا في جسد الحياة السودانية. وقد وسم ذلك المسلك بميسمه علاقات العمل وأصبح التحكم في منح الفرص للأفراد في كثير من مؤسسات الدولة، التعليمية والمهنية، جزءًا من الشطارة الإدارية. وبطبيعة الحال من يمارس مثل هذا العمل اللا أخلاقي يبنيه على تسبيب وتبرير، يراه هو أخلاقيًا. فمثل هؤلاء الأفراد يوهمون أنفسهم بأنهم حماة للقيم السائدة من الفالتين والمخربين. وعموما كله "غش في غش" للنفس.

لا غرابة أبدًا أن بقيت كلية الفنون بالنسبة لهيئة التدريس مجرد مكانٍ "لأكل العيش" وللبريستيدج الاجتماعي وللسلامة من المخاطر، أيًا كان نوعها. دعونا نتصور بلدًا به كلية للفنون، عاشت لعشرات السنين، وهي الكلية الوحيدة في البلد التى تُعنى بالثقافة البصرية وبقضايا الجماليات البصرية، ثم لا تُخرج هذه الكلية، في كل عمرها، ولا دوريةً أكاديميةً واحدة في مجالها. أفدح من ذلك، لم نعرف لأساتذة كلية الفنون الجميلة والتطبيقية في الخرطوم، أي كتابةٍ تُذكر في الدرويات العلمية، في أي مكان. بل لم يكن أساتذة كلية الفنون حتى ليسوِّدوا الصفحات عن الفن وقضاياه في الصحف السودانية. فكل الذين أسهموا في الساحة الثقافية السودانية، وكل الذين طوروا انجازاتهم الأكاديمية، وكل الذين أثروا الحراك الثقافي، ولا يزالون، وكل الذين ظلوا ينمون كانوا، في الغالب الأعم، من مطاريد الكلية، من فئة غير المرغوب فيهم من أساتذتها وطلابها. ربما شق مثل هذا القول على كثيرين، ولكنها الحقيقة العارية. فقد تعلمنا في كلية الفنون من بعضنا، ومن قراءاتنا الحرة، ومن بعض أساتذتنا القريبين منا، الذين علمونا في مساراتٍ موازيةٍ، لا علاقة لها بالبرنامج الدراسي. فالبرنامج الرسمي كان برنامجًا حِرَفيا وهو لم يكن متقدما حتى في حرفيته نفسها. كتب بولا كثيرا، وكتب أحمد الطيب زين العابدين، وكتب حسن موسى، وكتب صلاح الجرق، وكل هؤلاء ظلوا يطورون أدواتهم ويواكبون حراك المعرفة الكوكبية في الفضاء المعرفي العريض، وفي الفضاء الأكاديمي. وكتب آخرون مثل إبراهيم العوام، وأحمد عبد العال، ومحمد حسين الفكي، وصلاح حسن، وغيرهم. الشاهد، أن النواة الصلبة التي شكلت مؤسسة كلية الفنون "المحافظة" وهي نواة عاشت لأجيال حتى أسلمت الأمور لـ "الغول الإسلاموي" في نهاية المطاف، كانت نواةً آثرت أن تبقى بلا صلةٍ عضوية بالأكاديميا، وبلا صلةٍ بالحراك الثقافي المدني، رغم تخرجها من مؤسسات أكاديمية غربية عريقة.

مايو، مثل أي انقلاب عسكري غير واثق من نفسه ومن فرص استمراره، أخذت تصرف على الزخرف والزينة أضعاف ما تصرف على أي عمل تنموي حقيقي. ففي حين أخذت مواد التعليم في الكلية من أدوات وألوان تتناقص بشكل مريع، ازدهرت صناعة اللافتات، والملصقات، وتصميم الشعارات، وتزيين صواني الحركة، وإقامة مهرجانات الشباب والطلاب. وانخرط أساتذتنا في هذا الوجهة حتى أهملونا، نحن طلابهم الذين جئنا لنتلقى العلم على أيديهم، فأصبحنا لا نراهم إلا لمامًا. تحول عدد من أساتذة كلية الفنون ليصبحوا جزءًا من الآلة الإعلامية المايوية، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. وأذكر أنهم أخذونا من الاستديو ذات يوم إلى مدرسة الخرطوم غرب الإبتدائية لنقم بتلصيق دفاتر اللوحات الخلفية لمهرجان مايوي تحت اشراف الكوريين الشماليين الذين جيء بهم لخلق مهرجاناتٍ كالتي تحدث في أستادات كوريا الشمالية أيام "الرفيق المحبوب والمبجل لدى أربعين مليون من أبناء الشعب الكوري"، كيم إيل سونغ.

في الكتلة الطلابية لطلاب الفنون كان هناك معسكران في الكلية، بينهما ودٌّ اجتماعيٌّ، وصراعٌ سياسيٌّ لا يني. من جهة، "الكتلة المحافظة"، كان هناك على سبيل المثال: أحمد إيراهيم عبد العال، ومحمد عبد الله عتيبي، ومحمد حسين الفكي، ومحمد الحاج إبراهيم، وعصام أحمد حسن، وأمير التلب، قطب الاتحاد الاشتراكي، وأحمد إبراهيم المريود، وعمر عبد القادر، والشيخ الشريف نور الله، ومحمد علي الزبير تمام، ومحمد إدريس، ومحافظون أقل محافظة كصفية إبراهيم، وأحمد محمد احمد وداعة، وعلى أحمد سعيد، ومصطفى الصادق، وبرير الزين البشير. وهناك من الجهة الأخرى، يساريون بمختلف الدرجات منهم، على سبيل المثال؛ خلف الله عبود، والنور أحمد علي، ودار السلام عبد الرحيم، وبديعة الحويرص، ونجاة جاد الله جبارة، وأحمد سيد أحمد، وبابكر كنديو، وحسن موسى، ومحمد عبد الرحمن أبو سبيب، والباقر موسى، والشفة محمد علي، وأحمد البشير الماحي، ومحمد الحسن ، وآدم الصافي، وعبد المنعم الخضر، وصلاح حسن. وفي فلك هؤلاء كان يدور يساريون، "من منازلهم"، كبدر الدين حامد عبد الرحمن، ومحمود عمر محمود، وشخصي، والعوض مصطفى العوض، ومحمد حامد شداد، ومحمد مختار، وعثمان حامد الفكي. وكان هناك معتدلون بلا انتماء واضح إلى أي من الكتلتين كعبد الرحمن محمد أحمد كدوك، وأحمد جلي، وزينب الزبير الطيب، وآمنة محمد الخليفة النوحي. أقول هذا، ولا أجزم بصحة تصنيفاتي هذه، فبعضها ربما كان خاطئا. بصورة عامة يمكن أن يقال أن غالبية طلاب الفنون يغلب عليهم الاعتدال. وكان الملفت في كلية الفنون أنه لم يكن بها أخ مسلم واحد. وكان أول من اجتذبته أفكار الإخوان المسلمين من بين طلابها هو عمر عبد القادر الذي كان مفتونًا بجعفر شيخ إدريس وكان يتابع محاضراته العامة من مكان إلى مكان.

رغم الانقسام بين هذين القطبين التي يجمع كل قطب فيها طيفا واسعا مختلف الدرجات فقد كان الود بين الطرفين قائم. وكانت الرحلات السنوية هي أكثر الأوقات التي تنمحي فيها حدة الاستقطاب. ولا غرابة فالمرح يجمع الجميع. وسيكون هناك حديث عن تلك الرحلات البديعة.
(يتواصل)
آخر تعديل بواسطة Elnour Hamad في الجمعة إبريل 12, 2013 11:37 am، تم التعديل مرة واحدة.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

كتب صديقنا سيف الدولة حمدنا الله عبد القادر في واحدة من مقالاته، قبل فترة وجيزة، وهو يوصف كيف ساءت أحوال السودان، ذاكرًا أن طلاب كلية الفنون الجميلة كانوا، في رحلاتهم السنوية، يدخلون إقليم جنوب النيل الأزرق ويتنقلون بين مدنه مثل باو والكرمك وقيسان على ظهر لوري، ولكن هذه المناطق اليوم لا يستطيع أحد دخولها حتى وهو في بطن مدرعة. ومرة أخرى، كما قال سعيد عشا البياتات: "روح يا زمان وتعال يا زمان".

كان ذلك هو عامنا الأول في كلية الفنون، حين قالوا لنا أن رحلة الشتاء جزءٌ من البرنامج الدراسي. يمارس الطلاب في هذه الرحلة الشتوية الرسم بألوان الماء من الطبيعة، في حين يتعرفون على الخصائص البصرية للبيئات الجغرافية والبشرية والإجتماعية المختلفة للقطر السوداني. في السنة الأولى تذهب كل الدفعة إلى منطقة جنوب النيل الأزرق. وفي السنة الثانية تذهب الدفعة إلى جبال النوبة. وفي السنة الثالثة إلى شرق السودان، وفي السنة الرابعة إلى جبل مرة. وفي العطلة الصيفية بين السنة الثالثة والسنة الرابعة، تذهب الدفعة إلى مصر، فتزورها من أسوان إلى الاسكندرية. ولقد قامت دفعتنا بكل هذه الرحلات، باستثناء رحلة جبال النوبة في السنة الثانية، التي لا أذكر ما جرى بشأنها: هل أُلغيت الرحلة في ذاك العام لسبب ما، أم أنني تخلفت عنها لسبب يخصني.

حتى تلك المرحلة من العمر لم أكن قد سافرت في السودان كثيرا. فجنوبا لم تتعدى معرفتي مدينة سنار والسوكي حين زرت جدي الذي يملك دكانا صغيرا في سوق السوكي. قمت بتلك الرحلة وأنا صبي في الثانية عشرة من العمر. كانت رحلة على ظهر لوري مررنا فيها بالحصاحيصا ووودمدني، ثم الحاج عبدالله، ثم ود الحداد، فسنار التقاطع، ثم سنار المدينة، ثم كساب، ثم قلاديما المشهورة بالبطيخ، ثم السوكي. وكانت تلك أول مرة أنتقل فيها من إقليم أبنية الطين إلى أقاليم أبنية القش. كانت معظم أحياء السوكي وقتها مبنية بالقش. وحين وصلنا كانت المدينة تحتفل بوصول أول وحدة مطافئ حديثة. فالمدينة ظلت تعاني من الحرائق المتكررة، خاصة في فترة الصيف. من السوكي توجهت إلى تندلتي عبر كوستي لكي أساعد خالي في إدارة دكانه في العطلة الصيفية. ركبنا بصا قديما من طرازٍ كان يقال له الـ "كندا". وهي من السيارات التي عملت في الحرب العالمية الثانية، ماكينتها تحت السائق ولذلك ليس لها مقدة تذكر. يبرز قليلا من الزجاج الأمامي شيء يشبه الأنف، وهذا هو كل ما تمثله مقدمتها. أما إطار زجاجها المسطح كما زجاج نافذة البيت، فمن الخشب وليس من المعدن. غنى لتلك المركبة أهل المغنى وقتها، على إيقاع السامبا، الأغنية الشهيرة التي يقول مطلعها: "الليلة ما جا، حنّاني ما جا". أما المقطع الذي تعرض لتلك "الكندا" بالهجاء، فيقول:

الكندا الشينةْ ما حلَّت دينا
يا حيدرْ يوسفْ سوّيتا فينا

أو كما قالوا

المسافة بين سنار وكوستي تزيد قليلا عن المائة كيلومتر. غير أن تلك "الكندا الشينة"، أنفقت ثمان ساعات في هذه المائة كيلو متر، إذ انثقب أحد إطاراتها واستغرق اصلاحه ونفخه بمنفاخ القدم أربع ساعات. كانت تلك أول مرة أرى فيها الجبال، ورغم أنها جبال صغيرة تتناثر مثل التماثيل على ذلك السهل الطيني، إلا أنها أدخلت في نفسي رهبة وروعا. قبل تلك الرحلة كنت أسمع بالجبال "سمع الجداد بالبحر".

قال علي محمود طه المهندس:

أين القفارُ من البحارِ، وأين من جنِّ الجبالِ عرائسُ الدأماءِ
تغزو بيعينك الفضاءَ، وخلفه، أفقٌ من الأحلام والأضواء

مررنا بجبل موية، ثم جبل دود، ثم جبل بيوت، فربك، فكوستي. وحين عبرنا كبري كوستي القديم بالغ الضيق، كانت جوانب الكندا تحتك بجانبيه، في حين يئن خشب الفلنكة تحت الإطارات الشقية.

معرفتي بالسودان، قبل تلك الرحلة، لم تتعد الأراضي المسطحة، باستثناء ما شاهدته من جبيلات متناثر في سهل الجزيرة بين سنار وكوستي، وما عبرته بالقطار من قيزان رملية بين كوستى وتندلتي عبر محطات "الوساعة"، و"أم كويكة" و"سليمة"، وقطاطي السكة حديد البيضاء، وشجر النيم الجالس على هامات التلال الرملية. كانت تلك هي المناظر الجديدة على عيني الصبية الغرة. ما عدا ذلك، كان كل ما عرفت هو السهل الطيني المنبسط الممل، الذي يمتد من الخرطوم إلى سنار. وجزى الله الانجليز خيرا إذ كسروا رتابة ذلك السهل، المسطح كما الطاولة، فمدوا فيه هذه الشبكة الكبيرة من الترع التي تخللت هذه المساحة المعتبرة منه، التي طولها 150 كيلو مترا، وعرضها خمسون كيلو مترا، تزيد في أماكن وتنقص في أخرى. ولدت وترعرعت في هذه البيئة المسطحة، وأصبح خط الأفق يعني بالنسبة لي ترعةً ما. هناك ترعة تسد خط الأفق أنّى اتجهت، فلا مهرب من منظر الترعة إلا إليه. وهذا يجعلك تحس وأنت في وسط الغيط، وكأنك داخل حوش بالغ الاتساع. القرى الكثيرة المنتثرة في سهل الجزيرة لا يطالعك منها، وأنت قادم نحوها، بسبب جسور الترع، سوى مئذنة الجامع وصهريج المياه وطاحونة الهواء بمروحتها المعدنية التي انتشرت في قرى الجزيرة في عقد الستينات، ثم ما لبثت أن اختفت. بدأنا في السودان ضخ المياه بالطاقة النظيفة "طاقة الرياح"، ثم ما لبثنا أن ارتددنا إلى الوقود الأحفوري، وأمورنا كما هو معلوم، تسير بالعكس.

لم أشأ أن أدخل على رحلتنا إلى جنوب النيل الأزرق، في سنتنا الأولى في كلية الفنون، بغير هذه المقدمة. فتلك الرحلة كانت فتحا بصريا جديدا لي، فأنا ربيب أرضٍ مسطحةٍ، ليس بها كوم ترابٍ واحدٍ ناتئ!. فحين تخطينا سنار بالقطار ونحن متجهين صوب الدمازين استعد مني المكان لتجربة بصرية مختلفة. حين مررنا بسنجة كانت حاضرة في ذهني أغنية "سائق الفيات". فهذا هو المسرح الذي شهد ميلاد تلك الأغنية. القطار يسير بمحازاة النيل الأزرق الذي يقترب حينا من مسار القطار، ويبتعد منه أحيانا أخرى. القرى والمدن الصغيرة منحصرة بين خط السكة الحديد ومجرى النهر المتعرج، ومن غرب الخط الحديدي يقع السهل المنبسط الممتد حتى دار الشلك بمحاذاة النيل الأبيض. قال إبراهيم العبادي عن رحلة الفيات موديل ما قبل موسيليني، وهي تسير بـ "الدرب التِحِت" من سنار قاصدة سنجة:

شقا حشا الطريق، واتْيَمَّنْ الحلالْ
زفَّنُّوا الكلابْ، ما نالنْ إلاّ علالْ
باقيات ثواني قُلالْ بينك والغروب،
داك مُشرع الشلالْ

أنزلْ ياصديقي، وشوف يد القدرهْ
شوف حُسن البداوهْ، الما لِمِسْ بُدرهْ
ورادين النَّهَر، أرْدوني، ما بَدْرَى
الكاتل الصفارْ، أم نُضرةْ الخُدْرهْ ؟!

وفي رواية أخرى: "كاتلني الصفار، أم نضرة الخدره"؟!.

خرج بنا القطار، وهو يوغل جنوبا، من نطاق السافنا الفقيرة، ليلج بنا نطاق السافنا الغنية. ها نحن المنكرون، هونا ما، لإفريقيتنا نغذ السير صوب المنابت، حيث "نضرة الخُدرهْ" في البشرِ وفي الشجر، وفي الحجرِ وفي المدر.. تغيرت التضاريس، وتغير وقع الضوء على المرئيات، وتغير شكل النهر، وتغيرت هيئة غابات الأكاشيا المحاذية للنهر، وأهم من ذلك تغير المزاج، وراق البال، وازدادت حساسية الرادار، وانفتحت الشهية البصرية للمشاهد الجديدة، وللبيئة الجديدة، وللبشر الجدد. وحملنا التنويم المغنطيسي الذي عادةً ما يصحب حالة السفر، إلى منجم الحقائق المطمورة في سرة هذه الأرض الحُبلى بالوعود.

قال علي الجارم، وهو يُحيي السودان، وكأني به قد أُوحي إليه:

وكم سرابٍ بعيدٍ راح يخدعنا، فقلت: حتى هنا نلقى المُرائينا؟!
أرضٌ من السحرِ والأحلامِ قد خُلقت، فهل لها نبأٌ عند ابن سيرينا؟
(يتواصل)
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

نزلنا الدمازين والظهيرة تسلم قيادها للعصر. لون الأرض مختلف إذ يميل إلى الحمرة، ولا أظن أن ذلك هو لونها الطبيعي، وإنما أصبح كذلك بفعل التربة المنقولة، التي يتم بها رصف الطرقات لتجنب وحل الخريف. فالدمازين منطقة ذات خريف سخي، وتربتها تربة طينية موحلة من جنس تربة السهل المثلث الممتد بين النيلين. حين وصلنا الدمازين في العام 1971 كان خزان الروصيرص قد أكمل عامه الخامس فقط. الدمازين لم تك شيئا قبل بناء الخزان، ويروي الرواة أنها كانت مجرد غابة. فهي من مدن السودان الجديدة كخشم القربة وحلفا الجديدة، التي ظهرت في عهد حكومة عبود، مع اثبات حقيقة أن خطة بناء خزان الروصيرص بدأت في الخمسينات، ولكن التنفيذ جرى في عهد حكومة عبود.

المدينة المعروفة في المنطقة منذ قديم الزمان هي مدينة الروصيرص التي تقع على الضفة الشرقية للنيل الأزرق. أما الدمازين فهي البنت الشرعية للخزان، ولخط السكة الحديد، الذي تم مده من سنار ليربط جنوب النيل الأزرق بشبكة السكك الحديدية القومية. وكانت منطقة جنوب النيل الأزرق من المناطق التي تنفصل عن بقية القطر في فترة الخريف. فالنقل كان يتم عن طريق اللواري التي تتوقف لمدة ثلاثة شهور في موسم الأمطار. ولكن، كانت هناك وحدة للنقل النهري في السوكي تنشط في فترة الفيضان فتعوض النقص غياب الشاحنات في موسم الأمطار. وتشتهر المنطقة الواقعة غرب الدمازين بمشاريع الزراعة الآلية التي تنتج مقادر كبيرة من الحبوب، ولذلك كان لابد من مد خط السكة الحديد لأنها وسيط نقل أرخص من النقل بالشاحنات، كما أنها لا تتأثر بفترة الخريف. وحين بدأ التفكير في بناء الخزان نشط قبله التفكير في مد الخط الحديدي من سنار إلى الدمازين. حدث مد الخط الحديدي من سنار إلى الدمازين في نهاية الخمسينات ليعين في نقل معدات ومواد إنشاء الخزان الذي اكتملت فكرة تشييده. وهكذا تضافرت العناصر لتنشأ الدمازين مدينة شبه مكتملة، وكانت عند بدايتها مدينة للموظفين، وللتجار.

نمت المدينة الجديدة بسرعة كبيرة، وما لبثت أن خطفت الأضواء من الروصيرص. ورغم أن مشروع الخزان تضمن إنشاء كوبري محاذيا للخزان لربط ضفتي النهر، جعل المدينتين مترابطتين، إلا أن الروصيرص ظلت كما هي ولم تستطع أن تنافس الدمازين التي خطفت منها الأضواء حتى اصبحت الحاضرة الأولى في إقليم جنوب النيل الزرق. ولقد عبرنا من فوق ذلك الكوبري المحاذي للخزان، وشاهدنا شلال الماء المتدفق من تروبينات الكهرباء على المجري البديع الذي تحيط به الضخور ورأينا مدينة الروصيرص التي طالما حدثتنا عنها كتب جغرافيا ذلك الزمان، فوجدناها مدينة تودع مجدًا غاربا. والدمازين الآن مدينة حديثة متسمة بالتنوع الإثني والثقافي، وبالحيوية الفائقة. ولقد شهدت في العام 2011 أحداثا جسامًا، حين هجم أهل الانقاذ على الحركة الشعبية قطاع الشمال، شريكتهم في الحكم وفقًا لاتفاقية نيفاشا، محاولين تجريدها من السلاح، مما أدخل الإقليم مرة أخرى في أتون حرب لا يزال لظاها يتسعر. ازدهرت الدمازين أزدهارًا كبيرًا عقب اتفاق نيفاشا، وأصبحت تجسيدا للأمل في سودان يدار على أساس الشراكة وعلى أساس الإيمان بالتنوع وبالتعددية. ولقد أنشأ مالك عقار، الذي تقلد منصب الوالي فيها، استنادا على اتاقية نيفاشا، مركزًا ثقافيًا مرموقًا، هو الأضخم والأحدث من نوعه في الأقاليم. وقد عهد بإدارته للدكتور وجدي كامل. غير أن الإخوان المسلمين، الذين يغلب طبعهم على تطبعهم، محصنون ضد التنوع وضد التعددية. فقبولهم لحكم الحركة الشعبية قطاع الشمال للإقليم لم يكن سوى مناورة تتحين الحين لاجهاض الاتفاق. فجاءت الانتخابات المطبوخة، وتم الالتفاف على المشورة الشعبية، وفي نفس الوقت، لم يكن قادة الحركة الشعبية قطاع الشمال بالحنكة، ولا باليقظة الكافية، ولا حتى بالكفاءة الكافية، فارتدت الأمور إلى الحرب مرة أخرى. ويبدو أن هذه هي طبيعة مراحل التحولات.

من المحطة توجهنا بقضنا وقضيضنا إلى استراحة الموظفين. وجدنا أنفسنا في حيٍّ حكومي جديد. تجد مثله في حلفا الجديدة، وفي بابنوسة بعد إنشاء مصنع الألبان، وفي الجنيد بعد انشاء مصنع السكر. بيوت فسيحة مبنية بالطوب الأحمر ومجللة بالجير الأصفر، شأن البيوت الحكومية ذات التصميم الموروث من الحقبة الاستعمارية. وهي مسقوفة بالزنك، ومحاطة بالنملية، كما هو التقليد البريطاني في بناء بيوت المستعمرات، اتقاءً للبعوض وللملاريا في هذه البيئات الموبوءة بالملاريا. وتقليد النملية التي تحيط بالبيت تقليد ورثه السودانيون عن البريطانيين، في بيوت أصبحت أقل جودة من سابقتها، بسبب سرقة المواصفات وتطفيف مواد البناء، ثم ما لبث تقليد النمليات أن اختفى. ومن عهد نميري لم تعد الحكومة قادرة على صيانة ما ورثت من بيوت، دع عنك بناء بيوت حكومية جديدة. ولقد شاهدت تدهور البيوت الحكومية في أعوامي الخمس التي أمضيتها في خورطقت (1974 – 1979).

كانت الاستراحة التي تمت استضافتنا فيها في الدمازين مريحة من جميع الوجوه. وكان أهم أوجه راحتها أنها بعيدة هونا ما عن البيوت المحيطة بها، ما أتاح لنا فرصة المرح والصخب وهي واحدة من سمات ذلك العمر التي لا يمكن السيطرة عليها. في تلك النملية التي تحيط بالفرندة القائمة حول الاستراحة، فرشنا ألحفتنا، مفضلين لها على الغرف. جلسنا هناك، وتسامرنا وغنينا، وسرحنا بمخيلاتنا نستكنه مواقع الاقامة في مناطق الأنقسنا التي نزمع زيارتها، ونمنى أنفسنا بمتعة الرسم بألوان الماء في بيئتها البصرية الجديدة على أبصارنا؛ مناطق ظللنا نسمع بها، ولكن ليس لها صورٌ مكتملة في مخيلاتنا، مثل: باو، والكرمك، وقيسان. وما رأيناه من اختلاف الدمازين من الناحية الجغرافية والبصرية جعلنا نتصور مدى اختلاف أعماق جبال الأنقسنا بصريا عن ما ألفنا.

في الاستراحة زارنا قريب لي اسمه علي البشير بابكر، وكانت مفاجئةً سارةً لي، فقد تقطعت السبل والأواصر بيني وبين على بشير، لأعوام عديدة. وإذا بي أجده بيننا عيانًا بيانًا موظفاً محترما في الدمازين. كان والد علي بشير فارسًا من فرسان منطقة ود الترابي، ولعله كان آخر سلالة الفرسان من الأجيال القديمة. كان مهابًا وكان معتدًا بنفسه. كان البشير ود بابكر لايقدم نفسه إلا بجملة واحدة متماسكة، تقول: "البشير بابكر جعلي عباسي". هذا الرجل خالٌ غير مباشر لوالدتي وهو من قرية القلقالة، أهل والدتي. كان يزور أبي وينزل في بيتنا، فقد عمل في أخريات عمره تاجرًا متجولا. كان يجلب روائح حريفة من عينة "المحلبية" "والصندلية" و"السرتية" و"المجموع" ومتعلقات شخصية أخرى متنوعة. وكان يعرض روائحه تلك ويروج لها بجُملٍ مسجوعة أذكر منها: "مجموع غطاسي يودِّر الهلواسي". لا أزال أذكر سمته؛ القامة الفارعة، والثوب الأبيض، والعمامة، والحمار المختار من أفضل السلالات، والسرج المصنوع من أفخر الأخشاب، والبردعة والفروة المتميزتان بالجودة، وخُرج البضاعة الذي لا تنقصه، هو الآخر، جودة الصنعة. كان له شاربٌ أبيضٌ كث مبروم الأطراف مثل شوارب الباشوات الأتراك، وكان حاجباه شائبان أيضا. وكان صوته الأجش يضفي عليه مهابةً إضافية. كان يتصرف كفارس، وكنبيلٍ جهِلَه قومُه، وكان الناس يعاملونه وفق ما أراد. إبنه علي، الذي احتفى بمقدمنا إلى للدمازين، كان يأتي معه حين يزور "حلة حمد" وينزل في بيتنا. ورث علي بشير من أبيه بعضا من صفاته، وأهمها الكرم، والحرص على أداء ما يراه واجبا. وهكذا كانت ملازمته لنا نابعة من ذلك الإحساس الأصيل الذي لا تعمُّلَ فيه، بأن من واجبه العناية بنا والسهر على راحتنا. تفرقت السبل بيني وبين علي بشير، فحين رآني آخر مرة كنت طالبا في المدرسة الإبتدائية. وحين التقينا في الدمازين كان هو موظفا مرت على توظيفه سنوات، وكنت أنا طالبًا في السنة الأولى في كلية الفنون.

في حقبة الستينات اجتذبت المدن التي نشأت مع موجة التنمية الأولى كثيرا من المتعلمين من أبناء الجزيرة، خاصة الذين لم يختاروا الذهاب إلى الجامعات، واختاروا سلك الوظيفة. ذهب خريجو الثانويات من أبناء الجزيرة إلى خشم القربة وحلفا الجديدة والقضارف والدمازين حيث توفرت فرص لعملهم. في تلك المرحلة كانت الشهادة الثانوية كافية جدا لتؤمن لخريج الثانوية وظيفة محترمة في السلك الكتابي، تجعل منع عضواً محترمًا في ما يمكن تسميته "نادي الأفندية القومي". كان بعضهم تأخذه المصالح الحكومية بعد أن يجتاز امتحان الـ CS وهي اختصار لـ Civil Service. يعمل خريجو الثانويات، بالاضافة إلى التدريس، الذي كان فيه الطلب على خريجي الثانويات كبيرًا، بالإضافة إلى المشاريع الجديدة، في مصالح قديمة كالبوستة والتلغراف التي كانت تعمل في كل أقاليم السودان، والتلفونات، حيث كان موظفي الكبانيات في المدن الإقليمية الكبيرة والصغيرة، هم الذين يربطون المستخدمين بمن يريدون الاتصال بهم، يدويا من داخل الكبناية، فالمحادثات المباشرة لا تتم إلا داخل المدينة نفسها، وفي السلك الكتابي في السكة الحديد. عموما كانت الوظائف، حتى ذلك الوقت، إلى حد كبير، "على قفا من يشيل".

احتفى بنا قريبي علي بشير احتفاء كبيرًا، وأمضى معنا معظم الوقت القصير الذي أنفقناه في الدمازين. ولم تكن الدمازين سوى محطة للتوقف القصير، بين رحلة القطار التي تنتهي في الدمازين، وبداية رحلة اللوري الذي سيواصل بنا إلى باو، والكرمك، وقيسان. كان لدى علي بشير إحساس بأن الشلة كلها تقع تحت مسؤوليته من حيث واجب الاكرام والرعاية، ما دام قريبه واحدًا منها. كان أكثر المعجبين بعلي بشير آدم الصافي فقد كان يستمع لحديث علي بشير الممتلئ نخوةً وشهامة بتركيز شديد، وكان لا ينفك ينفجر من الضحك، كلما أطلق علي بشير واحدة من غرائب حديثه. من العبارات التي ظل آدم الصافي يكررها لي، ويشاركه في تكرارها حسن موسى، مما قاله علي بشير وهو يتحدث عني: "إبننا النور دا راجل دُرَّة". ظلت هذه العبارة تدور في مشاغبات آدم الصافي معي لفترة طويلة . وكان آدم الصافي، عليه الرحمة، أكثرنا حبا لـ "المكاواة". لقد أحب آدم الصافي على بشير وارتاح له. ويبدو أن آدم الصافي وجد شيئا مشتركا يجمع بينه وبين علي بشير. ولقد كان آدم الصافي يقهقه في حضرة علي بشير بشكلٍ لا ينقطع.

حين بدأت المشاركة في هذا الخيط، لم يخطر ببالي أنني سوف استرسل كل هذا الاسترسال. ولكنه الفقدان الفاجع، فنحن جيلٌ فقد وطنه وانبت هونا ما عن وثوقه وسكينته الأولى، ودخل في حالة مستطيلة من اللوعة.
قال المتنبي:

فسألنا، ونحن أدرى بنجدٍ: أطويلٌ مقامنا، أم يطول؟
وكثيرٌ من السؤال اشتياقٌ، وكثيٌر من ردِّهِ تعليلُ

وقال إبن عربي، في أفقٍ أعلى، وفق زعمي:

رأى البرق شرقيًا فَحَنَّ إلى الشرقِ، ولو كان غربيًّا لَحَنَّ إلى الغربِ
فإن غرامي بالبُرَيْقِ ولمعِه، وليس غرامي بالأماكن والتُرْبِ.

(يتواصل)
آخر تعديل بواسطة Elnour Hamad في الجمعة إبريل 12, 2013 11:20 am، تم التعديل مرة واحدة.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
عادل السنوسي
مشاركات: 839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:54 pm
مكان: Berber/Shendi/Amsterdam

مشاركة بواسطة عادل السنوسي »

الأخوين العزيزين الديناصوروين خلف الله عبود واحمد سيد احمد، سلام من روتردام،

اتابع بشغف ما يسطره الأخ النور حمد لذا تجدني اعلن : قف تأمل ، الي حين،،، فلنمنحه الفرصة للمواصلة، مع وعد قاطع بالعودة .
________________________________________________________________________________
قصة قديمة في بربر الثانوية سنة 1974 - قبل كلية الفنون ..

= في العام الدراسي 1974/ 1975 كنت طالباً في السنة الأولي بمدرسة بربر الثانوية ، وكان المرحوم ابراهيم قرني هو استاذنا لمادة الفنون ، وما ان هل العام الا ان بادرنا بمحاضرة عنوانها الإسلام والفنون، وأقيمت المحاضرة علي مسرح المدرسة ، وتخللها نقاش مشحون مفعم بالإنفعالات ، وكان لابد ان تنتهي بأحداث مأساوية : ضرب بالعصي وجريد النخل( سبائط الشدر كان مخبئة مسبقاً تحت كراسي الطفابيع) علي رؤوس الجميع، إبتدره جماعة الأخوان المسلمين، هكذا كان هو اسم مجموعتهم في ذلك الوقت في بربر الثانوية ! و هم كانوا يدرون بما سيطرحه قرني من اطروحات = كتاب محمود محمد طه = الإسلام والفنون. وكان هناك استاذ ينتمي لعصابة الاخوان المسلمين - نسيت اسمه = هو من اشار ببدء الهجوم، يسندة امام جامع بربر الكبير = عمر النعيمة = الذي كان حاضراً في الصفوف الأمامية.

= عمر النعيمة كان قال في منبر جامع بربر الكبير = في اواخر عام 1969 بأن الامريكان كاذبون في ادعائهم الوصول الي القمر ، لأن القمر ليس هو بجسم ، وانما هو ضوء، مما يستحيل الوصول اليه ! ..... كذبة المنبر بلقاء مشهورة !

كان هم مجموعتنا هو تأمين واخراج استاذنا قرني سالماً من وسط المعركة المحتدمة ( بين الجميع) بالكرابيج وجريد النخل و كرعين الكراسي و الفليق بالطوب... الخ من اسلحة ، بيد انا نجحنا في ايجاد مخرج آمن للأستاذ من المدرسة ، و لكن ، هيهات: فلقد لحقت بنا مجموعة من جماعة الاخوان المتأسلمين في طريقنا الي منزل قرني بالدكة( حي الدكة من اشهر احياء مدينة بربر) و فلقونا بالطوب والحجارة( رمي الجمرات )، وطرحوا واحداً منا ارضاً مضروبأ بالعصي ( سقط هبل )، هو المرحوم عبدالله فقير ، ولكن استاذنا قرني كان قد نجح في الوصول الي منزلة . هذه الحادثة كان لها تداعيات كبيرة يشهد بها الزميل كمال قسم الله ، و هو عضو بهذا المنبر، و كان ضالعاً في تفاصيلها.

المهم ، نقل قرني في اليوم التالي الي عطبرة الثانوية القديمة بنين، وقدم الينا عثمان حامد الفكي ، بدلاً عنه ...

= ابان ذلك الحدث في سنة 1974 ، كان عمري 14 سنة فقط، ومنذ ذلك الوقت ، ايقنت ( إضافة الي اسباب أخري ) بأن هناك خطأ ما ، في ذلك الإعتقاد !!!!!
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

شكرا يا عادل على نقل تلك التجربة للراحل إبراهيم قرني مع جماعة الإخوان المسلمين، فهذه التجربة كانت تتكرر كثيرا للجمهوريين. ولقد تعرضت لتجربة مماثلة حين عملت مدرسا في خورطقت ولكن على نحو مختلف.

كانت صلتي بالطلاب في مدرسة خورطقت شديدة، فقد كنت حينها أبدو كمن هو في سنهم. وقد جعلهم ذلك، إضافة إلى طبيعتي التي تأنف عن الترفع وخلق الحواجز، وأدين في جانب من هذا إلى بولا الذي كان أستاذا لنا في حنتوب، وكان شديد القرب منا. أيضا كنت مشرفا على الأنشطة، في المسرح والموسيقى وكان الطلاب يدعونني لحضور بروفات المسرحيات في الداخليات المختلفة لأخذ رأيي واقتراحاتي قبل أن يعرضوها على المسرح، كما كنت أشرف على تدريب الفرقة المسيقية المدرسية التي تصحب مغنيهم الذي يعولون عليهم في ذلك النشاط التنافسي بين الداخليات. هذا القرب الشديد من الطلاب أدى إلى التفافهم حولي، ما أزعج أساتذة التربية الإسلامية، كما أزعج المدير الأستاذ إبراهيم آدم الدين، وكان سلفيا، شديد المحافظة، وذا نزعة ديكتاتورية طاغية، ولا يرى خيرا في أن يكون الأستاذ قريبا من طلابه.

جاءنا إبراهيم آدم الدين ببدعة جديدة في المدرسة، ففي عهده بدأت أغلبية الأساتذة في حضور جميع الصلوات في مسجد المدرسة، إقتداءً به. فقد بدأ هو ذلك التقليد الجديد، وتبعه فيه أغلبية الأساتذة، و"الناس على دين ملوكهم"، كما يقولون. وكثيرٌ من الذين تبعوه في تلك البدعة المظهرية، التي نبعت فجأة، لم يكونوا في السابق يحرصون على حضور كل الصلوات في المسجد. فهم قد كانوا يحضرون صلاة الجمعة، وبعض الأوقات كصلاة المغرب. أما شخصي، والأستاذ الريح أبو إدريس، وهو جمهوري أيضا، فلم نأبه لسُنَّة المدير الجديدة. فنحن أصلا لم نكن نصلي أيا من الصلوات في المسجد، وإنما كنا نصلي في مساكننا ومكاتبنا. ولقد كان واضحا جدا بالنسبة لنا، أن الذي أصبح يجرى في المدرسة بعد قدوم إبراهيم آدم الدين إليها، لم يكن عملا لوجه الله، وإنما كان مجرد نفاق وظيفي، دافعه الرئيس هو تسقط رضا المدير. وبشكل عام، لم يكن الجمهوريون يصلون في المساجد، إلا تلك التي يؤم فيها المصلون أئمة فضلاء من المتصوفة الذين لا يأبهون لتعليمات الشؤون الدينية. وهؤلاء قلة، أذكر من بينهم شيخ مكاوي إمام مسجد بمدينة كوستي، وقد كان صديقا للاستاذ محمود محمد طه. قال عنه عبد الله عثمان، وهو من جمهوريي مدينة كوستي: "مكاوي حامد كان له مسجد شديد التواضع من الجالوص، وذا بروش مهترئة قديمة. بعد صلاة الظهر، في ذات البروش، تجلب زوجه طعاما فقيرا يتحلق حوله بعض من لا يأبه لهم أهل المدينة، فيستطعمون. كان مسجده لا يخضع لسلطة الشئون الدينية. وكانت خطب جمعه غالبا ما تكون كفاحا وباللهجة السودانية العادية لا ورقة ولا يحزنون".والجمهوريون أصلا أصحاب رأي سيء في مؤسسة الشؤون الدينية، بوصفها مؤسسة دينية حكومية رسمية، وهي ذراع للسلطة القائمة، أيا كنت تلك السلطة. كما أن أئمة الشؤون الدينية ومؤذني مساجدها تغلب عليهم صفة كونهم موظفين، يتقاضون أجورا على عمل هو أصلا عمل تعبدي، يجب أن يكون خالصا لوجه الله.هذا الوضع حول إمامة المسلمين وإمارتهم من تراتبية العلم والتقوى إلى وضع وظيفي مؤسسي. وكنا حين يسألنا الناس لماذا لا نصلي في المساجد نرد عليهم بالحديث النبوي القائل: "أئمتكم شفعاؤكم، فتخيروا بمن تستشفعون". وكان الجمهوريون حين يكونون في جماعة يقدمون لإئمامتهم في الصلاة أكثرهم علما وأفضلهم خلقا.

قامت جمعية التربية الإسلامية، التي يشرف عليها أساتذة مادة التربية الإسلامية، بدعوة د. يوسف العالم، عليه الرحمة، وهو من أسرة فقهية معروفة في الأبيض، وكان أستاذا في الجامعة الإسلامية، ولقد جاء إلى الأبيض لزيارة أهله. كانت المحاضرة التي جرى تقديمها مخصصة لنقد الفكر الجمهوري. وظن منظموها، الذين كان واضحا أنهم تلقوا دعما وتشجيعا من المدير، أن هذا الرجل المستجلب المتخصص في الفقه سوف يقضي قضاء مبرما على هذه النواة الجمهورية التي أصبحت تتخلق في مدرسة خورطقت. ولقد كان أساتذة التربية الإسلامية في المدرسة يتجنبون نقاشنا. فقد كنا، بالإضافة إلى قدرتنا على نقد المفاهيم السلفية وتبيين تناقضها مع واقع الحياة الحديثة، كنا أيضا أكثر حفظا للنصوص منهم، وأكثر قدرة على الاستدلال بها منهم، رغم أن ذلك هو تخصصهم الذي يأكلون منه عيشهم.

عقب انتهاء المحاضر من إلقاء محاضرته، حرص مدير الجلسة على إعطائي الفرصة الأولى في الرد. ولدهشتهم، وضح أنني كنت أحفظ للنصوص، وأكثر قدرة على الاستدلال بها من المحاضر الذي أتوا به، بوصفه الطلقة الفضية القاضية silver bullet . كما ساءهم جدا أن الطلاب يقاطعون ردودي وتفنيدي لمزاعم المحاضر بالتصفيق الحاد. انزعج المدير، وحدث هرج ومرج، وأخذت المقاطعات تكثر من جانب أساتذة التربية الإسلامية، وخذوا يقفون من كراسيهم، وظللت هادئا من على المنصة، أذكرهم من الميكروفون بأنهم مدرسين ويجب أن يلتزموا السمت الذي يليق بالمدرسين في محاضرة علمية يحضرها طلابهم. ولم يجدوا إزاء ذلك بُدّا من التجمل جهد طاقتهم. المهم انتهت المحاضرة بنصر مؤزر للجانب المستهدف بالمسح والإزالة. ومنذ تلك المحاضرة زهدت جمعية التربية الإسلامية والأساتذة المشرفون عليها في استهدافنا علنا، خاصة أننا، على العكس تماما منهم، لم نكن نجند الطلاب أبدا، ولم نكن نتدخل، لا من قريب ولا من بعيد، في الكيفية التي يشكل بها الطلاب قناعاتهم. الشاهد، أن خورطقت لم تشهد عنفا أبدا، ولا حتى تهديدا بالعنف. أما جامعة الخرطوم فقد شبع فيها الجمهوريون من عنف الإخوان المسلمين. ولا غرابة، فعنف الإخوان المسلمين في جامعة الخرطوم له تاريخ مشهود يعود إلى حادثة رقصة العجكو في الستينات التي أدت إلى وفاة أحد الطلاب. وسيرة عنف الإخوان المسلمين، وإدخالهم تقاليد العمل الديني الإرهابي من مصر يحتاج البحث والتوثيق. ولا ينبغي أن يمر ويُنسى دون أن يوثق ويحلل وتوضع كتبه على أرفف المكتبات.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
الفاضل البشير
مشاركات: 435
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:56 pm

مشاركة بواسطة الفاضل البشير »

الاخ النور شكرا للاسترسال فقد كان سردا شيقا ممتعا ومفيدا

وعذرا لو مضيت انا بعيدا من فكرة البوست الاساس.
لكنها طرفة من طريف لطيف, ذكرني بها موقف الامام من رحلة القمر,حسب ما اتى فى ذكريات عادل السنوسي.
الى جانب حجة الامام ,انقسم الناس فى سوق بربر ومال اغلبهم للتكذيب وقال بعضهم ان الجماعة نزلوا فى واد ترابه شبيه بارض القمر-ولا نعرف من اين عرفوا طبيعة ارض القمر؟.
المهم تغلب التكذيب والاستبعاد.
وفى ذاك المساء الغريب التقيت صديقي البليغ يوسف شبرين, زميلي فى الثانوية,
يهز راسه ويستنكر التكذيب :
(غريبة ناس تصل القمر وناس ما تصل المستوى انها تصدق).

صورة العضو الرمزية
ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ
مشاركات: 487
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 12:26 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة ÎáÝ Çááå ÚÈæÏ »

الأخ الدكتور النور
سلام
العوض مصطفي متابع وقد أخبرني أن أقول لك أن عدم قيامكم برحلة جبال النوبة هو أن الدفعة كانت كبيرة جدا وقد تم تقسيمها في السنة الأولى إلى رحلتين في إتجاهين مختلفين هما خور يابوس وجبال النوبة وأنت مشيت خور يابوس ( النيل الازرق) وفي العام الثاني لم تقم الرحلة إلى اي مكان بسبب نفاد الميزانية.

كتاباتك كالعهد بها شيقة جدا وهادفة ومليئة بالتحليل للبيئئة السياسية والإجتماعية وغيرها وقد تجاوزت مجرد الذكريات وصارت مادة تهم كل سوداني... وهي كتابات قمة في المتعة والفائدة وأقترح عليك تجميعها في كتاب...

أعتذر عن المواصلة في الوقت الحاضر بسبب مرض زوجتي جواهر وإنشغالي معها
تحياتي للصديق أحمد سيد أحمد ولكل المشاركين.
الحرية لنا ولسوانا
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

سلام يا عبود
أرجو لجواهر الشفاء التام الناجز ولسوف أتصل بكم تلفونيا.
وشكرا للمعلومات التي أوردها العوض فقد نسيت تماما انقسام الدفعة إلى قسمين. فدفعتنا كانت الأكبر في تاريخ كلية الفنون، حتى ذلك العام. فقد تم قبول 40 طالبا وطالبة، وهذا العدد لم يكن مسبوقا من قبل. والآن تذكرت بعد حديث العوض أن عشرين ذهبوا إلى جبال النوبة وعشرين إلى جنوب النيل الأزرق. وتذكرت أيضا، أن عددا قليلا من طلاب السنة الرابعة رافقونا إلى جنوب النيل الأزرق. ولعل من بينهم محمد الحاج إبراهيم، وربما عمر مدني، ومحمد عثمان الطويل، ودار السلام عبدالرحيم. أنا واثق أن العوض مصطفى أحضر ذاكرة مني فليته رفد الخيط ببعض مما يتذكر. هو الآن "بجبيب الحجار" للذين يجدِّعون. نرجو أن يكونا "مجدِّعا" بلغة أهل الجزيرة، أو"مفلِّعا" بلغة أهل كردفان
.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

"تأمريات "و" ذكرلات"

مشاركة بواسطة حسن موسى »

سلام يا أهل الفن
وأنا أكتب "أهل الفن" في معناها الكبير الذي يصون لعصام و صدقي و الهاشمي [و من لف لفـّهم] خانة جنب الرسامين .
وأنا اكتب" من لف لفهم " و في بالي عشائر متلققي الحجج اللافين على مرابط أفراس المنازعة الإجتماعية المعاصرة و الساهرين على مصالح حزب الفن الديموقراطي.
الـ" تأملات " المبذولة بذريعة الذكريات تثير الكثير من الشجون و أنا عيد قراءة الخيط كلما ورد جديد ،و أمني نفسي ببراح أكتب فيه" تأمريات" ذلك المكان السحري [ " تأمريات " "عبارة حقيبة" في لسان أهلنا الفرنسيس تمثل بين" تأملات" و "ذكريات" كلية الفنون و يجوز"ذكرلات " و الله أعلم !]
يا عبود انتهز هذه السانحة لتمرير التحية و التمنيات بالشفاء للأخت جواهر و كمان سلامنا للعوض "المتابع"
و يا العوض ياخي ما تبخل علينا بشيئ من ذلك الشعر الذي نعرف أنك عاكف عليه بطريقة أو بأخرى.
النور قالوا " الخيوط شواهد " في عبارة قرأتها هذا الصباح في أحد خيوط المنبر . أظنك تقصد صديقنا " حسن محمد عثمان " الملون القدير و " الطويل " أيضا نتمنى له مزيدا من العطاء والعافية.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

تصاوير زمن الكلية

مشاركة بواسطة حسن موسى »

أزرق الموديل. حبر على ورق "كارتريدج".1974

سأحاول بذل بعض تصاوير أيام الكلية كلما عثرت على شيئ منها وسط غبارالأضابير. ذلك أنها لا تنفع إلا في هذا المقام، مقام التذكّر العفوي و توارد الشوارد و "الذكرلات" .


صورة
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

سلام يا الفاضل البشير

يسعدني أن أعرف أن ما أكتب يسعدك. والخيط عموما مفتوح لكل أنواع "التخريمات" وكما ترى فإنني ما أن أغشى كلية الفنون كنطاق جغرافي وبشري، أجدني خرجت منها وسحت؛ مرّةً في نواحي الخرطوم، ومرةً في جنوب النيل الأزرق، وهلمجرا. والفن في تقديري يمثل أقوى المجالات التي ناطحت، عبر التاريخ، "خطيّة التفكير" linear thinking. وجزا الله مولانا هوارد غاردنر خيرا الذي أتى بذكاءاته المتعددة، فقعّد لنا تقعيدًا علميًّا ما كنا نحسه ونؤمن به، ولا نجد له الأسانيد الفقهية الكافية التي يمكن أن نلقمها أفواه فقهاء "العلموية"، من أهل التفكير الخطي، الذين لا تشيل إبرتهم أكثر من خيطٍ واحد. فشرِّق، يا صديقي، وغرِّب، أنّى بدا لك، فكل الطرق تقود، في نهاية الأمر، حسب زعمي، إلى أفق الروح، وياله من أفقٍ فسيح.

يعبر إبن عربي عن سعة أفق الروح بقوله:

ومن عجبِ الأشياءِ ظبيٌ مبرقعٌ، يشيرُ بعُنّابٍ، ويومي بأجفانِ
ومرعاه ما بين الترائبِ والحشا، فيا عجبًا من روضةٍ وسط نيراني
تطوف بقلبي، ساعةً بعد ساعةٍ، لوجدٍ، وتبريحٍ، وتلثم أركاني
كما طاف خير الرسل بالكعبة التي، يقول دليل العقل فيها بنقصانِ
وقبَّل أحجارًا بها، وهو ناطقٌ، وأين مقامُ البيتِ من قدرِ إنساني

حسن موسى، أمعتنا بصورة الموديل، وتجاريب "الحبر الهندي/الصيني"، وذكرى عامنا الأخير في كلية الفنون، ويا له من عام! "وإن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون". ومثل عامنا الأخير كان عامنا الأول، الذي لا أزال أنبش ذكراه وأتلمظ طعمه الحادق. صورة الموديل هذه أعادت لي ذكرى تلكم الأيام. أغبطك يا حسن أشد ما يكون الغَبْطُ، على حفظك لأعمالك، فأنا من أفشل خلق الله في الاحتفاظ بأعمالي.

"باو" حاضرة الأنقسنا

أمضينا في الدمازين يومين أو ثلاثة، ثم جاءونا باللوري الذي سيقوم ببقية الرحلة. رفعنا على اللوري العفش؛ كالمراتب، والأغطية، والشنط، ومعدات الطبخ ومواده، وسائر المتعلقات. ومن بين ما رفعنا من المتعلقات والتجهيزات، شوالات القرقوش. وهي أهم ما نحرص على أخذه في الرحلات، فالعدس الساخن، والسليقة الساخنة، تجعلان القرقوش كالخبز الطازج. فالقرقوش والأرز والعدس هي ركيزة المواد الغذائية الجافة التي يتم التعويل عليها. والأرز والقرقوش يسعفان حين لا تكون في المنطقة المقصودة مخابز. ومعلوم كلما أوغل المرء في "ربوع السودان" كلما قلت المخابز وقلت "الفَرْنَجَة"، على الأقل، في ذلك الزمن. ولله در الأحباش، الذين لم يفلح المستعمر في تغيير ذائقتهم الطعامية، فظلوا يأكلون كسرتهم التقليدية "الإنجرا" منذ أن عرف الإنسان الخبز، فحافظوا على استقلالية قرارهم السياسي، كما مزقوا "فاتورة القمح" التي زعم عمر البشيرسدها فوسع قدها. فالأحباش، ابتداءً برئيس الجمهورية، وإنتهاءً بساكني القرى النائية والدساكر، لا يفضلون شيئا على "الإنجرا"، بل هم يفخرون بها ويقدمونها لراكبي الدرجة الأولى في رحلات طيران الخطوط الجوية الإثيوبية .

تم وضع الحمولة على اللوري وصعدنا لنجلس من فوقها القرفصاء، وغير القرفصاء، متشبثين بأيدينا بأسياخ صندوق الشاحنة الشبيه بالقفص. يممنا شطر الجنوب الغربي للدمازين صوب باو. كانت الأرض التي مررنا بها في البداية قليلة التضاريس. ولكن، كلما أوغلنا كانت التضاريس تزداد بروزا. الشاحنة تتمايل على الطريق غير المستوية، ونحن نغالب فقدان التوازن بتغيير مرتكزات الأيدي والأرجل. ووسط التمايل والشد المتصل في مختلف الاتجاهات، يزداد ألم العضلات، فنحاول تجاهله والتغلب عليه بالثرثرة، والضحك، وبالغناء بصوت عالٍ يشتته هبوب الريح. دخلنا محيط باو بعد بضع ساعات، لا أذكر كم كانت هي. هنا تغير المشهد، إذ طغت عليه الصخور البنفسجية اللون، وتغير الغطاء النباتي. كان منظر الصخور غريبا، فقد كانت ضخمة ومستطيلة الشكل. هناك أحسست وكأننا دخلنا بلادًا أخرى. كانت الرحلة على قصرها، أشبه ما تكون برحلة إلى أعماق التاريخ. كنت أحس، رغم سطوع الشمس، وكأن الضوء قد بدأ يقل، ولربما يعود ذلك الإحساس للون الضخور الداكن الذي لا يعكس أشعة الشمس. المنطقة هنا دافئة قليلا مقارنة بالخرطوم في ذلك الوقت من العام، وهو فصل الشتاء "موسم رحلاتنا السنوية". فالرياح الشمالية التي تأتي بالبرد من أوروبا تضعف كثيرا بعد أن تتجاوز سنار. فمنطقة الأنقسنا تنتمي إلى النظام المناخي للهضبة الحبشية بأكثر مما تنتمي إلى مناخ وسط السودان، والله والجغرافيون أعلم.

خلف النتوءات الصخرية القصيرة ذات اللون البنفسجي والبني، وذات السواد الكحلي المزرورق، تبدو في الخلفية الجبال البعيدة ذات اللون البنفسجي الباهت التي تبدو كالدخان العالق بين السماء والأرض عن حافة الأفق. الغطاء النباتي مختلف هنا، وكذلك البشر مختلفون، كما للمكان رائحةٌ مميزةٌ، تستحضر في الوعي روح القِدَم. إذن هذه هي أطراف بلاد الأنقسنا التي طالما سمعنا بها. لا أذكر أنني رسمت شيئًا يذكر في باو، فقد استغرقتني معيشة التجربة وفضلت تلكم المعيشة على توصيفها، أو التعب في رسمها. والفن لدى مولانا "جون ديوي" هو معيشة التجربة الاستاطيقية، أكثر منه مجرد التعبير عنها. والاستاطيقا في جانبها المتعشِّق infused مع الروحانية، من وجهة نظري، تجربة تعاش. كان صديقنا، وخدن روح حسن موسى، الآتي معه من الأبيض الثانوية، محمود عمر محمود، أقلنا رسمًا في هذه الرحلات، وأكثرنا معيشة. وحين يرسم محمود، يأتي بشيءٍ أصيل هو نسيج وحده. ومحمود عمر، بشكلٍ عام، كائن روحاني، عالي الحساسية، عميق الانفعال بالتجارب البصرية الاستاطيقية. فقد كنا نراه، في أغلب أحواله، مستغرقا مع نفسه، قليل الحركة، قليل الكلام. أما نحن، فكنا، على تفاوتٍ بيننا، نشطين و"هبّاشين" و"نضامين". كان محمود، في تقديري، أعمقنا، وأكثرنا قدرة على معيشة التجربة "الاستاطيقية"، أو "الروحانية"، كما أفضل أن أسميها.

نزلنا في مدرسةٍ مبنيةٍ من الحجر على ما أذكر. لقد كانت تلك الرحلات المدرسية "فاتحةً للعيون" eye-opener، كما يقول متحدثو الإنجليزية، في ما يتعلق بالخروج من غفلة الغش المدرسي المسيطر الذي يعرِّف القطر السوداني بأنه قطر "عربي مسلم". هذه المشاهدة تمتحن القناعات وتزلزلها، ويكفيها فائدة فتحها لأعيننا على حقيقة تنوع البلاد الإثني والثقافي والعقدي. فلو لم نجن منها أية فائدة أخرى، فإنه يكفيها، ويزيد، أنها فتحت أعيننا على هذا التنوع. مثل هذه المعرفة التي تنسرب إلى تلافيف الوعي، غالبًا ما لا تحدث تأثيرًا آنيا؛ في التو والحين. لكنها تبقى، هناك في تلافيف الوعي، حتى يجيء اليوم الذي يجترها فيه صاحبها، كما تجتر الثدييات الطعام الذي تبتلعه بسرعة في المروج، وهي تتلفت يمنةً ويسرةً، خشية الحيوانات المفترسة، وما أن تعود إلى مأمنها، تشرع في اجتراره ومضغه. وهكذا نحن، ازدردنا تلك اللقمة التنويرية، وبمرور الزمن استعدناها ومضغناها، وهضمناها. وهكذا تنجلى الأمور، وتنقشع سحب الزيف، وما أكثر الزيف في السياسات السودانية.

أيضا فتحت تلك الزيارات أعيننا على غنى الطبيعة السودانية، وعلى جمال هذا القطر البديع الذي أضاعه أفنديته، فكبسوا تنوعه المدهش في "كستبانة" (عربي/إسلامي) و(عربي/إفريقي) التي لا يتجاوز مدلولها في الأفهام طنين اللفظ. لقد انحبسوا عن تملِّي جلاله وجماله في خرطومهم الكلونيالية، معتمرين طرابيشهم الخديوية، مصعرين خدودهم، عاقصي رقابهم، ومزهويين بمص الغليون وعضِّه بزاوية الفم، في حين ظل كل ذلك الجمال المهيب، وكل ذلك الثراء الاستاطيقي الباذخ، خارج وعيهم، حتى نهضت تلك الجهات من سباتها الكوني الطويل، وشكّت في وجوههم السلاح. وقول يا ساتر!

بعد أن تنقلنا كثيرا في العالم، عرفنا عظم كنز السودان السياحي. هذه البلاد يجب أن تكون مزارا لأهل الأرض، ولكن لعنة الله على ضيق الأفق، وعلى ضمور الخيال، وعلى نزعة الاحتراب. رحلاتنا تلك لم تذهب هباء. بسببها عرفنا هذا الكنز الاستاطيقي المترامي الأطراف. كما عرفنا، بمرور الزمن، أن المفتاح الضائع لهذا الكنز، هو السلام، وهو الإعتراف بالتنوع، ثم هو أيضًا، الطرق الممهدة، وتنمية البنى التحتية بكافة أشكالها. ثم اطراح الاستعلاء جانبا؛ الاستعلاء بالعرق، وبالدين، وبالثروة، وبالسلطة، وبالعلم أيضا. قال النابلسي في مشهد "الفناء عن العلم"، وهو من المشاهد الصوفية شديدة الرفعة:

وحين حققت أمري، والغيرُ قد زال عني
تركت هذا وهذا، ثم الفنا صار فني

وقال شاعر الجمهوريين عوض الكريم موسى:

ومن قرآنه أسري، لقرآني وآياتي
ومن فقدي إلى وجدي، ومن سمعي لإنصاتي
أعذني من رضا نفسي، ومن غفلاتِ حضراتي
ومن جهلي، ومن علمي، ومن شركِ المقاماتِ

الشريف محمد أحمد البيتي متصوف مال إلى الأستاذ محمود محمد طه، في أخريات أيامه، وأصبح صديقا مقربّا له، وأصبح جمهوريا. لم أر الشريف البيتي، فقد توفي في الستينات، ولكني سمعت عنه من الأستاذ محمود، ومن بعض كبار الجمهوريين. والشريف البيتي رجلٌ مجهول، مَثَلُهُ مَثَلُ شعراء وعارفين سودانيين كثر؛ عاشوا وماتوا دون أن تعرف عنهم شيئا سوى القلة القليلة. فهم قد عاشوا خارج مجرى التيار العام main stream.
قال الشريف البيتي:

هذا الجمالُ، لمن يشاهده، وحقِّ هواكَ جنّهْ
لكنه من دونه الأهوالُ مطلقةُ الأعنّهْ
ألبستَهُ ثوبَ الجلالِ، فدونه خضرُ الأسنّهْ
أنا لا أبالى فوْتَ نفسى، فهو أهونُ ما أُكنّه
أو أن يقول العاذلون، نرى بهذا الشيخِ جِنّا
يا مُنيتى، يا نورَ روحى، يامنارى فى الدُّجُنّهْ
صيّرتنى مثلاً لعشاقِ الجمالِ، وتلك سُنّهْ
أنا إن طربتُ، فقد سمعتُ، لمزهري الغيبىِّ رنّهْ
أنا إن شَطَحْتُ، فإنما، بالروح منه عزفتُ لحنا
يا حبّذا الوطنُ القديمُ، وحبّذا الأعرافُ جَنّهْ

كانت باو تجربة استاطيقية، إقرأ: "روحانية" إن شئت. مكثنا فيها بضعة أيام، طالعنا فيها مشهدًا من مشاهد الجمال الباقية، تمليناها بالقلب، وتشربناها في الروح، واختزناها. وبعد أن انغمست أرواحنا في أقباس الجلال والجمال، وارتوينا، تركنا باو، وتوغلنا صوب الجنوب الشرقي، ميممين شطر أعالي جبال الأنقسنا، قاصدين الكرمك، عند قدمي الهضبة الحبشية.
(يتواصل)
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

تركنا "باو"، وهيئتها المندغمة وسط تشكيلات الصخور داكنة اللون، خارجين من جوها الغرائبي المغموس في دن الأساطير. دقائق من السير في تلك الأدغال الصخرية واختفت باو، وما لبثنا أن ابتلعنا الفضاء المفتوح والمجهول. وجدنا أنفسنا نتوغل في تضاريس أكثر وعورة، والشاحنة تئن، ويصدر منها صرير متقطع، وهي تتمايل يمنة ويسرة. الجبال أصبحت أكبر حجمًا، والخيران صارت متتاليةً وعميقة. كانت الشاحنة تنزل إلى الخور بزاوية تقارب الخمس وأربعين درجة، إلى عمق يصل إلى العشرين مترًا، وما أن تستقر في بطن المجرى الرملي الجاف تصعد مرة أخرى على الحافة الأخرى بنفس زاوية الميلان. وكنا نضع أيدينا على قلوبنا وهي صاعدة، خوف أن ترتد على عقبيها في أي لحظة. هذه الخيران المتعرجة البديعة المنظر تلفها أشجار كثيفة متنوعة. على هذا الطريق المتنوع المشاهد، تنبسط الأرض أحيانًا، وينكشف الأفق، ويتبعثر الغطاء النباتي، فتجد الشاحنة براحًا مفتوحًا، فتغذ السير، ولكننا نعلم أنه براح محدود، فالخيران المتحدرة من الجبال تنسج شبكة معقدة في هذا الإقليم العجيب، سرعان ما تعترضنا، ونجد أنفسنا مرة أخرى نغالب مشقة عبورها وخطره. فالمياه الوافرة سريعة الجريان، نحتت في هذه الأرض، منذ قديم الزمان، هذه الخيران الأخدودية العميقة.

مررنا بمنطقة الكيلي وقرية أونسة، وخور أحمر، وكانت تلك هي المناطق التي شهدت اللحظات الأخيرة من حياة الإمام الهادي المهدي. أحداث الجزيرة أبا في مارس 1970، والموت المأساوي للإمام الهادي المهدي في تلك المنطقة، كان صداهما لا يزال يتردد في جنبات تلك المنطقة الموحشة، متناثرة الشجر، قليلة السكان. لقد أوشك الإمام الهادي أن ينجو ومن معه، وهم ينشدون مأمنًا لهم في الأراضي الإثيوبية، بعد أن تم اجتياح الجزيرة أبا بالدبابات، ودكت قصر الإمام الطائرات، والقصف المدفعي من الضفة الغربية للنيل الأبيض، عند قرية الطويلة. حين وصل الإمام الهادي ومرافقوه إلى تلك المنطقة، لم يبق بينهم وبين الحدود الأثيوبية سوى ساعة، أو ساعتين، لكن الحظ عاكسهم، والأقدار عاجلتهم. وحين مررنا بتلك المنطقة، كانت الأحداث قد مر عليها عامان إلا قليلا، وكانت مايو نفسها لم تتجاوز عامها الثاني بأكثر من ستة أشهر. حين مررنا من هناك في نوفمبر 1970، لم نكن نعلم أن انقلاب 19 يوليو سيحدث بعد تسعة أشهر فقط، وان البلاد ستدخل فصلًا داميًا آخر يقلب الأمور فيها رأسًا على عقب. فأحداث الجزيرة أبا، وأحداث ودنوباوي، وانقلاب 19 يوليو مثلت المنعرج الذي منه انزلقت أمور السودان كلها، لتصبح خارجة عن نطاق التحكم. منذ تلكم الأيام، لم "يطلع السودان قوزًا أخضر" كما يقول أهلنا.

وغمغمت في هدأةِ المساءِ هامةُ الجبل!
كان ذلك بيت شعرٍ وحيدٍ طاف بخاطري، ونحن نفترش الأرض في فناء الاستراحة عند سفح جبل الكرمك. لم أزد على ذلك البيت شيئا، وأحتفظت به بيني وبين نفسي، فعلق على جدار الذاكرة، وبقي فيها كل هذه العقود. فالجبل كان ولا يزال يبعث في نفسي الرهبة. رهبة لا تخلو من الاحساس بالتقديس. نفس الشعور التي تبعثه في النفس الكاتدرائيات الضخمة شاهقة السقوف. والانسان، في ما أزعم كائن عابد بطبعه.

تقع هذه الاستراحة التي نزلنا بها عند ملتقى السفح مع الانحدار المتدرج إلى حيث ترقد المدينة على مسافة ليست ببعيدة. المدينة كلها تحتنا، نراها من أولها إلى آخرها، بل ونرى من وراءها الكرمك الأخرى الواقعة خلف خط الحدود، وهي قرية إثيوبية يفصل بينها وبين الكرمك السودانية خور صغير. المواطنون على طرفي الحدود يتنقلون بلا قيود. هناك نقطة شرطة حدود بالقرب من الخور على الجانب السوداني، وحراسها مسترخون لا يسائلون الغادين والرائحين بين الكرمكين. عرفنا ان أهل قرية الكرمك الإثيوبية يأتون بالغلال لطحنها في طواحين مدينة الكرمك السودانية، كما يتسوقون فيها أيضا. ويذهب السودانيون إلى قرية الكرمك الإثيوبية ليشتروا بعض البضائع الإثيوبية التي لا تتوفر في سوق الكرمك السودانية.

أغرانا المنظر وخط الحدود، وتسامح حراس الحدود، بأن نجرب العبور حتى نضع أقدامنا على تراب بلد آخر. وبالفعل كانت تجربة عبور ذلك الخور، ودخول القرية الإثيوبية المقابلة، هي أول تجاربي، على الإطلاق، في وضع رجلي على تراب بلد أجنبي. لقد كانت تجربة بالغة الإثارة بالنسبة لي. كنت في المدرسة المتوسطة مغرمًا بالأطلس. كانت أبو عشر الوسطى مدرسة داخلية، وكان يرغموننا على المذاكرة في الفصول مساء. تُضاء الفصول بعد صلاة المغرب، فنذهب إلى هناك لنبقى فبي "حالة مذاكرة" حتى الثامنة والنصف، (duh) أو (هه ... قال مذاكرة قال!). بعدها نتوجه لقاعة الطعام لتناول العشاء. في ساعات المذاكرة تلك، يمر علينا المعلمون بجلابيبهم وعمائمهم، كما هي حالهم عادة في ساعات المساء. ترفع رأسك فجأة من رسم أنت منهمك في رسمه تغالب به سآمات تلك المذاكرة اللعينة، وفجأة يسقط قلبك في جوفك من "الخُلعة" إذ تجد الأستاذ يقف خلف الشباك، وتكتشف أنه كان يراقبك لفترة. وما أن تنتبه يصوب ضوء بطاريته نحوك منتهرًا إياك: "ده شنو"؟ فتضطرب وتتحول أنظار الجميع نحوك، فتوقف الرسم وتخرج كتابا مدرسيًا وتتظاهر بالجد والمثابرة في المذاكرة. كانت ساعات المذاكرة تلك من أتعس ساعات يومي. كان أنيسي فيها هو الأطلس الذي يعطيني مجالًا خصبًا للسرحان. كل قطر في الأطلس يتم تلوينه بلون مختلف في الخرائط السياسية للقارات. كنت أطوف العالم كله على صفحات الأطلس وأحس بمتعة عظيمة، وبلذة غامضة، تنعش الروح وترقِّص القلبَ (على واحدة ونص) كما يقول المصريون. هذه الألوان وهذه الحدود ظلت تشكل في عقلي أن البلدان متمايزة في الواقع، كما هي متمايزة بألوانها على الأطلس. لكن يا وافجيعتاه! حين عبرنا ذلك الخور، ووطئنا أرض أثيوبيا، وجدنا أن لا فرق (بين أحمد وحاج أحمد) نفس التربة، نفس الغطاء النباتي، ونفس الهواء، ونفس وقع ضوء الشمس على الموجودات، ونفس البشر. والبشر في تلك المنطقة أصلًا متنوعون، ويتحدثون لغات مختلفة عبر خط الحدود. المهم رأينا بلدًا ثانيا، وما هو ببلد ثان، فالحدود أصلا تم رسمها عشوائيا في كل البلدان المستعمرة، وكذلك غير المستعمرة. ومع ذلك رجعنا نحمل زهو رؤية "بلاد برَّه".

مدينة الكرمك كثيفة الشجر، تبدو من مرتفع السفح، حيث الاستراحة، مثل غابة كثة. رسم كثيرون منا سوق الكرمك، فهو سوق شديد الحركة والحيوية، غني بالألوان، وهو مما يغري بالرسم. كانت تلك هي الكرمك الخارجة من الحقبة الكولونيالية، الرافلة في هدوءٍ وسلامٍ، ناعمةً بـ "فجة الموت" التي تسبق انمحاق الهدوء والسلام. لقد شهدنا نهايات "زمن الكرمك الجميل"، كما شهدنا نهايات "زمن الخرطوم الجميل".بعد ثمانية عشر عامًا من زيارتنا تلك إلى الكرمك، احتلتها قوات جون قرنق، ثم استردها الجيش الحكومي بعد أن تلقى دعمًا عراقيًا، يُقال أن السيد محمد عثمان الميرغني، كان هو من سعى إلى استجلابه. فمنذ دخول قرنق إلى الكرمك في نهاية الثمانينات فارقت الكرمك أمنها وسلامه وهدوءها وسكينتها ودخلت في عهد أصوات دانات المدافع والراجمات، وصرير جنازير الدبابات. فقد أضحت، مثل بقاع حدوية أخرى، عظم نزاع بين الهامش والمركز.

كنا نجلس في الأمسيات أمام الاستراحة عابرين ساعات الشفق المفضية إلى الغسق، ونحن نثرثر تارة، ونتحسس أوتار العود تارة أخرى. تبدأ تلك الجلسات عقب العودة من الشعاب، والخيران وحواري أطراف البلدة، وسوق المدينة. فالكل يعودون متأبطين لوحاتهم المائية التي رسموها قاصدين الاستراحة، بعد أن داهمهم المغيب وأصبحت الرؤية متعذرة. في تلك الجلسات العفوية، اكتشفنا زميلنا مصطفى الصادق! وجدناه يعزف العود باحساس مرهف، ويغني بصوت خفيض رخيم هو إلى الهمس أقرب. كان يلمس الأوتار لمسًا خفيفًا بأصابعه من غير ريشة، ويخرج منها أصواتا ناعمة، هامسة، تدغدغ شغاف القلب. أما عزف العبد المفتقر إلى ربه فكانت تغلب عليه "طرقعة" الريشة. غنينا "قمر دورين" لحسن جبارة، فنان رفاعة غير المعروف، إلا لقليلين. وغنينا "أنا لي حبيبة جميلة في أمبادر يا حليلة" بطريقة خليل إسماعيل. وأمبادر التي لم أرها قط، نحتها في قلبي وعقلي الناصر قريب الله، الفنان الذي قضى في شرخ الشباب، همت على روضة قبره، سحائب المزن الهتون. قال الناصر الذي تتيم بتلك الجهات:

طالما فيَّأت حواشيك غاباتٌ تذيقُ النهارَ بأسَ الليالي
ينفذ النورُ نحوها فيوافي من رقيقِ الظلامِ في سربالِ
ما أخوها الجريءُ يأمن عقباها، وإن كان صائدَ الرئبالِ
بين أطرافها مخاوفُ أدناهُنَّ بُعد الهدي وقُرب الضلالِ
فاذا عادها الخريف، وأفضي في العشيِّاتِ، بالدموعِ التوالي
فهي حسناءُ تزدهيها المرايا، ذاتُ صدرٍ مفوَّفُ الوشيِ حالي
قد تحاشي ظلالها السَّفْرُ، لمّا أطرقتْ للمياهِ والأوحالِ
وتشهَّت ثواقبُ النورِ ملهيً بين أحضانِ مائِها السلسالِ
بينما جرَّت الثعابينُ أجسادًا لها، في الجذوعِ جرَّ الحبالِ
وأرنَّتْ طيورُها بين مطيافٍ بها، أو مسبحٌ في الأعالي

إلى أن يقول:

كم لـ "وادي الوكيلِ" عنديَ ذكري، زادها جِدَّةً مرورُ الليالي
وفتاةٍ لقيتها ثَمَّ تجني ثمرَ السنطِ في انفرادِ الغزالِ
تمنح الغصنَ اسفلَيْ قدميها ويداها في صدرِ آخرَ عالِ
فيظلُّ النهدانُ في خفقانِ الموجِ، والكِشْحُ مُفْرِطًا في الهُزالِ
شاقني صوتُها المديدُ تنادي، والعصافيرُ، ذاهبَ الآمالِ
فتغشَّيتها وفيها ابتسامٌ يحملُ الخمرَ في كؤوسٍ لآلي
أيُّ أنسٍ أتاحه ذلك اليومُ، وأيُّ الجِوَاِء فيه صفا لي
فجزي الكاهليةَ الحبُّ عنِّي ما جَزَتْنِي عن جرأتي واتصالي
ياديارًا اذا حننتُ إليها، فحنينُ السجينِ للترحالِ
لست أنساك والبروق تجاوبْنَ، وروحُ النهارِ في اضمحلال
وكأن السحابَ ضاق به الجوُّ فأحني عليك بالاقبالِ

كثيرون لا يعرفون أن الناصر قريب الله من العترةِ الطيبية السمانية، وأنه ابن الشيخ قريب الله أبو صالح، صاحب القبة والمسجد المعروف في ملتقى حي القلعة وحي ودنوباوي بأمدرمان، جنوب غربي، مسجد الأنصار. هذه أسرةٌ صوفيةٌ شاعرة. وهي ذات عدد من الفروع، تنتشر في بلدة أمرحي، شمالي أمدرمان، حيث ضريح الشيخ الطيب ود الشيخ البشير مؤسس الطريقة، وقرية عراديب ولد نور الدائم بلدة الشيخ محمد شريف أستاذ محمد أحمد المهدي، وكذلك قرية طابت في الجزيرة حيث الشيخ عبد المحمود. أهل هذه الأسرة الكبيرة يقرضون الشعر على اختلاف في المشارب. فمنهم الشيخ محمد شريف، ومنهم الشيخ قريب الله، ومنهم الشيخ عبد المحمود، ومنهم محمد سعيد العباسي، وإبنه الطيب محمد سعيد العباسي، ومنهم الناصر قريب الله، وهو أشعرهم على الإطلاق في تقديري. فكلهم شعراء، نصفهم كتب شعرًا صوفيًا وكتب نصفهم الآخر شعرًا غير صوفي. غير أن الناصر هو شاعرهم الفنان، وإنني لأحتفي به هنا لأننا في حضرة فنون، وفي حضرة أمكنة. ولكم سبت الأمكنة قلوب الشعراء، متصوفين وغير متصوفين. قال إبن عربي:

خليليَّ عوجا بالكثيبِ، وعرِّجَا على لَعْلَعٍ، وأطلبْ مياهَ يلمْلَمِ
فإن بها من قد عَرَفْتَ، ومن لهم صيامي، وحَجِّي، واعتماري، وموْسمي.
فلا أنسَ يومًا بالمُحَصَّبِ من منىً، وبالمنحرِ الأعلى، أمورًا، وزمزمِ
مُحَصَّبُهم قلبي لرميِ جمارِهم، ومنحرُهم نفسي، ومشربُهم دمي
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
Ahmed Sid Ahmed
مشاركات: 900
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 3:49 pm

مشاركة بواسطة Ahmed Sid Ahmed »

الأصدقاء والصديقات ، الزائرين والزائرات، سلام.

أتابع بإنتظام وإهتمام كل واردة وشاردة فى هذا البوست.

لا أتعجل الكتابة طالما الخيط ينساب بلا إنقطاع. هناك مداخلات قصيرة ومساهمات ( بصرية ) وأسئلة وإستفسارات،
تحفز أو تتطلب العودة إليها. هناك ذكرى تبعث ذكرى، وطرفة " تكلْكل " أخرى.!
وفكرة تجلب فكرة .

ما تأتى به الرياح من ما لا نشتهى يؤخر العودة. وكلمة " يتواصل " أو " أواصل "
من كاتب أو مشارك يبطئها .( لا أقصد أن يكون هذا بالضرورة شرطا أو مدعاة لإبطاء)!
و "العجلة " لا أقدر على ركوبها كما كنت أيام الشباب.! وهي من الشيطان.!

وكما إتفقنا " إتفاقا "! على ألاَ نتفق على خطة لمشاركاتنا، يسير " البوست ".
تتداخل التجارب وتتنوع وتتكرر حينا، ولكن لكل منبره/ها، أو " زاويته "/ها ومئذنته/ها التى ت/يرى من خلالها أو يؤذن.! ( وجه باسم ).

وعن كلية الفنون فالحديث ذو شجون.

ويا عادل ليك رسالة

وجاييك يا عبد الماجد يا زول المفاجآت.!

ويا حسن وعبود شكرا على تحفيزكما لنا لبذل الصور والرسومات. وجاييكم بما عندى.

ويا عزيزنا النورحمد، شكرا على تمهيد الطريق وإنعاش الذاكرة لما سيأتى من ذكريات.

خاصة والواحد لما يجى لى رحلة " يابوس" والكرمك، بس يقول " وصلنا.. وكان الطريق
كما وصفه النور."! مع إختلاف زمان الرحلات ولكن الطريق واحد ، واللورى يكاد يكون نفس اللورى.! ( وجه باسم ).
أما قولك : إقتباس،

" ويا أحمد سيد أحمد "طُبطُب"، "لا سمعتو ولا جابو لي"! إنها الشيخوخة، التي أخذت بتلابيب الكهولة، يا صديقي العزيز................فأعذرنى. أعرف أن فيك من السماحة ما أعول عليه للإعذار."

أولا يا صديق أنا أصلا قلت ليك " ليطمئن قلبى ". وكانت كلمة أعذرنى براها كافية بدون شرح. أما شرحها بأن عذرك إنو المسألة شيخوخة بعد الكهولة، فدى معناها إنو أنا
اللقيتنى قدامك فى الكلية أكون " خرفت عديل " !! والكتبتو كلام خرف. ودى يقال عليها " أخير قبيل ".!

أها شفت يا النور الشغب الما عندو حدود ده.؟! ( وجه باسم )

وبما أن ثقتك فى قدر من السماحة عندى يعول عليه كبيرة، فلن أخذلك ولن أحوجك إعتذارا جديدا ، فلا عليك والبيناتنا عامرة.

ولكن ربما أعود لبعض الأسطر فى ما كتبت أنت من تأملات و حواشى حول الذكريات ، وليس الذكريات.( فالذكريات تجارب حقيقية عاشها الإنسان. يتفنن فى روايتها كيفما شاء، بحيث تبقى الحقائق كما هي. يمكن أن يبعد منها ما يرى أنه غير ملائم ، لظرف أو سبب يراه ولكن لا يجوز خلق رواية جديدة تضاف إليها تحت إسم ذكريات)
أرجو ن يكون نفس القدر من السماحة عندك متاحا لى.
أتمنى أن يعود لنا عبود بكنوزه وخفايا " سحارته ".
Ahmed Sid Ahmed
مشاركات: 900
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 3:49 pm

مشاركة بواسطة Ahmed Sid Ahmed »

صورة

بالإضافة إلى الموديل الشهير " عم حسن " للبورتريه " كان هناك الموديل " قاسم ".

وكان كلما نعرفه عنه أنه " قاسم " الكنقولى. وقيل " مايكل"! هذه رسمة لى للموديل " قاسم "، قمت بتلوينها فيما بعد.


عرضتها فى معرض بمعهد " جوته " إفتتحه الأديب الراحل جمال محمد أحمد ( 1982). وكان وقتها الأمين العام للمجلس القومى للآداب والفنون.

أبدى الأستاذ جمال إعجابه بها، فأهديتها له. ومنذ ذلك التاريخ نسيت أمرها حتى إجازتى قبل ثلاث أعوام.

فى منزل الأستاذة علوية جمال وزوجها الدكتور عاصم مغربى، وأنا أدخل صالون دارهم لأول مرة بعد ما يقارب الثلاثين عاما من تاريخ ذلك المعرض ،
ومن على البعد شاهدت لوحة على الجدار ألفت شيئا فيها.( كنت قد نسيت أمرها تماما ) إتجهت نحوها فى صمت وزهول. وما إن إقتربت حتى وجدتنى أقول بصوت عال وسط دهشة الجميع:

" هي ده ما أنا "!!

وأنفجرو ضاحكين ، وحكو لى بعدها كيف إنتقلت إليهم بعد رحيل الأستاذ جمال, ومن يومها صارت نكتة. وصارو كلما إلتقيتهم، يبادرنى الواحد منهم:
" هي ده ما أنا." !

إلتقطت لها فى عجل هذه الصورة التعبانة. والرسمة من وراء زجاج ، والفلاش " طنبج " الباقى.!


حكى الأستاذ الصلحى أنه هو الذى أتى بالعم حسن للكلية منذ أوائل الستينيات. أما قاسم فلا أذكر له قصة.

بعدها أحضر الأستاذ عزالدين الخطاط العائد من ليبيا وكان معيدا ،موديل نسائى. وكانت قد إشتهرت بإسم " إنصاف جكسا ".!

ولا أظن هناك من أكمل رسما لها.( كانو يبحلقو بس !). لم تبقى طويلا ولم يبقى الأستاذ عزالدين بالكلية بعدها.!

ولاحقا أحضر زميلنا إبراهيم العوام موديل نسائى آخر، مساعدة لها لأكل العيش ولتعول أطفالها. لا يحضرنى إسمها الآن.
سأعود بقصة وصورة لوحة لها رسمها زميلنا عمر مدنى، وكان الصلحى أستاذا وقتها.
Ahmed Sid Ahmed
مشاركات: 900
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 3:49 pm

مشاركة بواسطة Ahmed Sid Ahmed »

صورة

الصورة الوحيدة لهذه اللوحة التى فارقتنى ، وما فارقتنى الذكرى!
Ahmed Sid Ahmed
مشاركات: 900
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 3:49 pm

مشاركة بواسطة Ahmed Sid Ahmed »



أخونا العزيز عادل السنوسى, سعدت بعودتك، أو قل طلتك برغم حذرها.

لا تتصور يا عادل كم من الصور الجميلة عبرت بخاطرى وأنت تأتى بطرف من
سيرة الأستاذ قرنى.

لقد كان حبيبا إلى نفسى وتبادلنا الود والإحترام أيام الكلية، إلاَ أن الظروف لم تجمعنا
بما يكفى لتعرف أوثق على بعضنا البعض. وما بذلته أنت هو بعض ما نرجوه فى
هذا البوست اللى ما عندو سيد, ولكنه يسير برعاية جماعية.
وحتى سطر سطرين كمساهمات أخونا الفاضل بشير تنعش البوست إلى أن يجود
بما هو أطول وهو على ذلك قادر.

الأخ قرنى وجدنا أنه الجمهورى الوحيد فى الكلية عند إلتحاقنا بها. ومن خلاله تعرفنا
على فكر الأستاذ محمود محمد طه. لا بد أنه كان طرفا فى نجاح دعوتنا للأستاذ محمود
ليقدم لنا محاضرة " الإسلام والفنون "، والتى صدرت فى سلسلة كتيباته بعدها.
كانت الدعوة من إتحاد طلاب الكلية وكان وقتها برئاسة الصديق محمد محمد صالح.

كان قرنى شخصا يجبرك على إحترامه. مهذبا ، ودودا ووقورا. أحيانا كنت أراه متفرغا للفكرة الجمهورية أكثرمن تفرغه لكلية الفنون.
- كما صار ذلك شأن بعض من عرفنا من الزملاء الذين إنضمو للحركة لاحقا -.


كنت ترى السمة العامة لطلاب وطالبات كلية الفنون وبأيديهم ما يشير إلى ما هو على علاقة بالرسم وأدواته، ( ناس الخرتايات )!
وفى المقابل كنت ترى قرنى - فى أغلب الأحيان - يحمل كتابا أو كتيبات جديدة للأستاذ محمود لعرضها على المشترين.

الطريف أنه كان طالبا فى قسم " النسيج " الذى يرأسه الأستاذ مجذوب رباح، الذى إتصف
بالصرامة والإنضباط فى المواعيد..والدخول والخروج من الأستوديو، حتى أنه كان الأستوديو الوحيد الذى يأتيه الزائر بحذر.!

و كان الأستاذ رباح يكن قدرا كبيرا من الإحترام والتقدير لقرنى. و قرنى يعرض عليه ما جد من كتيبات الأستاذ محمود،
وأحيانا يبادر رباح بسؤاله إن كان هناك جديد،
كما حدث وحكى قرنى وهو يبتسم.: أنه كان يحمل كتيب الأستاذ محمود المعنون " خطوة نحو الزواج فى الإسلام " عندما إلتقاه الأستاذ رباح وسأله عن الجديد.
ناوله قرنى الكتيب.

قرأ الأستاذ رباح الإهداء، قطب جبينه و تغيرت ملامح وجهه من الإبتسامة المعهودة التى يقابل بها قرنى.!
كان للأستاذ رباح عددا من البنات ، أحسن تربيتهم ويفخر بهم ، وكان الإهداء يقرأ :-

" إلى الآباء والأمهات الذين يؤرق مضاجعهم شبح الرزيلة الذى يهدد بناتهم وأبناءهم. "

وفى سرعة أعاد رباح الكتيب لقرنى قائلا :- " أنا ما عندى بنات يؤرق مضجعى مصيرهن " !
صدق الأستاذ محمود فى ما دعى إليه من حسن الخلق والتربية ، وصدق الأستاذ رباح فى دعواه وثقته فى تربية بناته،
وصدق قرنى فى روايته ، وصدقت أنا فى نقلها.

كنت فى إحدى إجازاتى قبل سنوات ،وبعد أن زرت الأستاذ عربى فى منزله ، وصف لى
الطريق لمنزل الأستاذ رباح لأزوره وقد علمت أنه مريضا.

جلست إلى الأستاذ رباح وهو يسألنى عن أحوال رفاق العمر من الفنانين المهاجرين
الذين لم يلتقيهم من سنوات طوال. تحدث عن البعد عن الوطن ، الغربة والإغتراب .
وعن فقده لهم. ترحم على روح الفنان صديق النجومى، وغمرت حديثه عنه وعنهم
حالة من الأسى والحزن، رأيت بعدها الدمعات تطفر من عينيه. قلت فى نفسى يا سبحان
الله...وقد مر بذهنى شريط الذكريات ونحن فى ردهات الكلية نتجاذب أطراف الحديث...
ونتبادل الضحكات وأصواتنا تعلو، وإذا من على بعد يظهر الأستاذ رباح بطوله الفارع و قامته المنتصبه.
مرتديا الزي الذى تميز به من القمصان التى صممها لتناسب طقس السودان،( قمصان بيضاء من الدبلان نص كم وبدون لياقة )
ولكن فى قمة اللياقة والأناقة.

تنخفض بعدها أصواتنا وقد يختفى بعضنا خلسة إلى داخل الأستوديوهات، وينقطع بين البقية حبل ال " خد وهات "، ويسكتو عن الكلام المباح، حتى يمر رباح.!

خرج معى يودعنى وهو يرتدى العراقى والسروال ، وتقدم خطوات على الطريق وهو
يؤشر ويصف لى الطريق لدار الأستاذ أحمد محمد شبرين لأزوره.وكان شبرين أيضا يشكو
وهنا فى الجسد وضعفا فى البصر. هناك أتاح لى الأستاذ شبرين فرصة الإطلاع على ما
تبقى من معرض أعمال الفنان عمر خيرى والذى أقيم ليسهم فى علاج عمر. إخترت منها أكثر اللوحات التى تعرضت للخدوش وأقلها فرصة لتباع.
سأعرض صورة لها فى المستقبل.

أكملت زياراتى ذلك اليوم لهؤلاء الأساتذة وأنا أراجع شريط الماضى وأردد بينى وبين
نفسى " آل.. ديناصورات.. آل ".!.

وإذا بى ألتقى فى بوست الذكريات بعادل السنوسى يخاطب عبود وشخصى مازحا( أرجو)!

" الأخوين العزيزين الديناصوروين خلف الله عبود واحمد سيد احمد، سلام من روتردام ".

صبرا يا ... عادل، فموعدك " الدنصرة ".!

قال الشاعر " قل لمن لا يرى المعاصر شيئا ويرى للأوائل التقديما
إن هذا القديم كان حديثا وسيسمى هذا الحديث قديما ".
آخر تعديل بواسطة Ahmed Sid Ahmed في السبت إبريل 27, 2013 5:26 pm، تم التعديل مرة واحدة.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مشاركة بواسطة حسن موسى »

Ahmed Sid Ahmed كتب:صورة

بالإضافة إلى الموديل الشهير " عم حسن " للبورتريه " كان هناك الموديل " قاسم ".

وكان كلما نعرفه عنه أنه " قاسم " الكنقولى. وقيل " مايكل"! هذه رسمة لى للموديل " قاسم "، قمت بتلوينها فيما بعد.

....

حكى الأستاذ الصلحى أنه هو الذى أتى بالعم حسن للكلية منذ أوائل الستينيات. أما قاسم فلا أذكر له قصة.

بعدها أحضر الأستاذ عزالدين الخطاط العائد من ليبيا وكان معيدا ،موديل نسائى. وكانت قد إشتهرت بإسم " إنصاف جكسا ".!

ولا أظن هناك من أكمل رسما لها.( كانو يبحلقو بس !). لم تبقى طويلا ولم يبقى الأستاذ عزالدين بالكلية بعدها.!

ولاحقا أحضر زميلنا إبراهيم العوام موديل نسائى آخر، مساعدة لها لأكل العيش ولتعول أطفالها. لا يحضرنى إسمها الآن.
سأعود بقصة وصورة لوحة لها رسمها زميلنا عمر مدنى، وكان الصلحى أستاذا وقتها.








سلام يا أحمد
و الله كان ما نخاف الكضب الموديل النسائي الذي احضره الأخ ابراهيم العوام هي" ليلى الموديل" ـ كما كنا نعرفها بالفرز من ليلوات أخريات ـ و هي سيدة مستديرة الوجه دقيقة الملامح موشومة الشفة على وسامة تقليدية أقرب لصور النماذج التي كان جحا يرسمها على علب "حلويات ريّا". و موديلات كلية الفنون فصل يستحق التأني كونه يضع طلاب الفنون في مواجهة يومية مع رجال و نساء من غمار الشعب،و هم غالبا أبعد ما يكونون من هموم التشكيليين.كان هؤلاء الناس يباشرون عملهم بجدية ظاهرة كانت تعدي الطلاب و الطالبات المتحلقين حولهم بأدوات الرسم و تفرض عليهم جوا من الرصانة حتى بين الطلاب الأكثر ميلا للتندر و الهذر. في فترات الراحة كان بعض الطلاب يرافقون بعض الموديلات للبوفيه لتناول الشاي كما كنا نعرض على من لم يكن يرغب في مرافقتنا للبوفيه أن نحمل له كوبا من الشاي أو عصير الليمون.
روح الإحترام التي كانت تلف علاقة الطلبة و الموديل كانت تنمسخ للتندر و السخرية و الهذر حين يكون الموديل الماثل أمام حلقة الرسامين من الزملاء الطلاب. وأظن أن حضور الموديل المؤنث من بين الزميلات كان في الغالب مقدمة مضمونة و مشروعة أكاديميا لما كان يعرف بـ " التكييس " [ من كيّس يكيّس في قاموس محبي السبعينات ] فالمُكيّسان يقوّيان عيناهما بذريعة الرسم. و تقوية العين في مقام البورتريه سائغة في مقام المجاز البلاغي مثلما هي سائغة في مجال الواقع العاطفي لقوم عبروا ثانويات التصحر العاطفي ببسالة و جلد ليجدوا أنفسهم في مواجهة يومية مع هذا " الجنس الآخر" الآخر. و هذه الفولة تفيض عن سعة هذا المكيال فصبرا حتى أعود.
Ahmed Sid Ahmed
مشاركات: 900
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 3:49 pm

مشاركة بواسطة Ahmed Sid Ahmed »


شكرا يا حسن على الإضافة القيمة. وأميل إلى الإتفاق معك أن إسم الموديل النسائى
الثانى هو " ليلى ". وصفك لها تمام، لأن بحوزتى صورة فوتوغرافية للوحة " البورتريه "
التى رسم نصفها عمر مدنى.! آمل أن أجدها بسهولة لآعرضها. و رسم البورتريه برضو
يفتح الباب فى مجال " الشوف " و " البحلقة " والفرق أو خيوط التلاقى بينهما. خاصة
فى تلك المرحلة من العمر وبداية معرفة معنى " الشوف " فى حالة الرسم.!

وهذا ما عبرت أنت عن جانب كبير منه كما كتبت.: إقتباس " تكييس
فالمُكيّسان يقوّيان عيناهما بذريعة الرسم. و تقوية العين في مقام البورتريه سائغة في مقام المجازالبلاغى
مثلما هي سائغة في مجال الواقع العاطفي لقوم عبروا ثانويات التصحر
العاطفي ببسالة و جلد ليجدوا أنفسهم في مواجهة يومية مع هذا " الجنس الآخر" الآخر. " إنتهى.

أسعدنى تناولك لمسألة العلاقة بين الطلبة والموديل فى زماننا. كان بعضنا يسعد غاية السعادة ونحن نجلس أو وقوفا
نتجاذب الأنس مع العم حسن وهو يردد على مسامعنا
أشعار الدوبيت والبادية التى ألفها هو وتلك التى يحفظ منها قدرا مهولا.
أما قاسم فقد كان سكوتا وهادئا، ما كنا نظنه حياءا أو مشكلة لغة. وكان صوته كصوت
طفل صغير مقارنة بجسده مفتول العضلات. كان من الذين نكتفى بإحضار كوب الشاي
أو العصير له وكما قلت أنت هي فولة تستحق العودة لها. وما تغيب.!
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

ديبورا

مشاركة بواسطة حسن موسى »

ديبورا ، زيت على ورق، 1974.




صورة



سلام يا أحمد
كلامك صحي، شغل البورتريه يفتح عين البصيرة قبل عين البصر، فيه الرسام يجد نفسه ـ بذريعة الرسم ـ حرا من كل القيود و" الفلاتر " التي تعترض الشوف.[ معليش على " الفلاتر "دي لكن مفردها "فلتر" التي لم أجد لها معادلا في العربية المحبوبة].فالموديل الذي أمامك و تحت تصرفك ينمسخ ـ بعد النظرة الأولى البريئة " التي لك " و النظرة التانية المتأنية الغميسة " التي عليك " و التي تعقبها نظرة تالتة ضجرة و محايدة ـ ينمسخ لمجرد موضوع " أوبجكت" مثله مثل "الطبيعة الصامتة" [ الحياة الساكنة في تعبير البريطان " ستيل لايف"، و" الطبيعة الميتة" في تعبير الفرنسيس " ناتور مورت "] و ليس بينكما سوى الرسم .في مقام الرسم تتخلق ملامح الموديل و تفاصيل خلقته لمجرد تراكيب خطوطية و لونية متأثرة بنوعية الضوء في الأستوديو. مرة طلب مني صديق عزيز من خارج دائرة التشكيليين أن اعمل بورتريه لفلانة " كيسه" فوافقت بطيبة خاطر باسم المعزة التي بيننا. و حقيقة لم أكن أعرف صديقة الصديق إلا من لقاءات عابرة من بعيد لبعيد. و حين جلست الشابة اللطيفة أمامي أعملت فيها بروتوكول النظر أعلاه لكني لم أتمكن من تجاوز النظرة الأولى المسطحة الفارغة" التي لي" بحكم الشرع [ أعمل بيها شنو أنا شوفة العين المابتكتل نملة؟!] كانت شابة وسيمة لا تمل العين النظر لمحياها الرائع و كان صديقها، صديقي الصدوق، يجلس بجانبي كمثل سد هائل من الوفاء و المعزة يعوق المشاهدة و يعلق باعجاب على تقدمي المتعثر في شعاب التقاطيع الحلوة الوعرة و أنا لا أدري أي شيطان يملك أن يخارجني من عماء تلك النظرة الأولى.
كنا تعودنا على رسم بعضنا و رسم الموديلات التي تشبهنا بطريقة أو بأخرى إلى أن جاء يوم دخل علينا بولا و هاشم محمد صالح و في رفقتهما شاب خواجة أمريكي ذو لحية شقراء. أظن أن اسمه كان " دان ". بقي هذا الخواجة في رفقتنا و تبنته عصابتنا و طاب له المقام بيننا فكنا نأخذه معنا للمطعم ساعة الوجبات و يعود ليقضي بقية يومه وسطنا و قد طاب له أن يجلس بيننا كموديل متوفر بعد ساعات الدوام. تعلمنا من رسم بورتريه "دان" استكشاف شعاب البورتريه الأوروبي و ألاعيب الضوء و الظل على تضاريس البشرة البيضاء و الشعر الأشقر و كان لنا في حضوره منفعة تقنية لا تقدر بثمن . غادرنا " دان " لشرق افريقيا بعد شهر تقريبا و انقطعت أخباره بعدها.
من بين الأمور المهمة في منظور خبرة البورتريه بالكلية لا بد من ذكر " ديبورا"، شابة دينكاوية لطيفة و رقيقة أظن أن جلي أحضرها للأستوديو كموديل بورتريه.كانت ديبورا تعتني عناية ظاهرة بأناقة الملبس، و كنا نسارع بإكمال البورتريه في يومه لأن ديبورا كانت ستحضر بزي مختلف في الغد. لكن المهم في بورتريه ديبورا كانت الصعوبة التقنية الكبيرة التي واجهت الجميع ، و هي كيف يمكن تلخيص تلك "اللمعة" اللونية التي تشع من تحت بشرتها الفاحمة السواد على المسند؟ البورتريه أعلاه هو واحد من سلسة [ من أربعة أو خمسة " بورتريهات ] نفذتهم في نفس النهار و أنا أتحرّى طبيعة ذلك الضوء السحري المنبعث من سواد بشرة ديبورا.
قبل سنوات أتيحت لي فرصة مشاهدة " رؤوس زنجية ثلاثة " عمل روبنز المدهش الذي كنا نعرفه من المستنسخات الرديئة. و حين تأملت في الطريقة التي رسم بها روبنز سواد الموديل الإفريقي في لوحته " رؤوس زنجية ثلاثة " تيقن لي مدى اهمية تجربة بورتريه ديبورا
ساعود
أضف رد جديد