Story Lesson أو الحِصَّة قِصَّة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

عبر هذه المساهمة يتأمّل محمد خلف في "محور الحق والحقيقة":



الحقيقةُ من ذهبٍ والحقُّ مِمَّا لا يُمكن تصوُّرُهُ أو وُرُودُهُ على قلبِ بشر



ما يُفرِّقُ الحقيقة -ويُقصيها فراسخَ إثرَ أخرى عن الحق- هو أنها، من جانبٍ، تضارعُ الذَّهبَ، وتتفوَّق عليه، من حيث تمثُّلهما المعياري: فالحقيقةُ معيارٌ لتطابقِ التَّصوُّرِ الذِّهني مع موجوداتِ العالمِ بالفعل، بينما الذَّهبُ معيارٌ لقيمةِ تلك الموجودات، بحسب الاحتياج الإنساني؛ ومن جانبٍ آخرَ، فإنها تشبه المعدنَ النَّفيسَ، في أنها قلَّما توجدُ خالصةً من الشَّوائب، أو تكونُ مبرَّأةً من سوء التَّقدير، إنْ لم نقلِ التَّلاعبَ بقيمةِ السَّبيكة؛ ولعلَّ هذا ما يُدركُهُ كلُّ محبٍّ للذَّهبِ في ذاتِه أو كلُّ كانزٍ له من أجل قيمته التي تقاربُ تقديرَه المعياري؛ وهذا بدورِه يماثلُ ما يُدركُهُ كلُّ محبٍّ للحقيقة، فإنها قلَّما تُوجدُ خالصةً مما يعكِّر نقاءَها البلوري، أو تكونُ خاليةً من سوء الفهم، إنْ لم نقلِ الخلط المتعمَّد، الذي يهدفُ إلى تمريرِ أجندةٍ أو معتقداتٍ بعينها.

إلا أن الذَّهبَ، بصفته معدناً له مكانته في الجدول الدَّوري للعناصر، من السَّهل إدراكه، مثلما يمكن للإنسان، إذا أراد واجتهد في طلبه، أن يضعَ يدَهُ عليه ويكنزه كيفما شاء؛ هذا بخلافِ الحقيقة، فالإنسانُ، مهما سعى في طلبها، فلن يُدركَها. وإذا ما تمَّ له ذلك بمحضِ المصادفة، فإنه لن يدري بأنه قد أدركَها بالفعل. فكلُّ ما يُدركُهُ المرءُ هو أنه يقتربُ حثيثاً منها، أو يكادُ من فرطِ ثقتِه أن يحسَّ بأنه يلمسها لمساً، لكنه لا يجدُ سبيلاً إلى تعزيزِ إحساسه ذاك، ناهيك عن الاستيقانِ من بلوغِ مرماه. وإنَّ أبلغَ تشبيهٍ في وصفِ الإنسان السَّاعي نحو الحقيقة، هو ما أورده الفيلسوفُ النَّمساويُّ البريطاني كارل آر بوبر، إذ وصف سعيَه بحالِ متسلقٍ يُريدُ أن يبلغَ قمَّةً تُغطيها سحبٌ متراكمة؛ فهو يمضي في سعيِه بلا توقف، ويحدوه إحساسٌ غامر، وربما يكون صادقاً، بأنه يقتربُ حثيثاً من القمَّة، ولكنه لن يدرك أبداً أنه قد بلغها بالفعل.

ومنذ أن بسط إيرنست رذرفورد في عام 1911 أمامه رقائقَ من ذهب، ثم أخذ يوجِّه عليها أشعة ألفا الفالتةِ بشكلٍ تلقائيٍّ من ذرَّة الرَّاديوم، لم يعد هناك حاجة للاعتماد على الأشعة الكونية أو انتظار أفضل أوقات حدوثها؛ إذ سرعان ما تمَّ اكتشافُ نواةِ الذَّرَّةِ معملياً، عندما تبيَّن أن بعضاً من الأشعة قد اصطدمت بجُسيمٍ صلب داخل ذرَّة الذَّهب، وارتدَّت على أعقابها، فاستخلص العالمُ الفيزيائي النِّيوزيلندي البريطاني وجودَ النَّواة. ولاختراقِ هذه النَّواة، كان لابد من تسريع الأشعة حتى تكون قادرةً على النَّفاذ إلى داخل النَّواة، فنشأتِ الحاجةُ إلى اختراعِ مُسرِّعاتٍ، تشتدُّ قوة مغنطيساتُها بانفراجِ زاويتها، كلما اتَّسعت دائرةُ دورانِ الجُسيمات المتصادمة بداخلها. فتدورَنَ تاريخٌ طويل لهذه المسرِّعات، أو المصادمات، إلى أن انتهينا اليوم بمصادم الهدرونات الكبير بسويسرا، الذي تتَّسعُ دائرتُه حتى تخترقَ الحدود الفرنسية-السُّويسرية.

ولا نبالغُ إنْ قلنا إن هذا المصادم الجبَّار قد أصبح مصنعاً ضخماً لإنتاج الحقيقة في مجال فيزياء الجُسيمات الدَّقيقة؛ فوضعُ الحقيقة، في هذا المجال المتسارع الحدوث، قد أصبح رهناً بما يستخلصُه آلافُ العلماء، العاملين في معهد سيرن بسويسرا، حيث يوجد المصادم الأوروبي الكبير، في أعقاب كلِّ تشغيلٍ للمصادم؛ وعمرُ الحقيقة أصبح بدورِه مرتبطاً بما ينشرونه من مستجداتٍ، تؤمِّن عليها شبكةٌ من العلماء المرتبطين بالمعهد في جميع أنحاء العالم أو تؤكِّدها جامعاتٌ أو مراكزُ أبحاثٍ مستقلة. صحيحٌ أن علماء فيزياء الجُسيمات الدَّقيقة يشتغلون الآن تحت إطارِ نموذجٍ قياسيٍّ، تزدادُ ثقتهم فيه يوماً بعد يوم، إلا أنهم لا يعتقدون بصحَّته المُطلقة، بل إنهم على استعدادٍ دائمٍ للتخلِّي عنه في أقرب سانحة، متى ما جاء المصادمُ بما يحلُّ محلَّه.

أمَّا الحقُّ، فإننا نقبله كما جاء في الكتابِ الكريم: "وَبِالحَقِّ أَنزَلنَاهُ وَبِالحَقِّ نَزَلَ" (سورة "الإسراء؛ الآية رقم 105)، لثقتنا بأنه الحقُّ، وهو اسمٌ من أسمائه الحُسنى، و"قَولُهُ الحَقُّ" (سورة "الأنعام"؛ الآية رقم 73). ولا سبيلَ إلى تصوُّرِه خارج الإطار الذي رسمه القرآن. وليس هناك بشأنِ ما ذكرناه عن الحقيقة ما يزعزعُ ثقتَنا في الحقِّ أو يصرفنا عنه. إلا أن هناك ما يستدعي الحديثَ باستفاضةٍ عن صلةِ الحقيقة بمجالها المتعدِّد والمتغيِّر بالحقِّ الواحد الدَّائم، استناداً إلى ما يتكشَّف لنا عن جانب الحقيقة بشكلٍ يومي، وما كُشِف لنا من جانب القرآن، من غير شطحٍ في التَّفسير أو أيِّ إهدارٍ لأفضلِ مكتسباتِ التَّعليل العلمي.


وسنواصل، بإذنِ الله، الحديثَ عن جانبٍ آخرَ من جوانب هذه العلاقة البالغةِ الأهمية.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين سبتمبر 28, 2015 3:42 am، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

توثيق فوتوغرافي لندوة "الرسائل في أدب الحداثة: رسالة محمد خلف إلى عادل القصاص نموذجاً" بكاميرا عصام عبد الحفيظ:


صورة

صورة

صورة

صورة

صورة

صورة

صورة

صورة

صورة

صورة
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهذه مداخلة من منصور المفتاح:


تعرف يا محمد يا أستاذى عندما هاتفتنى لم أشرب الشاى الأخضر ولم تجتمع دواليب الذاكره وفور الإنتهاء من الحديث معك والذى دائما يكون مفيداً
ومثمراَ، فقد نفذ إلى العزيز المجذوب وراق وسألنى عن ذات السؤال رأيى فى قولك عن الحقيقه والذى تطابق وقول الكتيابى فى تقديمه لديوانه
رقصة الهياج بيد أنه كان يتكلم عن الروح لا بل عن الشعر والذى قال:
بأنه يختبئ فى الكلام كما تختبئُ خاصية المغنطة فى جلد المغنطيس
يجذبك فتبحث عن جسمه لتلمسه عن مكمنه لتعرفه فيتفلت من يديك لطيفا كالنور ويبقى حيث هو فلا أبصرته مجاهر المنطق ولا أدركته شبكات
الفلسفه ولا لمسته مشارط الأطباء فى أجساد أهله
ومعنى كالجمال هذا الشعر
لا أين ولا كيف له ولا كمٌ ولا حجم فهو إذن إشعاع من الروح
حمل صفتها كما حملت هى الصفه فكانت بعضاً من الأمر
(ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا
قليلا)
إنه الشعر صورة من صور قوة الروح، التى هى المهارة المطلقه، المَلَكَه،
التى يخصصها صاحبها فى السبيل التى يتبعها سواء كانت هذه السبيل
علماً أو قياده أو صناعه أو كتابه أو رسماَ أو رياضه أو غناء أو ما
إلى ذلك
فالشعر أقرب هذه السبل جميعاَ إلى المبتغى
وهل كان المبغى إلا الحقيقه)
فيا خلف فذاك عن الشعر فما بالك عندما يكون عن الحقيقه!! لا
بل ذلك الشعر فكيف يكون الحال مع رب الشعر الشعراء { وأنه هو رب الشعرى }

ولك الود السلام

منصور
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهذا تعقيب محمد خلف:



الشَّايُ أخضرُ، والحقيقةُ رمادية؛ أمَّا الحقُّ، فإنَّ أقربَ تمثُّلٍ له ما وصفَهُ القرآنُ بأنَّهُ نورٌ على نور



عزيزي منصور

عيد سعيد، أعاده اللهُ على أسرتكَ الكريمة وقُرَّائِكَ الأفاضل بالخيرِ والبركة


يُذَكِّرني شاهيك الأخضرَ بجدِّي الحاج علي النَّصري -وحفيدُه المباشر الذي يُلقِّبونه بجدو يسعى بين يديكم في كالغري (فبلِّغهُ منِّي كثير السَّلام)- فقد كان يتناوله في كلِّ أمسية في ديوانه الفسيح الأرجاء، وكان يحرصُ أن يُشارِكَهُ أحدُ أفرادِ الأسرةِ الصَّغيرة أو الممتدة صينيةَ الشَّاي، التي لا تخلو من جميع أصنافه: الأحمر والأخضر والذي يخالطُ سائلاً أبيضَ "لبناً خالصاً سائغاً للشَّاربين". وما كنتُ أدري أنَّ الشَّاي الأخضر يُنعشُ الذَّاكرة إلى هذه الدَّرجة، لكنَّ هذا يُفسِّرُ كلَّ شيءٍ حول أسئلة جدِّي التي تتخلَّل شُربَ الشَّاي، فقد كان يسألُ عن كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، ولا تفلتُ شاردةٌ أو واردةٌ من قوَّةِ ذاكرته المعزَّزة بالشَّاي الأخضر. وقد كان يتعرَّف من خلال تلك الأسئلة على أحوالِ الأسرة الممتدة، ولا يتوانى أبداً عن زيارةِ مريضٍ أو مواساةِ مكلومٍ أو مدِّ يدِ المساعدةِ لسائلٍ أو مُحتاج؛ سواءً اتَّخذ ذلك شكلَ تسهيلٍ لسفر، أو تسديدٍ لِدَين، أو إسهامٍ ماليٍّ في أمرٍ جلل.

هذا عن لونِ الشَّاي وذاكرة جدِّي المعزَّزة بالأخضر؛ أمَّا الحقيقة، سواءً التمسناها في تصوُّرٍ ذهني أو صياغةٍ لغوية أو واقعٍ موضوعي، فإنها غالباً ما تكتسي بمَسحَةٍ رمادية؛ وذلك من جرَّاء خلطٍ عفويٍّ أو متعمَّد للتَّصورِ المطابقِ بالخيال، والصِّياغةِ الصَّادقةِ بالزِّيف، والواقعِ الفعليِّ بالوهم. إلا أن الحقَّ خالٍ تماماً من الباطل؛ وإذا التمسنا تقريباً لصورته عبر وسيطٍ لوني، فإنه لا يقفُ عند حدِّ اللَّونِ الأبيضِ كما في تصوُّره عند إسحق نيوتن، الذي يحتوي ضمنياً على كافَّة ألوان الطَّيف، أو عند حدِّ أمواج جيمس كلارك ماكسويل، التي تشمل كافَّة درجات الطَّيف الكهرومغنطيسي، وإنما نلتمسه وفقَ ما جاء في (سورة "النُّور"؛ الآية رقم 35): "اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ والأَرضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشكَاةٍ فِيها مِصبَاحٌ المِصبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيتُونَةٍ لَّا شَرقِيَّةٍ ولَّا غَربِيَّةٍ يَكَادُ زَيتُهَا يُضِيءُ وَلَو لَم تَمسَسهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ويَضرِبُ اللهُ الأَمثَالَ لِلنَّاسِ واللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ".

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين سبتمبر 28, 2015 3:45 am، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

كل سنة وانتو طيبين
انا موجود بالقاهرة مرافق لوالدي
عنده عملية جراحية ومتابع للخيط
حارجع بعد اسبوع وما زال في الجراب الكثير
من الاسئلة
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

كل عام وأنت ووالدك بخير يا الصادق. وأتمنى له عملية ناجحة ودوام الصحة وطولة العمر.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

محمد خلف يواصل تداعياته مع منصور:



الشَّايُ أخضرُ والمغنطيسُ مجالٌ حاوٍ لكلِّ الألوان: المرئيةُ منها وغيرُ المرئية إلا بمناظيرَ خاصَّة




عزيزي منصور

نحتاجُ إلى تناولِ مزيدٍ من أقداح الشَّاي الأخضر، لفضِّ مغاليقِ الذَّاكرةِ الجماعية؛ وعندما أقول الذَّاكرة، لا أعني تصوُّرها بوصفها مستودعاً للمعلومات فقط، وإنما بوصفها حقلاً ديناميكياً متفاعلاً مع ما قبلُ وما بعدُ. ففي مجالِ الحقيقة، نحتاجُ إلى مشاركةِ كافَّة العقول النَّيِّرة، فقوَّةُ الحقيقة ليست رهناً على فردٍ أو فئةٍ بعينِها؛ هذا بخلافِ الحقِّ، حيث لا يحتاجُ الغنيُّ، بارئُ الكونِ وخالقُ كلِّ شيءٍ، إلى أحد.

فالزهرةُ، على سبيل المثال، ليست حصراً على تأمل الشَّاعر أو الفنان، كما اعتقدَ صديقٌ لعالِم الفيزياء النَّابه ريتشارد فاينمَن، حيث زعم ذلك الصَّديق أن بإمكانه رؤية جمال الزَّهرة وتأمُّل محاسنها، هذا بخلاف العالِم الذي يُشَرِّحُها، فتستحيلُ تحت مِجهرِه إلى مَنظرٍ مُمِلٍ تمقته العينُ ولا تُسَرُّ بالنَّظرِ إليه؛ فيَرُدُّ عليه فاينمَن بالقول: إن جمال الزَّهرة متاحٌ للجميع، بما فيهم العالِم نفسِه، حتى ولو لم يتمتع، مثل صديقه الفنان، بحاسَّةٍ جماليةٍ صقيلة؛ فبإمكانه، إذاً، أن يُقدِّرَ قيمة الزَّهرة على المستوى الجمالي؛ إضافةً إلى ذلك، يمكنه أن يرى ما لا يستطيع الفنانُ رؤيتَه: يمكنه تصوُّر الخلايا بداخلها، والأنشطة المعقَّدة التي تجري في الخفاء، والتي تتمتع هي أيضاً، إلى جانب الجمال الخارجي، بمَسحَةٍ من جمال. بمعنًّى آخر، فإن رؤية العالِم يمكن أن تضيفَ إلى رؤيةِ الفنانِ بُعداً أكثرَ عُمقاً أو تطرحَ، إلى جانبِ تأملاتِه الجمالية، بُعداً يرشَحُ بأسئلةٍ فلسفية: هل تملكُ الحشراتُ التي تنجذبُ إلى ألوانِ الزَّهرةِ لتلقيحها حِسَّاً جمالياً؟ وأين يبدأ الوعي وأين ينتهي على أفرعِ شجرةِ المَحتِدِ (وهي الشَّجرةُ التي تُبيِّنُ تدورُنَ الأنواعِ ذات الأصلِ المشترك، وفقاً لتصوُّر علم الأحياء الحديث)؟

هذا عن الزَّهرة؛ أمَّا المغنطيس، فيمكن تصوُّره، كما في تشبيه الشَّاعر عبد القادر الكتيابي (وربما تكونُ بيننا، دون أن ندري، علاقةُ قُربى، فأنا سليلُ كِتَيٍّ، جَدُّ الكتياب؛ وجذوري راسخةٌ في الجزيرة النِّعمة، قبالة المحمية غرب)، فقد أشار في تشبيهه في الاقتباس الذي أوردتَهُ أنتَ عن الشِّعر إلى "أنه يختبئُ في الكلام كما تختبئُ خاصيَّة المغنطة في ’جلد‘ المغنطيس". إلا أن الأخيرَ يمكن تصوُّره أيضاً، كما في تخيُّل مايكل فاراداي؛ فقد بسط أمامه مغناطيساً، ولم يكتفِ، مثل غيره من العلماء الاعتياديين، بالنَّظر إليه باعتباره كُتلةً من المعدن أو لفائفَ من الأسلاك، بل نظر إليه وكأنه "أنابيبُ من القوة" أو مخالبُ لأخطبوتاتٍ تنتظم الكونَ بأكملِه، الأمر الذي مهَّد الطَّريقَ أمام جيمس كلارك ماكسويل لدمجها في "أخطبوطٍ كونيٍّ" واحد، هو المجالُ الكهرومغنطيسي، الذي لا يقفُ عند حدِّ الألوان المرئية، التي تقع ذبذباتُها في وسط المجال، وإنما تتعدَّاه إلى الألوان غير المرئية، دون الحمراء (ذات التَّردُّد المنخفض) وفوق البنفسجية (ذات التَّردُّد العالي)؛ وتتجاوز كلَّ ذلك إلى أشعة المايكروويف وموجات الرَّاديو من جانب، والأشعة السِّينية وأشعة غاما المغنطيسية من جانبٍ آخر.

ومن مقطعٍ افتتاحيٍّ من رواية "مائة عامٍ من العزلة" للكاتب الكولومبيِّ الرَّاحل، غابرييل غارسيا ماركيز، يحضُرني مشهد الغجريِّ ملكياديس وهو يعرض مغنطيساً صغيراً على أهالي ماكوندو، فلا يجذبُ إليه معادنَ من فِضَّةٍ وذهبٍ فقط، مثلما يحلم المرءُ العاديُّ في المنطقة، وإنما ينجذب إليه أيضاً قلبُ جوزيه أركاديو بوينديا الذي يحلم، مثل المشتغلين غيره بالكيمياء القديمة، بإجراءِ تغييراتٍ متسارعة تُمكِّن من صنعِ حجر الفلاسفة، وتحويلِ الفلزات الوضيعة إلى معادنَ نفيسة، والبحثِ عن إكسير الحياة الذي يوفِّر لشاربِه حياةً أبدية. في المقابل، يحضُرني مشهد أمريكا وهي تخرجُ من عزلتها ’المجيدة‘ في أعقاب الحرب العالمية الثَّانية، وقد أتقنت خبرتَها النَّووية، وهاهي الآن تبدأ في إجراءِ قياساتٍ دقيقة للإلكترونات والميوونات (وهي جُسيماتٌ مشابهة للإلكترونات)، بعد أن سحبت، قبل عامين، مغنطيساً ضخماً (وزنه 17 طنَّاً، وقطره 15 متراً) من بروكهيفن في لونغ آيلند، وهي جزيرةٌ بولاية نيويورك، إلى فيرميلاب، وهو مختبرُ أبحاثٍ شهير في شيكاغو بولاية إلينوي، لِما يتمتعُ به المختبرُ من خبرةٍ متراكمة، لا يملكها مختبرُ بروكهيفن، في مجال الميوونات. فالإلكترونات والميوونات، هي في الأساس، عبارةٌ عن مغنطيساتٍ متناهية في الصِّغر، إذ إنها تشتمل على ما يُسمَّى بالزَّخم الزَّاوي (الزَّخم، بمعنى كمية الحركة أو حاصل ضرب الكتلة في الحركة؛ والزَّاوي من زاوية؛ والزَّخم الزَّاوي هو المقابل التَّناوبي أو الدَّائري للزَّخم الخطي)، والدَّوران المغزلي، والشُّحنة الكهربائية. وربما تؤدِّي هذه القياساتُ إلى نتائجَ لا يستطيعُ حتى مصادم الهدرونات الكبير في سويسرا الإتْيانَ بها. وإذا كان المصادمُ الأوروبي، كما قلنا في مشاركةٍ سابقة، هو مصنعٌ ضخمٌ لإنتاج الحقيقة في مجال فيزياء الجُسيمات الدَّقيقة، فإن المغنطيس الأمريكي العملاق هو صنوٌ له أو يزيد في هذا المجال المتسارع.

فلنتناول يا صديقي مزيداً من أقداحِ الشَّاي الأخضر، حتى نُطلِقَ العنانَ لأفضلِ ما في الذَّاكرةِ الجماعية؛ أو لعلنا نلتقي ذات نهارٍ زنجبيليٍّ، كما تمنَّت لنا "نجوى" ذات يومٍ، على فنجانٍ من قهوةٍ يتمُّ إعدادُها على طريقةِ أُمِّي، وتفوحُ رائحتُها بعطرِ حديثِها، بشاشتِها، وبركتِها؛ وما زال في أُذني صوتُ مِقلاةٍ على الجمرِ، وفي أنفي روائحُ مِسكٍ؛ وفي الحلقِ، نكهتا قِرفَةٍ وقَرَنفُلٍ؛ وتحت اللِّسانِ، لسعةٌ ممزوجةٌ من زنجبيلٍ وحَبِّ هالٍ من أبكارِ قهوتِها الصَّباحية.


محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الخميس أكتوبر 01, 2015 9:24 am، تم التعديل مرة واحدة.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

العزيز محمد خلف سلام من الله عليك والأسره.
إن كانت هى (نجوى) فنسأل الله لها اللطف والنجوى فى الفردوس
فقد إلتقيناها باكرا بذات سمتها البديع وعفويتها الرائعه جعل الله البركة فى
ذريتها وأنزل الصبر على شريك دربها وأهلها ولكأنى براشفٍ لفنجالٍ
من قهوتها بكيمياء الجمال تلك وما يضوع منها وأصوات ضحكاتها
المجلجله ونوادرها الفوريه. فيا أستاذى خلف فقد تدافعت فى دواخلى
الأفكار وأنا أطالع فى أثر الشاى الكونى وفعل أثره فى الكل وقلة خراج
حاملى أقداحه، فسالةً كانت أم جفوةٍ تملكتهم أم رهبةٍ وهيبة وجلالٍ ألجمت
ألسن أقلامهم أو أعمت أعين أصابعهم من مفاتيح الكيبورد، أحسب
أنهم ثملوا ومال بهم الشجو من إرتضاء ذلك الشاى الأخضر والفكر
الإكثر إخضراراً فى رسائلك النفاثة النوويه والتى شلت قواهم وقدراتهم
فوقع فك حيرتهم على قارعة سوح الوقوف عليها، عل الله بمخرجهم من
تلك الحاله. فيا عزيزى إن الرؤى والأفكار قد تكاثفت فى الذات وأنا أرتشف
شايُك الممغنط بكهربة الكتياب ذات الضغط العالى وأنا المولع
المتدروِش بفيض عرفانهم الروحانى الجمالىُّ السامق السامى وكأن
بالكتيابى يسألنى (دنك أمتلأ) ويجيب هو(هممت ما أستطعت رفع حاجبى
تجاوزه إننى وهبت للسكون رغوته، عريته للسعة النسيم، فصفق النديم
وأستحسن الملأ، تبلورت فقاعة تدوّرت تكوّرت شككتها بنظرةٍ زوت)
فيا لكم من مجانين يا الكتياب ويا لكم من راكبين على سرج أبو قطاطى
فوق ظهر خيل الريح للحاق بجمال الحقيقه المطلقه البهية الرهيبة
فلا تتجاوزا ما لم يتجاوزه الكليم موسى، فبحاله إهتدوا.
أيضاً تساقطت علىّ كيمياء الروح تلك بينك والكتيابى وتذكرت ندوة كانت
تشتعل جذوتها بكافتيريا الدراسات العليا جامعة الخرطوم فى كل ثلاثاء
من كل إسبوع وتحديدا تذكرت تلك التى كان موضوعها البارا سايكولجى
والتى تحدث فيها جمال عبدالملك الملغب بإبن خلدون والعامل بالصحافة
وقتذاك ودفق عن القدرات الكامنه فى النفس والتكوين الكهروماغنطيسى
للإنسان والحيوان والنبات والإنفعال العفوى المنسجم بلا إراده من المخلوقات
ولكن بإرادة من خالقها أتذكر تلك الشجرة التى هشت لرسول الله، أتعرف سر
الكلب الذى يموت ليقتل الثعبان ليٌنجى صاحبه، وكم من مرة تذكرت عزيزا فرنّ
جرس الهاتف وكان هو وكم من مرة إجتمع الصحاب وبدأ الحديث عن
شخص ما وفورا بان وأظنك تعرف (الدوكاب)
وهو الإحساس بأن أمراَ جلل سيحدث، بل تحدث عن قدرات الإنسان فى
السحر مطلق الإنسان وأنها قوة كهرومغنطيسيه جباره تنبعث من الإنسان
وتشق الزجاج وتحرق البنطال والقميص وتكسر الأوانى وتهد الأجساد
إذا كانت تلك النفس ممتلئه بأسباب العوالم السفليه أما إذا كانت مشبعة بالإيمان
وحب الرحمن ف الكل فى سلام وأمان، أما يقول الحق
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ
وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }الإسراء44


منصور
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

المغنطيس يا خلف عند وراق وبين الوراريق والكتياب مغنطيس
وكأنى بالكتيابى يقول عن ذلك:
تلاقينا توائم فى رنين الإسم
والذات الغريبه
فى نحول الجسم
فى طرق التعفف والميول
لهب المواهب والضياع المر
يسحقنا الزمان كحبتى قمح وتخطؤنا العقول
وكطائرين مسافرين من الرياح إلى الرياح
إفترقنا وألتقينا مثل أجزاء الجراح).


منصور المفتاح
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

الحبيب المنصور
سلاااام ومعزة ، وكل عام وأنتم ممهولين، وربنا يبارك لك ولزوارك في أهلكم وأعماركم ومالكم وجناكم
أكرمني الله أن اشاهد جلسات الشاي الأخضر لعلمائنا الشناقيط
بل وأكرمني الله أن أدرت الكؤوس" الأتاي" علي بعضهم
من اشعارهم فيه:
" وشُربُهُ عند الصباح أحسنُ
لكنّهُ بعد العشــــا يُستحسنُ
لانه وقت فــــــــــرَاغ البـال
وتفرُغ النَفسُ من الأشـغال
وإنّما الباب عليك تَسْــــتدُلُ
وأغلِقهُ حتى لا ثقِيلَ يَدْخُــلُ
والعادة عندهم في "الأتاي" ثلاثة مرات ، ولكن إذا طاب لهم المجلس عند أحدهم ، وأعجبهم الأُنس ، وكان البال فارغا، يقولون:
"رابع الكؤوس من الكرامِ
عادة جري به عكس اللئامِ
والأتاي عندهم لا يحلو، إلا بعد الشواء، وبعدمه قديد الصيد، أو قديد الإبل "التِّشطار، التشتار" بلهجتهم الحسَّانية المورتانية ، إن إنعدم اللَّحم والقديد، أحيانا يديرون كؤوس "الأتاي"، علي الفول السوداني مع التَّمر ، ويسمونه "القرتة" بالكاء
أتذكر مرة سمعت عالمين منهم وفي جلسة "أتاي" يتناقشون عن كتاب إسمه "عنوان الشرح الوافي" وكان النقاش يدور عن كتاب فرعي موجود بالكتاب الأم إسمه "مثلث بن قطرب" والجميل في الأمر الكتاب كان نظما في المفردة، حيث يأخدها تشطيرا من الحركات "الفتحة والضمة والكسرة" ثم يشرحها في البيت الثاني ، بمعني
أن البيت الأول يأخذ المفردة من حركاتها
"النصب، الرفع ، الكسر" وفي البيت الثاني يشرح المفردات ،وكل الكتاب المنظوم شعرا يحفظونه تماما
وصاحبك ودالمقدم لأول مرة يسمع بهذا الكتاب ، وب
"مثلث بن قطرب" ولقد بحثت عنه بعد ذلك وبعد جهدا جهيد ، أهداني له الشريف حسنا عليه الرحمة ، ومن عجائب الحظ ، لم أجده لوحده وإنما مرفق مع كتاب آخر ، بمعني الكتاب الأصل إسمه "عنوان الشرح الوافي "
ومرفق في آخره كتاب آخر"مثلّث بن قطرب "
ولقد حفظت وقتئذٍ من تلك الجلسة المحضورة هاتين البيتين من مثلث بن قطرب :
بدا فحيا بالسَّلام رمى عذولي بالسِّلام أشار نحوي بالسُّلام بكفه المخضبِ
بالفتح لفظ المبتدي والكسر صخر الجلمد والضم عرق في اليد قد جاء في قول النَّبي
والحمد لله الأن بعض" مثلث بن قطرب" موجود في جراب ربيعنا قوقل
حيَّا ربد الغمام، ونفل البادية قبور علماؤنا الشناقيط، فقد كانوا متفردون في كل شئ حتي في مصارعة البيد والصحاري والعتامير، وربنا يبارك في عمر من كان حيا منهم
معزتي


عبيد المقدم
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

العزيزين عبيد المقدم ومحمد خلف، خلف الله لكما الرزق فوق الرزق ورزقكما
بصيرة الصالحين وعلمكما علم الخضر وعلمنا معكما ولكما من السلام الكثير.
فسر الشاى الأخضر كشفه إلىّ صديقى حسين الذى مات فى زيارته لأفقانستان
مسقط رأسه، أذاقنى ذلك الشاى وربطنى بحبه وتلمست
البركة فيه النازله من الترمزى والبخارى والخراسانى وإبن الهيثم وتأكد
ذلك بعد أن كشف بأسه العزيز العبيد عند الشناقيط فتذكرت طوق الحمامة،
والقانون لإبن رشد وحى إبن يقظان والمقدمه لإبن خلدون و مالك بن نبى
تذكرت إبن ماجه وإبن حزم لا بل تذكرت موسى إبن ميمون
وتذكرت إلتقاء الشرق بالغرب فى تهافت الفلاسفه وتهافت التهافت
وأدركت سر ترقيق الروح من دن ذلك الراح، الشاى الأخضر وكان البيان
بالكتابه عن شرح الوافى ومثلث إبن يقطرب فى تلصص عزيزنا العبيد
للشناقيط فرفعت سقف التداعى لتتساقط علىّ حقيقة جلب الفرس للإبل
لصحارينا لكى ننظر فى كيفية خلقها وقدرتها على التكيف وفك عثرة
أهل الصحارى تلك فقفذ فى الزهن قول الحق ( وما من دابة في الأرض إلا
على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ( 6 ) )
فالحقيقة فينا وفى ما حولنا وفى الدقائق المتناهيه بمعاييرنا وفى العظائم
المتعاظمه بمقاييسنا المحدوده بمحدوديتنا وفى أنفسنا وأقرب من حبل الوريد
( وفي الأرض آيات للموقنين ( 20 ) وفي أنفسكم أفلا تبصرون ( 21 )
وفي السماء رزقكم وما توعدون ( 22 ) ) .

منصور المفتاح

صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

محمد خلف يعقِّبُ على، أو يَتحامَم مع، منصور المفتاح، عبيد المقدم، عبد الواحد ورَّاق وعبد القادر الكِتيَّابي:



يا لَكُم مِن سَحَرَةٍ في فنِّ القول



عزيزي منصور

يابنَ عبدِ الله؛ ويا عبد الواحد وعبد القادر

يالَكُم مِن سَحَرَةٍ في فنِّ القول؛ وهل السِّحرُ فيه (أي القول) شيءٌ سوى ذلك الانكشاف المباغت لعلاقةِ مغنطةٍ قائمة بين دالٍّ ظاهرٍ ومدلولٍ خفٍ، يُسمُّونها الدَّلالة؟

عندما بدأ العلماء في الرُبُعٍ الأول من القرن العشرين في استكناهِ المغنطةِ القائمة في المغنطيساتِ متناهيةِ الصِّغر التي يُسمُّونها إلكترونات، واستجلاء السِّر الذي يعصمُها من التَّهاوي إلى نواةِ الذَّرة، تقاطرَ الباحثون من كلِّ حدبٍ وصوب إلى كوبنهاجن لمقابلة العالِمِ الدَّنمركي نيلز بور، لاستشارته ومحاورته، والاستزادةِ بعلمه، والاستنارةِ بقوَّةِ عقله وسماحةِ فكره؛ حتى أخذ النَّابهون منهم يعترفون، مع بروزِ عالِمٍ فذٍّ في قامة ألبرت آينشتاين، بأن العلماء كُثرٌ، إلا أن بينهم ("بور"اً) واحداً.

كذلك، فإن الورَّاقين كُثرٌ، إلا أن بينهم مجذوباً واحداً، هو عبد الواحد ورَّاق؛ ومع ملاحظة أنه يهوى التَّخفِّي، إلا أن صفاته الظَّاهرة تقرِّبه من أهلِ الكشف، إنْ لم يكن منهم أصلاً. ويتبدَّى ذلك في سَمتِه وضحكته، وخفَّته لإغاثة الملهوف، وتفريجِ كرب الصَّديق، وسدِّ رمق الجائع. هذا غير جوانب فنِّه وإبداعه ورهافته، حتى ليحار المرءُ: هل سُمِّي ورَّاقاً لارتباط سلفه بصناعة الورق، أم لرِقَّةِ روحِه ودماثةِ خُلقه؟

أمَّا الكتياب، فإنهم على كثرةِ أتقيائهم ومبدعيهم، يتقدَّمُ ركبَهم عبقريٌّ واحد، هو القائل:

أنا وحدي أستجلي من العالَمِ همسَهْ

أسمعُ الخطرةَ في الذَّرِّ وأستبطنُ حسَّهْ

واضطراب النُّور في خفقته أسمعُ جِرسَهْ

تعلَّمتُ منهُ أن نقد المؤسَّسات، بل حتى التَّمرُّد عليها، لا ينزعُ من المرءِ شرفَ الانتماءِ إليها:

هُوَ مَعهَدي وَلَئِن حَفظت صَنيعه فَأَنا ابنُ سرحته الذي غَنـَّى بِـهِ

مثلما تعلَّمتُ من شاعرٍ آخرَ، هو الصَّديق محمد مدني، أن إدارةَ الظَّهرِ للطَّرائقِ القديمة للمجتمع، لا تعني التَّخلِّي عن القواعد الاجتماعية العريضة، بل يلزم التَّدرُّج معها، والصُّعود بها إلى قمَّةِ الجبل، ولو تمَّ التَّعثُّرُ معها رَدَحَاً على سَفحِه.



محمد خلف
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

سلام للجميع
كيفنكم يا جماعة
ومعليش للغياب لسبب ظروف مرض الوالد
وهو والحمد لله بدأ في النقاهة من المرض

والصفحة الجديدة رجّعتنا لموضوع الحق والحقيقة

و(الحقيقة) إنه دا الموضوع من البداية، والاستطرادات الجانبية
كانت لشرحه.

ويا خلف (الحق) ورد في القرآن هو واشتقاقاته كتير جداً

فهل ممكن تدينا إضاءة بسيطة، للمعاني الكتيرة الورد بيها في القرآن

{إنا أرسلناك بالحق} (البقرة:119).
{حتى جاءهم الحق} (الزخرف:29).
{ليحق الحق} (الأنفال:8).
{ولكن حق القول مني} (السجدة:13).
{قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق} (هود:79).
{وعدا عليه حقا} (التوبة:111).

ودي نماذج لورود لفظة (الحق) ومشتقاتها.



وشكراً يا قصاص على التلخيص للندوة، وأهو زي ما اتوقع محمد خلف
الجماعة جو (رغم تأخرهم) لكن جو، والبقية جايين في السكة
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

تعقيب محمد خلف على الصادق إسماعيل:


أيُّها الولدُ، كيفُ حالِ الوالد؟

(أيُّها الولدُ، العلمُ بلا عملٍ جنون، والعملُ بغيرِ علمٍ لا يكون)؛ أبو حامد محمد بن محمد الغزالي.



عزيزي الصَّادق

أولاً، الحمد لله على سلامة الوالد.

ورحم اللهُ التِّجاني الماحي، فقد كان يستعصمُ بالعلمِ والاطِّلاع، عندما تلمُّ به الكُرَبُ والمصائب. ومع علمي التَّام بأن الغزالي يقول في رسالته الشَّهيرة: (أيها الولد، النَّصيحةُ سهل، والمشكلُ قبولها)، فإنني أرجو ألا تمنعك ملازمة القصر العيني من زيارة سور الأزبكية نهاراً أو التَّهجُّد ليلاً في مسجد الحسين.

أمَّا في رسالتي للصَّديق عادل القصَّاص، فقد شبَّهتُ علاقةَ الحقِّ بالحقيقة، من وجهةِ النَّظرِ المنطقيةِ فقط، بعلاقةِ الوالدِ والولد؛ فالعلاقةُ بينهما علاقةٌ غيرُ متماثلة؛ فالوالدُ ينجبُ ولدَه، إلا أن الولدَ لا يمكن أن ينجبَ أباه؛ ومن ناحيةٍ أنطولوجية، ينتفي أيُّ تَّماثلٍ بين الحقِّ والحقيقة؛ فالحقُّ ليس كمثله شيء، ولا يمكن مضاهاته بشيء؛ بينما الحقيقةُ تحيا في كَنَفِ الباطل، وتلتبسُ به، وتتزيَّا زمناً بزيِّه، إلى أن تلامسَ الحقَّ، أو يحينُ وقتُ مجيئه: "وَقُل جَاءَ الحَقُّ وزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا" (سورة "الإسراء"؛ الآية رقم 81).

ومع تقديري لأسئلتك على وجه العموم، وسؤالك عن معاني الحقِّ على وجه الخصوص، فأنا لستُ مختصَّاً في المقام الأول بالمعاني، إذ إنَّ كتبَ التَّفاسيرِ الرَّئيسية تُغنينا عن كثيرٍ من الاجتهادات المُضنية في هذا الخصوص؛ ولكنني مهتمٌّ بالعلاقةِ بين الحقِّ والحقيقة، ومهتمٌّ أكثر بتخصيصِ مجال الحقيقة، التي لم يرِدْ ذِكرُها في القرآن بهذه الصِّيغة الصَّرفية، ليشملَ كافَّةِ العلوم الطَّبيعية والاجتماعية، إضافةً إلى الاجتهاداتِ البشرية المتلاحقة والتَّفاسير المختلفة، مع شدَّةِ رسوخِها وقوَّةِ حُجَّتها، فقد يأتي يومٌ تتكشَّفُ فيه أو تنكشِفُ لأيٍّ من المجتهدين الجُدُدِ أو تُكشفُ لسواهُمُ احتمالُ دلالاتٍ جديدة، لم تكن تخطُر على عقلِ مَن سبقهم، مهما عظُمت قدراتهم في التَّفسير أو كرَّمهُمُ اللهُ بقدرةٍ على التَّأويل: "كُلَّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِن عَطَاءِ رَبِّكَ ومَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحظُورًا" (سورة "الإسراء"؛ الآية رقم 20).

فالحقُّ قد تنزَّل لنا وآمنا به، وهو حقٌّ في الدَّرجةِ الصِّفر من التَّفسير؛ أمَّا تفسيرُنا له، فيخضعُ، إذا ما خلُصت نوايا المفسِّر، إلى مقتضياتِ الوقتِ وتدورنِ الدَّلالة. ونحن ما زلنا في انتظارِ المزيد منهم، مهما هم تأخَّروا، فربما يكونُ في قدومهم انكشافٌ لعهدٍ جديدٍ من الاستنارةِ والفرجِ القريب.



محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

محمد خلف يكتب عن، وبسببٍ من، صديقه مسعود محمد علي:



رسالةٌ داخل كبسولة: استجابةً لرجلٍ حكيمٍ من كاليفورنيا



من المدهش حقَّاً أن كاليفورنيا، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ملأى بالحكماء، ولا سبيلَ إلى تَعدادِهم في هذه الرَّسالة المقتضَبة؛ ولكن، إذا كانت أسئلة الأستاذ الصَّادق إسماعيل تسبُقني مراحلَ في التَّفكير، فإن الملاحظات الثَّاقبة التي يقدِّمها لي الأستاذ مسعود محمد علي، شفاهةً أو بشكلٍ مكتوب، تتقدَّمني فراسخَ في طرحِ الأفكار. ففي زمنٍ باكرٍ من عُمُرِ رسالتي إلى القصَّاص، قال مسعود: "شكراً لعادل على الحصَّة، وشكراً لخلف على السَّبورة"، فقد كنتُ أُقلِّبُ الفكرَ في ذهني زماناً، ولولا حصَّة عادل لما خرجتُ من محبسِ الأفكار"؛ وبينما كان النَّاسُ يستمتعون بالرِّسالة، ويندهشون لغرابةِ جمعها للمتفرِّقات، كان مسعودٌ يُلهِبُ ظهري في محادثاتٍ بعيدةِ المدى بالأسئلةِ الحارقة حول الحقِّ والحقيقة"؛ وبالأمس فقط، قال لي قد فهمت تفرقتك بين الحقِّ والحقيقة، وارتَحتُ لكلامِك بشأنِ اللُّغة، إلا أنك لم تتحدَّث بعدُ عن دور العقل، وتحديداً لم تتحدَّث عن الوعي. فقلت له فيما يُشبهُ المراوغة إنني سبق أنْ تناولتُ معمارية الدُّماغ البشري بغُرَفِهِ الثَّلاث في معرضِ ردٍّ على أحدِ المشاركين، لكنني لم أتعرَّض بالتَّفصيل إلى دور العقل، وإنْ كنتُ قد أشرتُ في الرِّسالة نفسها، وفي ثنايا بعض الرِّدود، إلى أقانيمَ ثلاثةٍ هي الواقعُ، واللُّغةُ، والعقل.

فهل أرجئُ الحديث عن الوعي، أو الأقانيم الثَّلاثة، إلى أن تحينَ سانحةٌ مناسبة، أم أقبل بأن ملاحظة مسعود، وإنْ جاءت شفاهةً، هي هذه السَّانحةُ المَرجُوَّةُ بالذَّات؟ وبدأتُ أُعمِلُ الفكرَ طول اللَّيل، إلى أن اتَّضحَ لي ما نحنُ بصددِ الكلامِ عليه في هذه الرِّسالةِ داخل كبسولةٍ إلى مسعود؛ وبما أنه خارجٌ من جُبَّةِ أهلنا الصُّوفية، سأقوم بتلخيصِ كلامي في هذه الفقرة على طريقتهم في تضييقِ العبارة؛ وبما أنني خارجٌ، من جهةٍ أخرى، كما ذكرتُ في الرِّسالة، من جُبَّةِ بولا، أو خارجٌ عليه، سأقوم بتوضيحِ فكرتي لاحقاً بشكلٍ مستفيض. وأبدأُ بالقول إن الوعي هو كينونةٌ لا تستطيعُ التَّعبير عن مكنونها إلا بشكلٍ كوني؛ ومن هنا جاءت الآية الكريمة "وَفِي أَنفُسِكُم أَفَلَا تُبصِرُونَ" (سورة "الذَّاريات"؛ الآية رقم 21)، داعيةً في سؤالها التَّرغيبي -في مستواهُ الكوني- إلى استخدام حاسَّةِ البصر، إلاَّ أنها تدعو على مستوًى أعمق بالسُّؤالِ -في مستواهُ المكنوني- إلى النَّفاذِ إلى البصيرة؛ صحيحٌ أن الأفعال الأدائية، على كونيتها، تقترب من فعل التَّكوين، ولكن هيهات؛ فهذا من اختصاصِ الحقِّ وحدِهِ: "إنَّما أمرُهُ إذا أرادَ شيئاً أن يقولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"، (سورة "يس"؛ الآية رقم 82)؛ "إِنَّمَا قّوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ"، (سورة "النَّحل"؛ الآية رقم 40).

سنشرح في حلقةٍ قادمة بشكلٍ مستفيض ماذا نعني بالكينونة، وما هي المكنونات، وما هو التَّعبير الكوني؛ إضافةً إلى ذلك، سنتحدث باستفاضة عن الأفعال الأدائية البشرية، كما سنشير إلى دلالاتِ "كُن فَيَكُونُ"، وفق ما جاءت في مُحكَمِ التَّنزيل.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الشاي الأخضر يسوق محمد خلف إلى تأملات أو تداعيات تلد أو تقترح مهرجاناً من الأفكار المُلَوَّنَة:



الشَّايُ أخضرُ إلَّا أن الواقعَ أصفرُ، بينما اللُّغةُ زرقاءُ، والوعيُ أحمرُ

-الحلقة الأولى-



أشِرتُ في رسالتي إلى الصَّديق عادل القصَّاص إلى أنه هيَّأ لي، بعد تسجيلي في برنامج الماجستير، مكاناً في مكتبةِ التِّجاني الماحي، التي كانت تفتحُ ببابٍ داخليٍّ على مكتبةِ الشِّنقيطي، وها أنا الآن على بركةِ التِّجانية الذين هيَّأوا لي النُّور رحمة محمد صديقاً وفيَّاً في أحلكِ ساعاتِ حياتي الجامعية الأولى قبل ظهور القصَّاص، وعلى بركةِ الشَّناقيط الذين هيَّأوا لنا جميعاً شاياً أخضرَ في هذا المنعطف الحرج من وقتِ مناقشة الرِّسالة، الذي بعجه الصَّديقُ الأستاذ الحصيف مسعود محمد علي بسؤالِه المباغت بشأنِ الوعي، وعلى أنغامِ صوتِ صديقِه الفنان الرَّاحل مصطفى سيد أحمد، أقومُ الآنَ بفتحِ بابِ الكلامِ الصَّعب عن الوعي بنموذجٍ لونيٍّ مُبَسَّط، أرجو أن يُساهمَ في تنويرِ متابعي هذا الرُّكن البديع بمشكلةِ الوعي في إطارِها القابل للتَّفسير، توطئةً للنَّفاذِ، مع مَن يطيقون السَّفر، عبر تخومِها المستعصية.

أنا مدركٌ تماماً أن صديقي مسعود لا يَسعَدُ كثيراً بإيرادِ النَّماذج، ليس لخاصيَّةٍ مزاجيَّةٍ في طبعِه، وإنما لأن معظم مصمِّميها، تماماً مثل جُلِّ مصمِّمي مراشد التَّعليمات، لا يدركون احتياجاتِ المُستخدم على وجهِ الدِّقَّة، إضافةً إلى أنهم يفترضونَ فيه معرفةً بأساسياتٍ قد لا تكونُ متوفِّرةً للمُستخدِم المتوسط. إلا أن أولَ ما أستضيءُ به في هذا الخصوص هو قولُ العالم الأمريكي، ستيفن واينبيرج، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء، بالتَّقاسُمِ مع الباكتساني المسلم محمد عبد السَّلام؛ فقد قال بشأنِها "إن هدف عالِمِ الفيزياء الجديدة ليس اكتشافَ الجُسيماتِ مُتناهيةِ الصِّغر لأجلِ الاكتشافِ في ذاتِه، وإنما لبناءِ نموذجٍ تفسيريٍّ يُساعِدُ على إضاءةِ الواقع، وإنتاجِ معرفةٍ علمية يمكن الوثوق بها بإزائه، ولو كانت مؤقَّتةً"، شأنُها في ذلك شأنُ كلِّ المعارف في هذا المجال، الذي أطلقنا عليه مجال الحقيقة، ولم نفرغ بعدُ من توصيفه بشكلٍ نطمئنُ إليه، بحيثُ نرفعُ يدَنا عنه تماماً.

وفي هذه الحلقة، سنُعطي فكرةً موجزة عن النُّموذج اللَّوني الذي سنستخدمه في توضيحِ العلاقة المتشابكة بين الواقع والعقل واللُّغة، وهي الأقانيمُ الثَّلاثة التي تتشظَّى الحقيقةُ في داخلِها؛ وسنحاول أن نبني، معاً، خطوةً على إثرِ أخرى، على طريقةِ "اِخدِمْ نفسَك بنفسِك" (دي آي واي)، هذا النُّموذج، فيما نوضِّح، على طولِ الطَّريق، النتائجَ التي يقود إليها امتزاجُ الألوان، التي تُمثِّلُ الأقانيمَ الثَّلاثة المنفردة، في حالةِ انشباكِ أيٍّ منها مع الآخر أو مع كلٍّ من اللَّونين الآخرين؛ علماً بأننا لا نسعى إلى خلطِ الألوان في ذاتها، كما استَفَدنا من ملاحظة واينبيرج، وإنما ننشُدُ ما تُمثِّله هذه الألوان داخل النُّموذج، الذي نسعى من خلاله إلى إضاءةِ العلاقة بين الواقع والعقل واللُّغة، ومن ثمَّ طرح مشكلة الوعي، التي أثارها مسعود، والتي مهَّدنا لها في حلقةٍ سابقة بجملةٍ مضغوطة على طريقةِ أهل الكشف، ونرجو ألا نَمَسَّ حاسَّتَهُمُ الذَّوقية باعتمادِ الشَّرح، وشرح الشَّرح، فالمقامُ الذي هيَّأه لنا عادل القصَّاص، وأشار إليه مسعود، مقامُ تعليمٍ وتعلُّمٍ في نفسِ الآن.

كلُّ ما نحتاج إليه في هذه الحلقة التَّأسيسية هو رسمُ مربعٍ كبير (3 سم×3 سم)، وفي داخله 9 مربعات (1 سم× 1 سم). وبعد ذلك، نضعُ داخل كلِّ مربعٍ من هذه المربعات التِّسعة رقماً واحداً من 1 إلى 9، بدءاً من يمين الصَّف الأول الأعلى، ثم يمين الصَّف الثًّاني الأوسط، وانتهاءً بيسار الصَّف الأخير الأسفل.





صورة




سنقوم في الحلقة القادمة بملءِ هذه المربعات التِّسعة بألوانٍ ثلاثة هي الأصفر والأزرق والأحمر، حسب خُطَّةٍ ستتضحُ رويداً رويدا. وكُنَّا، على بُعدِ الشُّقة وتقادمِ العهد، نُمنِّي النَّفسَ أن يشتركَ معنا أصدقاؤنا التَّشكيليين في تغطية هذه المساحة اللَّونية، كما كُنَّا نفعلُ في الزَّمانِ الغابر مع الطَّاهر بشرى في مكتب النَّشر بجامعة الخرطوم قبيل معارض المليون كتاب، أو عبد الواحد ورَّاق في الملحق الثَّقافي لصحيفة "القوات المسلحة"، أو عبد الله محمد الطَّيِّب وأم الخير كمبال، وعصام عبد الحفيظ، وفتح الرَّحمن خير الله باردوس، وسيف الدِّين اللَّعوتة في معهد جوتة (وأرجو أن أُطمئنَه بأن مُجَلَّدَ صُورِ لوحاتِه في حِرزٍ أمين، إلى أن يستلمه منِّي ذات يومٍ زنجبيلي)، أو قبل ذلك مع عبد الله بولا وحسن موسى وعبد المنعم الخضر وأسامة عبد الرَّحيم والباقر موسى في العديدِ من المعارض بجامعة الخرطوم أو المراكز الثَّقافية بالعاصمة المُثلثة. وإنْ نسيتُ أحدَهما أو إحداهن، فمَنْ يستطيعُ أن يحذفَ من ذاكرته الدَّائمة تشكيليينَ وتشكيلياتٍ في قامة الأمين محمد عثمان أو تلامذته علي الأمين وعلي الهادي وخالد كودي وصلاح سليمان ومحمد أحمد أبو دقن، والمرحوم محي الدين الزِّين؛ ومَنْ ينسى، رغم طولِ الفِراقِ وحَتفِ المنايا وحتمية الرَّدى، فتحي محمد عثمان، محاسن أحمد، المعز عبد الباقي العجيمي، ووفاء محمود حسين؛ أو الرَّاحلَيْن عمر خيري، ومُدَّثِّر قطبي.

على ذكر التَّشكيليين الرَّائعين والتَّشكيليات الرَّائعات، لن أنسى لقاءً تمَّ في منزل أحمد المرضي وإيمان شَقَّاق، في منزلهما الكائن بفيلاديلفيا، بحضور الصَّديقين العزيزين عبد اللَّطيف علي الفكي وأسامة الخوَّاض، تناولنا فيه، في أجواء المنزل ذي اللَّمسات الفنية الواضحة في كلِّ شبرٍ منه، أهميةَ تدشينِ موقعٍ إلكتروني باسم الكتاب السُّودانيين في المهجر، وقد تبرَّع أحمدُ مشكوراً بالقيام بتصميم الموقع، إلا أنه طلب منَّا تزويده لاحقاً بأفكارٍ مفصَّلةٍ بشأنِ ما نُريدُ وضعَه في صفحتِه الرَّئيسية، بعد أن اتَّفقنا بشكلٍ مبدئيٍّ على إخراجِه في قسمين: قسمٌ داخلي مُغلق لمناقشة قضايا الكتاب، وآخرُ مفتوحٌ لنشرِ أعمالهم ومناقشتِها مع الجمهور. وقد أعقبنا ذلك اللِّقاء باجتماعٍ موسَّع في منزل عز الدِّين طيفور بفرجينيا، وحضره بالإضافة إلى عبد اللَّطيف وأسامة، كلٌّ من صلاح الزِّين وخطَّاب حسن أحمد.

وكان ذلك الاجتماع هو إيذانٌ بميلاد الفكرة وموتها في نفسِ الآن، فلم يكن لتلك الفكرة، على ما يبدو، "نجاتُها"، مثلما كان لتناولي لبيان الكتابة "نجواه"؛ وقد سمعتُ أن الشَّاعر المغربي محمد بنيس قد زار السُّودان، ذلك الشَّفق الغامض"، كما قال مرَّةً في إحدى رسائلة لأسامة الخوَّاض؛ وقد تمَّ استضافته مؤخَّراً في "ندوة العلَّامة عبد الله الطَّيِّب"، فأرجو أن يكون أحدُ المهتمين قد نبَّهه، شفاهةً أو كتابةً، بعرضي لكتابِه "بيان الكتابة" في الملحق الثَّقافي لصحيفة "السِّياسة" تحت عنوان: "للبيانِ صهيلُه ونجواه"؛ علماً بأن الملحق كان يشرف عليه في ذلك الوقت الأستاذ عيسى الحلو، الذي قلنا عنه في الرِّسالة إنه كان أستاذاً مُشرِفاً على جمعيةٍ أدبية، عندما كنتُ بالمرحلةِ المتوسطة، وكانت باكورةُ إنتاجِه "ريش الببغاء" قد خرجت لتوِّها من المطابع، ولا زالت رائحةُ الحبرِ عالقةً بأغلفةِ النُّسَخِ المعروضة في المكتباتِ وأكشاكِ الجرائد.

عفواً لهذا الاستطراد الذي أملته شجونٌ دفينة، لا مناصَ من البوح ببعضٍ من أطرافها القصيَّة؛ وسنعودُ في الحلقة القادمة لتعبئةِ مربعاتنا يدوياً -حتى إذا ما نجح عثمان حامد في مسعاه لاحقاً بتجهيزها إليكترونياً- باللَّونِ الأصفر، الذي يمثل الواقع، كنايةً عن تصحُّرِ الكون، غازيتِه ومعدنيتِه، قبل انبثاقِ الحياةِ في الأرض؛ واللُّونِ الأحمر، الذي يمثل الوعي، كنايةً عن تدفقِ الدَّم، وانفجارِ الحياةِ في الكوكب؛ واللونِ الأزرق، الذي يمثل اللُّغة، كنايةً عن زرقة السَّماء، والبُعد الأسطوري للألسُن، كما جاء في نشيد البحر: "حُرَّاس اللُّغة – المملكة الزَّرقاء"، في "عودة" الشَّاعر محمد عبد الحي "إلى سنار"، عاصمة السَّلطنة الزَّرقاء.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الخميس أكتوبر 29, 2015 11:27 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

عبر هذه الحلقة، الثانية، يواصل محمد خلف تأملاته أو تداعياته أو "إقتراحاته المُلوَّنة" المتولَّدة عن "فكرة الشاي الأخضر":



الشَّايُ أخضرُ إلَّا أن الواقعَ أصفرُ، بينما اللُّغةُ زرقاءُ، والوعيُ أحمرُ

-الحلقة الثَّانية-




رسمنا في الحلقة السَّابقة مربَّعاً كبيراً (3 سم×3 سم)، وفي داخله 9 مربَّعات صغيرة (1 سم× 1 سم). وبعد ذلك، وضعنا (في الخاطر، لأن المربَّع لم يتم تنفيذه إلكترونياً، حتى الآن) داخل كلِّ مربَّعٍ من هذه المربَّعات التِّسعة رقماً واحداً من 1 إلى 9، بدءاً من يمين الصَّفِّ الأول الأعلى، ثم يمين الصَّفِّ الثَّاني الأوسط، وانتهاءً بيسار الصَّفِّ الأخير الأسفل.



صورة




وقلنا إننا سنقوم في حلقةٍ قادمة بملءِ هذه المربعات التِّسعة بألوانٍ ثلاثة هي الأصفر والأزرق والأحمر، حسب خُطَّةٍ ستتضحُ رويداً رويدا. وقبل التَّلوين، ولمزيدٍ من التَّوصيف، الذي أملاه علينا تأخُّر التَّنفيذ الإلكتروني، نقول إن الصَّفَّ الأول الأعلى يحمل الأرقام 1، 2، 3 (من اليمين إلى اليسار)؛ وإن الصَّفَّ الثَّاني الأوسط يحمل الأرقام 4، 5، 6 (من اليمين إلى اليسار، أيضاً)؛ وأخيراً، فإن الصَّفَّ الأخير الأسفل يحمل ما تبقَّى من الأرقام التِّسعة 7، 8، 9 (وهي كذلك من اليمين إلى اليسار).

يتضحُ من ذلك أن الصَّف الأول يُقرأ أفقياً 1، 2، 3، بينما نجد أن هناك صفَّاً أولاً آخرَ تتمُّ قراءته رأسياً 1، 4، 7؛ وأن الصف الثَّاني يُقرأ 4، 5، 6، بينما نجد أن هناك صفَّاً ثانياً آخرَ تتمُّ قراءته رأسياً 2، 5، 8؛ وأن الصَّف الأخير يُقرأ 7، 8، 9، بينما نجد أن هناك صفَّاً ثالثاً آخرَ تتمُّ قراءته رأسياً 3، 6، 9 (هذا بالطَّبع غيرُ القراءةِ القُطرية أو العكسية للصُّفوف، أو تلك التي تتمُّ بدون ترتيبٍ محدَّدٍ لها).

بمعنًى آخر، فإن كلَّ مربعٍ صغير من المربعات التِّسعة له قراءتان، إحداهما أفقية، والأخرى رأسية. على سبيل المثال: المربَّع الذي يحمل رقم واحد يُمكن أن يُوصفَ بأنه على يمينِ الصَّفِّ الأعلى الأفقي أو أنه على أعلى الصَّف الأيمن الرَّأسي؛ والمربَّع الذي يحمل رقم تسعة يُمكن أن يُوصف بأنه على يسار الصَّفِّ الأسفل الأفقي أو أنه على أسفل الصَّف الأيسر الرَّأسي؛ أمَّا المربَّع الذي يحمل رقم خمسة، فإنه يُمكن أن يُوصف بأنه في وسط الصَّف الأوسط الأفقي أو في وسط الصَّف الأوسط الرَّأسي؛ هذا علاوةً على أنَّ له قراءةً ثالثة، إذا ما تمَّت نسبته إلى المربَّع الكبير؛ وفي هذه الحالة، يمكن وصفه بأنه في وسط المربَّع الكبير. ويمكن للقارئ الكريم أن يجرِّب بنفسه وصفَ بقيةِ التَّباديل لهذه المربَّعاتِ الصَّغيرة المرقَّمة، حتى في غياب إيضاحها المتوقَّع إلكترونياً، إذا ما نجحت جهود عثمان أو عادل أو منصور.

وستظهر أهمية هاتين القراءتين، عندما ندلقُ الألوانَ على المربعات؛ وستتضحُ أكثر، عندما نبدِّلها بما تشير إليه أو ترمز إليه؛ وستزدادُ وضوحاً وبياناً، عندما نكشف عن خطَّة توزيع الألوان. وهذا ما سنتفرَّغ له، بإذن الله، في الحلقةِ القادمة.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد نوفمبر 01, 2015 10:21 pm، تم التعديل 4 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الحلقة الثالثة من تأملات أو تداعيات أو اقتراحات محمد خلف الملوَّنة الناجمة عن "فكرة الشاي الأخضر":



الشَّايُ أخضرُ إلَّا أن الواقعَ أصفرُ، بينما اللُّغةُ زرقاءُ، والوعيُ أحمرُ



-الحلقة الثَّالثة-




اتَّصل بي الأستاذ الصَّديق مسعود محمد علي ليُبدي لي بعضَ التَّعليقات حول المربَّع، فتذكَّرتُ أنَّ الأستاذ التَّشكيلي الصَّديق حسن موسى كان قد هيَّأ لنا أيضاً في منتصف الثَّمانينات، تحت ضيافة "جمعية تجاوز للثَّقافة والإبداع" بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح، طقساً تشكيلياً تحت عنوان "تنويعات على المربَّع"؛ الأول اقترح عليَّ كتاباً للغزالي تحت عنوان "جواهر القرآن"، والثَّاني اقترح علينا ممارسةً تشكيليةً حرَّة؛ فكأنما كان الأولُ باقتراحِه الاستئناسَ بالغزالي يُريدُ أن يشُدَّني بشكلٍ مُستتر إلى رؤيةٍ مقيَّدة تتحكَّم فيها أرقامُ الغزالي الموزَّعة باتِّزانٍ مُدهِش داخل المربَّع (كما روى لي مسعود)، وكأنما كان الثَّاني يقودنا بشكلٍ سافر إلى ممارسةٍ مفتوحة ينفرط فيها عقدُ الدَّلالاتِ المنتظمة داخل إطارِ لوحاتٍ تتوزَّع فيها الأشكالُ والألوانُ باتِّزان يصلُ إلى درجةِ الإدهاش أحياناً. بينما أسعى هنا في تناولي للمربَّع لأن أبعجَ طريقاً وسطاً بين المقترحين المتعارضين اللَّذين تقدَّم بهما الأستاذانِ الجليلان.

إلَّا أن فهمي للوسط، كما يتَّضح في كثيرٍ من تناولي للموضوعات المختلفة، ليس هو ذلك الهامش الضَّيِّق الذي يتخلَّل منطقتين واسعتين، أو في المقابل، تلك المساحة الواسعة الواقعة بين منطقتين ضيِّقتين، أو ما يتمُّ التَّعبير عن كلاهما عادةً بـ"الإمساك بالعصا من وسطها"، وإنما المُرادُ بالوسط هو عينُ المساحة الكلية التي تضمُّ كلا الطَّرفين المتناقضين، أو أحياناً ذلك الأوْج الرَّفيع الذي يتسامى علواً عنهما. على سبيل المثال، عندما نقول الوسط الرِّياضي، فإن ما نعنيه هو مجملُ السَّاحةِ التي يجري فيها أنشطةُ الرِّياضيين؛ وعندما نقول أوساط العلماء، فإننا نعني مجملهم، وليس بعضهم أو تياراً بينهم. فالوسط في معناه الغالبُ هنا هو أقربُ إلى مفهوم المجال، الذي يكثُرُ استخدامُه في العلوم الطَّبيعية، والذي دائماً ما ننسبُ الحقيقةَ في تشظيها الدَّائم إلى كَنَفِه؛ فنقول، على سبيل المثال، "مجال الحقيقة"؛ ولا يصحُّ أن يُنسب المجالُ أو الوسطُ إلى الحق، إلَّا إذا اكتسب الاستخدامُ في سياقٍ ما معنى التَّسامي والعلو: "فالحقُّ يعلو ولا يُعلى عليه"، كما جاء في قولٍ مأثور. كذلك، فإن الوسط الذي يكتنفُ هذه المربَّعات هو إضافةُ كلٍّ منها إلى الآخر على سبيل الجمع أو هو المربَّعُ الكبير الذي يشتملُ على كلِّ المربَّعات الصَّغيرة.

فلنشرع إذاً في تعبئةِ مربَّعِنا المتواضع بألوانٍ ثلاثة، هي الأصفرُ والأزرقُ والأحمر، وفقَ خطَّةٍ لا تعبأُ بما اقترحه علينا الصَّديقان العزيزان بشكلٍ خفيٍّ أو بشكلٍ مكشوف.

أولاً اللَّونُ الأصفر، وهو كما قلنا في حلقةٍ سابقة يمثِّل تصحُّر الكون، غازيته ومعدنيته: يُوضع على المربَّعات رقم ١، ٤، ٧، ٨ ،٩؛ وهي الصَّفُّ الأيمن الرَّأسي (أي المربَّعات ١، ٤، ٧)، والمربَّع في أسفل الصَّفِّ الأوسط الرَّأسي (المربَّع رقم ٨)، والمربَّع في أسفل الصَّفِّ الأيسر الرَّأسي ( المربَّع رقم ٩).

ثانياً اللَّونُ الأزرق، وهو يمثل زرقة البحر والبُعد الأسطوري للُّغة: يُوضع على المربَّعات رقم ٢، ٥، ٦، ٨، ٩، وهي الصَّفُّ الأوسط الرَّأسي (أي المربَّعات ٢، ٥، ٨)، والمربَّعان في وسط وأسفل الصَّفِّ الأيسر الرَّأسي (أي المربَّعان رقم ٦ ورقم ٩).

ثالثاً اللَّونُ الأحمر، وهو يمثل انفجار الحياة في كوكب الأرض: يُوضع هذا اللَّونُ الأخير على المربَّعات (3، ٦، ٩)، وهي المربَّعات التي يشتمل عليها الصَّفُّ الأيسر الرَّأسي.



صورة



يُلاحظ أولاً أننا اعتمدنا على توصيفٍ قائمٍ على اختيارِ الصُّفوف الرَّأسية، بدلاً عن الأفقية، لمناسبتها للخطَّة التي سنعكفُ على شرحها الآن، وكان يُمكنُ في سياقٍ آخرَ أن نعتمد الصُّفوف الأفقية أساساً للتَّوصيف.

يُلاحظ ثانياً أن الصَّفَّ الأعلى الأفقي قد اشتمل على الألوان الثَّلاثة مجتمعةً، وهي الأصفر، والأزرق، والأحمر، مقروؤةً من اليمين إلى اليسار (وهي المرَّةُ الوحيدة التي يحدُثُ فيها هذا التَّرتيب، وفقاً لهذه الخطَّة المتعلِّقة بتوزيع الألوان). وأهمية ذلك تنبع من (أ) وجودِ هذه الألوان منفردةً، من دون خلط، داخل صفٍّ واحد، و(ب) وجودِ ذلك الصَّفِّ في أعلى المربَّع الكبير. مما يُمكِّنُ من وصفها من غير تشويسٍ يخالطُ لونَها الأساسي، فيما هي تتربَّعُ على قمَّةِ هذا النُّموذج اللَّوني (أو تتوسَّطه بالمعنى غير الغالب لمفهوم الوسط).

يُلاحظ ثالثاً أن الصَّفَّ الأيمن الرَّأسي قد اشتمل على لونٍ واحد هو اللَّونُ الأصفر، وهي الحالة الوحيدة التي يحتلُّ فيها لونٌ أساسيٌّ صفَّاً بأكمله، كما سيتضحُ عند نهاية عرض هذه الملاحظات الأولية.

يُلاحظ رابعاً أن اللَّون الأزرق احتلَّ مربَّعين فقط، هما أعلى الصَّفِّ الأوسط الرَّأسي (مربَّع رقم ٢)، ووسط الصَّفِّ الأوسط الرَّأسي (المربَّع رقم ٥)، وهو يمثِّل أيضاً، كما قلنا سابقاً، وسط المربَّع الكبير.

يُلاحظ خامساً أن لوناً جديداً، هو اللَّونُ الأخضر، قد انبثق من امتزاجِ اللَّونين الأصفر والأزرق داخل المربَّع في أسفلِ الصَّفِّ الأوسط الرَّأسي (المربَّع رقم ٨).

يُلاحظ سادساً أن لوناً جديداً آخرَ، هو اللَّونُ البنفسجي، قد انبثق من امتزاجِ اللَّونين الأحمر والأزرق داخل المربَّع في وسط الصَّفِّ الأيسر الرَّأسي (المربَّع رقم ٦).

يُلاحظ سابعاً أن لوناً ثالثاً، هو اللَّونُ البني، قد ظهر من امتزاجِ ثلاثِ ألوان، هي الأصفر والأحمر والأزرق، داخل المربَّع أسفلِ الصَّفِّ الأيسر الرَّأسي (المربَّع رقم 9).

يُلاحظ ثامناً أن اللَّون الأصفر قد احتلَّ الصَّفَّ الأسفل الأفقي، بمشاركةِ لونٍ مرَّة (هو الأزرق، ليعطينا اللَّونَ الأخضر، رقم 8)، وبمشاركةِ لونين اثنين (هما الأزرق والأحمر، ليُعطينا اللَّونَ البني، رقم 9)، هذا علاوةً على تفرُّده باحتلالِ الصَّفِّ الأيمن الرَّأسي، على يمين المربَّع الكبير.

يُلاحظ تاسعاً أن اللَّونَ الأزرق قد احتلَّ منفرداً ثُلُثي الصَّفِّ الأوسط الرَّأسي (وهما المربَّعان رقم 2 ورقم 5)، وتشارَكَ مع الأصفر في ثُلُثه الأخير؛ كما تشارَكَ مع كلٍّ من الأصفر والأحمر في احتلالِ ثُلُثي الصًّفِ الأيسر الرَّأسي (وهما المربَّعان رقم 6 ورقم 9).

يُلاحظ عاشراً وأخيراً أن اللَّونَ الأحمر يحتلُّ فقط المربَّع أعلى الصَّف الأيسر الرَّأسي (المربَّع رقم ٣)، وهي الحالةُ الوحيدة التي يحتلُّ فيها لونٌ أساسيٌّ مربَّعاً واحداً فقط، وهو آخرُ مربَّعٍ على يسار الصَّفِّ الأعلى الأفقي؛ هذا علاوةً على تشارُكِه في احتلالِ ثُلُثي الصَّفِّ الأيسر الرَّأسي مع الأزرق مرَّةً ليُعطينا اللَّون البنفسجي، ومع الأصفر والأزرق ليعطينا اللَّون البني. وهذا اللون الأزرق، كما سنرى يمثل العقل، مناط الوعي، مثار حديثنا الذي بعجه مسعود.

فإلى حلقةٍ قادمة، لنبدأ الحديثَ عن أقنومين آخرين، وصِلتِهما بمجالِ العقل، توطئةً إلى النَّفاذِ إلى مشكلة الوعي المُستعصية، التي قلنا عنها في الرِّسالة: "يمكن لشاعرٍ جاهليٍّ، مثل طرفة بن العبد، أن يعتامَ النَّاقةَ مناطاً للاستفاضة في الوصفِ، للتَّعبيرِ من خلالِه عن تطوُّرِه العقليِّ والرُّوحي؛ ويمكن لفيلسوفٍ معاصرٍ، مثل طوماس نِيجَل، أن ينتقي الخُفَّاشَ مثالاً لتوضيحِ مشكلة الوعي المُستعصية على الفهم".

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد نوفمبر 01, 2015 10:25 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الحلقة الرَّابعة من تأملات أو تداعيات أو اقتراحات محمد خلف الملوَّنة الناجمة عن "فكرة الشاي الأخضر":




الشَّايُ أخضرُ إلَّا أن الواقعَ أصفرُ، بينما اللُّغةُ زرقاءُ، والوعيُ أحمرُ



-الحلقة الرَّابعة-




أرجو من الأخ الأستاذ الصَّديق الأكثر احتمالاً وتحمُّلاً، الصَّادق إسماعيل، أن ينبِّهني لاحقاً، إنْ نسيتُ، إلى فكرتين جاءتا عَرَضَاً في حلقاتٍ سابقة من غيرِ تطويرٍ كافٍ لأيٍّ منهما، وهُما: أولاً، الفكرة المشحونة في عبارةٍ مضغوطة بشأنِ الوعي باعتباره "كينونةً لا تستطيعُ التَّعبير عن مكنونها إلا بشكلٍ كوني"؛ وثانياً، تطوير مفهوم الوسط. وسأسعى من جانبي إلى تنبيهِ نفسي، وأرجو تذكيري إنْ نسيتُ، بتحويل المربَّع إلى شكلٍ ثلاثيِّ الأبعاد أشبه بـ’مكعَّب روبيك‘، إلا أن له نفسَ الخطَّة اللَّونية التي لدى المربَّع في نموذجنا اللَّوني؛ على أملِ أن نضعه على ’مشلعيبٍ‘، بلغةِ "الدَّراويش في بوادي الكبابيش"، أو سلَّةٍ مُتدليَّةً من عرشٍ، حتى نسمح للزَّمن بالدُّخول كعنصرٍ حاسم في النِّقاش، إضافةً إلى استخدام الحبال في استجلاء علاقة الوسط، صرفياً ودلالياً، بالوساطة. فالنَّظرُ البشري ليس بإمكانه إدراك كلِّ أبعاد المكعَّب، الأمر الذي يحتاجُ إلى وقتٍ في الواقعِ، أو في الخاطرِ، إلى تقليب نواحيه. أمَّا المربَّع الذي نحن بصددِه الآنَ، فيمكن إدراكُه، بصفتِه شكلاً مرسوماً على سطحٍ مستوٍ ثنائيِّ الأبعاد، في لحظةٍ واحدة، أو تصويره بكاميرا عادية في لقطةٍ لا يستغرقُ فتحُ مصراعِها سوى طرفةِ عين.





صورة




يحتوي الصَّف العلوي للمربَّع على ثلاثةِ ألوانٍ رئيسية، هي الأصفر (الذي يمثِّل الواقع)، والأزرق (الذي يمثِّل اللُّغة)، والأحمر (الذي يمثِّل العقل)؛ مقروءةً من اليمين إلى اليسار، في اصطفافٍ أفقي، يتيح للمرَّة الأولى والوحيدة الفرصةَ للتَّحدُثِ عن تميُّزها واستقلالها عن بعضهما البعض، إلا أن هذه الأقانيم الثَّلاثة تمتزجُ، وتتداخلُ، وتتشابكُ، وتتعانقُ، وتتراكبُ بكيفياتٍ لا حصرَ لها: أفقياً، ورأسياً، وقُطرياً، ومن دون ترتيبٍ كذلك. ومع ذلك، فقد كان تناولها الأفقي هو السَّائدُ في تاريخ الفكر الغربي المعاصر؛ وعندما نقول الفكر الغربي المعاصر، نشير إلى توجُّهين أساسيين في حركته: أحدهما يُمكن أن يُشار إليه بالتَّوجُّه القاري (ألمانيا وفرنسا، على سبيل المثال لا الحصر)، والتَّوجُّه الأطلنطي (بريطانيا والولايات المتحدة، على سبيل المثال لا الحصر)؛ علماً بأن هذا التَّقسيم، وإنْ كان جغرافياً في ظاهره، لا يعبأُ بالموطنِ الأصليِّ للمفكِّر، وإنما بتوجُّهِه الفكري. على سبيل المثال، لودفيج فيتجنشتاين ألمانيُّ الجنسية، أطلنطيُّ التَّوجُّه، خصوصاً في فلسفته الأولى؛ أما فلسفته الثَّانية، فقد فتحت، رغم احتجاجه ومعارضته، باباً واسعاً للتَّوجُّه القاري؛ وهما الفلسفتان، أو التَّوجُّهان، اللَّذانِ أشرنا إليهما في الرِّسالة بمنهجَيْ "الشَّجرة" و"الغابةِ" المتراميةِ الأطراف.

حاول الفيلسوف الأمريكي، جون سيرل، مُستفيداً من فترةٍ قضاها في باريس، وتعرَّف فيها على الفكر القاري عن قُرب، مقرونةً بفترةِ دراستِه في أكسفورد، التي تعرَّف فيها عن قُرب على التُّوجُّه الأطلنطي، أن يبني جسراً بين التَّوجُّهين. وكان يمكن لطه حسين، مُستفيداً من فترةٍ قضاها في باريس، وتتلمُذه الباكر على يد إميل دوركايم وليفي برول، أن يبني جسراً بين الفكر الأوروبي والفكر الإسلامي، عوضاً عن تناولهما منفردين. وما حاولناه في الرِّسالة، وسنسعى إلى ترسيخه في هذه المشاركات، هو بناءُ جسرٍ بين العلوم الطَّبيعية والفكر الإنساني واللُّغة البشرية، أو ما اصطلحنا على تسميته بمجال الحقيقة، توطئةً لتقييمه تحت قبس نور الحق. أمَّا في هذه الحلقة، فإننا سنكتفي بالنَّظر إلى الأقانيم الثَّلاثة، مع بداية الحداثة الأوروبية، على ضوء تجربةِ مجموعةٍ من الفلاسفة الألمان هم إيمانويل كانت، وويلهام دلتاي، وإدموند هوسرل، ومارتن هايدغر.

قلنا في ختامِ الرِّسالة، من ضمن حديثنا عن الحق والحقيقة، إن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت بعج في القرن السَّابع عشر ثنائيةً متوهَّمة، لا زال الفكرُ العالمي يعاني من متاعبها. إلا أن العلماء قد وجدوا طريقةً للالتفاف حولها، بإسقاطهم للجوهر العلوي، وتركيزهم على جوهرٍ واحد يمكن الاقتراب منه بالتَّجربة والتَّأمل، وهو مجال العلوم الطَّبيعية، التي لا يحتاجُ منهجُها، في تصوُّرِ الغالبية المهيمنة منهم، إلى تدخُّلٍ إلهي. أمَّا إيمانويل كانت، فقد بعج هو الآخرُ ثنائيةً بين "الشَّيء في ذاته" (النُّومينون)، الذي لا يمكن معرفته، و"الظَّاهرة" (الفينومينون)، وهي الحدثُ الذي يمكن رصده وتحليله وإنتاجُ معرفةٍ علمية بصددِه. فهيَّأ هو الآخرُ طريقاً ممهَّداً للعلماء، يمكِّنهم من تناسي "الشَّيء في ذاته" أو إسقاطه تماماً، بالتَّركيز على ما يمكن معرفته عن طريق المنهج العلمي، الذي يعتمد على الملاحظة والاختبار والتحقُّق أو التَّفنيد، توطئةً لصياغةِ قوانينَ مطَّردةٍ بصددِها، لها سمةُ الاستقرار، ولو بشكلٍ مؤقَّت.

وعلى إثرِ فكرة كانت، نشأ تيارٌ من الكانتيين الجدد لا يرى في تصوُّره لأقنوم "الواقع" سوى هذه الظَّواهر القابلة للمعرفة العلمية؛ أمَّا "الشَّيء في ذاته"، فقد احتُبس إلى الأبد فيما وراء الظَّواهر البادية للعيان، والقابلة في نفس الوقت للتَّحليل العلمي. إلا أن المعرفة العلمية، إبَّان القرن التَّاسع عشر في ألمانيا، كانت تنقسم إلى طبيعية (ناتورفيسينشافتن) وروحية (غايستسفيسينشافتن)، تشمل ما نعنيه حالياً بالعلوم الاجتماعية، إضافة إلى التَّاريخ؛ فرأى فيها ويلهيم دلتاي، إضافةً إلى الدِّراسات الأدبية والجمالية وغيرها من منتجات الثَّقافة الإنسانية، تعبيراً عن العقل البشري، وربطها ربطاً محكماً بالتَّفسيرية (الهيرمنيوطيقا)، أو علم "التَّأويل"؛ وبما أن هذه العلوم تهتم بالمنتجات الإنسانية، فإنها تحمل في طيَّاتها معنًى أو دلالة مُسبقة، لذلك فإن التَّعامل معها يتمُّ عبر أُقنوم "اللُّغة"، وتحديداً النُّصوص؛ وبما أن دلالة النُّصوص لا توجد خارجها كالظَّواهر الماثلة للعيان، التي تتناولها العلوم الطَّبيعية، فإن أفضل طريقة للتَّعامل معها هو القفز إلى حقلِ تفسيرها، وهو ما يُسمِّية أستاذُه، فريدريش شلايرماخر، بـ"الدَّائرة التَّفسيرية للدَّلالة".

على خلاف كانت ودلتاي، تفرَّد إدموند هوسرل بالتمترُّس بأقنوم "العقل"، معتمداً على ثلاثةِ مرتكزات: العقل باعتباره موطناً للأفكار؛ قصدية (توجُّهية) الوعي (أو متَّجهه) أو ما يومئ أو يشير إليه؛ والنَّهج القائم على اختزال الموضوع القصدي ذاته إلى مظاهره التي يتمُّ استدعاؤها في الذِّهن، في أعقاب تعليق التوجُّه الطَّبيعي. إلا أن أهمَّها قصديةُ الوعي، وهو المبدأ الذي استلفه من فرانتز برينتانو؛ ويتلخَّص في أن الوعيَ وعيٌ بموضوعٍ من موضوعاته؛ ونسبةً لطولِ هذه المشاركة، وتعقُّدِ موضوعاتها، ووصولِنا إلى الموضوع الذي طرحه مسعود، وخشيةً من التَّسرُّعِ في تلخيص قصدية الوعي، سنتوقَّف هنا، حتى نتمكَّن، بإذن الله، من تناول الموضوع مجدَّداً بشيءٍ من الجدِّية الذي يستحقه، مع تمتُّعنا بمناخٍ طازجٍ وقدرةٍ أكبر على تبسيط الموضوع. ولا شكَّ أنني سأتذكَّر التَّعرُّض إلى هايدغر، الذي حاول ربطاً ما لهذه الأقانيم. إلا أنني أحتاجُ إلى مَنْ يُذكِّرني، إذا نسي الصَّادق إسماعيل (وياله من اسم!)، بأن لكلِّ واحدٍ من هذه الأقانيم مستويين: ظاهرٌ، وخفي؛ حرفيٌّ، واستعاري؛ ونفسيٌّ وظاهراتي. هذا بالطَّبع غير المستويات المتداخلة التي أشرنا إليها، والتي يعبِّر عنها نموذجُنا اللَّونيُّ في سَمتِه المربَّع؛ فنحن ما زلنا في الاصطفاف العلوي الأفقي، الذي تنماز فيه الألوانُ، وتستقلُّ برأسِّها في هذا الوسطِ السَّامي، قُبيل تلقِّيها وساطةً من علٍ.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

العزيز خلف
ما زلت أتابع هذا التدفق المعرفي
الذي يثير الكثير من الأسئلة المهمة
وسأُنَبِّهك إن شاء الله، إن نسيتَ، إلى الفكرتين.
أضف رد جديد