مقال عن عمل أدونيس الأخير "كونشيرتو القدس"

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

مقال عن عمل أدونيس الأخير "كونشيرتو القدس"

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »


أدونيس في عمله الشعري الأخير كونشيرتو القدس: متى ينتهي تاريخك، يا جارية السماء والنبوات؟



أحمد دلباني
الحوار المتمدن-العدد: 3985 - 2013 / 1 / 27 - 20:45
المحور: الادب والفن


أدونيس في عَمله الشعريّ الأخير "كونشيرتو القدس":

مَتى ينتهي تاريخُكِ،
يا جارية السَّماءِ والنّبوات؟

أحمد دلباني

" السَّماء كمثل لوحة فريدةٍ في متحف الأرض.
وكلٌّ يحاربُ لكي يصحّ زعمُه أنه سارقها الفريد. "
أدونيس – كونشيرتو القدس.

1
يخرجُ عمل أدونيس الشعري الأخير "كونشيرتو القدس" ( دار الساقي – بيروت، لبنان. ط1 - 2012) عن كُورس الأدبيات العربية التي ربطت ذاكرة المدينة العتيقة بالزمن الكولونيالي ومأساة الشعب الفلسطيني منذ قيام دولة إسرائيل. هذا العملُ يخرجُ عن الإطار السياسيّ الضيق الذي سجن القول الإبداعي عن القدس في ذاكرة الدَّم وتنازع المرجعيات اللاهوتية حول الأحقية التاريخية للأمّة الموعودة بالسّماء في المدينة العتيقة. إنها قصيدة – بانوراما تستحضرُ مدينة القدس بعيدًا عن الهواجس النضالية التي طالما أسرَت الفعل الإبداعي العربي في زمن المراثي ونوستالجيا الفراديس المفقودة. القدسُ في هذا العمل الأدونيسي ليست فردوسا مفقودا، وإنما هي جحيمٌ أرضيّ وانشقاقُ ذاكرة أسَّس له التنابذ التاريخي بين المنظومات الدينية للطوائف المُختلفة وهي تحاول الاستئثار بوعود السّماء والأبدية.
نحنُ هنا أمام عمل إبداعيّ يحاولُ، جاهدًا، تأسيس ذاكرة مضادة لتاريخ التنابذ والانغلاق والتناحر الذي أسّست لهُ الوحدانيات الدينية من جهة أولى؛ كما يحاولُ، من جهة ثانية، أن يكتب مرثية الأرض التي رأى أدونيس أنها ظلت رهينة للإلهيّ وحمامة ذبيحة بسيف السّماء التي جسَّدت الحديث باسم المُطلق في شكله الدينيّ كما هو معروف. من هنا اعتقاد أدونيس أنَّ هذه المدينة العتيقة تمثل بصورة نموذجية " سماء على الأرض " ( كونشيرتو القدس، ص- 23)؛ وبالتالي فهي التجسيد الأمثل للحظة اللاهوت وهو يعتقلُ المعنى في اللغة المتعالية، ويكبحُ صيرورة العالم والتاريخ، وينسفُ جسورَ الانفتاح على الآخر المُختلف. هذا هو شأن كل وجود تاريخيّ يتأسّسُ على المطلق والوحدانية ويتمحورُ حول شبق الهيمنة الذي لا يرتوي.
كيف الخروجُ من هذا الزمن النبويّ الذي يستجدي حرابَ السماء لإخضاع الأرض وثقافة الأرض؟ كيف للإنسان – في ظل هيمنة الوحدانيات المُتنابذة - أن يؤسّس لزمن ثقافيّ وحضاريّ جديد يصلُ بين الأطراف في أوقيانوس التاريخ المُتعثر أمام رهان الأنسنة إلى اليوم؟ كيف للّغة – في زمن ثقافي مُماثل - أن تخرج من شرنقتها الدينية العتيقة وتكونَ وشوشة للجسد وأجنحة للفكر وقد تخلص من أغلال كهرمان السماء الآفلة؟ هذا هو الرهانُ العولميّ الحقيقيّ الذي نشعرُ بضرورته ونحنُ نقرأ عمل أدونيس الأخير: ضرورة العمل من أجل تحرير الأرض من مُعتقل السماء، وتحرير التاريخ من تدخل الآلهة السَّكرى بتعذيب البشر.

2
القدس، بالتالي، نموذجٌ للمدينة التي يُمكنُ أن توصفَ بأنها "مدينة الله". إنها المدينة التي تأسَّست على الوحدانية الدينية ونزاع الطوائف الثلاث حول احتكار الدروب المُؤدية إلى الخلاص السماويّ. هذا الأمرُ طبع وجودها - وما زال- بطابع الصّراع الدمويّ القائم على الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المُطلقة من جهة أولى، وطابع تغييب ثقافة الأرض والجسد والسؤال والحرية الكيانية من جهة أخرى. ويعتقدُ أدونيس أنَّ تحرير القدر الإنسانيّ من ارتهانه في ملكوت السماء واستلابه أمام تاريخ يكتبهُ الغيب لا يكونُ إلا بالخروج من الزمن النبويّ ومن هيمنة الأبدية. إذ لا وجودَ للبشر ولا للتاريخ والصيرورة مع دوام استمرار ذلك المشهد الرومانيّ الرهيب الذي يعرضُ الأرض أمامنا كمثل حمامة تئنّ تحت سوط السماء. علينا الخروج من "مسرح القسوة " الذي أسَّست له الوحدانيات وإرادة القوة التي جعلتها تعتقلُ المعنى في المُسبَّقات اللاهوتية، وتسحقُ كل تطلع بشري إلى وجود مُغاير ومنفتح على الآخر خارج أسيجة الدوغماتية الدينية.
هذا ما يجعلني أتحدث، بكلّ أسف، عن بؤس الثقافة العربية في بعض أوجهها – خاصّة تلك المُتعلقة بالقراءة النقدية واستقبال الحدث الأدبيّ الجديد - وأنا أقفُ أمام بعض المُتابعات السَّريعة لعمل أدونيس الأخير. ما زال إعلامنا الثقافيّ قاصرًا أمام المشهد الإبداعيّ في ذراه العالية التي يسكنها هاجسُ المساءلة والخلخلة لما استقرّ وساد في الوعي الجمعيّ. ما زالت مُقارباتنا للأعمال الإبداعية أسيرة لموروثٍ تُهيمنُ عليه الإيديولوجية النضالية والمخيالُ الألفيّ الذي لم يتعرّض للنقد التفكيكيّ، وبخاصّة في ما يتعلقُ بعلاقة الذات بالآخر وعلاقة الذات بتاريخها الخاص ونظام تصوّرها للعالم والأشياء. هذا ما جعل الكثير يعتقدُ أنَّ "كونشيرتو القدس" قصيدة كتبها أدونيس عن "مدينة مُقدّسة محتلة" وضمن الخط النضاليّ الذي دشنته حركة التحرّر العربيّ من الاستعمار في طبعتها الفلسطينية. هذا الأمرُ مفهومٌ ويشكل، بالطبع، هاجسا مركزيا عند كل مثقف ومُبدع ملتزم بقضية الإنسان والحرية والعدالة. ولكنني أعتقدُ – كما سيتبيَّنُ لاحقا – أنَّ قصيدة أدونيس تعرضُ، بالأحرى، مشهدًا تراجيديا لمدينة يحتلها تاريخها الخاصّ مُمثلا بميراث الوحدانيات الدينية وحضور السّماء الطاغي على مصائر الأفراد والجماعات. هذه المدينة لم تستطع أن تصنعَ تاريخا مُختلفا أو ذاكرة مُشتركة لأبنائها لأنها ظلت أسيرة لصراع الوحدانيات التي نسفت جُسور التعايش، وظلت تنزفُ أمام التمزق الطائفي الذي أملتهُ السّماء على أرض لم تُلملم أوصالها بعد. إنَّ عمل أدونيس، بالتالي، مرثية للأرض التي لم تتحرَّر من هيمنة المُقدّس ولم تدخل، بعدُ، زمنَ الإنسان.
تحدَّث هيغل عن "مكر التاريخ" وهُو يقدم قراءتهُ الشهيرة للتاريخ من منظور منطِقه القائم على التناقض والجدل. أما أدونيس فيتحدث عن "مكر الغيب" وهُو يتأمَّلُ مصيرَ الوحدانيات ومآلها:
" حقا، يمكرُ الغيب في القدس، وهو سيّدُ الماكرين " (نفسه، ص-11).
هذا التاريخ ليس له إلا أن يعيدَ نفسه وبنفس تلك القسوة وتلك الشهوة إلى الدم. أو قل هو ليس تاريخا بالمعنى الدقيق، وإنما هو آلة جهنمية وزمنٌ سيزيفيّ ليس لهُ إلا أن يُكرّر نفسه مؤبدًا مشهد العذاب وصعودَ الإنسان إلى جلجلة المحو على أعتاب الأبدية. إنه " مسرحٌ يقوده الحكيم الجبّار " (ص-9). الأرضُ هنا غيابٌ، والحياة طريدة الزمن الإلهيّ، والإنسانُ دَورٌ شاحبٌ يشهد على حكمة الأقدار الدمويّة، وديكورٌ يتمّمُ ما يغيبُ عن الأذهان القاصرة من صنوف العناية الإلهية. في هذا المُعتقل تكونُ الأرضُ قربانا يروي عطش السّماء بدمها، وتكونُ القدس بيتا ينضحُ برائحة الموت وخنق صوت الأرض:
" – هكذا سنظلّ نصنعُ النعوش قبل الأوان. ندهنها بعطر مما قبل التكوين. ونقطع
باسمها وريدَ الأرض لكي نغذيَ شريان الغيب " (نفسه، ص-17).
إن حكمة القدس - باعتبارها مدينة تُجسّدُ الأبديّ في الزمنيّ – تكمنُ في تحيين الزمن الحقيقيّ: زمن النبوات والتعالي الذي يؤثث فضاء المعنى بالملائكة ورغبة التطهر من عالم التاريخ السفليّ حيث التعددُ ونداءات الصَّبوات العميقة إلى معانقة الآخر عبر فعل الحب وبناء بيت الشراكة والحرية. القدسُ عالمٌ يفلتُ من لوثة الغيرية ويتمركز حول الذات وقد أصبحت أقنوما أزليا يقبض على عروة المعنى النهائي. إنها زمنٌ نرجسيّ بامتياز. زمنٌ يُلبسُ نرجس عباءة اللاهوت ويُصوّرهُ راعيا على الزج بالحياة في حوض الآلهة. يصرخ أدونيس في وجه القدس:
" ... كل نهاية بداية: لا شيء تعلمينهُ إلى أبنائك إلا الموت. وما هذه الحياة التي لا تحيا إلا رهينة في قفص إلهيّ؟

كلا، لا أخاف،
لا أخاف إلا من جموعك التي لا تعرف شفاهُها أن تنفصلَ عن ثدي الموت " (نفسه، ص-41).
أرضُ النبوات لا تحبلُ إلا بالموت. أرضُ النبوات لا تسعُ الشاعر وتطلعاته إلى الحياة الحقيقية وإلى الحب وعناق الأطراف واحتضان صيرورة التاريخ. أرضُ النبوات زمنٌ أصفر ومُومياء مُحنطة في سراديب المطلق. أرض النبوات صوتُ الواحد وسوط شهوة المعنى وقد لبسَ خوذة الحرب على الآخر المُختلف. إنها منفى الشاعر الباحث عن المعنى في سفره الذي لا ينتهي. فماذا يفعلُ المبدع؟ ماذا يفعلُ أبناءُ الإنسان؟
" وماذا نفعلُ، نحن أبناء الجارية، والأرضُ كلها جارية في أحضان النبوات؟" (نفسه، ص-66).
سينتفض طائر الشاعر ويحطمُ قفص النبوات ويرمي بألواح الوصايا البائدة في نهر الموت مُغتبطا كطفل. سينتفضُ ضدَّ زمن المُطلق مُحرّرا الأرض من براثن اللاهوت ومن وضع الجارية التي تُسفحُ على سرير الآلهة. سيخرجُ من زمن الواحدية التي أسّست للنبذ والقتل والحرب على الآخر. سيفتحُ طريقا إلى زمن إنسانيّ متلفع بالحب ومُتخلص من إرث الدّم الذي خلَّفته السماء:
" كلاّ لن أقدر يوما أن أندرج في جاذبية القتل،
يا أرض الله،
ماذا إذا ستقولين عني؟ وماذا ستفعلين؟
نعم سأظل مأخوذا بالشهب التي تتلألأ في جوف
الحب، مأخوذا بالحب " ( نفسه، ص 99-100).
هذا زمنُ الإنسان بامتياز. زمنُ الحب والإبداع والشعر. زمنٌ يهربُ من شرنقة الأبدية ويحلق عاليا في مُغامرة ابتكار الحياة على مقياس القلب الطافح بشهوة الخروج من إسطبل السماء. زمنُ أنبل الجرائم: جريمة الحرية والبراءة من تاريخ ظل يخنق صوت الإنسان في أقبية الآلهة:
" يا ليَ من مُجرم يعيش بريئا كالمطر. وذنبي، هذه الآونة، أنني أنافسُ الضوء.
انغلقي، إذا، في وجهي أيتها السماء. ولك هذا العهد: لن تريني على بابك أبدا.
وأنت، أيتها الكواكب، لن أطلبَ أن تكوني سلّما لخطواتي.
ما أكثر الكواكب في أحشائي " ( نفسه، ص-76).

3
بيَّنا في دراسة سابقة ( أنظر: أحمد دلباني – مقام التحول. دار التكوين، دمشق 2009) أنَّ مُحدّدات الرؤية الفكرية والإبداعية عند أدونيس يُمكنُ أن نعثر عليها في ثلاثة مداخل رئيسة: الجسد والأرض والتاريخ. وأشرنا إلى أنَّ هذا الأمر هو ما يُعطي للأدونيسية قيمتها في الثقافة العربية المعاصرة باعتبارها ثورة بروميثيوسية على آلهة الواقع القمعيّ بكل تجلياته الفكرية والاجتماعية والمُؤسّسية. من هنا كان إبداع أدونيس، بالتالي، ثورة على نظام القيم الفكرية والجمالية التي جعلت الأرض أمَة للسماء، وجعلت الجسد شجرة مُحرَّمة في متاهة الحياة، وجعلت التاريخ خيط عنكبوت ومعبرًا هشا إلى الأبدية. هذه المُحدّدات التي ذكرناها تشكل نواة مركزية وجذرًا يؤسّسُ لحداثة التجربة الاختراقية عند أدونيس: حيث يحضرُ الجسد بوصفه حرية ورغبة ووشوشات، وبوصفه ضوءا يقود إلى المجهول وتوقا حارقا إلى عناق المطلق عبر فعل الحب، خلافا للثقافة التي عزلته عن المعرفة وامتهنته وزجَّت به في دَركات العوالم السفلية. ويحضر التاريخ والأرض، لا بوصفهما ظلا للمطلق المتعالي أو انعكاسا للسماء الآفلة تاريخيا، وإنما باعتبارهما مسرحَ التغير والصيرورة، وباعتبارهما بيتَ المعنى ومجال انعتاق الإنسان الشامل.
هذه المُحدّدات الكبرى للرؤية الأدونيسية تشكل نواة حداثتها وبُعدها الإنساني والحضاري بوصفها مساءلة وخلخلة للموروث وفضحا لبنية القمع الراسخة في المُؤسَّسة التاريخية. والشعر، هنا، ليس صلاة وليس قربانا يُقدم لآلهة الواقع القمعي، وهو ليس مصالحة مع نظام القهر؛ بل هو عِتق لشرارة الإنسان المطمورة تحت الرّماد من جهة أولى، وتحريرٌ للمعنى من نظام الحقيقة القائم على حَجب الزمنية والصَّيرورة من جهة ثانية. وهل مدينة القدس إلا مسرحٌ يختزلُ كلَّ ذلك التاريخ القائم على اعتقال الإنسان والمعنى داخل اللغة النبويّة، والتأسيس لواحديَّة الرؤية واستبعاد الآخر من دائرة الخلاص؟ هذا ما دفع بنا إلى القول إنَّ مدينة القدس كانت مناسبة لأدونيس كي يقولَ نقدَهُ للوحدانية وما تضمرهُ من نزوع إلى الشمولية والتمركز حول الذات ونبذ الآخر.
إنَّ أدونيس - عبر عمله الشعريّ الذي بين أيدينا – يُركّز على أمرين أثيرَيْن لديه من وجهة نقدية / تفكيكية: نقد الوحدانية الدينية ورفع الصلاة الوثنية للأرض. فأما الوحدانية فقد شكلت، منذ مدة، مدار اهتمام أدونيس النقديّ في بحثه المحموم عن نزعة إنسانية جديدة تتجاوز الانغلاق اللاهوتي وثقافة النبذ واستبعاد الآخر المُختلف. إذ نعرفُ أنَّ الوحدانيات شكلت قلاعا مغلقة على ذاتها وأسَّست لبشرية تعيشُ كجزر متنابذة تتصارعُ على احتكار الحقيقة وترفعُ النصب للذات ومركزيتها التي لا تناقش. هذا الأمرُ يرى فيه أدونيس نزعة عنصرية / توتاليتارية مُجاراة للنقد التفكيكيّ المعاصر الذي اجتهد في فضح ما تضمرهُ كل رؤية شمولية من أشكال التمركز، وما يُضمره ادّعاءُ امتلاك الحقيقة من رغبة في الهيمنة وفي اعتقال المعنى. من هنا يدعو أدونيس إلى إعادة " قراءة الرؤى الوحدانية للإنسان والعالم " قراءة تكونُ على " نحو نقديّ وجذريّ " مركزة أيضا على تجلياتها " خصوصا في أشكالها المؤسسية" كما يُعبّر (أدونيس – محاضرات الإسكندرية – دار التكوين، دمشق 2008 – ص 61).
إنَّ تاريخ الوحدانية ينضحُ بأشكال إرادة القوة التي جعلت منها مُمارسة عُنفية ونظاما شموليا لا يفتحُ أفقا للإبداع أو المغايرة أو إعادة النظر في المعنى خارج أسوار المرجعية المُكرَّسة. هذا ما جعل منها أيضا مؤسّسة استبعادٍ ونبذ للآخر المُختلف باسم المطلق الدينيّ وادّعاء احتكار مفاتيح الخلاص. من هنا نفهمُ ارتباط الوحدانية، تاريخيا، بالحرب والقتل والفتح. فكيف لرؤية مماثلة أن تساعدَ على إعادة ابتكار "مدينة الإنسان" والتأسيس لحوار الأطراف الحضارية والثقافية بعيدًا عن نزعات التمركز والإقصاء؟ كيف لرؤية مُماثلة أن تدشن تاريخا جديدًا لعلاقة الإنسان بالإنسان على أساس من الأخوة البشرية، ولعلاقة الإنسان بالمعنى في أفق البحث والعيش "شعريّا على هذه الأرض" كما حدسَ بذلك الشاعر الألمانيّ العظيم هولدرلين؟
إنَّ مدينة القدس التي تلتحفُ الكتب المقدسة وتصغي إلى الأنبياء وتمسحُ الصّدأ الذي يعلو نعلَ السماء تمثل مشهدًا استثنائيا ونموذجيا لصدام الوحدانيات؛ كما تمثل امّحاء الآخر أمام الذات الممتلئة بحضورها النرجسي:
" أسألك، يا شعر أيوب،
كيف يُقيمُ جسرًا يصلُ بين طرفين،
شخصٌ لا يرى إلا طرفا واحدًا؟ " (كونشيرتو القدس- ص 52).
هذا ما جعل أدونيس يصرخ أيضا: " أين آخرُكَ يا شعر أيوب؟ " ( نفسه، ص-54).
إنَّ هذا التاريخ القائم على هيمنة السماء وعلى سردية الدم ومحو الآخر هو ما يُمزق القدس وما يجعلُ منها تجسيدًا لهول الزمن عندما يهجرُ الأرضَ والإنسان، ويصبحُ جنديا في كتيبة منذورة للقتال دفاعا عن الواحد السماويّ وعن الذات الناجية. زمنُ الوحدانيات، في كلمة، لا يعيشُ إلا بالحرب على الآخر ولا تنمُو شجرتهُ إلا بالسّقيا من دم الأرض والإنسان. هذا ما يجعلُ منهُ صراعا لا ينتهي على احتكار الكلام والفعل والشرعية باسم السَّماء. من هُنا " لا يزال الخرابُ خبزًا يوميّا في أرض الله " كما يقولُ أدونيس مُخاطبا النبيَّ الرّائي حزقيال ( نفسه، ص 66).
تقدّمُ القدس مسرحًا فريدًا لمدينة تلتهمُ نفسها وترضى بالتشرنق خارج التاريخ الذي يصنعهُ تمركز الإنسان وعطلة الآلهة – أو كما يُعبّر هيدغر:
" كأنك فرسٌ يقاتل بعضها بعضًا في ساحة واحدة، في معركة واحدة، انتصارًا للواحد. فرسٌ كلّ عضو فيها يرقصُ على جثّة عضو آخر. يا لهذه المائدة المتواصلة: سلالة لسماء واحدة يأكلُ رأسُها قدميها، وتلتهمُ أنيابُها ما تبقّى.
هكذا تحرثين الفراغ، ولن تكونَ لك أيّة معجزة. " (نفسه، ص 41-42).
مأساة القدس – عند أدونيس – أنها مدينة لا تلدُ إلا نفسها ما دامت مملوكة لزبانية السَّماء. مأساة القدس أنها مدينة يحتلّها تاريخ لا يُريد أن ينتهي. تاريخ مُتلفع بالمُقدّس ولم ينفتح على قيم الحداثة ورُعب التاريخ وهجرة المعنى في أقاليم المجهول بعيدًا عن "السّماء الفارغة" كما يُعبّر كامي. مأساة القدس أنَّ الآخر فيها غيرُ موجود إلا باعتباره قربانًا بالقوّة يُقدّمُ للواحد السّماويّ. فهل تستطيعُ مدينة مُماثلة أن تكونَ ساحة للبناء ولإبداع قيم مدنيّة مُشتركة تصنعُ بها ذاكرة جديدة لا تنضحُ برائحة الدّم؟

4
تلزمُ، ربّما، ذاكرة مُضادة ومنفتحة لمجابهة تاريخ الوحدانية القائم على الدم وعلى صدام الثقافات. وقد عثر عليها أدونيس في الثقافة الوثنية وفي إرث تلك العهود التي ارتبط فيها الإنسان بالأرض وبالأسئلة الكيانية وبالترحال في مفاوز المعنى البكر؛ وهذا كما جابه نيتشه تراثهُ الثقافيّ المسيحيّ – القائم على طمس ينابيع الحياة والإبداع – بالأزمنة الوثنية اليونانية التي احتفت بالجسد وأعلت من شأن الشعور المأساوي بالحياة. إنَّ الثقافة القائمة على الوحدانية هي وحدها التي تمحورت، تاريخيا، حول الهوية كما لاحظ أدونيس، إذ إنَّ " الهوية نتاج الثقافة الوحدانية – الواحدية، ثقافة التمركز حول الذات، ونبذ الآخر " (محاضرات الإسكندرية – ص 57)، وهذا على درب تحصين الذات الطهرية التي ظلت تجاهدُ من أجل الخلاص من لوثة العالم والتاريخ باعتبارهما عالما سفليّا. من هنا عدمُ احتفاء هذه الثقافة بالآخر الذي ظل يهدّدُ مركزيتها وأحقيتها في رسم دروب الخلاص. ومن هنا، أيضا، عدم احتفائها بالأسئلة وبالإصغاء إلى ينابيع الكينونة الأصيلة الحرة. الرؤية الوحدانية تضمرُ نزوعا إلى إخضاع الأرض ولجم العقل وكبح كل حراك تاريخيّ قد يمثل تجاوزا لهيمنة الأحادية الفكرية والسياسية. فكيف " لشهوة المطلق " - وقد لبست خوذة المُحارب - أن تفتحَ أفقا لازدهار الإنسان وللتقدم التاريخيّ أو أن تؤسّس لاحترام التعدّد والاختلاف؟
يحسنُ بنا، هنا، أن نقفَ قليلا عند نقد أدونيس للوحدانية باعتبارها رؤية وتاريخا – وهو النقد الذي جعل منهُ، برأينا، نيتشه آخرَ عربيّا يُجابهُ تاريخهُ نقديا ويكشفُ عن انتكاس الحضارة المُتوسّطية – تلك التي شهدت يقظة العقل وسؤال المعرفة والفن – بعدَ تدخل الوحدانيّة وتحوّلها إلى مؤسّسة شمولية تكبحُ أسئلة الإنسان الكيانية في مُغامرة الوجود:
" هكذا يبدو أنَّ كل شيء في التأويل السّائد للوحدانيّة، وفي الممارسة القائمة على هذا التأويل، إنما هو نقضٌ لكلّ شيء في الحضارة الأصليّة التي احتضنتها ضفاف البحر المتوسّط. فعلى هذه الضّفاف، نشأت الأسئلة الكبرى الكيانيّة، والثقافيّة، والفنّية. نقضٌ للعقل في حيرته، وشكّه، وتناقضه، وفي تساؤلاته، وفرضيّاته، ومغامراته، وفتوحاته. نقضٌ للطبيعة، للأنوثة والذكورة، للجسد والجنس ومحيطاتهما، للذة والرغبة والشّهوة، للحياة نفسها – عيدًا وعُرسًا دائمين، وللأرض نفسها – ساحة وبيتًا لهذا العيد.
وقد شهدنا ونشهد لحظات تاريخيّة أدّى فيها هذا التأويلُ وهذه الممارسة إلى أن تتحوّل الوحدانيّات إلى تجاربَ في القوة وفي الغزو والهيمنة، لم تكن الحروبُ الصّليبيّة مظهرها الوحيد. ففي تلك اللحظات كان يُدمّر الكائن الإنساني باسم الحقيقة المُنزلة، وحُوّل الله إلى مجرّد قائد عسكريّ. وحُوّلت الألوهة إلى بركة لغويّة آسنة. ولم تعد الوحدانيّة صلاة، وإنما أصبحت سيفًا.
هكذا لم تكن المسألة مجرّد انحلال دينيّ، كما يعبّر شتاينر، أو مجرّد انحطاط لدور المنظومة الدينيّة في الحياة والفكر والعلاقات فيما بين البشر، وإنما كانت تُفصح عن خلل في الرّؤية الوحدانيّة للإنسان والعالم. " ( نفسه، ص 57-58).
هذا هو جوهرُ المشكلة: وجودُ خلل في الرؤية الوحدانيّة ذاتها. وهُو خللٌ يكمنُ في مُضمرات هذه الرؤية باعتبارها منظومة فكريّة شموليّة مغلقة على ذاتها، تسجنُ المعنى في النص وتعتقلُ العالم في قراءة واحدة وتتربّصُ بطائر التاريخ كي لا يُفلت من رتابة الأبديّة. إنَّ هناك عُنفا مُضمرًا في كل رؤية شموليّة يجعلها رحمًا لتشريع نبذ الآخر المُختلف واستقباح مُغامرة العقل خارج المعروف والمُقرَّر. من هُنا نفهمُ قول أدونيس: " كل مذهبية حبلى بالجلادين " ( المُحيط الأسود – دار الساقي، بيروت. ط1 2005- ص 498). الرؤية الوحدانيّة، بالتالي، تُعتبرُ بداية للتاريخ الدّمويّ الذي بدّد كل إمكانيّة في احترام الإنسان بمعزل عن انتمائه أو مُعتقده، كما تُعتبرُ انغلاقا وتشرنقا أمام العالم والحياة. هذا ما جعل هذه الرؤية، أيضا، انتصارًا تاريخيّا للهويات المُتعالية والمركزيات التي جعلت كلَّ ذات طائفية تتحدّث بوصفها وكيلا عن لوغوس المعنى النهائيّ. هذا ما جعلها، بمعنى ما أيضا، "هويات قاتلة" كما يحب أن يُعبّر أمين معلوف.
ينتصرُ أدونيس لثقافة التعدّد والاختلاف والبحث والسّؤال بعيدًا عن كلّ انغلاق مذهبي أو إيديولوجي. هذا ما دفع به إلى مُجابهة تاريخ الوحدانيّة في حوض المتوسّط بآلة النقد التفكيكيّ كاشفا عن علاقة كلّ رؤية بالمُمارسات التي تتمّ باسمها تاريخيّا، ومُبرزا البنية القمعيّة لكلّ رؤية فكرية واحديّة تتسلّلُ إلى تاريخ الإنسان كحصان طروادة حاملة معها إلى العالم هديّة الدّمار والقتل. هذا، ربّما، ما جعلنا نستعيدُ – ونحنُ نتحدّث عن نقد أدونيس للوحدانيّة الدينيّة - نقدَ نيتشه للحضارة المسيحيّة الأوروبيّة واحتفاءهُ الكبير بفجر الحضارة اليونانيّة الوثنيّة القديمة. إنَّ الوحدانيّة الإسلاميّة، أيضا، لا تشذ عن هذا التاريخ الدَّامي، وهي تمثل فصلا بارزا من فصول الفتح وإخضاع الغير باسم الحقيقة التي جاء بها مُعطى الوحي كما هو معروف. من هنا احتفاءُ أدونيس بعهود الوثنيّة العربيّة ( التي يرفض تسميتها بالجاهليّة )، وبأدبها الذي كان ينضحُ عشقا للحياة وارتباطا بالأرض وقلقا مأساويّا عظيما أمام فاجعة الغياب.
يلتقي أدونيس بامرئ القيس – ذلك الرمز العربيّ الكبير الذي جسّد بإبداعه وحياته الهُيامَ بالجسد والحب ونداءات الحياة العميقة. يلتقي به أثناء مروره بالقدس:
" لكن، ها هُو امرؤ القيس !
هو ذا في طريقه إلى بلاد الرّوم مرورًا ببيت المقدس.
قبل أن يضع قدميه على العتبة، قرأ:
للدّم الذي أريق على ضفاف المتوسّط
منذ البدايات، تاريخٌ مُدنّس.
لهذا التّاريخ الأرضيّ
موجزٌ سماويّ اسمه القدس " ( كونشيرتو القدس - ص 13).
القدسُ خلاصة التاريخ الأرضيّ وقد وقع منذ البداية في أسر السَّرديات الشمولية القائمة على الواحدية. إنها رواية كتبها الغيب بأشلاء الأرض وعذابات الإنسان؛ وهي حكاية صلب الأرض على جلجلة الأبدية.
يلتقي أدونيس بامرئ القيس الدّهريّ – عاشق المرأة وصنّاجة الحياة. يسأله:
" هل تعبتَ، يا امرأ القيس، من السّير في تلك الشوارع التي شقَّها الغيب؟
ما أبرعها في فنّ الاقتفاء،
ما أنبه جُدرانها في التنصّت.
كلما حاولت أن تعانقَ امرأة، يسألك حارسٌ:
هل استأذنت السماء؟

بلى، كلّ ثمر مرّ في هذه الشوارع " ( نفسه، ص- 14).
يشعرُ امرؤ القيس بغربته في القدس ويُدرك أنها مدينة مُقيمة في زمن غير أرضيّ. يشعرُ، أيضا، أنها ظلٌ شاحبٌ لمملكة السّماء ولن تكونَ إلا منفى لصبواته الطالعة من ليل الرغبة. إذ نعرفُ أنَّ الوثنيّة العربيّة كانت ثقافة الأرض وثقافة الاحتفاء بالحياة في صورة البطولة والفروسيّة والحب؛ كما كانت ثقافة الشعور المأساويّ بحتميّة الغياب الفاجع في غياب العزاء الأخرويّ. من هُنا اعتبار الحياة قيمة مُطلقة لا جسرًا هشا إلى الأبديّة، ومن هُنا رغبة الشاعر العربيّ في الامتلاء الوجوديّ مثلما نجدُ ذلك عند امرئ القيس وطرفة والأعشى بخاصّة. هذه الثقافة لم تكن تتحصَّنُ وراء رؤية شمولية، ولم تسكنها شهوة الهيمنة أو رغبة طمس الأسئلة الكيانيّة. كانت ثقافة برّية الملامح قبل أن تتوشّحَ الثقافة العربيّة بالروح الأمبريالية بعد مجيء الإسلام.
أراد أدونيس، كما قلنا آنفا، أن يرفعَ صلاة وثنية إلى الأرض وقيم الأرض التي غيّبها تاريخٌ طويل من استبداد السماء والمُتحدثين باسمها. أراد أن يفسحَ مجالا للزمنيّة وللتاريخ بالخروج من دائرة المُطلق الذي حنّط الحياة في الأبدية. أراد أن يفك الحصار عن الحياة وأن يُعيد إليها أسرارها السّليبة وأغوارها الطافحة بلانهائية المعنى. إنَّ امرأ القيس تجسيدٌ لطفولة الكلام الأول ولينابيع الصبّوات الإنسانية وهي تحتضنُ شبق الاحتفاء بعُرس الأرض؛ وهو سيّدٌ على عرش تجربة الانتهاك. ستنبذهُ القدسُ النائمة على سرير ملائكة القسوة وهي تتفيّأ ظلالَ شجرها المرّ الذي تجري من تحته أنهارُ الدم.
" كثيرًا سمعتُ من يسألني، خفية: " لماذا يتأخّر الموت في القدس، ويظلّ تقدّم الحياة موتًا آخر؟
وكيف يُسجنُ رأسٌ في قبو الكلمات التي ابتكرها هو نفسه؟" " (نفسه، ص-11).
لماذا لا يأتي طوفانُ الموت الحقيقيّ؟ لماذا لا تعيش القدسُ إلا على وسادة الخدر الوجوديّ الذي يُسمّى، ابتذالا، بالموت؟ لماذا الحياة هنا لا تليقُ إلا بالبشر الذين كان نيتشه يُسمّيهم " النعوش المُتحرّكة "؟ ينتظرُ أدونيس موتا حقيقيّا يُسدلُ الستار على كوميديا المَحو والغياب. ينتظرُ زلزالَ المعنى الذي سيحرّرُ المدينة العتيقة من أسر المطلق، ويُدخلها غابة الحياة حيث غبطة الكيان وفداحة الحرية الخالقة في عالم يتأنسنُ. ينتظرُ وجودا أصيلا يُخرجُ الإنسان من وضعيّة " الكائن النحويّ " التي سجنته فيها ثقافة قامت – في جذرها الأوّل – على الكلمة لا على الحرية، وجعلت الإنسان كائنا " في اللوغوس، في الكلمة لا في الطبيعة " كما أشار إلى ذلك أدونيس منذ كتب بيانه الشهير بعد نكسة حزيران 1967 مُنتقدًا غياب الإنسان العربيّ عن مأدبة التاريخ الحيّ. ( أدونيس – فاتحة لنهايات القرن – دار العودة، بيروت. ط1 1980- ص13).
القدسُ لا تُعاني من احتلال العسكريّ الإسرائيليّ أو قبضة السّياسيّ العنصريّ فحسب، وإنما أيضا من تاريخها الذي لا يستطيعُ أن يحبلَ إلا بالنبذ والآلام والموت والصّراع. هذا ما جعل نواحيها " لا تُقاس إلا بالأشلاء " ( كونشيرتو القدس – ص 42). القدسُ تعاني من هُويَّتها المُغلقة على ذاتها ما دامت لا تحتفي إلا بالهويّة الدينيّة، ولا تفتحُ صدرها للتاريخ الذي يُصنعُ مع الآخر في أفق التطلع إلى هويّة إنسانيّة جديدة تتجاوز الانغلاق المذهبيّ. إنها مدينة موجودة في الكتب الوصيّة على السّماء، حيثُ المعنى إكسيرٌ سحريّ تعتقدُ كلّ طائفة أنَّ فيه شفاءَها من داء الزمنيّة ومن حضور الآخر الملعُون أبديّا.
هنا يصرخ أدونيس مذعورًا: " ماذا تفعلُ أيّها الأبديّ الذي يأخذُ الزائلَ بأطراف مكنسة ويقذفُ به في فرن الهَول؟" ( نفسه، ص – 86).
سيُحاولُ الشاعر أن يقتفيَ أثر امرئ القيس في ذاكرته البعيدة مُستعيدًا ثقافة الأرض والجسد والأعياد السَّكرى بالزائل. سيُحاولُ أن يتذكّر طفولة الأرض وطفولة المُتوسّط يوم كان المعنى بكرًا لا جارية في سرير المُطلق. سيُواصلُ مشوارَ جلجامش مأخوذا بآماله العريضة ويأسه المُقدَّس بحثا عن عُشبة المعنى في مفاوز العالم. سيحتضنُ أيّامهُ الزائلة ويسكرُ بها كمأساة أخّاذة.

5
تحدّثنا، إلى الآن، عن "كونشيرتو القدس" باعتبارها عملا إبداعيا يستندُ إلى رؤية فكرية / نقدية تمثل هاجسا مركزيا من هواجس أدونيس في الآونة الأخيرة: نعني بذلك نقد الرؤية الوحدانية بالكشف عمّا تضمرُه من أشكال التمركز حول الذات ونبذ الآخر المُختلف وحجب البُعد الزمنيّ / الأرضيّ لتجربة البشر في اكتناه المعنى. هذا صحيحٌ، ولكنَّ العمل الفنيَّ ليس رؤية فكرية فحسب وإنما هُو، بالأساس، شكلٌ متميّز من أشكال حضور الفكر والتجربة في قالب فنيّ. وهذا العملُ الأدونيسيّ الذي بين أيدينا يَبرزُ، تحديدًا، بشكله الكثير الذي يتجاوز صوتَ الغنائيّة الفردية في القصيدة العربية. إنه بانوراما مشاهد تخترقُ الزمن وتحاولُ القبض على جوهر المأساة التي أبَّدت سقوط القدس في شرك العنف والعنف المُضاد. هذا العملُ أصواتٌ متعدّدة تستحضرُ انغلاقَ الرؤية الوحدانية على نفسها وسقوطها في تاريخ تكتبهُ السّماء.
من هُنا البناءُ المُركّب لعمل أدونيس حيثُ تتداخلُ الأزمنة والشواهد النبوية والمأثورات المحفوظة عن الأزمنة الغابرة مع لحظة الاحتلال والاعتقال اليوميّ؛ وحيثُ تتقاطعُ أنَّات الحاضر مع هدير الأصوات الطالعة من أغوار التاريخ الذي كتبهُ الفتحُ وادّعاءُ احتكار الحقيقة وسُبل الخلاص. وإذا صحَّ أن يكون عملُ أدونيس كونشيرتو شعريّا أو سمفونية فذلك لأنَّ الهارمونيا الوحيدة التي جمعت بين الفاعلين عبر تاريخ القدس هي هارمونيا عدم التآلف مع الآخر ما دام يسلك سبيلا مُغايرة نحو السماء. هذا هو صوت القدس العميق منذ تأسيسها: لا تحيا هذه المدينة إلا بتقديم دم الأرض قربانا لسماءٍ كلٌّ يدعي امتلاك المعرفة الصحيحة بها. هُنا يتدخلُ أدونيس ويُعلنُ انتفاضتهُ – باسم الأرض والإنسان – على القدس الموروثة، حالمًا بمدينة جديدة تتصالحُ فيها الذاتُ مع الآخر، ويتصالحُ فيها الإنسانُ مع الأرض، ويهجرُ فيها المعنى قفص السَّماء ليلبسَ بريقَ اللاّزورد في أفق تاريخ استعادَ عافيته.
من المعروف أنَّ الشعر الحديث عند أدونيس كتابة تخترقُ الأزمنة وتُسائلُ الذات والعالم. إنه غنائيّة العالَم وقد أصبحَ شفافا ورمزا يختزلُ تجربة الإنسان في الغبار الكونيّ. ومن المعروف، أيضا، أنَّ أدونيس ليس نصيرًا لشعر ينعزلُ عن العالم وعن الإنسان وقضاياه الكيانيّة والوجوديّة الكبرى، ليجعلَ الفنَّ اهتماما باللغة وزجّا بها في " غرفة العناية الفائقة " كما يُعبِّر. تلك نزعة شكلانيّة تمثل انسحابا من تراجيديا الوجود وأسئلة المعنى الحارقة. هذا من جهة أولى، ومن جهة ثانية يرى أدونيس أنَّ الشعر الحقيقيّ ليس تنويعا على العالم وليس استضافة للمعنى كما تكرّسهُ مؤسّسة الثقافة السّائدة بوجهيها الدينيّ والعلمانيّ معًا. الشعرُ لغة بادئة. إنه يمثّلُ يقظة الثقافة من خدَرها الإيديولوجيّ وسُؤالَها الدّائم الذي يرجّ الحساسية المُشتركة ويُربك نظام المعنى السائد، وهذا في أفق جمالي – تخييليّ يتحرَّرُ فيه الفكر من أسر المرجعيّات وسُلطتها. وعملُ أدونيس الذي بين أيدينا يُفصحُ بجلاء عن الهواجس النقدية الكونيّة عند الشاعر، حيث نجده يلتزمُ بمُجابهة الموروث الوحدانيّ باعتباره رؤية ومُؤسّسة تاريخيّة طمست الإنسان وخنقت صوت المُغامرة البشريّة الجلجامشيّة في البحث والإبداع وتأسيس الوجود في أفق السّؤال والتجاوز الدّائم.
عمَلُ أدونيس يتميز بشكله البوليفوني المُتعدّد الأصوات وهو يقطع، جوهريا، مع الشكل القديم الذي كان يرتكز – في عمقه – على إستيطيقا الصّوت المفرد والمُشافهة. هذا العملُ الشعريّ استمرارٌ لتجربة أدونيس في الكتابة المفتوحة على أسئلة المعنى والتاريخ ضمن منظور يستبصرُ، بعُمق، مآل التاريخ المُتعثر وصخبَ اللحظة التي تحطمت على صخرتها سرديَّات التفاؤل التاريخيّ المعروفة. فالتاريخُ، هنا، ليس مسيرة واثقة. ليس زمنا تصاعديّا تصنعهُ مُغامرات العقل وبطولة الإرادة، أو التوق الطاغي إلى التأله بالإبداع وعتق غمامة الإنسان من قمقم الماضي. تاريخ القدس حكاية شاحبة تسردُ قصة الغياب العظيم: غياب الإنسان وغياب الأرض. هو حكاية توشَّحت بحضور أبطال يعيشون خارج الزمن التاريخيّ ويُشرفون على مأساة البشر من علياء السَّماء.
كيف نجابهُ هذا المأزقَ الذي جعل الحضارة حمامًا زاجلا ينقلُ رسائلَ الغيب إلى الأرض الأسيرة المريضة؟ كيف نجابهُ هذا الحصارَ الدَّامي الذي ضربته الوحدانيات على مصائر البشر؟ متى تصنعُ القدس ذاكرة جديدة تلملمُ أوصالها وتصالحُها مع الهويّة المُركّبة والتهجين الثقافيّ؟ " أين الأغنية التي ستوحّدُ فصولك في نبض واحد؟ " يسألُ أدونيس، بحرقة، مدينة القدس ( نفسه، ص – 40). سيتسلّحُ بالشعر – أي بتلك الطاقة على الحب وعلى احتضان المجهول والإقامة قرب فجر المعنى. سيُعلّمُ الزمن المغلق والمُتخمَ بالتعاليم أن يفتحَ نوافذهُ لرياح المجهول وأن يُقيمَ في ألق انتظار أزمنةٍ تتوشّحُ بوجه الإنسان:
" ثلاث مرّات، ارتجفت الأرض في فم السّماء. ملايين المرّات ارتجفت أفواه البشر. وليس لمجهول الكون بيضةٌ تلوّح لعجيزة أنثى نبويّة، أو تسقطُ ناضجةً في حضن ديك إلهيّ.
أظنّ، مع ذلك، أنني سأستقبل حافيَ القدمين، أنثى هذا المجهول في حديقة الشّعر، ذات ليلة مقبلة. وسوف نقول معًا ليد الحبّ: امشطي شعر القدس وقدّمي لها مرآة الشّعر لكي تتمرأى فيها " ( نفسه، ص – 39).
لا خلاص إلا بالشعر: هذا ما ظل أدونيس يلهجُ به منذ كان يُعلّمُ ضرورة الخروج من زمن النظام المعرفي الدينيّ إلى النظام المعرفيّ الشعريّ القائم على مُغامرة البحث والسفر الدائم في اكتناه المعنى خارج كل أشكال المُسبّقات. لا خلاص إلا بالخروج من مُعتقل الوحدانيات وحضورها الثقافيّ / المُؤسّسي الطاغي الذي يحفلُ بصنوف القمع والحرب على الآخر المُختلف باسم الحقيقة وقد أصبحت " غولاغ " يسجنُ المعنى في عقيدة الطائفة الناجية. هذا ما يدعوهُ أدونيس " البنية المعرفية الشعرية " التي لم تنتصر، عبر تاريخنا الثقافي، على " البنية المعرفية الدينية ". وفي هذا ما يُفسّرُ وجها من أوجه أزماتنا الحضارية وشللنا التاريخيّ المعروف.
لا خلاص إلا بالشعر مفهومًا على أنه زمنُ الإبداع وحاضنة التطلع الإنسانيّ الأبهى إلى جُزر الضوء البعيدة في ليل الحياة والوجود. الشعرُ هو ما ينقصُ حياتنا المُحنطة في التعاليم والحكمة البائسة. الشعرُ هو ماءُ الحياة الغائب عن عُود أيامنا اليابسة. الشعرُ هو حرية الكيان ورقصة الروح المَلكيّة على قبر الآلهة الآفلة والحاضرة عندنا – مع ذلك – في فعل نوستالجيا خائبة أصبحت علامة على يُتمنا الفاجع من أبوّة التاريخ. الشعرُ إقامة في الرَّماديّ وتحريرٌ من أسر المعنى النهائيّ الذي يحملُ في جوفه سَوط الجلاد.
مأساة القدس أنها مدينة يحتلها تاريخها الخاصّ، ويلتهمُها صدامُ الوحدانيات والانغلاقُ اللاهوتي الذي جعل منها جارية للسّماء. فمتى تعرفُ هذه المدينة، أخيرًا، انعتاقها من الجلاد التاريخيّ الذي ما زال يتناسلُ طوائفَ تتناحرُ على كسب وُدّ السَّماء وسَحق وردة الأرض؟
أضف رد جديد