من روائع غابرييل غارثيا ماركيز ...

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
عادل السنوسي
مشاركات: 839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:54 pm
مكان: Berber/Shendi/Amsterdam

من روائع غابرييل غارثيا ماركيز ...

مشاركة بواسطة عادل السنوسي »

قصة قصيرة لغابرييل غارثيا ماركيز

قيلولة الثلاثاء
________
ترجمة فوزي محيدلي






خرج القطار من داخل نفق الصخور الرملية المترجرجة، وراح يعبر مزارع الموز المتماثلة التي تكاد لا تنتهي. الهواء مال الى الرطوبة ولم يعد بالإمكان الإحساس بنسيم البحر البتة. هبة خانقة من الدخان عبرت نافذة العربة. على الطريق الضيق الموازي لسكة الحديد ثمة عربات تجرها ثيران محملة بـ»قروط» خضراء من الموز. ما وراء الطريق وفي قطعة أرض غير محروثة، تقوم على أبعاد متباينة مكاتب تحوي مراوح كهربائية، مبان ذات قرميد أحمر، وبيوت مع كراس وطاولات بيضاء صغيرة فوق مصاطب كامنة بين أشجار نخيل مغبرة وشجيرات ورد. كانت الساعة الحادية عشرة صباحاً، ولم يكن القيظ قد بدأ بعد.

«الأفضل لكِ أن تغلقي النافذة»، قالت المرأة «شعركِ سيمتلئ بالسخام».

حاولت الفتاة، لكن درفة النافذة لم تتحرك بسبب الصدأ. كانتا الراكبتين الوحيدتين في مقصورة الدرجة الثالثة. بسبب استمرار دخول دخان القاطرة عبر النافذة، تركت الفتاة مقعدها واضعة أشياءهما القليلة على الأرض: كيس بلاستيكي فيه أشياء للأكل وباقة من الزهور ملفوفة بأوراق صحيفة.

جلست على المقعد المقابل، بعيداً عن النافذة، بمواجهة والدتها. كانتا ترتديان ملابس محتشمة ومتواضعة النوعية خاصة بالصباح.

الفتاة في الثانية عشرة، وهذه أول مرة تركب فيها قطار. بدت الأم أكبر بكثير من أن تكون والدتها، بسبب الأوردة الزرقاء على جفونها فضلاً عن أن جسدها الضئيل الليّن، العديم الشكل مكسو بفستان أشبه برداء الراهبة. كانت تجلس وعمودها الفقري يضغط بشدة على ظهر المقعد، وتحمل بيديها فوق حضنها حقيبة يد تبدو لمّاعة الجلد رغم كونها مقشّرة. كان يبدو عليها صفاء الضمير الحي لامرأة معتادة على الفقر.

في الثانية عشرة بدأ القيظ. توقف القطار مدة عشر دقائق للتزوّد بالماء في محطة لا تقع داخل بلدة. خارجاً، وفي كنف الصمت الغامض للمزارع، بدت الظلال نظيفة. لكن الهواء الساكن داخل العربة كانت له رائحة الجلد غير المدبوغ.

لم يتح للقطار زيادة سرعته بشكل ملحوظ. اضطر للتوقف عند بلدتين متماثلتين لجهة دهن منازلهما بألوان ساطعة. راح رأس المرأة يطأطئ مرتجاً ثم غفت. نزعت الفتاة حذاءها، من ثم ذهبت الى دورة المياه لتضع باقة الزهور داخل قدر من الماء.

حين عادت الى مقعدها، كانت الوالدة بانتظارها لتأكلا. ناولتها قطعة جبنة، نصف كعكة ذرة، وقطعة بسكويت، وأخذت حصة مساوية لها من الكيس البلاستيكي. فيما هما تأكلان عَبَر القطار ببطء جسراً حديدياً ومر ببلدة كالتي من قبل، إلا أنه في هذه كان يوجد جمهور في الساحة العامة. كان ثمة فرقة تعزف بحيوية رغم الشمس العدائية القيظ. في الجانب الآخر من البلدة انتهت المزارع عند سهل تشققت تربته من الجفاف.

توقفت المرأة عن الأكل.

«إنتعلي حذاءك»، قالت لها.

تطلّعت الفتاة صوب الخارج. لم ترَ سوى السهل القاحل، حيث بدأ القطار يسرع من جديد، فعمدت الى وضع آخر بسكوتة في الكيس وأسرعت في ارتداء حذاءها. ناولتها المرأة مشطاً.

«مشّطي شعرك»، قالت لها.

بدأ القطار يطلق صفارته فيما الفتاة تسرّح شعرها. قامت المرأة بتجفيف العرق من على رقبتها ومسحت الزيت عن وجهها بأصابعها. حين توقفت الفتاة عن تسريح شعرها، كان القطار يمر بالبيوت النائية لبلدة أكبر ولكن أكثر حزناً من السابقات.

«إذا كنتِ تشعرين بالحاجة الى فعل أي شيء، فافعليه الآن». قالت المرأة «لاحقاً لا تأخذي شربة ماء من أي مكان حتى ولو كنت تموتين من العطش. والأهم، لا بكاء».

أومأت الفتاة برأسها علامة الاستجابة. دخلت عبر النافذة ريح حارة جنباً الى جنب مع صفير القاطرة وقعقعة العربات القديمة. طوت المرأة كيس النايلون وبداخله بقية الطعام ثم وضعته داخل حقيبة يدها. لبضع لحظات، شّعت صورة كاملة للبلدة على زجاج النافذة في ذاك الثلاثاء الزاهي من آب. لفّت الفتاة الأزهار داخل الصحيفة المبتلّة، ثم تحرّكت قليلاً بعيداً عن النافذة وتطلّعت بعدها بوالدتها. حظيت في المقابل بتعبير من الرضى. بدأ القطار بالصفير ليتباطأ بعدها، وبعد لحظة توقف.

لم يكن هناك من أحد عند المحطة. في الجانب الآخر من الشارع، وبموازاة الرصيف المظلل بشجر اللوز، وحدها قاعة البليارد كان مفتوحة. كانت البلدة تغرق في القيظ. نزلت المرأة والفتاة من القطار وعبرتا المحطة المهجورة بلاطاتها منفلقة عن بعضها البعض بفعل الحشائش النامية بينها نحو الجانب الظليل من الشارع.

قاربت الثانية ظهراً. في تلك الساعة، وبسبب ثقل النعاس تلجأ البلدة الى أخذ قيلولة. المخازن، المكاتب، المدرسة الرسمية.. كانت قد أغلقت جميعها في الحادية عشرة ولا تعود الى فتح أبوابها حتى قبيل الرابعة بقليل، حين يكون القطار قد عاد. وحده الفندق المقابل للمحطة، مع باره وقاعة بليارده، فضلاً عن مكتب البريد الذي يقع على أحد جوانب الباحة العامة يبقى مفتوحاً.

من حيث المنازل، ومعظمها مبني على طراز شركة الموز، أبوابها مقفلة من الداخل ومصاريعها منزلة. كانت الحرارة شديدة داخل بعضها، ما حدا القاطنين على تناول الغداء في الباحة المرصوفة. والبعض الآخر عمد الى إسناد كرسي بالحائط، في ظل شجر الموز، ليمضي القيلولة في الشارع تماماً.

بتتبعهما للظل الواقي لشجر الموز، دخلت المرأة والفتاة البلدة من دون التسبّب بإزعاج طقوس فترة القيلولة. قصدتا مباشرة بناء الأبرشية. حكّت المرأة شبكية الباب المعدنية بظفر إصبعها، انتظرت قليلاً ثم حكّت ثانية. في الداخل سُمع صوت مروحة كهربائية تهمهم. لم يتناه إليهما صوت الدعسات القادمة صوب الباب. بالكاد سمعتا صرير باب، وبادرهما في الحال صوت حذر قريباً من المحفة المعدنية للشبكية: «من القادم؟». حاولت المرأة الرؤية عبر عين الشبكية:

«أريد مقابلة الكاهن»، ردّت المرأة.

«هو نائم الآن».

«إنها حالة طارئة»، أصرّت المرأة.

دلّت بنبرة صوتها المتأنية عن تصميم هادئ.

فُتح الباب قليلاً، من دون ضجة، وظهرت إمرأة ممتلئة وأكبر منها سناً، مع بشرة شاحبة وشعر بلون الحديد. بدت عيناها ضئيلتين وراء نظارتها السميكة.

«أدخلا»، قالت، وفتحت الباب على وسعه.

دخلت الثلاث غرفة تغشاها رائحة أزهار عتيقة. قادتهما المرأة نحو مقعد خشبي وأشارت لهما بالجلوس. جلست الفتاة لكن والدتها بقيت واقفة، شاردة الذهن فيما تقبض يداها الإثنتان على حقيبة يدها. لم تكن من ضجة تُسمع فوق ما يصدر عن قرقعة المروحة الكهربائية.

إمرأة الدار ظهرت من جديد عند الباب في الطرف الأبعد للغرفة. «يقول إن عليكِ العودة بعد الثالثة»، قالت بصوت منخفض جداً. «لم يمض على استلقائه أكثر من خمس دقائق».

«يغادر القطار في الثالثة والنصف»، ردّت المرأة.

كان جواباً قصيراً وينمّ عن ثقة بالنفس، لكن صوتها بقي سائغاً وخفيضاً. إمرأة الدار ابتسمت للمرة الأولى.

«حسناً»، قالت.

حين أغلق الباب البعيد ثانية، جلست المرأة قرب ابنتها. كانت غرفة الانتظار الضيّقة فقيرة، لكن مرتّبة ونظيفة. على الجانب الآخر من الدرابزين الذي قسّم الغرفة، ثمة طاولة خاصة بالعمل، من النوع العادي وعليها غطاء مشمّع، وفوق الطاولة آلة كاتبة بدائية، قرب إناء أزهار. سجلات الأبرشية كانت وراء الطاولة. يمكن الاستنتاج أنه مكتب حرصت على إبقائه منظماً إمرأة عانس.

فُتح الباب البعيد، وظهر هذه المرة الكاهن، وهو ينظف نظارته بمحرمة. فقط بعد أن وضعها على عينيه كان واضحاً أنه شقيق المرأة التي فتحت الباب.

«كيف لي مساعدتكما؟» سأل الكاهن

«مفاتيح المقبرة»، أجابته المرأة.

كانت الفتاة جالسة فيما الأزهار ـ في حضنها وقدماها مشبوكتان تحت المقعد. نظر الكاهن اليها، ثم الى المرأة، ومن ثم عبر الشبك المعدني للنافذة باتجاه السماء الساطعة الصافية.

«في مثل هذا الغيظ»، كان بمقدوركما الانتظار حتى غروب الشمس»

حركت المرأة رأسها بصمت. توجه الكاهن نحو الجانب الآخر من الدرابزين، تناول من الخزانة دفتر ملاحظات داخل قماش مشمع، وحامل اقلام معدني، فضلاً عن محبرة، ثم جلس الى الطاولة. كان ثمة شعر على يديه يفوق ما هو ناقص من راسه.

«أي قبر تنويان زيارته؟» سأل الكاهن

«قبر كارلوس سينتينو»، أجابت المرأة.

«قبر من»؟

«كارلوس سنتينو»، كررت المرأة.

رغم الإعادة لم يفهم الكاهن من تعني.

«انه اللص الذي قتل هنا الاسبوع الماضي»، قالت المرأة بنبرة الصوت نفسها «أنا أمه».

أمعن فيها الكاهن النظر. حدقت فيه بسيطرة هادئة على النفس، فما كان الا ان احمر وجه الكاهن. حتى رأسه وبدأ بالكتابة. ما ان ملأ الصفحة، طلب من المرأة التعريف عن نفسها، وأجابت من دون تردد، ذاكرة معلومات مفصلة،كأنها تقوم بقراءتها. بدأ الأب بالتعرف قامت الفتاة بحل ابزيم فردة حذائها اليسرى، سحبت قدمها منه، ثم اراحتها فوق طرف المقعد. بعدها فعلت الأمر نفسه مع اليمنى.

بدأ الأمر يوم الاثنين من الاسبوع المنصرم، عند الثالثة فجراً، على بعد مفارق قليلة من هنا. ربيكا، أرملة وحيدة كانت تعيش داخل بيت مليء بالقطع وبقاياها، تناهى الى مسمعها رغم رذات المطر صوت محاولة أحدهم محاولة فتح الباب الأمامي من الخارج، نهضت، نقبت في خزانتها عن مسدس قديم لم يطلق منه أحد رصاصة منذ أيام الكولونيل أوريليانو بيانديا، وقصدت غرفة الجلوس من دون اضاءة النور. استجمعت نفسها لا ارادياً ليس تماماً بسبب الضجة المنبعثة من القفل، بل بدافع الفزع الذي اعتمل في داخلها بسبب ثمان وعشرين سنة من الوحدة، ثم عمدت الى تركيز مخيلتها ليس فقط على بقعة تواجد الباب بل ايضا على الارتفاع الدقيق للقفل، قبضت بإحكام على المسدس بكلتا يديها، أغلقت عينيها، وضغطت الزناد. كانت المرة الأولى في حياتها تطلق فيها النار من سلاح، بعد الانتحار مباشرة لم تسمع شيئاً سوى وقع الرذاذ فوق السطح المغطى بالزنك، من ثم سمعت صوت خبطة اشبه بالمعدنية فوق سطح الشرفة الأمامية للمنزل، وبعدها تناهى اليها، صوت خفيض، محبب لكن متعب جداً: آه، يا أمنا مريم». الرجل الذي وجدوه ميتاً أمام المنزل صباحاً، وقد استحال أنفه شقفاً، كان يرتدي قميصاً من الفلانيل مع تقليمات ملونة، وسروالاً عادياً مع حبل كحزام، وكان حافي القدمين لم يكن أحد في البلدة يعرفه.

«إذن، كان اسمه كارلوس سنتينو»، تختتم الكاهن بعد أن أنهى الكتابة.

«سنتينو آيالا»، قالت المرأة. كان صبي الوحيد».

عاد الكاهن الى خزانته. كان ثمة مفتاحان كبيران صدئان معلقتين داخل الخزانة. تخيلت الفتاة، كما قد تكون أمها فعلت حين كانت فتاة مثلها، وكذلك كما قد يكون الكاهن نفسه تخيل ذات يوم، انهما كانا مفتاحي القديس بطرس، تناولهما، وضعهما فوق دفتر الملاحظات المفتوح فوق الدرابزين، واشار بسبابته الى موضع في الصفحة حيث كتب للتو، وهو ينظر الى المرأة.

«وقعي هنا»

خربشت المرأة اسمها، معلقة حقيبة اليد بذراعها، التقطت الفتاة الأزهار، توجهت صوب الدرابزين جارة قدميها، وراقبت ما ستفعله أمها بتمعن.

أطلق الكاهن تنهيدة.

«الم تحاولي مرة جلبه إلى طيق الصواب»؟

أجابت المرأة بعد الانتهاء من التوقيع.

«كان رجلاً صالحاً».

نظر الكاهن بداية في المرأة ومن ثم في الفتاة، وأدرك بنوع من الذهول التقني أنهما ليستا على وشك البكاء. تابعت المرأة بالنبرة نفسها:

«قلت له الا يقدم على سرقة شيء يحتاج أحد ما لأكله، وكان يطاوعني من جهة أخرى، حين كن يمارس الملاكمة، يضطره ذلك الى ملازمة الفراش ثلاثة أيام، تعباً من تلقي الكلمات».

«كان يفترض اقتلاع كل أسنانه»، قاطعت الفتاة.

«هذا صحيح»، وافقت المرأة. «كل لقمة تناولتها انا في تلك الايام كان لها طعم الكلمات التي كان يتلقاها ابني في أمامي أيام السبت.

«لا رد لمشيئة الله»، قال «الأب» الكاهن.

لكنه نطق بذلك دون الكثير من الاقتناع، لسببين اثنين. جعلته التجربة مشككاً نوعاً ما، وكذلك بسبب حرارة الجو. اقترح على المرأة وابنتها تغطية رأسيهما لاتقاء ضربة الشمس. متثائباً وأقرب ما يكون الى حالة النوم، زودهما بمعلومات تساعدهما على إيجاد قبر كارلوس سنتينو. واضاف، عندما تعودان يفترض بهما وضع المفتاح تحت الباب.. وفي حال أمكن بوسعهما وضع تبرع ما للكنيسة في مكان وضع المفتاح ذاته. أصغت المرأة لتعليماته باهتمام كبير، لكنها شكرته من دون أية اشارة ابتسام.

لاحظ الكاهن ان ثمة من يحاول في الخارج النظر عبر احدى عيون مشربية الباب الى الداخل. ضغط أنفه على المشربية، حتى قبل ان يفتح الباب المؤدي الى الشارع. في الخارج كان ثمة مجموعة من الأولاد، حين فتح الباب على مصراعيه تفرق الأولاد. عادة في مثل هذه الساعة، لا يتواجد أحد في الشارع. الآن لم يكن هناك فقط الأولاد. كان يوجد مجموعات من الناس تحت اشجار اللوز. تأمل «الأب» الشارع الغارق في القيظ فبان له الأمر. أغلق الباب على مهل ثانية.

«إنتظري لحظة»، قال للمرأة دون ان ينظر إليها

ظهرت شقيقته عند الباب البعيد مع سترة سوداء فوق قميص نومها فيما شعرها منسدل فوق اكتافها. نظرت بصمت الى الأب.

«ماذا هناك؟» سالها

«لاحظ الناس وجودهما» تمتمت شقيقته

«الأفضل خروجكما من الخلف الى الغناء»، قال «الأب»

«الوضع نفسه هناك أيضاً، قالت شقيقته متابعة، «كل الناس واقفة الى النوافذ».

لم يكن قد حظيت المرأة ما يجري حتى الآن. حاولت النظر الى الشارع عبر عين المشربية. من ثم تناولت باقة الأزهار من الفتاة وبدأت بالتحرك صوب الباب. لحقت الفتاة بها.

«إنتظرا الى ان تغرب الشمس». قال «الأب». «ستذوبان»، اضافت شقيقته، وهي واقفة بلا حراك عند مؤخرة العربة. «إنتظارا وسنعيركما مظلة».

«شكراً»، قالت المرأة «لا بأس بحالنا الحاضرة»

بعدها أخذت الفتاة من يدها وخرجتا الى الشارع.
الفكر الديني ضعيف، لذا فإنه يلجأ الي العنف عندما تشتد عليه قوة المنطق، حيث لايجد منطقاً يدافع به، ومن ثم يلجأ الي العنف.( ... )
عادل السنوسي
مشاركات: 839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:54 pm
مكان: Berber/Shendi/Amsterdam

رجل عجوز بجناحين كبيرين

مشاركة بواسطة عادل السنوسي »

رجل عجوز بجناحين كبيرين/ حكاية للأطفال [font=Arial]


ترجمة : سهيل نجم


بعد اليوم الثالث للمطر كانوا قد قتلوا الكثير جداً من السرطانات داخل البيت مما اضطر بيلايو أن يعبر باحتها الموحلة ليرميها في البحر، ذلك لأن الوليدة الجديدة قد أصيبت بالحمى طوال الليل واعتقدوا أن ذلك بسبب الرائحة النتنة.
كان العالم حزيناً منذ الثلاثاء. صار البحر والسماء قطعة واحدة من الرماد ورمال الشاطئ التي تلمع في ليالي آذار مثل ضوء مطحون، وقد أمست مزيجاً من الطين والمحار. وهن الضوء جداً في وقت الظهيرة حتى أن بيلايوعندما عاد إلى بيته بعد أن رمى السرطانات، كان من الصعب عليه أن يرى ذلك الذي يتحرك ويئن في آخر الباحة. تحتم عليه أن يقترب جداً ليرى أنه رجل عجوز، عجوز جداً، منكب على وجهه في الطين، وهو على الرغم من كل الجهود المضنية التي يبذلها، لا يستطيع النهوض، إذ أن جناحين هائلين كانا يعيقانه.

أرعبه هذا الكابوس فهرع ليأتي بأليسندا زوجته، التي تضع الكمادات على الطفلة المريضة، وأخذها إلى آخر الباحة.
نظرا إلى الجسد الملقى بذهول أخرس. كان يرتدى أسمال جامعي الخرق. لم تكن هناك سوى بضعة شعيرات على صلعته وبضعة اسنان في فمه، وحالته المثيرة للشفقة لجد كبير واقع في الوحل أزالت أي شعور بالمهابة كان من الممكن أن يحمله. جناحاه الصقريان الضخمان،الوسخان والنصف منتوفان، عالقان أبداً في الطين. كان بيلايو وأليساندا قد نظرا إليه طويلاً وعن قرب حتى تغلبا على ذهولهما فوجداه في الأخير أليفاً. ثم تجرأا للكلام معه وأجابهما بصوت قوي غير مفهوم لبحار. هكذا تخطيا غرابة الجناحين واستخلصا بذكاء أنه قد قذف بمفرده من سفينة أجنبية غارقة بفعل عاصفة. ولذلك استدعيا جارتهما، التي كانت تعرف كل شيء عن الحياة والموت، لتراه. كلما كانت تحتاج إليه هي نظرة واحدة لتبين لهما خطأهما.

قالت لهما،"إنه ملاك. لابد أنه قد جاء من أجل الطفلة، لكن المسكين هرم جداً مما جعل المطر يطيح به."

في اليوم التالي عرف الجميع أن ملاكاً بدمه ولحمه قد وقع أسيراً في منزل بيلايو. وإزاء الرأي الحكيم الذي طرحته الجارة، التي كانت ترى أن الملائكة في تلك الأزمنة لاجئون انقذوا من مؤامرة روحية، لم تطاوعهم قلوبهم على ضربه بالهراوات حتى الموت. كان بيلايو يراقبه طوال وقت العصر من نافذة المطبخ، متسلحاً بهراوته البوليسية، وقبل أن يأوي إلى فراشه أخرجه من الطين وحشره في القن مع الدجاجات. وعند منتصف الليل، عندما توقف المطر،كان بيلايو وأليساندا لايزالان يقتلان السرطانات. بعد ذلك بوقت قصير أفاقت الطفلة من الحمى وصارت لديها رغبة في تناول الطعام. فشعرا بشهامة دفعتهما إلى أن يقررا أن يضعا الملاك على طوف مع ماء عذب وزوادة لثلاثة أيام ويتركانه لمصيره في أعالي البحار. لكنهما حين ذهبا إلى الباحة مع ظهور أول خيط للفجر، شاهدا أن الجيران كلهم هناك أمام قن الدجاج ويتسلون بالملاك، ومن دونما وازع، يرمونه عبر الفتحات بمختلف الأشياء ليأكلها كأنه لم يكن كائناً سماوياً بل مجرد حيوان سيرك.

وصل الأب غونزاكا قبل السابعة، بعد أن ذعرته الأخبار الغريبة. خلال ذلك الوقت كان قد وصل متفرجون أقل طيشاً من أولئك الذين جاؤوا مع الفجر وكانوا يقومون بكل انواع الحدوس التي تتعلق بمستقبل الأسير. وأبسطها فكرة أن من الأحرى تعيينه عمدة للعالم. آخرون من امتلكوا عقلاً صارماً شعروا أنه من الأحرى أن يرقى مرتبة جنرال بخمس نجوم من أجل كسب جميع الحروب. البعض من الحالمين تأملوا أنه من الممكن أن يوضع للاستيلاد من أجل ان تنتشر في الأرض سلالة من البشر المجنحين الحكماء الذين من الممكن أن يتولوا مسؤولية الكون. لكن الأب قبل أن يكون كاهناً، كان يعمل في تقطيع الأخشاب. فراجع ثقافته الشفاهية بلحظة وطلب منهم فتح الباب كي يلقي نظرة فاحصة على ذلك الرجل المسكين الذي كان يبدو أشبه بدجاجة ضخمة عاجزة بين الدجاجات الرائعات. كان يضطجع في الزاوية يجفف جناحيه المفتوحين تحت ضوء الشمس بين قشور الفواكه وبقايا طعام الإفطارالتي رماها عليه من جاؤوه مبكرا. وعندما دخل الأب غونزاكا القن وقال له صباح الخير باللاتينية. وشعر بالغربة إزاء وقاحة العالم فلم يستطع الملاك إلا أن يرفع عينيه الأثريتين ويتمتم بشيء ما بلغته الخاصة. عندما لم يفهم لغة الرب ولم يعرف كيف يحيي كهنته صار لدى كاهن الإبرشية شك بأن هذا دجال لا غير. وعندما اقترب منه لاحظ أنه اقرب إلى البشر؛ فلديه رائحة مشردين لا تطاق، الجانب الخلفي من جناحيه قد اكتسى بالطفيليات كما أن الريش الكبيرة قد عبثت بها الريح، وليس ثمة شيء يمكن أن يحيله إلى كرامة وفخر الملائكة. ثم خرج من قن الدجاج وبموعظة موجزة حذر فيها الفضوليين من مزالق السذاجة. وذكرهم أن الشيطان كانت له تلك العادة السيئة في استعمال خدع هازلة من أجل إيهام الغافلين. وكانت حجته أنه إذا كانت الأجنحة هي العنصرالأساسي في الأقرار بالاختلاف بين الصقر والطائرة، فهي اقل من ذلك أهمية لدى التعرف على الملائكة. لكنه رغم ذلك قد وعد بأن يكتب رسالة إلى اسقفه كي يكتب الأخير رسالة إلى كبير أساقفته الذي بدوره سيكتب إلى الحبر الأعظم لغرض الحصول على الحكم الأخيرمن أعلى السلطات.

لقد وقعت حكمته على قلوب عقيمة. وانتشرت أخبار الملاك الأسير بسرعة هائلة حتى أن الباحة قد امتلأت بعد سويعات بضجة كضجة السوق وتحتم عليهم أن يطلبوا النجدة من قوات يحملون حراب مشرعة لتفريق جمهور الغوغاء الذين أوشكوا أن يطيحوا بالبيت. وكان ظهر أليسندا قد انقصم من تنظيف نفايات ذلك السوق،حتى تولدت لديها فكرة وضع سياج للباحة وطلب خمس سنتات رسم دخول لمشاهدةالملاك.

وجاء حب الاستطلاع من مكان بعيد. إذ وصل كرنفال من الرحالة ومعهم بهلوان طائر كان يئز فوق الجمهور المزدحم مرة إثر مرة من دون أن ينتبه إليه أحد لأن جناحيه لم يكونا لملاك بل، بالأحرى، لخفاش نجمي. وحضر أغلب التعساء من المرضى الباحثين عن الشفاء؛ إمرأة مسكينة تحصي دقات قلبها وقد نفدت الأرقام لديها؛ رجل برتغالي لم يستطع النوم لأن ضوضاء النجوم تقلق راحته؛ سائر في نومه نهض في الليل وألغى كل ما عمله عندما كان في اليقظة، والكثير ممن لديهم مصائب أقل جدية. في خضم تلك الفوضى التي جاءت من السفينة الغارقة، كان بيلايو وأليسندا سعيدان ومرهقان،لأنهما في أقل من أسبوع امتلأت غرفهما بالأموال ولا يزال هنالك طابور جد طويل للحجاج ينتظر دوره للدخول يصل مداه إلى ما بعد الأفق.

كان الملاك هو الوحيدالذي لم يشترك في هذا المشهد. فقضى وقته محاولاً أن يستريح في عشه المستعار، مربكاً من الحرارة الجحيمية لمصابيح الزيت وشموع السر المقدس التي وضعت بمحاذاة أسلاك القن. حاولوا في البداية أن يجعلوه يأكل كرات العث، الطعام الذي يوصف للملائكة تبعاً إلى توصية الجارة الحكيمة. لكنه رفضها كما رفض وجبات الطعام البابوية التي جلبها له المرضى، ولم يعرفوا أن رفضه قد جاء بسبب أنه كان ملاكاً أو بسبب أنه رجل عجوز. ولم يأكل في الأخير غير الباذنجان المهروس. كانت ميزته الخارقة للطبيعة الوحيدة هي الصبر. خصوصاً في الأيام الأولى، عندما نقرته الدجاجات بحثاً عن الطفيليات المفضلة لديها والتي تتكاثر في جناحيه وكان المشلولون ينزعون عنه الريش ليضعوه على أعضائهم المصابة، وحتى أكثرهم عطفاً عليه كانوا يرجمونه بالأحجار محاولين إيقافه لينظروا إليه وهو منتصبا. والمرة الوحيدة التي نجحوا في إيقافه عندما حرقوا جنبه بسيخ لوسم الثيران المخصية، لأنه كان جامداً لساعات طويلة حتى ظنوا أنه ميت. نهض مذعوراً زاعقاً بلغته السحرية تتساقط الدموع من عينيه ونفض جناحيه عدة مرات مما اثار زوبعة من غبار ذروق الدجاج ونوبة ذعر بدت آتية من عالم غير هذا العالم. ورغم أن الكثيرين ظنوا ان رد الفعل هذا لم يأت من الغضب بل من الألم، صاروا حذرين في أن لا يزعجونه، لأنهم أدركوا أن سلبيته لم تتأت من انه يريد أن يستريح بل هو هدوء العاصفة. كان الأب غونزاكا يرد الجموع المندفعة بكلمات مستوحات من الخادمة بينما كان في انتظار وصول الحكم النهائي بشأن طبيعة الأسير. ولكن بريد روما لم تبد عليه العجلة. فالوقت في معرفة إذا كان الاسير له سرة، أو إن كانت لغته لها علاقة بالآرامية، وكم مرة يمكنه أن يثبت رأس الدبوس، أو فيما إذا لم يكن غير نرويجي له أجنحة. هذه الرسائل الهزيلة لربما تستمر في أن تأتي وتذهب إلى آخر الزمان لو لم تضع العناية الألهية نهاية للمصائب التي على رأس الكاهن.

وحدث في تلك الأيام، أن من بين كرنفالات الجذب، وصل المدينة عرض لرحالة ظهرت فيه المرأة التي انقلبت إلى عنكبوت لأنها لم تطع والديها. كان الرسم الذي يدفع لرؤيتها ليس أقل مما يدفع لرؤية الملاك فحسب، بل سمح للناس أن يسألوها كل أنواع الأسئلة حول حالتها المزرية ويتفحصونها من كل جوانبها حتى لايشك أحد بحقيقة رعبها. كانت عبارة عن عنكبوت ضخم بحجم الكبش ولها رأس فتاة حزينة. وما كان يمزق القلب هو ليس شكلها الغريب بل الألم الصادق المنبعث من روايتها لتفاصيل حظها العاثر. فعلى الرغم من أنها كانت لاتزال طفلة تسللت من منزل والديها لتذهب للرقص، وأثناء عودتها عبر الغابات بعد أن قضت الليل بطوله ترقص من دون السماح لها بذلك، صعق رعد السماء وفلقها وعبر ذلك الانفلاق جاء صاعق برقي كبريتي وحولها إلى عنكبوت. كان غذاؤها الوحيد هو من الكرات اللحمية التي يتصدق بهاالمحسنون ويدفعونها في فمها. مشهد مثل هذا، مليء بالحقيقة البشرية وبدرس مروع، كان على وشك أن يقضي على مشهد ملاك متعجرف نادراً ما كان يتلطف بالنظر إلى الناس. فضلاً عن ذلك ثمة بضعة معجزات أوعزت إلى الملاك توضح اختلاله العقلي، مثل الرجل الأعمى الذي لم يشفه بل زرع له ثلاثة اسنان جديدة، والمشلول الذي لم يتمكن من السير بل كاد يربح اليانصيب، والمجذوم الذي نبتت في تقرحاته زهور عباد الشمس. عزاء المعجزات هذا،الذي كان أشبه بالسخرية، كان قد حطم سمعة الملاك التي سحقت تماماً في الأخير مع مجيء المرأة التي تحولت إلى عنكبوت. وهكذا شفي الأب غونزاكا تماماً من أرقه وخلت باحة دار بيلايو مثلما كانت خالية عندما أمطرت السماء لثلاثة أيام ودخلت السرطانات إلى غرف النوم.

لم يكن ثمة من داع لإلقاء اللوم على صاحبي المنزل. فقد بنيا بالمال الذي حصلا عليه بيتا بطابقين وله شرفات وحدائق وشبكة عالية تمنع السرطانات من النزول داخل البيت عند الشتاء، ووضعا قضباناً حديدية تمنع الملائكة من الدخول. وعمل بيلايو مزرعة أرانب قرب المدينة وتخلى عن عمل وكيل مزرعة إلى الأبد، واشترت أليسندا أحذية ساتانية فاخرة بكعب عال والكثير من الثياب القزحية الحريرية، كتلك التي كانت ترتديها النساء الراقيات في تلك الأيام في يوم الأحد. كان قن الدجاج هو الوحيد الذي لم ينتبهوا إليه. وإن كانوا يغسلونه بالكريولين وقطرات من الصمغ الراتينجي بين الحين والحين. لكن ذلك ليس إجلالاً للملاك بل لإبعاد رائحة الروث التي لاتزال عالقة في كل مكان كالشبح وتحيل البيت الجديد إلى بيت قديم. وعندما تعلمت الطفلة المشي لأول مرة حرصا على أن لا تقترب من قن الدجاج. لكنهما فيما بعد أبعدا مخاوفهما وألفا الرائحة، وقبل أن يظهر السن الثاني لطفلتهما كانت قد ذهبت لتلعب قرب قن الدجاج حيث تداعى الجدار السلكي للقن. كان الملاك فاتراً معها مثلما كان مع باقي الكائنات، لكنه تحمل أبشع سلوك بريء بصبر كلب لا أوهام لديه. وأصيبا كلاهما بجدري الدجاج. الطبيب الذي جاء لمعالجة الطفلة لم يستطع مقاومة أغراء الاستماع إلى قلب الملاك، ووجد صوت صفير في القلب وسمع الكثير من الأصوات في كليتيه حتى بدا للطبيب أن من الاستحالة أن يكون حيا. الشيء الأغرب هو منطق جناحيه. لقد كانا يبدوان طبيعيين على ذلك الجسم البشري حتى أنه استغرب لماذا لا يملك البشر الآخرون مثلهما.

عندما بدأت الطفلة بالذهاب إلى المدرسة كان قد مر بعض الوقت الذي هدمت فيه الشمس والأمطار قن الدجاج. وظل الملاك يجر نفسه هنا وهناك مثل رجل ضال يلفظ أنفاسه الأخيرة. كانوا يطردونه من غرفة النوم بالمكنسة فيجدونه قد ذهب إلى المطبخ. حتى ظهر لهم أنه موجود في عدة أماكن في اللحظة نفسها وظنوا أنه صار أكثر من واحد، كأنه يولد من نفسه آخرين ينتشرون داخل البيت، مما جعل أليسندا الساخطة والمشوشة أن تصرخ أن هذه حياة بائسة في جحيم مليء بالملائكة. كان نادراً ما يأكل وأمست عيناه الأثريتين مضببتين أدت به إلى أن يصطدم بالأعمدة.

كل ما بقي له هي الإبر المجردة لآخر ريشات له. رمى عليه بيلايو بطانية وتفضل عليه أيضاً بالسماح له بالمنام في السقيفة ولاحظوا عند ذاك أن حرارته قد ارتفعت في الليل وبدأ بالهذيان ملتوي اللسان مثل عجوز نرويجي. وكانت تلك هي من المرات القليلة التي يشعرون فيها بالخطر، لاعتقادهم أنه سوف يموت ولن تستطيع حتى جارتهم الحكيمة أن تنصحهم بما يجب أن يعملونه بملاك ميت.

ولكنه لم يعش طوال الشتاء فحسب بل بدا أنه تحسن مع الأيام المشمسة الأولى. وبقي دون حراك لعدة أيام في ابعد زاوية من الباحة، حيث لا أحد يراه، ومع بواكير كانون الثاني نبتت له بعض الريش الكبيرة الصلبة، ريش فزاعة، هي اشبه بعجز مأساوي آخر. ولكن لابد أنه كان يعلم سبب تلك التغيرات، لأنه كان حريصاً جداً على أن لا يلاحظه أحد ، ولا أحد يسمع الأناشيد البحرية التي كان يغنيها أحياناً تحت النجوم. وفي احد الأيام عندما كانت أليسندا تقطع البصل للغداء دخلت إلى المطبخ ريح بدت كأنها آتية من أعالي البحار. ثم أطلت من النافذة ورأت الملاك وهو في أولى محاولاته للطيران. كانت غيرمتقنة لدرجة أن أظافره قد فتحت حفرة في البقعة الخضراء وكان على وشك أن يطيح بالسقيفة برفرفته الخرقاء المنفلتة في الضياء والتي لم توفق في قبض الهواء. ولكنه تمكن من تحقيق بعض العلو. وأطلقت اليسندا تنهيدة راحة، من أجل نفسها ومن أجله، عندما راقبته يمر من فوق أخر المنازل، رافعاً نفسه على نحو ما برفرفة مجازفة كأنها لنسر عجوز. ظلت تراقبه وهي لاتزال تقطع البصل واستمرت تراقبه حتى حين لم يعد بإمكانها رؤيته، لأنه عند ذاك لم يعد يمثل أي قلق لحياتها بل مجرد نقطة خيالية في أفق البحر.
آخر تعديل بواسطة عادل السنوسي في الأحد إبريل 20, 2014 6:36 pm، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
عادل السنوسي
مشاركات: 839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:54 pm
مكان: Berber/Shendi/Amsterdam

مشاركة بواسطة عادل السنوسي »

A Very Old Man With Enormous Wings: A Tale For Children

Gabriel Garcia Marquez



On the third day of rain they had killed so many crabs inside the house that Pelayo had to cross his drenched courtyard and throw them into the sea, because the newborn child had a temperature all night and they thought it was due to the stench. The world had been sad since Tuesday. Sea and sky were a single ash-gray thing and the sands of the beach, which on March nights glimmered like powdered light, had become a stew of mud and rotten shellfish. The light was so weak at noon that when Pelayo was coming back to the house after throwing away the crabs, it was hard for him to see what it was that was moving and groaning in the rear of the courtyard. He had to go very close to see that it was an old man, a very old man, lying face down in the mud, who, in spite of his tremendous efforts, couldn't get up, impeded by his enormous wings.

Frightened by that nightmare, Pelayo ran to get Elisenda, his wife, who was putting compresses on the sick child, and he took her to the rear of the courtyard. They both looked at the fallen body with a mute stupor. He was dressed like a ragpicker. There were only a few faded hairs left on his bald skull and very few teeth in his mouth, and his pitiful condition of a drenched great-grandfather took away and sense of grandeur he might have had. His huge buzzard wings, dirty and half-plucked were forever entangled in the mud. They looked at him so long and so closely that Pelayo and Elisenda very soon overcame their surprise and in the end found him familiar. Then they dared speak to him, and he answered in an incomprehensible dialect with a strong sailor's voice. That was how they skipped over the inconvenience of the wings and quite intelligently concluded that he was a lonely castaway from some foreign ship wrecked by the storm. And yet, they called in a neighbor woman who knew everything about life and death to see him, and all she needed was one look to show them their mistake.

"He's an angel," she told them. "He must have been coming for the child, but the poor fellow is so old that the rain knocked him down."

On the following day everyone knew that a flesh-and-blood angel was held captive in Pelayo's house. Against the judgment of the wise neighbor woman, for whom angels in those times were the fugitive survivors of a spiritual conspiracy, they did not have the heart to club him to death. Pelayo watched over him all afternoon from the kitchen, armed with his bailiff's club, and before going to bed he dragged him out of the mud and locked him up with the hens in the wire chicken coop. In the middle of the night, when the rain stopped, Pelayo and Elisenda were still killing crabs. A short time afterward the child woke up without a fever and with a desire to eat. Then they felt magnanimous and decided to put the angel on a raft with fresh water and provisions for three days and leave him to his fate on the high seas. But when they went out into the courtyard with the first light of dawn, they found the whole neighborhood in front of the chicken coop having fun with the angel, without the slightest reverence, tossing him things to eat through the openings in the wire as if weren't a supernatural creature but a circus animal.

Father Gonzaga arrived before seven o'clock, alarmed at the strange news. By that time onlookers less frivolous than those at dawn had already arrived and they were making all kinds of conjectures concerning the captive's future. The simplest among them thought that he should be named mayor of the world. Others of sterner mind felt that he should be promoted to the rank of five-star general in order to win all wars. Some visionaries hoped that he could be put to stud in order to implant the earth a race of winged wise men who could take charge of the universe. But Father Gonzaga, before becoming a priest, had been a robust woodcutter. Standing by the wire, he reviewed his catechism in an instant and asked them to open the door so that he could take a close look at that pitiful man who looked more like a huge decrepit hen among the fascinated chickens. He was lying in the corner drying his open wings in the sunlight among the fruit peels and breakfast leftovers that the early risers had thrown him. Alien to the impertinences of the world, he only lifted his antiquarian eyes and murmured something in his dialect when Father Gonzaga went into the chicken coop and said good morning to him in Latin. The parish priest had his first suspicion of an imposter when he saw that he did not understand the language of God or know how to greet His ministers. Then he noticed that seen close up he was much too human: he had an unbearable smell of the outdoors, the back side of his wings was strewn with parasites and his main feathers had been mistreated by terrestrial winds, and nothing about him measured up to the proud dignity of angels. The he came out of the chicken coop and in a brief sermon warned the curious against the risks of being ingenuous. He reminded them that the devil had the bad habit of making use of carnival tricks in order to confuse the unwary. He argued that if wings were not the essential element in determining the different between a hawk and an airplane, they were even less so in the recognition of angels. Nevertheless, he promised to write a letter to his bishop so that the latter would write his primate so that the latter would write to the Supreme Pontiff in order to get the final verdict from the highest courts.

His prudence fell on sterile hearts. The news of the captive angel spread with such rapidity that after a few hours the courtyard had the bustle of a marketplace and they had to call in troops with fixed bayonets to disperse the mob that was about to knock the house down. Elisenda, her spine all twisted from sweeping up so much marketplace trash, then got the idea of fencing in the yard and charging five cents admission to see the angel.

The curious came from far away. A traveling carnival arrived with a flying acrobat who buzzed over the crowd several times, but no one paid any attention to him because his wings were not those of an angel but, rather, those of a sidereal bat. The most unfortunate invalids on earth came in search of health: a poor woman who since childhood has been counting her heartbeats and had run out of numbers; a Portuguese man who couldn't sleep because the noise of the stars disturbed him; a sleepwalker who got up at night to undo the things he had done while awake; and many others with less serious ailments. In the midst of that shipwreck disorder that made the earth tremble, Pelayo and Elisenda were happy with fatigue, for in less than a week they had crammed their rooms with money and the line of pilgrims waiting their turn to enter still reached beyond the horizon.

The angel was the only one who took no part in his own act. He spent his time trying to get comfortable in his borrowed nest, befuddled by the hellish heat of the oil lamps and sacramental candles that had been placed along the wire. At first they tried to make him eat some mothballs, which, according to the wisdom of the wise neighbor woman, were the food prescribed for angels. But he turned them down, just as he turned down the papal lunches that the pentinents brought him, and they never found out whether it was because he was an angel or because he was an old man that in the end ate nothing but eggplant mush. His only supernatural virtue seemed to be patience. Especially during the first days, when the hens pecked at him, searching for the stellar parasites that proliferated in his wings, and the cripples pulled out feathers to touch their defective parts with, and even the most merciful threw stones at him, trying to get him to rise so they could see him standing. The only time they succeeded in arousing him was when they burned his side with an iron for branding steers, for he had been motionless for so many hours that they thought he was dead. He awoke with a start, ranting in his hermetic language and with tears in his eyes, and he flapped his wings a couple of times, which brought on a whirlwind of chicken dung and lunar dust and a gale of panic that did not seem to be of this world. Although many thought that his reaction had not been one of rage but of pain, from then on they were careful not to annoy him, because the majority understood that his passivity was not that of a her taking his ease but that of a cataclysm in repose.

Father Gonzaga held back the crowd's frivolity with formulas of maidservant inspiration while awaiting the arrival of a final judgment on the nature of the captive. But the mail from Rome showed no sense of urgency. They spent their time finding out in the prisoner had a navel, if his dialect had any connection with Aramaic, how many times he could fit on the head of a pin, or whether he wasn't just a Norwegian with wings. Those meager letters might have come and gone until the end of time if a providential event had not put and end to the priest's tribulations.

It so happened that during those days, among so many other carnival attractions, there arrived in the town the traveling show of the woman who had been changed into a spider for having disobeyed her parents. The admission to see her was not only less than the admission to see the angel, but people were permitted to ask her all manner of questions about her absurd state and to examine her up and down so that no one would ever doubt the truth of her horror. She was a frightful tarantula the size of a ram and with the head of a sad maiden. What was most heartrending, however, was not her outlandish shape but the sincere affliction with which she recounted the details of her misfortune. While still practically a child she had sneaked out of her parents' house to go to a dance, and while she was coming back through the woods after having danced all night without permission, a fearful thunderclap rent the sky in tow and through the crack came the lightning bolt of brimstone that changed her into a spider. Her only nourishment came from the meatballs that charitable souls chose to toss into her mouth. A spectacle like that, full of so much human truth and with such a fearful lesson, was bound to defeat without even trying that of a haughty angel who scarcely deigned to look at mortals. Besides, the few miracles attributed to the angel showed a certain mental disorder, like the blind man who didn't recover his sight but grew three new teeth, or the paralytic who didn't get to walk but almost won the lottery, and the leper whose sores sprouted sunflowers. Those consolation miracles, which were more like mocking fun, had already ruined the angel's reputation when the woman who had been changed into a spider finally crushed him completely. That was how Father Gonzaga was cured forever of his insomnia and Pelayo's courtyard went back to being as empty as during the time it had rained for three days and crabs walked through the bedrooms.

The owners of the house had no reason to lament. With the money they saved they built a two-story mansion with balconies and gardens and high netting so that crabs wouldn't get in during the winter, and with iron bars on the windows so that angels wouldn't get in. Pelayo also set up a rabbit warren close to town and have up his job as a bailiff for good, and Elisenda bought some satin pumps with high heels and many dresses of iridescent silk, the kind worn on Sunday by the most desirable women in those times. The chicken coop was the only thing that didn't receive any attention. If they washed it down with creolin and burned tears of myrrh inside it every so often, it was not in homage to the angel but to drive away the dungheap stench that still hung everywhere like a ghost and was turning the new house into an old one. At first, when the child learned to walk, they were careful that he not get too close to the chicken coop. But then they began to lose their fears and got used to the smell, and before they child got his second teeth he'd gone inside the chicken coop to play, where the wires were falling apart. The angel was no less standoffish with him than with the other mortals, but he tolerated the most ingenious infamies with the patience of a dog who had no illusions. They both came down with the chicken pox at the same time. The doctor who took care of the child couldn't resist the temptation to listen to the angel's heart, and he found so much whistling in the heart and so many sounds in his kidneys that it seemed impossible for him to be alive. What surprised him most, however, was the logic of his wings. They seemed so natural on that completely human organism that he couldn't understand why other men didn't have them too.

When the child began school it had been some time since the sun and rain had caused the collapse of the chicken coop. The angel went dragging himself about here and there like a stray dying man. They would drive him out of the bedroom with a broom and a moment later find him in the kitchen. He seemed to be in so many places at the same time that they grew to think that he'd be duplicated, that he was reproducing himself all through the house, and the exasperated and unhinged Elisenda shouted that it was awful living in that hell full of angels. He could scarcely eat and his antiquarian eyes had also become so foggy that he went about bumping into posts. All he had left were the bare cannulae of his last feathers. Pelayo threw a blanket over him and extended him the charity of letting him sleep in the shed, and only then did they notice that he had a temperature at night, and was delirious with the tongue twisters of an old Norwegian. That was one of the few times they became alarmed, for they thought he was going to die and not even the wise neighbor woman had been able to tell them what to do with dead angels.

And yet he not only survived his worst winter, but seemed improved with the first sunny days. He remained motionless for several days in the farthest corner of the courtyard, where no one would see him, and at the beginning of December some large, stiff feathers began to grow on his wings, the feathers of a scarecrow, which looked more like another misfortune of decreptitude. But he must have known the reason for those changes, for he was quite careful that no one should notice them, that no one should hear the sea chanteys that he sometimes sang under the stars. One morning Elisenda was cutting some bunches of onions for lunch when a wind that seemed to come from the high seas blew into the kitchen. Then she went to the window and caught the angel in his first attempts at flight. They were so clumsy that his fingernails opened a furrow in the vegetable patch and he was on the point of knocking the shed down with the ungainly flapping that slipped on the light and couldn't get a grip on the air. But he did manage to gain altitude. Elisenda let out a sigh of relief, for herself and for him, when she watched him pass over the last houses, holding himself up in some way with the risky flapping of a senile vulture. She kept watching him even when she was through cutting the onions and she kept on watching until it was no longer possible for her to see him, because then he was no longer an annoyance in her life but an imaginary dot on the horizon of the sea.

عادل السنوسي
مشاركات: 839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:54 pm
مكان: Berber/Shendi/Amsterdam

مشاركة بواسطة عادل السنوسي »

[color=red]كتب* الناقد والمترجم علي ماهر ابراهيم التعليق التالي علي هذه القصة :

سبق ان أشرت الي الخوارق والخيالات في رائعة غارثيا ماركيز" مئة عام من العزلة" . وفي هذه القصة نجد انموذجاً فريداً لطريقة غارثيا ماركيز في المعالجة الروائية للخوارق، باعتبارها جزءاً من نسيج الواقع، وتعميق لتلك الطريقة، خصوصاً اذا ما عرفنا أن المؤلف كتب هذه القصة بعد كتابته لمئة عام من العزلة. بل اننا لا نبالغ اذا قلنا ان موضوع هذه القصة هو الخوارق ونظرة الناس اليها.

ولعل أول ما يسترعي النظر في هذه القصة هو عنوانها الفرعي – "حكاية للأطفال" الذي ينم بطريقة غير مباشرة عن ايمان غارثيا ماركيز بأن الأدب لعب و تسلية، وأن الهدف من القصة هو " الحكاية" .
وقد اختار الكاتب لقصته موضوعاً خارقاً للطبيعة بكل المعاني: ملاك (( يسقط)) علي الأرض في قرية صغيرة (( عالمية )) . ونقول عالمية لأن " العالم كان العالم حزيناً منذ يوم الثلاثاء" و- لأن " الناس جميعاً أصبحوا يعرفون ان في دار بيلايو ملاكاً أسير. "

أما عن طرائق تقبل البشر للمعجزة فهي تصور في أجلي صورة ممكنة قصد غارثيا ماركيز واسلوبه: بيلايو وايليسندا يتغلبان علي ذهولهما الاول و يعتبران الملاك العجوز " شيئاً مألوفاً" بعد ان" تجاوزا عن مشكلة الجناحين" فالإنسان يسعي دائماً الي تجاهل ما لم يألفه، أو الي أن يجد فيه شيئاً مألوفاً، أو يجد اليه تفسيراً مألوفاً. وهكذا خلصا بحكمة " تستحق الثناء" – وهذا هو التدخل الوحيد من الراوي في الحكاية – الي انه غريق أجنبي.

بيد ان هذا التفسير" الواقعي" لايكفي: ليستعن الإنسان اذن بتفسير " ميثولوجي" مشوب بما ألفه: هو ملاك " أسقطته الأمطار" لأنه طاعن في السن. ملاك هائم علي وجهه بعد أن نجا من " مؤامرة سماوية". وهذا هو تفسير الجارة التي تعرف كل شئ عن الحياة و" الموت" . ولأن كل شئ لابد له ان يكون له هدف يدركه الإنسان، فقد أتي من أجل الطفل المريض.

الخارق اذن أصبح جزءاً خاصاً من الواقع يعايشه الإنسان العادي ويسخره لأغراضه ( شفاء الطفل والمعجزات الخائبة) بل يستغله ويتاجر فيه ( النقود الفضية)

بقي تفسيران: تفسير الدين الذي يعذب الكاهن ويستهلك وقت علماء الكنيسة، إذ يطبقون بصرامة معاييرهم السطحية في التعرف علي الظاهرة الخارقة، وينتهون إلي رفض هذا الدخيل علي الواقع " الديني" ، أيا ما كان وعلي الرغم من أجنحته، وتفسير العلم ممثلاً في الطبيب الذي يقتنع بمنطق الأجنحة، ويعجب لأن سائر البشر ليس لهم مثلها. فالخارق إذاً يبدو طبيعياً تماماً في واقع " العلم". وأخيراً يتحول الملاك الخارق الي جزء مهمل من الواقع لا يثير فضولاً، لأن اهل القرية وجدوا بدلاً منه معجزة أقرب الي ما ألفوه، معجزة حزينة يستطيعون مخاطبتها وأن يتفحصوها ظهراً وبطناً. بدلاً من ذلك الملاك الذي " يحتقر ما حوله ولا يكاد يتنازل بالنظر إلي البشر". لم تكن خلقة الفتاة الشاذة هي ما تشد انتباههم، " بل" حسرتها الصادقة وهي تحكي تفاصيل بليتها" ، معجزة لها ما يبررها في الواقع " الأخلاقي" لأن الفتاة عصت والديها، ولأنها مشحونة ب "الحقيقة البشرية" و " العبرة" .

معجزة " بشرية" تحل محل معجزة " ملائكية" فاشلة تحولت الي جزء من الواقع مألوف ومهمل، وإن كان يسبب بعض المضايقات " العملية".

ولأنه مألوف فإن أليسيندا لا تدهش إذ تفاجئ الملاك وهو يقوم بأولي محاولاته للطيران، وإنما تتنفس الصعداء " له ولها" إذ تراه يطير مبتعداً عن القرية. بل هي تراه " حتي عندما صار من المستحيل أن تراه" لأنه " لم يعد حجرعثرة في حياتها، بل نقطة وهمية في أفق البحر" .

لم يبق للملاك أثر في الواقع إلا " الوهم" وبيت بيلايو الجديد الذي أقام له حواجز لا تدخله السراطين البحرية، وسد نوافذه بالقضبان ( كي لاتدخله الملائكة).

هكذا اذن يستدرج غارثيا ماركيز القارئ باسلوبه السهل و الساخر، وايقاعه السريع اللاهث، الأخاذ، الي استضافة الخوارق في في عالمه، عالم حكايات الجدات، وحكايات الاطفال.
[/color]
الفكر الديني ضعيف، لذا فإنه يلجأ الي العنف عندما تشتد عليه قوة المنطق، حيث لايجد منطقاً يدافع به، ومن ثم يلجأ الي العنف.( ... )
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

شكرا جزيلا ياعادل السنوسي. لقد أنعشت روحي اذ أعدت - بعد سنوات عديدة - قراءة هذين النصين القصصيين الرائعين لفقيد لنا لن يعوّض عنه الا ما ترك من آثار ابداعية.

ألا ليتك تعثر لنا، أيضا، على واحده من أروع قصصه، ألا وهي "أجمل غريق في العالم"، وحبذا لو كانت تلك التي ترجمها عيسى مخلوف ونشرها في كتاب ضم عشرة قصص قصيرة من أميركا اللاتينية (وأعتقد أن عنوانه كان " قصص قصيرة من أميركا اللاتينية" كما كان له عنوانا آخر (يبدو أنه عنوان سلسلة) هو "مجموعة مؤلفين".
عادل السنوسي
مشاركات: 839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:54 pm
مكان: Berber/Shendi/Amsterdam

مشاركة بواسطة عادل السنوسي »

سلامات يا عادل، لم أتمكن من العثور علي ترجمة عيسي مخلوف لرائعة ماركيز = أجمل غريق في العالم عن الفرنسية ، ولكن اليك ترجمة حميد كشكولي للقصة عن الإسبانية مباشرة :
*** *** *******
أجمل غريق في العالم
ترجمة حميد كشكولي

لما رأى الأطفال، أول مرة، ذاك الانتفاخ الداكن و المائج يقترب إلى وسط البحر، ظنوه سفينة من سفن الأعداء، ولكنهم ، حين رأوا أن لا وجود لأية صارية ، ولا لعلم ، تصوروه حوتا، ولكنهم بعد أن أزاحه الماء إلى الساحل الرملي ، و بعد أن قاموا بتنظيفه من الأعشاب و الحراشف والصداف وبقايا السمك ، تأكدوا أنه رجل غريق.
شرعَ الصبيةُ يلعبون بتلك الجثة يوارونها في الترابِ حينًا ويخرجونها حينًا حتّى إذا مرّ عليهم رجلٌ ورأى ما يفعلون نَهَرهم وسعى إلي القريةِ ينبه أهلها بما حدث.
أحسّ الرجالُ الذين حملوا الميّتَ إلى أول بيتٍ في القرية أنه أثقل من الموتى الآخرين ، أحسّوا كأنهم يحملون جثّةَ حصانٍ وقالوا في ذات أنفسهم :
“ربما نتج ذلك عن بقاء الغريق فترة طويلة تحت البحرِ فدخل الماءُ حتى نخاع عظامه.”
عندما طرح الرجالُ الجثةَ على الأرضِ وجدوا أنّها أطولُ من قامة كلّ الرجال ، كان رأس الميتِ ملتصقًا بجدار الغرفة فيما اقتربت قدماه من الجدارِ المقابلِ ، وتساءل أحد الرجال عمّا لو كان ذلك ناتجًا عن أن بعض الغرقى تطول قاماتُهم بعد الموت.
كان الميتُ يحمل رائحةَ البحر ، وكانت تغطيه طبقةٌ من الطين و الأسماك. لم يكن من الضرورة تنظيف الوجه ليعرف الرجال أن الغريق ليس من قريتِهم ، فقريتهم صغيرة لا تحوي سوى عشرين من البيوت الخشبية الصغيرة ، و كانت القرية نادرةَ التربة مما جعل النسوة يخشين أن تأخذ الريحُ أطفالهن ، وبسبب ذلك قاموا برمي العديد من أطفالهن الموتى إلى البحر من أعلى الجرف بدل دفنهم ومنع ذلك الرجالَ من زرع ِ الأزهار. كان بحرُهم لطيفًا ، هادئًا و كريمًا يأكلون منه. لم يكن رجالُ القرية بكثيرين حيث كانت القوارب السبعةُ التي في حوزتهم تكفي لحملهم جميعًا ، لذلك كفى أن ينظروا إلى أنفسهم ليعلموا أنه لا ينقص منهم أحد..
في مساءِ ذلك اليوم لم يخرج الرجال للصيدِ في البحر. ذهبوا جميعًا يبحثون في القرى القريبة عن المفقودين فيما بقتِ النسوة في القريةِ للعناية بالغريق …أخذن يمسحن الوحلَ عن جسده بالألياف ويمسحن عن شعره الطحالب البحرية ويقشّرن ما لصق بجلده بالسكاكين..
لاحظت النسوة أن الطحالب التي كانت تغطي الجثة تنتمي إلي فصيلة تعيش في أعماقِ المحيطِ البعيدة ، كانت ملابسه ممزقة وكأنه كان يسبح في متاهةٍ من المرجان. ولاحظت النسوة أيضا أن الغريقَ كان قد قابل مَلَكي الموتِ في فخرٍ و اعتزاز فوجهه لا يحمل وحشةَ غرقى البحرِ ولا بؤس غرقى الأنهار. وعندما انتهت النسوة من تنظيف الميّت وإعداده انقطعت أنفاسهن ، فهن لم يرين من قبل رجلاً في مثل هذا الجمال و الهيبة..
لم تجد نساء القرية للجثة ، بسبب الطولِ المفرطِ ، سريرًا ولا طاولة قادرة على حملها أثناء الليل. لم تدخل رِجْلا الميتِ في أكبرِ السراويل و لا جسدُه في أكبرِ القمصان ، ولم تجد النسوة للميّت حذاءً يغطي قدميه بعد أن جربوا أكبر الأحذية.
فقدت النسوة ألبابَهن أمام هذا الجسدِ الهائلِ فشرعن في تفصيل سروال من قماشِ الأشرعة و كذلك قميص من “الأورغندي” الشفاف فذلك يليق بميّتٍ في مثل هذه الهيبة و الجمال..
جلست النسوة حول الغريق في شكلِ دائرةٍ بين أصابع كل واحدةٍ منهن إبرة وأخذت في خياطة الملابس ، كن ينظرن بإعجاب إلى الجثة بين الحين و الحين؛ بدا لهن أنه لم يسبق للريح ِ أن عصفت في مثل هذه الشدة من قبل ولا لبحر “الكاراييب” أن كان مضطربًا مثل ذلك المساء. قالت إحداهن ” أن لذلك علاقة بالميّت” ، وقالت أخرى ” لو عاش هذا الرجل في قريتنا لاشك أنه بنى أكبر البيوت وأكثرهن متانة ، لاشك أنه بنى بيتًا بأبواب واسعة وسقفٍ عالٍ وأرضيةٍ صلبة ولاشك أنه صنع لنفسه سريرًا من الحديد و الفولاذ ، لو كان صيادًا فلاشك أنه يكفيه أن ينادى الأسماك بأسمائها لتأتى إليه. ، لاشك أنه عمل بقوة لحفر بئرٍ ولأخرج من الصخور ماءً ولنجح في إنبات الزهر على الأجراف”..
أخذت كل واحدة منهن تقارنه بزوجها ، كان ذلك فرصة ثمينة للشكوى والقول إن أزواجهن من أكبر المساكين..
دخلت النسوة في متاهات الخيال.
قالت أكبرهن:” للميّت وجه أحد يمكن أن يسمّى إستبان”. كان هذا صحيحًا..كفي للأخريات أن ينظرن إليه لفهم أنه لا يمكن أن يحمل اسمًا آخر ، أمّا الأكثر عنادًا والأكثر شبابا فقد واصلت أوهامها بأن غريقًا ممدّدًا بجانب الأزهار وذا حذاء لامع لايمكن إلا أن يحمل اسمًا رومنطقيًا مثل “لوتارو”.
في الواقع ما قالته أكبرهن كان صحيحًا فلقد كان شكل الميت بلباسه مزريًا حيث كان السروال غير جيد التفصيل فظهر قصيرًا و ضيقًا ، حيث لم تحسن النسوة القياس وكانت الأزرار قد تقطعت وكأن قلب الميت قد عاد للخفقان بقوة..

بعد منتصف الليل هدأت الريحُ ، وسكن البحرُ ، وساد الصمتُ كل شيء . أتفقت النسوة عندها أن الغريق قد يحمل بالفعل اسم إستبان ، ولم تسُدْ الحسرة أية واحدة منهن: اللاتي ألبسن الميّتَ واللاتي سرحن شعره واللاتي قطعن أظافره وغسلن لحيته. لم تشعر واحدة منهن بالندم عندما تركن الجثة ممدّدة على الأرض ، وعندما ذهبت كل واحدة إلى بيتها فكرن كم كان الغريق مسكينًا وكم ظلت مشكلات كبر حجمه تطارده حتى بعد الموت ، لاشك أنه كان ينحني في كل مرة يدخل فيها عبر الأبواب .. لاشك أنه كان يبقي واقفا عند كل زيارة ، هكذا كالغبي، قبل أن تجد ربة البيت له كرسيا يتحمله…ولاشك أن ربةَ البيتِ كانت تتضرع للربّ في كل مرة ألا يتهشم الكرسي. وكان في كل مرة يرد عليها إستبان في ابتسامةٍ تعكس شعوره بالرضا لبقائه واقفا ..لاشك أنه ملّ من تكرر مثل هذه الأحداث ، ولاشك أيضا أن الناس كانوا يقولون له “ابق وأشرب القهوة معنا” ثم بعد أن يذهب معتذرا يتهامسون: “حمدا لله لقد ذهب هذا الأبله”.
هذا ما فكرت فيه النسوة فيما بعد عطفًا على الغريق..

في الفجر، غطت النسوة وجه الميّت خوفًا عليه من أشعة الشمسِ عندما رأين الضعف على وجهه. لقد رأين الغريق ضعيفًا مثل أزواجهن فسقطت أدمع من أعينهن رأفة ورحمة ، وشرعت أصغرهن في النواح فزاد الإحساس بأن الغريق يشبه إستبان أكثر فأكثر..
وزاد البكاء حتى أصبح الغريق أكبر المساكين على وجه الأرض..
عندما عاد الرجال بعد أن تأكدوا من أن الغريق ليس من القرى المجاورة امتزجت السعادة بالدموع على وجوه النسوة.
قالت النسوة: “الحمد لله ، ليس الميت من القرى المجاورة إذا فهو لنا!”..
أعتقد الرجال أن ذلك مجرد رياء من طرف النسوة ، لقد أنهكهم التعب وكان كل همّهم هو التخلص من هذا الدخيل قبل أن تقسو الشمس وقبل أن تشعل الريح نارها. أعدّ الرجال نقالة من بقايا شراع وبعض الأعشاب التي كانوا قد ثبّتوها بألياف البحر لتتحمّل ثقل الغريق حتى الجرف وأرادوا أن يلفّوا حول رِجلي الجثّة مرساة لتنزل دون عائق إلى الأعماق حيث الأسماك العمياء وحيث يموت الغواصون بالنشوة ، لفوا المرساة حتى لا تتمكن التيارات الضالة من العودة به إلى سطح البحر مثلما حدث مع بعض الموتى الآخرين. ولكن كلّما تعجّل الرجال فيما يبغون كلّما وجدت النسوة وسيلة لضياع الوقت حيث تكاثر الزحام حول الجثة ؛ بعض من النسوة يحاول أن يلبس الميّت “الكتفيّة” حول كتفه اليمين لجلب الحظ حاول بعضٌ آخر أن يضع بوصلة حول رسغه الأيسر، وبعد صراع لغويّ وجسديّ رهيب بين النسوة شرع الرجال ينهرون ويصرخون :” مالهذه الوشايات والفوضى، ماذا تعلقن؟ ألا تعلمن أن أسماك القرش تنتظر الجثّة بفارغ الصبر؟ ما هذه الفوضى، أليس هذا إلا جثّة؟”..
بعدها رفعت امرأة الغطاء عن وجه الميّت فانقطعت أنفاس الرجال دهشة: “إنه إستبان!” لا داعي لتكرار ذلك لقد تعرفوا عليه. من يكون غيره، هل يظن أحد أن الغريق يمكن أن يكون السير والتر روليك على سبيل المثال؟ لو كان ذلك ممكنا فلاشك أنهم سيتخيلون لكنته الأمريكية وسيتخيلون ببغاء فوق كتفه وبندقية قديمة بين يديه يطلق بها النار على أكلة البشر..
لكن الجثة التي أمامهم غير ذلك، إنها من نوع فريد!
إنه إستبان يمتد أمامهم مثل سمكةِ السردين حافي القدمين مرتديًا سروال طفلٍ رضيع ، ثم هذه الأظافر التي لا تُقطع إلا بسكين. بدا الخجل على وجه الغريق ، ما ذنبه المسكين إذا كان طويلاً وثقيلاً وعلى هذا القدر من الجمال؟ لاشك أنه اختار مكانًا آخر للغرق لو عرف ما كان في انتظاره. قال أحد الرجال: “لو كنت محله لربطت عنقي بمرساة قبل أن اقفز من الجرف.. لا شك أنني سأكون قد خلصتكم من كل هذه المتاعب ومن جثتي المزعجة هذه.”

أعد سكان القرية أكبر جنازة يمكن تخيلها لغريقٍ دون هوية. رجعت بعض النسوة اللاتي كن قد ذهبن لإحضار الزهور من القرى المجاورة برفقة أخريات للتأكد من صحة ما سمعن.
عندما تأكدت نساء القرى المجاورة من شكل الغريق ذهبن لإحضار زهور أخرى ورفيقات أخريات حتى ازدحم المكان بالزهور وبالنساء..
في اللحظات الأخيرة تألّم سكانُ القرية من إرسال الغريق إلي البحر مثل اليتيم فاختاروا له أمًا وأبًا من بين خيرتهم وسرعان ما أعلن آخرون أنهم أخوته وآخرون أنهم أعمامه حتى تحول كل سكّان القرية إلى أقارب ، وبينما كان الناس يتنافسون في نقل الجثمان فوق أكتافهم عبر المنحدر العسير المؤدّي إلى الجرف لاحظ سكان القرية ضيق شوارعهم وجفاف أرضهم ودناءة أفكارهم مقارنة بجمالِ هذا الغريق.
ألقى الرجال بالجثة عبر الجرف دون مرساة لكي تعود إليهم كيفما تشاء ومسكوا أنفاسهم في تلك اللحظة التي نزل فيها الميت إلى الأعماق ، أحسوا أنهم فقدوا أحد سكّان قريتهم وعرفوا، منذ تلك اللحظة، أن ثمة أشياء كثيرة لابد أن تتغير في قريتهم..
عرفوا أن بيوتهم تحتاج إلى أبواب عالية وأسقف أكثر صلابة ليتمكن شبح إستبان من التجول في القرية ومن دخول بيوتها دون أن تضرب جبهته أعمدة السقف ودون أن يوشوش أحد قائلاً لقد مات الأبله..

منذ ذلك اليوم قرر سكّان القرية دهن بيوتهم بألوان زاهية احترامًا لذكرى إستبان.. سوف ينهكون ظهورهم في حفر الآبار في الصخور وفي زرع الأزهار عبر الأجراف لكي يستيقظ بحارةُ السفنِ المارةِ في فجرِ السنواتِ القادمةِ علي رائحةِ الحدائق ولكي يضطر القبطان للنزول من أعلى السفينةِ حاملاً اسطرلابه ونجمتَه القطبية و يقول مشيرًا إلي الجبلِ الذي ينشر زهورَه الورديةَ نحو الأفق وفي كلّ لغاتِ العالم:
“أنظروا إلى هناك حيث هدوء الريح ِ وحيث ضوء الشمس.
هناك هي قرية إستبان!”.


نقد وتحليل :

يعتبر ماركيز واحدا من أعظم الأدباء الملتزمين بقضايا الإنسانية والمحرومين في القارة اللاتينية والعالم . وقد قام بتصوير عزلة بلدان أمريكا اللاتينية ، والمظالم التي تعانيها في غاية الأستاذية و الإبداع، إلى درجة أن المتلقي لأدبه ينسى كل المسافات الجغرافية و التنوع الثقافي ، و يتصور أن ماركيز يقوم في إبداعه بتصوير مجتمع القارئ أينما كان يقيم .
هذا الشعور ينتابني حال انتهائي من مطالعة أي نتاج من نتاجاته ، وفي مقدمتها " مئة عام من العزلة " و " حب في زمن الكوليرا" و خريف البطريرك" و " عاصفة الورق" .
هذه العزلة اللاتينية يعكسها ماركيز بأبهى صور الخلق والإبداع في قصته القصيرة " أجمل غريق في العالم" ، إذ يعتقد غارسيا ماركيز أن طريق الخلاص أمام الشعوب هي طريق وعي الماضي والحاضر ، عن طريق تحليل واقعهم وإدراكه يمكنهم استشفاف آفاق المستقبل. فالجماهير باعتبارها خالقة التاريخ يمكنها بسلاح الوعي لضرورة التغيير من الانقلاب على الواقع الظالم المفروض عليها. فغارسيا ماركيز هاجسه الذي يقلقه هو عزلة الإنسان ، ويتملك على معرفة عميقة في علم النفس لتحليل نفسية البشر المحرومين.

ثمة قيم إنسانية كامنة وخفية في لا وعي المجتمع وفي أعماق النفس الإنسانية و من الضروري أن يتم النبش لاكتشافها و تفعيلها لتوظيفها إنسانيا و جماليا. و إن رسالة ماركيز في " أجمل غريق في العالم" هي أن هذه القيم تنمو بمضي الوقت في لا وعي المجتمع و ترتقي ، بحيث لن تكون للمجتمع طاقة على استيعابها في حالة مواجهته لها فجأة. و لهذا يقوم ماركيز باستخدام أسلوب الواقعية السحرية للتعبير عن هذا الواقع و سبر أغواره النفسية و الجمالية.
هذا الأسلوب الفني و هذه الأفكار الملتزمة وجدت بأشكال مختلفة عند كتاب آخرين ، لكن ماركيز يختلف عنهم بأنه ملتزم كليا بقضايا المحرومين ، و إنسان متفائل مؤمن بانتصار إرادة الإنسان في نيل الحرية و الكرامة و حقوقه الكاملة.

ف"إستبان" في هذه القصة يعتبر قيمة إنسانية منسيّة في ثقافة أمريكا اللاتينية . المرأة العجوز العرافة ، في قصص ماركيز، في الحقيقة يمثل الجيل الحارس للثقافة الإنسانية. و لا أستبعد أن يكون ماركيز قد وظف اسم ستبان القديس ، أول شهيد من شهداء المسيحية في سنواتها ظهورها الأولى ليكون بطل قصته هذه. و إن خاطرة هذا القديس لا تزال محفوظة في ذاكرة المؤمنين ، والكل يؤيدون العجوز بمعرفتهم له. وكلما مضى الوقت و قاموا بتحويل طحالب السرجس و الأصداف و الحراشف عن جسده تأكدت لهم هوية ستبان ، و ازدادوا اعتقادا بأنه ليس سوى ستبان. و اللطيف في القصة أن شابة تنادي على الجسد " لاتارو" ، وربما أنه شخصية قيمة معاصرة، من قبيل مشاهير السينما و الموسيقى ، أو الرياضة ، لكن البقية لا يلبثون يعتقدون بأنه لن يكون سوى ستبان لا غير. لقد أتاهم ستبان إلى قريتهم ، لكن القرية وأهلها لمّا ينضجوا ، ولم يبلغوا فترة الرشد بعد. وإن ستبان قد ترعرع و كبر في أعماق البحر ، وكان آتيا من هناك ، كأنه مر ّ خلال متاهات المرجان. لهذا كله فتلك القرية لم تكن مكانا لاستبان ، إذ لم يتمكن من الدخول من أي باب لضخامة جثته، ولم تكن لأية أريكة طاقة على تحمله. و لم يكن ثمة ثوب يطابق مقاساته، ما يعني أن قيم أولئك الناس و معاييرهم كانت من الحقارة و التفاهة و الصغر بحيث لم يجد ستبان الذي تجاوزهم في القيم و المعايير ، له عندهم ، في قوالبهم الحياتية الحقيرة مكانا للإقامة والعيش.

اللافت أن النساء في هذه القرية لكونهن أرق و أشد حساسية من الرجال للتقاليد و القضايا الثقافية وقعن أولا في حب ستبان وعشقه. و قد جعلن له أبا و أما وأقرباء من الدرجة الأولى أثناء مراسم دفنه ، لكي تقام له مراسم عزاء تليق بشخص تبوأ مكانا عزيزا في قلوبهن. و يمكن للقارئ أن يكتشف وجود عنصر مشترك ألف بين قلوب أهل القرية ، و خلق عندهم شعورا بالوحدة والاتحاد، وسرعان ما اكتشفوا أن ستبان ليس كبيرا إلى هذا الحد المبالغ فيه ، بل أنهم أنفسهم صغار جدا. وقد أودعوا جثته إلى البحر بشكل يمكنه العودة ثانية متى أراد، ويعيد لحياتهم الأبعاد الجمالية التي طالما افتقدوا إليها.

ربما يكون الأربعاء في قصة " أجمل غريق في العالم" رمزا لإلى أربعاء الرماد ، أول يوم في المسيحية لصيام الرهبان و خلوتهم لأربعين يوما. إنه يوم يجب على المؤمن الصائم أن يحظى بالسكينة والاستقرار و القوة. وربما أن يوم الأربعاء في بعض الأديان يحظى بحرمة وقدسية، و أن ليلة الأربعاء لا يجوز القيم فيها ببعض الأعمال، لأن الشخص سيبدأ مرحلة مهمة و جديدة في الحياة.
اكتشف أهالي قرية استبان الجسد في يوم الأربعاء، كعلامة على تدشين فترة حساسة للتحولات التي سوف تجري في القرية. ففي هذا اليوم ارتبط كل شيء بجنازة ذات مغزى عظيم و رمز كبير و معروف.
برحيل استبان قام أهالي القرية بتوسيع دورهم ونوافذها ، و إعلاء جدرانها وأبوابها. و كذلك قاموا بزراعة أزهار العشق الحمراء على الصخور المطلة على البحر. و كلما عبر أي قبطان ( هنا يرمز القبطان للتاريخ) بسفينته البخارية سيقول للركاب :" هناك حيث الشمس ساطعة، حيث ورود عباد الشمس لا يدرين إلى أية جهة عليها أن تدير وجوهها، هناك تقه قرية استبان." و منذ ذاك اليوم انشرحت صدور أهل القرية، و نمت أنفسهم، و تسامت أرواحهم.
لقد عبّر بدقة متناهية في الظرف ماركيز باستخدامه الشخص الثالث كراوية القصة عن الروح و الانفعالات و والتحولات الاجتماعية التي تجري في هذه القرية الرمزية وأهلها. وأظن أن القصة القصيرة من حيث البناء و الحبكة و التعبير عن الهدف والرسالة هي أصعب من الرواية، فكاتب القصة القصيرة عليه تكثيف عصارة رواية كبيرة وصبها في فضاء محدود وأجواء مكثفة و حبكة مختصرة. وهنا في هذه القصة القصيرة التي ينقلنا فيها ماركيز إلى فضاء حقيقي , و يعرفنا على نفسية بشر في بقعة من العالم المنعزل والمجهول، و لا يشعر القارئ بعد قراءتها بأن ثمة ما ينقصها عن رواياته المعروفة ، إنما قد كثف رواية عظيمة في قالب قصة قصيرة.
لقد أدرك أهل القرية وأيقنوا بعد لقائهم باستبان أن منازلهم بعيدة، و باحات بيوتهم يابسة ، و أن أحلامهم حقيرة.. لقد اأقوا بجثة استبان إلى اليمّ بدون ربطها بأثقال لتغرق في القعر، أملا في عودته" لقد حبسوا أنفاسهم في صدورهم لقرون ، حتى غرق الجسد في البحر" .. ومذ ذاك تغير كل شيء، ولم يعد أهل القرية لهم وجود.

VERKLIGHET OCH DRÖM EFTER 1945
Gabriel Garc ia Ma rquez
översättnig Sonia och Kjell A Johansson
استفن منيتا: گابريل گارسيا مارکز، ترجمهء فروغ پورياورى ، انتشارات روشنگران
‏17‏/12‏/2007
الفكر الديني ضعيف، لذا فإنه يلجأ الي العنف عندما تشتد عليه قوة المنطق، حيث لايجد منطقاً يدافع به، ومن ثم يلجأ الي العنف.( ... )
عادل السنوسي
مشاركات: 839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:54 pm
مكان: Berber/Shendi/Amsterdam

مشاركة بواسطة عادل السنوسي »

النص الأنكليزي :
__________


The Handsomest Drowned Man In The World
Gabriel Garcia Marquez

THE FIRST CHILDREN who saw the dark and slinky bulge approaching through the sea let themselves think it was an enemy ship. Then they saw it had no flags or masts and they thought it was a whale. But when it washed up on the beach, they removed the clumps of seaweed, the jellyfish tentacles, and the remains of fish and flotsam, and only then did they see that it was a drowned man

They had been playing with him all afternoon, burying him in the sand and digging him up again, when someone chanced to see them and spread the alarm in the village. The men who carried him to the nearest house noticed that he weighed more than any dead man they had ever known, almost as much as a horse and they said to each other that maybe he'd been floating too long and the water had got into his bones. When they laid him on the floor they said he'd been taller than all other men because there was barely enough room for him in the house, but they thought that maybe the ability to keep on growing after death was part of the nature of certain drowned men. He had the smell of the sea about him and only his shape gave one to suppose that it was the corpse of a human being, because the skin was covered with a crust of mud and scales

They did not even have to clean off his face to know that the dead man was a stranger. The village was made up of only twenty-odd wooden houses that had stone courtyards with no flowers and which were spread about on the end of a desert like cape. There was so little land that mothers always went about with the fear that the wind would carry off their children and the few dead that the years had caused among them had to be thrown off the cliffs. But the sea was calm and bountiful and all the men fitted into seven boats. So when they found the drowned man they simply had to look at one another to see that they were all there

That night they did not go out to work at sea. While the men went to find out if anyone was missing in neighboring villages, the women stayed behind to care for the drowned man. They took the mud off with grass swabs, they removed the underwater stones entangled in his hair, and they scraped the crust off with tools used for scaling fish. As they were doing that they noticed that the vegetation on him came from faraway oceans and deep water and that his clothes were in tatters, as if he had sailed through labyrinths of coral. They noticed too that he bore his death with pride, for he did not have the lonely look of other drowned men who came out of the sea or that haggard, needy look of men who drowned in rivers. But only when they finished cleaning him off did they become aware of the kind of man he was and it left them breathless. Not only was he the tallest, strongest, most virile, and best built man they had ever seen, but even though they were looking at him there was no room for him in their imagination

They could not find a bed in the village large enough to lay him on nor was there a table solid enough to use for his wake. The tallest men's holiday pants would not fit him, nor the fattest ones' Sunday shirts, nor the shoes of the one with the biggest feet. Fascinated by his huge size and his beauty, the women then decided to make him some pants from a large piece of sail and a shirt from some bridal linen so that he could continue through his death with dignity. As they sewed, sitting in a circle and gazing at the corpse between stitches, it seemed to them that the wind had never been so steady nor the sea so restless as on that night and they supposed that the change had something to do with the dead man. They thought that if that magnificent man had lived in the village, his house would have had the widest doors, the highest ceiling, and the strongest floor, his bedstead would have been made from a midship frame held together by iron bolts, and his wife would have been the happiest woman. They thought that he would have had so much authority that he could have drawn fish out of the sea simply by calling their names and that he would have put so much work into his land that springs would have burst forth from among the rocks so that he would have been able to plant flowers on the cliffs. They secretly compared hom to their own men, thinking that for all their lives theirs were incapable of doing what he could do in one night, and they ended up dismissing them deep in their hearts as the weakest, meanest and most useless creatures on earth. They were wandering through that maze of fantasy when the oldest woman, who as the oldest had looked upon the drowned man with more compassion than passion, sighed:
'He has the face of someone called Esteban

It was true. Most of them had only to take another look at him to see that he could not have any other name. The more stubborn among them, who were the youngest, still lived for a few hours with the illusion that when they put his clothes on and he lay among the flowers in patent leather shoes his name might be Lautaro. But it was a vain illusion. There had not been enough canvas, the poorly cut and worse sewn pants were too tight, and the hidden strength of his heart popped the buttons on his shirt. After midnight the whistling of the wind died down and the sea fell into its Wednesday drowsiness. The silence put an end to any last doubts: he was Esteban. The women who had dressed him, who had combed his hair, had cut his nails and shaved him were unable to hold back a shudder of pity when they had to resign themselves to his being dragged along the ground. It was then that they understood how unhappy he must have been with that huge body since it bothered him even after death. They could see him in life, condemned to going through doors sideways, cracking his head on crossbeams, remaining on his feet during visits, not knowing what to do with his soft, pink, sea lion hands while the lady of the house looked for her most resistant chair and begged him, frightened to death, sit here, Esteban, please, and he, leaning against the wall, smiling, don't bother, ma'am, I'm fine where I am, his heels raw and his back roasted from having done the same thing so many times whenever he paid a visit, don't bother, ma'am, I'm fine where I am, just to avoid the embarrassment of breaking up the chair, and never knowing perhaps that the ones who said don't go, Esteban, at least wait till the coffee's ready, were the ones who later on would whisper the big boob finally left, how nice, the handsome fool has gone. That was what the women were thinking beside the body a little before dawn. Later, when they covered his face with a handkerchief so that the light would not bother him, he looked so forever dead, so defenseless, so much like their men that the first furrows of tears opened in their hearts. It was one of the younger ones who began the weeping. The others, coming to, went from sighs to wails, and the more they sobbed the more they felt like weeping, because the drowned man was becoming all the more Esteban for them, and so they wept so much, for he was the more destitute, most peaceful, and most obliging man on earth, poor Esteban. So when the men returned with the news that the drowned man was not from the neighboring villages either, the women felt an opening of jubilation in the midst of their tears

'Praise the Lord,' they sighed, 'he's ours'
The men thought the fuss was only womanish frivolity. Fatigued because of the difficult nighttime inquiries, all they wanted was to get rid of the bother of the newcomer once and for all before the sun grew strong on that arid, windless day. They improvised a litter with the remains of foremasts and gaffs, tying it together with rigging so that it would bear the weight of the body until they reached the cliffs. They wanted to tie the anchor from a cargo ship to him so that he would sink easily into the deepest waves, where fish are blind and divers die of nostalgia, and bad currents would not bring him back to shore, as had happened with other bodies. But the more they hurried, the more the women thought of ways to waste time. They walked about like startled hens, pecking with the sea charms on their breasts, some interfering on one side to put a scapular of the good wind on the drowned man, some on the other side to put a wrist compass on him , and after a great deal of get away from there, woman, stay out of the way, look, you almost made me fall on top of the dead man, the men began to feel mistrust in their livers and started grumbling about why so many main-altar decorations for a stranger, because no matter how many nails and holy-water jars he had on him, the sharks would chew him all the same, but the women kept piling on their junk relics, running back and forth, stumbling, while they released in sighs what they did not in tears, so that the men finally exploded with since when has there ever been such a fuss over a drifting corpse, a drowned nobody, a piece of cold Wednesday meat. One of the women, mortified by so much lack of care, then removed the handkerchief from the dead man's face and the men were left breathless too

He was Esteban. It was not necessary to repeat it for them to recognize him. If they had been told Sir Walter Raleigh, even they might have been impressed with his gringo accent, the macaw on his shoulder, his cannibal-killing blunderbuss, but there could be only one Esteban in the world and there he was, stretched out like a sperm whale, shoeless, wearing the pants of an undersized child, and with those stony nails that had to be cut with a knife. They only had to take the handkerchief off his face to see that he was ashamed, that it was not his fault that he was so big or so heavy or so handsome, and if he had known that this was going to happen, he would have looked for a more discreet place to drown in, seriously, I even would have tied the anchor off a galleon around my nick and staggered off a cliff like someone who doesn't like things in order not to be upsetting people now with this Wednesday dead body, as you people say, in order not to be bothering anyone with this filthy piece of cold meat that doesn't have anything to do with me. There was so much truth in his manner taht even the most mistrustful men, the ones who felt the bitterness of endless nights at sea fearing that their women would tire of dreaming about them and begin to dream of drowned men, even they and others who were harder still shuddered in the marrow of their bones at Esteban's sincerity.
That was how they came to hold the most splendid funeral they could ever conceive of for an abandoned drowned man. Some women who had gone to get flowers in the neighboring villages returned with other women who could not believe what they had been told, and those women went back for more flowers when they saw the dead man, and they brought more and more until there were so many flowers and so many people that it was hard to walk about. At the final moment it pained them to return him to the waters as an orphan and they chose a father and mother from among the best people, and aunts and uncles and cousins, so that through him all the inhabitants of the village became kinsmen. Some sailors who heard the weeping from a distance went off course and people heard of one who had himself tied to the mainmast, remembering ancient fables about sirens. While they fought for the privilege of carrying him on their shoulders along the steep escarpment by the cliffs, men and women became aware for the first time of the desolation of their streets, the dryness of their courtyards, the narrowness of their dreams as they faced the splendor and beauty of their drowned man. They let him go without an anchor so that he could come back if he wished and whenever he wished, and they all held their breath for the fraction of centuries the body took to fall into the abyss. They did not need to look at one another to realize that they were no longer all present, that they would never be. But they also knew that everything would be different from then on, that their houses would have wider doors, higher ceilings, and stronger floors so that Esteban's memory could go everywhere without bumping into beams and so that no one in the future would dare whisper the big boob finally died, too bad, the handsome fool has finally died, because they were going to paint their house fronts gay colors to make Esteban's memory eternal and they were going to break their backs digging for springs among the stones and planting flowers on the cliffs so that in future years at dawn the passengers on great liners would awaken, suffocated by the smell of gardens on the high seas, and the captain would have to come down from the bridge in his dress uniform, with his astrolabe, his pole star, and his row of war medals and, pointing to the promontory of roses on the horizon, he would say in fourteen languages, look there, where the wind is so peaceful now that it's gone to sleep beneath the beds, over there, where the sun's so bright that the sunflowers don't know which way to turn, yes, over there,
that's Esteban's village
الفكر الديني ضعيف، لذا فإنه يلجأ الي العنف عندما تشتد عليه قوة المنطق، حيث لايجد منطقاً يدافع به، ومن ثم يلجأ الي العنف.( ... )
عادل السنوسي
مشاركات: 839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:54 pm
مكان: Berber/Shendi/Amsterdam

مشاركة بواسطة عادل السنوسي »

عن مجموعة
Strange Pilgrims
الصادرة عن دار
Jonathan Cape London 1993

آثار دمك على الثلج
قصة غابريل غارسيا ماركيز
ترجمة علي سالم
عندما وصلا الحدود في الليل ، لاحظت نينا داكونتي بإن إصبعها الذي كانت تلبس فية خاتم الزواج كان لا يزال ينزف ، وذلك عندما أخذ شرطي الحدود الذي كان يغطي قبعتة الثلاثية الأطراف المصنوعة من الجلد الصقيل ببطانية من الصوف الخشن يدقق بجوازيهما على ضوء مصباح كاربيد ، محاولاً الإحتفاظ بتوازنة بوجة الريح القارسة الهابة من جبال البرانس . ورغم دقة الجوازين الدبلوماسيين ، فقد رفع حرس الحدود المصباح ليتأكد من تطابق الصور مع وجهيهما . كانت نينا داكونتي تبدو أشبة بطفلة لها عينا طائر سعيد ، وجلد خلاسي لاتزال تشع منة شمس الكاريبي في حنايا ظلام يناير الجنائزي . وكانت تتلفع حتى ذقنها بمعطف من فرو المنك كان ثمنة يفوق رواتب جميع أفراد الحامية الحدودية التي كانوا يتقاضونها لمدة عام كامل . أما زوجها بيلي سانشيز دي أفيلا ، الذي كان يقود السيارة والذي يصغرها بعام واحد ، ولايقل عنها بها ءاً ووسامة فقد كان يرتدي سترة مقصبة وقبعة بايسبول ، وكان على العكس من زوجتة ، طويل القامة وذو جسم رياضي وفك حديدي يشبة فك بلطجي رعديد .أما الشيء الذي كان يعبر عن شخصيتيهما أحسن تعبير هو سيارتهما الفضية اللون التي كانت دواخلها تشهق بأنفاس حيوان حقيقي ؛ والتي لم تشهد شوارع الحدود البائسة مثيلاً لها من قبل . كان مقعدها الخلفي يغطس تحت ركام من الحقائب الكبيرة الجديدة تماماً وعلب الهدايا التي لم تُفتَح بعد ، وآلة الساكسفون التي تملكت قلب نينا داكونتي بلا منازع قبل أن تستسلم لحب ذلك المشاكس الذي زلزل كيانها على الساحل . عندما أعاد الحارس جوازي السفر المختومين ، سألة بيلي سانشيز أين يمكن العثور على صيدلية لعلاج إصبع زوجتة . وصاح الحارس مغالباً الريح بأن عليهما السؤال في هينداي ، على الجانب الفرنسي . و في هينداي وجدا حراس الحدود يجلسون بقمصانهم القصيرة الأكمام ، يلعبون الورق على طاولة داخل صندوق الحراسة الزجاجي الجيد التدفئة والإضاءة ، ويتناولون خبزاً يغمسونة في كؤوس نبيذ كبيرة . وأكتفوا فقط بالنظر الى حجم السيارة ونوعها للسماح لهما بدخول فرنسا. وضغط بيلي سانشيز على جهاز التنبية عدة مرات ، لكن الحراس لم يفهموا إنة كان يناديهم ، ففتح أحدهم النافذة وصرخ بصوت أعنف من العاصفة :
“Merde! Allez-vous-en! “
اللعنة ! قلت لكما أدخلا !
هنا خرجت نينا داكونتي ، الملفعة بمعطفها حتى الأذنين ، من السيارة وسألت الحارس بفرنسية طليقة أين يمكن العثور على صيدلية . وكما لو أن الأمر كان عادة مترسخة لدية ، أجاب الحارس من خلال فمة المليء بالخبز إن الأمر لايعنية ، خصوصاً في جو عاصف مثل هذا ، ثم أغلق النافذة . لكنة أخذ ينظر بإهتمام متزايد الى الفتاة الملفعة ببريق فراء المنك الطبيعي التي كانت تمص إصبعها الجريح ، وتبدل مزاجة في الحال ، لأنة لابد أن يكون قد حسبها طيفاً من عالم السحر قد خرج الية ليكلمة في هذة الليلة المخيفة . فأوضح لها بأن أقرب مدينة هي مدينة بياريتز ، لكن في عز الشتاء ، و في هذة الريح العاوية كالذئاب ، قد لايجدون صيدلية مفتوحة حتى مدينة بايون ، الأبعد قليلاً من بياريتز .
"هل الجرح خطير ؟ "
" إنة لاشيء " . قالت نينا داكونتي مبتسمة وأرتة أصبعها الذي كان يحمل خاتم الماس وطرفة المخدوش بزهرة خدشاً طفيفاً لايكاد يبين . " لقد كانت مجرد شوكة " .
قبل أن يصلا بايون ، بدأ الثلج بالهطول ثانية . ولم تكن الساعة قد تجاوزت السابعة ، لكنهما وجدا الشوارع مهجورة والبيوت موصدة بسبب العاصفة الهوجاء ، وبعد أن لفا بالسيارة عدة شوارع دون أن يعثرا على صيدلية ، قررا مواصلة المسير . وجلب هذا القرار السعادة الى قلب بيلي سانشيز ، لأنة كان مولع جداً بالسيارات النادرة التي كان يغدقها علية والدة الذي كان يعاني كثيراً من عقدة الشعور بالذنب والذي كانت أموالة الطائلة تمنحة الفرصة لإشباع نزوات إبنة ، فضلاً عن إنها المرة الأولى التي كان بيلي يقود فيها سيارة من نوع بينتلي مكشوفة قدمت لة كهدية في يوم زواجة . كانت نشوتة وهو يمسك بمقود السيارة كبيرة الى الحد الذي كان ينسية الشعور بالتعب كلما واصل القيادة . كان يريد الوصول الى بوردو تلك الليلة ، حيث قاما بحجز جناح للعرائس في فندق ( سبلندد )، ولن تستطيع كل الرياح العاتية والثلوج التي في السماء منعة من الوصول الى هدفة . على النقيض منة ، فقد كانت نينا داكونتي مرهقة ، خصوصاً بسبب المرحلة الأخيرة من الطريق السريع الصاعد من مدريد ، الذي كان يلاصق حافة أحد المنحدرات الصالحة لعيش الماعز الجبلي والتي تجلدها عواصف البَرَدْ على الدوام . بعد بايون لفت حول إصبعها الذي يحمل الخاتم منديلاً ، وراحت تضغطة لإيقاف الدم الذي لم يتوقف عن المسيل ، ثم غرقت في نوم عميق . ولم يلاحظ بيلي سانشيز شيئاً إلاّ بعد منتصف الليل بقليل ، عندما توقف الثلج عن الهطول وسكنت الريح عن العويل فجأة وسط أشجار الصنوبر وأمتلأت سماء المراعي بالنجوم الجليدية . كان قد إجتاز أضواء بوردو الناعسة ولم يتوقف إلا مرة واحدة لمليء خزان الوقود من أحد المحطات الموجودة على الطريق ، لأنة كان لايزال قادراً على القيادة حتى باريس . كان مبتهجاً جداً بلعبتة الكبيرة التي يبلغ ثمنها خمسة وعشرون ألف جنيهاً إسترلينياً ، بحيث إنة لم يسأل نفسة إن كانت تلك المخلوقة البهية الراقدة الى جانبة - والتي تلف إصبعها الذي يحمل خاتم زواجهما بمنديل يقطر دماً والتي خرمت حلم مراهقتها للمرة ومضات خاطفة من عدم اليقين - تحس بنفس الشعور .
لقد تزوجا قبل ثلاثة أيام في مكان يبعد الآن مسافة عشرة آلاف كيلومتر ، في كارتاجينا دي إندياس ، لدهشة أبوية وخيبة أمل أبويها ، وبمباركة المطران الشخصية . ولاأحد سواهما كان يفهم الأساس الحقيقي لذلك الحب أو جذورة الخفية . لقد أبتدأت قصة حبهما منذ ثلاثة شهور قبل الزواج ، في يوم أحد على البحر ، وذلك عندما أقتحمت عصابة بيلي سانشيز كابينات تبديل الثياب الخاصة بالنساء في شواطيء ماربيلا . كانت نينا قد بلغت الثامنة عشرة للتو ؛ وكانت قد عادت الى بيتها من مدرسة شاتلني في سان- بليز ، في سويسرا ، بأربعة لغات دون لكنة ، وبمعرفة بارعة على عزف آلة السكسفون ، وكان ذلك أول يوم أحد تخرج بة الى الشاطيء منذ عودتها . كانت قد تعرت تماماً وكانت تهم بإرتداء بذلة سباحتها عندما سمعت صرخات الفرار المفزوعة وصيحات القراصنة تنطلق من الكابينات المجاورة ، لكنها لم تفهم ماكان يجري حتى تهشم مزلاج بابها وشاهدت أجمل صعلوك يمكن للخيال تصورة يقف أمامها. لم يكن يرتدي شيئاً غير بنطال قصير من جلد الفهد الصناعي ، يستر بة جسدة المسالم ، اللدن المكتسي بلون القاطنين قرب المحيط . كان يرتدي سواراً معدنياً في عضدة الأيمن ، ويلف حول قبضتة سلسلة حديدية كان يستخدمها كسلاح قاتل ، وعلى صدرة تتدلى ميدالية لاصورة لقديس فيها ، كانت تنبض بصمت مع دقات قلبة . كانا قد درسا في نفس المدرسة الإبتدائية ومزقا الكثير من أكياس حلوى البيناتا في نفس حفلات أعياد ميلادهما ، لأن كلاهما كان يتحدر من عوائل الأقاليم التي كانت تتحكم بمصير المدينة كما يحلو لها منذ العهد الكولونيالي ، لكنهما لم يريا بعضهما لسنين طويلة ، لذلك لم يتعرفا على بعضهما للوهلة الأولى .
ظلت نينا داكونتي واقفة ، بلا حراك ، ولم تفعل أي شيء لتغطية عريها الصارخ . ثم شرع بيلي سانشيز بأداء طقسة الصبياني . فقام بإنزال سروالة المصنوع من جلد الفهد وأراها فحولتة المنتصبة الجديرة بالتقدير . نظرت الى شيئة نظرة مباشرة لكنها لم تبد أي علامة على الإندهاش وقالت محاولة السيطرة على خوفها لقد رأيت ماهو أكبر من ذلك وأشد صلابة ، لذلك أدعوك مجدداً الى التفكير فيما تفعل، لأن أدائك معي ينبغي أن يكون أفضل من أداء زنجي .
في الواقع لم تكن نينا داكونتي عذراء فقط ، بل إنها لم تشاهد في حياتها رجلاً عارياً حتى تلك اللحظة ، مع ذلك أثبت تحديها لة جدواة ، إذ قام بيلي سانشيز بتوجية لكمة الى الجدار بقبضتة الملفوفة بالسلسلة الحديدية أدت الى كسر يدة . فأخذتة بالسيارة الى المستشفى و أعتنت بة طوال فترة نقاهتة ، وفي النهاية تعلما كيف يمارسان الحب على وجهة الصحيح . وأخذا يقضيان أصائل حزيران الصعبة في الشرفة الداخلية للمنزل الذي قضى فية ستة أجيال من أسلاف نينا داكونتي اللامعين نحبهم . كانت تعزف لة الأغاني الشعبية على الساكسفون ، وهو مضطجع على الأرجوحة الشبكية ، ويدة في الجبيرة ، متأملاً إياها بذهول مؤلم . كان البيت يحتوي على عدد لايحصى من النوافذ التي ترتفع من الأرض الى السقف وتواجة الخليج ومياهة الراكدة النتة ، وكان يُعد من أكبر البيوت وأقدمها في مقاطعة لامانغا ، وبلا شك أقبحها . لكن شرفتة ذات البلاط المتعاكس التي كانت نينا داكونتي تعزف فيها الساكسفون كانت بمثابة واحة باردة في قيظ الساعة الرابعة . وكانت تطل على فناء كثيف الظلال مزروع بأشجارالمانغو والموز ،التي كان يستكين تحتها قبر ممسوح الشاهدة ، أقدم من المنزل ومن ذاكرة العائلة . كان عزف الساكسفون يمثل حتى لأولئك الذين لايفقهون شيئاً من الموسيقى مفارقة تاريخية في بيت عريق كهذا . (إن صوتة يشبة صوت سفينة مغادرة) قالت جدة نينا داكونتي عندما سمعتة للمرة الأولى .أما أم نينا داكونتي فقد حاولت عبثاً أن تقنعها بالعزف علية بطريقة أخرى ، غير طريقتها التي كانت تعزف بها رافعة تنورتها فوق فخذيها وفارجة ركبتيها بطريقة حسية لا علاقة لها بالموسيقى لامن بعيد ولامن قريب ، إنما بحجة الراحة . كانت أمها تقول لها " لايهمني على أي آلة تعزفين ، طالما حافظت على ساقيك مضمومتين ".
لكن *أصوات السفينة المغادرة * و إحتفالية الحب تلكما كانا الشيئين الوحيدين المتاحين لنينا داكونتي لكسر القوقعة المرة التي كانت تحيط ببيلي سانشيز .
كان بيلي سانشيز معروفاً للجميع كشخص متوحش وجاهل ، لكن تحت ستار هذة السمعة البائسة التي حافظ عليها بنجاح كبير بسبب إقتران إسمة بإسمين لامعين من أسماء عائلتة ، كان يرقد بيلي اليتيم ، الخائف . وفي الفترة التي كانت فيها عظام يدة تلتئم ، أخذا يتعرفان على بعضهما البعض بشكل جيد جداً ، حتى هو نفسة كان مندهشاً من الإنسيابية التي تدفق بها الحب حين قادتة عندما خلا البيت في يوم ماطر الى فراش عذريتها ، حيث أخذا يحتفلان كل يوم ، وفي نفس الساعة بحبهما وعريهما ، تحت نظرات الدهشة المنبعثة من لوحات محاربي الحرب الأهلية وحملقات الجدات النهمات اللواتي سبقنهما في إرتياد فردوس ذلك السرير التاريخي . كانا يظلان عاريين حتى في فترات الإستراحة التي تلي ممارسة الحب ، دون أن يغلقا النوافذ التي كانت تحمل لهما من الميناء نسيم الهواء المحمل برائحة نفايات البواخر ، الفائحة برائحة البراز ، ويصغيان عندما يصمت الساكسفون الى همهمة الحياة اليومية الصاعدة من الفناء ، والى نقّة وحيدة لضفدع مختبيء تحت أشجار الموز ، والى صوت قطرات الماء النازلة على أحد القبور ، والى الحركة الطبيعية للحياة التي لم تسنح لهما الفرصة في سماعها من قبل . عندما عاد أبويها الى البيت ، كانت نينا داكونتي وبيلي سانشيز قد تدلها في حب بعضهما البعض ، بحيث لم يعد في العالم متسع لأي شيء سوى حبهما ، وكانا يمارسان الحب في أي وقت ، وأي مكان ، محاولان في كل مرة إعادة إكتشافة من جديد . في البداية وجدا بعض المشقة في ممارسة الحب داخل السيارات الرياضية التي كان والد بيلي سانشيز يحاول من خلال شرائها لأبنة التخفيف من حدة مشاعرة الخاصة بالذنب . ثم أخذا ، بعد أن أصبح موضوع السيارات سهلاً جداً ، يخرجان في الليل الى كابينات ماربيلا المهجورة ، التي جمعهما القدر فيها يوماً ، وخلال أحتفالات نوفمبر بلغ بهما الجنون حداً الى الذهاب بثياب الأحتفال الى غرف الإيجار الموجودة في حي العبيد القديم في غيستماني ، تحت حماية مديرات النزل اللواتي كن قبل شهور قليلة فقط يعانين الأمرين من بيلي سانشيز وعصابتة الملوحة بالسلاسل . منحت نينا داكونتي نفسها لهذا الحب السري بنفس العاطفة المحمومة التي كانت تغدقها على الساكسفون ، حتى فهم لصها المروض أخيراً ماكانت تعني عندما قالت لة بأن علية الإنجاز مثل زنجي . وكان بيلي سانشيز يرد على حبها بنفس المهارة ونفس الحماس . عندما تزوجا ، حققا العهد الذي قطعاة على نفسيهما بممارسة الحب فوق الأطلسي ، حينما نامت المضيفات وحشرا نفسيهما داخل مرحاض الطائرة ، ليغلبهما الضحك ، أكثر مما غلبتهما اللذة . وعرفا بعد مرور أربعة وعشرين ساعة على الزواج فقط بأن نينا داكونتي كانت حاملاً بشهرها الثاني .
وهكذا عندما وصلا مدريد كانا أبعد مايكونا عن عاشقين متخمين حباً ، لأنهما كانا يملكان شيء من التعقل للتصرف كشخصين تزوجا حديثاً . رتبت عائلتيهما كل شيء . وقبل مغادرتهما للطائرة حضر ضابط تشريفات الى كابينة الدرجة الأولى ليسلم نينا داكونتي معطف الفراء ذو الحافة السوداء اللامعة كهدية زواج من والديها . وأعطى بيلي سانشيز آخر صرعة من صرعات ستر شيرلنغ الصوفية لذلك الشتاء ، ومفاتيح غير معلّمة لسيارة كانت تنتظرة على أرض المطار كمفاجأة .
رحبت بهما البعثة الدبلوماسية التابعة لبلدهما في قاعة الأستقبال الرسمية . ولم يكن السفير وزوجتة أصدقاء قدامى فقط لكلا العائلتين ، بل كان السفير نفسة هو الطبيب الذي أشرف على ولادة نينا داكونتي ، وكان يقف في انتظارها حاملاً باقة من الورد بدت رائقة ويانعة تماماً حتى قطرات الندى التي كانت تغطيها بدت وكأنها قطرات إصطناعية . حيتهما معاً بقبلات زائفة ، وهي تشعر بعدم الأرتياح من حالتها الجديدة التي دخلت فيها قبل الأوان نوعا ما كعروس ، ثم تقبلت منهما باقة الزهر . عندما أخذت الزهور وخزت إصبعها شوكة ، لكنها دارت الحادث بحيلة ساحرة . وقالت لقد فعلت ذلك عامدة ، لكي تنتبهوا لخاتمي .
وفي الواقع تعجب كامل أفراد الطاقم الدبلوماسي من روعة الخاتم ، لأنة لابد أن يكون قد كلف ثروة ، ليس بسبب نوعية الماسات التي كان يحملها ، بل بسبب عراقتة المحفوظة جيداً . لكن لاأحدا منهم لاحظ بأن أصبعها كان قد شرع ينزف ، لأن إهتمامهم جميعاً كان منصباً على السيارة الجديدة التي أوحت للسفير بفكرة طريفة تتمثل بجلبها الى المطار وتغليفها بالسيلوفان وربطها بشريط ذهبي عملاق . ولم يلاحظ بيلي سانشيز هذة اللمسة المبدعة ، لأنة كان متلهفاً جداً لرؤية السيارة التي شرع في الحال بتمزيق غلافها ووقف أمامها مبهور الأنفاس . لقد كانت سيارة من نوع بينتلي كابريلة موديل ذلك العام ، ومقاعدها منجدة بجلد حقيقي . في ذلك الحين كانت السماء تبدو مثل دثار من الرماد ، وكانت ثمة ريح جليدية قارصة تهب من جبال غواداراما ، ولم يكن الوقت مناسباً للبقاء في الخارج ، لكن بيلي سانشيز لم تكن لدية أدنى فكرة عن البرد ، فجعل البعثة الدبلوماسية تقف في موقف السيارات المكشوف ، دون أن يدري إ نهم كانوا يتجمدون من البرد لمجاملتة ، حتى أنتهى من تفحص أصغر تفاصيل السيارة . وعندما أنتهى من ذلك جلس السفير الى جانبة ليدلة على مكان الإقامة الرسمي ، الذي أعدت فية حفلة غداء . وفي الطريق أخذ يشير لة لتعريفة بمعالم المدينة الأكثر شهرة ، لكن بيلي سانشيز كان كما يبدو مأخوذاً بسحر السيارة الجديدة .
لقد كانت تلك هي المرة الأولى التي يسافر فيها خارج البلاد ، بعد أن قضى حياتة طالباً في المدارس الخاصة والعامة ، معيداً نفس الدورات الدراسية مرارت ومرات ، حتى أنتهى بة المطاف معلقاً داخل حالة من اللامبالاة . وكانت رؤيتة الأولى لمدينة أخرى غير مدينتة ، وبنايات المنازل الرمادية ذات الأنوار المضاءة في رابعة النهار ، والشوارع المهجورة ، والبحر النائي ، كل ذلك زاد من إحساسة بالوحشة التي كان يجاهد في سبيل الإحتفاظ بها في زاوية خفية من قلبة . لكنة مع ذلك سقط سريعاً ، دون وعي منة ، في أول فخ نصبة لة النسيان . وأنفجرت عاصفة صامتة ، مباغتة ، من بواكير الموسم ، في الأعالي ، ، وعندما غادرا منزل السفير بعد الغداء وأتجها الى فرنسا ، وجدا المدينة مغطاة بثلج واهج . ثم نسى السيارة ، وراح يصيح فرحاً أمام أنظار الجميع ، ويهيل حفنات من الثلج على رأسة ، ويتمرغ بالثلج ، بمعطفة الجديد ، وسط الشارع .
لم تلاحظ نينا داكونتي نزيف إصبعها إلا بعد أن غادرا مدريد في ظهيرة أحالتها العاصفة الى ستار شفاف من الضباب . لقد أدهشها الأمر ، لأنها عندما صاحبت زوجة السفير المولعة بغناء الألحان الإيطالية بعد المآدب الرسمية ، بالعزف على الساكسفون ، لم يسبب لها بنصرها أي أزعاج . لكن لاحقاً ، عندما كانت تدل زوجها على أقصر الطرق المؤدية الى الحدود ، كانت تمص إصبعها بطريقة لاواعية كلما نزف ، والمرة الاولى التي فكرت فيها بالعثور على صيدلية كانت عندما وصلا جبال البرانس . ثم أستسلمت لأحلام الأيام القليلة الماضية التي فات أوانها ، و فزت جفلة على إنطباع كابوسي بأن السيارة كانت تسير خلال الماء ، ولم تتذكر المنديل الملفوف حول إصبعها الا بعد مرور وقت طويل . وشاهدت في الساعة المضاءة في لوحة القيادة إن الوقت قد تجاوز الثالثة ، وبعد أن حسبت الأمر في ذهنها ، أدركت عندها إنهما قد تجاوزا مدينة بوردو ، وأنگولَيم وپواتيية كذلك ، وإنهما كانا يسيران بمحاذاة حاجز نهر لواغ المغمور بمياة الفيضان . كان نور القمر يتسرب من خلال الضباب ، وكانت الصور الظلية للقلاع تبدو عبر أشجار الصنوبر وكأنها منبعثة من داخل حكايات الجن . وقدرت نينا داكونتي التي تعرف المنطقة عن ظهر قلب ، بأنهما كانا على مبعدة ثلاث ساعات من باريس ، وكان بيلي سانشيز منكباً على القيادة ببسالة .
(أنت رجل متوحش ) ، قالت ( لقدمضى عليك أكثر من إحدى عشرة ساعة وأنت تقود السيارة ، دون أن تتناول شيئاً من الطعام ) .
كانت نشوة السيارة الجديدة قد أمدتة بطاقة عجيبة على الإستمرار في القيادة . لم يكن قد نام كثيراً في الطائرة ، لكنة كان صاحياً تماماً ومصمماً على دخول باريس قبل الفجر .
(لازلت شبعاً من عشاء السفارة) ، قال . ثم أضاف دون منطق واضح ، (على أي حال ، أنهم يغادرون السينما في کارتاگینا الآن ، لابد أن تكون الساعة تقارب العاشرة ) .
رغم ذلك ، كانت نينا داكونتي تخشى علية من النوم اثناء السياقة . ففتحت واحدة من الهدايا العديدة التي قُدمت لهما في مدريد وحاولت دس قطعة من البرتقال المطعم بالحلوى في فمة . لكنة أشاح برأسة بعيداً
الرجال الحقيقيون لايأكلون الحلوى ) قال . (
أنقشع الضباب قبل وصولهما الى أورلينز بقليل ، وأضاء قمر كبير جداً الحقول المغطاة بالثلج ، لكن حركة المركبات على الطريق أصبحت أشد صعوبة بسبب ظهور شاحنات نقل المنتجات وتناكر النبيذ الضخمة على الطريق السريع الذاهب الى باريس . كانت نينا داكونتي ترغب بمساعدة زوجها في السياقة ، لكنها لم تجرؤ حتى على مجرد إقتراح ذلك ، لأنة كان قد أخبرها في أول ليلة خرجا فيها معاً ، بأن ليس هناك ماهو أكثر إذلالاً للرجل من أن يُساق بسيارة تقودها زوجتة . شعرت بالصفاء بعد خمس ساعات تقريباً من النوم العميق ، وأرتاحت أيضاً لعدم توقفهما للمبيت في فندق من فنادق الأرياف الفرنسية ، التي تعرفها منذ أن كانت طفلة صغيرة من خلال سفراتها العديدة هناك مع والديها .
قالت أنة أجمل ريف في العالم لكنك قد تموت عطشاً ولاتجد من يمنحك شربة ماء واحدة دون مقابل ، كانت مقتنعة بذلك تماماً ، حتى انها قامت في آخر لحظة بوضع قالب صابون ولفة من ورق التواليت في حقيبة سفرها الصغيرة ، لأن الفنادق الفرنسية لاتحتوي البتة على صابون ، وورق التواليتات ليس سوى جرائد الأسبوع المنصرم ، مقصوصة على شكل مربعات صغيرة معلقة بمسمار . الشيء الوحيد الذي ندمت علية تلك اللحظة هو إضاعة ليلة كاملة دون ممارسة الحب . وكان رد زوجها عاجلاً ، إذ قال لقد فكرت للتو كم ستكون مضاجعتك رائعة في الثلج ، هاهنا ، إن أحببت .
وفكرت نينا داكونتي بالموضوع بجدية . فقد بدا الثلج المأتلق بالقمر على حافة الطريق السريع وثيراً ودافئاً ، لكن عندما أقتربا من ضواحي باريس زادت شدة الزحام على الطريق ، وكان ثمة عناقيد من المصانع المضاءة وجموع غفيرة من العمال على ظهور الدراجات الهوائية . ولو لم يكن الفصل شتاءاً لكانا الآن في رابعة النهار .
قالت نينا داكونتي ( من الأفضل أن ننتظر حتى الوصول الى باريس ، حيث سيكون كل شيء نظيفاً ودافئاً وفوق شراشف نظيفة ، يليق بنا كزوجين ) .
قال ( إنها المرة الأولى التي أتعرض فيها للخذلان ) .
أجابت ( بالطبع ، لأنها المرة الأولى التي نتزوج فيها ) .
قبل الفجر بقليل غسلا وجهيهما وتبولا في مطعم على الطريق ، وتناولا قهوة وكرواسون * ساخن ، على الكاونتر ، حيث كان سواق الشاحنات يتناولون النبيذ الأحمر مع الفطور . وفي الحمام شاهدت نينا داكونتي بقع من الدم على بلوزتها وتنورتها ، لكنها لم تحاول غسلها . ورمت منديلها المخضل بالدم في سلة القمامة ، ونقلت خاتم زواجها الى يدها اليسرى ، وشطفت إصبعها الجريح بالماء والصابون . كان الخدش صغيراً لايكاد يُرى . ورغم ذلك ما أن عادا الى السيارة حتى بدأ النزف ثانية ، فعلقت نينا داكونتي يدها خارج النافذة ، ليقينها بأن الهواء الجليدي الهاب من الحقول لة خواص شفائية . ولم يثبت هذا التكتيك جدواة أبداً ، لكنها لم تكترث ، وقالت بسحرها الطبيعي المعهود " لوفكر أحدهم بإقفاء آثارنا ، فستكون مهمتة في غاية السهولة ، لأن ماعلية حيئذ سوى أن يتتبع آثار الدماء الموجودة على الثلج " . ثم فكرت قليلاً بماقالتة وتورد وجهها بأول أشعة من نور الفجر ، وقالت ، " تخيل إن هناك خيط من الدم على الثلج من مدريد الى باريس ، ألا يصلح ذلك موضوعاً لأغنية جميلة ؟ "
لكن لم يكن لديها وقت للتفكير ثانية ، لأن إصبعها أخذ عندما وصلا ضواحي باريس ينزف بشكل جنوني ، وشعرت كما لو أن روحها كانت تُستَل من بين جوانحها عبر ذلك الخدش الصغير . وحاولت إيقاف تدفق الدم بإستخدام ورق التواليت الذي كانت تحملة في حقيبتها ، لكن تضميد إصبعها كان يستغرق وقتاً أطول من وقت رمي شرائط الورق الدامية من النافذة . الثياب التي كانت ترتديها ، معطفها ، ومقاعد السيارة تخضلت بالدم ، الذي كان يجري ببطء لكن دون توقف . وشعر بيلي سانشيز بالذعر حقاً وأصر على البحث عن صيدلية ، لكنها أدركت ان الأمر قد تجاوز قدرات الصيادلة الآن .
قالت " نحن في بورت دورلينز تقريباً ، واصل المسير على طول جادة أفينيو جينيرال لوكريك ، الجادة الكبيرة المحفوفة بالأشجار ، وبعد ذلك سأخبرك بما ستفعل " .
لقد وصلا الى أصعب مرحلة من الرحلة ، وذلك بسبب توقف المرور من الجانبين على جادة أفينيو جينيرال لوكريك ، التي كانت محتقنة بعقدة جهنمية من السيارات الصغيرة والدراجات النارية والشاحنات الكبيرة التي كانت تحاول الوصول الى الأسواق في مركز المدينة . وأثارت أصوات منبهات السيارات التي كانت تُطلق في الهواء دون جدوى حفيظة بيلي سانشيز ، فأنطلق يوزع الشتائم و اللعنات بلغة سوقية على عدد من السواق ، حتى انة حاول الخروج من السيارة لضرب أحدهم ، لكن نينا داكونتي نجحت في اقناعة بأن الفرنسيين لايتعاركون بالأيدي ، رغم كونهم أكثر شعوب الأرض وقاحة . وأثبتت للمرة الثانية رجاحة عقلها ، لأنها كانت في تلك اللحظة بالذات تحاول جاهدة الا تفقد الوعي .
وصلا الى دوّار ليون دو بلفور الذي كانت مقاهية ومخازنة مظاءة كما لو أن الوقت كان منتصف الليل ، لكن اليوم لم يكن غير يوم ثلاثاء عادي في يناير باريسي غائم وقذر ذو أمطارة دائمة الهطول لكنها لاتفلح أبداً في التحول الى ثلوج . كان الزحام أقل حدة في جادة دينفيرت – روشيرو ، وبعد اجتياز عدد من البنايات القليلة طلبت نينا داكونتي من زوجها أن ينحرف الى اليمين ، فانحرف واوقف السيارة خارج مدخل بناية الطواريء التابعة لمستشفى ضخم وكئيب المنظر .
ساعدوها في الخروج من السيارة ، لكنها لم تفقد شيئاً من رباطة جأشها وصحوها ، وبينما كانت تتمدد على نقالة ذات عجلات بإنتظار الطبيب الخفر ، مجيبة على أسئلة الممرضة الروتينية المتعلقة بهويتها وتاريخها الصحي . حمل بيلي سانشيز حقيبتها وأمسك بيدها التي كانت تحمل فيها خاتم الزواج ؛ وشعر بأن يدها كانت واهنة وباردة وبأن شفتيها قد شحُب لونهما . وظل على تلك الحال واقفاً جنبها ومطوقاً يدها بيدة ، حتى وصل الطبيب وأجرى فحصاً سريعاً لأصبعها الجريح . كان الطبيب شاباً في مقتبل العمر ، حليق الرأس ولة لون نحاسي . ولم تعر لة نينا داكونتي أي أهتمام ، وخصت زوجها بابتسامة شاحبة ، وقالت بروحها المرحة الخفية " لاتخف ، الشيء الوحيد الممكن حدوثة هو أن يقوم آكل لحوم البشر هذا بقطع ذراعي وألتهامها " .
أنهى الطبيب فحصة ، ثم أدهشهما عندما أخذ يتحدث باسبانية فصيحة جداً ، ذات لكنة آسيوية ، قائلاً : " كلا ، ياأبنائي ، يفضل آكل لحوم البشر هذا الموت جوعاً على قطع هذة اليلد الجميلة " .
شعرا بالحرج ، لكن الطبيب هدأ من روعيهما بحركة من يدة دلت على دماثة أخلاقة . ثم طلب أن تُدفع النقالة ذات العجلات ، فحاول بيلي سانشيز اللحاق بهما وهو ممسك بيد زوجتة ، لكن الطبيب أمسك بذراعة وأوقفة قائلاً :
" ليس أنت ، انها ذاهبة الى العناية المركزة " ابتسمت نينا داكونتي لزوجها ، وواصلت التلويح لة بيدها تلويحة الوداع حتى أختفت عن الأنظار في نهاية الردهة . ولبث الطبيب في مكانة ، دارساً المعلومات التي سجلتها الممرضة على لوحة بيانات محمولة ، فناداة بيلي شانشيز قائلاً : " دكتور ، انها حامل . "
" منذ متى ؟ "
" منذ شهرين . "
ولم يعر الطبيب هذة المعلومة الكثير من الأهمية كما توقع بيلي سانشيز . وقال " حسناً فعلت بإعلامي بذلك " ثم أخذ يسير خلف السرير النقال ، تاركاً بيلي سانشيز واقفاً في الغرفة المحزنة التي تعط برائحة عرق المرضى ، وحيداً وحائراً ولايدري ماذا يفعل وهو يبعث بنظراتة على طول الرواق الخالي الذي أختفت خلفة نينا داكونتي . ثم جلس على المصطبة الخشبية التي كان ينتظر عليها أناس آخرون . ولم يعلم كم من الوقت جلس هناك ، لكنة عندما قرر الخروج من المستشفى وجد أن الليل قد حل والسماء لاتزال تمطر ، فشعر بنفسة منسحقاً تحت ثقل العالم ، وحائراً لايدري ماذا يفعل .
أُدخلت نينا داكونتي المستشفى في الساعة التاسعة والنصف من يوم الثلاثاء ، المصادف 7 يناير ، كما علمت لاحقاً من سجلات المستشفى . ونام بيلي سانشيز ليلتة الأولى داخل السيارة ، التي أوقفها خارج مدخل مبنى الطواريء ، وألتهم ستة بيضات مسلوقة وأحتسى كوبين من القهوة بالحليب في أقرب كافيتيريا عثر عليها ، لأنة لم يتناول وجبة كاملة منذ أن غادر مدريد . بعد ذلك عاد الى مبنى الطواريء ليرى نينا داكونتي ، لكنهم أفهموة بعد لأي ان علية أستخدام المدخل الرئيسي . وهناك عند المدخل ، ساعدة أخيراً عامل الصيانة النمساوي على التفاهم مع موظف الأستقبال ، الذي أكدّ في الواقع حقيقة ادخال نينا داكونتي الى المستشفى بشكل رسمي ، لكن الزيارات كانت ممنوعة الا في أيام الثلاثاء ، من التاسعة حتى الرابعة . وهذا يعني ان علية الأنتظار لستة أيام أُخر . وحاول رؤية الطبيب الذي تحدث معهما بالاسبانية ، ووصفة بأنة كان رجلاً أسوداً ، حليق الرأس ، لكن لم يتمكن أحد من مساعدتة لمجرد ذكرة هذين التفصيلين البسيطين .
وبعد أن أطمئن قلبة من أن اسم نينا داكونتي كان مدرجاً في سجل المستشفى ، عاد الى السيارة . وأجبرة شرطي مرور على ايقاف سيارتة على بعد بنايتين ، في أحد الشوالرع الضيقة ، على الجانب المخصص للسيارات ذات الأرقام الزوجية . وشاهد عبر الشارع بناية رُممت حديثاً تحمل يافطة " فندق نيكول " . وكان فندقاً ذو نجمة واحدة ، و قاعة استقبالة لاتعدو أكثر من حيز صغير جداً ، تشغلة كنبة وحيدة وبيانو عتيق منتصب ، لكن المالك ، الذي كان يتمتع بصوت عال ذو نبرة موسيقية كان قادراً على التفاهم مع الزبائن بكل اللغات ، طالما كانت جيوبهم مليئة بالنقود . وأستأجر بيلي سانشيز هو وحقائبة الأحدى عشر وعلب هداياة التسعة الغرفة الوحيدة المتوفرة ، وهي علّية مثلثة في الطابق التاسع ، وصل اليها بعد صعود مضن فوق سلم حلزوني يفوح برائحة القرنبيط المسلوق . كانت الجدران مغطاة بورق حزين ، ولم يكن ثمة مجال لأي شيء في النافذة الوحيدة غير نور معتم كان ينبعث من فناء داخلي . وكان هناك سرير لشخصين ، وخزانة ثياب كبيرة ، وكرسي ذو ظهر مستقيم ، وشطّافة متحركة ، ومغسلة مع طاسة وأبريق ، وكانت الغرفة من الضيق بحيث ان الطريقة الوحيدة للوجود فيها هي التمدد على السرير فقط . كانت قديمة بشكل يفوق الوصف ، وكان كل شيء فيها مهجوراً وبائساً ، لكن نظيف جداً ، تفوح منة رائحة المطهرات . وفكر بيلي سانشيز بأنة لو تسنى قضاء عمرة كلة محاولاً حل ألغاز ذلك العالم القائم على موهبة البخل ، لما تمكن من الوصول الى حل ، وهكذا فشل في تفسير سر إنطفاء نور السلم قبل وصولة الى طابقة ، ولم يكتشف أبداً كيف يضيء النور ثانية . وتطلب الأمر منة نصف نهار ليعرف بأن على منبسط كل طابق كان ثمة غرفة صغيرة تحتوي على دورة مياة ينظفها المرء من خلال سحب سلسلة ، وعندما كان قد قرر بالفعل إستخدامها في الظلام ، أكتشف بالصدفة إشتعال النور عند غلق الباب بالمزلاج من الداخل ، لكي لاينسي أحد إطفاء النور ثانية . أما الدش الكائن في نهاية الممر ، والذي أصّر على أستخدامة مرتين في اليوم ، تماشياً مع عادتة التي نشأ عليها في بلدة ، فقد كان علية أن يدفع المال نقداً لكي يستخدمة . أما الماء الساخن ، الذي كان تحت سيطرة ادارة الفندق ، فقد نفذ خلال ثلاث دقائق . وفكر بيلي سانشيز بوضوح كاف مدركاً بأن الطريقة التي يتم بها التعاطي مع الأمور الآن ، رغم أختلافها الشديد مع ماأعتاد علية ، تعتبر بكل الأحوال أفضل من وجودة في العراء في شهر يناير ، وشعر بحيرة ووحدة شديديتين ولم يفهم كيف تسنى لة العيش دون مساعدة وحماية نينا داكونتي .
عندما صعد الى غرفتة في صباح الأربعاء ، القى بنفسة على وجهة فوق السرير بمعطفة ، وراح يفكر بتلك المخلوقة المعجزة التي كانت ماتزال تنزف على بعد بنايتين منة ، وفي الحال غرق في نوم طبيعي جداً وأستيقظ ليجد إن ساعتة كانت تشير الى الخامسة ، لكنة لم يكن يعرف إن كانت الخامسة مساءاً أم صباحاً ، ولم يكن يعرف في أي يوم كان ، وأي مدينة ، وذلك بسبب المطر الذي كان يضرب على النوافذ . فأنتظر صاحياً في الفراش ، دون أن يتوقف لحظة عن التفكير بنينا داكونتي ، حتى تأكد بأن النهار كان ينبلج في الواقع . ثم خرج لتناول الفطور في نفس المطعم الذي إرتادة يوم أمس ، وهناك عرف إن اليوم كان خميساً . كانت أنوارالمستشفى مضاءة ، والمطر قد توقف عن الهطول ، فإتكأ على جذع شجرة كستناء خارج المدخل الرئيسي ، الذي كان الأطباء والممرضون والممرضات بمعاطفهم البيضاء يدخلون ويخرجون منة ، آملاً في رؤية الطبيب الآسيوي الذي أدخل نينا داكونتي الى المستشفى . ولم يفلح في رؤيتة حيئذ ، أو حتى في فترة مابعد الظهر بعد الغداء ، حيث أضطر الى إنهاء ترقبة لة بسبب البرد القارص . في السابعة تناول فنجاناً آخر من القهوة بالحليب وبيضتين مسلوقتين جيداً أختارهما من واجهة عرض الأطعمة بنفسة بعد يومين من تناول نفس الطعام في نفس المطعم . وعندما عاد الى الفندق لينام ، وجد ان سيارتة كانت تقف وحيدة على جانب من الشارع ، وقد ثبتت في زجاجتها الأمامية ورقة غرامة ، بينما جميع السيارات الآخرى كانت واقفة على الجانب الآخر . وواجه موظف فندق نيكول مهمة صعبة في التوضيح لة بأن على المرء إيقاف سيارتة في الأيام المخصصة للسيارات ذات الأرقام الفردية على رصيف الشارع المخصص لذلك ، والعكس صحيح بالنسبة للسيارات ذات الأرقام الزوجية ، حيث يتعين إيقافها على الجانب المقابل من الشارع ، وهكذا . وأثبتت مثل هذة الستراتيجيات العقلانية عدم قدرة سليل آل سانشيز دي أفيلا العريق على إستيعابها ، والذي قام قبل سنتين بسياقة سيارة المحافظ الرسمية داخل أحد مسارح الحي وتسبب في احداث خراب كامل في الوقت الذي وقف فية أفراد الشرطة البواسل مكتوفي الأيدي . وزادت حيرتة عندما أخبرة عامل الفندق بضرورة نقل السيارة ثانية عند منتصف الليل . وعندما كان يتقلب في الفراش محاولاً النوم ، فكر للمرة الأولى ليس بنينا داكونتي فقط ، بل في ليالية المؤسية في حانات البهجة الكائنة في السوق العمومي لكارتا گينا الكاريبية . وتذكر طعم السمك المقلي ورز جوز الهند في المطاعم الممتدة على طول رصيف الميناء الذي ترسو فية المراكب القادمة من أروبا . تذكر بيتهم ، وجدرانة المغطاة بزهور " راحة القلب " ، وتخيل في الوقت الذي تكون فية الساعة قد بلغت السابعة ليلة أمس ، أباة بمنامتة الحريرية يطالع صحيفة في برودة الشرفة اللذيذة .
تذكر أمة – التي لم يكن أحد يعلم أين كانت تذهب ، بغض النظر عن أي ساعة من ساعات النهار - تلك الأم المشتهاة ، المهذارة ، التي كانت ترتدي ثياب الأحد وتضع عند حلول الظلام خلف أذنها زهرة ، وترتدي أفخر الأنسجة التي تكاد تختنق بحرارتها . وتذكر عندما كان في السابعة ، ودخل حجرتها ذات أصيل دون أن يطرق الباب ووجدها عارية في السرير مع واحداً من عشاقها العديدين . وتسبب هذا الحادث المؤسف الذي لم يأتي على ذكرة معها أبداً في أقامة علاقة معقدة بين الأثنين أثبتت انها أكثر جدوى من الحب . لكنة لم يفكر يوماً بذلك ، ولا بالعديد من الأشياء الرهيبة الأخرى التي طبعت بصمتها على طفولتة وأحساسة بالوحدة كطفل العائلة الوحيد ، حتى في تلك الليلة التي وجد فيها نفسة يتقلب في سرير احدى غرف السطوح الباريسية ، دون أنيس يبثة شكواة ، ودون قدرة على تمالك نفسة من الغضب لأنة لم يعد يتحمل كبت رغبتة الشديدة بالبكاء .
لقد كان أرقة مفيداً ، فنهض من السرير في يوم الجمعة حاملاً جراح ليلتة الشريرة التي قضاها دون نوم ، ومصمماً على منح حياتة معنى ما . وقرر في النهاية كسر قفل الحقيبة وتبديل ثيابة ، لأن جميع المفاتيح كانت في حقيبة نينا داكونتي ، مع معظم ماكانا يحملان من نقود ودفتر العناوين الذي كان من الممكن لة ، ربما ، أن يجد فية رقم أحد المعارف في باريس . وفي مطعمة المعتاد أدرك أنة كان بإمكانة قول مرحباً بالفرنسية ، وأن يطلب شطائر لحم خنزير وقهوة بالحليب . وكان يعرف انة من غير الممكن لة طلب الزبدة أو أي نوع من أنواع البيض لأنة لن يكون قادراً على تلفظ الكلمات بالشكل الصحيح ، لكن الزبدة كانت تُقدم مع الخبز دائماً ، والبيض المسلوق جيداً كان معروضاً على النضد ، بحيث كان بإمكانة إلتقاط مايريد دون حاجة للسؤال . علاوة على ذلك ، أصبح معروفاً لنُدل المطعم الذين كانوا يساعدونة في التعبير عن نفسة . وهكذا طلب في فترة الغداء يوم الجمعة ، قطعة من لحم العجل مع بطاطا مقلية وزجاجة نبيذ ، محاولاً تنظيم الفوضى الدائرة في رأسة . وشعر بإرتياح كبير فطلب زجاجة نبيذ أخرى ، وأحتسى نصفها تقريباً ، وعبر الشارع الى المستشفى عازماً على الدخول بالقوة . لم يكن يعرف أين يجد نينا داكونتي ، لكن صورة الطبيب الآسيوي الذي بعثتة العناية الآلهية كانت مثبتة في دماغة ، وكان متأكداً من العثور علية . ولم يدخل من البوابة الرئيسية ، لكنة أستخدم مدخل الطواريء ، الذي بدا لة أقل حراسة ، لكن لم يتمكن من عبور الممر الذي لوحت لة فية نينا داكونتي تلويحة الوداع . وعندما كان يسير داخل الممر ، سألة حارس يرتدي مريلة طبية مبقعة بالدماء شيئاً ، لكنة لم يعرة إ نتباهاً . فتبعة الرجل ، وأعاد علية السؤال بالفرنسية عدة مرات ، وفي النهاية أمسك بة من ذراعة بقوة هائلة جعلتة يتوقف عن الحركة . حاول بيلي سانشيز التملص منة بحركة من الحركات التي كان يجيدها أيام الصعلكة ، فشتم الحارس أمة بالفرنسية ، ولوى ذراعة خلف ظهرة بمسكة مطرقية من مسكات المصارعة ، وهو يكيل الشتائم لأمة العاهرة ، وحملة الى الباب ، وهو يتميز من الغيظ ، وألقى بة الى الخارج وسط الشارع مثل كيس من البطاطا .
ذلك المساء ، وهو يعاني من آلام العقاب الذي تلقاة ، شرع بيلي سانشيز بالنضوج . وقرر ، كما كانت نينا داكونتي ستقرر ، الإتصال بالسفير . وأثبت موظف الفندق ، رغم مظهرة الإنطوائي ، أنة متعاون جداً وذو صبر شديد مع اللغات ، فعثر لة على رقم وعنوان السفارة في دفتر التلفونات وكتب هذة المعلومات على بطاقة . وردت على التلفون إمرأة لطيفة جداً ، وأدرك بيلي سانشيز على الفور في صوتها البطيء الكابي طريقة الكلام المستخدمة في مناطق الأنديز. وبدأ يعرفها بنفسة ، مستخدماً اسمة الكامل ، موقناً بأن إسمي العائلتين سيتركان أثراً لدى المرأة ، لكن الصوت الموجود في التلفون لم يتغير . وسمعها تردد الدرس الذي حفظتة عن ظهر قلب : سعادة السفير غير موجود في مكتبة الآن ، ومن غير المتوقع أن يعود حتى يوم غد ، لكن يمكن رؤيتة على أي حال بعد الحصول على موعد فقط ، ولايتم ذلك الا في الظروف الإستثنائية . وعرف بيلي سانشيز أنة لن يكون قادراً على الوصول الى نينا داكونتي بهذة الطريقة أيضاً ، فشكر المرأة على المعلومات التي منحتها اياة بنفس اللطف الذي عاملتة بة ، ثم أستقل سيارة أجرة وذهب الى السفارة .
كانت السفارة في شارع الشانزليزية 22 ، في أحد أكثر أحياء باريس هدوءاً ، لكن الشيء الوحيد الذي أثر في نفس بيلي سانشيز ، كما أخبرني بنفسة في كارتا گينا دي اندياس بعد سنين ، هو نور الشمس الذي رآة يشع لأول مرة منذ وصولة كنور شمس كاريبية باهرة ، وبرج ايفيل المشرف على المدينة الذي كانت تشع من خلفة سماء حمراء . وبدا الموظف الذي استقبلة نيابة عن السفير وكأنة قد نجا تواً من مرض قاتل ، ليس فقط بسبب بذلتة السوداء ، وياقتة الكئيبة وربطة عنقة السوداء ، لكن أيضاً بسبب حركاتة الرسمية الصارمة وصوتة الهاديء . وتفهم قلق بيلي سانشيز لكنة ذكّرة ، دون ان يفقد شيئاً من رصانتة وتعقلة ، بانهم يعيشون في بلد متحضر بُنيت قوانينة الصارمة على أكثر المعايير عراقة وعلماً ، عكس ماهو موجود لدى شعوب الأمريكيتين البرابرة ، الذين كل مايفعل المرء منهم هو تقديم رشوة للبواب لدخول المستشفى . وقال " كلا يابني العزيز ، ففي كل الأحوال لم يبق لك سوى أربعة أيام من الإنتظار " . ثم أردف خاتماً كلامة " وفي غضون ذلك يمكنك زيارة متحف اللوفر. إنة يستحق المشاهدة " . فلم يكن من بيلي سانشيز ، والحال هذة ، غير اللجوء الى ملاذة الوحيد وهو الاحتكام الى صوت العقل والانتظار حتى يوم الثلاثاء .
وعندما خرج وجد نفسة في ساحة بلاس دولا كونكورد دون أن يدري ماذا يفعل . وشاهد برج إيفيل فوق سطوح البنايات ، وبدى لة شديد القرب حتى إنة حاول السير الية مشياً على الأقدام بمحاذاة أرصفة رسو القوارب . لكنة أدرك في الحال إن المسافة كانت أبعد مما كان يتصور ، وواصل السير في دروب مختلفة بحثاً عنة . ثم اقتعد أحد المصاطب الموجودة على طول ضفة السين وشرع يفكر بنينا داكونتي . وشاهد قوارب السحب تمر من تحت الجسور ، وبدت لة أشبة ببيوت جوّالة منها بقوارب ، بسقوفها الحمراء وأصص زهورها الموضوعة على حافات نوافذها وحبال غسيلها الممتدة عبر سطوحها . وراقب لفترة طويلة صياد سمك ساكن الحركة ، كان ممسكاً بصنارة ساكنة ذات خيط ساكن في التيار ، لكنة تعب من إنتظارة لحدوث حركة ما ، فقرر العودة بتاكسي الى الفندق . وهنا أكتشف إنة كان يجهل إسم الفندق أو عنوانة ولم تكن لدية أدنى فكرة عن أي مكان في باريس يقع المستشفى .
دخل أحد المقاهي القريبة ، بعد أن شعر بأن الهلع قد أذهلة ، وطلب كأساً من الكونياك ، وحاول أن يستجمع أفكارة المشتتة . وبينا هو يفكر شاهد نفسة متكرراً عدة مرات ومن عدة زوايا في المرايا العديدة المعلقة على الجدران ، وشاهد بأنة كان خائفاً ووحيداً ، وللمرة الاولى منذ ولادتة فكر بواقعية الموت . لكنة شعر بتحسن بعد إحتسائة لكأس الكونياك الثانية ، وخطرت لة بفضل العناية الآلهية فكرة العودة الى السفارة ثانية . وبحث في جيبة عن بطاقة العنوان ، وأكتشف بأن إسم ورقم شارع الفندق كانا مطبوعين على ظهر البطاقة . لقد هزّتة تجربة الضياع هزّاً حتى إنة لم يغادر غرفتة طوال عطلة نهاية الأسبوع إلا لتناول الطعام أو لتغيير مكان السيارة من رصيف الى آخر . وكانت نفس الامطار القذرة التي شرعت بالهطول عند وصولهما في الصباح قبل ثلاثة أيام مستمرة بالهطول دون إنقطاع . وتمنى بيلي سانشيز ، الذي لم يكمل كتاباً في حياتة ، أن يكون لدية كتاب يدفع عنة الإحساس بالملل الجاثم فوقة وهومستلق على السرير ، لكن الكتب الوحيدة التي عثر عليها في حقيبة زوجتة كانت مكتوبة بلغات أخرى غير الإسبانية . وهكذا واصل إنتظارة ليوم الثلاثاء ، وهو يتأمل الطواويس المتكررة على ورق الجدران ومفكراً بنينا داكونتي دون توقف . في يوم الإثنين قام بترتيب الغرفة ، متسائلاً ماذا ستقول لووجدتها على تلك الحال ، وفي هذة الأثناء فقط إكتشف بأن معطف الفراء كان ملوثاً ببقع الدم اليابس . وأمضى فترة مابعد الظهر في تنظيف المعطف بصابون معطّر عثر علية داخل حقيبة السفر الصغيرة ، حتى تمكن من إعادتة الى حالتة الطبيعية التي كان عليها عندما حُمل الى الطائرة في مدريد .
بزغ فجر الثلاثاء غائماً وجليدياً ، لكن دون مطر . ونهض بيلي سانشيز في السادسة صباحاً ووقف ينتظر خارج مدخل المستشفى مع حشد من الزوار الذين كانوا يحملون الهدايا وباقات الزهور لمرضاهم . ودخل مع الحشد ، حاملاً معطف فراء المنك على ذراعة ، ومتجنباً طرح الأسئلة ، رغم جهلة التام بمكان نينا داكونتي ، إلا إنة كان يشعر بيقين من رؤية الطبيب الآسيوي . سار داخل باحة داخلية كبيرة ، تزينها الأزهار والطيور ، وتقع على جانبيها ردهتان : ردهة للنساء الى اليمين ، وأخرى للرجال الى اليسار . تبع خطى الزوار ليدخل ردهة النساء . وشاهد صف طويل من النزيلات يجلسن على الأسرّة بثياب المستشفى ، ينسكب عليهن ألق النور الكبير المنبعث من النوافذ ، حتى إنة فكر إن المستشفى من الداخل يبدو أكثر بهجة بكثير مما يتخيلة المرء عنة من الخارج . وصل الى نهاية الممر ثم عاد أدراجة ، حتى تأكد من أن نينا داكونتي لم تكن من بين المريضات . ثم دار حول القاعة الخارجية ثانية ، وهو يحدق بنوافذ ردهة الرجال ، حتى ظن إنة عثر على الطبيب الآسيوي الذي كان يبحث عنة .
وفي الواقع كان ذلك صحيحاً لأن الطبيب كان يقوم بصحبة أطباء آخرين وعدد من الممرضات بفحص أحد المرضى . دخل بيلي سانشيز الى الردهة ، ونحى أحدى الممرضات جانباً ووقف قبالة الطبيب الآسيوي، الذي كان منحنياً يفحص المريض ، وأخذ يكلمة . رفع الطبيب عينية الحزينتين ، وفكر للحظة ، ثم تذكرة وقال :
" أين كنت بحق الجحيم ؟
شعر بيلي سانشيز بالحيرة ، وقال " كنت في الفندق المجاور للمستشفى "
ثم أكتشف الحقيقة . لقد نزفت نينا داكونتي حتى الموت ووافاها الأجل في الساعة السابعة وعشر دقائق من مساء يوم الخميس المصادف 9 يناير ، بعد أن ذهبت جهود أفضل الأخصائيين في فرنسا لايقاف النزيف أدراج الرياح . وظلت حتى النهاية محتفظة بصفاء ذهنها وحضورها وهي تخبرهم بكيفية العثور على زوجها في فندق بلازا – أثينيية وهو الفندق الذي كانا قد عزما على النزول فية هي وبيلي سانشيز ، وقدمت لهم المعلومات الضرورية للاتصال بوالديها . وقامت وزارة الخارجية باعلام السفارة في يوم الجمعة ، وهو اليوم الذي شرع فية والدا نينا داكونتي بالسفر فعلا الى باريس بالطيارة . وقام السفير شخصياً بتنفيذ الإجراءات الرسمية المتعلقة بإجراءات حفظ الجثة و مراسيم إقامة الجنازة ، وظل على إتصال بمديرية شرطة باريس التي كانت تبذل الجهود في سبيل العثورعلى بيلي سانشيز وتحديد مكان إقامتة . وأذيعت نشرة مستعجلة تحتوي على أوصافة إبتداءاً من ليلة الجمعة حتى مساء الأحد من الراديو والتلفزيون ، ليصبح بيلي سانشيز خلال تلك الساعات الأربعين أكثر المطلوبين في فرنسا . وعُرضت صورتة ، التي وجدوها في حقيبة نينا داكونتي ، في كل مكان . وتم العثور على ثلاث سيارات من نوع بينتلي مكشوفة السقف من نفس الطراز ، لكن لم تكن أي منها سيارتة . ووصل والدي نينا داكونتي في ظهيرة يوم السبت وجلسا مع الجثة في مذبح المستشفى ، يحدوهما الأمل حتى اللحظة الأخيرة بالعثور على بيلي سانشيز .
وتم إعلام والدي بيلي سانشيز أيضاً وشرعا بالإستعداد للطيران الى باريس ، لكنهما لم يفعلا ذلك في نهاية الأمر بسبب تضارب البرقيات . وأقيم المأتم يوم الأحد في الساعة الثانية بعد الظهر، على بعد مئتي متر فقط من غرفة الفندق القذرة التي كان بيلي سانشيز يتمدد فيها ، تؤرقة تباريح الوحدة والغرام بنينا داكونتي . لقد أخبرني الموظف الذي أستقبلة في السفارة بعد سنتين ، بأنة أستلم برقية الخارجية بعد ساعة من مغادرة بيلي سانشيز لمكتبة ، وذهب للبحث عنة في البارات السرية المعتمة الممتدة على طول شارع غي دو فوبوغ - سانت - أونورية . وأعترف لي بأنة لم يعر بيلي سانشيز الكثير من الإهتمام عندما قابلة ، لأنة لم يكن يتخيل أبداً بأن ذلك الصبي القادم من الساحل ، والمبهور بحداثة باريس ، والذي يرتدي سترة شيرلنغ غير لائقة ، لة كل ذلك الأصل العريق .
وفي نفس الليلة عندما تغلب على رغبتة في البكاء حنقاً ، أنهى والدي نينا داكونتي البحث عنة ووضعا الجثة المحنطة في كفن فضي ، وذكر من رأى الجثة مرات ومرات لعدة سنين بأنهم لم يشاهدوا في حياتهم إمرأة أخرى أجمل منها ، حية كانت أم ميتة . ولذلك عندما دخل بيلي سانشيز المستشفى صباح يوم الثلاثاء ، كان الدفن قد تم فعلاً في مقبرة لاماگنا الحزينة ، التي كانت لاتبعد غير بضعة أمتار عن المنزل الذي فكا فية رموز أولى مفاتيح سعادهتما . وأراد الطبيب الآسيوي الذي أخبر بيلي سانشيز بالمأساة أن يعطية بعض المهدئات في غرفة الإنتظار ، لكنة رفض . لقد غادر بيلي سانشيز المستشفى دون كلمة وداع ، ودون كلمة شكر ، وهو يفكر بأن الشيء الوحيد الذي كان يحتاجة دون إبطاء هو العثور على أحد ما وضربة بالسلاسل حتى يتطاير مخة خارج رأسة إنتقاماً لفجيعتة . وعندما خرج من المستشفى ، لم يكن يدرك إن ثلجاً دون أثر للدم فية كان يهطل من السماء ، على شكل ندف ناعمة ، ولامعة مثل ريش الحمام المتساقط ، وبأن شوارع باريس كانت تعيش جواً إحتفالياً لأنها كانت تستقبل أول هطول كثيف للثلوج منذ عشرة أعوام .


(الهلالية : كعكة محلاة هلالية الشكل *
الفكر الديني ضعيف، لذا فإنه يلجأ الي العنف عندما تشتد عليه قوة المنطق، حيث لايجد منطقاً يدافع به، ومن ثم يلجأ الي العنف.( ... )
أضف رد جديد