هوبز و اللفياثان و سيناريوهات دكتور الواثق: مقاربة نظرية...

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
ãÍãÏ ÚËãÇä ÏÑíÌ
مشاركات: 267
اشترك في: الأحد مايو 22, 2005 9:57 am
مكان: كندا

هوبز و اللفياثان و سيناريوهات دكتور الواثق: مقاربة نظرية...

مشاركة بواسطة ãÍãÏ ÚËãÇä ÏÑíÌ »

هوبز و اللفياثان و سيناريوهات دكتور الواثق كمير: مقاربة نظرية/نقدية

"كلما أسأت الظن بالإخوان تكتشف أنك كنت تُحسن الظن بهم"().
الأستاذ محمود محمد طه

هذه مقاربة نظرية/نقدية لمقالة دكتور الواثق كمير " الكُرَةُ في مَلْعَبِ الرَّئيس: تفكُّك الدَّولة السُّودانية: السِّيناريو الأكثر تَرجيحاً "التى نشرها فى العديد من المنابر الإلكترونية المنشغلة بقضايا المشهد السودانى خلال شهر فبراير المنصرم. فى هذه المقالة، و بعد أن يرسم صورة لواقع الحال اليوم فى السودان يمكننا توصيفها بـ "القاتمة/المتشائمة"، يخلص دكتور الواثق جازماً بالقول بوجود ثلاثة سيناريوهات فقط محتملة لمعالجة الأوضاع المزرية فى السودان و إيقاف "إحتمال" تشظى الدولة. السيناريو الأول، بحسب المقالة، هو بقاء الاوضاع على ما هى عليها مع إجراء بعض التعديلات الشكلية فى الحكم و إستمرار هيمنة المؤتمر الوطنى على السلطة بالبلاد. لكن يستبعد دكتور الواثق هذا السيناريو و يرى "صعوبة ...[و] إستحالة إستدامة هذا الوضع". و بالمثل، يشكك دكتور الواثق فى قدرة الحراك السودانى، السيناريو الثانى، ممثلاً فى الحركات المسلحة، من ناحية، و القوى المدنية و السياسية، من الناحية الاخرى، على التغيير و الحفاظ على وحدة ما تبقى من سودان المليون ميل مربع بذريعة تفشى الخلافات فيما بين هذه القوى و عدم وضوح الرؤية الخاصة بالتغيير و عدم الثقة فى مرامى الحركات التى تحارب بإسم الهامش. و إزاء الفشل المتوقع للسيناريو الأول والثانى فى معالجة الاوضاع الحالية، لم يتبقى لـ "مستقبل" و "وحدة" السودان، بحسب رواية دكتور الواثق، سوى ’شخصية عمر البشير‘ السيناريو الأخير و الأوحد، و ذلك بعد أن "تعى" الشخصية ـ عمر البشيرـ دورها التاريخى فـ "تنقلب" على مشروع دولة الحركة الإسلامية لـ’مصلحة البلاد ككل‘ و تصبح بعدئذٍ بطلاً قومياً و بهذه الطريقة أيضاً تفلت من مطاردات المحكمة الجنائية الدولية لها.

لقد أحزننى كثيراً و ربما أحزن آخرين "إحتفاء" دكتور الواثق المحتمل ليس فقط بـ"البطولة القومية المُرتجاة" لعمر البشير و لكن بإمكانية إفلات الأخير من العدالة فى جرائم الحرب و جرائم الإبادة التى إرتكبها ولا يزال يرتكبها بتلذذ و إصرار شديدين فى حق شعوب السودان المختلفة. وسبب الحزن ليس لأن دكتور الواثق أستاذنا و نكن له كل تقدير و إحترام و حسب، و لكن بوشيجة عبوره (و آخرين نعتز بهم و ببطولاتهم) حدود سياسية و ثقافية فى لحظات تاريخية فى غاية التعقيد (من ضمنها عهد ديمقراطى) و الإنضمام إلى الحركة الشعبية أو بالأحرى إلى قائدها الراحل الدكتور جون قرنق للوقوف من أجل سودان "جديد" متنوع و ديموقراطى. و لعل الذى دفعنى إلى الإنخراط فى هذه المقاربة النقدية/النظرية و التى لا بد منها هوالتساؤل البسيط حول ما هى الضرورات/التحققات المعرفية و "السيأخلاقية/الجمالية" التى قادت دكتور الواثق إلى الثقة فى عمر البشير إلى هذا الحد (حد إحتمال تنصيبه بطلاً قوميا) و البحث له عن مخرج من جرائم قبيحة إرتكبها فى حق الكثيرين من شعوب دولة السودان ضارباً عرض الحائط بسجل السودان الجديد و رؤئ الراحل جون قرنق دى مابيور و صبره و مثابرته؟

أقول بعد الإطلاع على المقالة حتى فى مراحلها الأولى قبل بذلها على المنابر العامة، إذا بصاحب نظرية العقد الإجتماعى ’توماس هوبز (1588 ـ 1679)"ينبُّل" هكذا أمامى فجأة من دهاليز القرن السابع عشر و هو يتأبط سفر اللفياثان (leviathan)ـ التِّنيِن (حيوان البحر الخرافى، بحسب الاسطورة الإنجيلية). و لا غرابة، فصور الدمار، وعدم الثقة بين الناس، و حالات الرعب التى تحيط بالمشهد السودانى، فى رواية دكتور الواثق، و التى خلص منها إلى تسليم أمر مستقبل السودان شكلاً و مضموناً إلى "لفياثان" سودانى ـ على نحو ما سنرى ـ أشبه إلى حد ما بالمنطلقات التاريخية و السياسية التى صورها هوبز و التى بنى عليها مشروعه فى الفلسفة السياسة، فلسفة السلطة و الثروة. و للذين لا يعرفونه بشكل أفضل، يعتبر هوبز من "الآباء" (لاحظ الحمولة الأبوية/الذكورية فى هذا التعبير الشائع فى كل العلوم تقريباً) المؤسسين لعلم السياسة الحديث.

أنجز هوبز كتاب ’اللفياثان‘ على خلفية ’تصوُّر‘ الحروب الأهلية فى أوروبا، بصفة عامة، والحرب الأهلية الإنجليزية (1642ـ 1651)، بصفة خاصة، و ما نتج عنهما من دمار و قتل و فوضى عارمة حيث سطر فيه ـ أى اللفياثان ـ خلاصة مساهماته الفكرية و الأخلاقية فى طبيعة السلطة السياسية و الثروة و ضرورتها للمجتمع الإنسانى. إنطلق هوبز فى تلك المساهمات من تفسير أو إرجاء أهوال الحرب و طبيعة تلك الحروب و عدم الثقة إلى إعتقاد معرفى سائد/شائع آنذاك (إبستيم ـ بحسب ميشيل فوكو) فحواه القول بـ "الجوهر العدائى" أو الوحشى لـ "الطبيعة البشرية" و جنوحها "الغريزى" نحو الشر و إستحالة كبحها خاصة فى المرحلة الموسومة بـ"مرحلة الطبيعة" (state of nature). و لأن إنعدام الثقة و الأنانية هى التى كانت تسم علائق الناس بعضها البعض خلال هذه المرحلة، فإن البشريةلا محالة من إنزلاقها، بحسب هذا الإعتقاد، فى حرب شاملة ـ حرب الكل ضد الكل (war of all against all) ـ و التى ستقود فى نهاية المطاف إلى إنهيار و تفكك المجتمع الإنسانى. إذن يمكن القول أن فلسفة هوبز قد نهضت من قراءة مُتخيَّلة لـ "جوهر طبيعة بشرية" كمساهمة أخلاقية فى المقام الأوَّل غايتها التصدى لمثل هذا السيناريو المخيف و المدمِّر و المتربص بالمجتمع الإنسانى عبر إيجاد صيغة عقد ـ العقد الإجتماعى (social contract) يحتوى فوضى الطبيعة البشرية و يكبح جماحها.

و لكن الشرط الرئيسى أو السيناريو الوحيد و الكفيل بتحقيق و الوصول إلى مجتمع العقد الإجتماعى، بحسب هوبز، هو أن يتنازل الجميع عن حقوقهم كافة لسلطة مطلقة (لفياثان ـ تنين) تقوم بالنيابة عنهم بإنجاز و المحافظة على العقد الإجتماعى وحيث يتمتع ـ أى اللفياثان ـ بسلطات سياسية و قانونية و حياتية مطلقة وليس فى مقدور الرعية (subjects) محاكمته أو قتله أو المطالبة بفصل السلطات و التى تكون جميعها بيده (لا محكمة دولية و لا يحزنون فى حالة التنين "تبعنا").

والجدير بالذكر أن أفكار هوبز قد تعرَّضت لإنتقادات عديدة خاصة فيما يتعلق بالأساس المعرفى الذى نهضت عليها: أى مفهوم الطبيعة البشرية التى تفترض تبدُّد الفروقات الطبيعية و السياسية و الإجتماعية، إلخ، بين الناس ليصبحوا كُلَّاً واحداً أو كتلة يسهل التنبُّؤ بمساراتها و حراكها و التحكم بها.بالإضافة إلى ذلك و رغماً عن نبرة المسؤلية الإخلاقية الظاهرة فى فلسفة هوبز السياسية إلاَّ أنها ـ اى هذه الفلسفة ـ إنتهت بتقنين حكم الفرد/الجماعة المطلق أو الدكتاتورية التى عانت و تزال تعانى منها الإنسانية فى الكثير من بلدان العالم حيث يصارع الكثيرون ضدها ومن أجل الوصول إلى مجتمع تعددى متسامح (ديموقراطى) يحتفل بالتنوع و الإختلاف بدلاً عن وأدها لمصحلة دكتاتورية فرد أو جماعة. و لعله من سخرية القدر أو من حسن الطالع، لا فرق، أن تنهض المجتمعات الأوروبية من رماد تلك الحروب المريرة و المدمرة ضد تسلُّط حكم الفرد، فى سيناريو لم يخطر على بال هوبز بالمرة، و تدك حصون السلطة المطلقة لتؤسِّس لأنظمة ديمقراطية ماثلة أمامنا اليوم بلحمها و عظمها.

لم يبتعد دكتور الواثق كثيراً فى "السيناريوهات" عن تشاؤم هوبز و إحتمال إحتضان الدكتاتورية مع مراعاة الفروق ’الزمكانية‘ و المنطلقات المعرفية/الفلسفية لكل من السيناريوهات و اللفياثان. فها هو دكتور الواثق يؤسِّس لأطروحته بخطاب مدجَّج بالتخويف و الرعب جاء فيه:

"... فمنذ نهاية الفترة الانتقالية وانفصال الجنوب، تشهد البلاد مآزق مستمرَّة ومتتابعة على نطاقٍ غير مسبوق، ومناخ سياسي محتقن ومتوتر. فالآن هناك استقطاب “رأسي” حاد وملحوظ بين الحكومة من جهة، والمعارضة السلمية والمسلحة، على حدٍ سواء، وبعض منظمات المجتمع المدني والتكتلات الشبابية، من جهة أخرى. أيضاً، هناك الانشقاقات والانقسامات “الأفقية” داخل الأحزاب السياسية، بما فيها الحزب الحاكم والحركة الإسلامية، والتي ويا للمفارقة، أتت بالحزب إلى سُدَّة الحُكم، والحركات المسلحة، وتواتر معلومات عن تذمُّرٍ وتمَلمُلٍ داخل القوات المسلحة، مع تنامي الولاء القبلي والعرقي، وظهور الجهاديين والجماعات الإسلامية المتطرِّفة وتصاعُد نشاطاتهم العنيفة والمرعبة. ويتجلى هذا الاستقطاب السياسي الحاد في النزاع المسلح وتدهور الوضع الأمني في دارفور بوتيرة متسارعة، والحرب الدائرة في جنوب كُردُفان والنيل الأزرق، وتردِّي الأوضاع الاقتصادية وتفشي الفساد، والعلاقة المتوترة مع الجنوب، وشبح الحرب يلوح في الأفق بين السُّودانَيْن، وفوق ذلك كله، كيفيَّة التعامُل مع المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة." و بل يضيف قائلاً:

"... حقيقة، هذا الوصف للواقع الماثل أمامنا لا تخطئه عين، بل يلحظه ويراه المراقب، ولا تستقيم معه أي مكابرة أو عنادٍ أو إنكار. فلا حديث يدور في مجالس أُنس المواطنين العاديين سوى هذا المشهد السياسي المحتقن، ومآلات وسيناريوهات المستقبل، وما تحمله الأيام في جوفها من شكوكٍ وتخوُّفات!"

و إزاء هذه الوضعية المرعبة التى تحمل الكثير من الشكوك و التخوفات لم يأنس دكتور الواثق لا فى الحركات المسلحة التى تحارب السلطة المركزية بإسم "الهامش"و لا فى تحالفاتها و مبادراتها و لا فى التنظيمات السياسية و فعاليات "المجتمع المدنى" أو الكيانات الفئوية و الشبابية و النوعية و فى صراعها اليومى المنتظم و غير المنتظم، نقول لم يأنس دكتور الواثق فى كل هذا الحراك، سيناريو محتمل للتغيير فى السودان بل قفز إلى "لفياثان سودانى" متمثِّلاً فى "الدكتاتور المُقيم" عمر البشير ليخلق منه بطلاً قوميَّاً مُنتظراً. بهذه القفزة نرى أن دكتور الواثق قد تجاهل، أو تناسى ، من ناحية، تاريخ الحركة الإسلامية فى السودان منذ جبهة الميثاق و حتى "المؤتمر الوطنى"، هذا التاريخ المجرَّب و المختبر و الذى قد قال فيه الاستاذ محمود محمد طه ما قال كما هو مثبَّت بأعلى المقاربة. حيث يحدثنا التاريخ أن الحركة الإسلامية إنما تنهض على "معادلة صفرية بحق و حقيقة" يُنفى فيها "الآخر" نفياً مطلقاً (قتلاً، سحلاً، إذلاً، إلخ إلخ) و على حنكة فى المناورة القذرة و كسب الوقت من أجل توجيه ضربات مميتة و أكثر فتكاً، و ايضاً، من الناحية الأخرى، تجاهل دكتور الواثق سِجل ’الجهلول الأعظم‘ رئيس العصابة فى الخرطوم و إندياحاته العنصرية البغيضة و كذبه المرضى المنتظم و الممنهج، و عنفه اللفظى و الفعلى، و لا أخلاقيته البائنة، و إنسانيته الضعيفة و المعقوفة. شخص بهذه المواصفات "الذاتية" بالإضافة إلى كونه خريج هذا الكيان المُسمى بالحركة الإسلامية من الصعوبة بمكان أن يصبح بطلاً قوميَّاً أو يُمكن الإعتماد عليه فى أى شيئ يُفيد الآخرين من خارج الدوائرالضيقة و المظلمة لملذاته و طموحاته و اطماعه الشخصية. كان الآحرى بدكتور الواثق بدلاً من أن ينصبه بطلاً قومياً منتظراً، أن يطالب البشير الاعتراف بجرائمه فى حق هذا الوطن منذ فجر الـ 31/7/1989، و بجرائم الحرب و الإبادة ضد شعوب السودان المختلفة و التعذيب،إلخ، و تحمل المسئولية الكاملة و الإعتذار عنها و المثول أمام العدالة.

و مرة اخرى نقول، إذا كانت فلسفة هوبز قد نهضت على هدى ’مُتخيَّل معرفى‘ آنذاك رفد نظرية الطبيعة الإنسانية بشرعية إنتهت بها إلى تقنين الدكتاتورية، يحق لنا أن نتسائل عن ماهية الأسس المعرفية/الفلسفية/النظرية التى سوَّغت لدكتور الواثق التشكيك فى مقدرات شعوب السودان (human agency)على تغيير الأوضاع لمصلحتها بحسب ما تُمليها عليها رؤاها و تطلعاتها؟ هل يا تُرى قد بنى دكتور الواثق هذا "التشاؤم الهوبزى" على ملاحظات عابرة أم على أدلة و معطيات دامغة وُفِّرت له بصورة ما و ان تلك الأدلة و المعطيات هى التى جعلته لا يثق فى قدرات "السودانيين" على فعل التغيير الُمرتجى؟ ما هى هذه الأدلة و المعطيات؟ و الملاحظ أن هذا التشكيك فى مقدرات و قدرات الحراك السودانى المناهض للنظام فى خطاب دكتور الواثق قد رافقه ثقة غير معروفة الأصل فى رموز بعض النظام (بالطبع من ضمنهم البشير) و قدرتها على الإنقلاب على مصالح الحركة من أجل ’عيون السودان‘.نعتقد أن دكتور الواثق هو الوحيد الذى ربما كان يملك تفسير كنه هذه الثقة.

و بعودة إلى مقاربتنا النظرية نقول، إذا كان هناك إفتقار و شح فى مناهج الفكر و التفكير و الفلسفة خلال القرنين السابع عشر و الثامن عشر تلك التى كان من شأنها أن تُعين على تحليل و فهم الصراعات الإنسانية و الظواهر الحياتية الاخرى بصورة معقولة هى التى برَّرت لهوبز تفسيرها (الحروب و الصراعات) على خلفية "مُتوًّهم" الطبيعة البشرية، كما ذكرنا آنفاً، فإن فى معيتنا اليوم أدوات نظرية و معرفية و خبرات تراكمية أكثر دقة و شمولية من شأنها أن تعيينا على مقاربة و فهم أوضاعنا السياسية و الإجتماعية والثقافية، إلخ، بصورة أفضل. هذه الوضعية المعرفية المتميِّزة اليوم تحثُّنا على عدم التحدث على نحو كلى و شمولى عن حالة أو أوضاع عامة، كأن نقول "الوضع السودانى أو الحالة السودانية"، دون تحديد موضوعات و اطراف هذا الصراع على نحو أكثر دقة و معقولية فنتحدث عن صراع طبقى، جهوى، فئوى، نوعى، إلخ، و الأهم من ذلك أن نحدد نحن موقعنا من هذا الصراع و موضوعاته؛ إذ لا يجوز ان نتحدث عن صراع و كأننا معصومون/منزهون عن عدواه. و أيضاً تُحتِّم علينا وضعيتنا المعرفية المتميِّزة الآن أن لا نكتفى بالنظر إلى الصراع فى تجلياته الظاهراتية، كأن نكتفى بالقول بصراع عرقى/قبلى/دينى، و لكن ان نحفر عميقاً فى جسد هذه الصراع حتى نتعرف بشكل افضل على آلياته و منطقه الخاص. فعلى سبيل المثال، توصيف حراك "الهامش" بالعرقية أو العنصرية هو توصيف غير موفَّق و غير واقعى و لا يقود إلى فهم طبيعة الحياة فى الأطراف أوآليات الصراع بها، لان الذى يُشكِّل الهامش كـ "هوية جمعية" ليست هى مُجمل الإنتماءات الإثنية أو العرقية إنما هو "وجدان الغبن" الناتج من سنوات التجاهل و المظالم الطويلة التى عانت و لا تزال تعانى منها الأطراف و هو ايضاً الذى يدفع أهل الهامش لمقاومة هذه المظالم و المطالبة بحقوقها، هذه من ناحية، أما من الناحية الآخرى فالإرجح أن توصيف تعبير ومقاومة أهل الاطراف لشروط التهميش و الإفقار المستوطنة فى شرايين الدولة السودانية بالحركات العرقية أو العنصرية وافدة من المركزو ذلك بغرض تبخيسها ـ أى التعبير و المقاومة ـ أو بسبب الجهل او التجاهل العام لطبيعتها. وعموماً تنطبق هذه القراءة على الحراك السياسى فى دارفور، و جبال النوبة، و النيل الأزرق، و شرق السودان، إلخ.

أما عن أُطروحة تشظى او حتى "تذرير" دولة السودان (الكارثة الكبرى التى رفدت خطاب دكتور الواثق بمشروعيته ’السيأخلاقية‘) لا يمكننا إدراكها خارج سيرورات الحراك السياسى و التاريخى ضمن المشهد السودانى و كأنما الدولة واقع أو بنية ’فوـ تاريخية‘. ففى واقع الامر فإن الدولة السودانية مثلها مثل الكثير من الدول تشكَّلت و هى تحمل فى دواخلها بذرة تشظيها أو تلاشيها بالتمام و الكمال؛و إنها فقط تنتظر اللحظة التاريخية و السياسية المناسبة أو قادحة الزند. و بالتالى فإن الحديث عن تفكك الدولة السودانية، بصفة خاصة، يجب أن يتضمن شكلين؛ تفكُّك موجود بالقوة و هو ما أشرنا إليه بالبذرة و؛ تفكُّك موجود بالفعل و من تمظهراته فى الحالة السودانية إنفصال الجزء الجنوبى من الدولة. و الشيئ الغريب فى الأمر أن هذا الإنفصال ـ إنفصال الجنوب ـ لم يشكِّل فعل ذو شأن ضمن اطروحة دكتور الواثق و كأنما كان الأمر طبيعياً أو لم يكن الجنوب يوماً من الأيام جزءاً من هذا البناء التاريخى/الاجتاعى/السياسى/الثقافى الموسوم بالسودان. نقول لماذا يصبح إحتمال تفكك الدولة بعد إنفصال الجنوب كارثة كبرى ندق له نواقيس الخطر و نتنازل عن حقوقنا لـ"لفياثان" على شاكلة عمر البشر و ليس قبل الإنفصال؟ اللهم إلا إذا كنا نعنى بهذا التفكك شيئاً آخر و هوالأمر الذى سوف نتطرق له لاحقاً ضمن هذه المقاربة النظرية.

نحن نقترح ثلاث قراءات محتملة لقضية تفكُّك الدولة السودانية سواءا كان ما هو موجودٌ منه بالقوة أو بالفعل. القراءة الأولى تتعلق بالرغبة القوية و السعى الدوؤب للحركة الإسلامية متمثلة فى مُستنسخها (clone) المؤتمر الوطنى و تسرعه نحو تفتيت الدولة حتى يتسنى لها الحفاظ على ما نهبته من ثروات السودان ضمن حيز جغرافى محدد يُمكن التحكم و السيطرة عليه بأقل تكاليف ممكنة. وتتوافق هذه القراءة تماماً مع التسريبات من داخل دوائر النظام المظلمة حول "جنة مثلث حمدى" او تخاريف السودان النيلى/العربى/الإسلامى (Riverain/Arab/Muslim) أو (RAM)، و الذى طفح إلى السطح و أخذ يتشدق به ضيقو الأفق من منسوبى منتدى "العنصرية الجديدة" و كأنما للنيل منابع فى حضرموت أو الربع الخالى. نقول، إذا صدقت هذه القراءة، تصبح معها مسألة تفكك الدولة السودانية نتيجة حتمية لسياسات الحركة الإسلامية و لا محال من حدوثه إلاًّ بتقويض مصدر/مصادر هذه السيرورة.

القراءة الثانية تنظر إلى تفكك الدولة كواقع حادث بالفعل حيث لا يزال الكثيرون يعانون من تبعاته. و هذا الواقع لا ينحصر على إنفصال الجنوب (1/3 المساحة التاريخية للدولة) و حسب و إنما يشمل أيضاً إبادة مئات الالوف من شعوبه مع إستمرار هذه الإبادة إلى يومنا هذا و تشريد الملايين من ديارهم الاصلية، النهب المنظم و المنتظم للثروات و القدرات، الإذلال المستمر لإنسان السودان رجالاً و نساءاً و شيباً و شباب إلخ. و لكن لطالما ان كل هذه الظواهر لم ترق ان تُشكِّل فصلاً فى كتاب تفكك الدولة السودانية، بحسب خطاب ’السيناريوهات‘ فإننا نرى أنه ربما كان دكتور الواثق فى الواقع الأمرلا يُشير بالدالة "الدولة" فى قوله " تفكُّك الدَّولة السُّودانية " إلى كيان مادى يشتمل على ناس و جغرافية و لكن إلى سلطة مركزية تقليدية كانت مطمئنة لم تواجه فى طيلة تاريخ تشكلها منذ الربع الاول من القرن التاسع عشر تحدى لوجودها كما هو الحال اليوم كنتيجة طبيعية لتنامى الوعى العام فى الاطراف/"الهامش" بفداحة المظالم التاريخية ليس فقط فى تجلى هذه المظالم فى حياة الناس اليومية ممثلة فى إنعدام متطلبات الحياة الأساسية و لكنها كبُنى سياسية و إقتصادية و إجتماعية تعمل على الدوام على إقصائهم عن مراكز القوة و صنع القرارات الخاصة بمسار حياتهم. إتخذ هذا الوعى فى جزء منه النضال المسلح وسيلة لإسترداد مكانة "الندية" الشيئ الذى شكًّل تحدياً كبيراً لم تالفة سلطة المركز من قبل. و لعل الحديث الهامس الذى يدور فى منتديات بعض السودانيين المحسوبين بشكل أو بآخر إلى المركز المتسلِّط و الذى يعبر عن تخوف مُتخيل من إحتمال زحف إلى أو إستيلاء (وفى واقع الأمر تُقرأ مشاركة) اهل الهامش على السلطة فى المركز لخير دليل على هذا التحدى غير المألوف او "البدعة". و حقيقة فإن دكتورالواثق قد عبر عن مخاوفه من إنهيار السلطة المركزية نتيجة للتحديات التى تواجها صراحة فى قوله: "وستقود مثل هذه الأفعال في نهاية الأمر إلى انهيار سلطة الحكومة المركزية عن طريق تقييد قدرتها على فرض الأمن، مما سيؤدي إلى فقدان السيطرة على الأراضي السودانية، و/أو احتكار الاستخدام المشروع للقوة، مما يجعلها عاجزة عن إعادة إنتاج الظروف الضرورية لوجودها هي نفسها".

ايضاً، و على عكس الاطروحات التى تُصوِّره كـ "أم الكوارث" نحن ننظر إلى تفكُّك الدولة، وفقاً للقراءة الثالثة، كفعل إيجابى و ربما ضرورى فى هذه المرحلة الحرجة من تاريخ السودان خاصة إذا ما وضعنا فى الحسبان الفشل التاريخى للمركز الواحد فى الإدارة العادلة و الرشيدة للأطراف سواءا كان ذلك بفعل ضيق الأفق السياسى أو شح الموارد الكفيلة بذلك أو أى أسباب أخرى. و لعل إنفصال الجنوب و تحوله إلى دولة مستقلة برغم التحديات خير مثال لتفكك دولة فى وضعية السودان.

و فيما يتعلق بقضية البحث عن فضاء آمن للبشير(على إعتبار أنه المخلص الوحيد و الأوحد و المهدى المنتظر للسودان) تُجنبه تحمل المسئولية عن الجرائم الفظيعة التى إرتكبها نظامه يُحق لنا أن نطرح تساؤلاً بسيطاً حول ماهية الوضعية التى تخوِّل لنا حق فرض الوصايا على ضحايا النظام و أهاليهم و إصدار صكوك غفران لمن إرتكبوا مثل هذه الجرائم فى حقهم و مساعدتهم ـ أى المجرمين ـ على الإنفلات من المحاكمة؟ أليس ضحايا هذا النظام هم من دفع فاتورة مغامرة صعود الحركة الإسلامية إلى السلطة إبادةً وتشريداً ونهباً للممتلكات و الأرض و بقائها إلى يومنا هذا ؟ لماذا إذن نطالبهم مرةً أخرى بدفع فاتورة الإبقاء المزعوم لـ"وحدة" ما تبقى من دولة السودان؟ لمصلحة من ستكون هذه الوحدة و ما هى الضمانات التى من شأنها ان تجعل من مثل هذه الوحدة هذه المرة شرطاً يعمل على خدمة مصالح جميع أهل السودان و يزيل مرارات و مظالم الماضى و الحاضر؟ نقول حتى تصبح وحدة السودان المزعومة ذات مصداقية تستحق التضحية من أجلها لابد لنا من الإجابة على هذه التساؤلات.

لا يمكن النظر إلى موقف " الكُرَةُ في مَلْعَبِ..." كخطاب بمعزل عن موقف "الإنتلجنسيا السودانية" فى التعامل مع قضايا السودان منذ قيام مؤتمر الخريجين و حتى يومنا هذا. و نحن هنا لا نفترض لهذه الفئة دوراً خارج نطاق مصالحها الذاتية و بالتالى لا ننظر إليها ككل و إنما كمجموعات تتنوع و تتقاطع مصالحها الطبقية و الفئوية و الجهوية مع المصالح الطبقية و الفئوية المحلية و الإقليمية و الدولية المختلفة. و لكن الشيئ الملاحظ و الذى يسم هذه الفئة على الدوام بصفة عامة هو إختيارها الطرق السهلة و الآمنة فى التغيير بدلاً عن إبتدار و المساهمة فى خلق أوضاع سياسية و حياتية من واقع السودان المُعقَّد تكفل لها و لغيرها حق الإختلاف و الإعلاء من قيم التسامح والحرية و الديمقراطية و حقوق الإنسان و المسئولية و المساءلة، إلخ إلخ. هذه الطرق السهلة تتمثل أما فى المشاركة فى الإنقلابات، أوتخطيط الإنقلابات، أو الدعوة إلى الإنقلاب.

و أخيراً و ليس آخراً نقول إن إرادة و قدرة الشعوب على التغيير ومسارات و أشكال و إتجاهات هذا التغيير يستحيل التنبؤ بها على نحو كلى و قاطع خاصة إذا كانت منطلقاتنا لا تعدو عن كونها ملاحظات عابرة أو إحباطات يومية. فالكثيرون منا لم يرد بخلدهم ابداً أن يأتى يوماً فى القريب الآجل يشهدون فيه نهوض الشعب المصرى ضد سلطة مركزية وُفِّرت لها كل أسباب البقاء و الخلود، أو الشعب الليبى ضد دكتاتورية العقيد.

محمد عثمان (دريج)
19 ابريل 2
013
الفاضل الهاشمي
مشاركات: 2281
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:14 pm

مشاركة بواسطة الفاضل الهاشمي »

برافو دريج على الكلام الماهل

ماخليت للمقاربة "فَرضَنْ ناقص" (كما تقول بت المدني)


عيني فى الفيل ما ضّلا / كِلْنا ندريه مانضِلا


يحتاج صفوتنا (فى جميع مؤسساتهم السياسية وغير السياسية) لإطار فكري وبنية مفهومية مفارقة (حتى لا أقول بنية ترسخ لقطيعة) حتى تفارق نمط التفكير السائد المهيمن المسئول عن الازمة ...
تطرح صفوتنا مالديها من داخل صندوق الأزمة والمركزية المزمنة ... لا اود ان أقول قطيعة لان تلك الشعوب انجبت كل شيئ ولكن سطوة المركز قتلتهم/ن مادياً ورمزياً؛ ولو قلت حسن الطاهر زروق كمثال سامق فى قلب مركزية الوسط لن اظلم البقية.

إعادة تعريف الوطن والدولة والتنمية وقيمة ود/بت ابن ادم والوحدة (وما قول "الوحدة الجاذبة" فى الخطاب المركزي الا رشوة او قل خمر جديدة فى قنان قديمة وصدئة)؛ إعادة التعريف ضرورية كحدود الدم والغبينة.


الكلام للصفوة (وهم كُثر) التى نقرأ لها يوماتي الطبطبة والكلام المغتغت وفاضي وخمج .. مافى صفوة من كِضِبْ بتقوّم بُنا (أى بناء)
The struggle over geography is complex and interesting because it is not only about soldiers and cannons but also about ideas, about forms, about images and imaginings
ادوارد سعيد "الثقافة والامبريالية 2004"
صورة العضو الرمزية
ãÍãÏ ÚËãÇä ÏÑíÌ
مشاركات: 267
اشترك في: الأحد مايو 22, 2005 9:57 am
مكان: كندا

مشاركة بواسطة ãÍãÏ ÚËãÇä ÏÑíÌ »

أيها الهاشمى
تحايا و شكراً على العبور من هنا
أنت تقول:

"إعادة تعريف الوطن والدولة والتنمية وقيمة ود/بت ابن ادم والوحدة (وما قول "الوحدة الجاذبة" فى الخطاب المركزي الا رشوة او قل خمر جديدة فى قنان قديمة وصدئة)؛ إعادة التعريف ضرورية كحدود الدم والغبينة."

و إضافة لهذا فقد لاحظت الحديث المكرور حول "قومية القوات المسلحة"، دكتور الواثق أيضاً أكد على هذه المقولة فى المقال. كنت أنتوى مناقشة الموضوع ولكنى أجلتها إلى وقت آخر. أنا هنا أدعوك و أدعو الكل للمفاكرة حول موضوع "قومية القوات المسلحة السودانية" وإلى حين عودة. و شكراً
صورة العضو الرمزية
عدنان زاهر
مشاركات: 287
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:52 pm

رد

مشاركة بواسطة عدنان زاهر »

سلام دريج

مقال ممتاز و عميق،لدى رجعة بعد أخذ فسحة من الوقت.

عدنان
محمد جمال الدين
مشاركات: 1839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:52 pm

مشاركة بواسطة محمد جمال الدين »

محمد عثماننا دراج المحن... تحياتي يا "سنيري" الرائع. هل تذكرني "مرتين"؟!.

امتعت غاية المتعة بالكلام وبالذات مقاربة كلام "أستاذنا الكمير" مع رؤية Thomas Hobbes

أنا مغرم برؤى هوبس والأكثر روعة عندي John Locke... عند أول زيارة لي لإنجلترا كان همي الأول الوقوف على قبريهما ما وجدتهما للتحية وإظهار المحبة و"شيل الفاتحة" ولقد قرأت "الحمدو" على روحيهما أول ما وطأت قدماي المطار المدعو "هيثرو". هما عندي أعظم ما أنجبت البشرية من أبنائها.

بعد... أنا الآن هنا لست لشي أكثر من التحية... ولك والله في القلب ذاكرة نيرة يا رجل.

محمد جمال
صورة العضو الرمزية
ãÍãÏ ÚËãÇä ÏÑíÌ
مشاركات: 267
اشترك في: الأحد مايو 22, 2005 9:57 am
مكان: كندا

مشاركة بواسطة ãÍãÏ ÚËãÇä ÏÑíÌ »

صديقنا عدنان:
شكراً على الطلة و فى إنتظار العودة متى ما سمحت ظروفكم بذلك



الصديق محمد جمال:
بالطبع.
و أيام القاهرة المجنونة لا تزل ماثلة بلحمها و عضمها.
شكراً على الطلة.

دريج
صدقي كبلو
مشاركات: 408
اشترك في: الأربعاء مايو 11, 2005 9:02 pm

مشاركة بواسطة صدقي كبلو »

[font=Arial]مقال ممتاز يا دريج
صورة العضو الرمزية
ãÍãÏ ÚËãÇä ÏÑíÌ
مشاركات: 267
اشترك في: الأحد مايو 22, 2005 9:57 am
مكان: كندا

مشاركة بواسطة ãÍãÏ ÚËãÇä ÏÑíÌ »

شكراً صدقى كبلو
صورة العضو الرمزية
مصطفى آدم
مشاركات: 1691
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 5:47 pm

مشاركة بواسطة مصطفى آدم »

ياها دي زاتا الممكن نقول عليها " في التنك " يا دريج !
ذكّرني صديقنا مسعود " قدّس الله سرِّه" أمس هاتفياً بعد الاطمئنان على أهلى و عشيرتي في أمروابة ، بأن قد "تحقّقت " توقعاتي من قبل ما يربو على ثلاثة سنوات : مدينتي الجميلة ستصير قريباً جداً التخوم الجنوبية لسودان "جنة مثلث حمدى" او تخاريف السودان النيلى/العربى/الإسلامى (Riverain/Arab/Muslim) أو (RAM) ... أها كلامي مشى و جا !
تحياتي !
صورة العضو الرمزية
ãÍãÏ ÚËãÇä ÏÑíÌ
مشاركات: 267
اشترك في: الأحد مايو 22, 2005 9:57 am
مكان: كندا

مشاركة بواسطة ãÍãÏ ÚËãÇä ÏÑíÌ »

الصديق مصطفى آدم:
شكراً جزيلاً،

و الغريب فى الأمر، كانت لفظة "سودانى" خلال الربع الأول من القرن العشرين إبان حركة اللواء الابيض و حتى ما بعد ذلك تُطلق على الأشخاص الذين كانوا يُعتبرو "مُنبتين عرقيُّا/قبليُّاً" (detribalized) للحط من مكانتهم الإجتماعية والثقافية. و لكن بقدرة قادر ـ بحسب الحكمة الأهلية ـ يستولى "السادة" على اللقب و يجردوا حامليه القُدامى ليس فقط على مستوى الخطاب و لكن على مستوى الجغرافيا فى محالة يائسة لجعل التوصيف "السودانى" بعد ذلك حكراً للمشمولين ضمن ذاك المثلث المزعوم.


مودتى
أضف رد جديد