وتستمر ذكرى الراحل الخالد/ الطيب صالح

Forum Démocratique
- Democratic Forum
سيد أحمد العراقي
مشاركات: 624
اشترك في: الأحد يونيو 21, 2009 11:44 pm

واسيني والمريود..صورة لدى زيارته قبر الطيب صالح

مشاركة بواسطة سيد أحمد العراقي »

نقلا من موقع الراكوبة


[b]واسيني والمريود..صورة لدى زيارته قبر الطيب صالح


عماد البليك

صورة مؤثرة تناقلها رواد مواقع التواصل الاجتماعي، الفيسبوك تحديدا، تصور الروائي الجزائري واسيني الأعرج وهو يقف أمام قبر عبقري الرواية العربية الأديب الراحل الطيب صالح، تدس وراءها الكثير من المعاني عن فكرة الحياة وما تدثره وراءها من قيم أخرى كالموت والخلود والمطلق التي تتجاور كشيء واحد.

توفي الطيب صالح في يوم الاربعاء 18 فبراير 2009 وهو اليوم نفسه الذي توفي فيه الفنان الكبير محمد وردي في 18 فبراير 2012 و18 يناير كان رحيل المفكر محمود محمد طه.. وقبله بيوم (17 يناير) رحيل مصطفى سيد أحمد ومحمود عبد العزيز. وكأن هذا الرقم 18 له قدر محبوك مع الموت.
هذه نقطة عرضية. لكن المهم. أن القبر الذي بدأ بسيطا جدا وعليه لافتة كتب عليها تاريخ الوفاة 17 فبراير بدلا عن 18 فبراير.. جعلني في إرباك عن الحقيقة رغم ان اغلب المصادر على الشبكة التي رجعت لها أشارت إلى 18 فبراير، فلا أعرف من أين جاء الخطأ.
أولا فإن المبادرة التي قام بها واسيني الأعرج وهو يزور قبر الحبيب، قبر المريود، كما يلقبه محبون، تستحق التجلة والتقدير، سواء كان هو صاحبها أم جاءت من شخص آخر. وبغض النظر عن الضجيج الذي صاحب زيارة واسيني إلى الخرطوم ودعوته من قبل اللجنة المنظمة لمسابقة الطيب صالح التي تدعمها شركة زين. واختلاف من اختلف حول إفادات الأعرج.

فهذا الموقف يُجب الكثير جدا. ويختصر معان لا تحصر سواء تعلق البعد بالأديب الراحل أو الأديب الحاضر واسيني الأعرج الذي رغم عدم التقائي الشخصي مع نتاجه الإبداعي ورواياته التي أرى طغيان الذاتي والسياسي والأيدلوجي عليها، إلا أنني بمجرد أن رأيت هذه الصورة حتى احترمته كثيرا فهو موقف يسجله التاريخ، وهذه الصورة من الصور النادرة التي ستبقى في الذاكرة. اتكلم عن ذاكرتي وعن ذاكرة الكثيرين. إذ سرعان ما تداولها الناس وعلقوا عليها بكل اعتزاز وفخر ان في هذا الوطن ما يستحق الزيارة.

مناسبة ذلك.. واقعة أخرى. ذكرها مرة صديق مهاجر في أحد دول أوروبا، قال إنه كان في إحدى المناسبات عندما سئل عن أي معلم أو شيء معين يفتخر به في بلده، بمعنى آخر ما هو الشيء الذي يمكن القول انه يعكس ضمير السودان النابض، يقول إنه تلفت يمينا ويسارا ولم يعرف ماذا يقول، أو بماذا يرد، إلى أن جاءته صورة نهر النيل وهو يشق الأرض السودانية عبر الغابات والمستنقعات والصحاري وصورة الخرطوم ومقرنها.. وتوتي.. لكنه تذكر فجأة أن هذا النهر ليس ملكا للسودانيين وحدهم، كما تذكر ايضا أن الشرط الذي يتعلق بالاختيار أن يكون ما ستفخر به هو شيء إنساني له صلة بالإنسان سواء كان شخصية يمكن الفخر بها أو معلم من صنع الناس، وليس هبة الطبيعة.

قال الفرنسي إنه يفتخر بقوس النصر، وقال البريطاني ساعة جرينتش وقال الصيني سور الصين العظيم، وقال المصري أهرام خوفو، وهكذا.. أغلبهم إلا قلة وجد ما يشير به إلى بلده حتى أن الروسي تلفت وقال تولستوي.. يبدو انه لم يعثر على معلم بعينه. استمر السوداني في حيرته.. وأخيرا وبعد أن خرج فكر لماذا لم يذكر الطيب صالح.

هذه القصة الواقعية التي غابت تفاصيلها عني وكان محمد جمال الدين أحد رواتها وهو شاب سوداني أديب مقيم في هولندا، أصدر رواية بعنوان "حرب الأنهار". تقود إلى أمر هام، أي شيء عظيم نجحنا في وضعه كصورة ذهنية طوال العقود الماضية من عمر هذا الوطن. وربما منذ الماضي السحيق. حتى الأهرامات التي يمكن أن نفاخر بها في ولاية نهر النيل، فهي ليست حضارتنا وحدنا.

وعودة إلى البرج اليتيم بالخرطوم الذي ذكرته بالأمس. فإذا غاب عنها لا تعد للخرطوم إلا صورة القصر الجمهوري القديم. سنقول حدائق الدندر أو مدينة سواكن القديمة أو جبل مرة بجماله الباهي أو كسلا الخضراء أو الانقسنا وجبال النوبة وسد مروي حديثا. وووو. لكن السؤال أي معلم أو ملمح منها اكتسب الانتقال إلى فضاء العالم وبات صورة ذهنية رائعة يتجلى وراءه هذا الوطن.

كثير من الدول نعرفها بمجرد صور كهولندا التي منها محمد جمال الدين، لأنه قطعا أصبح مواطنا هناك. فهي بلد الطواحين الشهيرة ومنذ الصغر كنا نشرب الحليب الهولندي في الصباح الباكر، في حين أن بلدنا مليء بالأبقار التي لا حصر لها، لكنها لا أحد يهتم بها.
الطيب صالح قامة بحجم وطن. يرقد في هدوء بمقابر البكري في أمدرمان.. ذهب إلى الله في هدوء وترك وراءه تراثا يستحق النظر فيه.. واحد من الذين قدموا لهذا الوطن إضافة نوعية من خلال الصور الذهنية الرائعة التي رسمها عبر رواياته التي هي حفنة، كحفنة التمر وليست ذلك الكم الكبير، لكنها عميقة.

رسم في "عرس الزين" صورة السودان الذي يمكن أن يكون موحدا ولكن لا أحد اهتم. ومرة كتبت ان عرس الزين تصلح لتدرس في الجامعات والمدارس فهي صورة مصغرة للسودان الذي يمكن أن يتعايش من خلال التنوع الثري الذي يتمتع به. بدلا من دراسة كتاب الأيام لطه حسين في فترة من الفترات أو الشاعر الطموح عن المتنبي وغيرها من الكتب التي لا ترسخ أي معنى ولا بعد معرفي ثقافي بالأرض والبيئة والموطن للطالب أو الطالبة.
صناع القرار الثقافي والتربوي في البلاد، كما السياسي، يعملون برزق اليوم.. باليوم. فهم لا ينظرون بأبعد من اللحظة ولا يتأملون في المآلات أو كيف تُبنى الأمم، فهم ليس لديهم الوقت الكافي لذلك لأن ثمة هموم أخرى هي أهم. ويا لعجبي! لكن الأهم جدا أن الأمم هي ثقافة وحضارة وسياقات من التشابك المعرفي الذي يقوم على تعزيز معاني الوطنية والانتماء بعيدا عن كل الصراعات والقبلية والصور المجتزأة التي تعطي تلخيصات غير سليمة عن الأوطان والإنسان.

شكرا واسيني الأعرج أن فعلت ذلك. شكرا لهذه الزيارة. ونأمل أن تكون هذه الصورة المعبرة بداية للاهتمام بالتراث الثقافي والإنساني في السودان. وأن يعزز الاهتمام بالطيب صالح بمتحف يحمل اسمه يكون قبره في وسط هذا المتحف. متحف يضم مقتنياته الشخصية ومخطوطاته والكثير من الأمور المتعلقة به وأن ينجز ذلك بالموافقة والتعاون مع عائلته في بريطانيا، ولاشك أنهم سيكونون في أشد السعادة لهذا الاهتمام.
ان كثيرا من الوثائق والسجلات والمحفوظات للأسف تضيع لأننا لا نعرف كيف نهتم بها، صحيح ثمة جهود في هذا الإطار. لكن الضياع يحدث والفوضى تعم بمجرد أن لا يكون هناك من يهتم بشكل رسمي وعلمي بذلك بعيدا عن أي مصلحة مؤقتة يستفيدها ويعود لحاله.
[email protected]
[/b]
سيد أحمد العراقي
مشاركات: 624
اشترك في: الأحد يونيو 21, 2009 11:44 pm

تقرير عن الطيب صالح

مشاركة بواسطة سيد أحمد العراقي »

شبكة مدارس الأمارات...... نقلا من قوقل
الموضوع: تقرير عن الطيب صالح

[b]تقرير عن الطيب صالح
المقدمة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل خلقه محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد :

إن الطيب صالح ترك بصماته الواضحة في الحياة العامة السودانية وعرف بها العالم الخارجي من خلال روايات جسدت نبوغه الفكري والأدبي وكان ذا قامة أدبية وإعلامية سامقة.
واستطاع أدب صالح أن يعبر عن سمات البيئة العربية ولاسيما السودانية كاشفاً عن قيمها ومفرداتها الإنسانية ومعالمها وطقوسها ولهجتها وآمال أبنائها في نسق سردي مقدماً نفسه مبكراً كأحد أبرز الكتاب العرب الذين يستحقون التقدير والالتفات.

عمل الطيب صالح لسنوات طويلة من حياته في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي ثم في الإذاعة السودانية وبعدها في وزارة الإعلام القطرية لينتقل بعد ذلك للعمل مديراً إقليمياً بمنظمة اليونيسكو في باريس كما شغل منصب ممثل اليونسكو في دول الخليج ومقره قطر.

وقد اخترت ... الكتابة عن هذا الموضوع لانني طالما سمعت عن هذه الشخصية الادبية وقد احببت ان اتعرف من قرب وقد اعجبني كتابات هذا الاديب العربي الكبير رحمه الله تعالى .

الموضوع:


والطيب الصالح الذي تم ترشيحه للمرة الثانية من قبل كتاب سودانيين وعرب للحصول على جائزة نوبل لهذا العام، من اكبر الادباء العرب في القرن العشرين واشهرهم اثر ترجمة روايته الشهير الى 56 لغة واختيارها في 2002 من بين اهم مئة رواية في تاريخ الادب العالمي .

ولد الطيب صالح في قرية كرمكول شمال السودان عام 1929 ثم انتقل الى الخرطوم حيث التحق بالجامعة التي لم يتم دراسته فيها. وفي 1952 غادر السودان الى بريطانيا حيث عمل في القسم العربي في هيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي) وشغل منصب مدير قسم الدراما.


وانتقل صالح بعد ذلك للعمل في قطر ثم عاد ليتولى منصبا دوليا في مقر المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم في باريس.
بدأ الطيب صالح يكتسب شهرة كروائي متميز في 1966 عند صدور روايته "موسم الهجرة الى الشمال" عن دار العودة في بيروت.
وقام كبار النقاد العرب بالكتابة عن روايته. وقد ابرز قيمتها الادبية خصوصا الناقد المصري الراحل رجاء النقاش مما دفع بها لواجهة الادب العربي باعتبارها واحدة من اهم الروايات العربية المعاصرة.

وتعد "موسم الهجرة إلى الشمال" من الاعمال العربية الاولى التي تناولت لقاء الثقافات وتفاعلها وصورة الاخر الغربي بعيون الشرقي والغربي بعيون الاخر الشرقي الذي ينظر اليه كشخص قادم من عالم رومانسي يسوده السحر ويكتنفه الغموض.

وقد تطرق الطيب صالح في روايته الى هذه العلاقة من خلال شخصية بطلها السوداني الذي يذهب ليدرس في العاصمة البريطانية لندن. وهناك يضيف الى جانب تميزه وذكائه العقلي وتحصيله الجامعي العالى رصيدا كبيرا في اثبات فحولته الجنسية مع نساء بريطانيا الذين احتلوا بلاده مع تقديم صورة ساحرة عن الحياة في المجتمع الريفي السوداني.

ورغم الاحتفاء بروايته عربيا وعالميا، منع تداولها في بلاده في تسعينات القرن الماضي بعد اكثر من ثلاثين عاما على صدورها اثر تولى الاسلاميين السلطة فيها وذلك لتصويرها مشاهد واستخدامها كلمات توحي بالجنس.

ولم يكتب الطيب صالح سوى اربع روايات ومجموعة قصصية خلال رحلة طويلة مع الادب بدأت منذ 1960 سنة نشره اول قصة قصيرة "نخلة على الجدول" في احدى الصحف اللبنانية .
الا انه كتب اعماله بنفس ورؤية واسلوب مختلف ركز فيها بغالبيتها على حياة الريف السوداني باساليب مختلفة.

والروايات الصادرة له الى جانب "موسم الهجرة الى الشمال" هي "مريود" و"ضو البيت" و"عرس الزين". اما مجموعته القصصية فتحمل عنوان "دومة ود حامد".

وصدر له في السنوات الاخيرة مختارات الطيب صالح التي تضمنت العديد من المقالات المنشورة في الصحف العربية. وقد صدرت عن دار مدبولي في القاهرة ضمن تسعة مجلدات هي "المنسي" و"خواطر الترحال" و"وطني السودان"، بالاضافة الى "مضيئون كالنجوم" الذي جاء في مجلدين احدهما يتعلق بالغرب والشخصيات الغربية والثاني بالشرق والشخصيات الشرقية و"في رحاب الجنداية واصيلة" و"العرب والفرنجة" و"ذكريات المواسم"."

وكان مؤتمر الرواية العربية في القاهرة 2005 منحه جائزة الرواية العربية عن روايته "موسم الهجرة الى الشمال" بعد ان شارك في لجنة التحكيم في هذه الجائزة بدورتها الاولى التي منحت الروائي السعودي الراحل عبد الرحمن منيف اول جوائزها.

وتولى رئاسة لجنة التحكيم في دورتها الثانية التي منحت للروائي المصري صنع الله ابراهيم ثاني جوائزه بعد ستة اعوام من منح الجائزة الاولى الا انه رفضها ملقيا بيانا سياسيا انتقد فيه النظام المصري. السودان يحفل بقامات كبيرة, لكننا لا نعرفها وهذه مسؤولية مزدوجة, لكن المؤكد أيضا أن الراحل عبقرية متفردة لا تمنحها الأقدار للبلدان بسخاء.‏

ومن أسف أن تلك العبقرية منعت من التداول في بلدها مرحلة التشدد وتسييس الدين, لكنه السوداني الطيب والصالح, لم يدر ظهره لتراثه بل درس الدين الإسلامي كأحد المكونات التي تمنح
المجتمع.‏

العربي ثراءه وخصوصيته وعناصر قوته وديمومته, فكان النموذج المثالي للعربي عندما يكون علمانيا ومنصفا ومتسامحا, وكذا حال السودان الطيب عاد وصوب الخطأ, بل إن مختلف مؤسساته.‏
للطيب الصالح أعمال قليلة, لكن موسم الهجرة إلى الشمال طغت وبتعسف على ما سواها, فأقصت ريادة(بندر شاه) باتجاه واقعية سحرية بنكهة عربية حريفة, من أسف إن المستهلك لم‏ يستسغ خصوصيتها اللاذعة كما لو أنها لادغة, ما جعل القراء ينفضون عنها والنقاد يتجاهلونها فلا يقومون بدورهم في تمهيد الموعر لتسهيل ارتياد الريادي.‏
لم تنضب قريحة المبدع, وإن اختلفت الأساليب, فقد كانت مقالته الأسبوعية في (المجلة) بوابة للإطلالة على أهم التيارات والمنجزات في الغرب.
وكانت مجموعة من المؤسسات الثقافية السودانية تقدمت برسالة إلى الأكاديمية السويدية ترشح صالح لنيل جائزة نوبل إلا أن الأديب الراحل لم يكن مهتماً بأمر الجائزة، فقد أشار إلى أنه لا يشغل نفسه بها وأن في العالم عشرات الكتاب الكبار الذين يستحقون نوبل وبعضهم في العالم العربي لم يمنحوا هذه الجائزة التي شبهها باليانصيب.
وتعد روايته موسم الهجرة إلى الشمال في صدارة الأعمال الأدبية الذائعة الصيت التي نشرت لأول مرة أواخر الستينيات في بيروت، إذ نالت شهرتها لكونها من أولى الروايات التي تناولت بشكل فني راق الصدام بين الحضارات وموقف إنسان العالم الثالث ورؤيته للعالم الأول المتقدم.
الروائي السوداني المعروف الطيب صالح في العاصمة البريطانية لندن عن عمر يناهز الثمانين عاماً بعد أن ترك ثروة أدبية زاخرة ولاسيما في مجالي القصة والرواية.
وذكرت وكالة الأنباء السودانية سونا أن الاتحاد العام للصحفيين السودانيين نعى الطيب صالح الذي وافته المنية بعد أن اعتلى قمة مراتب الأدب وأسهم في الحياة الاجتماعية.

وفي عام 2001 اعتبرت الأكاديميا العربية في دمشق ان روايته موسم الهجرة الى الشمال هي الأفضل في القرن العشرين.
كما كتب العديد من الروايات التي ترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة منها عرس الزين ومريود وضو البيت إلى جانب مجموعات قصصية قصيرة عدة.
وفي مجال الصحافة كتب الطيب صالح لمدة عشرة أعوام عمودا أسبوعيا في صحيفة لندنية تصدر بالعربية تحت اسم المجلة وخلال عمله في هيئة الإذاعة البريطانية تطرق الطيب صالح إلى مواضيع أدبية متنوعة.

الخاتمة:

الطيب صالح هو علامة فارقة في المسيرة الروائية العربية. وقد لاقت أعماله القصصية والروائية رواجاً لم يتمتع به كثير من الكتاب والأدباء العرب، ووجد النقاد في أعماله الروائية فتحاً جديداً في ميدان الرواية العالمية. وهكذا يجمع هذا الكتاب بين دفتيه أجناساً متنوعة من التأليف. هي الشهادة والدراسة والحوار والسيرة. في محاولة للإحاطة بهذا الروائي الكبير من جهة ومن جهة ثانية التعبير عن رغبة صادقة للاحتفاء به مبدعاً ثلاثي الأبعاد مزج بين البراعة والوعي والحب في صبوة نادرة.

وقد اختيرت هذه الرواية عام 2002 ضمن أفضل مئة رواية في التاريخ الإنساني وفق قرار اتخذه مئة من كبار الكتاب الذين ينتمون إلى 54 دولة وتم تتويجه كعبقري الأدب العربي.
المصادر المراجع:

2/ ادباء في السودان ـ دار الكتاب ـ الخرطوم ـ 1947
.3/عرس الزين , الطيب صالح دار العودة، الخرطوم، 1971
رد مع اقتباس



رد: تقرير عن الطيب صالح
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... أختي
وهل هذة الشخصية مطلوبة في منهج السادس ..
[/b]
سيد أحمد العراقي
مشاركات: 624
اشترك في: الأحد يونيو 21, 2009 11:44 pm

الطيب صالح .. بين أمآسي دافئة وثلوج منهمرة

مشاركة بواسطة سيد أحمد العراقي »

نقلا من سودانايل


الطيب صالح .. بين أمآسي دافئة وثلوج منهمرة .. بقلم: السفير موسس أكول

(1)
تميًس مُقدِم البرنامج في خطوات هادئة نحو المنصة الأنيقة التي إنتصبت وحيدة في الركن الأيمن للقاعة الكبيرة في الفندق الواقع على مقربة من نهاية شارع كولمبيا بايك والطريق الدائري ((كيبيتال بيلت ويي)) في ضاحية فيرفاكس بولاية فرجينيا الأمريكية. طرق بأصبعه الوسطى على المصدح بنقرات خفيفة وإبتسامة عريضة تعلو محياه وبريق زهو محتشم يتسرب من عينيه. "الاساتذة الأجلاء، الضيوف الكرام، الحضور الكريم، آنساتي، سيداتي وسادتي، نأسف للتأخير، ويطيب لي في هذه السانحة أن ..." في كلمة رقيقة وبلسان ذرب وفصاحة آسرة رحب الأخ عمر إسماعيل قمرالدين بالجمع الغفير من السودانيين الذين إكتظت بهم القاعة في أُمسية مازالت حينها تتوشح ثوب عسجدي حفها وهج شفق المغيب. وشكر مقدم البرنامج الحضور صبرهم وهم ينتظرون بدء فعاليات ما رُوج لها بأنها أُمسية ((ونسة سودانية)) بلا عنوان أو شعار أو موضوع بعينه.
صفق الجميع كثيراً، ولم يبدو أن أحداً كان منزعجاً لتأخر موعد بدء البرنامج، ويبدو أن المفعول السحري لخصوصية هذه الامسية النادرة كانت أقوى من أي شعور آخر داخل القاعة. ولكن رغم الضحكات الخافتة والعناق السوداني المستمر في الصفوف الخلفية، إلا أن الأعناق ظلت مشرأبة نحو المنضدة الرئيسية التي جلس حولها أربعة رجال يتجاذبون أطراف الحديث ببشاشة سودانية تحسد عليها. لم ندري باي نوادر كان هولاء يدغدغون بها الضيف الكبير الذي ظل يضحك ملئ شدقيه ويقهقه كثيراً حتى خشِيتُ عليه في بداية الأمر، كما خشِيتُ أن ينفرد هولاء النفر بالضيفين ولا يتبقى من ((الونسة السودانية)) إلا "السبارس" والقليل الممل.
وأخيراً وبعد بضعة همسات في الآذان وطبطبات خفيفة على الأكتاف، دبت حركة بين الجالسين حول المائدة الرئيسية. تقدم الدكتور علي الهِدي الى المنصة حيث طلب من البروفيسور محمد إبراهيم خليل أن يقدم ضيفيه الكرمين للجمهور. وبعد كلمة ضافية ووسط ترقب كبير وتصفيق حار رحب البروفيسور بالضيفين الكبيرين: الأديب الكبير الطيب صالح والكاتب الكبير والاستاذ الجامعي الدكتور محمد إبراهيم الشوش.
إنتصب الجميع وقوفاً تحية للضيفين بينما ملء دوي التصفيق أرجاء القاعة. بدا الأديب الكبير الطيب صالح مندهشاُ بالترحيب الحار الذي لقيه من الجمهور، وظل يتتم بكلمة "شكراً" في تواضع جم حتى خبا التصفيق وجلس الجميع للاستمتاع ((بونسة سودانية)) خالصة.
لم يخيب الرجلان آمال الحضور قط. لقد كان الدكتور الشوش ذكياً، مصادماً، صلباً في مواقفه ومشاكساً كعادته، إلا أنه رغم ذلك كان بشوشاً. أثرى الرجل النقاش بثقافته الأدبية العالية، بيد أنه رفع درجة حرارة ((الونسة) ببِضع ((فهرنهايتات)) بحديث مثير للجدل حول الحرب في جنوب السودان وعدد ضحاياها.
أما الأديب الكبير الطيب صالح، هذا الزول السوداني الأصيل، لقد أسر الجميع بإنسانيته وسودانيته قبل أن يسحرهم بتلقائيته وقبل أن يكبلهم بوثاق من الحرير يشدهم به برفق الى دنيا الرواية والى سحر كرمكول الذي لم ينفك الرجل من أسره رغم غيابه الطويل عن دار الركابية على منحنى نهر النيل المهاجر الى الشمال دوماً.
تحدث الطيب صالح بصراحة شديدة عن موضوعات كثيرة من بينها علاقته مع الكتابة، وميوله للقرأة وهو الأمر الذي يفسر إنتاجه الأدبي القليل نسبياً، وهجرته الى المملكة المتحدة مبكراً، والتشابه الكبير بينه وشخصية مصطفى سعيد بطل روايته ((موسم الهجرة الى الشمال)) الذائعة الصيت.
كانت أمسية رائعة بكل ما توحي بها هذه الكلمة من معاني، حيث قدم الحضور مداخلات تعكس وعي ثقافي عالي وفهم عميق لدور الرواية في حياة الإنسان، وليس هذا مستغرباً لأن منطقة واشنطون الكبرى تتمتع بوجود عقد فريد من المهاجرين السودانيين أمثال لاستاذ الطيب السلاوي والاستاذ عبيد والبروفيسور محمد إبراهيم خليل والدكتور فراسيس دينق والاستاذ أحمد الأمين البشير والصحفي الضليع طلحة جبريل والفنان المبدع يوسف الموصلي والاستاذة أسماء محمود محمد طه والفنانة الرائعة هادية طلسم وزوجها المرحوم عبد العزيز بطران الاستاذ الجامعي وصاحب كتاب ((كورة زمان))، والصحفية عواطف سيدأحمد والأُستاذ فائز وزوجته الدكتورة أسماء والدبلوماسي نورالدين عطا المنان، والأصدقاء عادل صالح والدكتور صلاح الزين وعمر إسماعيل قمرالدين وطارق الشيخ والفنان علي السقيد ومحمد عثمان إبنعوف، وآخرون كُثُر.
كنت من أسعد الحضور في تلكم الأمسية، وذلك لأن رغم ترحالي الكثير ورغم قرأتي لروايات الطيب صالح والعديد من مقالاته في الصفحة الأخيرة لمجلة ((المجلة) السعودية في تسعنيات القرن الماضى، إلا إنني لم أُحضي بشرف لقائه قبل هذه الاُمسية الفريدة. وأخيراً تسنى لي السانحة لمصافحة الأديب الكبير بعد أن إصطففتُ أمام المنضدة الرئيسية لمدة ليست بقصيرة عند نهاية ((الونسة)). وبعدها، قلت لنفسي إنه لو لم أقراء كلمة واحدة للطيب صالح قبل هذه الأُمسية لخلصت للنتيجة ذاتها التي خرجت بها بعد هذه الأُمسية، ألا وهو أن الطيب صالح كاتب عظيم يستحق التقدير لأنه ينسج الرواية من أعماق بيئته وينقلها للقارئ بصوت واضح النبرات وباسلوب غير مصطنع.
وقبل أن ينفض سامرنا، همس الأخ عمر إسماعيل في أُذني بدعوة كريمة من البروفيسور محمد إبراهيم خليل لحضور وجبة غداء في اليوم التالي على شرف الكاتبين الكبيرين الطيب صالح وإبراهيم الشوش وذلك بمنزل البرفسير في ضاحية ((سلفرإسبرينغ)) بولاية ميريلاند المتآخمة للعاصمة الأمريكية واشنطون. سعدتُ غاية السعادة، وقبل أن أخلد للنوم رجوت الليل أن لا يطيل إقامته بل ليرحل مهرولا مع الغيوم الداكنة قبل البكور.

(2)
بينما كان البروفيسور محمد إبراهيم خليل يتجول بين ضيوفه في الأصيل ويلح عليهم بكرم سوداني على تناول المزيد من الطعام واحتساء المزيد من الشاي، كنا نتربص الفرصة، في ما يشبه لعبة الكراسي، للاقتراب من والجلوس الى الكاتب الكبير "لونسة" قصيرة ولالتقاط صورة تذكارية معه. وأخيراً لمحتُ مقعداً شاغراً بجوار الكاتب الكبير، وانطلقت أنا وصديقي أكوي بونا ملوال صوبه كالسناجب العطشى. قصدت أن ادردش قليلاً مع أديبنا الكبير عما في جعبته من رواية أو عمل أدبى جديد، لكنه فاجأني عندما ذكر لي انه كان يأمل أن يتحدث معي عن المداخلة التي قدمتها تعقيباً لما ذكره الدكتور الشوش في ((ونسة)) الأمسية السابقة عن ان الحرب في جنوب السودان صناعة أجنبية وأن الغرب ضخم عدد ضحايا الحرب لأغراضه. وطفق الأديب الكبير يثمن ما ذهبنا إليه في مداخلتنا بانه مهما إختلف الناس عن اسباب الحرب في الجنوب وعن موضوعية أو لا معقولية المطالبة بحق تقرير المصير لا ينبغي أن نعلق القضية برمتها على شماعة الغرب والمستعمر لأن في ذلك استخفاف مخل بعقلية الإنسان الجنوبي كما في الحديث عن تضخيم أعداد ضحايا الحرب تبخيس لقيمة المواطن السوداني، إذ لا يجب أن يموت شخصاً واحداً في قضية سياسية مهما كان حجمها.
شكرنا الأديب كثيراً لأُذنه المرهفة ولإنسانيته الفياضة التي لا تعرف حدود إثنية أو جغرافية. هب الرجل واقفاً وودعنا بحرارة كحرارة شمس بلادي، حرارة ما انفكت تدفئ جوانحنا وتبدد زمهرير غيابه السرمدي. وأكدتُ للكاتب الكبير أنه طالما كلانا كثير الترحال لاشك إننا سنتقابل مرة أًخرى في مدائن بعيدة. وشكرنا ايضا دكتور الشوش الذي أبدى أسفه لسوء التفاهم الذي نجم عن حديثه عن دور الغرب ومؤسساته في تأجيج الحرب في جنوب السودان. وأخيراً ودعنا البروفيسور محمد إبراهيم خليل ولساني يعجز عن الشكر لإتاحته هذه الفرصة النادرة للقاء الأديبين الكبيرين.

(3)

لم ألتقي الأديب الطيب صالح مرة أُخرى منذ لقائنا في هاتين الأُمسيتين في صيف ٢٠٠٢. ولكن ذات يوم من الاسبوع الأخير من شهر يناير ٢٠٠٩، وبينما الثلوج تتساقط بلا هوادة على البحيرة المتجمدة تحت الجسر الطويل، تلقيت مكالمة هاتفية في مكتبي في السفارة السودانية بالعاصمة السويدية إستوكولهم. طفق متحدثي يقدم لي نبذة عن شخصه بالتواضع نفسه الذي يتحلى به عمالقة العلم والأدآب والفن والرياضة في السودان. قاطعته الحديث وعاتبته على تواضعه الكثير. تفاجأ الأديب الكبير حسن أبشر الطيب تماما عندما ذكرت له أنه غني عن التعريف، إذ نعرفه عبر كتاباته ونشاطاته الأدبية. تنفس الدكتور الصعداء، ثم نقل لي بصوت واثق قرار بعض المؤسسات الثقافية في الخرطوم ومن بينها إتحاد الكُتاب السودانيين ومركز عبدالكريم ميرغني بأُمدرمان ترشيح الكاتب الكبير الطيب صالح لنيل جائزة النوبل في الأدب. وطلب الدكتور حسن أبشر من السفارة ومن شخصي لعب دور عاجل في دعم جهود هذه المجموعة بصفة خاصة ودعم ترشيح الأديب الكبير لأن في ترشيح وفوز الطيب صالح كسب كبير للسودان وللعالمين الإفريقي والعربي معاُ.
أومأتُ للدكتور المرحوم حسن أبشر بانني قرأت روايات ومقالات الطيب صالح الأدبية ولقد حظيت بلقاء الروائي الكبير في أُمسيتين في منطقة واشنطون الكبرى بالولايات المتحدة الأمريكية في صيف ٢٠٠٢، وأبديت له حسرتي الشديدة لأن وزارات التربية والتعليم المتعاقبة تحت مسميات مختلفة منذ سبعينيات القرن الماضي لم تفطن الى أن الطيب صالح كنز وطني كان ينبغي تقديمه للأجيال الناشئة ليس بتضمين رواياته في المنهج المدرسي فقط، بل عبر برنامج يطوف خلاله المدارس في كل انحاء البلاد كما كان يفعل خضر الحاوي أو كما كانت تفعل فرقة الأكروبات السودانية في الزمن الجميل. وكم تمنيت لو قام أطفال المدارس بزيارة صديقنا الطيب صالح في كرمكول كما زاروا صديق عبدالرحيم في القولد، تلك القرية التي خلدتها درة بخت الرضا ورائعة الاستاذ عبدالرحمن علي طه ((في القولد إلتقيت بالصديق أنعم به من فاضل الصديق)). وكم تنميت أن ترفد الشاعرة المبدعة روضة الحاج الأُنشودة الخالدة ببعض الأبيات البسيطة في كلماتها والكبيرة في دلالاتها كالابيات التالية، على سبيل المثال:
لاحت لناظرنا بين كثبان الرمال وأشجار النخيل
كقرية رمكول تنام في أمان على ضفاف النيل
وصلنا إليها باللوري بعد مشقة في الاصيل
إستقبلنا فيها الطيب صالح والعم أحمد إسماعيل
منازل كثيرة مطلية بالطين تحفها النسيم العليل
آثار قصر المانجولوك يذكر الجميع بالزمن الجميل
غادرنا القرية في البكور وودعنا أُستاذنا الجليل
هنأتُ الدكتور حسن أبشر والمؤسسات الأدبية على ترشيحهم الموفق والذي طال إنتظاره، وقطعت وعداً أن أدعم جهودهم ليست لأن المسؤلية تقتضي ذلك، بل لأنني على قناعة لا يخالجها الشك بان الأديب الكبير الطيب صالح يستحق الفوز بالجائزة الكبرى بإمتياز ليس الآن فقط بل من قبل سنوات خلت. وإقترحت للدكتور حسن أبشر أن يعمل فوراً لإرسال خطاب الترشيح الى السفارة السودانية بالسويد بالحقيبة الدبلوماسية من رئاسة وزارة الخارجية في الخرطوم، وسنقوم بتسليمه للأكاديمية السويدية التي تُعُنى بالترشيحات الخاصة بجائزة النوبل للآداب.
لا أدري كم من الوقت إستغرقت هذه المكالمة الهاتفية الشجية، بيد إنني شعرت بعدها بدفئ يدب في جسمي رغم الثلوج التي تشبثت بالنافذة والتي حولتها الى لوحة زجاجية سميكة تكاد تحجب الرؤية حتى عن المدخنة الطويلة التي أدمنت التدخين صيفاً وشتاءاً على الضفة الاخرى من الخليج المتجمد تحت الجسر الطويل.


(4)
مرت الأيام والسيد عصام الدين ،الملحق الإداري بالسفارة، يرصد أخبار وخط رحلة الحقيبة الدبلوماسية. وبعد صبر كاد أن ينفذ ويأس بدأ يدب، وبعد أن لم يتبقي عملياً إلا يوم واحد من موعد قفل باب الترشيح لجائزة النوبل، أخيراً إستلمنا الحقيبة الدبلوماسية. بحثنا بلهفة عن رسالة ترشيح الأديب الكبير الطيب صالح في خضم محتويات الحقيبة. وفجأةً أخرجنا الخطاب من الحقيبة ونحن فرحون كما الأطفال بعد أن يُخرج الحاوي من جرابه السحري حمامة بيضاء بدلاً عن منديل أحمر! بدت عقارب ساعة الحائط متمددة على القُرص كشوارب القط وهي تشير إلى الساعة التاسعة وخمس عشرة دقائق صباحاً. وبدأ السباق مع الزمن.
توجه السيد القنصل محمد حسين إدريس فوراً الى الأكاديمية السويدية الواقعة على جزيرة قامل إستان ((الحي القديم)) في وسط العاصمة السويدية إستكهولم بعد أن أوكل أمر قيادة سيارته للسيد رعد ((أبو فهد))، أمهر سائقو سيارات البعثة وأكثرهم معرفة بشوارع المدينة ومطباتها. رجوت الثلوج أن تتمهل قليلاً حتى نتمكن من تسليم خطاب ترشيخ الأديب الكبير الى وجهته الكريمة قبل فوات الآوان.
وبعد ساعة ونيف من الزمن، هاتفني السيد محمد حسين ليبلغني بأن الأكاديمية السويدية قد إستلمت رسمياً خطاب ترشيح الأديب الكبير الطيب محمد صالح أحمد، وقد حررت الأكاديمية إيصالاً بذلك بتاريخ يوم الجمعة الموافق ٣٠ يناير ٢٠٠٩.
نقلت الخبر اليقين للدكتور حسن أبشر الذي إستقبل هذا النبأ الجميل بسعادة تفوق الوصف، حيث كاد صوته يذوب في غمرة غِبطته. وعدت الدكتور بمتابعة كل واردة وشاردة عن جائزة النوبل للأدب لعام ٢٠٠٩. تبادلنا التهانئ، وبدأنا معاً العد التنازلي ليوم أعلان أسماء الفائزين في مطلع شهر أكتوبر من العام نفسه.

(5)
في صباح ۱٨ فبراير ٢٠٠٩، فاجأنا وأفجعنا نبأ رحيل الأديب الكبير الطيب صالح، عميد المهاجرين السودانيين الذي شغل الساحة الأدبية من مهجره كما لم يفعل أي أديب آخر بعد جبران خليل جبران وإليا أبوماضي ومخائيل نعيمة وإدوارد سعيد. صُعِقنا برحيل من كنا نمسك بأردن ثوبه وهو يقود خطواتنا اليافعة الى عالم القراءة والكتابة.
رغم هول الصدمة، كان لابد أن نجري مكالمة هاتفية مع الأكاديمية الملكية السويدية قبل أن ينتشر النبأ. فكرت ملياً في كيفية نقل هذا الخبر الذي لم أكاد أن أصدقه بعد.
خاطبتُ الموظف الكبير بالأكاديمية السويدية باللغة الإنجليزية وبصيغة غير مباشرة وكأني أحاول الهرب من الواقع:
قلت: "طاب صباحك، سيدي، لكن يؤسفني كثيراً أن أقول أن مرشحنا لجائزة النوبل للآدب لعام ٢٠٠٩ الأديب السوداني الكبير الطيب صالح لم يعود موجوداً معنا."
قال: ماذا؟
قلت: نعم، لقد رحل كاتبنا ومرشحنا لجائزة النوبل للأدب ليلة البارحة عن عمر مديد!
قال بصدق وكأن له بالأديب الراحل معرفة شخصية: هذا أمر محزن للغاية، سيدي السفير.
قلت: أجل، محزن حقاً!
لُذنا بصمت مدوي، بعدها طلبت من الأكاديمية الإبقاء على إسم الأديب الطيب صالح في قائمة المرشحين للجائزة. ابدا الموظف الكبير أسفه الشديد وذكر أن قوانين جائزة النوبل لا تسمح بترشيح الاشخاص بعد وفاتهم. وقال أن قوانين جائزة النوبل قبل تعديلها في عام ۱۹٧٤ كانت تسمح للشخص المتوفي أن ينال الجائزة إذا توفي بعد ترشيحه قبل شهر فبراير من العام نفسه، ولذلك منحت جائزة النوبل للآداب للشاعر السويدي أريك أكسل كارلفيلت عام ۱۹۳۱ ، كما منحت جائزة النوبل للسلام للأمين الأسبق للامم المتحدة السيد داق همرشولد بعد شهر من وفاته في حادثة تحطم طائرته فوق سماء مدينة إندولا بشمال زامبيا عام ۱۹٦۱. أما القوانين السارية منذ ۱۹٧٤ فانها تسمح لمنح جائزة النوبل إذا توفي المرشح في الفترة بين اعلان أسمه ضمن قائمة الفائزين بالترشيح والحفل التقليدي لتسليم الجوائز والذي يقام دائماً في اليوم العاشر من شهر ديسمبر من كل عام وهو ذكرى يوم وفاة العالم السويدي ألفريد نوبل.
نقلتُ للدكتور حسن أبشر ما دار بيننا والأكاديمية السويدية. تألم الرجل كثيراً، ولكننا وجدنا، في هذا اليوم العبوس، السلوى في حقيقة راسخة وهي أن رغم أن الأديب الراحل قد نال جوائز كثيرة في حياته الزاخرة بالعطاء الأدبي إلا أنه لم يسعى يوماً لجائزة مهما كانت حجمها، وذلك لأن مداد يراع الرجل لم يسِل يوماً إلا إمتثالا لما جادت به قريحته المرهفة ومزاجه الصادق. إذاً، هاهو الطيب صالح يرحل في ومضة ليلحق بركب فريد من الأُدباء الذين لم تتشرف ميداليات النوبل بالتدلى من أعناقهم السامخة، إذ تشمل هذه القائمة الطويلة كل من ليو تولستوي ومارك توين وإميل زولا وجون أبدايك وآرثر ميلير وجيمس جويس وتوفيق الحكيم وكين سارو ويوا وشينوا أشيبي.

(5)
في اليوم الثامن من أُكتوبر ٢٠٠٩، أعلنت الأكاديمية السويدية فوز الكاتبة والشاعرة الرومانية/الألمانية هيرتا ميوللر بجائزة النوبل في الآداب، وأشار الإعلان الى أن السيدة ميوللر، التي تنحدر من الأقلية الناطقة باللغة الألمانية في رومانيا، قد ألفت أكثر من عشرين قصة خيالية وديوان شعر تدور فصولها حول الحياة في رومانيا إبان حكم الدكتاتور نيكولاي شاوشيسكو، هذا وقد ظل مسقط رأس الكاتبة ((قرية نيتزكيدورف)) تشكل مصدر إلهامها حتى بعد أن هاجرت السيدة ميوللر الى موطنها الحالي، ألمانيا.
كان رد فعلي الأساسي هو "هذه جائزة الطيب صالح!" ، لكنني أدركت حالاً سِر تذبذب وتلون الدمعة التي تسللت الى مقلتي. سَرى سُكُوُنُ في نفسي بعد أن أدركت أن الطيب صالح كان سيبارك هذه الكاتبة فوزها بالجائزة عن جدارة وكان سيشد في تواضعه الصادق على يدها مشيداً بوقوفها ضد الظلم والإضطهاد. ألم يقل الروائي الكبير أن "النساء هن اللواتي يعشن تحت ظروف إجتماعية صعبة تجعلهن مؤهلات لكتابة في الرواية" ((مجلة عالَم الكتب-العدد الرابع ۱۹٨۱))؟
هنأتُ سعادة سفيرة رومانيا بالسويد بفوز مواطنتها بالجائزة الكبرى وشكرناها لإهدائها لنا النسخة الإنجليزية لكتاب ((ذاكرة الجسد)) للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، وجددنا لسعادتها شكرنا على حرصها الراتب لحضور كل الفعاليات الإجتماعية والثقافية التي تنظمها البعثة السودانية أو المجموعة الافريقية للسفراء في السويد، كما نقلنا لسعادة السفيرة اسفنا الشديد لعدم تمكننا من حضور الحفل السنوي لجائزة النوبل الذي ستستلم فيه السيدة مويللر جائزتها من يد جلالة ملك السويد، وذلك نسبة لغيابنا في مهمة ملحة خارج منطقة التمثيل في موعد قيام الحفل في العاشر من شهر ديسمبر ٢٠٠٩، مع العلم أن هذه ستكون المرة الأُولى التي نغيب عن هذا المحفل المهيب منذ عام ٢٠٠۷.


(6)
وبعد مرور ستة أعوام من رحيل الأديب الكبير الذي كان يمقُت الظلم والذي كان يحب الانسانية، نُغلِب الظن، وبعض الظن إثم، أنه إذا نمت لمسامع الأديب الكبير أنباء الحرب الضروس التي مافتئت تحصد فلذات أكباد الجنوب يوماً بعد يوم، لوجه نظره مزعوراً نحو ((الأُفق البعيد)) المتشبث بخط الإستواء، ولتساءل أيضاً كما تسأل من قبل في مقولته الشهيرة ولكن على النحو التالي:
هل مازال أهل الجنوب ينزحون الى الشمال ؟
هل أسعار الدولار ما تزال في الصعود وأقدار الناس في هبوط؟
من اين أتى هولاء الناس "الذين يولغون في دماء الأبرياء في جوبا وواو ورمبيك وبانتيو وبور وملكال"؟
أما سمعوا أغاني بوب مارلي وماريام ماكيبا؟
أما سمعوا عن مارتن لوثر كنج ونيلسون منديلا ونصيبهما من جوائز النوبل للسلام ؟
أما سمعوا عن الرئيس الناميبي هيفيكبوني يوهامبا الذي حاز بالأمس القريب على جائزة محمد (مو) إبراهيم للقيادة الرشيدة؟
من اين جاء هولاء الناس؟ بل – من هولاء الناس؟
ألا رحم الله مَنْ كُنِي "بالطيب" ليحيى ثم أبلى بلاء حسناً وخلد بعض خلجات تجارب الحياة في تحف روائية نابضة. ألا رحم الله "الطيب الصالح"، ذلكم الرجل الطيب الأردان.
[email protected]
جوبا،
جمهورية جنوب السودان


سيد أحمد العراقي
مشاركات: 624
اشترك في: الأحد يونيو 21, 2009 11:44 pm

العبقرية والندرة

مشاركة بواسطة سيد أحمد العراقي »

نقلا من الراكوبة


[b][b]العبقرية والندرة


شوقي بن حسن
لقّب الطيب صالح مبكّراً بـ"عبقري الرواية العربية"، وهو لقب استحقه لجودة أعماله الأولى، وما بشّرت به من صعود روائيّ، هضم المنجز الأدبي الغربي وصبّه في قوالب المحلية السودانية.

في ما عدا ذلك، يبدو اللقب مجاملةً فرضتها مقتضيات كواليس الأدب العربي في القرن الفائت. فكمية منجز صالح، والطريق الذي فتحه ولم يقطعه، لا تسعفه ليظل متربعاً على عرش "عبقرية الرواية العربية".

عاش أديبُنا طويلاً، بينما ظلّت أعماله قليلةً، وهو في ذلك، كالمغربي عبد السلام بقالي أو التونسي محمود المسعدي، حتى أن قائمة مناصب هؤلاء تتجاوز طولاً قائمة مؤلفاتهم، وجميعهم جنى عليهم عاملان.

الأول هو تراكم المسؤوليات، فصالح تقلّد مناصب إعلاميةً عديدةً. لكن الكثير من الأدباء تقلّدوا المناصب ولم يسقطوا في "الندرة". وهذا ما يقودنا إلى العامل الثاني، وهو الجوّ الثقافي لبلده الأم: السودان.

معضلة عانتها دول عربية بأشكال متفاوتة كتونس والجزائر والأردن، حيث إن محرّكات المنتوج الثقافي تعمل ببطء وتظل الدولة مهيمنةً على مساراتها، وحين يبرز كاتب يُستقطب للعمل الإداريّ.

لا نقول، إن السودان جنى على الطيب صالح. نريد أن نولّي أنظارنا تجاه عِبرة تفويت السودان لعبقرية أدبية؛ خصوصاً وأنه، بلقبه الشهير، تحوّل إلى شجرة تخفي كل غابة الأدب السوداني.

العربي
[/b]
سيد أحمد العراقي
مشاركات: 624
اشترك في: الأحد يونيو 21, 2009 11:44 pm

أيام الطيب صالح (1): (كُلُّنا في النهاية نسافر وحدنا)

مشاركة بواسطة سيد أحمد العراقي »

نقلا من سودانايل

أيام الطيب صالح (1): (كُلُّنا في النهاية نسافر وحدنا) .. بقلم: المحبوب عبد السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
أيام الطيب صالح (1)
(كُلُّنا في النهاية نسافر وحدنا)
كُنّت قبل أعوام قد كتبت تحت سماء الخرطوم المُرّصع بالنجوم: (الطيب صالح كما هو شفقياً وشفيفاً كغمامة) أستعير العبارة من الفيتوري، و أستعيد ساعات قضيتها في حضرة الأديب بلندن .. و الآن في هذه اللحظة أرى بعينين تبصران الماوراء .. و أستدعي الفيتوري ثانية (لن تُبصرنا بمآٌقٍ غير مآقينا .. لن تعرفنا ما لم نجذبك فتعرفنا و تكاشفنا)، الفكرة تتجّلى في إنسان ما يزال و هو في بشريته يَشُع بإيحاءات الغمام .. السّاعة نحو التاسعة مساء ً و ليل لندن يشرع في بسط ظلاله الموحشة، و الطيب صالح بلحمه و دمه على أريكة مظلة صغيرة هيئت للناظرين الحافلات و في مدى النظر على بعد لا يتجاوز بضع أمتار أبصر أعمدة الحكمة السودانية الثلاث في هذه الغربة تجسدوا أيضاً بشراً من لحم و دم، أعرف هذه الاضواء و أراها تحثّ الخطى داخل (البالطو) الشتوي السابغ .. لا ريب أنهم هم الأستاذ محمد الحسن أحمد و الأستاذ محمود صالح عثمان و الأستاذ حسن تاج السر، و لا ريب أنهم ودعوا الغمامة قبل قليل، و لا ريب أنه ألحّ عليهم أن يواصلوا سيرهم و يتركوه وحده ينظر في أرقام الحافلات ينتظر خاصته. إنتصبت أمامي فرحة المفاجئة و لاح أمامي همّ .. قطعاً سيفيض علىّ إلهام الدقائق المقبلة و لكن كيف يوآنس الغمام ريثما يصعد إلى الحافلة؟!
كنت حريصاً أن أُدرك إفتتاح المعرض و لكن حبسني حابس الأرزاق. الفنانة صاحبة المعرض هي من بنات الأخت لشيخنا محمود صالح عثمان صالح، ثم هي كريمة صديقنا القديم عثمان بابكر .. وددت لو أنّي شاركت في المناسبة تحيّة لتلك الذكرى الجميلة .. صديقنا عثمان من عائلة عثمان صالح الأعرق في أمدرمان و له بالطبع نسبٌ مؤكد لكيان الانصار و حزب الامة .. كان أول من يشهد مناشطنا الأشق في برنامج الاخوان .. يأتي أول ليلة الجمعة قبل صلاة العشاء حيث تبدأ فور إنصراف المصلين ما كنا نسميه في ذلك الزمان (بالكتيبة)، و هي لم تكن تعني إلا إقامة الليل في تلاوة القرآن و الصلاة .. كنا قلة مستضعفة و مُضَيّقٌ عليها لأقصى حد بعد فشل إنقلاب المقدم حسن حسين في سبتمبر 1975م، كُنّا تلامذة في أول المرحلة الثانوية و كان هو في شرخ الشباب ثري و وسيم و أنيق .. كُنّا نعلم أن خاله الشيخ توفيق صالح عثمان صالح معتقل في ذات السجن مع الشيخ حسن الترابي و الشيخ ياسين عمر الامام و الشيخ توفيق طه، لكن ذلك وحده لم يكن سبباً كافياً أن يبدي لنا كل ذلك التضامن .. كان لا يقنع بتشجيعنا و لكنه يعزم علينا حتى نكمل خمسة أجزاء من الكتاب الكريم قبل آذان الفجر .. إبتسم الأستاذ الطيب صالح و قال: أنا كتبت عن هذه الروح المتسامحة المميزة لأهل أمدرمان و التي كأنما إستجمعتها من كل أنحاء السودان ثم فاضت بها عليهم .. لكن جماعتكم هؤلاء جماعة الخير طفقوا في حماس و همّة يبددون كل ذلك) .. نجحت إذا و لو قليلا في تسلية الغمام و قد وصلت الحافلة.
أفقت من الحضرة و الحضور و عادت شوارع لندن من جديد تعلن عن أمسياتها الموحشة .. هذا شارع ويست بون قروف و على بعد خطوات تقاطع (كوينز وي) الذي ينتهي وشيكاً عند شارع (بيز وتر) قبالة (هايد بارك) حيث جلست للغمامة اخر مرة .. طالعت من جديد الملصق الذي يعلن عن معرض الفنانة التشكيلية السودانية الشابة على مدخل القاعة التي تحمل إسم (الكوفة)، و التي هي بعض إمتداد لمكتبة (الساقي). أضحت الساقي معلما يرمز للثقافة العربية في لندن، و هي أيضاً دار نشر للكتاب قد تكون الاشهر في العالم العربي، اللبنانيون لا يقنعون بالواحد و لا يرضون إلا بالكبير، أو كما غنت (فيروز): بيقولوا صغير بلدي .. يا صغير و كبير .. يا زغير وبالحق كبير وما بيعتدي يا بلدي. هكذا كلما جئنا على ذكر اللبنانيين و الساقي و كثيراً ما نفعل كان الطيب صالح يذكرني بما كتب عن شعب لبنان و عن شعب السودان، إنه يرى روابط بين هذين الشعبين و يأسّى لهما على نحوٍ خاص. فالسودان هو بلده الذي عَبّر أكثر من مرة أنه لا يمتن عليه بشيء لأنه ذرة من ترابه، رغم أنه لم ينل منه ما ناله أغلب مجايليه من السودانيين .. لم يذهب ممنوحاً في بعثة دراسية و لم يعمل طويلاً لدى حكومة السودان و لم يتزوج من سودانية و مع ذلك لا سبيل للمَنِّ على الوطن. أما لبنان حيث نشرت أعماله الادبية أول مرة و حيث ذاع صيته و أنتشر أسمه مثل ضوء النهار في عالم العرب من عمان الى القيروان وفق تعبيره. يقول الطيب صالح: مبعث أساي على شعب لبنان و شعب السودان هو الناس الطيبين البسطاء في كلا البلدين الذين لا يريدون علوّاً في الارض ولا فساداً .. يكدون ليل نهار من أجل اللقمة الحلال و هم يقدمونها للأبناء و الأهل عن طيب نفس، هؤلاء الطيبون يدفعون ثمن حماقات الساسة و طموحات الكبار و صراعاتهم جميعاً في سبيل القوة و المجد .. تطحنهم الحرب الاهلية كل يوم بالجوع و النزوح و الامراض و الأوبئة، قليلون في هذه النخبة مثل حمد ود حليمة في (مريود) عندما دعته نفسه للمجد زجرها.
***
لسبب ما لا أعرفه إعترت صديقنا الدكتور مجاهد الحسن سكينة و هدوء رغم طبع له مشهور بالحماسة المفرطة و الانفعال في أيّما نقاش خاصة اذا كان موصولا بشؤون السياسة أو شؤون الفكر. الجلوس أمام الطيب صالح يُنزل على الناس (ذوي الحسّ) كما يقول جمال محمد احمد، أمنّاً و طمأنينة، فرغم أن صديقنا الطبيب بعيد عن مجالات فنّ الرواية و نقدها فانه محب للموسيقى و موصولاً بالسياسة و الفكر .. لم أفق من عمق ذلك السكون إلا بصوت الطيب صالح يفجر عمقا آخر بكلماته التي تمشي الهوينا:
- بعد مائة عام من الآن إذا تأملنا تجربتكم في حكم السودان .. ما هو المجيد و البطولي فيها؟
إختار الاديب الكبير أشد الأوصاف الانجليزية قوة و مباشرة: ما هو الــ Heroic.. و لأسباب أخرى اعمق من يُدرك كنهها، كان الطيب صالح –كذلك- في مزاج رائق و نفس متصالحة و هو يتأمل خلف نظارته السميكة المشهد الهاديء، و كذلك لأسباب لا أعيها واتتني اللحظة و جاءني الرد هادئاً :
- لو طرحت علي السؤال قبل سبعة أعوام من يومنا هذا كنت سأستفيض في الرد، كنت سأقول لك أنهم كانوا بضع أفراد لأول تاريخ هذه الحركة، و كانوا في أضعف حلقات النخبة، بمعنى أنهم كانوا طلاباً في المدارس الثانوية ثم في الجامعة، و عندما دخلوا السجن مع إنقلاب النميري في 1969م تركوا خلفهم تاريخ من نائبين أو ثلاثة نواب في البرلمان، و عندما عادوا في 1986م الى ذات القبة كان حصادهم نحو 53 نائباً، أي أن الحزب الأكبر في تاريخ السودان زاد عليهم ببضع نواب، فالاتحادي كان له واحد و ستين نائباً. حدث هذا في أقل من عشرين عاماً، كانت رؤيتي قبل أعوام أن البطولي أن تشق جماعة على هامش الحياة طريقاً جديداً في تربة تقليدية صلدة و تعيد تركيب معادلات السياسة. كان السودان كأنه موزع بالقسط بين طائفة الختمية و طائفة الأنصار و خرج من بيوتهم جيل جديد شق طريقاً جديداً.
أغراني الصمت الكبير و التأمل المهيب و رأيت طيف السكينة ثانيةً خلال الدخان المتصاعد، فاستأنفت حديثي:
- أعلم أنك تقصد (البطولي) في تجربة الدولة، و كذلك اذا سألتني السؤال قبل بضع أعوام، كنت ساقول لك أننا أخذنا الحكم إنقلاباً و إستلاباً بالقوة، لكننا أنقذنا بلداً من التمزق، ثم في بضع أعوام أوقفنا زحف تمرد شرس كان يريد أن يقسم البلاد، و أننا طبقنا نظاماً اتحادي في بلد مترامي الأطراف كانت كلمة الفيدرالية بمثابة (تابو) لدى آبائه الوطنيين المؤسسين، و يمكن أن أذكر إنجازات أخرى غير ذلك قد تلحقنا (بالمجد) أو (البطولات) كما سميتها، لكنني اليوم و بعد مكابدة عشر سنين مع الحكم أجد في نفسي التزام تام تجاه قضية الحرية، و هو في جوهره التزام فكري موصول بالضمير (INTELECTUAL)، أقايس به حتى سابقات التاريخ الاسلامي و انظر به لمنجزات ما عرف بالحضارة الاسلامية، و رغم إستصحابي للسياقات التاريخية و النفسية لتلك المرحلة من تطور الانسانية، فإني أعجب من السنوات القليلة التي كان الحكم فيها يسمى راشدا .. عندما عدت الى السودان من فرنسا كنت على إطلاع وافٍ على (ميشيل فوكو) و كنت على قناعة لا بأس بها من نجاعة منهجه الذي يفكك الخطابات ليرى ما هو (أيدلوجي) أو ما هو (سياسي) موصول بالانحيازات و الإكراهات و الطموحات الشخصية، لكني لم أطبق المنظومة المنهجية التفكيكية على الخطابات التي كنت أنتمي إليها، و لذلك كتبت في مقال لي نشر في جريدة الحياة قبل أسابيع أنني ألوم نفسي بسخاء في ذلك كما يقول إدورد سعيد، و أنني أشعر بالخجل من نفسي و من الآخرين أنني أوليت أولئك النفر كل تلك الثقة لكل تلك الفترة الطويلة .. أكملت مرافعتي و الأديب الكبير ما يزال غارقاً في صمته، ثم لعلني أفلحت في توجيه نظره ناحية أخرى، أو لعل روح الفنان قد غلبت على رؤى المفكر، أي غلبت الفكاهة على الصرامة كما يفعل الفن دائماً وفقاً لميلان كونديرا، و سمعت الصوت العميق يأتي من مكان آخر غلبت فيه المودة على أسئلة البطولة و المجد:
- في طريقي اليكم قابلت واحداً يبدو أنه من جماعتكم إستوقفني بصحبة زوجته أمام (الوايت ليز) و حيّوني بمودّة بالغة و عبروا عن سعادتهم برؤيتي.
قلت: نعم هو طبيب من جماعتنا.
عندها تنهد الأديب الكبير و أرسل تعليقه الذي سمعت الكثيرين يَقصُّونه بعد ذلك و كان قد سارت به الركبان:
- يا أخي جماعتكم ديل يحيروا، مثلاً أنت و عبد الوهاب الافندي أعرفكم من مدة طويلة و أرى انكم ناس جيدين جداً، ثم عرفت مهدي ابراهيم و غازي صلاح الدين و قبلكم كنت صديق لمحمد يوسف محمد و أحمد عبد الرحمن، أنتم واحداً واحداً ناس كويسين، ما الذي يحدث إذن عندما تجتمعون..
قال الاديب كل ذلك بروح الفن و أدخلني في حالة المرح الذي تُحييه فكاهة المفارقة و طفقت في الضحك الداخلي بلا صوت قبل أن يوالي الأستاذ خطوات العودة الى الفكر و الجدية:
- أنت قوّمت المجد و البطولة بالموقف من الحُريّة و أنا أوافقك على ذلك، لكن تذكر أننا تناقشنا من قبل حول كتاب (الهوية الفرنسية) لـــ فرناند برودل و أني أوصيتك بأن تبعث بنسخة الى شيخ حسن.
- نعم فعلت
- إنني حتى قبل أن أقرأ هذا الكتاب أعتبر أن المكان شيء أساسي، فرنان برودل قرأ هوية فرنسا في ضوء المكان و الجغرافيا، نحن في السودان قدَّر الله لنا أن نكون في طرف العالم الاسلامي، أنا قلت أكثر من مرة أننا لسنا مثل العراق أو سوريا أو الجزيرة العربية أو حتى مصر، لو أراد الله لنا أن نؤدي دور القيادة لكُنّا هنالك. أشار برودل –كذلك- الى دور الاطراف في صنع الهوية الفرنسيةThe peripherique) )، كلها كانت ترفد القلب فيزداد ثراءً، و عبر تاريخ طويل من هذه العملية الهادئة تكونت هويّة فرنسية .. يا أخي أنا و الله أستغرب جداً في شخص يستيقظ مبكراً و يعتلي دبابة و يقول أنه يريد أن يحكم و أن يُغيّر البلد، حتى الذي يقول أنه يريد أن يحكم الناس بالشريعة أقول له أن الله – سبحانه- هو الذي يقدر ذلك لو أراد للناس أن يتحاكموا بالشريعة. فالمكان له منطق قوّي تَكوَّن عبر القرون ولايمكن لشخص أن يأتي و يقول أنه يريد بقرار سياسي أن يُعيد صياغة هذه المسألة. نحن في أطراف العالم العربي و دورنا هو أن ندخل بينهم بالحسنى و أن نتوسط كما فعل محمد أحمد المحجوب بعد نكبة 1967م، كان كل الزعماء العرب في بيته و هو رجل عظيم فتوسط بين أكبر زعيمين –يومئذٍ- في العالم العربي و أنهى قطيعة طويلة بين الملك فيصل و الرئيس جمال عبد الناصر رحمهم الله جميعاً. السياسة أخذت عباقرة السودان فلم ينتفع السودان منهم كما ينبغي. الترابي من عباقرة السودانيين و كذلك محمود محمد طه و الصادق المهدي و منصور خالد، وحده المحجوب كان يعتبر نفسه شاعراً أولاً حتى و هو منخرط الى أعماقه في السياسة حتى و هو منشغل بها عن كل ما عداها.
***
أعاد إلي ذلك اللقاء الهاديء المحفوف بالسكينة ذكرى لقاء آخر مع الأديب الكبير. كانت حالة نادرة خرج فيها الأستاذ عن صمته و كأنه يستدعي كل ما في نفسه من شراسة، أو لعله أراد أن يصفي حساب له قديم مع الشيخ حسن الترابي. أختار الأستاذ مناسبة غداء دعانا إليه الأستاذ حسن تاج السر في فندف (كمبرلاند) ناحية (ماربيل آرش)، على شرف قدوم الأستاذ غازي سليمان الى لندن بعد فترة إعتقال قاسٍ تعرض له، فكانت السياسة بالطبع أول طبق نضعه على نحو تلقائي قبل أن تتوافد على المائدة صنوف الطعام. همز هامزٌ في نفس الطيب صالح فتدفق موجات من الهجوم، و نحن في العام الثاني أو الثالث من الألفية الجديدة و قد غادر الشيخ الترابي السلطة الى محابسه يلبث في السجن منذ بضع سنين:
- أعرف الترابي من قديم، أذكر أنه جاء الى هنا و قد تزوج حديثاً الى السيدة وصال المهدي و علمت من شقيقها عصام –رحمه الله- بذلك و قد كان مقيما بسويسرا. أذكر أن دعوتهما الى غداء أو عشاء و كان الرجل يبشر بأملٍ ما، لكني قابلته بعد ذلك و لم أر فيه حتى تواضع المسلم. قابلته في عمان بالاردن بين مجموعة من الإسلاميين من الاردن و فلسطين و غيرهما. كانوا يسألونه عن السودان و إلاسلام و كان يجيب، كانوا جميعاً ذوي أجسام ممتلئة و كان الترابي وسطهم نحيلاً لا يكاد يبين، و كنت أقول في نفسي كيف لهذا النحيل أن يأتي بلإسلام و الخلافة لهؤلاء السِمّان، لعلهم كانوا يسخرون من ذلك و كان هو مصدق ..
يضحك الاديب الكبير ضحكة خبيئة ممزوجة بسخرية لا تخفى و يواصل هجومه الضاري :
أنا كتبت لإخواننا هؤلاء أنهم لو سألوا راعياً للإبل في سهول البطانة أو راعياً للضأن في سهول الكبابيش لقال لهم إن الامر أسهل مما تظنون و أصعب بكثير مما تظنون. .
إلتزمت الصمت التام يومي، و لم أشأ أن أرد هجوم الكاتب الكبير أو أجيب عليه بأي صورة من الصور، فظل المسرح خالياً من مبارز آخر يقارع ضربات الأستاذ القوية أو خبطاته الناعمة .. إلا من تعليقات أستاذنا الكبير محمد الحسن أحمد عليه رحمة الله و هو دائماً لا يخشى في الحق لومة لائم :
- و الله يا الطيب إلى أن خرجنا من السودان كان الترابي أشد السياسيين تواضعاً، نزوره في بيته أو نذهب الى مكتبه في أي ساعة من ساعات الليل أو النهار فلا يصدنا صاد أو يمنعنا مانع .. ندخل عليه و نجادله في كل الامور ولا نستشعر حرجاً.
لم يتدخل متدخل من الحاضرين سوى ذلك، و سوى نظرات متصلة من الاستاذ غازي سليمان ضيف الشرف توميء عن حرجه من الموقف و عدم رضاه، و كان ذلك كافياً لي في تلك اللحظة من ذلك اليوم. و بعد أكثر من عامين و في منزل الأستاذ حسن تاج السر بعد إفطار رمضاني إبتدرني الاديب الكبير و كأنه يعتذر عن ذلك اليوم:
- يا محبوب في تفسير الترابي للقرآن هل مررتم على سورة يوسف؟
- نعم.
- كيف فسرتم طلب يوسف من إخوته: (أئتوني باخٍ لكم من أبيكم) .. ألم يستغرب إخوة يوسف أنفسهم من الطلب و يسألوا كيف عرف يوسف و قد أصبح (العزيز) كيف عرف أن لهم أخاً من أبيهم لم يأتِ معهم؟
- نستصحب دائماً في تفسيرنا لقصص القرآن، أن القرآن ينشد العبرة و الموعظة و الاسوة و القدوة و ليس الحكاية و عندما تثور مثل هذه الاسئلة نعمُد الى تصور ربّما يساعد على ملأ الفراغ في أذهاننا، مثلاً نتوقع أنهم قدّروا أن العزيز ربما عرف من حديث له مع أهل القافلة القادمة معهم من ديار يعقوب، و أن يوسف بما رأوا من حسن أخلاقه رُبّما يسأل لأنه ظن أنهم منعوا أخيهم من صحبتهم لأنه من أبيهم.
- ثم القرآن لا ياتي على كثير من التفاصيل .. أعتقد أن الترابي و قد بلغ مرحلة تفسير القرآن سيعيد النظر في كثير من المواقف و الأفكار .. أنا قابلته في عمان بعد إنقلاب الانقاذ و تحدثنا قلت له السودان لا يمكن أن يقود فنحن لسنا مكة و لا دمشق و لا القاهرة و لا بغداد نحن أطراف العرب.
- نعم ذكر لي الشيخ ذلك.
- بالله ماذا قال؟
- قال أن الطيب صالح قال له السودان في هامش الدول العربية و لا يمكن أن يقود و أنا قلت له أن مكة كانت مستضعفة و العرب كانو على هامش الحضارة و تغيروا بعد القرآن، و أن الطيب صالح قال لي بأي حق أنتم اليوم تحكمون الشعب السوداني، و أنا قلت له بأي حق جاء الانجليز الآف الأميال و حكموا السودان؟
إبتسم الأستاذ الطيب صالح إبتسامة كبيرة و قال بمرح:
- بالله الشيخ ما يزال يذكر ذلك اللقاء.
أيام الطيب صالح (2)
كلنا في النهاية نسافر وحدنا
يختار الطيب صالح مباغتة يستهل بها الحديث كُلما لقيته، أذكر تلك المرة في ذات منزل الاستاذ حسن تاج السر و قد كان الحضور أكثر من المعتاد قليلاً. على مدى عامين كان ذلك المجلس يضم الأساتذة الاجلاء محمد الحسن أحمد و بونا ملوال و عبد الوهاب الافندي و الصحفي الراحل حسن ساتي رحمة الله، ثم أيَّما زائر يجود به صيف لندن و قد كان ذلك الصيف مِجوّاداً بوجوه كريمة، أذكر منهم الاستاذ الشاعر الدكتور علي شبيكة و الاستاذ السر قدور و الدكتور جعفر كرار. لا أدري لماذا اختار أستاذنا الطيب صالح ذلك الإستهلال:
- يا محبوب هل سمعت قول الحجاج بن يوسف (اللهم أغفر لي و قد زعم أُناس أنك لن تفعل).
غلبت ضحكتي المباغتة الأستاذ و أنا اتأمل عناصر المفارقة المجتمعة في مقولة الحجاج و مقدار السخرية حين أناسبها إلى حالتي من سُلالة الحجاج المعاصرين، ثم خطر لي أن أصرفه إلى موضوع آخر:
- كيف هي الصحة؟ لعلها بخير.
- الحمد لله، بعد السبعين الناس دائما تسأل عن الصحة.
- أقصد العصاة.
- نعم هذه تتوكأ عليها الرِكبَة تحتاج لسند.
كانت تلك أول مرة أسمع كلمة الرِكبَة بكسر الراء و سكون الكاف و الباء المفتوحة، و قبل أن استرسل في خاطرة اللغة، واصل الأستاذ و هو يحكم القبضة على العصاة و يهزها هزاً خفيفاً:
- العصاة أحياناً يقولون الصولجان ..تصلح للحكم أليس كذلك؟
لفظ عبارته الاخيرة و قد بدت منه ابتسامة ظاهرة تعلن بوضوح عن النية المضمرة من السخرية .. ثم رأيت أن أرد مخاطباً تلك البواعث الظاهرة و الخفية:
- أرى يا أستاذنا أن الحجاج ربما أصاب في دعائه، فالرحمة و المغفرة مثل أمور الملك و الحكم موكلةٌ أقدارها الى رب العالمين و ليس لأحدٍ من العالمين. عادت الجدية إلى ملامح الاديب الكبير و دخل من فوره إلى جوهر الموضوع:
- نعم و الله يا أخي .. تذكر أني حدثتك من عجبي لإنسان أو جماعة تستيقظ في الليل و تمسك بمقاليد الامور عنوة و تعلن أنها تريد أن تحكم و أن تصلح.
أردت أن أحفزه أكثر للحديث في ذات السياق:
- أعتقد أن أغلب هؤلاء الذين يستيقظون من منامهم ليحكموا الناس، إنما يوقظهم هاتف من غيرهم، ربما حزب أو ربما أيدلوجيا، زعيم طموح، يهمس لهم بوعود المستقبل و أحلام جنّة الأيدلوجيا أو رجاءات المشروع الحضاري، و هم في الآخر لن يعدموا خطاباً و لن تعوزهم حجة.
أجاب الاديب الكبير على الفور:
- نعم أنا كتبت ذلك عن النميري، قلت ربما لو لم يستجب لذلك النداء، كانت الامور ستمضي به رخاءً، كان سيصبح قائداً للجيش و عندما يبلغ السن القانونية يذهب الى المعاش معززاً مكرماً، لكنه ظن أنه مبعوث العناية الإلهية للشعب السوداني و أن أقدار الله بيده، فراح يخبط خبط عشواء مثل ثور داخل مستودع للخزف مليء بالقطع النادرة الجميلة، كنت أقول حتى الذين يقولون أنهم يريدون تطبيق شرع الله كيف عرفوا أن الله سبحانه و تعالى أراد أن يطبق شرعه في هذا الوقت بالذات و بهذه الطريقة.
في ذلك اليوم أيضاً أخذنا الحديث لزعيم آخر، السيد الصادق المهدي:
- السيد الصادق المهدي في روايته لسيرة حياته في حلقات مطولة مع الصحفي اللبناني غسان شربل الذي نشر مقابلات حول حياة الزعماء الذين جمعوا بين الساسة و الدين، و قد اختار شخصية السيد الصادق المهدي بعد النجاح الذي قوبلت به حلقاته مع الشيخ محمد حسين فضل الله بمجلة الوسط. قال السيد الصادق أن حياته بلاء، و أنه ولد في الخامس و العشرين من ديسمبر و أن عمه يحيى الذي كان في الثامنة من عمره كان يشير إلى بطن أمه و يقول أن مهاجر سيصل يوم الاربعاء و عندما كان يسأل من أين يصل كان يقول مهاجر سيصل من كبكابيه ، و أنه فعلاً ولد يوم الأربعاء، و عندما حمل نبأ الميلاد الى جده السيد عبد الرحمن و قد كان يقرأ في سورة ابراهيم من المصحف، فجاء طائر القمرية و حطّ على رأسه، و قد نوى الامام عبد الرحمن أن يسميه إبراهيم تيمناً بالسورة، لكن أحد الزوار أشار إليه أن يسميه بأحد أسمائه و قد كان.
رأيت رواية الامام و قد أخذت الاديب الكبير إلى تأمل عميق لم يلبث أن شق صمته الصوت العميق مثل أمواج البحر:
- هؤلاء الناس ولدوا في بيئة مليئة بالمثيولوجيا.
حاولت المحافظة على وتيرة العمق الذي خرج به تعليق الاستاذ:
- كلنا ولدنا في بيئة مليئة بالمثيلوجيا، و الدليل روايات الطيب صالح، أنت قلت أنك في عرس الزين ثم في بندر شاه و مريود سبقت جماعة الروائيين من أمريكا اللاتينية أمثال جبريال ماركيز الذين تنسب إليه إبتدار و إضافة الواقعية السحرية لعالم الرواية، فالواقعية السحرية جذورها في البيئة التي تزخر بالمثيلوجيا.
- نعم أنا ربما سبقت في ذلك بعقود، و أيضا قلت أن الاغريقي و ربما الاوربي المعاصر يجد ملاحمه في الإلياذة و الأُوديسا، لكني وجدت ملاحمي الاولى في جماعات المادحين لسيرة النبي (صلى الله عليه وسلم)، نحن أطفال كانوا يطوفون القرى في الشمالية بملابس زاهية و لكن بأيقاعات تنفذ الى القلب، عندما يضرب المادح الطار تستشعره في قلبك، ثم القصيدة المادحة التي تحكي لك المغازي و السير في ذلك المناخ المهيب.
- و قلت أيضاً في زيارتك للحرم المكي و الحرم المدني: رحم الله حاج الماحي أراه و اسمع صوته كلما زرت هذه البقاع المباركة ..
- نعم نعم ، حاج الماحي القائل يصف بلح المدينة (أدوني تفاحتين بلح).
- نعم أنت كتبت ذلك و ذَكَّرتني بأبيات أحبها لنزار قباني حيث يقول: و أن يكون قلب الشاعر تفاحة يقضمها الاطفال في الأزقة الشعبية.
- نزار هذا شاعر، كلما لقيني يطلب مني أن أقرأ له من شعره، يحب أن يسمع شعره بصوتي و أنا أحب أن أقرأ شعره.
***
لم ألبث حتى جاءني الصوت هذه المرة عبر هاتف:
- السلام عليكم، معاك عمك الطيب صالح.
- مرحباً يا أستاذنا.
- مازلت تسكن ناحية نوتنغ هل قيت.
- نعم حيث كنت.
- غداً سأنزل إلى لندن، سأذهب لجريدة الحياة، أريد أن أسجل إشتراك معهم حتى تصلني للبيت، لا أجد وقت كثير لقرآءة الصحف لكني مهتم بقرآءة مقال أدونيس فهو ينشر عندهم كل إثنين. ما رأيك أن نلتقي في (بيز وتر) نفس الفندق غداً في العصر.
- بكل سروري أستاذي إنتظارك في الثالثة هنالك.
لعل الاستاذ قد سبقني بدقائق إلى الفندق كانت كافية ليعدّ لي مباغتةً جديدة:
- هل سمعت يا المحبوب قول إبن سينا:
- حرمت الخمر على الدهماء و حللت لأبي الحسن – يعني نفسه، لو عملت لنا فقه كهذا نعينك على الفور إماماً.
أخذتني المباغتة إلى الضحك قبل أن أعرف الموضوع:
- كيف سارت الامور في جريدة الحياة؟
- لا .. جيدة، الجماعة استقبلوني بحفاوة و أخذوني إلى مكتب رئيس التحرير جورج سمعان و قابلت صديقكم نزار ضو النعيم، و رفضوا حتى أن أدفع قيمة الاشتراك.
- نعم نزار صديق قريب من قديم و له قصة مع اسمه في جريدة الحياة، أول ما عمل في هذه الصحيفة قبل سنوات إقترح عليه الاخوة اللبنانيين يختصر إسمه بدل نزار ضو النعيم إلى نزار نعيم، و لكنه إستعصم بأسم أبيه كاملاً و رفض التغيير البتّة.
- ليه يا أخي ضو النعيم إسم جميل..
ثم إستغرق الاستاذ في ثوانٍ من الصمت قبل أن يأخذني الى الضحك مرة ثانية:
- أنا طبعاً عندي ضو البيت.
- هل قرأت الخبر الذي نشرته الاهرام القاهرية قبل أيام أنك في رحلتك الاخيرة إلى القاهرة شرعت في كتابة رواية جديدة بعنوان (جبر الدار).
- بالله ياريت يا أخي الكلام دة كان يكون حقيقة، و قد جئنا قبل قليل على ذكر ضو البيت، و هي الجزء الاول من بندر شاه و مريود هي الجزء الثاني، و هي في تخطيطي لها مشروع ربما يأخذ اربعة أو خمسة أجزاء.
نجحت إذاً في أخذ الاستاذ الى عمق الموضوع و أردت أن يمضي إلى الاعمق:
- أنت يا استاذ في حديثك عن أسم بندر شاه قلت أن بندر ترمز إلى البندر التي تعني (المدينة) و كلمة شاه ترمز إلى (الحكم) أو (السلطة)، لان قضية السودان في تقديرك هي السعي للمدنية ثم البحث عن صيغة لحكم أنفسنا.
- نعم قلت ذلك، بل منذ دومة ود حامد و هي قصة أشار كثيراً من النقاد إلى أنها قصة سياسية، قلت أن المكان يسع الدومة و الباخرة و طرمبة المياه. هناك مساحة للجميع، لكن حتى الذين يأخذون السلطة بأسم العدالة و بأسم العمال و الفلاحيين لم يفوضوهم لذلك و لم يطلبوا منهم أن يتولوه إنابة عنهم.
أعادتني كلمات الأديب الكبير إلى مشهد في مريود من أشد صور الأدب التي تفيض بالسخرية و المفارقة و تدعوا إلى الضحك، لأني أؤمن مع ميلان كونديرا أن الفكاهة هي العمق الأعمق للرواية، و آثرت أن أستثير الاديب بكلماته:
- أنت قلت في مريود في سؤال على لسان أحد الفلاحين: إنت العمال و الفلاحيين ديل بلدهم – وين؟! و زيادة الانتاج دي شنو؟ و رد عليه الاخر: الانتاج ياهو السجم البنعمل فيهو دة و زيادة الانتاج يعني تخت السجم فوق الرماد. ثم جاء التعليق من أحد الفلاحين: ما دام ونستنا دي بقوا يجيبوها في الجرايد و الاذاعات، يمكن الحاصل دة خير.
- نعم هذا الذي أدعو له، رغم أن ذلك في مجمله كان تعليق على مناخات كانت تسود أيام النميري و ثورة مايو، لكني لا أرى أن من حق إنسان أن يدعي أنه يمتلك الحقيقة كاملة، أنا أدعوا للإعتدال و التسامح مع الاخر و على المستوى الشخصي أقبل الناس على علّاتهم.
شجعني الاستغراق النادر من الأديب الكبير في الحديث عن أدبه أن أُبحر معه إلى عمق جديد:
- أنت منذ عرس الزين كنت تدعوا إلى شيء من ذلك، حتى أن أحد النقاد وصفها بأنها (زغرودة طويلة للحياة) و لكني أرى فيها دعوة للتسامح.
- نعم هي دعوة للتسامح فالذي يصلي و الذي يغني و الذي يسكر كلهم يسعهم المكان إذا أتسع الوعي بأتساع القلوب.
لم أبرح حتى بثثت الاديب الكبير همي الاكبر.
- متى تعود لكتابة الرواية.
- عندي الرغبة للعودة للرواية و لكني كمن فقد الشهية.
- عندي رأي، إنك لن تعود إلى الكتابة إلا إذا عدت إلى كرمكول و عشت بين الفلاحين و تحدثت إلى بسطاء الناس ذوي الحس كما يقول صديقك جمال محمد أحمد.
صمت الاديب مليّاً، قبل أن يفاجئني بالرد.
- نعم ربما هذا أصوب رأي حتى أعود إلى الكتابة، كتابة الرواية.
[email protected]
سيد أحمد العراقي
مشاركات: 624
اشترك في: الأحد يونيو 21, 2009 11:44 pm

الطيب صالح غازيا ثقافيا

مشاركة بواسطة سيد أحمد العراقي »

منقول من موقع الراكوبة


الطيب صالح غازيا ثقافيا

سامي البدري

لن آتي بجديد إذا ما قلت أن ثمة، ليس فقط ما يشد، بل ما يسحر المثقف العربي في الحضارة الأوروبية ومروج ثقافاتها النضرة، وبالتأكيد أنا أعني بهذا النزوع والتشوق إلى كل مميزات وثراء مباهج قصر الثقافة والحضارة الأوربيين، من دون سلة نفاياته طبعا، ذلك القصر الذي لفت جميع الأنظار والاهتمام بثراء تأثيثه المعرفي والفكري (الثقافي)، وهذا بالذات ما حاول الطيب صالح الروائي السوداني، وصاحب أكبر انعطافة فنية في تاريخ الرواية العربية، إيصاله إلينا، عبر صفحات غزوته «موسم الهجرة إلى الشمال» لتلك الحضارة، في عقر دارها.

لعل أهم ما ميز (غزوة) الطيب صالح عن غزوات من سبقوه من الأدباء العرب إلى ديار (الإفرنجة)، موضوعيته في النظر لمنجز و(أخلاقيات) تلك الحضارة (موضع اتهامها الأول من قبل الثقافة العربية) أولا، وتجرده في تقييم تلك الحضارة وثقافتها، ثانيا، بعيدا عن التعصب والأحكام المسبقة والانفعال البدوي الذي شد طريقة نظر الأدباء العرب، الذين سبقوا الطيب صالح في غزو ديار المستعمِر القديم، ومن منطلق أن الموضوعية والأمانة الفكرية، تفرض علينا مكاشفة النفس، بالجذور البدوية لثقافتنا العربية، التي لم نستطع الفكاك منها، خاصة على صعيد التقييم وإصدار الأحكام المسبقة، التي فرضتها حقبة الاستعمار ورجال العسكر، الذين احتككنا بهم، كواجهة لفعل الثقافة الأوروبية على أراضينا.

يصف الطيب صالح، وعلى لسان راوي «موسم الهجرة إلى الشمال» البريطانيين، مستعمريّ السودان السابقين، لأهل قريته، وبعد أن أقام بين ظهرانيهم سبع سنوات ودرس في جامعاتهم بقوله: «إنهم مثلنا يعملون ويتزوجون وينجبون الأطفال…» وهذا التبسيّط الذي فرضه المستوى المتواضع لثقافة المخاطب، أهل قريته الرابضة عند منحنى نهر النيل، ربما فرضته الأمانة العفوية للراوي، الذي اقتصرت مشاهداته لتلك الحضارة على هيكلية وآليات الحياة البريطانية العامة، من دون الغور في أعماقها الثقافية، خاصة أن الراوي ولد بعد رحيل المستعمِر ولم يشهد ممارساته، بصورة مباشرة؛ وأيضا لم يشهد ـ وهذا ما يحرص الصالح أن يلفت نظر المتلقي إليه ـ إلا الجانب المشرق منها، خلال سنوات دراسته في جامعاتها، هو القروي الذي تدهشه القشور، وتجعله غير منحاز لماضيه في الحكم، وخاصة ـ وهذا ما ركز الصالح على إظهاره في الرواية ـ أن ثقافة الراوي البسيطة أو خلفيته الثقافية القروية، هي التي كانت وراء ذلك التصور، لأنه كان يرى أنه المثقف الوحيد في تلك البقعة المهمشة من قرى السودان.. وهذا ما تؤكده ثورته على بطل الرواية، مصطفى سعيد ابن العاصمة، الخرطوم، عندما يسمعه، في ساعة راحة، تحت تأثير الشراب، يردد أبياتا من الشعر الإنكليزي، وبلغتها الأم، بقوله وهو مهتاج: ما هذا؟ ما الذي تقوله؟ لأنه كان يتصور نفسه المثقف الوحيد في تلك البقعة من الأرض، إن لم يكن في كامل أرض السودان! وكذلك في قوله، في موضع آخر من الرواية، وهو يتحدث عن صديقه محجوب: «خفت من شدة غروري أن لا يفهم ما أقول».

وبرأيي المتواضع، فإن ما عمد إليه الطيب صالح من متوازية بطليّ الرواية، الراوي ومصطفى سعيد، والفرق بين فهم وانفعال وتقبل كل منهما لحضارة مستعمِرهما السابق، إنما جاء لدفع تهمة الانحياز في رصده لمحاسن الحضارة الأوروبية، خاصة أنها تمثل حضارة المستعمِر السابق الذي مازالت آثار ندوب سياطه على جلود السودانيين، ومن دون التوقف أمام مساوئ وإشكالات هذه الحضارة الثقافية، على صعيد التعامل والسلوك الفعلي على مصطفى سعيد، بطل الرواية، لتأثره، بثمرات وألوان هذه الحضارة أو لاستعداده غير الطبيعي، للانسلاخ عن جذوره، خاصة في ما جسدته الرواية، في نهايتها الغائمة، بعودة مصطفى سعيد لأرض تلك الحضارة، بعد أن وجد نفسه عاجزا عن مواصلة الحياة في سكون الموات (الثقافي) الذي تعيشه تلك القرية المنسية (يتعمد الصالح عدم تسميتها إمعانا في إظهار هامشيتها) عند منحنى النيل، رغم أن مصطفى سعيد ـ ولأنه دخل بريطانيا وعاش تجربة حضارتها وهو في سن مبكرة ـ يعود إلى جذوره السودانية البعيدة، والغائمة في ذاكرته، بعد اصطدامه بثقل وعمق تجربته الحياتية في عمق تلك الحضارة وآلياتها (التي دخلها غازيا، كما يردد في مذكراته وحصل وحقق في ظل انفتاحها كل أحلامه وما تمناه) الثقافية المتطورة والمنفتحة ومرارة تجربة ذوبانه فيها، ومن ثم نكوصه إليها مرة ثانية، بعد اصطدامه بضحالة آليات ثقافة جذوره (السودانية) وسباتها واستمرارها على منوالها الأول نفسه الذي دفعه للهروب منها في بداية حياته وهو صبي، رغم أن ذلك الهروب جاء بناء على نصيحة واختيار راعييه الإنسانيين، مستر ومسز روبنسن، اللذين وجدا أن حتى محيط ثقافة القاهرة سيكون ضيقا عليه ولن يحتوي قدراته العقلية.

ولكن، وبما أننا هنا بصدد التركيز على النظر في الجانب السيكولوجي لهذه الإشكالية، أجدني مضطرا للقفز على جميع الجوانب العملية والعلمية والتنظيمية، اقتصادية واقتصاد سياسية، والتي هي من ثمار دراسات مصطفى سعيد في جامعات تلك الحضارة (حضارة وثقافة الآخر) التي سعى لتطبيقها في (ثقافة) تلك القرية المهملة، من أجل الارتقاء بها وبواقعها الزراعي المتخلف، لنصل إلى مناقشة الآثار الفكرية والنفسية التي خلفتها ثقافة مصطفى سعيد (المستوردة) في حياة وطرق تفكير وذائقة فلاحيّ تلك القرية وزوجته حسنة، على وجه الخصوص، كنموذج لها، والتي اقترن بها بعد عودته إلى وطنه الأم، وبصفته ممثلا ـ ثقافيا وحضاريا ـ لثقافته المكتسبة.. ورغم أن رجال القرية شدهم (علمه وسلوكه الرصين وأدبه الجم) إلا أن أثره الثقافي لم يظهر إلا في حياة حسنة، دون باقي نسائها ورجالها، بمن فيهم الراوي، بطل الظل في الرواية، أو المعادل الفني لا الموضوعي لمصطفى سعيد، باعتباره قد خاض تجربة الاقتراب من ثقافة (الآخر) من دون استيعابها أو تمثلها، كحراك ومفتاح تغيير.

فحسنة، وبفضل اقترابها من صميم حياة مصطفى سعيد كزوج (آخر) لا يشبه الأزواج/الرجال الذين من حولها، وقفت على شذرات من ثقافته المختلفة، التي تمثلت في تفهمها، على الأقل، لنكوصه عن جمود ثقافة القرية وسطحيتها، إن لم نقل تمسكها وإصرارها ـ القرية/السودان ـ على ذلك الجمود أولا، ولإخلاصها القائم على الوفاء لذكراه، لما لمسته فيه من اختلافات ثقافية و(تحضر) على مستوى التعامل الإنساني والاحترام لكينونتها الأنثوية المزدراة في ثقافة القرية، وحبه لها لذاتها ثانيا.. وأيضا لامتلاك هذا الزوج (الآخر) والمختلف عن ثقافة رجال القرية، ما يميزه على مستوى المشاعر والعمق ثالثا، رغم تصريحه، في مذكراته الخاصة، التي يكشفها لنا الراوي في ما بعد، عن سلوكياته الانفعالية، كغاز جنسي مع النساء وتسببه للكثير منهن بالألم والأذى النفسي.

حسنة التي رملها نكوص وهروب مصطفى سعيد المفاجئ إلى ثقافته الأوروبية، في موسم هجرته إلى الشمال، ووفاءً منها لذكراه، كآخر مختلف ومتوفر على ما شدها وأدهشها من ثقافته المكتسبة، نراها تسلم مفتاح غرفة مكتبه الخاص، التي يشبه سقفها ظهر الثور، والتي لم تدخلها ولم يطلعها على أسرارها، إلى بطل الرواية الظل، الراوي، لينفذ فيها وصية زوجها وفي ولديه أيضا، وإبداء الرأي أو تقرير مصير تركة فقيدها الثقافية والفكرية، والمتمثلة في مكتبته التي تحتل جدران تلك الغرفة، التي لا تشبه غرف القرية؛ وكذلك في تركته الروحية المتمثلة في مذكراته الخاصة، رغم أن ذلك التنفيذ قد بلغ حد انتقام الحرق، لفظاعة سلوك وقيم صاحبها، تخلصا من أكذوبة ظهور أو مرور مصطفى سعيد في تلك القرية، بحسب الراوي، ولتفوّق (أعاجيب) ثقافة سعيد على ثقافة ووعي واستيعاب الراوي، القروي الذي لم يستطع الخروج من جلد ثقافته المحلية، رغم عيشه لسبع سنوات في بريطانيا ودراسته لحياة أحد شعرائها في جامعاتهم… هل لأنه كان محصنا ـ بثقافته المحلية ـ ضد عدوى جرثومة ثقافة الآخر ـ كما سماها مصطفى سعيد ـ أم لأنه لم يستطع هضم إلا قشور الحياة اليومية لتلك الثقافة؟ وهل انغماس مصطفى سعيد في رغباته، بسبب وفرة أساليب إشباعها في ثقافة الآخر، هي جزء ثقافي من ثقافة الآخر، أم هي مجرد انحراف في تكوين وذائقة مصطفى سعيد الفطريين، ساعدت الوفرة على إظهاره وإنضاجه؟ مصطفى سعيد يقول إنه ورث جرثومة العدوى من أيام استعمار الآخر الذي يغزوه من أجل استرجاع الحق.. أما ثقافيا فنقول إنه انحراف في السلوك والذائقة، وكان عليه أن يكسب من الثقافة المتطورة ما يهذبهما.

كما أن حسنة، ولنقل انبهارا منها بثقافة مصطفى سعيد، وما مثلته لها من انتقالة نوعية في توجيه وعيها وذائقتها، ترفض الزواج بغيره من رجال القرية، بعد رحيله، لانغماسها وتلذذها بقيم ثقافة تعامله معها (المختلفة أم الأكثر تحضرا من ثقافة محيطها القروي؟) كأنثى، وعندما تجد إصرارا من أهلها على تزويجها، تضطر للطلب من بطل الظل، أن يتزوجها، من أجل أن يخلصها من الزواج من (ود الريس) العجوز (الذي عقله في رأس ذكره) كما تصفه بنت مجذوب، لأنها توسمت به، ومن خلال ثقة مصطفى به، ومن خلال دراسته في مكان (ثقافة) زوجها المتحضر نفسه، في أن يكون متميزا بثقافة تعامل مصطفى نفسها، ذي الثقافة المختلفة، إن شئنا عدم استخدام كلمة المتحضرة، طمعا في تخليصها من عملية الاغتيال الثقافي التي يمثلها لها الزواج من قروي… لن يشبه مصطفى سعيد بشيء من اختلافه (المتحضر).

ويعمد الطيب صالح لإظهار ذلك الاختلاف الثقافي وأثره الكبير، لأنه يمثل انتقالة ثقافية نوعية في حياة من يلامسه روحيا، بدفع حسنة، في لحظة اليأس النهائي بالانتقام القهري من (ود الريس، بصفته رمز تخلف محيطها القروي الذي لا ينظر إليها إلا كوسيلة متعة) بقطع ذكره، (كرمز لامتهانها من قبل ثقافة ذكورة مجتمعها) وقتل نفسها.

والآن نصل إلى سؤال المكاشفة في قراءتنا هذه: أين الخلل في تشرب مصطفى سعيد بالثقافة الأوروبية، ولو كسلوك إنساني متحضر، لمسته حسنة؟ وهل كان نكوصا وهروبا أو عودة مصطفى سعيد إلى محيط ثقافته الشمالية (الثقافة الأوروبية) غير هروب من ضحالة ثقافته الأم؟ ألم يكن هروب مصطفى سعيد هروبا من تحجر ثقافتنا العربية عند نقطة بعينها وعدم مسايرتها لسنن التقدم الطبيعية؟

أعتقد أن الطيب صالح طالبنا بعملية مكاشفة شجاعة لبنانا الثقافية القائمة على الخوف الأعمى من الآخر والشك المسبق بنواياه، أولا من حيث كونه آخر بذاته، وثانيا استنادا إلى لوثات ماضيه… متناسين أن كل شيء يتغير، وفقا لسنن تطور الحياة، بمن فيها الإنسان، في بنى تفكيره وسلوكه، وإن علينا التوقف عن رفض الآخر الانفعالي والتقرب منه وملامسته ودراسته بعناية، من أجل التعرف عليه أولا، ومن أجل فهم أسباب كونه آخر وإزالة اللبس عنها ثانيا.

روائي وناقد عراقي

سامي البدري

القدس العربي
سيد أحمد العراقي
مشاركات: 624
اشترك في: الأحد يونيو 21, 2009 11:44 pm

متى تعود القماري؟ بقلم الطيب صالح

مشاركة بواسطة سيد أحمد العراقي »

من بريدي


[b]متى تعود القماري؟
بقلم : الطيب صالح
الذين حضروا أيام الإنجليز من المخضرمين أمثالى يذكرون أن فى المديرية الشمالية كانوا يشقون قنوات على ضفتى النيل على طول إمتداده فى ذلك الإقليم. كان لذلك فائدتان حين يفيض النيل يفتحون تلك القنوات فيسيل النيل على الضفتين فتمتص الأرض الظمأى فائض الماء من النهر فلايحدث الخراب والدمار الذى يحدثه إذا لم يجد متنفسا وقد كان ذلك فى ظنى الهدف الاهم من فتح تلك القنوات؛
الفائدة الثانية هى أن ماء الفيضان يصل الى أماكن لا يصلها عادة فتكون زراعات ومراعى أغنام وغابات طلح وسيال وعشر وغير ذلك، كان يثبت الأرض الرملية ويقى من رياح السموم ويبسط الظل على عدوتى النيل.
وكان فى بلدنا غابة كبيرة من اشجار الطلح يسقيها النيل من تلك القنوات من عام الى عام
وقد نمت وإزدهرت لأن الحكومة كانت تمنع منعا باتا قطع اى شجرة إلا بإذن خاص فى حالات نادرة ؛
من تلك الحالات النادرة قطع شجر طلحة العرس فقد كان من طقوسهم فى الاعراس أنهم يمشون الى الغابة فى زفة عظيمة فيقطعون شجرة طلح ويعودون بها الى د ار العروس ؛
أذكر وأنا صبى فى الاربعينات عرسا كانت له شنة ورنة من تلك الأعراس التى يؤرخ بها وتظل اصداؤها تتردد زمنا طويلا.
كان العريس إسماعيل صبير من اهلنا ناس كرمكول وكان اخا وحيدا بين عدة اخوات وكانت العروس إبنة المرحوم عبدالله عباس الذى كان يومئذ من كبار موظفى الجمارك. كان من اوائل خريجى كلية غردون من اهلنا إضافة الى ان اخت العريس زينب صبير عملت لأخيها سيرة لم يحدث مثلها من قبل ولا بعد.
كانت شابة وضيئة متزوجة لا اظن أن سنها كانت تزيد على خمسة وعشرين عاما، أذكر لونها العسلى وثغرها البراق ووقفتها النبيلة وصوتها العجيب الذى تعجز الكلمات عن وصفه. بدت لى تحت ضوء المصابيح - ولابد إنها ظهرت كذلك لأهل البلد كلهم - كأنها طيف ملائكى حل علينا من كوكب آخر.
سرنا معها كالمسحورين يحدونا صوتها الاسطورى من دار العروس فى كرمكول شاقين البلد من الغرب الى الشرق حتى وصلنا الغابة عند دبة الفقراء. ظلت تغنى كانها ترتجل حتى قطعنا الطلحة وعدنا الى كرمكول
ربما اكثر من ثلاث ساعات وربما اربع وصوتها يزداد عمقا ومدى وجاذبية والصور والمعانى تصل الى وجداننا منها مثل رفيف أجنحة القطا

جيد لى أنا جيد لى بى ذاتو
يانمر الخلا الفارد جناحاتو

حين صرت اكبر سنا واكثر إدراكا فهمت أن زيب بت صبير صنعت فنا عظيما فى تلك الليلة. خلقت اسطورة لاخيها فإذا هو أجمل وأكرم وأشجع وأغنى وادخلت البلد قاطبة فى نسيج عالمها الإسطورى فإذا بلدنا كما نعرفها وزيادة، وإذا نحن جميعا كما نعرف انفسنا وأكثر، كذلك يصنع الفن العظيم ؛
إنما الحياة كانت بالفعل حلوة فى تلك الايام. حلوة حلاوة من لايعرف طعمها إلا من ذاقها فماذا كانت عندنا يومئذ ولم يعد عندنا اليوم لم يمهل القدر زينب بت صبير بعد اشهر معدودات من تلك الليلة المشهورة
وأختطفها الموت فجأة دون علة واضحة. رحمها الله كانت حقيقة طيفا ألم بالبلد ثم عاد من حيث اتى؛
لاتوجد اليوم أعراس كالعرس الذى غنت فيه زينب فى أى من قرى شمال السودان
فقد فرغت القرى من اهليها الذي تفرقوا أيدى سبأ، إختفت الغابات على الضفتين وهاجرت القمارى بشجوها.
النيل الرحيم الودود عادة ظل فى العهود االاخيرة يطمس المعالم ويمحو الآثار كأنه يريد أن يقول شيئا،

كانه ضاق بحبسه بين الضففتين، فمتى تفتح القنوات للنهر وللبشر؟ ومتى تهدأ ثورة النيل؟ومتى تعود القمارى بشجوها ؟



[/b]
سيد أحمد العراقي
مشاركات: 624
اشترك في: الأحد يونيو 21, 2009 11:44 pm

الطيب صالح تناول ختان الإناث ليظهر سيطرة الرجل على المرأة

مشاركة بواسطة سيد أحمد العراقي »

نقلا من موقع الراكوبة

[b]باحثة لبنانية: الطيب صالح تناول ختان الإناث ليظهر سيطرة الرجل على المرأة باسم الإسلام فى رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"


رسالة ماجستير لبنانية ترى: الجنس سلاح الانتصار على العنصرية والعنف
04-11-2015 02:11 PM
بلال رمضان
فى الوقت الذى لا يزال فيه موضوع الجنس فى الأدب يسبب أزمة قد تصل أو تتسبب فى منع بعض الروايات فى الدول العربية، بسبب ضيق الأفق لدى الكثيرين ممن يفرضون أنفسهم كرقباء على المجتمع وذائقة القارئ، تناولت الباحثة اللبنانية رولا رياشى فى رسالة ماجستير بعنوان "جدلية النظام الأبوى فى موسم الهجرة إلى الشمال" عن رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للكاتب السودانى الراحل الطيب صالح، أشارت فيها إلى أن مساحة الجنس التى أتت فى الرواية لم تكن تعبيرًا عن الحب، بل مساحة تتجلى فيها جميع الصراعات فى الرواية إذ أنه فى "موسم الهجرة إلى الشمال" ليس تعبيراً عن الحب بل سلاح للسيطرة والانتصار على الآخر وتجسيد للكراهية والتصنيف والعنصرية والعنف.

وتتناول رسالة الماجستير النظام الأبوى بشقيه الاستعمارى والاجتماعى وانعكاساته من خلال لغة وسلوك الشخصيات الرئيسية فى الرواية، فالرواية التى نشرت فى العام 1966، أى بعد حوالى العقد على استقلال السودان عن الانتداب البريطانى تعكس حالة الإنسان فى سودان ما بعد الاستعمار. كما تتناول رسالة الماجستير مسألة ختان الإناث فى السودان بالرجوع إلى دراسات وإحصائيات حديثة حول وضع المرأة فى السودان بشكل عام نسبة إلى نظيراتها فى العالم العربى وموضوع الختان وأنواعه بشكل خاص، كما تشير إلى غياب ذكر أى امرأة متعلمة فى الرواية ودلالات ذلك. وتشير الدراسة إلى أن تبرير استمرار هذه الممارسة الوحشية والمجحفة بحق الإناث يرتكز على الخلط ما بين الموروث الأفريقى ومحاولة دمغه بصبغة إسلامية للإيحاء بأن ختان الإناث من ضمن تعاليم الديانة الإسلامية، وهو أمر لا مكان له من الصحة. فإن هذه الممارسة تقع فى سياق ترسيخ السلطة الأبوية، كما أنها تكرس وضع المرأة كمتلقية للفعل الجنسى لا كمساهمة فيه حيث أنها تحرم من الحصول على المتعة الجنسية وتتحول إلى وسيلة لإرضاء رغبات الرجل فحسب.

اليوم السابع
[/b]
أضف رد جديد