Story Lesson أو الحِصَّة قِصَّة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

أود أن أستهل هذه المداخله بالآتى إن هذه الكتابه إذا عُرضت على دون معرفة كاتبها لحسبت كاتبها مالك بن نبى كتاب ألمّ
صاحبها بعلوم الشرق والغرب وألم بوحدانية الرساله وإتساعها لمستجدات الواقع الكونى وقدرة كل رسولٍ بتنزيل ما يناله من إبتلاء بصبرٍ وجلد. نعم إنها كتابة
معجزه لتناولها للعادى بقدرات غير عاديه وأسلوب المتمكن الراسخ الواقف على الآداب والفنون والعلوم واللاهوت والناسوت كتناول آيات الله للأشياء من كل الجوانب
لتتراقص تفاصيل كلياته لعين خيال الفنان عبدالواحد وراق ليجسدها لعينى أذنى عرائس من جمال خرافىٍ هلامى، فبقدر ما أستوقفتنى فقد إستوقفت محمد عبدالرحمن
شقل وطواها صحائفاً من إبداع يطوف بها فى المجالس الأدبيه والمنابر المعرفيه يظن متلقيها إنها من خفايا حميد فيجدها من يماثله فى الصدق والإلتزام والحس
الإنسانى الكبير والفتح الرحمانى الذى يخص به الله أهل السعة والقدره على توصيله للناس وكيف لا وهذا الفتح المعرفى المتسلسل أى عقادٍ قعده كما ينبغى كما
ظل يقدمه خلف للقراء كوجبةٍ كاملة الأركان لتشبع قو متلقيها وتسنده حتى موعد الأخرى التى تتشابى أرجل غرائز الشوق المعرفى إليها وتطول الأعناق لذا يبين
التطواف فى توصيف مذاقاتها والأسئله الجريئه عن أنواع البهار فيها وعن طرائق تحضيرها وبإندهاش لا يغيب عن فطنة المتابع، أقول وقد أخذتنى ثلاثة أشهر عن
حوضها ولكن لم تأخذها عن الذاكره بل ظلت حاضرة فى كل مرفق وقفت عنده وتزداد وهجاً عندما ألتقى ببعض من إرتبط بها كلقائى بشقل وبابكر الوسيله
والسر السيد والجندريه وبعض الأماكن وبعض الأجواء والأحوال وبعض الناس فكان لقائى بطاهره الخليفه تطواف أبان عمق العباره التى بذلها مسعود والثوره وبكار
والأهليه ومحمد حسين لا بل البكرى وشرفى جميعها أشعلت وهج تلك الكتابه ورسختها فى الذات الوثابه، فيا خلف يا ذلك المخلص الوفى فإنك عند تقديمك للثناء
تقدم المعرفه والجمال والأدب وتقدم الفكر والعلوم ويا بخت من يتابع هذه الكتابه التى يزداد وهجها كلما إزدادت وازداد وقوفنا عليها فيا خلف والقراء أتمنى أن
تجدوا لنا العذر فى الغياب القسرى وأتمنى أن يثمر حضورنا فى ايراقها ويناعتها.


منصور
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

كان محمد خلف قد وعد بسردية تنقلنا إلى الأندلس كما إلى جنوب مصر. ها هو الآن ينفِّذ وعده بالتهيئة لتلك الانتقالة، وهي انتقالة يمكن وصفها بأنها زيارة مختلفة إلى التاريخ، من أجل "التاريخ" نفسه، كما، أو أيْ، من أجل الحاضر بالدرجة الأولى:




تشابُكٌ كمِّي: سبعةُ قرونٍ من التَّفاعل أم سبعمائةُ عامٍ من العزلة؟



قلنا في متنِ "الرِّسالة" إن الأستاذ جمال محمد أحمد -أولَ رئيسٍ لاتِّحادِ الكتَّاب السُّودانيين- كان يُدركُ الفروقَ الجوهرية بين الرِّوايةِ والتَّاريخ، وكان يميلُ ميلاً نحو الأولى، من غيرِ أن ينفرَ عن الأخيرِ نفوراً. سنُحاولُ في هذه المشاركة أن نترسَّمَ خُطى الأستاذ الجليل بتناولِ حدثينِ تاريخيين، نميلُ بهما بِدَورِنا ميلاً نحو السَّرد، من غيرِ أن نُعرِضَ تماماً عن حُكمِ التَّاريخ. الحدثُ الأول، موضوعُ الحلقةِ القادمة، يتعلَّقُ بسياسة بسمارك، بشقيها الدَّاخلي والخارجي، كما كنَّا ندرسهما، ونحفظهما حفظاً إبان المرحلة الثَّانوية، عِلماً بأننا سنميلُ بهما نحو سردياتِ الحداثة، لنرى كيف كان نيتشة وفاغنر وشيلر وماركس ورهطٌ من الهيغيليين الصِّغار يجترحون حلولاً لأزمةِ بلادهم إبان الحرب البروسية-الفرنسية في عام ١٨٧٠-١٨٧١ (في أعقاب فشل ثورتي عام ١٨٣٠ وعام ١٨٤٨).

أمَّا الحدثُ الثَّاني، موضوعُ هذه الحلقة، فهو الرِّحلةُ التي وعدنا بإعدادِها للقارئ الكريم، عِلماً بأننا سنقومُ بها لمكانينِ، في نفسِ الوقت معاً، مع إنهما يبعدانِ عن بعضِهما البعض آلافَ الأميال، فالإقليمُ الأول يُوجد في بلاد الأندلس، بينما تمتدُّ المنطقة الأخرى فيما وراء بلاد ’المريس‘. بالطَّبع، فإنَّ عِلْمَ الميكانيكا الكلاسيكي لا يسمِحُ بإقامةِ مثل هذه الرِّحلةِ المستحيلة، ويُصِرُّ على إيجادِ صلةٍ ’فيزيائيةٍ‘ ملموسة بين أيِّ جسمينِ متباعدين؛ غير أن ظاهرة التَّشابك، في إطار ميكانيكا الكم، تُشيرُ إلى إمكانيةِ قيامِ علاقةٍ بين جسمينِ تفصِلُ بينهما مسافةٌ بعيدة، إلَّا أنَّهما، مع ذلك، يرتبطانِ فيما بينهما بالتَّعاكس، بحيث يقومُ كلُّ واحدٍ منهما بتحريكٍ متناسقٍ للآخر، فلا يُمكِنُ لذلك دراسةُ أيٍّ منهما بمعزلٍ عن الآخر؛ هذا إضافةً إلى أنَّ كلَّ واحدٍ منهما، برغم البونِ الشَّاسعِ بينهما، "يُدركُ" ما يلمُّ بالآخر، فيتصرَّفُ على الفورِ بمقتضى ذلك "الإدراك"!

بعد بضعةِ عقودٍ من الهجرة النَّبوية، تحرَّك جيشانِ متشابكانِ كمِّياً بأمرٍ من قائدٍ إسلاميٍّ في القاهرة. تحرَّك الجيشُ الأوَّلُ غرباً، قاصداً بلاد المغرب؛ وتحرَّك الثَّاني جنوباً، قاصداً جنوبَ مصرَ، أو صعيدَها، الذي كان يُعرف ببلادِ ’المريس‘. وقد كان تحرُّكهما في وقتٍ واحد، بل في لحظةٍ واحدة؛ وقد وصلا كذلك إلى غايتِهما المقصودة في لحظةٍ واحدة. وجد الجيشُ الأولُ عائقاً مائياً شكَّل أمامه حدَّاً طبيعياً، ووجد الثَّاني امتداداً أرضياً شكَّل أمامه تُخوماً مفتوحة، أو صعيداً شاسعاً بلا حدود؛ فتشاورَ القائدانِ عن ’بُعدٍ‘ (ليس عبر مجالٍ كهرومغنطيسيٍّ، أو بتواردٍ لخواطرَ شاردةٍ، أو تخاطرٍ ذهنيٍّ على طريقةِ "يا ساريةُ الجبلَ"، وإنَّما لأنهما في الأساسِ جِسمانِ متشابكانِ تشابكاً كميَّاً، يسمِحُ لكليهما بتلمُّسِ مشاعرِ الآخر، والتَّنبؤِ بخطواتِه، والعملِ بمقتضى ذلك التَّنبؤ، الذي تتحكَّم فيه آليةُ التَّعاكُسِ المُشارُ إليها).

كان الأحرى بالأول أن يتوقَّف، لكنه آسَرَ ركوبَ الموجِ ومواجهةَ الصِّعاب؛ وكان الأحرى بالثَّاني أن يتقدَّم، لكنه واجَهَ موجةً من أعمالِ المقاومة التي يقودُها أُناسٌ شديدو المِراس، وصفتهم مَرَاجِعُ رائجةٌ بـ"رُماةِ الحدق". غزا الأولُ بلادَ الأندلس، وقضى فيها سبعمائة عام؛ واستقرَّ الثَّاني في بلادِ ’المريس‘، بعد أن أخذ عهداً مع النوبة المسيحيين (في نوباتيا أو المقرَّة، وفقَ مَرَاجِعَ لم يقِر لها قرارٌ بشأنِ أيِّ المملكتين المسيحيتين هي أقربُ لأن تكونَ هي الطَّرفُ الثَّاني في المعاهدة، أو "البقط"، نسبةً إلى مفردة "باكتوم" اللَّاتينية، التي اشتُقَّت منها كلمة "باكت" الإنجليزية)، وقضى فيها أيضاً سبعمائة عامٍ في منطقة التُّخوم، الممتدَّة من بلاد ’المريس‘ إلى مشارفِ دنقلا التي دُمِّرت في وقتٍ لاحق بالمنجنيق.

(بالطَّبع، يُمكِنُ لمؤرِّخينَ نابهينَ أن ينجزوا صياغاتٍ مختلفة، تتحرَّى دِقَّةً مطلوبة، وتقتربُ بهم بشكلٍ مطَّرد نحو حقيقةٍ منشودة؛ فيُمكِنُ لهم، على سبيل المثال، أن يقولوا إن الهدنة مع النوبة حدثت بعد ٣١ عاماً من الهجرة النَّبوية، بينما تمَّ فتحُ الأندلس بعد ٩٢ عاماً من حدوثِها؛ أو أنَّ العهدَ مع النُّوبة استغرقَ نحو ٧٠٠ عام، بينما استمرَّ حكمُ العربِ لإقليم الأندلس نحو ٨٠٠ عام. كما يُمكِنُ لناشطينَ ثقافيينَ أن ينتقدوا الإجحافَ الذي انطوت عليه شروطُ المعاهدة، بينما يُمكِنُ لآخرينَ غيرِهم أن يُركِّزوا على فكرةِ التَّحاورِ بين الأديان. إلا أننا ننشِدُ هنا إطاراً سردياً يسمحُ لناشطينَ ’حضاريينَ‘ –إنْ جازَ التَّعبير- باستحضارِ الماضي لإجراءِ حوارٍ متحضِّرٍ، وفي خدمةِ الحاضرِ كذلك، بين حدثينِ بعُدت بينهما الشُّقَّة، وتباعدت أزمنتُهما بعضَ التَّباعدِ، إلا أن هدفَهما متقارِبٌ، إنْ لم يكن متطابقاً تماماً.)

صحيحٌ أن كلمة "بقط" مشتقَّةٌ من أصلٍ لاتيني هو "باكتوم"، كما ذكرنا في فقرةٍ سابقة، ولكن اشتقاقَها الكبير، بالمعنى الذي قصده أبو علي الفارسي، الذي أشرنا إليه في متنِ "الرسالة"، وفي عددٍ من المشاركات، يُشيرُ إلى استخدامِ أربعةٍ من تقلُّباتِها، وهي: بقط، قبط، طبق، قطب. تُشيرُ الأولى إلى المعاهدة الشَّهيرة بين أميرٍ إسلامي، هو عبدالله بن أبي السَّرح، وآخرُ نوبي، يُشارُ إليه بـ"عظيمِ النُوبة" في العهدِ المبثوثِ في نصِّ المعاهدة؛ وتُشيرُ الثَّانية، خصوصاً في المراجع العربية القديمة، إلى عمومِ أهلِ مصر، فهي مشتقَّةٌ من كلمة "إيجيبتوس" الإغريقية؛ أمَّا في الاستخدامات المعاصرة، فإن دلالتها تنحصرُ في الإشارةِ إلى المسيحيينَ منهم فقط. إلا أن ما يهمُّنا في هذه التَّقاليب الأربعة هو دلالة الكلمتين الأخيرتين (طبقٍ وقطب) في تقاطعِهما مع التَّحليلِ ’الحضاري‘ الذي نسعى إلى التَّنبيه إلى أهميته، في مقابل الطرح الثَّقافي المتداول في تحليلِ المعاهدةِ التاريخيةِ المعروفة.

يستخدمُ الكاتبُ الأمريكي ريتشارد رايت في كتابه الموسوم بـ"اللاصفر: منطق مصير الإنسان" كلمة طبق أو "طبق بِترِي" (نسبةً إلى عالِمِ البكتيريا الألماني يوليوس ريتشارد بتري)، أو زوجٍ منهما، لاختبارِ دورنةِ الشعوبِ التي استقرَّت في الأراضي الجديدة، بعد أن تقطَّعت بهمُ السبلُ المؤدِّية إلى الأراضي القديمة، بعد ذوبانِ معبرِ بيرنج الجليديِّ الافتراضي الذي كان يربط قارة آسيا بأمريكا؛ فينظرُ إلى كلتيهما باعتبارِهما طبقينِ مختبريَيْن: طبقٌ قديم نعرفُ مراحلَ دورنةِ شعوبِه، وطبقٌ جديد شرعت شعوبُه المنعزلة عن بقيةِ العالمِ في التَّدورن، في استقلالٍ تام، بحيث يُمكِنُ القولُ إن حضاراتِها تتميِّزُ بتنوِّعٍ واضحٍ في ثقافاتِها؛ وكان يُمكِنُ لهذه الثَّقافاتِ أن تمضي في دورنتِها المستقلة، وتُنشئُ لنفسِها مساراً خاصاً بها، متميِّزاً بعضَ التّميُّزِ، ولا يختلفُ كثيراً عن النَّمط البشريِّ العام، لولا بشاعةُ الكونكيستادور التي دمَّرت جحافلُها حضارتي المايا والإنكا، إضافةً إلى التَّدخُّلِ الأوروبيِّ اللَّاحق الذي أدَّى إلى تراجعِ الشعوبِ الأصلية واحتمائها بمناطقِ التُّخوم.

أمَّا نَحْنُ، فنستخدمُ في وصف الرِّحلة "المستحيلة" المُشار إليها مصطلح ’قطب‘، أحدَ تقاليب الاشتقاق الأكبر، للإشارةِ إلى التَّشابكِ الكميِّ المتعاكس (ويُوصف هذا التَّشابكُ بالكميِّ، نسبةً إلى ’كُوانتَم‘، وكان الأفضلُ استخدامَ لفظة ’كُوانتيِّ‘ المُعرَّبة، إذ إن الكلمة المترجمة في الاصطلاحِ العلميِّ العربيِّ الدَّارج تتقابلُ مع لفظةِ ’نوعي‘، فربما تُربِكُ القارئ، فتُثيرُ أمامه بعضاً من الخلطِ غيرِ المقصود؛ ويُوصفُ أيضاً بالمتعاكس، لأنه يتضمَّن فكرة التَّقابلِ الفوري؛ فإذا كان هناك طرفٌ مُوجِبٌ، فإنه يستلزمُ أن يكونَ الآخرُ سلبياً، وبالعكس؛ فلذلك، فضَّلنا استخدام كلمة ’قطب‘ في وصفِ هذا التَّشابك). وكما سيتَّضحُ، فإن هذا التَّشابكَ الكوانتيَّ المتعاكس يُناسبُ تماماً حالاتِ اتِّخاذِ القرارات والنتائجَ المُستحصلةَ منها في كلٍّ من حدودِ إقليمِ الأندلس وتُخومِ بلادِ ’المريس‘.




ما زلنا نتحرَّكُ داخل الفضاءِ السَّرديِّ الذي افتتحه لنا باقتدارٍ مدهش الصَّديقُ القاص عادل القصَّاص، إلَّا أننا نتلمَّسُ بدءاً من هذه المشاركة ملامحَ رؤيةٍ سَردِيَّةٍ قابلةً -إضافةً إلى تكشُّفِها رويداً رويداً فيما يأتي من مشاركات - إلى استيعابِ مساهماتٍ ثرَّةٍ من العديدِ من الكُتَّابِ والمفكِّرين، هذا غيرُ احتمالِ تمكُّنها من إعادةِ تفسيرِ عدَّةِ مساهماتٍ أدبية وفكرية سابقة في السَّاحة (بما فيها مساهماتٌ لي، خصوصاً دراسةٌ منشورة باللُّغة الإنجليزية تحت عنوان: "رحلة مصطفى من الصَّعيد – أوديسا لبحثٍ عن هوية"، كان الأستاذ الصَّحفيُّ الصَّديقُ محمد عبد الحميد عبد الرَّحمن قد وعد بترجمتها، غير أن مشاغلَ شغلته بالبيتِ في هولندا، وبالعملِ مع إذاعتها الوطنية – كيف حالُ حواءَ وداليا ومظفَّر ولطفي؛ وأيُّ أخبارٍ ترِدُ إليك من صلاح إدريس الطَّويل، ومحمد عبد المنعم فوكس، وريَّا عبد السَّلام، بعد رحيلٍ فاجعٍ لعبد السَّلام حسن عبد السَّلام)؛ فريثما نستكملُ جوانبَ أساسيةً لهذه الرؤية الجديدة، سنتركُ الفلاسفةَ والمفكرين الألمان الذين أشرنا إليهم في البداية لفترةٍ على مقاعدِ الانتظار، مثلما علَّقنا من قبلُ حديثاً مُهِمَّاً عن أربعةٍ من أبناءِ جلدتِهم، على رأسِهم إدموند هوسرل. ومع ذلك، فإننا ندعو كلَّ مَنِ التقطَ جانباً من جوانبِ هذه الفكرة وأراد أن يَشرعَ في تطويرِها أو يُبادرَ في المساهمة في إطارِها على الفور، ألَّا يتردَّد لحظةً في اعتلاءِ مِنَصَّةِ هذا الرُّكن وتملُّكِ ما يَشَاءُ من نواحيه التي بذلها لنا الصَّديقُ القاص بكرمِه الأُسطوريِّ المعهود.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد يونيو 12, 2016 2:56 am، تم التعديل مرة واحدة.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »


ول ابا منصور..حبابك يا صديقي
والتحية من عبرك لأستاذنا محمد خلف..
واذكر جيدا اني كتبت تخاطرات منذ سنة وتزيد ..وتاهت مني في جخانين الكمبيوتر..!!
وهي مطايبات لأستاذنا الجميل محمد خلف.. وهو رجل سمعنا عنه في فيافي قد لا تخطر له ببال قط..في الضاحية الشرقية من مدينة الدلنج ، والتي منها ، ايام الشباب ، نجرنا اسم تجربتنا الخاصة في الشعر والفلسفة والطنقعة ، واسميناها (غرفة شرق المدينة)..وقتها كانت مثل هذه الأسماء..محمد خلف ومحمد خلف ومحمد المهدي ومحمد المهدي ..وغيرهم من الأسماء كانت تناوش اسماعنا بالمحبة والفضول..و نحن نشيل ونكتب في مذكراتنا الصغيرة المجوبكة: هذا مثقف يجب أن نقرأ له ونعرفه اكثر..!
والسبة التي جمعتنا بهم ، هي احد خريجي معهد الموسيقى والمسرح ، استاذنا الجميل دكتور فرح حمد من اهالي تمبول.. وكان وقتها يعمل بمعهد التربية الدلنج ، وكان يعرف فضولنا المعرفي المتحيز: يا استاذ دايرين نعرف عن ناس امسودان يااااااخ.. وفرح يشيل ويشرح لينا ويقدم الأسماء.. ويا سبحان الله بنفس وفائية محمد خلف هنا.. يذكرون الأسماء ويحقون الحقوق دون من أو اذى..!!
بيد ان الأمر لم يتوقف عند فرح حمد ، وانما صديقنا وعمنا حامد جاجا ، هو الآخر كان يذكر تلك الأسامي المضيئة ونحن في قعر الجبل في مدينة الدلنج..!!
بسبب هذا الخيط يا منصور ، مشيت مكتبة..
Chapter
واشتريت لي نسخة ، رخيصة طبعا بتاعة ام سبع دولار وكده..من كتاب..
عمنا روبرت..
( الزين وتصليح العجلات)..واعفي لينا يا استاذنا محمد.. نحن شعوب بتحب تسودن الحاجات للأخر يااااااااااااااخ.. عشان تعرف كيف تتواصل معاها..!!
نحن من نقتل المثقف وبتشفي كمان..!!
هذا المنبر ، حام فيهو مسعود محمد علي ، عبد اللطيف علي الفكي ، اسامة الخواض ، مصطفى ادم ، عبد الله بولا..ايمان شقاق ، احمد المرضي.. والنصري امين..!!
وما وريتك بدع النصري يا منصور..ياخي حايم ليهو في غرفة واتساب ، بتاعة ولاد وبنات حلتهم..والغريبة طلعوا بنعرفهم بطريقة او باخرى..!!
غايتو النصري لو عرف ..ح يقع من طولو..!!
اخر فيديو تبعنا ، نشرناه هنا ، وكتر خير بعض المناتلين فحطوا بيهو زي السلام عليكم ، فيديو ضائع مننا لسنوات ، وقام النصري (وهو من سجله ، وقد وثق لنا اشياء جميلة ، كلما نشوفها نقول كتر خير النصري ياااااخ) ، يدري أو لا يدري ، نشروا في غرفة الواتساب الخاصة بعيال حلتهم ، فيذهب الفيديو الى الخرطوم عشان يرجعوهو لينا هنا في كندا ، ونقوم ننشروا تاني..!!
ياخي دنيا ضيقة بشكل..!!
عطاشى يا صاحب ، ويا صبايا دولوني على السبيل يااااااااااااااخ..!
ليت عادل القصاص ، او بقية الميامين ، يبرونا بنص (زنكوغرافيا)..!!
فلقد تقطعت سفنجانتنا ونحن نختبر المعنى والمقاربة في زنك الجزارة بالسوق الشعبي امدرمان ، لأن الزنك الأصلي لم نستطع اليه سبيلا..!!


عييييييييييييييك يا منصور..!
ده حالتو لسع ما جات سيرة جعفر اسماعين ، العظيم عاصم حنفي ..ازهري شرشاب..يوسف الحبوب ، محمد علي نجيب..!!
ياخي نحن جابونا من وين يا عمك..!!!!

نشعر اننا الأجمل ، والأجمل كثيرا ، حينما نقرأ لمحمد خلف..!!

التحية لأستاذنا محمد خلف..

كبر
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

الأخ كبر لك من السلام الكثير الوافر، وتلك المحطات التى إستوقفتك باكراً بالدلنج وغرست فيك ذلك الشوق إلى خلف وصحبه الميامين تلكم المنارات التى فتح لكم أساتذتكم نوافذا إليها وبتم تناغون الوصول إلى أعماقهم كفاحاً أو عبر أى وسيط، وحتماً كانت الجامعه وحراكها المعرفى والأدبى قد قدم لكم ما تيسر عنهم وكذا نادى الكتاب والكتابات الصحفيه والندوات العامه وبعض الأصدقاء كمحمد النعمان وآخرون بعد أن أخذت الغربة خلف عن المكان الذى كان يصول فيه ويجول حتى سخر الله لنا نوق السايبر العصافير لتأتينا من سبائه بتلك الأنباء الساره والنبؤات المعرفيه الباهره كما فى آخر مداخلة له عن التشابك وما أثاره عنه بمثالى بلاد الأندلس وبلاد مريس ومرس لنا فنون المعرفة مرساَ وسقانا لها فكراً قراح يريح روح العقل ويطرب عقل الروح. أما من جاء ذكرهم من الصحاب سادات المنتدى الأدبى فى عصره الذهبى ونقدم محمد نجيب محمد على ونضعه فى الصداره لأنه سبقنا وما زال يفعل بفراسخ ضوئيه وهنالك رباط بينى وبينه وخلف وكذلك التجانى سعيد إبن عمه هو دراسة الفلسفه إلا أن خلف قد قرح فيها وكذا التجانى الميال للتصوف والزهد، ولمحمد نجيب قصيدة فيها من تشابك خلف ما ما فيها وفيها يقول (أكاد لا أعى من الأمور غير ظاهر خفى) أما إبن الأبيض عاصم ومطولاته وفكاهيته وصوتهوبريق عينيه وكأنه يلقى أمامى الآن إحدى روائعه وجعفر إسماعيل وصوته الجهور وشقيقه حسن ومجدى حسبو وعبدالرحمن ومن معهم من الرائعات كسميره الغالى وسميه جيلانى وبنت منصور والسلسله تمتد وتمتد، فيا عزيزى كبر هذه السانحه كما المائدة من السماء زاداً أبدياَ وفرته لنا مطايا النت المطيعه وأتمنى أن نراك هنا دوماَ حتى تضع لمساتك المعرفيه وبصمتك الأدبيه لعطاشى المعرفه والأدب.

ولك الشكر والسلام

منصور
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الآن إلى هذا "التمهيد الثاني" لرحلتيْ محمد خلف اللتين ستقوداننا معه إلى بلاد المغرب والأندلس وجنوب مصر أو بلاد النوبة:



القبسُ السَّاطعُ من جبلِ النُّور والطَّبيعةُ المزدوجة للضُّوء



كان حتماً مقضِيَّاً على النُّورِ الذي سَطَعَ على غار حراء أن يسري، بعونِ الله، في الأرض؛ إلَّا أنه عند اصطدامِه بعقباتٍ مكتوبةٍ في الطَّريق، تتكشَّفُ للعيانِ الطَّبيعةُ المزدوجة للضُّوء؛ فما تنزَّلَ على محمَّدٍ خلال نَيفٍ وعشرين عاماً هو الحق؛ أمَّا ما اتَّخذه أصحابُه من قراراتٍ، فهي تخضعُ لمنطقِ الحقيقة وتشظِّيها في هذه الدَّارِ الآدميةِ الدُّنيا. وإنَّ أسطَعَ دليلٍ على ذلك هو نشوبُ معاركَ حول قضايا بعينها انقسمَ فيها الصَّحابةُ الخيِّرون إلى معسكرَيْنِ مُتناحِرَيْن، يعتقدُ كلُّ معسكرٍ منهما صادقاً أنه حاملٌ للحق، مما دفع آخرون لا يقلُّون عنهم في ميزانِ الخير والعدل إلى التزامِ جانبِ الحياد، ولا نقولُ الإرجاء، خشيةً من تضميناتٍ سلبية، وإعادةِ تدويرٍ لمفاهيمَ أكلَ عليها الدَّهرُ وشرِب.

اعتقد القائدُ الذي قاد الفرقة التي اتَّجهت غرباً نحو بلاد المغرب أن الحدود الطَّبيعية التي انتصبت أمامَه بحراً متلاطمَ الأمواجِ لم تكن في واقعِ الأمرِ عائقاً يُثنيه عن إكمالِ مهمته التَّبشيرية، فحَمَلَ مع جُندِه مشاعلَ النُّورِ إلى "أندلسٍ خِصب"، وإلى مشارفِ حدودٍ جبلية، تقبع خلفها تخومٌ تقودُ مباشرةً إلى أرجاءِ أوروبا "المُظلِمة". وتكثيفاً لاستعارةِ "إظلامِها" المعرفيِّ، سبق أن أشرنا في أحدِ المشاركاتِ إلى قولِ عالِمِ الفيزياء الأمريكي إستيفن واينبرج، نقلاً عن كتاب فيليب خوري هيتي "تاريخ العرب"، بأنه "بينما كان هارون الرَّشيد والمأمون في الشَّرق يعكفون على دراسةِ الفلسفتين الإغريقية والفارسية"، فيستقبلونَ في بلاطِ بغدادَ رَهطَاً من الفلاسفة والعلماء ويُنشئون لهم داراً للحكمة، "كان معاصروهم في الغرب، شارلمان -ملك الفرنجة- وبطانته، هواةً ينشغلون بحِرفةِ كتابةِ أسمائهم".

أمَّا القائدُ الذي اتَّجه جنوباً صوبَ بلادِ 'المريس'، فقد اعتقد أنه وجد عائقاً انتصب أمامَه كالطَّود، متمثِّلاً في مقاتلي النُّوبة شديدي المِراس، حتى لكأنَّ بلادَهم سُمِّيت ببلادِ 'المريسِ' لهذه الخاصِّية بالذَّات، وليس لارتباطها الفعليِّ بكلمتَيْ "مُوْر" الإنجليزية ذاتِ الأصلِ الإغريقي، و"مُوريسي" اليونانية؛ وتُطلقانِ على سكانِ موريتانيا، والمغرب والجزائر، والعرب الذين اختلطوا بالبربر. وقد حرصنا منذ البداية بتنبيهٍ حاذقٍ ولبِقٍ من الصَّديق الشَّاعر سيدأحمد علي بلال، ولمعرفتِه اللَّصيقةِ والحميمة باللُّغةِ اليونانية، على استخدامِ علامتَيْ الاقتباس التَّخويفيتين عند الإشارة إلى كلمة 'مريس'، خصوصاً وأن آراءَ غيرَ مستنيرةٍ تُحَمِّلُ الكَلِمَةَ بِدَلالاتٍ ازدرائية، فتصِفُ النُّوبة بالبرابرة، مثلما يصِفُ الأوروبيون العربَ بعد خروجهم من غَرناطة بالبربر.

من الخواص التي أصبحت معروفةً لدينا عن الضُّوء أنه ذو طبيعةٍ مزدوجة، فهو من جانبٍ جُسيمٌ، وهو من جانبٍ آخرَ موجة؛ فمن ناحيةٍ يُمكِنُ النَّظرُ إليه باعتباره جُسيماً، كما يُمكِنُ من ناحيةٍ أخرى النَّظرُ إليه باعتباره موجة؛ كما يُمكِنُ أيضاً، وهو الأمرُ المحيِّرُ بالفعل، اعتبارُه جُسيماً وموجةً في نفسِ الاَن. وقد أثبتتِ التَّجاربُ منذ القرن التَّاسع عشر أن الضُّوء عبارة عن موجة، إذ إنه يُحدِثُ تداخلاً عندما يعترض طريقه عائق (حاجزٌ أو طود، كما في استخدامِنا الاستعاري، وهو الجبلُ العالي المرتفع). إلَّا أن تجربة الثُّقب المزدوج قد أثبتت أن الضُّوء عبارة عن جُسيم، إذ إنه يدخل في الثُّقبين كلٍّ على حدة، فوتوناً على إثرِ آخر (والفوتون هو أصغرُ جُسيمٍ للضُّوء)، ولا يدخلُ إلى الثُّقبينِ معاً، كما يُتوقَّعُ لو كان الضُّوءُ موجة؛ غير أنَّ التَّجربة أثبتت أيضاً، وهذا هو مربطُ الفرسِ الذي سنستخدمه في توغُّلِنا عبر التُّخوم، أن الفوتوناتِ التي تمرُّ عبر الثُّقبين، تُشكِّلُ إذا ما اصطدمت بحاجزٍ خلفهما تداخُلاً (إنترفيرنس)، لا يستبينُ من أولِ وهلة؛ ولكن، عندما تتراكمُ الجُسيماتُ عبر الثُّقبين، فوتوناً على إثرِ آخر، يبدو التَّداخلُ واضحاً على سطحِ الحاجزِ الخلفي.

لا نُريدُ أن ندخلَ في تفاصيلِ التَّفسيراتِ المتعدِّدةِ ضمن الميكانيكا الكُوانتية، التي تنظرُ للضُّوءِ تارَةً كُجسيم، وتارَةً كموجة، وتارَةً أخرى بوصفِه الاثنين معاً في ذاتِ الآن؛ لكننا ننشدُ استخداماً سَردِيَّاً، نُشبِّهُ فيه الحاجزَ النُّوبيَّ الذي أُقيمَ في أعقابِ معاهدة البقط بالسَّدِ أو الطَّودِ أو الجبلِ الشَّامخ، كِنايةً عن كفاحٍ باسلٍ "لأهلِ مَدَرَةٍ سوداءَ سُحمٍ جِعاد"؛ ونُشبِّهُ التَّواضعَ على اتِّفاقٍ بين قائدٍ إسلاميٍّ وعظيمٍ مسيحيٍّ لمملكةٍ نوبيَّةٍ بالثُّقبين؛ ثم نُشبِّهُ أخيراً، كما فطِن الأستاذ النَّابه محمد المكي إبراهيم، في كتابه الموسوم "الفكر السُّوداني - أُصُوله وتطوُّره"، دخولَ الإسلامِ إلى السُّودان، أو على حدِّ تعبيره الموفَّق تسرُّب الثَّقافة الإسلامية "مع قوافل الحجيج؛ وفي أخراجِ التِّجار، وحقائب الدُّعاة والمسافرين" – نُشبِّهُ كلَّ ذلك بتراكمِ الفوتونات المُنسربة من خلال الثُّقبين (اتِّفاق القائدين)، فوتوناً واحداً على إثرِ آخرَ، خلف الحواجزِ القائمة فيما وراء التُّخوم المتراجعة دوماً في اتِّجاه الصَّعيد (أعلى النَّهر - جنوباً في حالة نهر النِّيل).

إلا أننا نرغبُ الآنَ في إجراءِ رحلةٍ سريعةٍ إلى ألمانيا؛ لا لنشهدَ محمد المكي والنُّور عثمان أبَّكر في صباهما الباكرِ وهُما "يتسلَّقانِ في ظُلمةِ التَّابو نُحاسَ البوق"، وإنما لنصحبَ صديقاً من جبلِ النُّورِ إلى قمَّةِ تسوغشبيتسه، أعلى قمَّةٍ في ألمانيا على جبال الألب البافارية؛ ولنُطَمئِنَ ثانيةً مفكرينَ ألماناً، تركناهم في حلقاتٍ سابقاتٍ على مقاعدِ الانتظار، بأننا سنعودُ إليهم بعد أن نقضي هُنَيهَةً بوطنٍ نحلمُ مع غيرنا ببنائه وهُنيهةً أخرى بـ"أندلسٍ مفقودٍ" لا أملَ في استعادته، إلا ببناءِ عالمٍ تذوبُ فيه إلى الأبد هذه الفوارقُ القائمة رَدَحَاً من الدَّهرِ بين الأنا والغير. ووفقاً لما أشرنا إليه في متن "الرِّسالة"، فإن للدِّبلوماسيَّةِ سحرَها الذي لا تُخطئه العينُ الفاحِصة؛ فربما نسِيَ محمد المكي أو تناسَى تحت أضواءِ المهنة وبريقِها الآسرِ أصواتَ بوقٍ خافتةٍ قادمةً من قبوٍ قريب، غير أن النُّورَ في مهنةِ المتاعبِ بمدرسة وادي سيدنا الثَّانوية، قبل ترحيلِها لتُصبحَ قاعدةً جوية، كان يصدحُ بالبوقِ النُّحاسيِّ (السَّكسفون) - والعُهدةُ في هذه الرِّواية على أنور محمد علي، الذي كان يعمل فنيَّاً بمعامل الكيمياء بالمدرسة – في هدأةِ اللَّيلِ البهيم، فيُحدِثُ بعزفِه المنفردِ تمازجاً و"تداخلاً" مُدهِشاً لأصواتٍ وأضواءٍ بعيدة، فيما تتهادى أمواجٌ من النِّيلِ القريبِ أسفلَ النَّهرِ، صوبَ الصَّعيد.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في السبت يوليو 09, 2016 11:21 am، تم التعديل مرة واحدة.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

الأخ خلف

عندما تحمل هواتف الرحمن لعباد الرحمن قولاَ ثقيلاَ يكون هنالك الرهق للتهيؤ والإستقبال، ويكون ذلك عند الأنبياء أقوى وأشد فقد كان سيد الأولين والآخرين يتزمل ويتدثر وذلك هو السقف الأعلى المفارق، وإن قول الله فى الحديث القدسى( أقول للشئ كن فيكون ويقول عبدى للشئ كن فيكون) أو كما قال فتلك الخاصيه باقية ما بقى الإنسان وسوف لا ولن تنقطع الفتوحات الربانية أبداَ بل لا تزداد كلما إزداد الظلام المعرفى لتضئ دروباَ فيه نافذة ناقله إلى الخيرات أو خير الإنسان، وما نحسبه من باب الصدف إذا ما تمعنا فيه أدركنا معنى قوله تعالى " وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى " فالرهق خير يا خلف ودعاء المولى لقيام الليل يحققه ويحقق جلوته فأبشر به وأحمد ولك السلام.


منصور
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

عزيزي منصور

شكراً على تشجيعك وتنبيهك حول قيام اللَّيل. أعكف حالياً، ولا أعتكف، على إكمالِ مشاركةٍ تحت عنوان: شرق الدَّلنج (امسودان)؛ غرب النِّيل (أُمدرمان)؛ وأسفل النَّهر، صوب الصَّعيد (أسوان) إلا أن الجزء الأول منها (شرق الدَّلنج) قد طال واستطال؛ وأتوقَّع كذلك أن يطول الجزء الخاص بأمدرمان وضواحيها (غرب النيل)؛ كما لن ينجو موضوع الصَّعيد من نفس المصير. لذلك، ربما لجأت إلى تقسيم المشاركة إلى ثلاثِ مشاركاتٍ منفصلة تحت عنوانٍ واحد؛ وربما أرسلت لكم الجزء الأول غداً صباحاً أو نهاراً بتوقيت لندن.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

شاءت رسالة الأخ كَبَّر إلى منصور المفتاح ومحمد خلف أن تحُثَّ الأخير - لحسن حظنا جميعاً - على دعوتنا إلى مصاحبته في رحلة أخرى (وهي، في ظني، ذات علاقة أيضاً بالرحلتين المُعلَنتَيْن قبلاً) إلى شرق الدَّلنَج وغرب أمدرمان:



شرق الدَّلنج (امسودان)؛ غرب النِّيل (أُمدرمان)؛ وأسفل النَّهر، صوب الصَّعيد (أسوان)



1. شرق الدَّلنج

الأخ كبَّر
شكراً لإشارتِكَ إلى اسمي ووضعِه جنباً إلى جنبٍ مع اسمِ توأمي الرُّوحيِّ وأناي الأخرى، أخي وصديقي الأستاذ محمد خلف الله سليمان؛ أمَّا ’أبناءُ المهديِّ‘، فإن سلالتهم الكريمة يزدانُ بها دوماً ركبُ الأدبِ العربيِّ في (امسودان)، ويتقدَّمه بلا منازع الشَّاعرُ الرَّاحلُ المُقيم محمد المهدي المجذوب، ثم يأتي من بعدِه رِفاقُ الدَّربِ بالمراحلِ الدِّراسية، والمنتدياتِ الثَّقافية، واتِّحادِ الكُتَّاب: محمد المهدي بشرى ومحمد المهدي عبد الوهاب. ويا ليتك يا كبَّر قد شرعتَ منذ ذلك الوقت أو بعدِه بقليل، ومن "قعرِ الجبل"، في كتابةِ روايةٍ أو خواطرَ أدبيَّةٍ تحت عنوان "شرقي الدَّلنج"؛ فلأجلِكَ أيضاً قد ذهبتُ لمكتبة "ووترستون"، في هاي إستريت كينزينجتون، عندما تعذَّر الحصولُ على نُسخةٍ رخيصة -من متجرِ "أوكسفام" المُجاوِر- لرواية "شرقي عدن"، التي شرع الرِّوائي الأمريكي جون إشتاينبيك في كتابتها خلالِ عامِ (١٩٥١) –عام مولدي– وتمَّ نشرُها بعد عامٍ من ذلك التَّاريخ.
تدور أحداثُ رواية إشتاينبيك هي كذلك فوق سفوحِ الجبال، التي يقولُ الكاتبُ عنها إن المرءَ ليرتمي في أحضانِها مثلما يرتمي في حضنِ أُمٍّ رؤوم؛ ويتخلَّلها أيضاً نهرُ ساليناس الذي يصبُّ في خليج مونتري، حيث يُوجدُ رهطٌ من الأصدقاء الذين تفضَّلتَ مشكوراً بذكرِ أسمائهم: عبد اللَّطيف علي الفكي، أسامة الخوَّاص؛ ومسعود محمد علي، الذي انتقل منها إلى تكساس، ثم فرجينيا؛ فأرجو أن تَعجِنَ من أفضلِ سماتِهم طِينةً طيِّبةً وطيِّعة، لتُشكِلَ بها شخصيةً فاضلة، لتكونَ هي المقابلُ الأخلاقيُّ الإيجابي -في رواية "شرقي الدَّلنج" المرجُوَّة- لشخصية كاثي تراسك في رواية "شرقي عدن". كما نرجو من معشرِ السُّودانيينَ ساكني وادي ساليناس أو خليج مونتري أن يقرأوا معنا أو يُعيدوا قراءة الرِّواية، التي يعتمدُ فيها الكاتبُ على حبكةٍ مزدوجة، يقدِّم من خلالها شخصياتِه الرِّوائية، إضافةً إلى سيرةٍ ذاتية وتاريخٍ اجتماعي للمنطقة، ربما تُعينُ في مراجعاتِنا خلال تسرُّبِنا السَّرديِّ الثَّاني عبر بلاد ’المريس‘.
أمَّا مصطفى آدم، فَهُوَ من (أُم روابة)، وقد رافقني منذ أولِ يومٍ لي بالجامعة، وقد أقمنا قبلك بسنواتٍ في نفسِ داخليتك الأثيرة "أربعات"، التي أقام فيها معي، كما سبقتِ الإشارةُ في متنِ "الرِّسالة"، بشرى الفاضل بخيت من (ود البُر)، إضافةً إلى المرحوم عمر علي فتيحابي من (تنقاسي)، ومصطفى رجب نصر من (النُّهود)، وحمدان إبراهيم العاقب (ود عشانا)، ومحمد عبد الله العطا (مروي)، ومحمد عبد الحليم (كورتي)، وفتح العليم عبد الله (مروي)، وعبد الدَّافع الخطيب (مدني) وأمين حسن عمر (عطبرة)، وعبد الله إسماعيل "سخانة" (الدَّلنج)؛ وتطولُ القائمة حتى تفوقَ المئتين، لكِنَّا رأينا أن نتوقَّف بها عند (الدَّلنج)، حتى تشحذَ خيالَك الرِّوائيَّ عند الشُّروعِ في كتابةِ "شرقي الدَّلنج" المُقترحة. وإذا أرَدتَ التَّعرُّفَ على جانبٍ من نمطِ حياتِنا بالدَّاخلية، فعليكَ بالرجوعِ إلى مادَّة "تحليق انسيابي فوق حرمِ الجامعة"، فقد خصَّصتُ ضمنها ’خرزةً‘ كاملة لداخلية "أربعات".
عادةً ما أقِفُ بنقلِ اللُّغةِ الثَّانية عند التَّرجمة والتَّعريب، ولكنَّ نقلَتكَ الثَّالثة بسودَنةِ عنوان كتاب روبرت إم بيرسيج السَّبعينيِّ المُدهش "زِنْ وفن صيانة الدَّراجات النَّارية" إلى "الزِّين وتصليح العجلات" قد ذكَّرتني بالزِّين الميكانيكي، خريجِ المعهد الفني سابقاً، وصديقِ خالي ووالدي حسن مكي حسن؛ وليت أخي بابكر الوسيلة يسعى بأيِّ وسيلةٍ لتزويدِنا باسمِه كاملاً، فقد كان ميكانيكياً نظيفَ الهندامِ والدَّواخل، ويُلخِّصُ بمسلكِه هذا جانباً من الفكرة الرَّئيسية للكتاب، وهي أن الأنظمة الحركية والكهربائية والحرارية لمحرِّك الدَّراجة النَّارية (أو غيرها من المحرِّكات) يُمكِنُ الاقترابُ منها بأنظمةٍ عقلية، منطقية ورياضية؛ أي عن طريق السَّبر والتَّقسيم إلى مكوِّناتٍ ووظائفَ في مستوياتٍ توافقية وتراتبية، وذلك توطئةً لتحديد الأدوات والمعدات اللَّازمة قبل الشُّروع في تفكيكها، مما ينتفي معه الحاجة إلى اتِّساخ الملابس الخارجية للعامل الفني بالجَرَاجاتِ الميكانيكية. أمَّا خُلاصاتُه المرتبطة بميتافيزيقيا الجودة، فإنني لا أقِرُّ بها، علاوةً على أنِّي لستُ بمُستعدٍ للخوضِ في تفاصيلها.
ذكَّرتني سودَنتُك أيضاً بدراساتٍ أنجزتُها منذ مدَّة حول "عرس الزِّين" للطَّيِّب صالح، كنتُ قد ظننتُ أنِّي أدَرتُ لها ظهري تماماً، فها أنتَ تنبشُ تاريخي من غيرِ قصد! وربما جاء ذلك بسببٍ من الرُّؤيةِ السَّرديةِ الجديدة، التي قد تُمكِنُنا جميعاً، عند توغلنا عبر بلاد ’المريس‘ من مراجعةِ ما كتبناه من قبل بصددِ مسألة (امسودان). نُشِرتِ الدِّراسةُ الأولى بمجلة "مواقف" البيروتية وعددٍ من المجلات والصُّحف السُّودانية تحت عنوان: "’عرس الزِّين‘ نموذجاً للحوارية النَّصِّية". ونُشرتِ الثَّانية تحت عنوان: "خطاب الدِّرويش"؛ أمَّا الثَّالثة والأخيرة، فقد نُشرت تحت عنوان: "في تجسيرِ الهُوَّة بين الصَّخب والشَّوق". وقد نُشرتِ الثَّلاثةُ مجتمعةً تحت عنوان: "في صُحبةِ ’الزِّين‘ – قراءاتٌ نقدية لرواية ’عرس الزِّين‘ للطَّيِّب صالح". وما زال في الحلقِ حديثٌ لم يكتمل عنه، لكن صوتاً آخرَ أكثر إلحاحاً قد جذبني إلى مدارِ القرآن، للاستنارةِ بهديِه، والتَّعلُّمِ المستمرِّ من أحسنِ قصصِه.
كما ذكَّرتني سودَنتُك بيومِ ميلادي! وكان صديقك، صديقي، منصور المفتاح يُذكِّرني دائماً بالقِبالة السُّقراطية، وهو منهجٌ للتَّوليد عن طريق الجدل، سنقوم لاحقاً بمقارنةِ استخدامِه عند فيلسوفٍ ومفكِّرٍ ألمانيَيْنِ تركناهما مع آخرين لفترةٍ على مقاعدِ الانتظار؛ فهُو بالفعل، أي ذلك المنهج، مِفتاحٌ لتحليل المفهوم الشَّائك عند كليهما. أمَّا الآن، فإننا نقول بأن سودنة "زِنْ" -وهي ضربٌ من البُوذِيَّة- إلى "الزِّين" قد ذكَّرتني بالقابلة، أي ’الدَّاية‘ البلدية، التي استقبلتني، مثلما استقبلتِ العديدَ مِمَنْ شبُّوا وترعرعوا معي في حي بيت المال القديم؛ وكان اسمُها "الزَّينَ"، في تشويشٍ جندريٍّ مبكِّر؛ وأرجو أيضاً من أخي بابكر أن يبتدعَ وسيلةً لمعرفةِ اسمها بالكامل. وقد كانت هي المسئولةُ كذلك عن إخطارِ مصلحة الإحصاء بتفاصيلِ المولود. ولسببٍ ما، أعطتهم الثَّالثَ من مايو تاريخاً لميلادي، ولكن جَدِّي بدوي سليمان كركساوي، الذي أثِقُ في دِقَّته، قد قيَّدَ الثَّاني عشر في دفترِ يومياته، وهُو ما تأكَّدتُ لاحقاً من صِحَّته عبر وسائلَ أكثر انضباطاً، سيطولُ شرحُها هنا؛ لذلك، أكتفي بالقول إن ابنتي ماريا لم تُرسِل لي تهنئةً من تايلند، إلا قبل يومين؛ بينما أرسلت لي مصلحة المعاشات خطاباً تُخيُّرني فيه بالتَّقاعدِ إن أرَدتُ، بدءاً من الثَّالثِ من مايو؛ إلا أنني مستمرٌ في العمل، وأمشي إليه يومياً على الأقدام، وأنصحُ صديقي مسعود بفعلِ نفسِ الشَّيء، عِلماً بأن المِشوارَ يستغرقُ منِّي ما بين 45 إلى 50 دقيقةً، في كلِّ الأجواء.
كيف يُمكِنُ لنا يا عزيزي كبَّر أن نفتتحَ الكلامَ المُرتَّبَ والمُحقَّقَ عن عبد الله بولا؟ ستحتاجُ حركتُنا الثَّقافية لسنواتٍ وسنوات لسبرِ غورِ كتاباته والاستضاءةِ بحكمته، فأرجو أن تنجحَ الأختُ نجاة محمد علي في توفيرِ نَتَاجِه الفكريِّ لكلِّ القرَّاء؛ فنحنُ نفتقدُه وهو يسعى بيننا، مثلما نفتقدُ أحمد الطَّيِّب عبد المكرَّم الذي رحل باكراً عنَّا. كما يهفو قلبي ويرنو إلى إيمان شقَّاق، مثلما يهفو إلى أحمد المرضي ويرنو إليه؛ وليتني ألتقيهما سوياً، مثلما التقيتهما ذات يومٍ رائعٍ بفيلاديلفيا، بصُحبة أسامة وعبد اللَّطيف. وكيف حال ياسر المرضي وهُوَ (من الخُرطوم)، مثلما أنِّيَ (من أمدرمان)؛ كان أجملَ روحٍ وثَّابةٍ في داخلية "أربعات"، لكنه رحل عنَّا باكراً إلى ألمانيا، مُقتفياً خُطى الشَّاعرَيْنِ الرَّائعَيْنِ محمد المكي إبراهيم والنُّور عثمان أبَّكر؛ وكان يحفظُ أشعارهما، ويعرَفُهما كما يعرَفُ ظاهرَ يديه. أمَّا النَّصري أمين، ابن أمي الثَّانية صفية بنت البدوي سليمان كركساوي، آخرُ الأسماءِ الزَّاهيةِ في عِقدِ مشاركتِك المُهِمَّة، فسنترُكُه بعونِ الله في صُحبةِ منصورٍ وصُحبتِك في كندا؛ وسنصحبُ بدلاً عنه في مشاركةٍ قادمة أخاه الأصغر، مُحمَّداً، آخِرَ العُنقودِ، في رحلةٍ تسلَّقنا فيها معاً جبلَ النُّورِ في مكَّة؛ ومن قِمَّتِه البهيَّةِ التي شهدت مَهبِطِ الوحيِ، نزلنا درجاتٍ على انفراد، في زيارةٍ خاصَّة إلى غار حراء، حيث كان المُصطفى قبيل وأثناء هبوطِ الوحيِ يعكفُ مُنفرِداً في تعبُّدِه.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين يونيو 13, 2016 2:29 pm، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

هنا - عبر هذا القسم الأوَّل من الجزء الثاني لرسالته إلى أو تعقيبه على كّبَّر ومنصور - يواصل محمد خلف تدفقه أو اصطحابنا معه إلى شرق الدَّلنج وغرب النِّيل:



شرق الدَّلنج (امسودان)؛ غرب النِّيل (أُمدرمان)؛ أسفل النَّهر، صوب الصَّعيد (أسوان)


2. غرب النيل (أ)

الأخ كبَّر والأخ منصور

قلنا في متنِ "الرِّسالة" إنه بينما كان الأستاذ جمال محمد أحمد يمزِجُ بين الرِّوايةِ والتَّاريخ، مُستهدِياً برأيِّ فيكو (غيامباتيستا فيكو)، كان شبابُ الكُتَّابِ ينشدون فكاكاً منه، بتبنِّيهم بنيويةً مرَّةً ثم تفكيكاً، فيحفرون عميقاً في تربةِ الثَّقافة، مستهدين بفوكو (ميشيل فوكو)؛ إلَّا أن أولَ رئيسٍ لاتِّحاد الكُتَّاب السُّودانيين كان له أيضاً حفرياتُه في جسدِ اللُّغةِ العربيةِ السُّودانية، فأوجد لها وشائجَ بالفصحى، مما أكسَبَ لغتَه نكهةً جماليَّةً لا تُخطئُها العين؛ ولكن إذا أرَدنا أن نتعرَّفَ على منطقة غرب النِّيل بسردِ مآثرِها منذُ ساعةِ "حفرِ البحر"، فإن العينَ وحدَها لا تكفي؛ فثمَّة فارقٌ واضحٌ بين الجغرافيا والتَّاريخ، مثلما أن هناك فرقاً جليَّاً بين مسحِ الأراضي وعلمِ الآثار.

على امتدادِ الأفق، تتجاورُ المظاهرُ الجغرافية ذاتِ السِّماتِ البارزة؛ فهنا حقلٌ، وهناك واد؛ وهنا نهرٌ، وهناك تل؛ وبالطَّبع، هناك غابةٌ، وهنا صحراءُ، كما أدرك رهطٌ من شعراءِ السِّتينات. إلا أنه عند الحفرِ عميقاً، قد تتجاورُ كلُّ تلك الموجودات داخل حيِّزٍ جغرافيٍّ، أو بالأحرى موقعٍ آركيولوجيٍّ واحد، مثلما أدرك جون إشتاينبيك في رواية "شرقيِّ عدن"، التي طلبنا من معشرِ السُّودانيينَ، ساكني وادي ساليناس وخليج مونتري بكاليفورنيا، مراجعتها أو إعادة قراءتها معنا؛ فقد ذَكَرَ الرِّوائيُّ الأمريكي، الحائزُ على جائزة نوبل للآداب في عام 1962، أن والدَه حَفَرَ ذات يومٍ بئراً على بُعدِ 50 ميلاً أسفل وادي ساليناس؛ فبَعدُ التُّربةِ السَّطحيةِ مباشرةً، جاء الحصى، ثم رمالُ بحرٍ بيضاءَ ملأى بالأصداف وقِطَعٍ من عظامِ الحوت؛ ثم قطعةٌ من الصَّنوبرِ الأحمر، في أعقابِ رمالٍ وتربةٍ سوداء؛ فقبلُ مجئِ البحرِ إلى بطنِ الوادي، لا بدَّ أن المنطقة كانت تزدانُ بغابةٍ صنوبريةٍ زاهية.

لا نُريدُ الحديثَ في هذه المشاركة عن كلِّ المناطقِ الواقعةِ غرب النِّيل، وإنما تخيَّرنا من بينها تُحفةً أثرية، وهي منطقة أمدرمان وضواحيها؛ وهي البقعةُ التي تُحيطُ بها قبائلُ الجمُّوعيَّة كما يُحيطُ السُّوارُ بالمِعصَم، عِلماً بأنهم ينتشرون في منطقة شرق النِّيل وغربها، على حدٍّ سَواء؛ كما أن ذلك السُّوارَ (أو القوسَ لذوي الذِّهنِ الرِّياضيِّ) يتَّسعُ بعضَ الاتِّساع، فيشملُ المنطقة بأسرِها من جبل أولياء إلى السَّقاي؛ أو يضيقُ قليلاً، فيشملُ المنطقة من الفتيحاب والشِّقلة إلى الشِّيخ الطَّيِّب، طيَّب اللهُ ثراه (وشُكراً لخالتي فوزية محمود سليمان كركساوي، التي أنقذتني باكِراً من موتٍ محقَّق، حينما حَبَوتُ خِلسةً نحو شَفَا هاويةٍ سحيقةٍ جنوبيِّ جبل الشِّيخ الطَّيِّب، في غفلةٍ عن أمِّي، التي تجمَّدت من الرُّعب عندما أدركت هولَ الموقف؛ إلا أن خالتي، التي حباها اللهُ بعقلٍ يقظ وفطرةٍ سليمة، مشت نحوي بِجَنَانٍ ثابت، وبُطءِ فهدٍ يتحيَّنُ الانقضاضَ على فريسته، فحارَ نِسوةٌ يَفتَرِشنَ سَجَّادَةً عَجَمِيَّةً على مقربةٍ من الهاوية ماذا يفعلن وقد أعجَمَ الخوفُ ألسنتهنَ، فإذا هي تخطِفُني، وتنتشِلُني بغتةً -قُبيلَ انزلاقٍ وشيكٍ- من براثنِ الموت)؛ فظلَّتْ أُمِّي طيلةَ حياتِها تعزو أُعجوبةَ هذه النَّجاةِ إلى نفحةٍ مباركةٍ، قادِمةً من ضريحِ شيخٍ عابدٍ أسفلَ الجبل.

تمتدُّ منطقة الجمُّوعيَّة شمالاً حتى حجر العسل؛ وفيما وراؤها، تترامى منطقة حضارتي مروي وكرمة، وآثار جبل البركل والكرو عند منحنى النهر قرب كريمة؛ إلا أننا نُريدُ التَّوقُّفَ قليلاً عند حضارة الشِّهيناب، وآثارها الواقعة بين كرري والسُّروراب. ففي نهايةِ السَّبعينات، تحرَّكَت بنا عربةُ لاندروفرَ شهباءُ، تابعةً لشُعبةِ الآثار بجامعة الخرطوم، نحو رَوَابٍ واقعةً شمال مدينة أمدرمان القديمة، التي كانت تُحَدُّ -قبل تداخلِها مع ضواحيها- بِخَورِ عُمَر. لم أكُن طالباً بالشُّعبة، إذ كُنتُ مُقيَّداً بقسمِ الفلسفة، ولكنَّ صديقي وزميلي عبَّاس أحمد الشِّيخ كان يُدركُ وَلَعِيَ بالتَّاريخِ القديم وتداخلِ الأجناسِ البشريةِ والأدبية، إضافةً إلى قناعتِه بأهميةِ تداخُلِ العملِ الذِّهنيِّ واليدوي، حيث لا ينفصلُ في نظرِه علمُ الآثارِ عن علمِ المِساحة، ناهيك عن انفصالِه عن الأنثروبولوجيا أو فنِّ التَّصوير؛ فأصرَّ على أن أصحبَه في رحلةِ تنقيبٍ ضمن حضارة الشِّهيناب. وعند موافقتي، استأذَن عبَّاسٌ رئيسَ الشُّعبة؛ وعندما جاءت موافقته، صَحِبتُه برِفقةِ أحمد أبي القاسم ونَفَرٍ من طلاب الفصول المتأخِّرة.

وكانت دهشتي لا حدودَ لها، عندما توقَّفَتْ بنا العربةُ الشَّهباء عند بابِ جَدِّي بابكر عبد القادر بالجزيرة إسلانج. لم أكُن أعرَفُ أن هذا هو مُقامُهُمُ الدَّائم في رِحلاتِهُمُ المتكرِّرة للمنطقة؛ وما كنتُ أدركُ أنَّهم يَعرَفونَ أبناءَ جَدِّي بابكر: حسن والصَّادق والبُشرى وبشير؛ أو أنَّهم على صِلَةٍ حميمةٍ بأبناءِ الصَّادق: محمد والمكي؛ بل أكثر من ذلك إنَّهم يَعرَفونَ خالاتي: سعاد، ونفيسة وحليمة وليلى وسعدية. وبسرعةٍ فائقة لم أكن أتوقَّعها، تشابكَ انتمائي للأُسرةِ الجامعية مع انتمائي للأُسرةِ الحقيقية، وتداخلَ حُبِّي للمؤسَّسةِ الجامعية التي علَّمتني التَّفكيرَ الموضوعي، مع حُبِّيَ الحقيقيِّ للمؤسَّسةِ الأُسَرية التي ظلَّت تقِفُ معي في السَّراءِ والضَّراء، وتُسنِدُ ظهريَ في المُلِمَّاتِ، ظالماً كنتُ أو مظلوماً. فاهتديتُ مُبكِّراً إلى طريقٍ ذهبيٍّ لا يُضحِّي بالأُسرةِ من أجل موضوعيَّةٍ مُتوهَّمة، كما لا يَعصِفُ بالتَّفكيرِ السَّليمِ تزلُّفاً لرغباتٍ أُسَرِيَّةٍ جامحة. والأُسرةُ الكبيرةُ المُمتدة، بالتَّوازي مع هذا الوطنِ المُمتدِّ، تحتاجُ إلى هذا الحبِّ الجارف، بقدرِما تحتاجُ إلى عقلانيَّةٍ راشِدة. ومن هنا جاء اختيارُنا للإطارِ السَّرديِّ الذي يَسمَحُ بفضحٍ مؤلمٍ للحقائق، فيما يعتملُ القلبُ بحبٍّ جارفٍ لساكني هذا الوادي الطَّيِّب؛ ومن هنا كان ذلك اللَّمعانُ الذَّهبيُّ الفاتر لمقبضِ سكينٍ مغروسةً في صدرِ جِيدٍ سكسوني، فيما كان برايان (في إشارةٍ إلى برايان هيكوك، أستاذ التَّاريخ القديم بكلية الآداب) يَهتِفُ من أحشاءِ "الرَّابيةِ الشَّمالية": "ما أحزنَ هذا الأمرَ؛ أصدقائي، ما أحزنَ هذه الأمر" (من قصَّةٍ قصيرة، كُتِبَتْ في أعقابِ تلك الرِّحلة، ونُشرت لي بمجلَّةِ "المحتوى" -التي كان يُشرِفُ عليها الصَّديقُ القاص بشرى الفاضل بخيت- تحت عنوان: "مُخلَّفاتُ الرَّابيةِ الشَّمالية").

تقعُ الرَّوابي التي قصدها فريقُ التَّنقيب داخل منطقةٍ مُحاطة بالأسلاك الشَّائكة؛ فهي منطقةٌ تابعة لمصلحةِ الآثار، ولا يتمُّ العملُ بداخلِها إلَّا بإذنٍ منها، وهو ما تحرصُ الشُّعبة على استصدارِه قبل بدءِ التَّنقيب. يقوم الفريقُ أولاً بتصويرِ المنطقة، ومسحِ الرَّابية المُراد العمل بها، توطئةً لبدءِ الحفر. وعند بدئه، يتمُّ استخدامُ الأدواتِ الغليظة، مثل المِجرفة والمِعزقة والمِعول؛ وفي مرحلةٍ تالية، يبدأ استخدام الأدوات المتوسطة، مثل المِطرقة و’المِسطرين‘؛ وعندما يلوحُ مع الحفرِ المتَّصل بوادرُ مُكتشفٍ ما، يبدأُ العملُ بالأدواتِ النَّاعمة، مثل فرش الرَّسم بأنواعها وأحجامها المختلفة؛ وذلك حتى يُضمنَ استخراج الموجوداتِ سالمةً من غير عيب.

وهنا لا بُدَّ من إعطاءِ فكرةٍ مبسَّطة عن ذرَّة الكربون، حتى يُمكِنَ لنا معرفة تحديد عمر المُكتشفات الأثرية. فهي مثل أيِّ ذرَّة من الذرَّات المُشكِّلة للجدول الدَّوري للعناصر مكوَّنةٌ من نواةٍ بها عددٌ من البروتونات والنِّيوترونات، ويدور حولها عددٌ من الإلكترونات مساوٍ لعدد البروتونات؛ وبناءً على ذلك العدد، يتحدَّد الرَّقم الذَّري للعنصر، وليس وزنه الذَّري. على سبيل المثال، الرَّقم الذَّري للهايدروجين هو ١؛ والهيليوم ٢؛ أمَّا الكربون، فرقمه ٦. إلَّا أن عدد النِّيوترونات داخل النَّواة يُمكن أن يزيد قليلاً عن عدد البروتونات، فيُشكِّل بذلك نظيراً أو آيسوتوباً لذلك العنصر.

عليه، فإن خصائص الكربون تتحدَّد وفقاً لبنيته (أي طريقة تشكُّل واصطفاف ذرَّاته، وتُعرف اصطلاحياً بالتآصُل) أو وفقاً لتركيبه (أي عدد النيوترونات المشكِّلة لآيسوتوباته). فمن اصطفافٍ محدَّد، يصبح الكربونُ ماساً (ألماظاً)؛ ومن اصطفافٍ آخر، يُصبحُ فحماً نباتياً أو غرافيتاً يُصنعُ منه أقلام الرُّصاص. ومن عدد نيوتروناته، يصبح الكربونُ آيسوتوباً ذا خصائصَ محدَّدةٍ، ويُعرَّفُ الآيسوتوبُ برقمه؛ فهناك، على سبيل المثال، كاربون-١٢، وكاربون-١٣، وهي نظائرُ (أي آيسوتوباتٌ) مستقِرَّة؛ وهناك كاربون-١٤، وهو نظيرٌ مشعٌّ وغيرُ مستقِر؛ ويتكوَّن بتفاعل الأشعة الكونية مع غاز النيتروجين داخل الغلاف الجوي؛ وبما أن عملية اضمحلاله النَّووي تؤدِّي إلى انخفاض كميته إلى النِّصف كلَّ ٥٧٣٠ عاماً، فإنه يُستخدم لتحديد عمر المُكتشفات الأثرية.

لا نمضي مع السَّيِّد يحي عبد الله المك، في كلمةٍ موسوعيَّةٍ ضافية ألقاها في حفلِ وداعِ المستشار بالسَّفارة السُّودانية بالرِّياض السَّيِّد جلال الشِّيخ الطَّيِّب، بالقول إن منطقة الجمُّوعيَّة الممتدة على شريط النِّيل الغربي هي "من أوائل البُقعِ التي ظهر فيها ابنُ آدمَ"، ولكننا نَقِرُّ معه بأنَّها من الرَّاجِحِ -خصوصاً منطقة الشِّهيناب- قد "عُتِّقت بسَبقٍ [ما لِـ] النَّشاطِ البشري"؛ فقد وُجدت فيها صناعةُ الفَخَّار وأدواتُ الصَّيدِ الحجرية، مثلما وُجدت إلى الشَّمالِ منها في مروي صناعةُ الحديد. فنحنُ إذاً في خضمِ منطقةٍ حضارية، نشأ في أحضانها الأستاذ السيِّد محمد شريف، حفيدُ الشَّيخ أحمد الطَّيِّب بن البشير، الذي نشر الطَّريقة السَّمانية في السُّودان؛ وهو الحفيدُ الذي تلقَّى الإمامُ محمد أحمد المهدي على يديه قدراً من العِلم. فكيف تفاعلتِ الفوتوناتُ المُتسرِّبةُ "في أخراجِ التِّجار، وحقائب الدُّعاة والمسافرين"، وتلاقحتْ مع الحضاراتِ الوطنية القديمة؟ قد لا نستطيعُ وحدُنا الإجابةَ على هذا السُّؤال، لكنَّ الإطارَ السَّردِيَّ الذي اقترحناه ربما يُسهِمُ عند مرورِنا عبر بلادِ المريس في إضاءةِ بعضٍ من عَتَمَتِه.

إلَّا أننا الآن قد هبطنا -بتداعٍ تسبَّبت فيه مشاركةُ كبَّر- هبوطاً اضطرارياً في شريط النِّيل الغربي، مما يستوجبُ زيارةَ البُقعةِ التي اختارها الإمامُ المهديُّ عاصمةً لدعوتِه. ومثلما تحدَّثنا في تمهيدِنا لمشاركة "شرق الدَّلنج" عن أبناءِ المهديِّ عبر مسيرةِ الأدبِ العربيِّ في (امسودان)، فإننا سنتحدَّثُ في حلقةٍ مُكمِّلة لمشاركة "غرب النِّيل" عن أحفادِ المهديِّ الحقيقيين في (أُمدرمان)، وأحواشٍ للميرغنيِّ على الطَّريق الذي ينتهي عند ’صينية‘ الأزهري، وثلاثةِ أحواشٍ شهيرةٍ على نهرِ النِّيل؛ وسنتحدَّثُ –سيداتي، آنساتي، سادتي- عن "مدينةٍ من تراب"، وعن طريقٍ كان يخترقه ’التُّرام‘؛ وعن حيِّ المسالمة وفريق المريخ، وعن حي العرب وفريق الهلال؛ وعن بيتٍ بالقرب من نادي "الزَّهرة"؛ وسنتحدَّث عن أبي روفَ والهاشماب، وعن ندوة "الفتيحاب"، وجماعة "تجاوز"، ومنتدى "الجندول"؛ فإلى لقاءٍ في حلقةٍ مكمِّلة، قُبيلَ الرُّجوعِ أسفلَ النَّهرِ، صوبَ الصَّعيد (أسوان).

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

سلام للجميع
رجعنا لمتابعة الخيط بعد رحلة للسودان الذي استقبلنا
(بحرارة) شديدة. الرحلة كانت لإنجاز مهام متعلقة بالأسرة وتداعيات وفاة الوالد عليه الرحمة
ورغم ذلك قابلت بعض الأصدقاء وعلى رأسهم شقل بالطبع.

صديقنا كبر مشكور شديد على المداخلة الثرة والتي انتجت هذا الحكي.
ما دام الكلام دخل (الحيشان) فنحن موعودين بمتعة ما عادية.
وأهو خاتين طوبتنا وقاعدين ومستمتعين.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

في رسالةٍ خاصة، قلتُ لمحمد خلف ما معناه أن تعقيبه على كُلٍّ من كبَّر ومنصور المفتاح قد جاء كـ"جُمْلة اعتراضية جميلة"؛ بمعنى أن ذلك التعقيب جاء لـ"يستأذننا"، بالشفافية والحميمية التي تُميِّزُ إنساناً كمحمد خلف، أن يأخذ السرد - مؤقتاً - إتجاهاً آخر - غير بعيد، مع ذلك، كما أزعم - من الذي وعدنا بأن يقِلِّنا - عبر رحلتين - إلى كل من جنوب أسوان وإسبانيا. فكان أن رافقناه إلى شرق الدَّلنج وغرب النِّيل. واليوم، تتَّسعُ "الجُمْلة الاعتراضية الجميلة" باتِّساع رقعة ومدة إقامتنا الحميمة معه في غرب النِّيل، فيما نرافقه في رحلةٍ مُتَبَصِّرةٍ تتملَّى في موقفٍ فرنسي وآخر إنجليزي:



على خُطى عمدة لندن السَّابق، وليس عمدتها المُسلم الحالي

-الحلقة الأولى-

في مساءِ كلِّ خميسٍ بعدَ آخرَ تقريباً، كنَّا أنا وصديقي عادل القصَّاص نذهبُ في صُحبةِ الصَّديق المُشترك محمد عبَّاس محمد نور لقضاءِ العطلة الأسبوعية بمنزله الكائن بحي بيت المال القديم؛ ولأنه هو الحيُّ الذي نشأتُ وترعرعتُ في كَنَفِه إبان صباي الباكر، فقد كنتُ أمشي معهما في أزقَّتِه الضَّيِّقة، من محطَّة عبدالله خليل، وعلى طولِ شارع السَّيِّد علي، وعبر طرقٍ جانبيةٍ ملتوية إلى منزلٍ قديم، بالقرب من سوق الشَّجرة، فينتابُني بغتةً إحساسٌ بدنوِّ ارتفاعِ الأمكنة وانكماشِ أبعادِها الرَّاسخة في الذَّاكرة منذ نعومةِ خلاياها العصبية، وكأنني غاليفرُ أفريقيٌّ أو عملاقٌ في بلدٍ تقزَّمَ سُكَّانُه فجأةً تحت وطأةِ العابرين المُسرِعين.

وكنتُ دائماً ما أستغربُ من جرَّاءِ التَّغييراتِ المُدهِشة التي تطرأ على سلوكِ زملائي بكلية الآداب، الذين يختارون تعلُّم اللُّغةِ الفرنسية؛ فبعدَ قضاءِ عطلةٍ صيفيةٍ في فرنسا (بمدينة بيزانسو أو غرينوبل على وجه التَّحديد) لدراسةِ لغتها ذاتِ الوقعِ الحَسَنِ على آذانِ غيرِ النَّاطقين بها، سرعان ما يتبدَّلُ سلوكُهم نحو الأرقى، والأجمل، والأكثر لباقةً وتهذيباً، وذلك في غضونِ فترةٍ لا تتعدَّى عشرة أسابيع؛ فماذا بحقِّ السَّماء يفعلُ أولئك المدرسون بهؤلاء الدَّارسين، وأيُّ سحرٍ معهم يستخدمون، عِلمَاً بأن كثيراً من زملائي بالجامعة قد تعثَّرَ زمناً في تلقِّيه للُّغةِ الإنجليزية، التي سعى البعضُ في طِلابِها قرابة العشرةِ أعوام.

لم نكن نعبأُ كثيراً بإيجادِ إجابةٍ شافية على ذلك السُّؤال، بقدرِ ما كنَّا نسرحُ ونمرحُ أنا وصديقي عمر علي فتيحابي بانتهاكنا لخزانة الأقمصة الزَّاهية التي يوفِّرها لنا حمدان إبراهيم العاقب بمحبَّةٍ وبقليلٍ من الغضب، علاوةً على استمتاعنا بحكاوٍ لا نملُّ سماعها منه عن بيزانسو، إضافةً إلى استماعنا واستمتاعنا بالأغاني الفرنسية التي تمَّ تسجيلها على شرائط كاسيت، اكتظَّت بها حقيبتُه وخزانةُ ملابسِه المُحتشِدة بشتَّى ألوان التَّقليعات الفرنسية؛ ولم يكن وحدَه في حرفة تكديس المقتنيات الباريسية، ولكنه كان نسيجَ وحدِه في كرمه وسخائه، وإغداقه على مَنْ حوله من غير حساب؛ وهو القادمُ من ود عشانا، كما نوَّهنا على ذلك في حديثنا عن داخلية أربعات، والأكثرُ معرفةً بغِبطةِ اقتسامِ عشاءِ الفقراء.

وكنَّا نجدُ عند محمد عبَّاس، الذي يُقيمُ في ذلك البيت اللَّطيف في الحيِّ الأمدرمانيِّ العتيق، بصحبة عصام الخوَّاض، ما يُقيمُ الأودَ، ويُنعشُ الرُّوحَ، وما يُعزِّزُ أقوالاً باهرةً قد استمعنا إليها من قبلُ من أفواهِ حمدانَ وحسن علي عيسى وآخرين من مُبتعثي شعبة اللُّغة الفرنسية إلى بيزانسو وغرينوبل؛ إلا أن محمد عباس، الذي التقيتُ به في زيارةٍ لاحقة للندن لصديقنا المُشترك الرِّوائي الرَّصين محمد سليمان الشَّاذلي، قد اشتكى مُرَّ الشَّكوى من إجحافِ سوقِ العمل وسوءِ أوضاع المهاجرين، حيث رأى بأمِّ عينيه فرقاً هائلاً بين المجهوداتِ التي بُذلت في جامعةِ بلادِه لإعدادِ الدَّارسين، والاجتهاداتِ التي حُظي بها استقبالُهم كمهاجرينَ حالمينَ بحياةٍ هانئةٍ على ضفافِ نهرِ السِّين الشَّهير.

وهذا ما يقودنا إلى الحديث مباشرةً عن شخصية محمد عبَّاس في رواية "تسليم" (أو "استسلام"، في إشارةٍ للدَّلالة الحرفية لكلمة "إسلام")؛ فهو بخلافِ صديقنا محمد عبَّاس، شقيقِ الشَّاعر عالم عبَّاس محمد نور، الذي استنرنا برأيه في ندوة العلَّامة عبدالله الطَّيِّب، لم يكن من المهاجرين الجُدد إلى فرنسا، وليس لديه ما يشكو منه بصددِ شظفِ العيش وسوءِ المعاملة، بل كان من الجيلِ الثَّاني من المهاجرين، مما أكسب شخصيته مرونةً وقدرةً فائقةً على التَّأثير في كافَّة قطاعات الشَّعب الفرنسي، حسب المنطق السَّردي المُقنِع للرِّواية، التي كتبها الرِّوائيُّ الفرنسي المثيرُ للجدل ميشيل ويلبِك (كُتبت الكلمة وفقاً لطريقة نطق الاسم الفرنسي باللُّغة الإنجليزية).

تُعتبرُ الرِّوايةُ في حدِّ ذاتها جيِّدة السَّبك، وتستجيبُ إلى حدٍّ كبير لشروطِ السَّردِ المقبولة عالمياً، من حيث بناءِ شخصياتها، وتتابعِ أحداثها، وتناسقِ مواقفها، واتِّساقِ منطقِها الدَّاخلي، ورشاقةِ لغتها، وحداثةِ تراكيبها؛ إلَّا أنَّها، مع ذلك، محتشدةٌ بالمواقف المثيرة للضَّجر، والإيحاءاتِ العدمية، والعباراتِ التًّجديفية، والممارساتِ الجنسية الفاضحة؛ وكلُّ ذلك على خلفية التَّحذير من صعود الإسلام في أوروبا، مما يعزِّز حالة الذُّعر والخوف من الإسلام، علاوةً على تدنيسِ معتقداتِه بتناولها جنباً لجنب مع الأفعالِ التي تُخالفُ تعاليمَه بزاويةٍ لا تقلُّ بأيِّ حالٍ عن ١٨٠ درجة.

تدورُ أحداث الرِّواية في عام ٢٠٢٢، أي بعد سبعةِ أعوامٍ من تاريخ صدورها، مما يُعزِّزُ الخوفَ من وقوعِ خطرٍ وشيك، وهو صعودُ الإسلاميين إلى سُدَّة الحكم في فرنسا، هذا إضافةً إلى ازديادِ المخاوف من أنْ تحذو دولٌ أوروبية أخرى حذوَ فرنسا. ففي استطلاعاتِ الرَّأيِّ الأخيرة قُبيل الانتخاباتِ التي جرت في ذلك العام، كان حزبُ مارين لوبان في المقدِّمة بنسبة ٣٤٪‏، تلاه بفارقٍ كبير كلٌّ من الاشتراكيين (٢٢٪‏) والإخوان المسلمين (٢١٪). وفي الجولةِ الأولى من الانتخابات، استطاع الإخوان المسلمون بطريقةٍ ما زحزحة الاشتراكيين، حيث‏ فازوا بالمقعد الثَّاني، الذي يؤهِّلهم خوض الانتخابات النِّهائية ضد اليمين المتطرف، المتمثِّل في حزب الجبهة الوطنية، الذي تقوده لوبان.

لم يكنِ الاشتراكيون يرغبون في فوزِ اليمين المتطرف، بل كانوا يسعون بكلِّ ما يملكون من قوةٍ انتخابية لزحزحته عن كرسي الحكم. وما سهَّل عليهم الأمرَ بعضَ التَّسهيل أن محمد عبَّاس الذي يتزعم حزب الإخوان المسلمين، الذي برز لتوِّه من البونليو (ضواحي المدن)، معتدلٌ في مواقفه، وراغبٌ في إجراءِ تنازلاتٍ كبيرة للاشتراكيين، بما فيها الدِّفاع والمالية والخارجية، إلَّا أنه مُصِرٌّ بأن لا يتزحزح لهم قيد أنملة عن التَّعليم. وفي اتِّفاقٍ سلس مع الاشتراكيين، صعد الإخوان المسلمون إلى كرسي الرِّئاسة الفرنسية. وبسرعةٍ فائقة بسط الإخوانُ نفوذَهم على الجامعات، وفرضوا الزَّي الإسلامي على الطَّالبات، ومُنع تداولُ الخمور، وتمَّ فصلُ الأساتذة، وتعيينُ مُوالينَ، أُغدقت عليهم أموالٌ طائلة، قادمةً من السِّعودية، وتزويجُهم لعددٍ من النِّساء الحرائر. ومن ضمن مَنْ طالتهم هذه الإجراءات من أساتذة السُّوربون فرانسوا، بطل الرِّواية البالغ من العمر ٤٤ عاماً، حيث تمَّ فصلُه، إلا أنه قد تمَّ استدعاؤه لاحقاً، بعد قبولِه عبر وساطةٍ حاذقة بالشُّروط الجديدة التي فرضها الإخوان.

ومن غرائبِ الصُّدف، أن ما لفتني إلى هذه الرِّواية المثيرة للجدل هو عمدة لندن السَّابق بوريس جونسون، الذي كتب مقالاً بصحيفة "الدِّيلي تلجراف" في يوم ٣ يناير ٢٠١٦، ندَّد فيه بالرِّواية التي تُعزِّز الذُّعرَ من الإسلام، وأشار فيه إلى أهمية إقامةِ فارقٍ ضروريٍّ بين قلَّةٍ من المتطرفين الإسلاميين، والدِّيانةِ الإسلامية التي يعتنقها أكثرُ من بليون شخصٍ على نطاقِ العالمِ أجمع. وقال جونسون إننا لا نحتاجُ إلى اختراعِ سيناريو غير مرجَّحٍ يَحدُثُ بعد ستةِ أعوامٍ في فرنسا لنرى ما يؤولُ إليه الحالُ في البلاد بعد تسلُّم الإسلاميين مقاليد الحكم، إذ إنَّ كل ما نحتاجُ إليه هو السَّفرُ إلى غرناطة، لمشاهدةِ الإرث الرَّائع الذي خلَّفه حكمُ المسلمين لإقليمٍ أوروبي، بدءاً من أوائل القرن الثَّامن وحتى نهاية القرن الخامس عشر.



عُدتُ في بداية هذا الأسبوع من رحلةٍ شاحذةٍ للفكر، وممتعةٍ في ذاتِ الوقت، إلى كلٍّ من مالاغا، وغرناطة وقرطبة بإقليم الأندلس (أندلسيا) بجنوب إسبانيا؛ وسنقوم معاً بعونِ الله في حلقةٍ قادمة بجولةٍ مُستفيضة -على خُطى عمدة لندن السَّابق- عبر أروقة الحمراء، التي تشمل قصر الحمراء وقلعتها الشَّهيرة في غرناطة، إضافةً إلى زيارةٍ لاحقة إلى المسجد الأموي الجامع في قرطبة الذي تحوَّل بمشيئةِ قادرٍ إلى كاتدرائية سانتا ماريا بدءاً من عام ١١٤٦.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الخميس أغسطس 11, 2016 4:31 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »


العزيز محمد خلف لك ألف سلام ودعاء فى هذا الموسم الروحانى العرفانى الملهم فالصوم والقيام من أسس ودعائم الفتح الربانى الكبير فقد تثنى إلىّ ثانية معاودة سفرك عن غرب
النيل وأهل البرش فى رمضان ناس ود جنقل يقولون عودوا طعامكم تعودوا الجنه وذلك دفعا للناس بعد صلاة المغرب وما أحيلى الآبرى وقتذاك وسحاب الثلج على سطحه الهادئ
يتسرب ذلك المذاق الفريد والبلايل فريكاً ولوبه من ذلك الوادى الذى تحتضنه تلك الهضبه المكنوزه بالعجائب من أثار السلف وأهلنا حينما يرغبون فى الردة للأصل الفارع المتجذر
يقولون بأننا عنجٌ من عنج وكيف لا وتلك أرضهم أرض الحضارة والمجد فكما ذكرت مبتدئاً لجمال محمد خالط التاريخ بالأدب فى سرده بلغةٍ تمور بلهجات أثرتها لغة الخلف وأختلفت
عن لغات الغير فمن يغالطنى فاليأتنى بمن يعرف معنى كديسه أوكوديك أو سباليق وكاويق فحتماَ لا يستطع وجمال نزاعٌ للجميل من ذاك وفصيح العرب أما أحمد أبوالقاسم خفيف
الصمم فقد عملت وأترابى معه بالكروة لحفر تلك الآثار بأقل من شلن فى اليوم ومعه البروف حاكم والبروف على عثمان محمد صالح ودكتور عبدالرحيم الخبير ودكتور أنور ودكتور
إنتصار صغيرون وكثرٌ غيرهم كالمرحوم جمال بدر وهاديه إدريس ومنازل الهندى وأحياناَ كان يزورهم السلطان على بحرالدين على دينار. نعم هى حاضرة الجموعيه شمال وقلبها
النابض ومسيدها الضجاج بالذكر والوجاج بنيران القرآن وحلق النوبات والإنشاد والصيحه، نعم أقام أهلك بذات الربع فى إسلانج ونميزهم بالدناقله علما بأنهم خنادقة بديريه جاءوا فى
ذات زمان مجئ المهدى وذهب البعض الآخر منهم للبقعة بعد المهديه فكان الكركساويه ببيت المال وكذا الخنادقه، ونرى إن شحذت فيك تلك الهضبة نفس القص وبذلته للناس فذاك
دوما يمها وخراج أهلها من ذلك مبذول للناس أدباً ومعرفةً وعلم ولأنها عين حضارة راسخه فقد كانت مكانا للتركية وللدواليب من بعد علوة وما قبلها حتى أصبحت اليوم قلب السودان
أجمع وقبلته الجامعه بإحسان لأطياف أهله بالتساوى بلا منٍ ولا أذىً فيا عزيز أصعد وأهبط فأنت سالم فيها كما سلمت من أذى من على الجبل الذى يطل على النهر فدوماَ هى كذلك
ولأمثالك الأوفياء الذين خبروا قدرها من جوانب عده ستبقى دوماً وأبداَ كذلك ولك الشكر أجزله ولك السلام.


منصور
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

ومن غرب النِّيل، ها هو خلف ينتقل بنا إلى إسبانيا - محتفياً بالحضور البهي المديد لمُجَمَّع الحمراء في غرناطة، التي زارها مؤخراً، مستصحباً - في نفس الوقت - جانباً خافتاً من بريطانيا (والغرب بصورة عامة) وجانباً غير خافتٍ من فرنسا (والغرب بصورة عامة):


على خُطى عمدة لندن السَّابق، وليس عمدتها المُسلم الحالي


-الحلقة الثَّانية-



سافرتُ الأسبوعَ الماضي بصحبةِ الأسرة إلى قرطبة، ولم يصحبنا هذه المرَّة ابننا محجوبٌ لارتباطه بالعمل، إلا أن محجوباً آخرَ قد سبقنا إليها منذ عهدٍ بعيد (فشُكراً لصديقي مسعود محمد علي على تنبيهي لزيارة محمد أحمد محجوب للمدينة الأندلسية الشَّهيرة، التي كان من نتاجها قصيدته المعروفة: "الفردوس المفقود"، في إشارةٍ إلى 'ضياع' الأندلس، وتفلُّتِه من أيدي المسلمين، إضافةً إلى تشبيهه لضياعه بسقوط القدس في العصر الحديث، ووقوعها تحت قبضة الدولة اليهودية الحديدية). وربما يكون هذا التَّركيز الدَّائم من قبل الشُّعراء العرب على الجانب السياسي، الذي يستدعي مخاطبة المشاعر القومية المتدفقة، على حساب غيرها من القيم المحتبسة في الأغوار، هو واحدٌ من الأسباب القوية التي تدفعني دفعاً إلى المناداة بتنحية الشَّاعر، وإحلال النَّحوي محلَّه، باعتباره بديلاً إستراتيجياً ورائداً معرفياً أكثر ملائمةً لقيادة مسيرة الحداثة في منطقتنا.

لا نلومُ المحجوبَ كلَّ اللَّوم، فرؤيةُ مسجدٍ في قرطبة يُحالُ إلى محفلٍ كنسي، يُثير أسًى في القلب، وغُصَّةً في الحلق، هذا إنْ لم يُرسلْ دمعةً حرَّى إلى العين؛ إلَّا أنه بدلاً من تعليَّةِ الحاجب وتقطيبِ الجبين، فإن من الممكن استقطاب المُوجِبِ في قرطبة؛ ولا يتأتَّى ذلك إلا بسبيلين: نبشُ الماضي وفحصُ ما تبقَّى في الحاضر من آثار، ومقارنةُ ما حدثَ في قرطبةَ بما يجري الآن في غرناطة (فلأجلِ ذلك، قد جئنا إليها، سائرينَ على خُطى عمدة لندن السَّابق، وليس الحالي يا بابكر أخي؛ فاتِّباعُه لا يُفيدُ كثيراً، لأنه سيكونُ بمثابةِ عِظةٍ لمُهتدينَ أصلاً؛ ولكنها جاءت على خُطى مَنْ لم نكن نتوقَّع منه مردوداً إيجابياً، لمحافظته ويمينيته، علاوةً على قيادته لحملةِ الخروجِ من الاتِّحادِ الأوروبي، الذي من شأنِه أن يُحدِثَ أثراً سلبياً على المهاجرين).

كما لا نُشدِّدُ اللَّومَ على المحجوب، لاستعانته بصنوه أبي الوليد ("أبا الوليدِ أعِنِّي ضاع تالدُنا")، المعروف بابن زيدون، الذي اشتُهر بولعه بولَّادة بنت المُستكفي، لكننا نستدعي أبا الوليدِ الآخرَ، المعروف بابن رشد، ونستنجدُ بِمَنْ يُعيننا عليه، فالتُّراث التَّليد الذي خلَّفه قاضي القضاةِ قي قرطبة، لا يكفي عقلٌ واحد لاستكناهِ جوانبه أو الإلمامِ بكلِّ أقطاره. ولأن أبا الوليدِ الآخرَ كان مثل رأسِ الدَّبوس (وشكراً للمهندس أحمد الفكي، الضَّليع في شئون الحاسوب، على تزويدي بهذا التَّعبير المُدهِش، الذي ربما ارتبط لديه بإعادة تشغيل الأجهزة الإلكترونية؛ وشكراً لتغريداته على الهاتف، عِلماً بأننا كنَّا نلقِّبه بأحمد عصفور) الذي اخترق غشاء العقل الأوروبي، ولقَّحه بجيناتِ الفكر الإسلامي الجديد، فمكَّنه من فكِّ مغاليق التُّراث الإغريفي العريق وإعادة تشغيله على أفضلِ وجه. وعندما نُشيرُ إلى الدَّبوس، فإننا لا نحتفي برأسِه فقط، وإنْ كان وحده رائداً في هذا الشَّأن، وإنما نُشيرُ أيضاً، وفي ذاتِ الوقت، إلى بقية الجسم المعدني، الذي لولاه ما كان للرَّأسِ قدرةٌ على الاختراق؛ وهو اختصاراً ذلك المتنُ الفلسفيُّ العربي، الذي يبدأ بمؤلَّفات الكندي والفارابي وابن سينا في المشرق العربي، ومؤلَّفات ابن باجة وابن طفيل وابن رشد نفسِه في مغربِه.

لم يضِعِ التُّراثُ الإسلاميُّ في قرطبةَ تماماً، حتى يشتدُّ بكاؤنا عليه؛ فلا زال الصَّرحُ الإسلاميُّ العتيق في الحاضرة الأندلسية الشَّهيرة، يُشارُ إليه بـ"ميثكيتا" (يُقلبُ حرفُ الزَّاي المجهور ثاءاً مهموسةً في لهجاتِ الإسبان)، وتعني المسجد باللُّغةِ الإسبانية (كما توجد بلديةٌ باسم "لا ميثكيتا" في منطقة غاليسيا بشمال غرب إسبانيا)؛ واسمُه المُشار إليه رسمياً في الوريقات التَّعريفية هو "مسجد-كاتدرائية قرطبة"؛ وما زالتِ الآياتُ القرآنية تُغطِّي جانباً من الجدران الدَّاخلية، وإنْ تعرَّضت أعمدتُه للمَحوِ المتعمَّد؛ فمن ناحيةٍ معمارية، ينتمي المبنى إلى الفنِّ الإسلامي، بتميُّزه بالخطِّ والزَّخرَفةِ العربية والمُنمنمات وديكورات الجدران، هذا إضافةً إلى الأقواسِ المزدوجة المُرتكزة على أعمدةٍ رُخامية متقاربة؛ أمَّا من ناحيةٍ إعمارية، فمن المتعذَّر بمكان، إنْ لم يكن من المستحيل، أن يعمُرَه مُصَلُّونَ مسلمون، فقد تمَّ تحويلُ ما بين الأعمدةِ التي تتوسَّط المسجد إلى كاتدرائيةٍ كاثوليكية، شُرِعَ في تكريسِها بدءاً من عام 1146؛ وبصورةٍ قاطعة، حسب ما جاء في كُتيبٍ تعريفي، في عام 1236. وعلى ضوءِ ذلك التَّكريس، يُمكننا أن نفهمَ قول المحجوب ونتعاطفَ مع رِثائيته الشَّهيرة ("ولا المساجدُ يسعى في مآذنها مع العشيِّاتِ صوتُ الله رَيَّانا" – هل وصلت ابنتُك "ريَّانُ" يا مسعودُ، لتقضي معك طرفاً من رمضانَ في فرجينيا؟).

هذا ما كان في شأنِ السَّبيل الأول، وهو نبشُ الماضي وتأمُّلُ آثارِ الحاضر؛ وإذا كان السَّبيلُ الأولُ في مجمله تعاقبياً (دياكرونياً)، فإن السَّبيل الثَّاني في جوهره تزامنياً (سنكرونياً)، إذ إنه يختصُّ بما يجري الآن في غرناطة، على خلفية ما حدث في قرطبة، التي أثارت شجون المحجوب، فأهدانا قصيدته الرَّائعة "الفردوس المفقود"، التي تستجيبُ بشكلٍ كلاسيكي لواحدٍ من أغراض الشِّعر المعروفة، وهو الرِّثاء. فكلُّ ما يمَسُّ حياةَ النَّاسِ العاديين في غرناطة، يدورُ اليومَ بصورةٍ أو بأخرى حول الحمراء؛ وهو مجمَّعٌ معماريٌّ ضخم، شِيدَ على سفح جبل الثَّلج الأندلسي (سلسلة "سييرا نيفادا" الإسبانية)؛ ويحتوي المجمَّع على قصر الحمراء، وقلعة الحمراء الشَّهيرة، وجنَّة العَريف (جنراليف، بالإسبانية؛ وينبغي ألا تُخلط مع عبارة "جنرال لايف" الإنجليزية، التي تعني الحياة العامة؛ وجنراليف، أو خنرليفي بلهجة أهلها، كانت مُكرَّسةً للحياة الخاصة للأمراء المسلمين في غرناطة، فهي لهم بمثابةِ قصرٍ صيفي، مكتظٍّ بالحدائق الغنَّاء، التي يستخدمونها كمنتجعٍ ومنتزهٍ للرَّاحةِ والاستجمام؛ بل إن أحد الأمراء استخدمها مكاناً للالتقاء السِّري بعشيقته، بعيداً عن زوجاته الأربعة، ونيفٍ وعشرين محظيَّةً من محظيَّاتِه، اللائي يقمن في قصر الحمراء الشَّتوي).

لا يمكن رؤية مجمَّع الحمراء من فرطِ ضخامته، إلا من شُرفةِ المراقبة (ميرادور) بكنيسة القديس نقولا (نيكولاس)، التي تقع في حي البيازين (أو ألبيثين، حسبما يُنطقُ الاسمُ باللَّهجة المحلية) الشَّهير، الذي يحتفظ إلى الآن بطابَعِه الإسلاميِّ القديم؛ وهو مَحَلُّ حفاوةٍ من قبل السِّياح الذين يتقاطرون عليه لرؤية الحمراء من جانبه، كما هو أيضاً مَحَلُّ تقديرٍ من قبل منظمة اليونسكو التي اعتبرته موقعاً تديره ضمن برنامجها الخاص بمواقع التُّراث الدُّولي (إلى جانب خنرليفي وقلعة الحمراء)، إضافةً إلى أنه مَحَطٌّ لاهتمامِ الرِّوائيين، حيث وصفه الرِّوائيُّ اللَّبناني أمين معلوف في روايةٍ له باللُّغة الفرنسية، تمَّت ترجمتها تحت عنوان "ليون الأفريقي"؛ هذا علاوةً على أن الحيَّ نفسَه كان موقعاً روائياً من المواقع الأربعة للرِّواية (غرناطة، فاس، القاهرة، وروما)، ومسقطاً لرأسِ بطلِها الرَّئيسي حسن بن محمد الوزَّان، المُلقَّب بـ"ليون الأفريقي".

ولا يُعدُّ أمراً مستغرباً أن يُعجبَ زوَّارُ غرناطة الذين يُحسبون بالملايين سنوياً بمعمار الحمراء البهي، بإضاءته الطَّبيعية الباهرة، وبحدائقه الغنَّاء، وأشجاره الباسقة، وأزهاره العطرة، ونوافيره التي يصلُها الماء المتدفق من جبل الثَّلج، وأحواضه التى تُسقى عبر جداولَ طبيعيةٍ وقنواتٍ صناعية متفرِّعة عنها؛ ولا عجبَ أن ينبهِرَ الزُّوارُ برَدهاتِ القصرِ الواسعة، وسقوفه المزخرفة، وخزفه المُنمنم؛ أو أن يستغرِبَ معظمُهم من كثرةِ الآياتِ المنقوشة على الجدران، ولا سيما "لا غالبَ إلا الله" التي صارت شعاراً للقائد العربي، حاكم غرناطة في ذلك الزَّمان، محمد بن نصر، الملقَّب بالأحمر. كما لن يتعجَّبَ أحدُنا من بعدِ ذلك كثيراً من قولِ عمدة لندن السَّابق، بأنْ ليس لأوروبا ما تخشاه من حُكمٍ غيرِ مرجَّحٍ للمسلمين، إذا كان ما سيخلِّفونه من تراثٍ هو في روعةِ الحمراء وبهائها الآسرِ للألباب.

قدِمَ جونسون إلى غرناطة مُشبَّعاً بأجواءِ وإيحاءاتِ رواية "تسليم"، إلا أنه حرَصَ مع ذلك على إكمال قراءة الرِّواية التي كتبها الرِّوائي الفرنسي المثير للجدل، ميشيل ويلبك، قبل أن يهبِطَ من طائرة "إيزي جيت" التي أقلَّته إلى المدينة الأندلسية العتيقة، وذلك حتى يُديرَ لها ظهرَه، ويضعَ تأثيراتِها السَّلبية خلفَه تماماً؛ وقد حَرَصنا، من جانبنا، أن نسيرَ على خُطى عمدة لندن، فبدأنا تصفُّحَ الرِّواية على متنِ طائرة "لوفتهانزا"؛ ولأن السَّفرية لم تكن مباشِرةً، فقد أخذتنا إلى مطار فرانكفورت، مما اضطرنا إلى أن نركضَ عبر صالاتِ التَّرانزيت حتى نلحقَ بالطَّائرة التي ستقلُّنا إلى مالاغا؛ إلا أننا لم ننسَ مع ضيقِ الوقت أن نتذكَّرَ رهطاً من المفكِّرين الألمان الذين تركناهم رَدَحَاً على مقاعد الانتظار. خلاصة الأمر، أنني لم أستطِع إكمالَ قراءةِ الرِّواية إلا بعد يومٍ من عودتنا إلى لندن؛ ولكنني نجوتُ من تأثيراتِها السَّلبية بإعمالِ الخيالِ المُضاد، وبما أحتفظُ به في قرارةِ نفسي من تحيُّزاتٍ تعصمني من الوقوع في الأحابيل الرِّوائية التي صنعها الكاتبُ باقتدارٍ شديد. ومع ذلك، فقد تركتُ له حبلاً طويلاً ليُقنِعَني بحُجَّتِه، إلا أنني توصَّلت في نهاية المطاف إلى ما توصَّل إليه عمدة لندن السَّابق، بوريس جونسون.

اعتمد الكاتب على لعبة التَّصوُّرات المتضاربة لدى كلٍّ من المسلمين في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها والأوربيين على وجه العموم، والفرنسيين منهم على وجه الخصوص. فما يبدو لدى طرفٍ قريبَ المنال، يبدو لدى طرفٍ آخرَ بعيدَ المنال أو قريباً من المستحيل. والحيلة الأساسية التي اتَّبعها المؤلِّف، هي تصويرُ ما هو بعيدُ المنال وكأنَّه على مرمى حجرٍ أو هو أقربُ إلى التَّحقيق، لتغذيةِ الأوهام وتعزيزِ المخاوف من صعود الإسلام. وما يُستفادُ من درسِ الحمراء، هو أنْ ليس هناك ما يخشاه الفرنسيون أو تخشاه أوروبا من حُكمِ المسلمين (الذي يتمثَّلُ تمثيلاً رمزياً خافتاً في عمدة لندن المسلم الحالي)؛ ما يخشاه العالمُ أجمع –بالفعلِ- هو صعودُ التَّطرُّف، من أيِّ طرفٍ أتى، مسلمين كانوا أم مسيحيين أو يهودا؛ وما ينبغي تذكُّره من تاريخ الحمراء، أن المسلمين، إلى جانب اليهودِ كذلك، همُ الذين تمَّ طردُهم من غرناطةَ وإجلاؤهم من بلادِ الأندلس قاطبةً، بعد أن حكموا بلاداً تعايشَ فيها نوعاً من التَّعايشِ كافَّةُ الدِّيانات والثَّقافات، لمدَّةِ نحوِ ثمانيةِ قرون.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد يونيو 12, 2016 2:46 am، تم التعديل مرة واحدة.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »


الأخ خلف الحمد لله الذى سخر عمدة لندن ذلك لتُخْرِج لنا من صخر الأندلس بمبضع صاحب القانون وعارف أسرار أرسطو الوليد إبن رشد صوراً نرى عبرها حركة غزالة إبن طفيل ونستمع لموسيقى موشحات إبن زيدون وبنت المستكفى ونطالع فى وهجها خطاب الشرق للغرب ورد الغرب للشرق ونختم حينذاك تهافت الفلاسفه وتهافت التهافت وفى بالنا فن التوليد الذى جاء بالمحجوب فى غياب محجوب وجاء بريان المسعود حضورا مع الريان فى الفردوس المفقود للمحجوب كذلك والدهشة تلجمنا من دس الكتدرائية فى المسجد بقرطبة مكراَ وزوراً لا يخفى الحق ولا يطفئ أنواره وتمتشق الحمراء التى نحتها لنا بذات إزميل من نحتها فى زمانها لتبقى أسطورةَ من أساطير العصر الذى أبقى لنا فقه المغرب وفكره وفلسفاته وآدابه فماج إبن ماجه وأجاد إبن طفيل وأفاض إبن رشد والذى أشبه بقنال السويس وقناته التى جرى عبره بحر القديم فى بحر الحديث، فمن غيره فك شفرة أرسطو ووضع أساساَ للطب والفلك والفلسفه والقانون فيا لك يا أبو المحجوب، ودعنى أرفعها عنيةً لأنى أعنيك من محجوبٍ عن الناس رفع الحجاب لنا عن ذلك الفردوس المفقود لنرى ما صوره المحجوب لنا لنسافر مع ذلك العقد الظمآن ونحن أكثر ظمأَ منه الآن وأكثر واقعية فى النظر إليه من ما مضى عندما كانت تتملكنا المراهقه فى فصول درسها ومرسها بعاطفة جياشه يلهبها أساتذتنا الدكتور المعز الدسوقى والأستاذ جعفر سعد وننزغم ونندغم فى كل الفصول والأنهر لكى نستمتع بالإصتنات إليها ثانية وثالثة وإلى ما لا نهايه، شكرا خلف فقد أعدت الأمل من غرناطه بعد أن تأسينا عليه فى قرطبه والشكر لك والسلام.


منصور
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

يتوقَّفُ محمد خلف هنا ليبدأ في تأمُّلِ نتيجة استفتاء المملكة المُتَّحدة التي جاءت لصالح خروج الأخيرة من الاتِّحاد الأوروبِّي:



لندن بين عُمدتين ومملكةٌ مُتَّحدةً بالاسم إلى حين إشعارٍ آخر



قُبيلَ استفتاءِ الخميسِ (الأسودِ بحَسَبِ معسكرٍ والأبيضِ بحَسَبِ آخر)، قال لي ابني محجوب: "علينا أن نبحثَ عن بلدٍ ثان، إذا فازَ معسكرُ 'الخروج' من الاتِّحاد الأوروبي"؛ وبُعيدَ فوزِه، أرسلتْ لي ابنتي ماريا رسالة واتساب من تايلند تُحِثُّنا على الرَّحيلِ إلى برلين؛ ومن فرجينيا، أرسلَ لي مسعودٌ رسالةً أخرى مستفسراً فيها عن "شعوري" إزاء نتيجة الاستفتاء، بعد أنْ قال لي إن خروج 'المملكة المُتَّحدة' من الاتِّحاد الأوروبي قد "شَطَرَه" (أي حزَّ في نفسِه وأعياه أمرُه على مستوًى أنطولوجيٍّ عميق، بحسب تفسيري لعبارته المكثَّفة، التي اعتَدناها منه في مواقفَ شَّبيهة من غيرِ أنْ تكونَ مُطابِقةً).

لا أُريدُ أن أبدأ بمشاطرةِ المهزومين تأسُّفَهم على تبدُّدِ حُلمٍ إلى هباء أو التَّحسُّرِ على وضعٍ مثاليٍّ ضاع سُدًى، بلِ الأوجبُ أن نبدأ بتهنئةِ المُنتصِرين على فوزِهمُ المؤكَّدِ بفارقِ ما يربو على مليون ومئتي ألف صوت، وإنْ كانتِ النِّسبةُ المئوية لا تتجاوزُ الاثنين بعد الخمسين؛ خصوصاً وأن فوزهم، على علَّاته، قد جاء تعبيراً عن إحساسٍ صادقٍ بانتصارِ الكُتَلِ الشَّعبية المُقصاةِ من اتِّخاذِ القرار على النُّخبِ التي تتحكَّمُ في اتِّخاذِه؛ هذا لا يعني أنهم كانوا بمَنجاةٍ في خياراتهم الفردية من التَّغريرِ بهم من قبل قلَّةٍ مُهرِّجة تستغلُّ غرائزَهمُ الفِطرِية، ولكن من نحنُ حتى نغمِطهم حقَّهم في فرحٍ زائف؟ كلُّ ما نستطيعُ تسجيلَه في مصاحبةِ هذه التَّهنئة الواجبة هو أن السماءَ في لندنَ في صباحِ الجمعة ٢٤ يونيو الموافق ١٩ رمضان (وشكراً لمنصور عبد الله المفتاح على دعواتِه التي تصلني كلَّ جمعةٍ بنفحةٍ من فضلِ هذا الشَّهرِ الكريم)، كانت صافيةً والطقسُ صَحوٌ، في أعقابِ ليلةٍ مُمطِرة وفيضاناتٍ جارِفة؛ وهي خلفيةٌ قد تساعدُ، ورُبَّما ساعدتْ بالفعل، بعضَنا على تأمُّلِ قوله تعالى "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ"؛ (سورة "البقرة"، الآية رقم 216).

وفي ذاتِ يوم ٢٤ يونيو (وهو يومُ المِهرجان، المقابل في العصرِ الحديث في إنجلترا لاحتفالاتِ غلاستونبري؛ التي تغنَّت فيها المُغنِّية الأمريكية بيونسيه العام الماضي، وأديل البريطانية يوم أمس لمدَّة ٩٠ دقيقة) من عام ١٤٩٣، وهو العامُ التَّالي لسقوط غرناطة، كان المسلمون في الأندلس حتى ذلك الوقت (وشكراً للرِّوائي اللُّبناني أمين معلوف الذي وفَّر لنا بعضاً من المعلوماتِ في كتاب غرناطة، وهو الجزءُ الأول من روايته الشَّهيرة "ليون الأفريقي") يحتفلونَ، بطوائفِهمُ المُختلِفة، جنباً إلى جنب مع ذوي الأديان الأخرى، بمناسبةٍ ترتبط في ظاهرها بالانقلاب الصَّيفي (وإنْ كانت في الأصلِ تعني الاعتدالَ الخريفي)، بينما يمور باطنُها بأُوارِ نارٍ وثنيةٍ قديمة. وربما يكون هذا التَّداخلُ الثَّقافي، الذي يتمُّ التَّعبيرُ عنه، في جانبٍ منه، بالتَّواصلِ بين الأديان وحريةِ الانتقالِ بينها، خاصَّةًَ في أواخرِ أعوامِ حُكمِ المسلمينَ في الأندلس، هو الذي سهَّل مَهَمَّةِ تسليمِ مفاتيحِ غرناطةَ من غيرِ وقوعِ حربٍ داميةٍ بين فيردناند الثَّاني ملك قشتالة وإيزابيلا الأولى ملكة أراغون من جانب، والأمير محمد الثَّاني عشر، الشَّهير بأبي عبدالله أو "بوعبدل"، من جانبٍ آخر.

وفي لندن، هذه المدينة الشَّهيرة دولياً بتداخلِها الثَّقافي، انتقلت مفاتيحُ المدينة فيها بسهولةٍ ويُسر من عُمدةٍ سابقٍ، تتبَّعنا خُطاهُ إلى غرناطةَ، إلى عُمدةٍ مُسلِمٍ حاليٍّ يقبِضُ الآن بعُرى التَّماسُكِ بكلتا يديه، في بلدٍ بدأتْ تعصِف به، من جرَّاء تبعاتِ الخروجِ من الاتِّحادِ الأوروبي، رياحُ التَّغييرِ من كلِّ حَدَبٍ وصَوب؛ وهي وضعيةٌ يُمكِنُ لخيالٍ سرديٍّ جامح، مثلما هو الحالُ لدى الرِّوائيِّ الفرنسيِّ ميشيل ويلبيك، أن يستغلَّها في توظيفٍ آيديولوجي غيرِ أخلاقي. إلا أنه من ناحيةٍ واقعية، فإن عُمدة لندن السَّابق، بوريس جونسون، لحُسنِ الطَّالعِ، هو الذي يقود مسيرة الخروجِ من الاتِّحادِ الأوروبي، وليس مايكل فاراج، ذلك السِّياسيُّ الذي صِيغ، لسوءِ الطَّالعِ، على شاكِلَةِ دونالد ترامب.

صحيحٌ أن عُمدة لندن السَّابق قد عُرِفَ بالتَّهريجِ، ولجوئه إلى التَّهكُّمِ، وتقديمِ الحُججِ الواهية، واستخدامِ الخُطَبِ النَّاريةِ المُضلِّلة؛ إلا أنه في واقعِ الأمرِ سياسيٌ بارع، وخطيبٌ مفوَّه، وأكاديميٌّ لا يُشَقُّ له غُبار، فهو من خريجي جامعة أكسفورد ومدارسِ إيتون الإنجليزية الشَّهيرة؛ وهو فوق ذلك منافِسٌّ قديم لرئيسِ الوزراء البريطاني المُستقيل، ديفيد كاميرون، ووزيرٌ بلا وزارة في حكومته، وشخصيةٌ محبوبةٌ في أوساطِ المحافظين، إضافةً إلى قدرتِه على تأليبِ أعدادٍ كبيرة من المُعجبين بشخصيَّتِه من خارج دائرته الحزبية المحدودة، على اتِّساعِها الجماهيري. وهي كلُّها ميزاتٌ تؤهِّله –إنْ أرادَ اللهُ خيراً- للتَّعلُّم، وحشدِ القدراتِ لتجميعِ الشَّتات؛ وفوق ذلك كلِّه، يمكنه التَّعاونَ مع عُمدة لندنَ الحالي: صادق خان (إلا أن جونسون يحتاجُ أولاً أن يكسبَ المحافظين إلى صفوفِه، قبل تطلُّعِه إلى خَطبِ وِدِّ الآخرين).



سنحاول في حلقةٍ قادمة التَّركيز على مآلِ المملكة المُتَّحدة، في أعقابِ تصويتِ إنجلترا وويلز للخروجِ من الاتِّحاد الأوروبي، فيما صوَّتت إسكتلندا وإيرلندا الشَّمالية، إلى جانب لندن، للبقاءِ ضمنه. هذا إضافةً إلى المعارك المُحتدِمة داخل الحزبين الرَّئيسيين، في أعقابِ استقالة كاميرون، واشتدادِ الضُّغوط لاستقالة جيريمي كوربن، زعيم حزب العمال؛ فيما تُشيرُ صحيفة "الديلي تلجراف" في تغريدةٍ إلى قطعِ توم واطسون، نائب رئيس الحزب، لإجازته وعودته من احتفالات غلاستونبري، بعد أن استقالَ نصفُ طاقم القيادة في حكومةِ الظِّل.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

السطور التالية، القليلة كمَّاً، العظيمة شأناً، بعث بها عبد الواحد ورَّاق إلى محمد خلف مكثِّفاً فيها حفاوته بالمساهمات البارزة للأخير في هذا الخيط. وأنا على يقين من أن لا أحد سوف يشكُّ في صدق هذه السطور – بالذات إذا كان هذا الأحد على معرفة بكاتبها. أما لمن لم يعرف عبد الواحد ورَّاق أو لم يلتقهِ من قبل، أي لم ينعم بقلبه الورَّاق، لسانه المبتسم، ورفقته الظليلة، أقول له أو لها قول أهلنا الحميمين: "نصف عمرك ضائع".

ليست قليلة هي المرَّات التي التقيت فيها بعبد الواحد ورَّاق. لكن أغلبها كانت – للأسف الشديد – فترات قصيرة. بيد أن القدر شاء أن يوفِّر لنا سانحة لقاء أرحب – ولكن عبر واقعٍ ومكانٍ غير رحيبين: بيت الأشباح الأشهر الكائن قرب تقاطع شارع البلدية مع شارع المك نمر، أي ذلك الواقع قرب عمارة سيتي بانك سابقاً ولجنة الاختيار. فقد كان قد تم اعتقال عبد الواحد، علي الأمين، صلاح سليمان، محمود جاه الله، المرضي مُعلَّم وشرف ياسين في ظهيرة نفس اليوم الذي تم فيه اعتقالي؛ والتقينا جميعاً بدايةً في سطح أحد مباني القوات المسلحة السودانية (التي – ولسخرية القدر – كان ورَّاق، الفنان التشكيلي والناشط الثقافي، يعمل محرِّراً للصفحة الثقافية لجريدتها) حيث تعرَّضنا لصنوف عديدة من التعذيب لمدَّةٍ تقارب العشرة أيام. ثم تمَّ نقلنا للإقامة الأطول في بيت الأشباح ذاك.

أتذكَّر أن ورَّاقاً كان يتميَّز بصبر، تماسك ودعمٍ معنويٍّ لنا، نحن رفاقه في ذلك المعتقل المُخترَع بواسطة عقلٍ مريض وشرير. كانت تلك الميزات الملهمة من أهم مصادر مقاومتي للبشاعة التي كنا نتعرَّض لها هناك.

فإلى سطور ورَّاق:


ذكروا أنَّ في الصحراء واحةً لا يعثر عليها إلا المُوشِك على الهلاك. في كلِّ مرَّة يا خلف تأتي مقالتك بمثابة الواحة الظليلة والتي يتوفَّر فيها الماء العذب والتمر المُشْبِع والفاكهة الدانية والظلال الرحيبة الممتدة...ونحن في هذا العالم نسير في أكثر من صحراء؛ وقبل أن يتلقَّفنا الهلاك، نظفر بإبداعك. ..الذروة، ثم القلب.

آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين يوليو 11, 2016 2:52 am، تم التعديل 4 مرات في المجمل.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »


فى مهاتفه مع الكاتب الرصين والراصد لدقائق الدقائق فى المعارف والأدب الاستاذ محمد خلف عن إنفعاله بخروج بريطانيا أو المملكه المتحده عن الإجماع الأوربى ذلك الخروج الداوى والعاصف لكل العقول حتى تلك التى أحدثته أو عملت على تحقيقه فقد ماثل ذلك الخروج الآخر أوالإخراج الذى كان صاعقة كذلك من قبل خمسة قرون سالفه تاركاَ العمارة والعلوم والمكتبات والفلسفه وأسس النهضة الحديثه عبوراَ للمتوسط ولا أدرى باى سفن وأى مراكب بعد أن أشعل فيها إبن زياد النيران ليكون طريق العبور الأول إتجاه واحد ولكن إجتمعت الأسباب وحدث ما لا تقدر العقول على إستيعابه حتى يدج بعض الخارجين لاحقاَ لحلم الدوله الإسلاميه الوليدة بسنار مقر السلطنة الزرقاء ليتشكل بهم واقع السودان الآن، وفى إجابه فوريه لخلف عن المقارنه وببلدية مطلقه قلت له شده بالعضل فقد إستطعت أن تحقن عقولنا والقلوب بحقنه خمسه سيسى بالعضل تحمل المقاربه بين الحدثيين الفارقين عن سواهما!!



منصور
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

ذكروا أنَّ في الصحراء واحةً لا يعثر عليها إلا المُوشِك على الهلاك. في كلِّ مرَّة يا خلف تأتي مقالتك بمثابة الواحة الظليلة والتي يتوفَّر فيها الماء العذب
والتمر المُشْبِع والفاكهة الدانية والظلال الرحيبة الممتدة...ونحن في هذا العالم نسير في أكثر من صحراء؛ وقبل أن يتلقَّفنا الهلاك، نظفر بإبداعك. ..
الذروة، ثم القلب.


عبد الواحد وراق



يا لك من فنان يرى ما يراه أهل الخطو والحظوة والكشف والإلهام، يا وراق الحديث والفعل ويا ساقى الخير بقواديس
من صندل للعطشى، فى الصحارِى والعتامير، ويا عراف لحوجة الناس للماء والظل فى تلك الصحارَى ويا لك من نزاع للحقائق من ماهيتها فى ذهنك
وتشكيلها فى صورٍ راقصةٍ، كتلك التى لم تسهب فيها بل أطنبت، ولم يستطع شراح قولك بأن يقووا على نقلها فى لغة شارحةٍ للناس حتى وإن تمادوا
فى الإسهاب يا وراق فقولك ببذل خلف كما الواحة والظل فى الصحراء توظيف لامس الحقيقة ومسك بخصرها حتى ماحت ومالت ودنت وصارت
(قاب قوسين أو أدنى) الشكر لك يا وراق والذى له مع الظلال ودادٌ راسخ، ثابتةٌ كانت أو متحركه فما بالنا بها فى الصحراء والماء الفرات!!



منصور
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

عفارم عليك وبرافو أيضاً يا منصور؛ نصرك اللهُ على نفسك، وقوَّاك على غيرك، وحفظ لك أولادك وأهلك، وأنعم عليك بفضلٍ دفَّاقٍ من عنده؛ فقد أحسنت القول،
وافتتحتَ فضاءً واسعاً للحديثِ عن رجلٍ يستحقُّ كلَّ خير. حفظ الله ورَّاقاً لأهله ووطنه، ولأهل الخير في جميع بقاع الأرض.


محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

أما وقد دلفنا إلى حضرة الانسان الشفيف والفنَّان الرهيف عبد الواحد ورَّاق، فلنواصل حفاوتنا به مع انسان لا يقِلُّ شفافيةً، وفنَّان لا يقِلُّ رهافةً، سيد أحمد بلال:



العودة إلى أولِ السَّطر
(إلى الورَّاقين السُّودانيين جميعاً، وإلى عبد الواحد ورَّاق بصورةٍ خاصة)



يتراجعُ الوَحْشُ إلى خارجِ الحرف
يواجهُ قوَّةَ الرُّوحِ بقوَّةِ الصَّوْلَجان
يعودُ ورَّاقٌ إلى أولِ السَّطر
رَشْفَةُ شايٍ بالهبَّهان
خيطُ حرير
من النَّسيجِ الأخير
لقلبِ الإنسان
نحيلٌ، أليفٌ
خالٍ من العنفِ والادِّعاء
أُعانقه
يذوبُ هجيرُ الخُرطومِ في ظِلِّه
* * * *
يعودُ ورَّاقٌ إلى أولِ السَّطر
أو إلى فضاءِ لوحتِه
لأداءِ الصَّلواتِ الجميلة
والسُّجود فوقَ الغَمامة
وارتداءِ العِمامة
وإنقاذِ لحنٍ من النِّسيان
نتبادلُ روايةَ أحلامِنا:
"لم يسقطْ قَوْسُ قُزَحٍ على الطَّريقِ الزِّراعي
وإنما رأى نجمة
تُرسِلُ إشارةً واضحة
ثم تَهْوِي على الأفق
بعد كَلِمةٍ جارحة"
* * * *
يعودُ ورَّاقٌ من باطنِ النَّصِّ
يَعْبُرُ الجِسرَ إلى أولِ السَّطر
رغم المصاعب
يعودُ
حزيناً على ما جرى
حزيناً على صغارِ الوحوش
وهم يتجاهلونَ تحَلُّلاً لضمائرِهم خارجِ المَقْبَرة
فهم يتغافلونَ بأنَّ "اللهَ يرى"



[align=right] إدنبره نوفمبر 1991
سيد أحمد علي بلال
من ديوان "والماء إذا تنفَّس"
الطَّبعة الأولى 2007
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في السبت يوليو 23, 2016 11:16 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
أضف رد جديد