البحث عن معنى الحياة: د. فاروق مُحمّد إبراهيم – الفصل الأول

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
عدلان عبد العزيز
مشاركات: 102
اشترك في: الخميس فبراير 02, 2006 6:52 pm

البحث عن معنى الحياة: د. فاروق مُحمّد إبراهيم – الفصل الأول

مشاركة بواسطة عدلان عبد العزيز »

صورة
د. فاروق مُحمّد إبراهيم

- تأهل د. فاروق محمد إبراهيم أكاديميا بالتخرج من كلية الزراعة بكلية الخرطوم الجامعية سنة 1955.
- نال الدكتوراه في علم النبات من الإمبريال كوليدج بجامعة لندن سنة 1963.
- عمل أخصائيا بهيئة البحوث الزراعية من 1955 إلى 1966. كما عمل بعدها أستاذا مشاركا بكلية العلوم جامعة الخرطوم.
- بعد فصله من جامعة الخرطوم لأسباب سياسية، عمل من 1973 إلى 1986 مديرا لمشروعات زراعية للفاو والبنك الدولي بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
- عاد إلى السودان بعد الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالديكتاتور جعفر نميري عام 1985 إلى وظيفته السابقة بجامعة الخرطوم، ثم تركها في العام 1991.بسبب عجز إدارة الجامعة عن طرح رسالته التي خاطبها به بصدد التعذيب الذي تعرض له في معتقلات بيوت الأشباح التي تديرها سلطة الإنقاذ، بسبب تدريسه مادة التطور، على مجلس الأساتذة.
- في مطلع العام 2012، أنتخب د. فاروق محمد إبراهيم منسقاً عاماً للهيئة السودانية للدفاع عن الحقوق والحريات ومازال يمارس نشاطه كمدافع صلد عن الحقوق والحريات في السودان.


يتمتع البروفسور فاروق محمد إبراهيم بذاكرة دار توثيق. ليس من موقِعِ الشاهدِ الموثقِ الأمين فحسب، بل كصانع أحداث، ومُشارك أصيل، مُسلح بضمير مُنزه عن عرض الدنيا ومتاعها، بل هو ضمير إيجابي مُنحاز لقيمِ العدلِ وحق الانسان في الحياةِ الكريمة، فحاشاه من السلبيةِ، وتلك سجيّة تُزين ضميره الواعي الحي، فلا تزييف باسمِ الحياد، حيثُ لا حياد أمام مظاهر الظُلم الاجتماعي.

أذن لي البروفسور فاروق محمد إبراهيم بنشر الفصل الأول من كتابِ سيرتهِ، فيا لها من سيرةِ نضالٍ ممتد لا يعرف الوهن، لأستاذ جامعي موسوعي المعرفة، خبير في دروب العمل السياسي والتنظيمي والنقابي وحقوق الانسان، صاحب رؤية واستقلالية في الفكرِ والرأي أدخلته في احتكاكاتٍ مع تيار الوثوقيّة المهتم باليومي الآني، فلم يفت في عضدهِ، ولم يفقد التركيز على الاستراتيجي المستقبلي في السعي نحو حركةٍ إنسانيةٍ كونيةٍ جوهرها كرامة الانسان وحقه في العيشِ الكريم.

على حلقات، سأعمل على بسط المادة التي وفرها أستاذنا الجليل، وآمل أن نستمد منها زاداً يلهمنا الأمل ويشد من عزائمنا، فالمسيرة ممتدة، وتبقى قيمة الانسان في عطاؤه، في لُقمة الجائع المُقتسمة مع الأكثر جوعاً، في ضرا الأم تحمي صغارها، تُمارس دور الأب المُحارِب أو المُهاجِر، تبحث في المخلاة فتجد تمرتين، تتصبر بواحدة لتحفظ الأخرى لغائب سيعود مع المغارب. فالجوهر هُنا روح العطاء، بما نستطيع إليه سبيلا. لذا لم يكن مستغرباً أن يجد د. فاروق في وفاءه لأصدقائه مدخلاً لمذكراته الشخصية، فهو ما عاش إلا مع الناس وبالناس. وتحت العنوان "في تذكر قريب الله محمد حامد الأنصاري (1934- 2013م)، وكجزء من السيرة الذاتية ل د. فاروق محمد ابراهيم (1931-أطال الله عمره) بدأ مساهمته بوصف لقاءه بالراحل د. قريب الله الأنصاري في مدينة الدويم العام 1951 في رحلة "البحث عن معنى الحياة"، فكتب:
"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ" آل عمران 159

We cannot always oblige but we can always speak obligingly - Voltaire
عدلان عبد العزيز
مشاركات: 102
اشترك في: الخميس فبراير 02, 2006 6:52 pm

الثورة الثورة، نظام شيوعي

مشاركة بواسطة عدلان عبد العزيز »


شذرات من:
البحث عن معنى الحياة
(سيرة ذاتية: فاروق محمد ابراهيم، 1931- )
في تذكر قريب الله محمد حامد الأنصاري (1934- 2013م)
الدويم، نوفمبر 1951م:

الثورة الثورة، نظام شيوعي
(1)


إلتقيت بقريب الله أول مرة في مدينته الدويم في الأسبوع الأخير من أكتوبر 1951م حينما كان طالبا بالسنة الثانية بمدرسة حنتوب الثانوية وكنت طالبا في السنة الثانية بمدرسة العلوم بكلية غردون التذكارية التي صارت كلية الخرطوم الجامعية ثم جامعة الخرطوم فيما بعد، وصرنا صديقين حميمين منذ اللقاء الأول. كان ذلك ببيت الأستاذ الريح السنهوري الذي ربما كان يسبقني بنفس المرحلة العمرية التي أسبق بها قريب الله. الأستاذ السنهوري، وبيته ايضا، كانا معلمين بارزين من معالم مدينة الدويم. فالبيت الذي يقع في الشارع الرئيسي أشبه ببيوت الإغريق، بلكونه مرتفعة كاشفة مزدانة بالدرابزين ذي الألوان الزاهية، ونظافة داخلية أوروبية المستوى. أي واحد من طلبة حنتوب الذين كانوا نوار دويم ذلك الزمان يقول لك "نلتقي في بيت الريح"، هكذا بلا موعد أو إذن من صاحب الدار، وبلا ألقاب. وما أن يلمحك أحدهم وأنت تقترب حتى يفتح الباب هاشا باشا، ويلحق الماء البارد من ثلاجة الجاز 3 قدم بكوب الشاي الساخن، وأحيانا بالإفطار الشهي إن لم تكن أفطرت، ثم يلتئم الأنس، السياسي عادة، خلال لعبة الوست. وبعد فترة تطول أو تقصر تلمح صاحب الدار قادما، وهو عازب، بقامته المديدة وجلبابه وعمامته ناصعتي البياض بعد مهمة قضاها في سوق المدينة، فيمنحك إحساسا حقيقيا أنه الضيف وأنك رب المنزل. كان مثقفا، سياسيا، اتحاديا، جعليا خلقة وخلقا، ويساري المنحى (على خفيف كما يقول صديقنا مصطفى خوجلي).

كانت محطتنا التالية – بمبادرة مني - مساء نفس اليوم في بيت مبارك الحاج الذي زرته حين وصولي بغية تقديم "أوراق الاعتماد"، فقد كان مسئول المدينة الحزبي بينما كنت في قيادة رابطة الطلبة الشيوعيين، وكلينا التقينا الشهر الماضي في أم درمان في مؤتمر الحزب الثاني (السري طبعا) الذي ضم عشرين شابا أو أكثر بقليل كان على رأسهم عبد الخالق محجوب. فرع الحزب بالدويم لم يكن يتعدى الزميل مبارك وربما ثلاثة أو أربعة آخرين، عدا المعلمين الشيوعيين الذين يجيئون لمعهد التربية ببخت الرضا ثم يذهبون، فيمنحون دعما وزخما للفرع. سألت قريب الله إن كان يعرف مبارك فرد باندهاش، كيف لا أعرف مبارك؟ الدويم كلها تعرف بعضها البعض، خصوصا مبارك الحداد وجلال الساعاتي، الشيوعيان الوحيدان في الدويم. كان مبارك صاحب ورشة حدادة يغشاها أحيانا طلاب وأساتذة كلية زراعه الخرطوم في زياراتهم الميدانية لمشاريع الإعاشة بالنيل الأبيض، كما فعلت دفعتنا بعد عام من ذلك التاريخ، للتعرف على تصنيع الآلات الزراعية التقليدية، فيسهب في الشرح. وبيت مبارك المبني بالجالوص كان واسعا رحيبا نظيفا تتناثر الأسرة الحديدية المفروشة بنظام في حوشه الكبير المرشوش دوما بالماء لزوم الترطيب، وزير الماء المغطى بالشاش الأبيض النظيف مع كوب الألمونيا، إن شئت المزيد من الترطيب. وقد تطابقت في مخيلتي صورة مبارك المفتول الجسم البارز العضلات القوي التقاطيع مع صورة ستاخانوف، رمز تصنيع الاتحاد السوفيتي، الذي طالعتنا صورته مع المطرقة والسندان في كل الأدبيات والمطبوعات السوفيتية.

ناقشنا الوضع السياسي الملتهب على صينية العشاء. فقد ألغى رئيس الوزراء المصري النحاس باشا تحت قبة البرلمان معاهدة 1936 واتفاقيتي 1899 اللتين تأسست بموجبهما الإدارة البريطانية للسودان، ما أفقدها الشرعية، ثم أعلن بمرسوم دستوري بتاريخ 8 اكتوبر1951 الفاروق "المفدى" ملكا على مصر والسودان. كان الحاكم العام يسعى وفقا لسياسته المعلنة تعديل دستور الجمعية التشريعية والمجلس التنفيذي لقيام حكم ذاتي مستقر يفضي لتقرير المصير ويقود لتعايش الشماليين مع الجنوبيين (والمناطق الأخرى الأقل تطورا)، والختمية مع الأنصار، وزعماء العشائر والإدارات الأهلية مع أهل المدن والطبقة المتعلمة التي خصصت لها مسودة الدستور دوائر برلمانية. وقد شارك في عضوية لجنة تعديل الدستور حزب الأمة الذي فاز اقتراحه بالحكم الذاتي في الجمعية التشريعية منتصف ديسمبر الماضي بأغلبية صوت واحد فقط (39 مقابل 38 صوتا) وكان يسعى لتحقيق الاستقلال بالتعاون مع الإدارة البريطانية بأسرع ما يمكن، وحزب زعماء العشائر وكبار الموظفين الشمال/جنوبيين (الجمهوري الاشتراكي) الذي عارض اقتراح حزب الأمة وكان يريد الحفاظ على الوضع الراهن لأطول ما يمكن، كما شارك فيها الاستقلاليون المستقلون ("الفرسان الثلاثة" محجوب وفضل بشير وأحمد يوسف هاشم الذين استقالوا من الجمعية التشريعية) وثلاثي الجبهة الوطنية "الختمية" ( القاضي الدرديري محمد عثمان والبكباشي خلف الله خالد وباشمهندس الأشغال ميرغني حمزة البلة) الذين قاطعوا الجمعية مع جبهة الكفاح لكن دخلوا لجنة تعديل الدستور وطالبوا مع الفرسان الثلاثة باتخاذ التدابير الانتقالية الفورية للاستقلال. وقد كان تأثير الإلغاء الأحادي للمعاهدة الغير ملزم وفق ما أعلن الحاكم العام أن دعا لاستعجال رفع توصيات اللجنة (وقد استقال عدد من أعضائها)، ولاستصدار تصريح من وزير الخارجية إيدن واعدا فيه بتحقيق الحكم الذاتي بنهاية العام 1952، ومؤيدا مساعيه لتمكين السودانيين من تقرير مصيرهم وفق الدستور الذي استعجل صدوره.

من ناحية ثانية فقد جاء إلغاء المعاهدة بينما جبهة الكفاح الوطني تعاني منذ منتصف يوليو انقساما حادا توالت إثره مراسم "إلى من يهمهم الأمر سلام" التي فصل أزهري رئيس حزب الأشقاء بموجبها سكرتير حزبه خضر عمر وأحل محله يحي الفضلي، وحل بوصفه رئيس مؤتمر الخريجين لجنته التنفيذية وأعاد تكوينها عبر الهيئة الستينية لكيما يقصي منسوبي وكيل الحزب محمد نورالدين. وبينما رد الوكيل بقرارات فصل حزبية معاكسة فقد أعلن أحمد خير وحسن أبوجبل وخضر عمر وآخرين من معارضي الأزهري (والأقرب لحستو) تأسيس مؤتمر السودان الذي فتح باب العضوية على مصراعيه لكل السودانيين. وشن أحمد خير، مؤسس مؤتمر الخريجين سنة 1938 ومؤسس اتحاد طلبة الكلية سنة 1941 (وتفسير هذه التواريخ التي يبدو وضعها مقلوبا يأتي لاحقا) هجوما عنيفا بدار الاتحاد على قيادة الأشقاء التي قال إنها استرخت وفسدت وانعزلت، وكان طبيعيا أن تطلعت جماهيرها للشباب والطلاب والقيادات العمالية الجسورة. ثم خاطبنا، وكان بيننا قادة نقابيون، قائلا: "أنتم تهزون شجرة الحرية وهم ينتظرون قطف الثمار". وارتأى نورالدين في تحلل أزهري من شعار وحدة وادي النيل تحت التاج المصري تقربا من الإدارة البريطانية وتمهيدا لمشاركة حزبه في التدرج الدستوري للاستقلال. وأثار حماس الجميع الطالب شيبون الذي ردد السؤال في كل مقطع من قصيدة ألقاها مبشرا بالطوفان الذي لن توقفه السجون: فهل ونى سلام، واستسلم الشفيع؟ والاثنان حكم عليهما بالسجن لاقتحامهما في يونيو الماضي قشلاق بوليس أم درمان لمناصرة جنود الشرطة الذين دخلوا إضرابا عاما لتحسين أوضاعهم والاعتراف باتحادهم العام. وفي كل مرة ردد فيها شيبون هذا المقطع وقف الجميع يصفقون ويرددون الهتاف: عاش سلام، وعاش الشفيع.

غير أن إلغاء المعاهدة قرب الفرقاء الذين ارتأوا فيه إنهاءاً لشرعية الحكم الثنائي. وقد كان لحستو والقادة النقابيين الدور الأكبر في التقارب الذي انتهى بتوقيع أزهري ونورالدين وحماد توفيق والدرديري أحمد إسمعيل وحسن الطاهر زروق نداء جبهة الكفاح الذي دعا جميع السودانيين للالتقاء لأجل إنهاء الحكم الثنائي وجلاء الإنجليز وقيام جمعية تأسيسية منتخبة انتخابا حرا تكفل لها جميع الضمانات، وأن يكون للأحزاب جميعها أن تخوض معركة انتخابات الجمعية التأسيسية، كل على أساس مبادئه.
ودخلت الإدارة الأمريكية أخيرا في الخط بمقترح ربط جلاء القوات البريطانية عن مصر والسودان بدخولهما في حلف للدفاع عن الشرق الأوسط (ممن؟)، ولو تطلب الأمر حرمان الشعب السوداني من حقه في تقرير مصيره، ما قبلته مبدئيا الخارجية البريطانية ثم تراجعت عنه تحت ضغط حكومة السودان التي كانت على قدر من الاستقلال جعل منها لاعبا "وطنيا أبويا" في الشأن السوداني. ذلك بينما أبدى السفير الأمريكي بالقاهرة كافري اندهاشه من اهتمام أولئك البريطانيين الزائد عن اللزوم بمصير 10 million bloody niggers لدرجة تعوق قيام حلف الدفاع عن "العالم الحر".

كان الطوفان الذي عبر عنه أحمد خير وشيبون، كل بطريقته، حقيقة كرسها إضراب البوليس وجسدتها جسارة سلام والشفيع. "الوادي ضجت، حنتوب احتجت".. وسكرت خورطقت. تلك لم تكن "أغاني بنات" خاوية وإنما كانت تعبيرا عن التعاطف الشعبي مع الحراك السياسي الطلابي المتصل. ولم يكن العمال والطلاب وحدهم في الميدان. أخبار حراك المزارعين من الجزيرة والشمالية (جوزيف راشد وتسعيرة مياه الري) إلى جبال النوبة والقضارف (الحالة صعبة، والحالة كعبة، والعيش كله، ما بغطي الجعبة) كانت على صفحات "الصراحة" وفي عناوين كل الصحف. حمزة الجاك يتولى قيادة اتحاد العمال بحنكة في غياب سلام والشفيع، وأزهري يقود بنفسه الهتاف بصوته الجهوري العميق في ليلة اتحاد العمال السياسية عقب إلغاء المعاهدة بدارالعمال أمام محطة الترماي الوسطى بالخرطوم: عاش سلام وعاش الشفيع. الأمين حاج الشيخ أبًو يشق صفوف الجمعية العمومية بمبنى اتحاد طلبة الكلية وهو يهتف محرضا للتظاهر: عري وجوع ففيم الخضوع، وعلي التوم يخطب محمولا على الأعناق، "الحرية شجرة تروى بالدماء". قادة حركة أنصار السلام يقدمون للمحاكمة تحت طائلة قانون الجمعيات غير المشروعة، فتدافع عنهم هيئة محامون برئاسة أحمد خير، ويتطوع لمساندتهم محامون من مصر وبريطانيا. الأندية الرياضية دخلت إضرابا عن الدوري لمطالب خاصة بإتحاد كرة القدم، والفنانون في إضراب مماثل لمطالب تتعلق بتصنيف هيئة الإذاعة للفنانين وتحديد مكافئاتهم، وتوليت شخصيا تنظيم ندوات ومؤتمرات لمناصرتهم من موقعي كرئيس لجمعية الزمالة الثقافية بالاتحاد. قاسم أمين يشد قراء الصراحة بمقالاته الرشيقة "عد إلى بلادك يا ديفيد نيومان"، مستشار النقابات الذي استدعته حكومة السودان إبان حكومة أتلي للترويج لمجالس "هوايتلي" التي رأى فيها قاسم تدجينا للحركة النقابية. لفيف من رائدات الحركة النسوية يعلن في ندوة بالاتحاد عن الخطوات النهائية لإعلان قيام الاتحاد النسائي، من بينهن خالدة زاهر وحاجة كاشف وعزيزة مكي وفاطمة طالب وسعاد الفاتح ومحاسن عبدالعال ونفيسة المليك ونفيسة أحمد الأمين. وفي بيوت "اللعبات" العرسان يرقصون/ يرقصن على أنغام "كنا ف أمان .. أيوة .. جوه ف بستان .. أيوة.. يا وسيلة تعال اسمعنا نغم النضال .. سافر" و "حمزة الجاك ثار.. نحن أنصاره.. وبشرى بي سلام ...عاد لعماله... والشفيع باكر.. يحطم اغلاله". و "الله لي كوريا.. يا شباب كوريا". لحن برعي محمد دفع الله "يا جنا الماوماو بحبك" يشق عنان سماء السودان. وحسن عطية يلهب الجمهور:

دقات الطبول، هتفت ليك تنادي
حرر السهول وامشي للبوادي
انت يا سعاد، وانت يا ثريا
نعلن الجهاد، ننشد الحرية
وهبي يا عديلة، قبلي سلاحي
طرزي العلم، ضمدي جراحي
وسعاد وثريا لسن من نسج الخيال، بل معلمات من طلائع الحركة النسوية، بنات عمنا محمد عمر "قلع الريد"، حفيدات عمدة توتي، وهن من حيشان أهلنا في أبروف وسوق الشجرة. والكل يتابعون استبسال الفدائيين في مدن قناة السويس ومآثر أمهات الشهداء، "أم جمال" و "أم صابر"، وأشعار كمال حليم الملتهبة:
ثورة في كورية
وجحيم وقتال
في بلاد نائية
ليتها حول القنال

مبارك قال بعد صمت أن العنصر النقابي والطلابي المنظم هو سبب الحراك السياسي في الخرطوم، وهو ما تفتقده الدويم، ثم وضع أمامنا حزمة جرائد قديمة سحبها من تحت المرتبة وذهب لإحضار الشاي، فلما عاد وجد قريب الله يقرأ بصوت مرتفع وصف الصحفي المشاغب صالح عرابي في صحيفته التلغراف لمظاهرة الجبهة الوطنية (التي أسمتها جبهة الكفاح جبهة التعديل) وقادها القاضي الدرديري محمد عثمان والبكباشي خلف الله خالد لمكتب السكرتير الإداري روبرتسون:
السيرة مرقت عصر
تعديلا
ولي دار ناس روبر
تعديلا
والقاضي غلبو الصبر
تعديلا
وهز فرع القطن
تعديلا

قال مبارك لقريب الله: مكانك أنت وأخوك حامد مع أهلكم العمراب الجزارين هنا، مش مع العمراب الحكام في الخرطوم، عشان ما "يسيروكم" معاهم. رد قريب الله: العمراب الجزارين هنا برضهم طبقات، مش حاجة واحدة، الجزارين الشرعيين والجزارين "كيري". جزارين اللحمة فوق وجزارين الكرشة تحت. ونحن أولاد الجزارين أدنى الطبقات. كتفي انهد من الطاولة وصوتي بح من المناداة في أزقة الدويم: طايوق، طايوق، طايوق. لكن برضه جمعنا ملاليم المصروف، وانا دلوقت بأعرف أي خالة وعمة وحبوبة في الدويم. إذن، قال مبارك، مكانك معنا في حزب الطبقة العاملة. لم يرد قريب الله، واستدرك مبارك بعد لحظة مخففا حدة التمييز الطبقي، ربما اعتبارا لشخصي، قائلا: إنما نحن في مرحلة نضال وطني، وأي بيت سوداني فيه العامل والتاجر والموظف. ودلف الحديث للحزب الجمهوري الاشتراكي، فقال مبارك دول حاجة تانية. قلت إن إبراهيم بدري مؤسس الحزب صديق حميم لوالدي، وأنه يتعامل معنا نحن الشباب بندية مدهشة. ويروى عن اندماجه في الجنوب والجنوبيين، وقد عمل زمنا طويلا إداريا فيه، أنه كان يلبس، (أو لا يلبس) مما يلبسون، ويأكل مما يأكلون، وتزوج ممن يتزوجون، واحتفل كما يحتفلون، وأنجب بينهم ابنيه شوقي والشنقيطي. كان مع والدي قبيل حضوري للدويم، وسمعته يقول إنه حصل على تصديق من مصلحة التموين باستيراد الكبريت أبو مفتاح (كبريت السلام) من تشيكوسلوفاكيا، فقلت بأدب جم وأنا أصب الماء على يديه بعد الغداء: نحن في معسكر واحد يا عم ابراهيم، فرد على الفور: انتظروا شوية واجيب ليكم النار من موسكو!
ضحك، ثم أنس، وكالعادة الغناء مسك الختام، فانتهينا ثلاثتنا نردد الأغنية الشعبية العجيبة التي انتشرت تلك الأيام كالحريق، ولا يعرف أحد من أين جاءت ومن ألفها ومن جاء بها:
أدونا حقوقنا، أدونا ادونا
يا الجننتونا، أدونا ادونا
مجلس تشريعي، سبب تصديعي
الثورة الثورة، نظام شيوعي
ستالين ابونا، ولينين أخونا
أدونا ادونا، يا الجننتونا
الثورة الثورة، نظام شيوعي

"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ" آل عمران 159

We cannot always oblige but we can always speak obligingly - Voltaire
عدلان عبد العزيز
مشاركات: 102
اشترك في: الخميس فبراير 02, 2006 6:52 pm

ذهب الجزيرة الأبيض

مشاركة بواسطة عدلان عبد العزيز »


محطتي الثالثة مع قريب الله كانت في الإفطار صباح اليوم التالي مع المهندس عبد القادر أحمد، عرفني به مبارك حينما جاء لغرض ما ونحن نهم بالخروج بعد العشاء والغناء. رجل مديد القامة، كالريح السنهوري وقريب الله ومبارك الحاج، وسيم الطلعة برغم الشلوخ الشايقية البارزة التي لولاها لكان شديد الشبه بكامل محجوب. وككامل محجوب، ربما كان يكبرني بعامين تلاتة. البيت القديم المكرنش المبني بالطوب الأحمر وسط بيوت الجالوص شبيه بقصور روم الخرطوم التي كانت تقع جنوب مجرى الترماي (وجناين الشاطي) وحيا الخليل فاتنتها زهرة روما. والغرفة التي أجلسنا فيها عبد القادر كانت مكتبا هندسيا رشيقا بكامل معدات الرسم والتشكيل. على الحائط علقت خرائط لنماذج تجريبية لسواقي تقليدية تديرها الثيران، لكن أكوازها المعدنية بحجم صفيحة البنزين (4 جالون) يسع الواحد منها مقدار عشرات القدور التقليدية من الماء، وقد راج استخدامها وسط صغار مزارعي القطن بالنيل الأبيض، بينما استحوذ "السيدان" وكبار التجار وقادة حزبي الأمة والجمهوري الاشتراكي على تصديقات مشروعات إنتاج القطن طويل التيلة بالمضخات الآلية الضخمة. على الجنب قطع تجريبية تتطابق مع التصاميم التي على الحائط، وعلى طاولة الرسم أوراق مبعثرة بمعادلات رياضية وحسابات دقيقة. سألت عبد القادر: لم أقابلك في جامعة الخرطوم، هل أنت من المعهد الفني؟ قال: لا هذا ولا ذاك، تخرجت من معهد السكة حديد. قلت، إذن تعرف الشفيع أحمد الشيخ، قال، دفعتي، وزميلي في قسم الرسم بعطبرة. ذلك كان موسم قطن 1950/1951 التاريخي الذي، بفضل الأمطار الاستثنائية السابقة للزراعة، والأسعار التي صعدتها الحرب الكورية، وببركة العام الأول للتأميم (ألم أقل إن حكومة السودان، وبالتحديد المستودع الفكري (think-tank) المشكل من نيوبولد وروبرتسون ومايال وبريدن وجيتسكل وهندرسون جعل من نفسه وصيا ولاعبا وطنيا أبويا سودانيا؟) حصل المزارع صاحب الحواشة ذات ال 10 أفدنة قطنا في مشروع الجزيرة في ذلك الموسم الاستثنائي على صافي دخل 800 جنيه مصري تقارب مرتب الوزير السنوي – عبد الرحمن علي طه مثلا. كما أن صافي نصيب حكومة السودان من الإنتاج (18 مليون جنيه) مضافا إليه ال 10 مليون جنيه التي حصلت عليها الحكومة كضريبة صادر القطن تجاوز كل ما أنفقته دولتا الحكم الثنائي، بدءا بال 400 ألف جنيه التي تكبدتها الخزينة المصرية لمد خط السكة حديد من عطبرة إلى الخرطوم بحري باعتباره جزءا من تكاليف الحملة العسكرية، مرورا بالهبات المصرية لدعم الميزانية وتأسيس المصالح الحكومية والمدن الجديدة من 1899 إلى 1912 التي بلغت جملتها مليونين وثمانمائة ألف جنيه مصري، ثم قدمات البنيات التحتية - من الخزينة المصرية أيضا - من 1900 إلى 1912، لمد خط السكة الحديد من عطبرة إلى بورتسودان، وتأسيس ميناء بورتسودان، وتشييد كبري الخرطوم بحري، ثم مد خط السكة حديد الخرطوم-مدني-سنار-كوستي- الأبيض (أليس السودان، إسميا على الأقل، تحت التاج المصري؟). ثم بالإضافة لهذه الهبات المصرية البالغ مجموعها ثمانية ملايين وستمائة ألف جنيه، قرض الخزينة البريطانية لإنشاء خزان سنار البالغ 13 مليون جنيه استرليني (سبق وتم تسديده عن دائر المليم). تأمل صادر القطن فقط يبلغ 54 مليون جنيه بينما كانت جملة صادرات السودان عند مطلع القرن العشرين، وكانت من الجلود والصمغ العربي وريش وبيض النعام، 35 ألف جنيه فقط. ذلك كان عام ذهب الجزيرة الأبيض الذي تضاءل أمامه ذهب السعودية الأسود. لكن دعك عن هذا الاسترسال، فقد جئت مع قريب الله لعبد القادر لتنظيم عمل ما يستنهض حركة مقاومة الإدارة البريطانية في السودان، أو على الأقل في الدويم، لا للتسبيح بحمدها، ولم نختلف طبعا.

محطتي الرابعة مع قريب الله كانت في الطريق إلى الأستاذ أحمد محمد سعد في معهد التربية ببخت الرضا نهار اليوم التالي، وقد قطعنا تلك الفيافي سيرا على الأقدام. بخت الرضا، حيث عمل جدي لأمي الشيخ ابراهيم عمر الفكي ابراهيم قرة العينين مدرسا للغة العربية والدين، وكان إماما للمسجد منذ تأسيس المعهد في منتصف ثلاثينات القرن الماضي لحين بلوغه سن الخامسة والخمسين في العام 1944 (التقاعد الرسمي فقط، لأنه عمليا لم يتقاعد حتى رحيله في العام 1981)، كانت جزءا من إرثي العائلي. فوظيفة أبي الموظف كثير التسفار كانت تضطرني وشقيقي عصام الدين للتنقل من وإلى كل مدارس أم درمان والسودان تقريبا (لم نكمل أكثر من فترة دراسية واحدة من التعليم الأولي في مدرسة واحدة)، مع الاحتفاظ ببخت الرضا دائما كخط مضمون للرجعة. ولا زالت لهفة التطلع للانتقال من السنة الأولى الأولية إلى الثانية ببخت الرضا، ومن العام الميلادي 1938 إلى العام 1939، والاندهاش الطفولي عند رؤية المدرس يكتب التاريخ 1-1-1939م على السبورة، ونفعل مثله في الكراسات، لا زالت محفورة في ذاكرتي. كذلك رمي بذور الذرة وسترها بالتراب وراء سَلوكة جدي أبراهيم في البلدات المطرية في الفضاء الممتد خارج بيتنا مباشرة. وكذلك حوض القطن وحوض الخضروات اللذين كنت أشترك في زراعتهما مع ابن فصلي أحمد يوسف هباني الذي لم أره ولم أسمع عنه منذ ذلك الزمن السحيق، لكن علق اسمه في ذاكرتي للتشابه مع اسم الصحفي أحمد يوسف هاشم، قريبنا وصديق والدي. كما ولا زال محفورا بذاكرتي اللقاء الأول بالأستاذ أحمد سعد الذي ارتبط بأحد أهم أحداث وشخصيات تاريخنا الوطني. ففي صباح الجمعة 22 مارس 1946 تجمعنا نحن طلبة الثانوية الحكومية الوحيدة التي "خرجت من جرابها وادي سيدنا وانبرت من عرينها حنتوب"، وهي شمس العلم التي عمرت نصف قرن ترعى الشباب وهي تشيب كما وصفها أستاذنا أحمد محمد صالح في قصيدته بمناسبة افتتاح قبة المهدي التي جدد بناؤها سنة 1948، خرجنا لوداع وفد السودان للمفاوضات المصرية البريطانية المتعلقة بالاتفاقية التي حضرنا للأستاذ أحمد سعد بصدد إلغائها. الزعيم إسمعيل الأزهري رمى آخر طبشيرة في حياته صباح الأربعاء 20 مارس وطفق يحدثنا عن مهمة الوفد، وفي رد على سؤال أبو بكر عثمان محمد صالح عن الموقف لو فشلت المفاوضات أجاب بذات الصوت الجهوري العميق:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
خطب في تجمعنا الوداعي طالب الأحفاد محمد أحمد قاسم بحماس، وألهب الجميع شاكر مرسال بعصمائه:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا خلاص ولا مردا
وإذا الشعب أراد أبراج السماء لما استردا
وصديقي الأديب أبوبكر عثمان أطلعني في الطريق إلى التجمع على نونية عصماء من ذوات “الفلقتين"، بولولة نائح الطلح "أشباه عوادينا" ورقرقة النيل "يرويهم ويروينا"، وكدت أحمله على كتفي، لكنه عدل عن إلقائها، ولا أظنه تعاطى الشعر جهرا بعد ذلك. وقد كشف لي لاحقا أنه أوشك على التورط في مخطط داعشي مع الحضري ومحمد أحمد قاسم ويوسف علي جادالله، من صنف التجربة التي راودت كامل محجوب وحكاها في تلك الأيام وهو طالب بالأحفاد قبيل التحاقه بحستو، لكن الله سلم. المهم، بعد الخطب والأشعار سار الجمع لمحطة سكة حديد الخرطوم، البعض على الترماي راكبا أو متشعبطا، والبعض الآخر سيرا على الأقدام. والمهم أيضا أن الأستاذ الأسود كمون الربع القامة ذي التقاطيع الغليظة والشلوخ الشايقية العريضة الذي يرتدي القميص والشورت والباتا والشراب الناصعة البياض، ذلك الذي حل محل الزعيم الأزهري مدرسا للرياضيات، لم يكن سوى أحمد سعد، الرجل الجميل الذي ما أن يبدأ المحاضرة أو يسترسل في الحديث إلا ويأسر كل العقول والقلوب. حقا إن الجمال، كما يقول المثل الإنجليزي، في أعين ناظره. ولم تكن لنا حصة رياضيات بعدها مع الأستاذ، لأننا أضربنا في الأسبوع التالي عن الدراسة تضامنا مع الطلبة المصريين الذين أطلقت عليهم حكومة صدقي باشا الرصاص في كوبري عباس بالقاهرة، تلك الحادثة الشهيرة التي كانت معلما لحركة اللجان الثورية للطلبة والعمال المصريين وكان من ضحاياها أحد الطلبة السودانيين، فسيرنا أول مظاهرة سياسية في مدينة أم درمان منذ ثورة 1924. الشعور بالكفاح المشترك مع الشعب المصري كان حقيقيا عطرته ذكرى المأمور المصري عبد الخالق العالقة بأذهان الأمدرمانيين، وجًسده تلاحم طلائع الطلاب السودانيين مع رصفائهم المصريين، والحقيقة التي لا مراء فيها أن السودان الحديث أشرف على بنائه البريطانيون من مال وكدح المصريين، ثم بعثة السنهوري السخية لمئات الطلاب الجامعيين السودانيين، والأساتذة المصريين في مختلف مراحل التعليم، كالنويهي وعبد العزيز إسحق الذين تفاعلوا تفاعلا فكريا عميقا مع الطلبة الجامعيين وغير الجامعيين، فحيا الله مستودع الثقافة مصرا.

دلفنا بالمظاهرة إلى نادي العمال في بداية شارع أبروف بالمحطة الوسطى، وحمل المستقبلون محجوب محمد عبد الرحمن على الأكتاف ليلهب المتظاهرين بكلمات كمال حليم:
أيها الشعب تمرد أفلا تبصر قبرك
ها هو الحفار قد أوشك أن ينهي أمرك
ها هو الخنجر في قبضة من مزق صدرك
موكب الأحرار أنصارك للسجن تحرك
فتحرك أنت يا شعب لكي تهدم قبرك
ثم التحمنا في داخلية مفي، المنزل المستأجر من السيد داوود الخليفة بحي العباسية لإيواء بعض طلبة الكلية، مع مظاهرة طلبة وادي سيدنا الذين جاءوا سيرا على الأقدام، فألقى قادتها أحمد محمد خير وعبد القيوم محمد سعد (شقيق الأستاذ الأصغر سنا) وآدم علي آدم أبوسنينة خطبا حماسية. هؤلاء أبرز الذين أسسوا الحركة السودانية للتحرر الوطني في النصف الثاني من ذلك العام وصاروا نواة مكتبها السياسي، التقفهم بعد الفصل من الدراسة "للصالح العام" الأستاذ عثمان أحمد عمر (عفان) معلمين في مدرسة الخرطوم الأهلية الوسطى التي كان ناظرها، وفي مجلته الشباب التي صارت أول منبر صحفي للحركة الوليدة. آسف للاسترسال، فلازلت مع قريب الله بمنزل الأستاذ أحمد سعد. المنزل من تصاميم مهندس الأشغال ميرغني حمزة البلة الشهيرة، type C، فعرفنا طريقنا في تراتب بيولوجي إلى المطبخ أولا، والمكتبة ثانيا. انغمست في كتاب إثمه Soviet Agro-biology يبسط نظريات الزراعي السوفيتي المثير للجدل ليسنكو التي كانت سبب التحاقي بكلية الزراعة، وكتبت عنها مقالا عنوانه "الجدل العلمي حول الوراثة" بطلب من عبدالخالق محجوب في مجلة حستو النظرية "الوعي" التي كان يحررها، وكان المقال محل اهتمام وحوار نظري كثيف (خروج جزئي من السياق الزمني: دار الحوار التالي بيني وبين ابن الدفعة الكروي الشعبوي جعفر محمد نميري في إحدى المقابلات النادرة أيام مايو الأولى: "أصدرنا قرارا من مجلس الوزراء بتعيينك وكيلا لوزارة الزراعة لكنك ذهبت لفاروق أبوعيسى في رئاسة مجلس الوزراء واعتذرت، ماذا تريد أن تفعل؟ قلت، أصدر مجلة فكرية سياسية شهرية، قال، ماذا تسميها؟ قلت: الوعي. قال، الوعي وبس؟ الوعي الاشتراكي أفضل. قلت، الوعي وبس. انتهى الحوار. ترى هل ومض شيء من هذا في ذهن ابن الدفعة عند مجابهته الشهيرة مع محرر "الوعي"؟). أعود لصلب الموضوع. رحبنا بالأستاذ الذي عاد بعد يوم عمل مضن، فرطبنا له بعصير الليمون المثلج، ورحب هو بدوره بالمشاركة برفقة أساتذة آخرين في الجمعية العمومية للآباء، وفي لقاء قادة الحركة الوطنية بالدويم.

هل أعتذر لهذه الاسترسالات التي ما انفكت تبعدني من قريب الله وصلب الموضوع إلا لتقربني إليه، فتنقلني من بيد من الذكريات إلى بيد أخرى، كنوق العباسي، "المدنياتي من رهطي ومن نفري، المبعداتي من أسري وتقييدي"؟ المهم أن الخيوط اكتملت لقريب الله، فنظم بنجاح كبير الاجتماع الذي انعقد في حوش مبارك الحاج وحضره إلى جانب الطلاب والآباء عدد من المدرسين كان على رأسهم الأساتيذ أحمد محمد سعد وأبو المعالي عبد الرحمن الأمين الضرير (من مؤسسي الحزب الشيوعي أيضا) فكان حدثا كبيرا. وسهل هذا النجاح مهمة المهندس عبد القادر الذي نظم بدوره اجتماعا للقوى الوطنية بمنزل الخليفة الحسن (وابنه سر الختم) الذي، عاشت الأسامي، كان من زعماء الطائفة الختمية بالتحديد، لا الأنصار بالتأكيد (برغم أن "السر"، كما كان يدعوه الجيلي الأنصاري ومكاوي خوجلي ومحمد عمر بشير وبقية أصدقائه ومحبيه الكثر الميامين، صار عديلا للسيد الصادق المهدي لاحقا). كان الخليفة الحسن من كبار تجار الدويم، وكان يعمل تحت راية "الجبهة الوطنية" السابق ذكرها. وبرغم تحفظ قيادة الجبهة الوطنية في الخرطوم على مراسم حكومة النحاس فقد أصدر اجتماعنا في الأسبوع الأول من نوفمبر بيانا تجاوز تلك التحفظات، معبرا عن رؤية الناشطين السياسيين بمدينة الدويم الداعية لخط جبهة الكفاح المشار إليه سابقا، وكان الخليفة الحسن على رأس الموقعين عليه.


نواصل ...
"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ" آل عمران 159

We cannot always oblige but we can always speak obligingly - Voltaire
عدلان عبد العزيز
مشاركات: 102
اشترك في: الخميس فبراير 02, 2006 6:52 pm

يا صلاح آه يا صلاح آه يا صلآ آآآآآآآآآح

مشاركة بواسطة عدلان عبد العزيز »



(2)
زارني صباح اليوم التالي قريب الله وشقيقه حامد الذي يكبره بعام أو عامين ويتقدم عليه دراسيا بمثله، وإن كان أقل منه حجما، وقالا بصوت واحد وبلا مقدمات أنهما وزملاؤهما طلبة حنتوب الذين شاركوا في الاجتماع بمنزل مبارك الحاج قرروا الانضمام للحزب الشيوعي. طبعا رحبت بذلك، خاصة وقد قربت بيننا كثيرا السهرة في بيت مبارك وما تلاها من مقابلات. قلت أن تنظيم الحزب الطلابي هو رابطة الطلبة الشيوعيين (ر.ط.ش) وله فرع في حنتوب، وأن الرابطة عادة تنتقي عضويتها من الناشطين في تنظيم مؤتمر الطلبة (م.ط.) السري، فقالا أنهم جميعا أعضاء ناشطون في م.ط. وعلى علاقة بأعضاء رطش الحنتوبيين، وأن لهما بالذات اهتماما مسبقا بالحركة الشيوعية، لأن شقيقهما الأكبر برير الطالب المعتقل بمصر منخرط فيها، وهما لهما رغبة أكيدة في دراسة الماركسية، وفي المزيد من المعرفة عن حستو وأهدافها ودورها في الحركة الوطنية، وعن الكلية وإن كانت ستصبح جامعة حقا، وعن اتحاد طلبتها وعلاقته بمؤتمر الطلبة، وعلاقة الإثنين بحستو. وقد امتدت تلك الجلسة لساعات كنت أكلمهم فيها أحيانا وأكلم نفسي أحيانا أخرى، وكانا مستمعين جيدين.

بدأت بكلية غردون التي كما نعلم أسسها كتشنر سنة 1902 بتبرعات جمعها من بريطانيا تخليدا لذكرى غردون فصارت بمبناها الحالي في الخرطوم أساس التعليم النظامي الحديث، وصار اسمها مقترنا بكل المؤسسات التعليمية. كانت البداية البديهية التعليم الأولي والأوسط الذي يقود للثانوي فالجامعي كما حادث الان. لكن لأن الإدارة البريطانية شبه العسكرية كانت تهدف لتلبية الاحتياجات الآنية للكوادر الإدارية والمهنية الوسيطة، خصوصا بعد ثورة 24 وإبعاد المصريين، فقد جعلت الثانوي مرحلة تدريب فني وإداري تحت إشراف المصالح الحكومية المعنية لتخريج المهندسين والقضاة والمعلمين والزراعيين والبياطرة والكتبة والمحاسبين وفق الطلب، وذلك في فترة أقصاها 5 سنوات، ومعهد السكة حديد الذي تخرج منه عبد القادر والشفيع خير مثال لذلك. لكن تغييرا جذريا تم في السياسة التعليمية في العام الذي وقعت فيه اتفاقية 1936. فمن ناحية نصت الاتفاقية على رفاهية السودانيين وتمكينهم من حكم أنفسهم، ومن ناحية ثانية عادت مصر للسودان، ما استدعى تأهيل السودانيين تفاديا لملء المصريين للوظائف الشاغرة، ومن ناحية ثالثة لإيجاد بديل لهجرة طلب التعليم الجامعي في مصر. كما وأنه بمرور الوقت فقد تغيّر الطاقم العسكري البريطاني الغازي بعناصر مدنية أكثر تفهما لرغبات السودانيين وطموحاتهم. نتيجة لذلك تقرر فصل القسم الثانوي عن المدارس العليا (الأقسام المهنية) ونقله لأمدرمان توطئة لتأسيس مدرستي وادي سيدنا وحنتوب اللتان تؤهلان التلاميذ لشهادتي كمبردج ولندن، كما تقرر تأسيس كليات بالمستوى الجامعي للهندسة والزراعة والبيطرة والآداب والعلوم والقانون. أما كلية الطب التي تأسست سنة 1924 تحت إدارة مختلفة وتبرعات بريطانية سخية أخرى لتخليد ذكرى كتشنر، فلم يتم إدراجها مع رصيفتها كلية غردون إلا سنة 1947 وذلك بوصفهما نواة جامعة الخرطوم، تحت الإشراف الأكاديمي لجامعة لندن وكإحدى كلياتها الجامعية.

في البدء كان معظم طلبة المدارس العليا من الموظفين. فكلية القانون التي تأسست بمكاتب المصلحة القضائية ضمت في دفعتها الأولى سنة 1935 ثمانية موظفين كان على رأسهم أبورنات ومحجوب وعتباني، وكان والدي من بينهم. وقد ضمت الدفعة الثانية التي انتقلت من القضائية لمباني الكلية سنة 1941 عددا مماثلا كان على رأسهم أحمد خير ومبارك زروق وبابكر عوض الله وعبد المجيد إمام، وهذا سبب المفارقة التاريخية أن أصبح مؤسسو مؤتمر الخريجين من "خريجي" العشرينات والثلاثينات مؤسسي اتحاد طلبة كلية غردون في مطلع الأربعينات. لكن لأن هؤلاء المؤسسين كانوا موظفين يتسبب نشاطهم السياسي لحرج المساءلة التربوية، ولأن مؤتمر الخريجين شكل المنفذ الطبيعي لنشاطهم السياسي، فقد تم تجميد الاتحاد لحين الهبة الوطنية سنة 1946 حينما برزت الأحزاب، ومن بينها حستو، في الساحة السياسية.

لقد تبلور اتحاد طلبة الكلية مع تفجر ذلك الحراك ومع تأسيس حستو وفي كنفها. فلجنة الاتحاد التنفيذية لسنة 1946 كانت بقيادة دفعة نهائي الطب الشهيرة التي كان على رأسها عبد القادر مشعال وعبدالقادر حسن إسحق وطه بعشر، من مؤسسي حستو، وهي التي قادت أول مظاهرة سياسية في الخرطوم منذ ثورة 1924 وألهمتنا في ثانويات أم درمان فعل نفس الشيء. ليس ذلك فحسب، بل إن أحد طلاب كلية الطب من مؤسسي حستو، مصطفى السيد، كلف بتشكيل فرع للحركة في عطبرة، وهو الذي جند قاسم أمين والشفيع أحمد الشيخ وإبراهيم زكريا وآخرين، فصار ذلك الفرع القلب النابض لهيئة شئون عمال السكة حديد التي قادت الحراك لأجل التنظيم النقابي وتحسين المرتبات وشروط الخدمة، وكان قانون العمل وتسجيل النقابات الذي حققته سنة 1948 أهم منجزات الحركة النقابية. ولحنة الاتحاد التالية (دورة 1947) التي قادت التضامن مع عمال السكة حديد في إضراب ال 33 يوم الشهير ودعمت مطلب التنظيم النقابي كانت برئاسة محمد سعيد معروف، ومن دفعته محمد محجوب سليمان شورة وعلي محمد خير في السودان وحسان محمد الأمين وعبد الرحمن عبد الرحيم الوسيلة ممن سافروا لمصر، وكلهم من مؤسسي حستو. واللجنة الثالثة برئاسة حسين عثمان وني وسكرتارية محمد عمر بشير واصلت دعم الحركة النقابية وقادت الحراك الطلابي ضمن جبهة الكفاح الوطني لمقاطعة انتخابات الجمعية التشريعية وكان من أبرز أعضائها عباس علي وعباس عبدالمجيد وفتحي المصري، كما كان من دفعتهم ممن التحقوا بالجامعات المصرية عبدالخالق محجوب والتجاني الطيب بابكر وعبدالغفار عبدالرحيم وعمر محمد ابراهيم والطيب أبراهيم محمد، وممن بقي بكلية الهندسة في الخرطوم مرتضى أحمد أبراهيم وجعفر ميرغني شكاك ويحي عبدالمجيد، وقبل كل هؤلاء خالدة زاهر بكلية الطب، وجميعهم كانوا من مؤسسي حستو. والدورة الرابعة (1949) التي تفرغت للتنظيم والنشاط الاجتماعي بعد أن أجيز قانون تسجيل النقابات، فنظمت المهرجان الطلابي الرياضي-الفني الأول بالكلية، وعقدت المؤتمر الأول للطلبة السودانيين، كانت برئاسة طالب نهائي الطب مصطفى السيد، وكان من دفعته ممن التحقوا بالجامعات المصرية عوض عبد الرازق (عاد سنة 1947 لتولي قيادة حستو) وأحمد سليمان والجنيد علي عمر وعلي محمد ابراهيم وجعفر كرار الذي فصل من نهائي البيطرة سنة 1948، ثم لحق بهم مصطفى السيد نفسه بعد فصله، وجميعهم كانوا من مؤسسي حستو. كذلك كان نائب رئيس تلك اللجنة الطاهر عبد الباسط، وسكرتيرها محجوب محمد صالح، وقد فصلا مع الرئيس بعد إضراب مؤتمر الطلبة، وخليفة خوجلي وعبد الوهاب محمد الشيخ وآخرين. واللجنة الخامسة كانت برئاسة محمد عبد الحليم محجوب الذي فصل سنة 1950 مع نائب سكرتير اللجنة سيد احمد نقد الله لتصديهم مع اتحاد نقابات عمال السودان لفصل 119 طالب من مدرسة خورطقت الثانوية، وكان من دفعته في مصر الحاج الطاهر أحمد وآخرين، كانوا جميعا من مؤسسي حستو. وقد طال الفصل من الدراسة بسب إضراب مؤتمر الطلبة قادة فرع حستو من أبناء دفعتنا الذين مثلوا وادي سيدنا في جلسة مؤتمر الطلبة الافتتاحية بالكلية، وعددهم 9 هم: طه محمد طه وأنور علي عثمان والأمين حاج الشيخ أبو وعبد الحليم عمر حسب الله ويوسف محمد علي (أول السودان في دفعتنا سنة 1945) ومحمد عبد الرحيم وشاكر السراج وأحمد عبد الحميد وزكي سر الختم (والأخير من الدفعة التي وراءنا). لكن أبناء دفعتنا من هؤلاء التحقوا بالكلية أو التحقوا بالجامعات المصرية معنا في نفس العام 1950، وذلك لحصولهم "من منازلهم" كما شاع التعبير بعد ذلك، على أفضل شهادات كمبردج للثانوية العامة.

لكن تغييرا أساسيا حدث في مطلع هذا العام (1951) تعود جذوره لتأسيس مؤتمر الطلبة في العام قبل الماضي وكانت نتيجته كسر احتكار حستو لقيادة الاتحاد، وهذا الحدث هو بروز حركة الأخوان المسلمين. فقد كان مندوبو الكلية وجميع مندوبي المدارس الثانوية من حستو، ما عدا مندوب حنتوب التي لم تصلها حستو بعد، ميرغني النصري. وقد أضربت الكلية وجميع الثانويات احتجاجا على حظر وزارة المعارف للمؤتمر، إلا حنتوب التي نقل النصري لطلبتها أن المؤتمر "تشتم منه رائحة الشيوعية". ولم تكن حاسة الشم وحدها السبب، إذ التحق بابكر كرار صديق ميرغني النصري الحميم بحستو في نفس الوقت الذي فعلت فيه مع زملائي الآخرين ذلك، لكن بينما ارتأينا في كتاب ستالين "المادية الديالكتيكية والتاريخية" كشفا عظيما لمغالق التاريخ والفكر الإنساني، فإن كرار لم ير فيه سوى الإلحاد، لذا غادر حستو وأسس "حركة التحرير الإسلامي" التي لم تكن في تقديرنا سوى واجهة لحركة الإخوان المسلمين المصرية. كان رفد وادي سيدنا من أبناء دفعتنا الأعضاء في حستو للكلية ذلك العام قويا (طه محمد طه، مسئول رابطة الطلبة الشيوعيين السياسي والأمين حاج الشيخ أبو، مسئولها التنظيمي وفاروق مصطفى المكاوي وآخرين من دفعتنا، كالطيب حسب الرسول. وكان فيها ممن سبقونا من أعضاء حستو، مرتضى أحمد أبراهيم وجعفر ميرغني شكاك ويحي عبد المجيد وعبد الله محمد أبراهيم ومحي الدين شورة وعبدالقادر حسين وهاشم عثمان والفاتح محجوب وآخرين). وكان رفد الأخوان لها قويا أيضا، ميرغني النصري وأحمد عبد الحميد من حنتوب، وأحمد الشيخ البشير من وادي سيدنا، إضافة لمؤسس الحركة الإسلامية بابكر كرار ومن معه من أبناء دفعته: محمد يوسف محمد والرشيد الطاهر و "مولانا" محمد أحمد محمد علي (شقيق رفيقنا يوسف محمد علي). وأدى هذا الانشطار لمعسكرين عقائديين قويين إلى بروز قوة ثالثة هم المستقلون، بزعامة النور علي سليمان. وعند أول مواجهة لهذه القوى حينما فصل 119 طالبا من مدرسة خورطقت في أكتوبر 1950 نال اقتراحنا بالإضراب 119 صوتا (واحد بواحد) وصوت ضده 126 طالبا هم كتلة الأخوان والمستقلين. وقد كان نتيجة انتخاب لجنة الاتحاد في مطلع هذا العام (1951) أن توزعت كراسي اللجنة التنفيذية العشر بين المعسكرات، فصار النور علي سليمان المستقل رئيسا للاتحاد، ينوب عنه الفاتح محجوب، كما صار بابكر كرار سكرتيرا للاتحاد. وسرعان ما أدى التوتر داخل اللجنة إلى استقالة الرئيس، فحل محله الفاتح محجوب. وقام الإخوان من موقعهم في الاتحاد بتبادل الزيارات ومباريات كرة القدم مع اتحاد طلبة جامعة فؤاد الأول (القاهرة) الذي كان يسيطر عليه الأخوان. وبينما تندرنا على خطاب وكيل اتحاد الطلاب الزائر، واسمه الفوال، مبشرا بالمجتمع الإسلامي حيث لكل أمرئ دابة يركبها وخادم يخدمه، فقد أدهشنا أن إخواننا السودانيين، بابكر كرار وميرغني النصري ورهطهم، كانوا أكثر نضجا ووعيا من رفاقهم المصريين. وقد أدى التوتر في اللجنة التنفيذية لتجميد نشاطها رسميا، لكننا واصلنا نشاطنا عبر جمعية الزمالة الثقافية التي كنت أتولى رئاستها ولم يطالها التجميد. وكانت عضوية طلبة الطب الذين نفذوا إضرابا منفردا تضامنا مع رئيس الاتحاد مصطفي السيد الذي فصل مع محجوب محمد صالح والطاهر عبد الباسط مجمدة، وذلك لأن الجمعية العمومية أسقطت اقتراحا بالإضراب العام.

آه، نسيت. صلاح بشرى عدلان بابكر الداير، من أهلنا محس توتي، دفعة محمد عبد الحليم محجوب ومن داخليتنا كتشنر بوادي سيدنا، طالب senior من عنبر عبد الحميد أبراهيم dusty ودفعته. والده، الفورمان بمدينة الحديد والنار عطبرة كان رئيس لجنة دار خريجي المدارس الصناعية التي تبنت اقتراح تأسيس هيئة شئون العمال في مطلع العام 1946. امتحن الشهادة الثانوية في ذات العام، ثم سافر لمصر لدراسة الطب على نفقة بعثة السنهوري. الشبل من ذاك الأسد. "صلاح أسمر من دمه، ثورة الشعب على من قتلوه"... مات تحت التعذيب بسجن ليمان طره بتاريخ 24 يناير 1950، وأرسلت حكومة ابراهيم عبد الهادي التي قتلته جثمانه بطائرة عسكرية لعطبرة التي خرجت عن بكرة أبيها لتشييعه. وألهب حماسة الجميع خطاب رفيق سجنه ودراسته الشيوعي المصري أحمد الرفاعي الذي أفرج عنه (مؤقتا) كي يرافق الجثمان، فندد بالنظام الملكي الرجعي الفاسد الذي قتل صلاح. تلك كانت حسابات ربح وخسارة شعار وحدة وادي النيل تحت التاج المصري، والاعتبار الخاص الذي كانت تعطيه الحكومات المصرية المتعاقبة لمولانا السيد علي الميرغني:
بين صخر وحديد، وأعاصير وسل
وجنود وسدود، قتلوا منا بطل
حسبوه سيساوم، حينما يدنو المصير
وجدوا حرا يقاوم، وهو في النزع الأخير
حسبوه مات ضاعا.... إنه يحيا بنا
إنه حين تداعى .. صاح يحيا حزبنا

صاح في وجه القضاة، لن تتموا المهزلة
فاستبدوا بحياتي، وأقيموا المقصلة
غير أني لن أساوم... لن أقول كلمة
يا شياطين المدافع! كيف صرتم محكمة؟
سجنوه، أمرضوه، أعدموه في اللمان
ثم عادوا، وجدوه، يحتوي كل مكان
في النشيد.. في الدموع
في الحقول في الرياح
في الشمال في الجنوب
في هتافات الجموع
في انتصارات الشعوب
يتغنى الثائرون
فلتعش ذكرى صلاح

فلتعش ذكرى صلاح ... رمز حزب وأمل
سوف نمضي في الكفاح .... لا نبالي لانمل
ليت من يبكي عليه، ويواسي الثائرين
مد للحزب يديه... كي نبيد الغاصبين
يا صلاح آه يا صلآح ... يا صلاح آه يا صلآح
ردد معي حامد وقريب الله مقاطع من النشيد، خصوصا الأخير، قالا إنهم ينشدونه أحيانا في خلوات م.ط. وفي أيامهم ولياليهم في الدويم، وأن كثيرين منهم يحفظون مقاطع من قصائد كمال حليم، يا ضارب الفأس مثلا. بدأ حامد يغني وأخذنا أنا وقريب نردد معه اللحن الحزين:
يا ضارب الفأس
في أرضنا السمراء
ماذا من الغرس
تجني سوى الإعياء؟
السيد المالك
يختال في عرس
وأنت كالهالك
في قبضة الفأس
أطفالك الخمسة
وجسمك المهدود
تمضون كالهمسة
تحيون مثل الدود
الدود في لين
تدوسه الأقدام
وأنت في الطين
تذوي مع الأيام
قريب قال إنه يحفظ الكثير أيضا، مثلا عيد ميلاد، وأخذ يردد بصوته الأجش، بانفعال وحدة متصاعدة:
ما حياتي إن أنا ضيعتها دون أن أبني بناءٌ للغد؟
أنا إن عشت وشعبي مرهق مستغل ثم لم أمدد يد
لصراع الظالم المستعبد، وصراع المستغل المعتد
فأنا لست بإنسان له عيد ميلاد ....... أنا لم أولد
عيد ميلادي الذي أذكره يوم كافحت وأحببت الكفاح
وتمشت في عروقي ثورة تنسف الظلم فتذروه الرياح
وتحسست جراحي وأنا في قيودي .. فتحملت الجراح

عيد ميلادي طيوف ووجوه وحديث وعيون وشفاه
وجه أمي الذي لم أره سنوات - وحنيني لأراه
وحديث ساذج مضطرب حينما تشرح لي معنى الحياة
ودموع من دم ترسلها حينما يذهلها بطش الطغاة
وجه فنان أخ - بسمته ترسل الرعب إلى من شردوه
وأخ غض صغير – حينما ثار في وجه الطغاة سجنوه
ورفيق عذبوه ليفوه – فأبى النطق – فعادوا عذبوه
وصلاح أسمر من دمه ثورة الشعب على من قتلوه

وعند ذكر صلاح في المقطع الأخير رفعنا عقيرتنا ثلاثتنا بانفعال أشد، فبلغت حماستنا الذروة:
يا صلاح آه يا صلاح آه يا صلآ آآآآآآآآآح
يا صلاح آه. يا صلاح آه. يا صلآ آآآآآآآآآآآآآآآآآآح.
توقفنا فجأة في اندهاش، فنحن مخترقون. سكينة وسعاد وعثمان يوسف كانوا متربصين في باب الصالون وهم يحملون صينية الشاي، ولما علا صوتنا بالمقطع الأخير دخلوا وشاركونا الإنشاد بصوت نسائي وطفولي شجي، كأوركسترا إذاعية. صبت لنا سكينة وسعاد الشاي وانصرفتا على استحياء، بينما جلس عثمان القرفصاء وسط الصالون صامتا لا يتزحزح، فواصلنا الحديث.



يتبع ...
"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ" آل عمران 159

We cannot always oblige but we can always speak obligingly - Voltaire
عدلان عبد العزيز
مشاركات: 102
اشترك في: الخميس فبراير 02, 2006 6:52 pm

الشيوعية حلم أم علم؟

مشاركة بواسطة عدلان عبد العزيز »


قال قريب الله أنهم يحفظون الكثير من الشعر الثوري ويحفلون به، لكن الاقتصاد هو الأهم لأنه محرك التاريخ، وهو مهتم بتحليل حستو السياسي المنبثق من زاوية الفكر والاقتصاد الماركسي، ويرغب في التخصص أكاديميا في علم الاقتصاد إذا ما أتيحت له الفرصة وتوفرت تلك الدراسة بكلية الخرطوم الجامعية. أما حامد فكان مهتما بالاقتصاد أيضا، لكن من وجهة عملية. أردف قريب الله: إنما المهم الآن التنظيم، وقبل كل شيء التنظيم. يا إلاهي، من يجند من؟ هؤلاء كادر حزبي جاهز تماما، وليس بحاجة لفترة ترشيح! مع ذلك أدمجت مسألة التدقيق في اختيار العضوية وضرورة فترة الترشيح (برغم أننا لم نكن حقيقة نتقيد بشكلياتها) مع أهداف ونظرية الحزب، وقلت بتأنٍ واختيارٍ دقيقٍ للكلمات:

إن حزبنا مختلف تماما عن الأحزاب الأخرى. فحزبا الأمة والجمهوري الاشتراكي يعبران عن مصالح أشباه الإقطاعيين أصحاب المشاريع الزراعية الكبيرة وزعماء العشائر وكبار رجال الدولة، بينما الأشقاء ورصفاؤهم في الأحزاب الاتحادية يعبرون عن مصالح البرجوازية النامية من التجار والطبقة الناشئة من الصناعيين ورجال الأعمال ومتوسطي المزارعين ومتوسطي موظفي جهاز الدولة. وأحزاب الطبقات المتملكة هذه تسير معنا بدرجات متفاوتة في النضال الوطني لتحقيق الاستقلال السياسي، سواء بارتباط بمصر أو بدون ذلك، ما يمكن أن يحسمه الاستفتاء الشعبي ويحدده الدستور على النهج الذي تم الاتفاق عليه. فإذا ما تحقق الاستقلال بهذا النهج السلمي، وهو في حكم المستحيل، فهذه الأحزاب ستواصل تحقيق المشروعات الطبقية الخاصة بها، يتغير حالها لكن يبقى الشعب على حاله. لذا فقيادة هذه الأحزاب لا تتوخى أكثر من مساندة العضوية وحشدها للتأييد الأجوف عطفا على الولاء الطائفي أو العشائري أو القبلي، الغوغائي أحيانا كثيرة. أما بالنسبة لنا في حستو فنحن حزب الطبقة العاملة، أو نسعى لأن نكون كذلك، تركيبا عضويا ووعيا اجتماعيا طبقيا. والوعي هو الأهم، خصوصا بالنسبة لنا في رابطة الطلبة الشيوعيين، لأننا لن نكون عمالا من الوجهة المهنية، لكننا ننتمي إلى الطبقة العاملة فكريا ومصيريا.

إن الحزب الشيوعي ليس حزبا فئويا كما يوحي خطأ تعبير حزب الطبقة العاملة. فالنظرية الماركسية وبرنامج الحركة الشيوعية العالمية – البيان الشيوعي - الذي طرحه ماركس وانجلز سنة 1848 يدعوان إلى تحقيق الاشتراكية بمنهج علمي يتطلب ملكية الدولة لكل وسائل الإنتاج والتمويل والتوزيع والاستهلاك. ذلك يقتضي قمع المقاومة المرتقبة من الطبقات المتملكة التي لن تقبل تصفية هيمنتها السياسية والاقتصادية بيسر، حتى ولو أتى التغيير بطريقة ديمقراطية وسلمية، ما أسماه كارل ماركس دكتاتورية البرولتاريا. وبتحقق الاشتراكية فالمجتمع يسير لتحقيق الوفرة حيث ينمو الإنتاج والمنتجون ونقترب من تحقيق الشيوعية، فينتفي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وتزول الأثرة ويسود الإيثار. حينئذ يستعيد الإنسان الذي هو معيار كل شيء الكمال المستلب منه، فترد لنفسه غربتها ويبدع كل فرد حسب قدرته ويكون لكل حسب حاجته، ومن ثم يتلاشى بتلاشي الطبقات جهاز الدولة الذي هو أداة القمع الطبقي. وليست الشيوعية نهاية التاريخ كما يبدو لأول وهلة، وإنما هي نهاية ما قبل التاريخ وبداية التاريخ الإنساني الحقيقي، كما قال ماركس. الاشتراكية والشيوعية ليستا غاية في ذاتهما وإنما هما وسيلة لتحقيق الحرية والإخاء والمساواة لكل إنسان في العالم، تلك الأهداف النبيلة التي طرحتها الثورة الفرنسية والثورات البرجوازية الأخرى لكن عجزت عن تحقيقها، فظلت تنتظر لحين انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا عام 1917. ذلك لأن الطبقة العاملة الواعية بوظيفتها الاجتماعية هي وحدها المؤهلة لريادة وتحرير الإنسانية بأكملها.

وبالانتصار العظيم للثورة في الصين وفي بلدان أوربا الشرقية صار العالم ينقسم إلى معسكرين، المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي وتقف إلى جانبه الأحزاب الشيوعية وحركة الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية وحركات التحرر الوطني وطليعتها الأحزاب الشيوعية، والمعسكر الرأسمالي، والاستعمار آخر مراحله، وتقف على رأسه الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وكل القوى الرجعية في العالم. إننا نحن، نحن الآن ندق أبواب التحرير النهائي للإنسانية. وإن المهمة البالغة التعقيد والأهمية المنوطة بنا لن تحققها أحزاب سياسية من طراز أحزاب الطبقات المتملكة، وإنما تتطلب حزبا من طراز جديد تمتلك عضويته الوعي بدورها التاريخي والكفاءة التنظيمية التي تمكنها من تحقيقه. إنه حزب للكادر النوعي القيادي الملتزم الذي يديره المحترفون الثوريون. وليس اعتباطا أن مجلة حستو السياسية اسمها "الكادر" ومجلتها النظرية اسمها "الوعي". ونحن نعقد اجتماعين أسبوعيين لعضوية فرع الحزب، أحدهما للدراسة النظرية والثاني للنشاط السياسي. ويتعين على كل عضو في الحزب أن يكون منضويا في فرع المجال الذي يعمل به أو يعيش فيه أو الإثنين معا، وأن يكون عضوا فاعلا في المنظمة الديمقراطية لذلك المجال، النقابة أو م.ط. مثلا. ويقوم تنظيم الحزب على مبدأ المركزية الديمقراطية التي تتطلب خضوع الهيئات الدنيا الواعي للهيئات للعليا والأقلية للأغلبية، ويتاح حق التصويت لكل الأعضاء على قدم المساواة. وتشترط اللائحة الالتزام باشتراك شهري بحد أدنى قدره 5% من دخل العضو، لأن مصدر تمويل الحزب الوحيد الذي يغطي مرتبات المتفرغين الثوريين وغير ذلك من المنصرفات هو اشتراكات وتبرعات أعضاء الحزب والعاطفين عليه. وهذا الالتزام الحزبي الصارم بكل وجوهه يستدعي، إضافة للتدقيق في اختيار العضوية، فترة ترشيح تتاح للمرشح فيها كل حقوق وواجبات العضوية باستثناء حق التصويت. وقد حددت اللائحة فترة الترشيح في رطش ب 6 أشهر، وللمرشح حق تثبيت العضوية إن أراد ووافق الفرع الذي يعمل فيه، أو الانسحاب في أي وقت يشاء.


عقب حامد مؤيدا الاتجاه العام لما ذكرت، خاصة فترة الترشيح، مرددا بالإنجليزية fair enough، لكن قريب الله قال إن الأمر لا يبدو بالنسبة له على هذه الدرجة من البساطة والوضوح، وتساءل بصراحة لكن بلا فظاظة: إذا أخذنا هذا الحديث من آخره: هل الشيوعية حلم أم علم؟ كم عدد القرون التي يستغرقها تغيير الطبيعة الإنسانية بحيث تزول الأثرة ويسود الإيثار؟ هل نعيش لنرى ذلك يحدث في زماننا؟ ونفس الشيء إذا أخذنا الحديث من أوله: هل ننال الحرية هكذا مجانا، بلا ثورة مسلحة كالمهدية ودون أن نحارب كما تحارب الشعوب الآن في كينيا وكوريا والملايو وفيتنام؟ هل كانت غاية الإنجليز، بعد أن تم لهم الانتقام لمقتل غردون، الوصاية علينا لضمان نشر الحضارة لمنفعتنا المشتركة وبما يستدعي الاطمئنان على توافقنا على الدستور الديمقراطي الذي ننشده وتأهُّلنا للحكم الذاتي الرشيد الذي يستوعب الكل، فإذا ما اطمأنوا لذلك ولزوال خطر فرض التاج المصري ضد إرادتنا، حزموا أمتعتهم وقالوا goodbye وغادروا بلادنا بطيب خاطر؟ لحسن الحظ لم ينتظر قريب الله إجابة على الأسئلة التي طرحها ولم أكن أملك لها ردا، وإنما استرسل قائلا على نفس المنوال:

أنا لا أعرف، لكن أريد أن أعرف. أريد أن أقرأ البيان الشيوعي ورأس المال، خصوصا رأس المال، وكل مؤلفات ماركس وانجلز ولينين وستالين وماوتسي تونق، وأريد أن أقرأ أفكار تروتسكي وتيتو والذين عارضوهم أيضا. أريد أن أعرف رأي الماركسية في الدين وهل هي حقيقة ضده؟ وأريد أن أدرس الفلسفة، خصوصا المادية الديالكتيكية، وأن أتخصص في الاقتصاد. لكن لأن الدراسة لا تكون في فراغ فقد اتخذنا أنا وحامد قرارنا المسبق أن نكون عضوين فاعلين في الحزب، ومن خلال المشاركة الفعلية والحوار، خاصة مع من هم أكثر منا دراية وخبرة، فإننا يمكن أن نعرف، ولهذا جئناك. ولم ينتظر مني قريب الله "قولة خير" وإنما دلف يستعرض أسماء الذين حضروا الاجتماع ببيت مبارك، متبادلا الرأي مع حامد عن قابلية كل واحد منهم للسير في الطريق إلى نهايته، ثم استقر رأيهما آخر الأمر على ترشيح كل من حسن التاج وعبد الرحيم همام، إضافة لشخصيهما. ثم وافقا على إضافة حسن محمد حامد باقتراح مني، لكن طلبا أن أتولى بنفسي تجنيده، فهو يسبقهما في الدراسة ويعتبر من الطلبة المتفوقين، وهذه أشياء لها اعتبار خاص. وباقتراح من قريب الله أيضا اتفقنا على برنامج تثقيفي إسعافي لمدة أسبوع.
"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ" آل عمران 159

We cannot always oblige but we can always speak obligingly - Voltaire
عدلان عبد العزيز
مشاركات: 102
اشترك في: الخميس فبراير 02, 2006 6:52 pm

التعليم الحزبي

مشاركة بواسطة عدلان عبد العزيز »


(3)

كان إعداد البرنامج الإسعافي، تخصصيّ الحزبي، ولم يقف انعدام المراجع عائقا في طريقي. فقد صادف أن أكملنا الدراسة الثانوية في العام الذي تقرر فيه تغيير السنة الدراسية لتبدأ بتاريخ 22 يوليو، عوضا عن أول يناير 1950، فوجدنا أنفسنا في عطلة امتدت لسبعة أشهر. وبينما سافر الكثير من رفاقنا للأقاليم أو التحقوا بوظائف مؤقتة، فقد كُلف طه محمد طه بالعمل على تنظيم المزارعين في منطقة شندي، والأمين حاج الشيخ أبو بالتفرغ المؤقت في منطقة عطبرة، وكانا الكادر الطلابي الأكثر تمرسا وخبرة. وكُلفت مع فاروق مصطفى المكاوي وصلاح شبيكة بالعمل في "المكتب الفني" بإشراف مسؤوله عباس علي الذي يعاونه جعفر أبو جبل، مسئول الاتصال السري. كانت مهمتنا نسخ كل مطبوعات الحزب بخط اليد توطئة لطباعتها بالرونيو، ما استدعى السرية المطلقة بحيث لا نكتب خطابات بأيدينا ولا نشارك في النشاط العام، وذلك بغية التأمين. الغريب أنني وفاروق المكاوي كلفنا في نفس الوقت بتأسيس رابطة الطلبة الشيوعيين تحت إشراف عباس عبد المجيد، الملقب عباس كرتون، ما يناقض السرية المطلقة التي فرضت علينا. وبعد قرابة شهرين بالمكتب الفني وجدنا نفسينا أنا وفاروق دون تدبير مسبق، في قيادة مظاهرة ضد الجمعية التشريعية، فاعتقلنا وقدمنا لمحكمة جنايات أم درمان التي كان والدي قاضيها. وبينما برأتنا المحكمة التي حل القاضي أحمد بدري محل والدي فيها، وذلك لعجز طاقم الاتهام بقيادة أبارو والكتيابي عن إثبات التهمة التي أنكرناها و"أثبتنا" عبر شهود "موثوقين" تواجدنا لحظة "الجريمة" في مكان آخر، فقد أدانتنا محكمة الحزب التي كان قاضيها أبراهيم زكريا، المسئول التنظيمي الجديد القادم لتوه من عطبرة، وحكم على كل منا بغرامة 75 قرشا واعتبار فترة الشهرين من المظاهرة حتى المحاكمة الحزبية إيقافا من عضوية الحزب، وطبعا الفصل من المكتب الفني، فتنفسنا الصعداء.

حل محلنا في المكتب الفني صلاح مازري ومهدي مصطفى الهادي، من الدفعة التي وراءنا بوادي سيدنا، وتفرغنا نحن الإثنين لمهمة تأسيس الرابطة، وكان ذلك في بداية عطلة المدارس الثانوية. وقد تطلب هذا التكليف الإعداد الفوري لبرنامج تثقيفي إسعافي لتدريس الماركسية في نفس الوقت الذي قمنا فيه بتجميع الشيوعيين في تلك المدارس وحثهم على التجنيد الفوري للطلائع والعناصر المبشرة التي كانت، كما في حالة قريب الله وحامد، تبحث عنا بنفس الدأب. كان هنالك من حنتوب شيبون وعبد الوهاب سليمان وصلاح أحمد ابراهيم وفاروق أبوعيسى (ولاحقا محمد ابراهيم نقد) وفيصل كبيدة وعلي التوم ومحي الدين عووضة ومحمد بشير محمد وآخرين، ومن وادي سيدنا، أقوى وأكثر الفروع استقرارا، عوض مختار وصديق يوسف ومبارك بابكر الريح وجعفر محمد صالح وأبوزيد محمد صالح وعبدالرحمن علي وعثمان سيد احمد اسمعيل وموسى المبارك الحسن وعيسى حسين وكرن وجواري ومصطفى خوجلى وكمال حسين وكثيرين آخرين، ومن خور طقت بابكر النور والسر حيمورة وآخرين، ومن الأحفاد محمد أحمد سليمان وآخرين (من هؤلاء الآخرين صلاح احمد ابراهيم وفيصل كبيدة وفاروق أبوعيسى الذين فصلوا سياسيا من حنتوب قبل إكمال عامهم الأول فاستوعبتهم الأحفاد)، ومن الأهلية زين العابدين عبدالوهاب ومعاوية سورج ومحمد محجوب عثمان ومأمون كنون وخليل نديم ومبارك حسن الخليفة وآخرين، ومن مدرسة فاروق بالخرطوم عكرمة وبدرالدين سليمان وحامد المك وزهير علي نور وأخرين.

تبلور البرنامج التثقيفي الذي وضعناه حول الكبسولة المعرفية الماركسية التي وردت في كتاب ستالين، "المادية الديالكتيكية والتاريخية" والتي، لكثر التأمل وتقليب الفكر، حفظناها عن ظهر قلب:

"يمكن صياغة الرؤية التي، حالما تملكتها، صارت الخيط الذي ربط وقاد كل دراساتي، كالتالي: يتحتم على الناس في الإنتاج الاجتماعي لوجودهم أن يدخلوا في علاقات محددة مستقلة عن إرادتهم، وهي بالتحديد علاقات الإنتاج التي تكون بالضرورة ملائمة للمستوى المعين الذي بلغه تطور قوى إنتاج حاجياتهم المادية. وتشكل قوى الإنتاج هذه في مجموعها البنية الاقتصادية للمجتمع، الأساس الحقيقي الذي تنشأ عليه البنية القانونية والسياسية الفوقية، والتي تتوافق معها أشكال معينة للوعي الاجتماعي. ويكيف نمط إنتاج الحياة المادية مسار الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية. فليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم وإنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم. وتشتبك القوى المادية للإنتاج في المجتمع في مرحلة معينة من تطورها في تناقض مع علاقات الإنتاج القائمة، أو – ما يعبر عن نفس الشيء بمصطلحات قانونية – مع علاقات الملكية التي ظلت تعمل في إطارها. وتتحول هذه العلاقات من أشكال تنامي لقوى الإنتاج إلى قيود تكبلها. حينئذ يحل عصر الثورة الاجتماعية. وتقود التغييرات في الأساس الاقتصادي إن عاجلا أو آجلا إلى تحول مهول لمجمل البنية الفوقية. بخطوط عريضة فإن أنماط الإنتاج الآسيوية والقديمة والإقطاعية والبرجوازية الحديثة يمكن أن تصنف كمعالم مميزة للتقدم في النمو الاقتصادي. ويعتبر النمط البرجوازي للإنتاج الشكل التناقضي الأخير للمسار الاجتماعي للإنتاج – تناقضي لا بمعنى التضاد الشخصي وإنما التناقض الذي ينشأ من الشروط الاجتماعية لوجود الفرد – غير أن قوى الإنتاج المتنامية داخل المجتمع البرجوازي تخلق الظروف المادية لإنهاء هذا التناقض. لذلك فإن هذه التشكيلة الاجتماعية تجلب، بنهايتها، نهاية حقبة ما قبل التاريخ الإنساني".

وقياسا على هذه الكبسولة استنبطنا خمسة محاضرات أساسية، فحواها كالتالي:
أولا، المادية الديالكتيكية والتاريخية: إن ماركس يتبنى فلسفيا ثلاثية الديالكتيك الهيجلي، صراع "الطريحة" و"النقيضة" الذي يقود إلى "الجميعة" thesis-antithesis-synthesis بوصفه قانون حركة الطبيعة والمجتمعات الإنسانية. لكن خلافا لرؤية هيجل الذي يضع "الروح" مصدرا لحركة التاريخ، قالبا صورة الصراع رأسا على عقب، فإن ماركس يستعدل تلك الصورة بوضع "الإنتاج الاجتماعي لوجود الناس" محل الروح. فليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي وإنما العكس هو الصحيح، أن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم. وينسب ماركس التغيير الاجتماعي الناجم عن صراع الإنسان ضد الطبيعة المؤسس على العمل إلى التناقض بين قوى الإنتاج والتنظيم الاجتماعي القائم في المجتمع. فحينما يعوق نمط الإنتاج أو التنظيم الاجتماعي قوى الإنتاج المتطورة دوما لمجتمع ما عوضا عن تنميتها فإن المجتمع، لكيلا ينهار، ينتقي أشكالا جديدة للإنتاج توائم الطاقم الجديد لقوى الإنتاج وينميها. وإن صراع الإنسان ضد الطبيعة هو السمة المميزة للتاريخ الإنساني بمجمله. وفي لحظة معينة قريبة من التاريخ الإنساني يمكن أن ينمي الإنسان المصادر الإنتاجية للطبيعة للدرجة التي ينحل فيها التناقض بين الإنسان والطبيعة. حينئذ تنتهي حقبة ما قبل التاريخ وتحل حقبة التاريخ الإنساني الحقيقي، ما يسميه ماركس الشيوعية التي ينتهي عندها استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ويكون من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته. وعند نهاية هذه المحاضرة يتم توفير كتاب ستالين بالعنوان أعلاه مترجما للعربية، وهو يلخص هذه الرؤية في أربعة مبادئ للديالكتيك، هي "قوانين" الكل المترابط المتطور، وقانون التناقض الكامن في الطبيعة والمجتمع، وقانون التغيير الكمي الذي يقود إلى التغيير النوعي، وأخيرا قانون نفي النفي الذي يقود فيه صراع الأضداد، الطريحة والنقيضة، إلى الجميعة التي هي تركيب جديد يقود لمرحلة تطورية لولبية جديدة ذات مستوى أرقى. وبتطبيق هذه المبادئ على المجتمع يبلور ستالين رؤية ماركس في خمس تشكيلات اجتماعية يقود فيها الصراع ضد الطبيعة إلى أنماط الإنتاج المميزة للشيوعية البدائية فالعبودية و/أو ما أسماه ماركس نمط الإنتاج الآسيوي، فالإقطاع الذي ينتهي بدوره، سواء نتيجة للتطور الداخلي في رحم الإقطاع كما حدث في بريطانيا او عن طريق التفاعل مع نمط الإنتاج الرأسمالي الوافد كما في حالات أخرى، إلى التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية. ويقود التناقض في رحم المجتمع الرأسمالي العالمي، والاستعمار آخر مراحله، إلى بلورة التشكيلة الاشتراكية التي تفضي بدورها للشيوعية. ويتم عند نهاية المحاضرة توفير كتاب ستالين، المادية الديالكتيكية والتاريخية، وهو ليس عصيا على الفهم وإنما العكس، إذ كنا نلتهمه التهاما، بسبب الفكرة القاهرة وبسبب أسلوب ستالين التبسيطي المدرسي. كذلك كنا نوفر لمن يبلغون مستوى أعلى من شغف المعرفة كتيب فردريك انجلز "دور العمل في التحول التطوري من قرد لإنسان"، وقد كتبه انجلز في وقت لم تتبلور فيه النظرية الداروينية تماما، كما كان يتطلب قدرا من المعرفة بعلوم الحياة لم تتوفر لنا، وهذا كان مكمن صعوبته.

ثانيا، الاقتصاد الماركسي: وتنطلق هذه المحاضرة من نظرية ماركس لقيمة السلعة التبادلية القائمة على كمية العمل الاجتماعي المجرد المبذول فيها، والتي تشمل قوة عمل العامل التي يتم تبادلها، كغيرها من السلع، بتكلفة إنتاجها، أي الأجر الذي يضمن للعامل الحد الأدنى من المعيشة. لكن إسهام قوة العمل للإنتاج يتشكل من جزئين، ساعات العمل الضروري المعادل للأجر الذي يكفي لمقابلة الحد الأدنى لمعيشة العامل، والساعات التي لا يتلقى العامل أجرا لها، وهي الفائض الاقتصادي الذي هو مصدر الربح في النظام الرأسمالي. ولأن دورة الإنتاج الرأسمالي التي تستند إلى حرية التعاقد بين الرأسمالي الذي يملك وسائل الإنتاج والعامل الذي يبيع قوة عمله تزيد من وتيرة تجريد العمل وتراكم راس المال، فإنها تزيد من استغلال وتغريب العامل، هذا التناقض الذي لا يمكن حله إلا "بنفي" نظام حرية التعاقد الرأسمالي التي تنطوي على نقيضها، أي بإلغاء النظام الرأسمالي وإحلال النظام الاشتراكي الذي تستولي فيه الدولة على كل وسائل الإنتاج والتوزيع والاستهلاك. وتستند هذه المحاضرة إلى كتاب "القيمة والربح والثمن" المقتبس من رأس المال، ومحاضرة لماركس وانجلز بعنوان "رأس المال والعمل المأجور". ويتم توفير الكتابين للمرشحين في وقت لاحق، وهما ليسا عصيان على فهم الطالب أو العامل المستنير في ذلك الوقت.

ثالثا، المسألة الوطنية وقضية المستعمرات: وهذه المحاضرة تبدأ بتعريف ستالين للأمة بعناصر التكوين النفسي والتاريخي وعوامل الأرض واللغة المشتركة لمجموعة من السكان، ثم التركيز على دور البرجوازية الوطنية والسوق الوطنية في نشأة وتطور القوميات الحديثة وقضايا الاستعمار والقهر القومي وحق تقرير المصير. ويخلص الكتاب إلى تحليل التحالف الطبقي في الصراع القومي، وضرورة قيادة الطبقة العاملة للثورات الديمقراطية التي يرتبط مستقبلها بالثورة الاشتراكية والمعسكر الاشتراكي. وقد ظهرت في تلك الفترة كتيبات ماوتسي تونق عن الديمقراطية الجديدة وعن الثورة الصينية والحزب الشيوعي الصيني فكرست هذه الرؤية وصارت مكونا أساسيا للبرنامج التثقيفي الحزبي.

رابعا، البيان الشيوعي: وهذا الكتاب البرنامجي التاريخي الذي يبدأ بالعبارة الذائعة الصيت، "هنالك شبح يخيم على أوربا، شبح الشيوعية" وينتهي بالعبارة الأكثر ذيوعا "يا عمال العالم اتحدوا، تكسبوا عالما بأسره، ولن تفقدوا سوى أغلالكم"، كتبه ماركس وانجلز إبان الثورات الأوربية في العام 1848 وطرحا فيه الأفكار الأساسية للصراع الطبقي والثورة الاشتراكية التي تفضي للاشتراكية فالشيوعية وتحسم صراع الإنسان ضد الطبيعة بإنهاء حقبة ما قبل التاريخ الإنساني الذي حكمته الضرورة، وتبشر ببداية التاريخ الإنساني الحقيقي الذي تحكمه الحرية.

وختاما اللائحة التي توضح مبادئ تنظيم "الحزب من نوع جديد" السابق ذكرها.
كان هذا برنامج التثقيف الماركسي الذي وضعناه في مكتب التثقيف الحزبي الذي كنا نسميه "مكتب الدعاية" وأشرفت على تنفيذه بوصفي مسؤول ذلك المكتب في رابطة الطلبة الشيوعيين، وذلك عبر مدارس الكادر والاجتماعات الثقافية الأسبوعية، وهو نفس البرنامج الإسعافي الذي استقبلته واستوعبته وحدة المرشحين المشكلة من قريب الله وحامد وحسن التاج وهمام وحسن محمد حامد في ذلك الأسبوع من نوفمبر سنة 1951، ونفس البرنامج تقريبا الذي وضعه "مكتب الدعاية المركزي" للحزب ككل. وسواء كان المرشحون عمالا من عطبرة والخرطوم بحري، أو مزارعين من الجزيرة والشمالية، ذكورا أو إناثا، شماليين أو جنوبيين، من الشرق أو الغرب، فقد اكتسب غالبيتهم الرؤية التي صقلتها التجربة النضالية المشتركة فجعلت منهم أشخاصا جديدين، وهي ذات الرؤية التي منحت الحزب الشيوعي وجوده وتميزه واستمراريته.


يتبع ...
"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ" آل عمران 159

We cannot always oblige but we can always speak obligingly - Voltaire
عدلان عبد العزيز
مشاركات: 102
اشترك في: الخميس فبراير 02, 2006 6:52 pm

طلاب السنة الثانية كلية العلوم، قسم الحيوان، ديسمبر 1951

مشاركة بواسطة عدلان عبد العزيز »

صورة

طلاب السنة الثانية بكلية العلوم في مدرج قسم الحيوان، ديسمبر 1951، بعد عودة د. فاروق محمد إبراهيم من الدويم مباشرة. يظهر في وسط الصورة فاروق مصطفى المكاوي، وعلى يمينه د. فاروق محمد إبراهيم


يتبع ...
"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ" آل عمران 159

We cannot always oblige but we can always speak obligingly - Voltaire
عدلان عبد العزيز
مشاركات: 102
اشترك في: الخميس فبراير 02, 2006 6:52 pm

Zoom in

مشاركة بواسطة عدلان عبد العزيز »

صورة
"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ" آل عمران 159

We cannot always oblige but we can always speak obligingly - Voltaire
عدلان عبد العزيز
مشاركات: 102
اشترك في: الخميس فبراير 02, 2006 6:52 pm

شيبون .. الهوس الديني .. محمود محمد طه

مشاركة بواسطة عدلان عبد العزيز »


(4)

امتدت إحدى جلساتنا على شاطئ النيل الأبيض قرب مرسى الدويم مساء أحد تلك الأيام بصحبة الأستاذ أحمد سعد والأستاذ أبو المعالي عبد الرحمن، فتناولنا عشاءً شهيا من سمك البلطي، أتبعته بكوبين كبيرين من ال becks beer البارد حجم stolen from the G.B.، وهذا جانب من العجرفة والبلاهة الاستعمارية لا يتسع المجال للاسترسال فيه. وربما كانت هذه وموبقات أخرى أخطر شأنا لم يحظرها القانون بمثابة طقوس الانتقال من مرحلة الدراسة الثانوية إلى الجامعة، ولبلوغ مرحلة الرجولة. وكما كتب ادوارد عطية في روايته الإنجليزية الشيقة Black Vanguard وكان مدرسا للأدب الإنجليزي بكلية غردون قبل أن يلتحق بالمخابرات، وهي قصة شاب شاعر من بيت المهدي ابتعثه والده إلى Ixford (كما كان ينطقها والده)، والرواية ربما كانت إحدى المصادر التي استقى منها الطيب صالح شخصية مصطفى سعيد، ألمح عطية فيها إلى أن بعض الآباء يبدو عليهم الانزعاج "سرا" إذا ما لاحظوا شذوذ أبنائهم عن هذه القاعدة. وقد لاحظ الأستاذ أحمد حينما انفض السامر أنني كنت متهيبا الذهاب للبيت، وكنت أسكن مع عمي الشيخ يوسف ابراهيم النور قاضي شرعي مدينة الدويم الذي لم يكن بيته بعيدا عن المرسى، وذلك خشية أن يشتم "تلك الرائحة". وبينما ابتعد أبوالمعالي (وهو قريبي) فقد رافقني الأستاذ أحمد حتى إذا ما سمع خطوات القادم لفتح الباب ابتعد هو الآخر ليلحق بأبي المعالي، قائلا بفكاهته المعهودة "لا تحزن، إن الله معنا".

ولا بد أن أحمد وأبو المعالي ظنا بي الظنون وأنا أعانق الذي فتح الباب وأحادثه بصوت مرتفع، فمضيا في سبيلهما. لكن الذي فتح الباب لم يكن عمي يوسف، بل صديقي ورفيقي محمد عبد الرحمن شيبون. وصفت له الطريق للدار عند مغادرة داخلية النيل الأبيض بعد أن أغلقت الكلية وقال إنه سيمر بالدويم بطريق البر في رحلته لأبي زبد، ولا أذكر كيف ولم اختار طريق شيكان لكردفان. وصل في المغرب، وبدلا من الحضور للبيت دلف لباحة المولد واحتسى "بوظة" حتى ارتوى، وأكل كوارع حتى شبع، وانتظم في حلقة ذكر حتى أفنى نفسه فيها، ثم اهتدى للبيت، وكان ذلك عقب صلاة العشاء، ففتح له عمي يوسف الباب وكعادته مع كل زائر دردش قليلا، ثم تركه جالسا بالكنبة في فرندة الصالون وذهب لينام. اندهش شيبون حين سألته بسذاجة، هل هذه الأشياء موجودة في "المولد"؟ فأجاب ضاحكا: أنتم لا تعرفون شيئا ولا تزورون في المولد إلا "خيمة الحكومة" وبائعي الحلوى وعرائس الأطفال. وحينما اتجهت لسريري لأنام طلب مني ورقة وقلم، ثم أشار "لصينية" بها كورة لبن وسُكرية وملعقة وقطعة خبز وقال: "خذ معك غذاء القطط هذا، فإني أرى إحداها تحوم حوله". استيقظت في الصباح وكان البرد قارصا، وكان شيبون يغط في نوم عميق في الكنبة التي تركه فيها عمي يوسف، ملتحفا الملاية بينما السرير والغطاء بجانبه. وجدت كذلك قصيدة طويلة خطها في كراس عثمان يوسف المدرسي ووضعها محل "غذاء القطط"، ثم نشرها لاحقا في "الصراحة"، أذكر منها:
جاءت تساءل من أنا شأن البريء الحائر
فأجبتها أنا مثلكم في مخبري ومظهاري
لكن أنا لو تعلمين عدو وضع جائر
شعبي حياتي والكفاح مآثري
أنا ثائر متمرد وربيب شعب ثائر
كانت بثينة طفلة تهوى العناق ودفئه "المتكاثر؟"
عبثا أحدثها أن ..
عبثا أقول لها أن ...
صدري وصدرك للرصاص...إلخ إلخ

عدت وعاد معي قريب الله آخر النهار، وعاد أيضا عمي يوسف ومعه كاتب المحكمة الجديد كرن الذي عرف بوجودنا، ومعهما شيخان غاضبان من أهالي الدويم، وكان شيبون في استقبالنا. دار الحديث أثناء الغداء حول أحداث مدرسة الدويم الريفية الوسطى وناظرها الأستاذ بشرى عبد الرحمن المقبول الذي يجاور منزله بيت عمي يوسف، وكان نائبه الأستاذ مصطفى حسن أمين. والقصة كما اتضح لنا من رواية عمي يوسف أن طالبين من حنتوب من أبناء الدويم ينتميان الى تنظيم بابكر كرار الذي أطلقنا عليه اسم الأخوان المسلمين، هما عبدالعال عبد الله وناصر السيد، أسسا "أسرة" لتنظيمهم بالمدرسة الريفية الوسطى ضمت بعضا من خيرة التلاميذ، وكان ذلك أول ظهور للإخوان بالدويم. هكذا لم نكن وحدنا في الساحة، فلكل فِعل، كما تعلمنا في دروس الفيزياء، رد فِعل مساو له في القوة ومضاد في الاتجاه. وربما كان هنالك سوء فهم لأحد التلاميذ لشرح الأستاذ مصطفى لدرس في العلوم ارتأى التلميذ أنه مناف للعقيدة، فسلك مسلكا رأى فيه الأستاذ نشوزا عاقبه عليه بالجلد، فصعًد التنظيم المواجهة مع إدارة المدرسة لحد إضراب الفصل الذي ينتمي إليه ذلك التلميذ عن الدراسة، ما قابلته الإدارة بإجراءات تأديبية قاسية. وكان طبيعيا تدخل أولياء أمور التلاميذ الذين استثيروا، فمهر تجمهرهم البرقيات لمدير المعارف بالخرطوم، المستر وليامز، مستنكرين تدريس الإلحاد بمدرسة الدويم الريفية ومطالبين بنقل الأستاذ مصطفى، ما تصدر عناوين بعض الصحف. هنا تدخل عمي يوسف لتهدئة المحتجين في خطبة الجمعة، وقال كلمات جميلة بحق الأستاذ مصطفى الذي يعرفه، وينتمي لأسرة من عيون أم درمان حرفتها التعليم، فتوافق المصلون على الاتصال بإدارة المدرسة لمعرفة الحقائق وحل المشكل تربويا بالتراضي، وقد كان.

هكذا كان عمي يوسف الذي كان صديقا للجميع، يحل كل إشكال بلطف، ولم أره غاضبا في حياتي قط. ربما كان الذي أثار التلاميذ وآبائهم كلمات للأستاذ عن "السموات السبع"، فعلق عمي يوسف قائلا في خطبة الجمعة أن علماء الدين كانوا يظنون أن هنالك حواجز حقيقية بين السماوات، لكن العلم أثبت أن هذه السماوات مفتوحة تجوبها الطائرات، وأن الحواجز المعنية اعتبارية، فمن نصدق، علماء الطبيعة أم علماء الدين؟ ثم قال ضاحكا أن الأستاذ مصطفى بالذات لا يمكن أن يكون شيوعيا لأنه "سمين"، وأردف أن الذي يحارب الإنجليز إما أن يصير نحيفا، كالشيوعيين، أو يجن، كما جن علي عبد اللطيف ومحمود محمد طه. كان الأستاذ محمود محمد طه المعروف بعدائه الشديد المتبادل مع مؤسسة القضاء الشرعي قد أنهى لتوه خلوته برفاعة بعد قضاء فترة السجن الاختياري في قضية خفاض فايزة عمسيب الشهيرة، وطفق يبث منشورات دعوته الجمهورية. نظر عمي يوسف لشيبون ولي وقال: الشيوعيين أولادي وأعرفهم، نحاف، يناموا في الكنبة ويتغطوا بالملايات. وغادرنا الشيخان من أهالي الدويم وقد زال عنهما الغضب وعلا وجهيهما الابتسام.
أعلن بعد ذلك عن إعادة فتح الكلية والثانويات للدراسة، فعدل شيبون عن فكرة السفر إلى بلدته "أبوزبد" وغادرنا لأمر ما بالبر لكوستي، ثم عاد بالقطار للخرطوم. وسافر قريب الله ورهطه بطريقتهم لحنتوب، بينما شقت بي الباخرة عباب النيل الأبيض في رحلة استرخاء كسول ووقفات طويلة مملة في مرافئ الزاكي وشبشة والجمالاب والفطيسة وجبل الأولياء، مستغرقا في الطريق ليلتين وثلاثة أيام بكاملها، ثم أخيرا الأسكلا التي منها أصلاُ... "حلا... ومن البلد ولًى.. دامعين ليك.. يآ....قريب الله".


صورة

يتبع ...
"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ" آل عمران 159

We cannot always oblige but we can always speak obligingly - Voltaire
عدلان عبد العزيز
مشاركات: 102
اشترك في: الخميس فبراير 02, 2006 6:52 pm

مشاركة بواسطة عدلان عبد العزيز »

صورة

لجنة اتحاد طلاب كلية غردون في مطلع العام 1952

الجلوس في الصورة، من اليمين: فاروق محمد ابراهيم، نائب السكرتير. فاروق مصطفى المكاوي، سكرتير الرياضة. جمال محمد أحمد، مشرف شئون الطلاب. جعفر الحسن، الرئيس. طه محمد طه، السكرتير. الطيب حسب الرسول، سكرتير الجمعيات. الوقوف، من اليمين: الأمين حاج الشيخ أبو، نائب الرئيس. أبوبكر عثمان محمد صالح، شؤون الطلاب. عبدالقادر حسين سليم، الشؤون الخارجية. محي الدين شورة، أمين الصندوق.
"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ" آل عمران 159

We cannot always oblige but we can always speak obligingly - Voltaire
عدلان عبد العزيز
مشاركات: 102
اشترك في: الخميس فبراير 02, 2006 6:52 pm

الملاحق

مشاركة بواسطة عدلان عبد العزيز »

الأعزاء،

يعكف د. فاروق محمد إبراهيم على إكمال مشروع كتابه الذي نشرنا جزء منه أعلاه، وفي التالي بعض الملاحق ذات الصلة بما تمّ نشره في رحلة البحث عن معنى الحياة:

"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ" آل عمران 159

We cannot always oblige but we can always speak obligingly - Voltaire
عدلان عبد العزيز
مشاركات: 102
اشترك في: الخميس فبراير 02, 2006 6:52 pm

بعد 63 عاماً

مشاركة بواسطة عدلان عبد العزيز »


بعد 63 عاماً

جامعة الأحفاد، أم درمان 21 ديسمبر 2014
كلمة فاروق محمد ابراهيم
في الذكرى السنوية الأولى لرحيل قريب الله محمد حامد الأنصاري


نحو حركة إنسانية جديدة
كان قريب الله، يرحمه الله، خبيراً اقتصادياً دولياً مرموقاً وأكاديمياً متميزاً ومناضلاً جسوراً وإنساناً خلوقاً، خلف أسرة كريمة تخلد ذكراه، وأصدقاء كُثر همّ بأمرهم وهمّوا بأمره، وكان على استعداد دائماً لأن يضحى كثيراً لأجل وطنه ولأجل ما ارتأى أنه الحق. إن هذا النجاح على المستوى الشخصي يفي ويزيد تقديرا لحياة أي عزيز رحل عن دنيانا لكنه لا يفي بالنسبة لقريب الله، وذلك لأن المشروع الإنساني الذي كان في طليعة من كرسوا أنفسهم له في الحزب الشيوعي فشل محلياً وعالمياً، وما كان صعود الإنقاذ للسلطة إلا نتيجة هذا الفشل، ولا استمراره واستمرار معاناة شعبنا لأكثر من ربع قرن إلا بسبب غياب المشروع البديل. وليست هنالك مهمة أمامنا تعادل صياغة هذا المشروع البديل اهمية. وبهذا الصدد فإنني أتقدم هنا، تأبينا له ووفاءُ لذكراه، بما أراه مخططاً لمشروع بديل، أسميه مشروع الهوية الإنسانية والحركة الإنسانية الجديدة:

أولاً، إن مرجعية هذا المشروع، والأهداف التي يرمي إليها، هي التحول الديمقراطي والإعلاء من شأن حكم القانون واستقلال القضاء وكفالة الحقوق التي يتضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق المكملة له لكل المواطنين والأشخاص المتواجدين في السودان، بما في ذلك الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، للرجال والنساء والأطفال، وللنازحين واللاجئين وذوي الحاجات الخاصة والعمال المهاجرين وغيرهم، دون تمييز بينهم لأي سبب من الأسباب. ويرى المشروع أن مرجعية هذه الحقوق القائمة على الهوية الإنسانية دينية أصلاً، كرستها المرجعية العلمانية، وأن تحققها يستدعي، وبالضرورة، نظاما اشتراكياً عالمياً. ذلك أن نقد ماركس للطبيعة الاستغلالية للنظام الرأسمالي صادقة اليوم كما كانت صادقة حينما صدر البيان الشيوعي فبل 166عاما (انظر الورقة المرفقة، عن المرجعية الدينية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان).

ثانياً، يستدعي تحقق هذا المشروع توحدنا لتأسيس حركة إنسانية جديدة تتسق فيها المرجعيتان الدينية والعلمانية، ما يستدعي ثورة فكرية وحركة إصلاح ديني تحدث تغييراً فكرياً وروحياً لتأهيل الطلائع التي تقود هذا التغيير، تغييرهم أنفسهم قبل غيرهم. ويطرح المشروع تجنيد transformative core مشكلة من 1% من الطلاب الثانويين والجامعيين وشباب الخريجين الذين بفوق عددهم الآن المليونين ونصف، أي حوالي 000 25 مبادر من محليات السودان ال 134 خلال السنوات الخمس القادمة، باعتبار أن هذا العدد يشكل الكتلة الحرجة لانطلاق الحركة ولنموها الذاتي المتصل. وتقوم هذه الحركة بمواصلة صياغة المشروع خلال العمل اليومي، داخل السودان وخارجه.

ثالثاً، الحركة الإنسانية الجديدة (وهي جديدة لتميزها بالموقف الإيجابي من الدين، عوضاً عن موقف الحركة الإنسانية القديمة الملتبس منه) مستقلة عن الأحزاب والحكومات، ينضم إليها المواطنون كأفراد دون أي اعتبار لاختلافهم الاثني أو الديني أو الجهوي أو الجندري أو السياسي. والحركة تنداح أفقياً في الأحياء السكنية ومجالات العمل وليس لها تنظيم مركزي وإنما فقط لجان تنسيق في المستويات المختلفة يكون أعضاؤها مستقلون عن الأحزاب والحكومات بأكبر قدر ممكن لتوخي استقلالية الحركة. والحركة تعمل لتوعية المواطنين والمواطنات بحقوقهم المنصوص عليها بعاليه ولحثهم للحراك للدفاع عنها بالوسائل الديمقراطية السلمية والعمل الجماهيري في كل محليات ومحافظات وولايات السودان. ولضمان استمرارية الحركة فهي لا تشترك في تشكيل الحكومات الانتقالية أو غير الانتقالية ولا ترفع شعار إسقاطها أو تكوينها، على نقيض تجربتي أكتوبر وأبريل. إن الحركة تهدف للتغيير التراكمي المتصل في توازن القوى الشعبية لصالح التحول الديمقراطي بما يتيح للشعب أن يفرض على القوى السياسية، سواء كانت دينية أو علمانية، عروبية أو أفريقانية، في السلطة أو خارجها، محلية أو ولائية أو اتحادية، الطريقة الديمقراطية الإنسانية التي تتيح مشاركتهم في إدارة شئونهم، محليا وخارجيا. أما السلطة السياسية، تشكيلها أو إسقاطها، فهي مهمة الأحزاب السياسية. وأما منظمات المجتمع المدني فهي تتبنى نفس البرنامج الحقوقي، وتعمل لدعم الحركة الإنسانية وتقويتها (أنظر الورقة الثانية تحت شعار: فلنجعل من حركة السلم والحقوق والحريات مشروعنا الوطني وهمنا المصيري، بتاريخ 18 ديسمبر 2013 بعنوان: وظيفة منظمات المجتمع المدني وحركة الدفاع عن الحقوق والحريات والأحزاب السياسية في ضوء أحداث سبتمبر 2013، المنشورة بالأيام وبموقع سودانيز اونلاين).

رابعاً، أشير إلى أنني استعرت نعت منهجية هذه الحركة بالديمقراطية المباشرة والانتفاضة المستدامة من خطاب رئيس الجمعية العمومية لسكان مدينة نيويورك إبان حركة "احتلوا وول ستريت" التي كانت بدورها استجابة لحراك ميدان التحرير، وذلك تنويهاً للنسب العالمي المشترك لحراك ال 99% ضد الليبرالية الجديدة وهيمنة الجشع الرأسمالي عابر القارات.
كان قريب الله، الله يرحمه، يقول لي مداعباً كلما تداولنا في حالة وطننا التعيسة الراهنة والنفق المظلم الذي لا يبدو بعد الضوء الأخضر في آخره، الله يجازيك يا فاروق. إنت السبب. زي ما دخلتنا تطلعنا من هذه الورطة. لكن القلوب شواهد. فحينما قلت للأستاذة رقية الفادني حينما ذهبت لعزائها بالعيلفون في والدتها السيدة عائشة رحمة الله عليها في أبريل العام الماضي: كفاكم غربة العيال كِبرو، حترجعوا متين؟ ردت قائلة إنها وقريب الله دائما يتناولون أمر العودة بجدية، لكن مع الغضروف وآلام الظهر قريب الله صار لا يغادر البيت إلا لأداء فريضة صلاة الجمعة، وبجهد جهيد. وقريب الله الذي أعرفه لا يفعل ذلك للمواءمة أو العادة وتقدم السن، وإنما لأنه قام بمراجعة عميقة للمشروع الماركسي بكليته. وكما ذكرت في كتاب التأبين، بكلمات ماركس، فحينما تنتهي بنهاية الضرورة حقبة ما قبل التاريخ، ويبدأ الإنسان في صنع تاريخه الحقيقي، فإن الروح تحل محل الإنتاج، والتطور الروحي محل التطور المادي، ويصبح وعي الإنسان هو الذي يحدد وجوده المادي، لا العكس. وقريب الذي يميز جيداً الرمز بوصفه لغة النص الديني، يقول بلا شك، مع إقبال*، أن الجنة والنار حالتان إنسانيتان، وليستا موقعان في الزمان أو المكان. "أما الجنة والنار فهما حالتان لا مكانان. ووصفهما في القرآن تصوير حسي لأمر نفساني. أي لصفة أو حال. فالنار في تعبير القرآن هي "نار الله الموقدة (6) التي تطلع على الأفئدة(7)" سورة الهمزة 6-7، هي إدراك أليم لإخفاق الإنسان بوصفه إنسانا. أما الجنة فهي سعادة الفوز على قوى الانحلال. (محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، ص 170). هكذا بدأ قريب الله الثورة الفكرية التي عاجله الموت قبل إكمالها. وقريب الله العلمي أيضا حتى النخاع يقول مع المفكر الإسلامي العالم الفيزيائي الراحل محجوب عبيد طه، أن القوانين الطبيعية هي سنن الله في الكون، ولا تستثني من العلم الطبيعي شيئا، بما في ذلك أصل الحياة في الأرض والأصل التطوري للوعي وللإنسان.

أخيرا، وعلى ذكر المفكر الراحل محجوب عبيد الذي تشكل رؤاه في تقديري الأساس المتين لرؤية كونية مقنعة عقلياً ومشبعة روحياً، أذكر أنه بينما قمت في الدويم بتشكيل فرع رابطة الطلبة الشيوعيين في نوفمبر سنة 1951 كان طالبان من حنتوب هما (الدكتور) عبدالعال عبد الله، رحمه الله، و(الدكتور) ناصر السيد، مد الله في أيامه، يشكلان "أسرة" من الأخوان المسلمين وسط تلاميذ المدرسة الوسطى، كان على رأسهم التلميذان محجوب عبيد طه وعلي أحمد علي الفادني، صهر قريب الله فيما بعد. كنا جميعاً نبحث عن الحقيقة بسبل مختلفة. وللأسف فقد قاد الصراع غير المجدي الذي طال واستطال إلى تمزيق أواصر وطننا. وقد آن الوقت للرؤية الكونية التوحيدية والموحدة التي تشاء الظروف أن يكون محجوب عبيد على رأس واضعيها، رحمه الله وجعل الجنة مثواه.

ليس لنا الآن خيار، إما صياغة رؤية إنسانية جديدة ومشروع إنساني بديل مقنع فكرياً ومشبع روحياً والشروع الفوري في تنفيذه أو الطوفان، ولا عاصم حينئذ من أمر الله. كانت ذكرى صلاح بشرى والنشيد الذي ينعيه " ليت من يبكي عليه، ويواسي الثائرين، مد للحزب يديه، كي نبيد الغاصبين" على لسان قريب الله وهو يخطو خطاه الأولى في حستو. ونفس النشيد كان على لسان الشهيد هاشم العطا في طريق الدروة. وأردد أنا الآن في تذكر قريب الله: ليت من يبكي عليه، ويواسي .... المتحيرين، مد لمشروع الهوية الإنسانية والحركة الإنسانية الجديدة، مشروع الديمقراطية المباشرة والانتفاضة المستدامة، قلبه وفكره قبل يديه، كي نعيد صياغة مشروعنا الوطني والعالمي الذي يتسق مع التجربة ومقتضيات العصر.




* محمد إقبال، مفكر فيلسوف اسلامي وشاعر وسياسي ولد في باكستان عام 1877 وتوفي عام 1938

يتبع --
"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ" آل عمران 159

We cannot always oblige but we can always speak obligingly - Voltaire
عدلان عبد العزيز
مشاركات: 102
اشترك في: الخميس فبراير 02, 2006 6:52 pm

A New-Humanism Movement for Peace and Human Rights in Sudan

مشاركة بواسطة عدلان عبد العزيز »

.


A New-Humanism Movement for Peace and Human Rights in Sudan

An Alternative National Project for Northern Sudan, from perspective of the Sudanese Committee for the defense of Human Rights and Freedom, by committee coordinator
Farouk M Ibrahim

[align=left]

Abstract
All post-independence projects to achieve good governance and better life for the Sudanese people through changing governments reached a dead end, and the country is on verge of total collapse. This paper proposes an autonomous nationwide grassroots non-partisan direct democracy movement for peace and human rights, here and now, based on theistic humanism, to change the Sudanese people first, by uniting human rights activism based on knowledge with spiritual struggle based on faith, in order for the Sudanese to get the governments and better life they deserve. Universal monotheism extending loyalty to the human species as a whole and interpreting faith to mean absolute individual freedom and comprehensive social justice are fundamental tenets of the movement, and a body of reformist ideas on humanist lines is presented in its favor. A model of human societies developed by evolutionary biologists to accommodate science and religion in an intellectually convincing and spiritually satisfying unified worldview is adopted. The paper argues in favor of a Kuhnian paradigm shift in the current scientific debate (Defenders of the Truth, by Ullica Segerstrale, OXFORD 2000) towards the model of human societies developed by John Maynard Smith and Eors Szathmary (The origins of Life, OXFORD 2000, pp 145-8) in conjunction with Tillich’s definition of faith as ultimate concern (Dynamics of Faith, 1957, Harper Torchbooks) and Dobzhansky’s Biology of Ultimate Concern (1967, Fontana). This paradigm shift gives credence to the universal project shift advocated by Henryk Skolimowski (The Participatory Mind, a new theory of knowledge and the universe, A Penguin ARKANA, 1997).
Proactive engagement of a critical mass of 1% of the population of Sudanese university students and young graduates, i.e. a transformative core of about 10 000, in a process of acculturation and mobilization for 5 years, is considered adequate for movement’s take-off

Presentation
1
All post-independence projects to achieve good governance and better life for the Sudanese people through changing governments reached a dead end, and the country is on verge of total collapse. Blaming the traditional sectarian political parties for current Sudan’s problems is just like blaming the British. Those parties reflected consciousness of their day and had no plans beyond replacing condominium flags by that of the independent Sudanese republic, and maintaining status-quo. Faced with post-independence problems beyond his scope, the elected Prime Minister suspended the Westminster modeled 1956 constitution in the third year of independence and, with connivance of the two main Sectarian leaders, handed power to the army, which resumed colonial-type rule by decree


2
Post-independence politics were dominated by two paradigms of Khartoum University student politics, secular-Marxist and Islamist. Led by the powerful, communist dominated labour and tenant-farmer’s unions, and associations of professionals, women youth and students, the Sudanese people peacefully toppled the military dictatorship and placed the ‘Union of Unions’ at the head of a six-month transitional government to end the South civil war, restore civil rights and freedoms under the amended 1956 constitution, and hand over political power to a democratically elected government


3
Post-intifada politics were dominated by polarization and bid for power by, on one hand, a Turabi-Sadik Almahdi led block which proceeded, after banning the Communist Party and dismissing its elected Constituent Assembly members, on power monopoly plans through a retrogressive Islamic constitution, and, on the other hand, the Communist Party, the powerful labor Unions, the secular democratic associations, and the clandestine Free Army Officers for a military coup


4
The May 1969 coup, which took place on the eve of the third reading of the Islamic Constitution Bill gained immediate and overwhelming popular support. Decrees were promulgated, after immediate national dialogue, for control of commanding heights of the economy by the state, for a five-year rehabilitation and economic development plan, agrarian reform, regional autonomy for the South, educational reform and expansion, local government reform based on grassroots democracy, , and a Nasserite-type Socialist Union. While post-colonial political and economic structures permitted top-bottom development, popular morale and support was high, and the Addis Ababa peace agreement, which ended the South civil war, lasted for over ten years


5
Everything was initially designed by and for the Communist Party as the engine of transformation, and this was the regimes Achilles heel. A majority of 17 to 6 outvoted Numeiry in a meeting of the communist-controlled free officer’s organization on timing of the coup. Nevertheless, since Numeiry already had forces in the field, he proceeded with coup and faced the communists, on whose support he depended, with a fate-accompli. The struggle for power, which started in day one, ended by a coup-counter-coup in July 1971, after which the Communist Party was crushed and its historical leadership executed


6
Running out of steam, the project lost potency and the regime progressively turned into one-man rule. By 1977, following Numeiry’s ‘national reconciliation’ move, Turabi and his Islamicist movement stepped in key government and political positions to deflect regime’s course. Abrogation of the Addis peace, the infamous September (Islamic) laws, oath of allegiance to Numeiry as president for life, resurgence of the civil war, and execution of Ustaz Taha for heresy were the outcome. By the time Numeiry realized threat to his authority the April popular uprising matured. However, by that time Turabi’s fascist student group was transformed into a formidable national political and economic force. The President, Prime Minister, Army Chief, and some key cabinet members of the transitional government were committed Islamicists. Everything was set for the subsequent fragile parliamentary government to give way to the June 1989 coup


7
Dr. Turabi spelled out regime objectives after ending the self-imposed prison deception, ‘you go to the Presidential Palace and I go behind bars’. ‘We were organizations in society; first Moslem Brotherhood, then Islamic Charter, then the National Islamic Front’, he said. ‘Our objective is to become society itself. Those outside us will be outside society’. Plans were at hand for ‘remoulding the Sudanese person’ on Islamicist image and a Ministry of social affairs was established under the then Turabi deputy, A. O. Taha. An army of tens of thousands of ordinary and intrinsically decent people, lured by the ‘state religion’ and corrupted by material benefits, was recruited for the job. Cynical theological formulae were tailored to justify every Islamicist act; the religion of the state became opiate of the people. The overall outcome is today in front of our eyes. The South has been separated and civil war is not only rampant in Darfur, Blue Nile and Southern Kordofan, but also war has become the regime’s way of existence and its survival mechanism. The fascist Islamicist student movement of 1977 is now the capitalist class; its Cadres are the Sudanese state; its ideology is state religion. The regime cynically created its own opposition under Turabi himself, just in case. The old society is now the proletariat, outside gates of the Islamicists paradise. This ‘achievement’ was secured through unprecedented mass dismissals, mass murders, massive legalized theft, robbery and piracy of state property and funds, unthinkable corruption, unlimited human rights abuse, and unending civil war. The worst is that without plugging the ‘vivid reality of inherent unity under the rule of one God,’ which is the foundation of the Sudanese national character, from their own hearts first and then hearts of the tens of thousands of wretched citizens whom they used and abused, the Islamicist project would not have succeeded. Even worse, disintegration of the national character is now creeping to the rest of the population. The country is held at ransom: either to submit or to regress and disintegrate, not six decades to the eve of independence, but seven centuries to the eve of collapse of the Christian Kingdom of Dongola, which Trimingham considered “to offer an instance of the grave dangers of the Church being simply the religious institution of the state”. So, what is to be done
?


8
The public mood in Sudan now, to the last activist, even the Islamists calling for regime change, is: separate religion from state and politics, and then forget about it. I call here for a different strategy. “Islam”, in the introductory words of S. Trimingham, (Islam in Sudan, 1949,) “has influenced the psychology of the people of the Northern Sudan and fused their religious and social ideas into a unity of outlook which excites our wonder and admiration. The Sudanese received Islam whole-heartedly, but, through their unique capacity of assimilation molded it to their own particular mentality; escaping the formulae of theologians, they sang in it, danced in it, wept in it, brought their own customs, their own festivals, into it, paganized it a good deal, but always kept the vivid reality of its inherent unity under the rule of one God.” Islam in this sense is not a belief that we are free to take or leave. It is our existence and being, the foundation of our national character. It is the vivid reality of inherent unity under the rule of one God that inspired the Mahdi (1843-85) to unite the heterogeneous peoples of the Sudan, when their morale was at its lowest, to sweep the corrupt representatives of the decadent, imperfectly modernized Egypto-Ottoman power out of the country, and to heroically resist reinvasion


9
This paper proposes an autonomous nationwide grassroots non-partisan direct democracy movement for peace and human rights, here and now, based on theistic humanism, to change the Sudanese people first, by uniting human rights activism based on knowledge with spiritual struggle based on faith, in order for the Sudanese to get the governments and better life they deserve


10
Program of the movement is promotion of rule of law, independence of the judiciary and human rights and freedom for all citizens and persons present in the Sudan, as provided in the Universal Declaration of Human Rights and associated regional and international conventions, including civil, political, economic, social and cultural rights for men, women, children, displaced persons, refugees, persons with special needs, migrant workers and others, without any discrimination on whatever basis. The nation-state is here considered a project to confer human and citizenship rights to a given population. Such national commitment is a precondition for universality of human rights


11
Universal monotheism extending loyalty to the human species as a whole and interpreting faith to mean absolute individual freedom and comprehensive social justice are fundamental tenets of the movement, and a body of reformist ideas on humanist lines is presented in its favor. A model of human societies developed by evolutionary biologists to accommodate science and religion in an intellectually convincing and spiritually satisfying unified worldview is adopted. The paper argues in favor of a Kuhnian paradigm shift in the current scientific debate (Defenders of the Truth, by Ullica Segerstrale, OXFORD 2000) towards the model of human societies developed by John Maynard Smith and Eors Szathmary (The origins of Life, OXFORD 2000, pp 145-8) in conjunction with Tillich’s definition of faith as ultimate concern (Dynamics of Faith, 1957, Harper Torchbooks) and Dobzhansky’s Biology of Ultimate Concern (1967, Fontana)


12
This paradigm shift gives credence to the universal project shift advocated by Henryk Skolimowski (The Participatory Mind, a new theory of knowledge and the universe, A Penguin ARKANA, 1997). Skolimowski expounds substitution of the classical Project that continued from antiquity roughly to the sixteenth century and derived its knowledge and values from religion gradually by the secular project, which derived its knowledge, and values from science. The secular project is in its turn giving way universally to a third, holistic, integrative, synthetic, humanist and evolutionary project. It is the project advocated in this paper. To distinguish theist humanism from 18th century secular humanism, which is ambivalent towards religion, the term new-humanism is here applied. As described by Skolemowski, “the term project is used to denote the overall realm which directs our visions (within a given culture) and guides our inspirations, as well as justifies the ends of our lives. The idea of the project is much larger than that of the paradigm. The project engenders paradigms that serve it. It is a matter of vision and deep beliefs. After people invest their beliefs in it, they try to justify it rationally”


13
Implementation of this project needs , first, a core of transformative ideas, or paradigms, second, a core of transformative activists, or paradigm group, third, a program of action based on human rights conventions and UN Millennium Goals, and fourth, a social base of neighborhood committees for societal transformation. Proactive engagement of a new-humanist transformative core group of 1% of the population of Sudanese university students and young graduates i.e. about 10 000, in a five-year program of acculturation and mobilization is considered adequate for take-off of a grassroots based human rights’ movement


14
The movement is not a political party and would not aim to bid for political power. It is independent of governments and political parties. It complements present opposition strategy and does not oppose it. Participation in transitional governments deprived the October 64 and April 85 human rights movements of continuity and ended up as military dictatorships. The new-humanist movement will maintain itself as a popular, decentralized, autonomous movement based on general assemblies of Sudan’s 134 localities, linked through bottom-up coordination committees, as a model of direct democracy and permanent intifada
"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ" آل عمران 159

We cannot always oblige but we can always speak obligingly - Voltaire
عدلان عبد العزيز
مشاركات: 102
اشترك في: الخميس فبراير 02, 2006 6:52 pm

رسالة د. فاروق مُحمّد إبراهيم للرئيس السوداني عمر البشير

مشاركة بواسطة عدلان عبد العزيز »

رسالة د. فاروق مُحمّد إبراهيم للرئيس السوداني عمر البشير


مقدمة الناشر في موقع الحوار المتمدن:
د. فاروق أستاذ للعُلوم بجامعة الخُرطوم، وكان من أوائل الذين استهدفهُم النِظامُ في بواكير عهده بتعذيبٍ مُهين.. والأنكى، أن تلميذه - وزميله في الجامعة من بعد- د. نافِع علي نافِع، كان ثاني اثنين قاما بذلك الفعل القبيح!! أقدما على تنفِيذه بوعيٍ كامِل، لعِلمِهم بالشخصِ المَعني، وهو مُرَبٍ في المقامِ الأوَّل، عَلى يَدِه تعلمت وتخرَّجت أجيالٌ، وقد ظلَّ طوال حياته - وما فتئ- يُمارس السياسة بزُهد المُتصوِّفة.. مثالٌ للتجرُّد والطهر وعفة اللسانِ، مُتصالحاً مع أفكاره ومبادئه.. إن خالفك الرأي، احترم وجهة نظرك، وإن اتَّفقَ مَعَكَ استصوَبَ رأيك.. ويبدو أن هذه الصفاتُ مُجتمعة هي التي استثارَت د. نَافِع في الإقدامِ على تنفيذ فعلته!! وفيما يلي نوردُ النص الكامل لمُذكرته التي أرسلها من مقرِّه في القاهرة، إلى رئيس نظام الإنقاذ.. وترجعُ أهميَّة هذه الوثيقة إلى أنها احتوَت على كل البيِّناتِ القانونِيَّة والسياسيَّة والأخلاقِيَّة التي تَجعل منها نموذجاً في الأدَبِ السياسي، وفَيْصَلاً مثالِياً لقضيَّة يتوقفُ عليها استقامة المُمارسة السياسيَّة السُودانِيَّة، وتعدُّ أيضاً اختباراً حقيقياً لمفهومِ ”التسَامُحِ“، إن رَغِبَ أهلُ السُودان، وسَاسته بصفة خاصَّة، في استمرار العيشِ في ظله.. كذلك فإن المُذكرة، بذات القدر الذي قدَّمت فيه خيارات لتبرئَة جراح ضحايا نظام الإنقاذ، أعطت الجاني فرصة للتطهُّر من جرائمه بأفعالٍ حقيقيَّة، أدناها الاعترافُ بفداحة جُرمِه.. وما لا نشُك فيه مُطلقاً، أن فرائص القارِئ حتماً سترتعدُ وهو يُتابعُ وقائع الجُرمِ، خِلالَ سُطورِ هذه المُذكرة، رغم أن طولِ الجرح يُغري بالتناسي، على حد قول الشَاعِر!!




نصّ المذكرة:

القاهرة 13/11/2000م

السيد الفريق/ عمر حسن البشير
رئيس الجمهورية ـ رئيس حزب المؤتمر الوطني
بواسطة السيد/ أحمد عبدالحليم ـ سفير السودان بالقاهرة
المحترمين

تحية طيبة وبعد

الموضوع: تسوية حالات التعذيب تمهيداً للوفاق بمبدأ ”الحقيقة والتعافي“ على غرار جنوب أفريقيا ـ حالة اختبارية ـ

على الرغم من أن الإشارات المتعارضة الصادرة عنكم بصدد الوفاق الوطني ودعوتكم المعارضين للعودة وممارسة كافة حقوقهم السياسية من داخل أرض الوطن، فإنني أستجيب لتلك الدعوة بمنتهى الجدية، وأسعى لاستكمالها بحيث يتاح المناخ الصحي الملائم لي وللآلاف من ضحايا التعذيب داخل الوطن وخارجه أن يستجيبوا لها، ولن يكون ذلك طبعا إلا على أساس العدل والحق وحكم القانون.

إنني أرفق صورة الشكوى التي بعثت بها لسيادتكم من داخل السجن العمومي بالخرطوم بحري بتاريخ 29/1/1990، وهى تحوي تفاصيل بعض ما تعرضت له من تعذيب وأسماء بعض من قاموا به، مطالبا بإطلاق سراحي وإجراء التحقيق اللازم، ومحاكمة من تثبت إدانتهم بممارسة تلك الجريمة المنافية للعرف والأخلاق والدين والقانون. تلك المذكرة التي قمت بتسريبها في نفس الوقت لزملائي أساتذة جامعة الخرطوم وأبنائي الطلبة الذين قاموا بنشرها في ذات الوقت على النطاقين الوطني والعالمي، ما أدى لحملة تضامن واسعة أطلق سراحي إثرها، بينما أغفل أمر التحقيق الذي طالبت به تماما. وهكذا ظل مرتكبو تلك الجريمة طليقي السراح، وتوالى سقوط ضحايا التعذيب بأيديهم وتحت إمرتهم، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، فلا يعقل والحال على هذا المنوال أن يطلب مني ومن الألوف الذين استبيحت أموالهم وأعراضهم ودماؤهم وأرواح ذويهم، هكذا ببساطة أن يعودوا لممارسة ”كافة“حقوقهم السياسية وكأن شيئا لم يكن.

إن ما يميز تجربة التعذيب الذي تعرضت له في الفترة من 30 نوفمبر إلى 12 ديسمبر 1989م ببيت الأشباح رقم واحد الذي أقيم في المقر السابق للجنة الانتخابات أن الذين قاموا به ليسوا فقط أشخاصا ملثمين بلا هوية تخفوا بالأقنعة، وإنما كان على رأسهم اللواء بكري حسن صالح وزير الدفاع الراهن ورئيس جهاز الأمن حينئذ، والدكتور نافع علي نافع الوزير ورئيس جهاز حزب المؤتمر الوطني الحاكم اليوم ومدير جهاز الأمن حينئذ، وكما ذكرت في الشكوى المرفقة التي تقدمت لكم بها بتاريخ 29 يناير 1990 من داخل السجن العمومي وأرفقت نسخة منها لعناية اللواء بكري، فقد جابهني اللواء بكري شخصياً وأخطرني بالأسباب التي تقرر بمقتضاها تعذيبي، ومن بينها قيامي بتدريس نظرية التطور في كلية العلوم بجامعة الخرطوم، كما قام حارسه بضربي في وجوده، ولم يتجشم الدكتور نافع، تلميذي الذي صار فيما بعد زميلي في هيئة التدريس في جامعة الخرطوم، عناء التخفي وإنما طفق يستجوبني عن الأفكار التي سبق أن طرحتها في الجمعية العمومية للهيئة النقابية لأساتذة جامعة الخرطوم، وعن زمان ومكان انعقاد اللجنة التنفيذية للهيئة, ثم عن أماكن تواجد بعض الأشخاص - كما ورد في مذكرتي- وكل ذلك من خلال الضرب والركل والتهديد الفعلي بالقتل وبأفعال وأقوال أعف عن ذكرها. فعل الدكتور نافع ذلك بدرجة من البرود والهدوء وكأنما كنا نتناول فنجان قهوة في نادي الأساتذة. على أي حال فإن المكانة الرفيعة التي يحتلها هذان السيدان في النظام من ناحية، وثبات تلك التهم من ناحية ثانية، يجعل حالة التعذيب هذه من الوضوح بحيث تصلح أنموذجا يتم على نسقه العمل لتسوية قضايا التعذيب، على غرار ما فعلته لجنة الحقيقة والوفاق الخاصة بجرائم النظام العنصري في جنوب أفريقيا.

قبل الاسترسال فإنني أورد بعض الأدلة التي لا يمكن دحضها تأكيدا لما سلف ذكره:-
• أولاً: تم تسليم صورة من الشكوى التي تقدمت لسيادتكم بها للمسئولين المذكورة أسماؤهم بها، وعلى رأسهم اللواء بكري حسن صالح. وقد أفرج عني بعد أقل من شهر من تاريخ المذكرة. ولو كان هناك أدنى شك في صحة ما ورد فيها - خاصة عن السيد بكري شخصياً- لما حدث ذلك، ولكنت أنا موضع الاتهام، لا هو.

• ثانيا: أحال مدير السجن العمومي مجموعة الثمانية عشر القادمة معي من بيت الأشباح رقم واحد بتاريخ 12 ديسمبر 1989 إلى طبيب السجن الذي كتب تقريرا مفصلاً عن حالة كل واحد منا، تحصَّلت عليه وقامت بنشره منظمة العفو الدولية في حينه. وقد أبدى طبيب السجن ومديره وغيرهم من الضباط استياءهم واستنكارهم الشديد لذلك المشهد الذي لا يكاد يصدق. وكان من بين أفراد تلك المجموعة كما جاء في الشكوى نائب رئيس اتحاد العمال الأستاذ محجوب الزبير وسكرتير نقابة المحامين الأستاذ صادق شامي الموجودان حاليا بالخرطوم، ونقيب المهندسين الأستاذ هاشم محمد أحمد الموجود حاليا ببريطانيا، والدكتور طارق إسماعيل الأستاذ بكلية الطب بجامعة الخرطوم، وغيرهم ممن تعرضوا لتجارب مماثلة، وهم شهود على كل ما جرى بما خبروه وشاهدوه وسمعوه.

• ثالثا: إن جميع قادة المعارضة الذين كانوا في السجن حينئذ، السيد محمد عثمان الميرغني رئيس التجمع الوطني الديمقراطي والسيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة والسيد سيد أحمد الحسين زعيم الحزب الاتحادي والسيدان محمد إبراهيم نُقُد والتيجاني الطيب زعيما الشيوعي وغيرهم، كلهم شهود بنفس القدر، وكما يعلم الجميع فقد تعرض السيدان الصادق المهدي وسيد أحمد الحسين وغيرهم من قادة المعارضة لنفس التعذيب على أيدي نفس الأشخاص أو بأمرهم وكتبوا شكاوى مماثلة.

• رابعا: قام بزيارتي في السجن العمومي بالخرطوم بحري بعد انتقالي إليه مباشرة الفريق إسحق إبراهيم عمر رئيس الأركان وقتها بصحبة نوابه، فشاهد آثار التعذيب واستمع لروايتي كاملة، كذلك فعل كثيرون غيره.

• خامسا: تم اعتقال مراسل الفاينانشيال تايمز السيد بيتر أوزين الذي كان خطابي بحوزته، فكتب صفحة كاملة دامغة في صحيفته العالمية المرموقة عن ما تعرضت له وتعرض له غيري من تعذيب، وعن محادثته الدامغة مع المسئولين عن تلك الانتهاكات وعن تجربته الشخصية.

إنني أكتفي فيما يخص حالتي بهذا القدر من الأدلة الدامغة، ومع أن هذا الخطاب يقتصر كما يدل عنوانه على تجربتي كحالة اختبارية، إلا أن الواجب يقتضي أن أدرج حالة موظف وزارة الإسكان السابق المهندس بدر الدين إدريس التي كنت شاهدا عليها، وكما جاء في ردي على دعوة نائب رئيس المجلس الوطني المنحل الأستاذ عبدالعزيز شدو للمشاركة في حوار التوالي السياسي بتاريخ 18 أكتوبر 1998 (مرفق)، فقد تعرض ذلك الشاب لتعذيب لا أخلاقي شديد البشاعة، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن فقد عقله وقام بذبح زوجته ووالدها وآخرين من أسرته. كان في ثبات وصمود ذلك الشاب الهاش الباش الوسيم الأسمر الفارع الطول تجسيد لكرامة وفحولة وعزة أهل السودان. وكان أحد الجنود الأشد قسوة - لا أدري إن كان اسم حماد الذي أطلق عليه حقيقياً- يدير كرباجه على رقبتينا وجسدينا نحن الاثنين في شبق. وفي إحدى المرات اخرج بدرالدين من بيننا ثم أعيد لنا بعد ساعات مذهولاً أبكم مكتئبا محطما كسير القلب. ولم تتأكد لي المأساة التي حلت بِبَدرالدين منذ أن رأيته ليلة مغادرتنا لبيت الأشباح منتصف ليلة 12 ديسمبر 1989 إلا عند اطلاعي على إحدى نشرات المجموعة السودانية لضحايا التعذيب هذا الأسبوع، ويقتضي الواجب أن أسرد تلك اللحظات من حياته وأنقلها لمن تبقى من أسرته، فكيف بالله نتداول حول الوفاق الوطني بينما تبقى مثل هذه الأحداث معلقة هكذا بلا مساءلة.

أعود لمبدأ تسوية حالات التعذيب على أساس النموذج الجنوب أفريقي، وأطرح ثلاثة خيارات متاحة لي للتسوية.

الخيار الأول
الحقيقة أولا، ثم الاعتذار و”التعافي المتبادل“ بتعبير السيد الصادق المهدي

هذا النموذج الذي تم تطبيقه في جنوب أفريقيا. إن المفهوم الديني والأخلاقي للعفو هو الأساس الذي تتم بموجبه التسوية، ويختلط لدى الكثيرين مبدأ العفو مع مبدأ سريان حكم القانون ومع التعافي المتبادل. فكما ذكرت في خطابي المرفق للسيد عبدالعزيز شدو فإنني أعفو بالمعنى الديني والأخلاقي عن كل من ارتكب جرما في حقي، بما في ذلك السيدان بكري ونافع، بمعنى أنني لا أبادلهما الكراهية والحقد، ولا أدعو لهما إلا بالهداية، ولا أسعى للانتقام والثأر منهما، ولا أطلب لشخصي أو لهم إلا العدل وحكم القانون. وأشهد أن هذا الموقف الذي قلبنا كل جوانبه في لحظات الصدق بين الحياة والموت كان موقف كل الزملاء الذين كانوا معي في بيت الأشباح رقم واحد، تقبلوه وآمنوا به برغم المعاناة وفى ذروة لحظات التعذيب. إن العفو لا يتحدد بموقف الجلاد ولا بمدى بشاعة الجرم المرتكب، وإنما يتعلق بكرامة وإنسانية من يتسامى ويرفض الانحدار لمستنقع الجلادين، فيتميز تميزا خلقيا ودينيا تاما عنهم. فإذا ما استيقظ ضمير الجلاد وأبدى ندما حقيقيا على ما ارتكب من إثم، واعتذر اعتذارا صادقا عن جرمه، فإن الذي يتسامى يكون أقرب إلى الاكتفاء بذلك وإلى التنازل عن الحق المدني القانوني وعن المطالبة بالتعويض عن الأضرار التي لحقت به، بهذا يتحقق التعافي المتبادل. هذا هو الأساس الذي تمت بموجبه تسوية معظم حالات التعذيب والجرائم التي ارتكبها عنصريو جنوب أفريقيا ضد مواطنيهم.

إنني انطلاقا من نفس المفهوم أدعو السيدين بكري ونافع ألا تأخذهما العزة بالإثم، أن يعترفا ويعلنا حقيقة ما اقترفاه بحقي وبحق المهندس بدرالدين إدريس في بيت الأشباح رقم واحد، وأن يبديا ندما وأسفا حقيقيا، أن يعتذرا اعتذارا بينا معلنا في أجهزة الإعلام، وأن يضربا المثل والقدوة لمن غرروا بهم وشاركوهم ممارسة التعذيب، وائتمروا بأمرهم. حين ذلك فقط يتحقق التعافي وأتنازل عن كافة حقوقي، ولا يكون هناك داعيا للجوء للمحاكم المدنية، ويصبح ملف التعذيب المتعلق بشخصي مغلقا تماما. ولنأمل أن يتقبل أولياء الدم في حالة المهندس بدر الدين إدريس بالحل على نفس المنوال.

لقد أعلن السيد إبراهيم السنوسي مؤخرا اعترافه بممارسة التعذيب طالبا لمغفرة الله. وهذا بالطبع لا يفي ولا يفيد. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا يليق أن يصبح أمر التعذيب الذي انقلب على من أدخلوه وبرروه أن يكون موضوعا للمزايدة والمكايدة الحزبية. إن الصدق مع النفس ومع الآخرين والاعتذار المعلن بكل الصدق لكل من أسيء إليه وامتهنت كرامته، وطلب العفو والغفران، هو الطريق الوحيد للخروج من هذا المأزق بكرامة، فإن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله. وإن طريق التعافي المتبادل هو الأقرب إلى التقوى. فإذا ما خلصت النيات وسار جناحا المؤتمر الوطني والشعبي لخلاص وإنقاذ أنفسهم من خطيئة ولعنة التعذيب الذي مارسوه فسيكون الطريق ممهدا تماما لوفاق وطني حقيقي صادق وناجز.

الخيار الثاني
التقاضي أمام المحاكم الوطنية

إذا ما تعذر التعافي المتبادل بسبب إنكار تهمة التعذيب أو لأي سبب آخر، فلا يكون هنالك بديل عن التقاضي أمام المحاكم، ذلك في حالة جدية المسعى للوفاق الوطني على غرار ما جرى في جنوب أفريقيا. غير أن حكومتكم فيما علمت سنت من التشريعات ما يحمي أعضاءها وموظفيها والعاملين في أجهزتها الأمنية من المقاضاة. فالجرائم ضد الإنسانية وحقوق الإنسان كالتعذيب، لا تسقط بالتقادم ولا المرض ولا تقدم السن ولا لأي سبب من الأسباب، كما شهدنا جميعا في شيلى وإندونيسيا والبلقان وغيرها. كما أن هذا الموقف لا يستقيم مع دعوتكم للوفاق ولعودة المعارضين الذين تعرضوا لأبشع جرائم التعذيب. وليس هنالك، كما قال المتنبي العظيم، ألم أشد مضاضة من تحمل الأذى ورؤية جانيه، وإنني مستعد للحضور للخرطوم لممارسة كامل حقوقي الوطنية، بما في ذلك مقاضاة من تم تعذيبي بأيديهم، فور إخطاري بالسماح لي بحقي الطبيعي. ذلك إذا ما اقتنعت مجموعة المحامين التي سأوكل إليها هذه المهمة بتوفر الشروط الأساسية لمحاكمة عادلة.

الخيار الثالث
التقاضي أمام المحاكم الدولية لحقوق الإنسان

ولا يكون أمامي في حالة رفض التعافي المتبادل ورفض التقاضي أمام المحاكم الوطنية سوى اللجوء للمحاكم في البلدان التي تجيز قوانينها محاكمة أفراد من غير مواطنيها وربما من خارج حدودها، للطبيعة العالمية للجرائم ضد الإنسانية التي يجري الآن إنشاء محكمة عالمية خاصة بها. إنني لا أقبل على مثل هذا الحل إلا اضطرارا، لأنه أكرم لنا كسودانيين أن نعمل على حل قضايانا بأنفسنا. وكما علمت سيادتكم فقد قمت مضطرا بفتح بلاغ مع آخرين ضد الدكتور نافع في لندن العام الماضي، وشرعت السلطات القضائية البريطانية في اتخاذ إجراءات أمر الاعتقال الذي تنبه له الدكتور نافع واستبقه بمغادرة بريطانيا. وبالطبع تنتفي الحاجة لمثل تلك المقاضاة فيما لو أتيحت لي ولغيري المقاضاة أمام محاكم وطنية عادلة، أو لو تحققت شروط التعافي المتبادل الذي هو أقرب للتقوى. وإنني آمل مخلصا أن تسيروا على طريق الوفاق الوطني بالجدية التي تتيح لكل المواطنين الذين تشردوا في أصقاع العالم بسبب القهر السياسي لنظام ”الإنقاذ“ أن يعودوا أحرارا يشاركون في بناء وطنهم.

وفقنا الله وإياكم لما فيه خير البلاد والعباد.

فاروق محمد إبراهيم



----------------------
نتمنى أن يرى النور كتاب د. فاروق محمد ابراهيم قريباً، وشكراً على إهتمامكم ومتابعتكم.

.
"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ" آل عمران 159

We cannot always oblige but we can always speak obligingly - Voltaire
أضف رد جديد