درما البرُش ماها

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
محمد عبد الجليل الشفيع
مشاركات: 155
اشترك في: الجمعة إبريل 01, 2011 11:11 am

درما البرُش ماها

مشاركة بواسطة محمد عبد الجليل الشفيع »

[size=18]هنالك أشياء تبقى في الذاكرة .. القلب، مهما تقادم الزمن، من تلك التي تبقى ذكريات وفاء الأم كحامل للقوى الخفية في البشر. أذكر (درما) تلك الإنسانة البدوية البسيطة التي تقيم في غرفة نُسجت جدرانها من صوف الماعز، تقف على بعد أميال من أقرب المناطق الآهلة في كل الاتجاهات، تبعد غرفة درما عدة أميال من قريتنا. لا يُعرف لدرما أسرة/عائلة/قبيلة أو ملاذ إلا طفلها الوحيد (حماد) وهو من (ذو الاحتياجات الخاصة)، وجه جامد وشرود مقيم، وعينان ذابلتان يستحيل تحديد اتجاه نظرهما.

التقيت حماد أول مرة وعمري ثمانية سنوات وعمره تجاوز العشرة قليلاً .. عندما بدأ يأتي مع أمه (درما) التي تبدأ يومها بدخول بيوت القرية في الصباح الباكر من كل يوم بخطة محكمة وحماد ملتصق بها حيثما توجهت. تتمتع (درما) بقدرة مدهشة على تحديد الأسر التي تحتاج خدماتها المتمثلة في جلب الماء من بئر القرية، تنتابها حالة من الفرح وتأخذ الصفيحة والدلو من الأسرة صاحبة الطلب وتذهب إلى البئر في انتشاء يضج من عينيها الصغيرتين الجميلتين السعيدتين، عند البئر تُجلِس حماد على مقربة منها وتبدأ في إنزال الدلو للبئر ونشل الماء ثم تشرع في تنغيمها المحبب لكلماتها التي يبدو أنها تمنحها الطاقة لمواصلة عملها المجهد. حفظ أطفال قريتنا كلمات درما ، تبعث فيهم الفرح وهي تؤديها بملء ما في البشر من حيوية (عندما تكتمل قناعتهم بأهمية وجدوى العمل المؤدى) .. تظل (درما) تردد وهي تنشل الماء من البئر:
درما البِرُش ماها كسع النعيم جاها

هكذا تردد هذه الكلمات بلا كلل وبتنغيم جميل وإيقاع لا يعتريه اضطراب .. لا بد أن في خاطرها الدريهمات القادمات لتمكينّها من الحصول على بعض بسكويت وخبز وحلوى لعلها تنتزع ابتسامة حماد من قاع الشرود السحيق.

عندما تمتليء الصفيحة بالماء تبدأ درما بالتلفت في انتظار من يساعدها في رفع الصفيحة على رأسها بعد أن تكون قد لفت جزء من ثوبها بشكل دائري مفرغ الوسط ليحمي رأسها أما ثقل الحِمل فجسدها النحيل المدرب كفيل به كما أثبت ذلك على مر الأيام .. وهكذا حتى ينتهي يوم عملها وتأخذ حصيلة جهدها نقداً وتذهب لبقالة (حاج ساري الليل) البقالة الوحيدة في القرية فتشتري بكل ما حصلت عليه في ذلك اليوم. كنت ضمن عدد من أطفال القرية نسعد بمتابعة برنامج درما من البئر وحتى نهاية المسيرة اليومية ببقالة ساري الليل ونحن نراقب شرود حماد وفرح درما العارم بما كسبت. كانت تطلب مشترواتها البسيطة من حاج ساري الليل، وكلما طلبت شيئاً نظرت بحب في وجه حماد، ثم تطلب المزيد من الأشياء التي علمتها التجربة أنها تسعد حماد، فهي لا تنظر لنفسها إلا من خلال هذا الحماد.

بلا مقدمات اختفى حماد .. لا أحد يعلم كيف ولماذا أختفى! .. هكذا (خرج ولم يعد .. طفل في العاشرة أو يزيد قليلاً .. شارد الذهن .. لا يمكن تحديد الجهة التي ينظر إليها)، فمرضت درما وأصبحت تأتي للقرية كهيكل عظمي بوجه محزون مكروب بعد أن غادرته الحيوية والفرح بفقد حماد، وتوقفت عن ترديد الأهازيج الطروبة والكلام والضحك والعمل، الكلمة الوحيدة التي تخرج من قلبها الملتاع إلى لسانها هي "حماد راح".

استمرت درما تأتي للقرية يومياً مكسورة الخاطر زاهدة في أي شيء. تعاطف معها الجميع في القرية وخاصة النساء اللائي يعرفن وجع فقد الولد الوحيد، حاولن إخراجها من حزنها دون جدوى. تجود عليها بعض الأسر بما تيسر من طعام تأكله بلا رغبة وهي جالسة على الأرض ومن ثم تعود من حيث جاءت. استمرت درما على هذا الحال لثمانية أشهر أو يزيد وكادت تموت حسرة على حماد. فجأة ظهرت (درما) في أحد الأيام ومعها حماد وقد عاد البريق لعينيها والنشاط لجسدها الذي كاد يزوى من شدة النحول واستقبلتهما القرية استقبالا يليق بحرقة لوعة درما .. وما هي إلا أيام قلائل حتى عادت درما القديمة المفعمة بالحياة والحيوية، فقط غيرت الكلمات التي ترددها عندما تبدأ نشل الماء من البئر بكلمات أُخر:

يا حماد بخيت وسعيد يا حماد مليح الجيت

الرياض يونيو 2014
آخر تعديل بواسطة محمد عبد الجليل الشفيع في الخميس يونيو 05, 2014 12:25 pm، تم التعديل مرة واحدة.
محمد عبد الجليل الشفيع
مشاركات: 155
اشترك في: الجمعة إبريل 01, 2011 11:11 am

Re: درما البرُش ماها

مشاركة بواسطة محمد عبد الجليل الشفيع »

[size=18]

بلا مقدمات اختفى حماد .. لا أحد يعلم كيف ولماذا أختفى! .. هكذا (خرج ولم يعد .. طفل في العاشرة أو يزيد قليلاً .. شارد الذهن .. لا يمكن تحديد الجهة التي ينظر إليها)، فمرضت درما وأصبحت تأتي للقرية كهيكل عظمي بوجه محزون مكروب بعد أن غادرته الحيوية والفرح بفقد حماد، وتوقفت عن ترديد الأهازيج الطروبة والكلام والضحك والعمل، الكلمة الوحيدة التي تخرج من قلبها الملتاع إلى لسانها هي "حماد راح".


أضف رد جديد