Story Lesson أو الحِصَّة قِصَّة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

عبر هذه المقدمة، أو الأُرجوحة، المُلوَّنة، يهيؤنا محمد خلف لرفقةٍ متأمُّلةٍ أخرى:



أحمرُ وأخضرُ وما بينهما (مليحُ اللَّمى) حلوٌ وطازَج



إذا كانت سُكينة أحمد كمبال قد ساقتنا بطلاوةِ حديثِها وحلاوةِ لهجتِها واسمِها العذبِ الرَّخيمِ إلى عالمِ التَّصغير، فإن محمد عبد الرَّحمن حسن (بوب) قد قادنا بسَمتِه الأجملِ إلى عالمِ التَّفضيل؛ فاسمُه الذي تأتي صيغتُه دائماً على وزنِ "أفعل" قد غطَّى المشاركة السَّابقة بهمزاتِه البارزة عند أولِ الكلم، فأكسبها حِدَّةً ظاهرةً في الدَّوال، وقطعيَّةً خفيَّةً في الدَّلالة ( فجاء قولُنا عنه في ذاتِ الحلقةِ بأنه "الأخفضُ صوتاً، والأرفعُ مقاماً، والأَحَدُّ بصراً، والأنفذُ بصيرةً")، وكأنَّنا كُنَّا نُريدُ أن نُشيرَ إلى تمرُّدٍ مُبكِّرٍ لدى مُحمَّدٍ على الأطُرِ التي تسعى لخنقِ بعضِ سماتِ التَّفضيلِ في مهدِها. إلا أننا سنُرجئُ كلامَنا على "اسمِ التَّفضيلِ" إلى حلقةٍ قادمة، ونتناولُ عِوضاً عن ذلك وتمهيداً له، صيغةَ "أفعل" غير التَّفضيلية، التي يكونُ مؤنَّثُها على صيغةِ "فعلاء"، مثل "أحمرَ-حمراء" (وليس "حُميراء" التي أشرنا إليها في الحلقةِ السَّابقة عن التَّصغير)، و"أخضرَ-خضراء"، لنفسحَ بينهما -رغم مُقترحِ المُجمَّعِ اللُّغوي الشَّهير، وفشلِه المُدوِّي في فرضِ ترجمة "ساندويتش" على مُستخدمي العربية- مكاناً للطَّزاجةِ المحبَّبة.
منذ أن تفتَّحت أعيُنُنا على مظاهرِ التَّحديثِ الأوروبي (ولا أقولُ الحداثةَ الأوروبية ذاتَ الشَّأنِ التي خبِرناها لاحقاً بصبرٍ ومثابرة)، كانت أغلفةُ المجلَّاتِ الصَّقيلة تعِجُّ بالهيفاوات ذواتِ الشَّعرِ المُسترسِل، والأصباغِ الصَّارخة، وأحمرَ الشِّفاهِ الذي يحتلُّ مكاناً بارزاً في صورةِ الوجهِ وطُبُوغرافيا الصَّفحةِ الأمامية على حدٍّ سواء. وتكادُ لا تخلو أيٌّ من مجلَّاتِ المُوضةِ الشَّهيرة في أيِّ أسبوعٍ من تلك الحُمرةِ الفاقعة، التي تُعرَضُ على الأغلفةِ والصَّفحاتِ الدَّاخلية بدرجاتٍ متفاوتةٍ منها، إلَّا أنها تُشيرُ جميعُها إلى قدرٍ من المُبالغةِ في الصَّنعة، إنْ لم نقلِ الاصطناعَ البائنَ فيها. وعلى مستوى العقلِ الباطنِ الجمعي (بالمعنى الذي قصده غوستاف يونغ، الذي تحدَّثنا عنه في مشاركاتٍ سابقة)، كانت هذه الصَّنعة التَّجميلية المُتقنة، بكلِّ ما تحملُ من معاني الزَّيفِ ومفارقةِ العاديِّ والمألوف، تضعُ المُنْتَجَ الأجنبي، الذي تُمثِّله الحُمرةَ (التي أباها المهدي، أي كرِهَها)، في مقابل المُنْتَجِ المحلي، الذي تُمثِّله الخُضرة، بكلِّ ما تحملُ من دَلالاتِ الخِصبِ والنَّماء، بحسب نظرية النَّماذج والرُّموز الأصلية التي تبنَّاها يونغ.
إلا أن هذا الغِطاءَ الأخضر، على قُربِه من الدَّلالةِ على المزارعِ النَّامية في التُّربةِ المحلية، وبُعدِه عن الإشارةِ إلى المصانعِ القادمة مع الزَّحفِ الأجنبي، وعلى مراوغته وصبغته اللَّونيةِ المُضلِّلة، كان يُخفي عُنفاً يُمارسُ بشكلٍ عادي -من غير أن ترمُشَ عينٌ أو يخفقُ قلب- على الجسدِ الأُنثويِّ البريء. فقد كانتِ الشِّفةُ السُّفلى للأنثى المُقبِلة على الزَّواج تُوخزُ بالإبرِ وشوكِ العوسج إلى أن تدمي، فيتمُّ حشوُها بسائلٍ أخضرَ مُستخلصٍ من مرارةِ السَّمك أو رشُّها ببودرةِ (أو "دُقَّةِ") الكحل، إلى أنْ تكتسِبَ لوناً أخضرَ (أي أسودَ)، حتى يُسقى فارسُ أحلامِها من شفةٍ خضراءَ "أحلى من الزُّلال وأنقى". ولا نُريدُ بهذا الوصفِ أن نصُبَّ غضباً على "المُعتدِي"، وإنما نُريدُ، جَريَاً على روحِ التَّسامحِ التي ابتدرها المجذوب، أن نُشيرَ -في إطارِ الإثمِ الجمعي، وبالإنابةِ عن أمِّي حاجَّة مُنى- إلى اعتذارِ "المُعتَدَى عليها" الذي نبَّه عليه شيخُ الشُّعراءِ السُّودانيين، حين قال في قصيدة "سيرة": "شلَّخُوها حتى تُضِيءَ فأضمَرَتْ حناناً لأمِّها واعتذارا".
وفي بلادِ الأندلس، التي يمتزجُ فيها رائحةُ المُنتجِ المحليِّ بنكهةِ الأجنبيِّ المُستورد، ويختلِطُ فيها حابلُ الأنا بنابلِ الآخر، ويتنازعُ على سواحلِها كلٌّ من الماضي والحاضر ويتدافعانِ داخلَ مُخيَّلةِ العقلِ العربيِّ الجمعي، كانتِ الفتياتُ البيضاواتُ يصبُغنَ شفاهَهُنَ بمسحوقٍ طازَجٍ من جذورِ أشجارِ اللَّوز، فيُكسِبُها سُمرَةً في اللَّونِ ورائحةً ’طبيعيةً‘ ذكية؛ ومن أجلِ ذلك، على وجهِ التَّحديد، يكثُرُ في الموشَّحاتِ ذِكرُ اللَّمى (وهي سُمرَةُ الشِّفاهِ أو شِدَّةُ سوادِها)؛ ومن فرطِ استحسانِهم لها، غالباً ما يصِفُها الشُّعراءُ الأندلسيون العربُ بالمَلاحَة (وشُكراً لصديقي عبد الواحد ورَّاق، الذي أرسلَ لي أغنية "يا مليحَ اللَّمى وحلوَ التَّثنِّي"، فأدمنتُ الاستماعَ إليها بصوتِ فيروزَ، إلى أنْ قادني صدى لحنِها العذبِ داخلَ أذُنُيَّ بطُرُقٍ مواربةٍ، على خُطى المحجوبِ، إلى أعتابِ قرطبة؛ وعلى خُطى عُمدة لندن السَّابق إلى مشارفِ غرناطة وأزِقَّةِ ألبيثنَ ذاتِ النَّكهةِ العربيةِ السَّاحرة).


سنحاولُ أن نتمعنَ قُبيل العيدِ في بعضِ معاني التَّفضيلِ في صيغة "أفعل"، التي استدعتها المشاركةُ السَّابقة بخصوص الاعتذارِ للأستاذ محمَّد عبدالرَّحمن، إلى أن نصِلَ –بإذنِ الله– إلى فهمٍ ناصعٍ لها، بحلولِ العيدِ الكبير.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

عبر هذه الحلقة ننتقل مع محمد خلف إلى تأمُّل في مجال الحقيقة وهو المجال الذي يلجه بواسطة التأمُّل في صيغة التفضيل:



فضاء اسم التَّفضيل: من مجال الحقيقة إلى مشارفِ الحق

-الحلقة الأولي-




مهَّدنا في المشاركةِ السَّابقة إلى اسمِ التَّفضيل بحديثٍ عن صيغةِ "أفعل" الأخرى لغيرِ التَّفضيل، مثل "أحمرَ" و"أخضرَ"، ونُميِّزُها عنه بأن المؤنَّثَ منها يأتي دائماً على وزنِ "فعلاء"، مثل "حمراء" و"خضراء"؛ والتي قادنا الحديثُ عنها إلى الموشَّحات، والكشفِ عن بصيصِ توهُّمٍ أو شعورٍ فاترٍ لدى شعرائها بوجودِ طزاجةٍ ’طبيعية‘ في أحشاءِ بلادِ الأندلس، ضاعت بضياعِها؛ ويتمُّ الحنينُ إليها باستدعاءِ "اللَّمى"، وملاحتِها الآسرة، التي تُعيدُ إلى مُخيَّلةِ العقلِ العربيِّ "الذكوريِّ" الجمعي "فردوسَها المفقود". أمَّا في هذه الحلقة، فإننا سنعودُ إلى الصِّيغةِ "ستِّ الاسم"، التي أثارها حديثُنا عن محمَّدٍ "صاحبِ الاسمِ" الأجمل؛ وهو الفنَّانُ التَّشكيلي والنَّاقدُ الفنِّي "الأخفضُ صوتاً، والأرفعُ مقاماً" محمَّد عبدالرَّحمن حسن (بوب).
تخترقُ صيغةُ التَّفضيلِ، في نظرِنا، مجالَ الحقيقةِ من أقصاه إلى أقصاه، فهو مجالٌ قائمٌ بصورةٍ رئيسية، خصوصاً جانب العلوم الاجتماعية والأحياء منه، على آليةِ التَّدورُنِ الأساسية، وهي الانتخابُ الطَّبيعي؛ ويُمكنُ تمديدُ هذه الآلية لتغطِّي كافة أوجهِ الكونِ المرئي، مثلما يسعى علماءُ الكونيَّاتِ إلى تحقيقِه؛ ومنهم، على سبيلِ المثال، مارتن ريز، عالم الفلك الملكيِّ البريطاني، منذ عام ١٩٩٥. فلِكَي تتدورَنُ خاصيَّةٌ ما، اجتماعيةً كانت أم طبيعية، لا بدَّ من وجودِ خاصيَّتينِ (أو أكثر) بين نفسِ الكائنِ الحي أو الفردِ أو الجماعة، يقوم بينهما تغايرٌ في البنية أو الشَّكلِ أو الوظيفة، بحيث يُمكنُ المحافظة بواسطةِ عمليةِ التَّدورُنِ على أفضلِها وأكثرها ملائمةً لبقاءِ النَّوع أو تكيُّفِه وتحقيقِ أفضلِ شروطِه عن طريقِ الانتخابِ الطَّبيعي. فإذا تساوتِ الخواص، وانتفى بينها التَّفاضل، يتجمَّدُ الكائنُ على صورتِه، فيدورُ في مكانِه، عِوضاً عن تدورُنِه إلى الأفضل، والأكثرِ قدرةً على البقاء، والأبعدِ احتمالاً عن الانقراض.
وفي سعيِّ البشرِ باختيارِهُمُ الحرِّ لتحقيقِ العدالةِ الاجتماعية، وشوقِهُمُ الجارفِ للمسِها باليدِ العارية ورؤيتِها بالعينِ المجرَّدة، لا بدَّ من الانتباهِ إلى الفعلِ الطَّبيعيِّ المضاد الذي ترسِّخه آليةُ الانتخابِ الطَّبيعي؛ فَلو تُركت على سجيَّتِها، لتحوَّلنا إلى حيواناتٍ مفترسة؛ ولو تجاهلنا تأثيرَها أو عطَّلنا أثرَها، لدارت قدراتُنا في مكانِها، ولمُنِعَ أفضلُها من التلاؤم، ناهيك عن التَّدورُنِ إلى الأفضل، الذي يستدعيه اسمُ التَّفضيل. ففي عالمِ الوحوش والأنيابِ البارزة والمخالبِ الدَّامية –تعضيداً للتَّنافسِ أو دفاعاً عن الذَّات- يتراجعُ ذكرُ محمَّدٍ وينخفضُ صوتُه؛ وفي حضرةِ ورَّاقٍ والنَّاسِ الأفاضل –بُغضاً للمزاحمةِ أو نُكراناً للذَّات- يتجلَّى نورُ محمَّدٍ ويرتفعُ هامتُه حتى تكادُ أن تعانقَ أنجمَ السَّماء. ومن أجلِ ألا نكونَ نهباً لهذينِ القطبَيْنِ المتنازعَيْن، نطلبُ من مبدعينا وأفضلِ أساتذتِنا أن يرسموا للنَّاسِ طريقاً ذهبياً أو "خاطفَ لونَيْن"، كالذي يبشِّرُ به عددٌ من آيِ الذِّكرِ الحكيم: "وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومَاً مَحْسُورَاً"؛ (سورة "الإسراء"، الآية رقم ٢٩)؛ "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامَاً"؛ (سورة "الفرقان"، الآية رقم ٦٧).
أمَّا في التَّنظيماتِ السِّياسية والتَّجمُّعاتِ المذهبية والتَّكويناتِ الاجتماعية ومنشآتِ العملِ ومكاتبِ الدولة، فإن أصحابَ الفضلِ والامتيازاتِ الشَّخصية إن تُرِكَ لهم الحبلُ على الغارب، فإنه ينشأ عن ذلك ظاهرةُ الدِّيكتاتورية والاستفرادِ بالرأي والتَّسلُّطِ البطريركي والتَّعسُّفِ الإداري والظُّلمِ الوظيفي؛ وإن تمَّ تجاهلُها أو التَّبخيسُ من دورِها أو إضعافُها، فإنه ينتجُ عن ذلك ضَعفُ الشَّخصية ونقصُ الكاريزما والسَّبهللية وتدنِّي الإنتاجية والتَّسيُّبُ الإداري. ومن أجل ذلك لا ندعو إلى توفيقيةٍ تلفيقية أو إمساكٍ واهنٍ للعصا من وسطِها، وإنَّما ندعو دائماً إلى إعمالِ العقلِ واستخدامِ أقصى درجاتِ الحكمة لبعجِ مسارٍ أو صقلِ طريقٍ ذهبي، يمهِّد الطَّريقَ لامتصاصِ التَّوتُّرِ وإقامةِ العدلِ بالاعتدالِ ومُخالقةِ النَّاسِ (أي معاملتِهم) بخُلقٍ حَسَن؛ "وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ"؛ (سورة "آل عمران"، الآية رقم 159).


سنحاول أن نستكشف، بِإِذْنِ الله، في حلقةٍ قادمة، نرجو لها أن تُستكملَ قبل انقضاءِ العيدِ الكبير، فضاءَ اسم التَّفضيل، الذي يتاخمُ مشارفَ الحقِّ، من غيرِ جزمٍ بالوصولِ إليه.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

كتب محمد خلف
وإنَّما ندعو دائماً إلى إعمالِ العقلِ واستخدامِ أقصى درجاتِ الحكمة لبعجِ مسارٍ أو صقلِ طريقٍ ذهبي، يمهِّد الطَّريقَ لامتصاصِ التَّوتُّرِ وإقامةِ العدلِ بالاعتدالِ ومُخالقةِ النَّاسِ (أي معاملتِهم) بخُلقٍ حَسَن؛ "وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ"؛ (سورة "آل عمران"، الآية رقم 159).


لا أريد قطع الحديث قبل اكتماله، لكن اعتقد أن كلمات مثل الحكمة
والعقل والأخلاق كلمات من الصعوبة الامساك بتعريف
(جامع ومانع) لها. وقد أوردت أنت قصة سيدنا الخضر، وما فيها
من حكمة غابت علينا كمراقبين.
في اساطير (الملك العادل) تظهر العدالة والاعتدال والحكمة كمَلَكَة طبيعية، أو خصيصة عند
ذلك (الملك)، تختفي بموته، ويتنتظر الرعية ظهور (ملك عادل) آخر، بل ذهب البعض لإنتظار (مستبد)
ما دام (عادلاً). في ذات الوقت تحاول منظومة الدولة القومية القائمة الآن أن تحقق العدل والعدالة
الإجتماعية عبر سن القوانين وتطبيقها على الكل (فصل السلطات والاجراءات المحاسبية وغيرها).


فلمن يتم توجيه الخطاب هنا باستعمال (العقل والحكمة والمعاملة بخُلُق حسُن) في واقعنا الآن؟
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وعبر هذه الحلقة يتأمَّلُ محمد خلف في اسم التَّفضيل في علاقته بالحق:



فضاء اسم التَّفضيل: من مجال الحقيقة إلى مشارفِ الحق

-الحلقة الثَّانية-




تعرَّضنا في الحلقةِ السَّابقة إلى اسم التَّفضيل في مجال الحقيقة، وسنسعى في هذه الحلقةِ المكمِّلة إلى تلمُّسِ خُطُواتِنا على مشارفِ الحقِّ، فلربَّما نعثُر بفضلٍ من الله على صُوًى على سبيلِه، فتُهدينا إليه. وما أحوجُنا إلى مثلِ هذه المناراتِ على طولِ الطَّريق؛ فهل نجِدُ في سبيلِ الحقِّ خيراً من آيِ الذِّكرِ الحكيم؟ فالآياتُ في جوهرِها علامات، ولكنْ شتَّانَ ما بين إماراتٍ تهدي إلى الحقِّ، وبين علاماتٍ أخرى تؤطِّرُ لعلمِ النُّصوصيَّة أو تغذِّي عِلمَ العلامات (أي عِلم السِّميولوجيا أو السِّميوطيقا؛ وهي ليست السِّيمنطيقا، التي تُشيرُ إلى عِلم الدَّلالة). فالاهتداءُ إلى دَلالةِ الآياتِ هِبةٌ من الحقِّ، ويستند في واقعِ الأمر، وقبل كلِّ شيءٍ، على الإيمان؛ أمَّا النَّظرُ إليها بوصفِها نصوصاً قابلةً للتَّفسير الدَّلالي بمدارسِه المختلفة، فهو كسبٌ إنساني، يزدهي به مجالُ الحقيقة، الذي تُمثِّله في عصرِنا خيرَ تمثيلٍ المذاهبُ النُّصوصيَّةُ الحديثة. ونحنُ لا نضعُ الحقَّ والحقيقةَ في مسارٍ تصادمي، وإنَّما ننظرُ إلى علاقةِ اللَّاتماثلِ القائمةِ بينهما، حيث يستغني الحقُّ عن غيرِه، بينما تفتقرُ الحقيقةُ، بنقصِها الدَّائمِ، إليه.
لم يعترض اسمَ التَّفضيلِ في مجالِ الحقيقةِ عائقٌ، فهو مبنيٌّ في الأساس على فضلٍ نسبي، يعزِّز في وجودِه -القائمِ دائماً على خاصيَّتين أو أكثر- استخدامَ الاسم (أي اسم التَّفضيل)؛ فنقولُ إن الحصانَ أسرعُ من حمارِ الوحش أو أن العقربَ أشدُّ لَسعَةً من الزُّنبور (في إشارةٍ إلى "المسألة الزُّنبورية" التي تعرَّضت لها الرِّسالة، من غيرِ أن نُثيرَ هنا نُكتَتَها –أي علامتها الخفيَّة- النَّحوية)، حيث يُوجدُ دائماً طرفان، تُمكِّنُ العلاقةُ بينهما من إجراءِ مقارنةٍ، يكونُ طرفٌ فيها أفضلَ في صفةٍ أو خاصيَّةٍ ما من الطَّرفِ الآخر. إلَّا أن الحقَّ واحدٌ، ولا يُضاهيه غيرُه؛ فما هو جدوى استخدامِ اسمِ التَّفضيلِ مع الحقِّ الواحدِ في غيابِ ما يُماثِلُه؟
نبدأ إجابتنا على هذا السُّؤال بالقول إن القرآنَ كلامُ الله، وهو الحقُّ، وقولُه الحقُّ، إلَّا أنَّه نزلَ على بَشَرٍ بلسانٍ عربيٍّ مبين؛ ويشتملُ على قصصٍ عن البشر، تنقلُ أقوالَهم، وتعقِدُ مقارناتٍ بصددِهم؛ فلا غروَ أنْ كثُرَ استخدامُ اسمِ التَّفضيلِ في القرآنِ الكريم. فلمَّا نُودي موسى إلى الوادي المُقدَّسِ، قال لربِّه: "وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانَاً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءَاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ"؛ (سورة "القصص"، الآية رقم ٣٤). ويحضُرنا أيضاً إخوة يوسُفَ "إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ"؛ (سورة "يوسف"، الآية رقم ٨). وقال تعالى عن تفضيلِ النَّاس بعضهم على بعضٍ في الدنيا وتفاوتِهم في الآخرة: "انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلَاً"؛ (سورة "الإسراء"، الآية رقم 21)؛ وقال اللهُ في شأنِ الغيبِ وأمر السَّاعة: "وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"؛ (سورة "النَّحل"، الآية رقم 77)؛ ويخبر الله تعالى عن نفسه في حديثه إلى نبيِّه محمَّد: "وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى"؛ (سورة "طه"، الآية رقم 7). وفي تجاورٍ ملفتٍ لدَلالة الإيجاد مع تقديرها المجازي، يقول إلياس لقومه: "أتَدْعُونَ بَعْلَاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ"؛ (سورة "الصَّافات"، الآية رقم 125)؛ وفي نفس المعنى، يقول الله تعالى عن إنشاءِ البشر: "ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامَاً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمَاً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقَاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ"؛ (سورة "المؤمنون"، الاية رقم 14).
وما يُلفتُ النَّظرَ في القرآنِ الكريم أن أشهر صيغة تفضيلٍ نعرفها، وهي "الله أكبر"، التي نُردِّدُها ستةَ مرَّاتٍ في كلِّ ركعةٍ من الصَّلوات الخمس وخمسَ مرَّاتٍ في تكبيرِ العيدين، لم ترِدْ مُطلقاً في القرآن، على أهميتها المركزية ضمن أُسسِ العقيدةِ الإسلامية؛ فهل من تفسيرٍ واضحٍ لهذا الغياب المُدهش، الذي قد لا يُصَدِّقُه بعضُ القرَّاءِ إلَّا بالرُّجوعِ مُجدَّداً إلى متنِ القرآن؟ وقبل أن ينصرفَ البعضُ مُسرعاً إليه للاستيقانِ من صِحَّةِ هذا الأمر، يجب التَّنبيه على أن هناك تماساً في ثلاثةِ مواضعَ لاسمِ الجلالةِ (الله) مع صيغة التَّفضيل (أكبر)، من غير أن يتمَّ إسنادٌ كاملٌ للصِّيغة إلى اسم الجلالة، بحيث تُصبحُ هي العبارة ذات الشَّأن: "الله أكبر". وهذه المواضع الثَّلاثة هي: "وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ"؛ (سورة "العنكبوت"، الآية رقم 45)؛ "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ"؛ (سورة "غافر"، الآية رقم 10)؛ "وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ".
في هذه المواضع الثَّلاثة، اقتربتِ العبارةُ القدسية من تحقيقِ نفسها، ولكنها لم تكن؛ فالقرآنُ على سعته، واحتوائه على مُحكم تنزيله، وربَّما لأنَّه في الأصلِ تنزيلٌ، من لوحٍ محفوظٍ، إلى بشر، لا يسعُ عبارةً تفتح بصيغتها التَّفضيلية المميَّزة على رحاب الحقِّ، وتطلُّ بشحنتِها الدَّلالية المفتوحة على المُطلق، حيث لا يكونُ لدى مشارفه موجودٌ غيره؛ فحَقَّاً، "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ" (سورة القصص، الآية رقم 88)؛ و"كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" (سورة "الرَّحمن"، الآيتان رقم 26 و 27). فغيابُ صيغة (الله أكبر)، تماماً مثل غياب مفردة "الحقيقة"، من متنِ القرآن، يُعطينا ثقةً في وجاهةِ ما نقول، إلا أننا في هذا الشَّأنِ نكتفي، مع ذلك، بالقول في ختام هذه الحلقة إن اللهَ أعلمُ.

سنسعى في حلقةٍ قادمة لأنْ نوضِّحَ لماذا وجَّهنا خطابنا في الفقرةِ قبل الأخيرةِ من الحلقة السَّابقة إلى مُبدعينا وأفضلِ أساتذتِنا، طالبينَ منهم أن يرسموا للنَّاسِ باستخدامِهم لأقصى درجاتِ العقل طريقاً ذهبياً، تُبشرُ به عددٌ من آيِ الذِّكرِ الحكيم؛ كما سنسعى لأنْ نوضِّحَ، مثلما فعلنا في حلقاتٍ سوابق، لماذا نعتمدُ القصصَ القرآني، عِوضاً عن أساطيرِ الأولين؛ ولماذا نختارُ الأديانَ الكتابية، بدلاً من أديانِ السِّجلِ الأنثروبولوجي.

محمد خلف


صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

كان تصادف اعتدال مناخَيْ لندن وملبورن - رغم فرْق فصليهما الراهنين - مناسبةً لمحمد خلف لتأمُّلٍ "نسبيٍّ" في نِّسبية آينشتاين، ميكانيكا الكم والجغرافيا والهوية:



النِّسبية وياء النَّسب: اعتدالُكم ربيعيٌّ ياعادلُ في ملبورن، واعتدالُنا هنا في لندنَ خريفيٌّ؛ فتأمَّل!



كان يومُ أمسِ في الجزرِ البريطانية مُساوياً في ساعاتِه تماماً لليلتِه، فيومُ الخميس ٢٢ سبتمبر من عام ١٩١٦ يُصادِفُ الاعتدالَ الخريفيَّ في نصفِ الكرةِ الشَّمالي؛ وهو أيضاً، وفي ذاتِ الوقت، الاعتدالُ الرَّبيعيُّ في نصفِها الجنوبي؛ بمعنًّى آخر، فإن اعتدالَكم ربيعيٌّ هناك ياعادلُ في مِلبورن (في أسفلِ الكرةِ، بالنِّسبةِ إلينا، أو "داونْ أندرْ"؛ وهو التَّعبيرُ الاصطلاحيُّ الذي يُطلِقُه البريطانيون على أستراليا)، واعتدالُنا هنا في لندنَ (في أسفلِ الكرةِ، بالنِّسبةِ إليكم) خريفيٌّ؛ فتأمَّل! وكان بإمكانِ الأستراليين (بمن فيهم أنتَ يا صديقي وجمهرةُ السُّودانيينَ المُنتسبينَ إلى ذلك البلدِ البعيد) أن يصنعوا من ذلك التَّعبيرِ الاصطلاحيِّ سَفَرُوقَاً مجازياً، يُعيدون توجيهَه إلى نُحُورِ البريطانيين (بمن فيهم نحنُ جمهرة السُّودانيين المُنتسبين إلى هذا البلدِ الجذَّاب). فالكرةُ المستديرةُ تَسمَحُ بتعدِّدِ وُجهاتِ النَّظرِ ونِسبيَّتِها، من غيرِ أن تُلغيَ وَجَاهَتَها أو تُضعِفَ من قوتِها الدَّلالية. وهي في ذلك كما الحقيقة، التي تتعدَّدُ بتقلُّبِ الأوقاتِ وكثرةِ زوايا الشَّوف؛ على خلافِ الحقِّ، الذي لا يتأثَّرُ بدورانِ الأرضِ أو يخضعُ لابتلاءاتِ الزَّمن.
وهذا ما أدركه ألبرت آينشتاين في فكرةٍ جميلة، وتعبيرٍ شهير. أمَّا الفكرةُ الجميلة، فهي إعادةُ تفسيرِه للقانون الثَّالث للحركة عند إسحق نيوتن، وهو القانونُ الذي ينصُّ على أن "لكلِّ قوةِ فِعلٍ ردَّ فِعلٍ مُساوياً لها في المقدار ومُعاكساً لها في الاتِّجاه". فتخيَّلَ آينشتاين (ولم يتأمَّلْ فقط)، في حالةِ السُّقوطِ الحُرِّ (وهو سُقوطُ الجسمِ نحو مركزِ الأرض، في غيابِ أيِّ قوةٍ أخرى، عدا جاذبية الأرض)، عِوضاً عن تحرُّكِ جسمِه باتِّجاهِ الأرض، أن تتحرَّكَ الأرضُ ذاتُها صاعدةً نحوَه (ما فيش حدِّ أحسن من حد، فكلاهما مُساويانِ في المقدار، ومُعاكسانِ في الاتِّجاه). أمَّا التَّعبيرُ الشَّهير، فهو قولُه إن "اللهَ لا يلعبُ النَّردَ بإزاءِ الكون"، وهو القولُ الذي جاء في أعقابِ اعتراضِه على مبدأ اللَّاحتميَّة، الذي أرسته ميكانيكا الكم (أي الميكانيكا أو الفيزياء الكوانتية)، عِلماً بأنَّ آينشتاين كان واحِداً من مؤسِّسيها الأوائل. من جانبِنا، يُمكنُنا أن نُفسِحَ لِكِلا المبدأين -النِّسبية وميكانيكا الكم- مكاناً في مجالِ الحقيقة، في حين تسعى جملةُ آينشتاين الشَّهيرة بأيديها وأرجلِها إلى الاقترابِ من رِحابِ الحق.
ولا تكتفي النِّسبية فقط بمعانقةِ ميكانيكا الكم في إطارِ الحقيقة، وإنَّما تقودُنا كذلك إلى ياءِ النَّسب. وهي لا تقِفُ عند حدودِ انتسابٍ بريءٍ للذَّواتِ والأشياءِ إلى هُويَّاتِها الأصلية أو المُكتسبة، كأنْ تقولَ أنتَ يا عادلُ إنَّك سودانيٌّ، أو سوداتريٌّ، أو سودانيٌّ أسترالي؛ أو أقولَ أنا بِدَورِي إنَّني سودانيٌّ، أو كِتَيابِيٌّ، أو سودانيٌّ بريطاني؛ وإنَّما تتعدَّاها إلى الاستخداماتِ الآيديولوجية الواعيةِ منها أو الخفيَّة. ومن أشهرِ الاستخداماتِ الآيديولوجية ما كتبه محمود درويش في مُقتبلِ تجربتِه الشِّعرية، ضمن قصيدتِه الشَّهيرة "بِطاقة هُويَّة"، التي يقول في مطلعِها "سجِّل أنا عربي". إلا أنَّ الاستخداماتِ الخفيَّة هي التي تحتاجُ إلى انتباهٍ أكبرَ من كافَّةِ القرَّاء.
عند إضافةِ ياءِ النَّسبِ إلى الاتِّجاهاتِ الأربعة الرَّئيسية (شمال، جنوب، شرق، غرب)، يتأكَّدُ وقوعُ المكانِ المعنيِّ ضمن رُقعةٍ جغرافيةٍ بعينِها؛ على سبيلِ المثال، يقعُ جبل كرري شَماليَّ أمدرمان، في حين تقعُ مدينة شندي شمالَها. ويقول أشقاؤنا في شَمالِ الوادي: تقعُ أسوانُ جنوبيَّ مصر؛ وكذلك السُّودانُ عندهم، فهو يقعُ، عند استخدامِ ياءِ النَّسبِ استخداماً آيديولوجياً خَفِيَّاً، جَنوبيَّ مصر، أي أنَّه جزءٌ من مصرَ (خصوصاً قُبيلَ وأثناءَ الحُكمِ الثُّنائي)؛ أمَّا الإقليمُ الجنوبيُّ سابقاً (ودولةُ جنوبِ السُّودانِ حالياً)، فهو قد كان عندهم دائماً جنوبُ السُّودان؛ فتسرَّبَ التَّعبيرُ المُيسَّرُ إلى ألسنتِنا، فأصبحنا نقولُ، وكأنَّنا ننظرُ من علٍ إلى خارطةٍ بشكلٍ موضوعيٍّ بارد، خالٍ من إلزاماتِ الهُوية، فنقولُ هذا جنوبُ السُّودان، وذاك غربُه، شمالُه أو شرقُه. ومع تطوُّراتِ الأحداثِ على مجرى الزَّمن، ذهبَ الجنوب (ومكانُه ما زالَ حاضِراً في القلب)، وتَبَقَّى عندنا شمالُ السُّودان، شرقُه وغربُه؛ فهلَّا أضَفنا إليهِم جميعاً ياءَ النَّسب قبل فواتِ الأوان، أي قبل أن تتفرَّقَ بلادُنا الحبيبةُ أيدي سبأ.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

أدَّت انتباهةٌ من محمد خلف لخطأٍ غير مقصود، كان قد ورد في الفقرة الأولى من مساهمته السابقة، إلى أن يتفكَّر في دلالة مرور هذا "الخطأ" علينا جميعاً - نحن القراء والقارئات، بما في ذلك منتج المساهمة نفسه:



حروفُ المعاني: هل هناك فيلٌ في الغرفةِ أم أنَّ بها غوريلا؟

-الحلقة التَّمهيدية-




تحدَّثنا في حلقاتٍ سوابق عن موضوعاتٍ نحوية غطَّت صيغتَي التَّصغير وأفعل التَّفضيل وياء النَّسب، وقيَّدناها جميعَها بسياقاتٍ خاصَّة، شملت شخصياتٍ متنوِّعة، امتدَّت من عُذوبة سُكينة كمبال، إلى رِقَّة محمَّد عبدالرَّحمن (بوب)، وصولاً إلى عبقرية ألبرت آينشتاين. وبدءاً من هذه الحلقة، سنتناول موضوعاً نحوياً آخرَ، هو حروفُ المعاني، وسنربِطُه أيضاً بسياقٍ خاص، يشملُنا كلُّنا، جمهرة المُحتفين بهذا الرُّكنِ الرَّائع (أو هذا العمود البديع، إذا رغبنا في ترويجِ بدائلَ أو صِيَغٍ مُنافِسةٍ أخرى لكلمة "بوست" المُعرَّبة)؛ فقد شاركنا جميعُنا من غيرِ قصدٍ في تعزيزِ تجربة "الغوريلا في الغرفة"، هذا إنْ لم نجِد أنفسَنا أمام حالةٍ تستدعي مُجدَّداً استخدامَ التَّعبيرِ الاصطلاحي: "الفيل في الغرفة".
سنشرحُ معنى التَّعبيرِ الاصطلاحي، كما سنُعطي تفصيلاً كافياً للتَّجربة، إضافةً إلى إعطاءِ أمثلةٍ لاستخداماتِ حروفِ المعاني، وقابليتها لتبادلِ المواضِع، خصوصاً أداتَيْ "في" و "الباء"، اللَّتينِ أُشيرَ إليهما في عنوان هذه المشاركة. ولكن، قبل كلِّ ذلك، دعونا نُوضِّحُ أولاً ما أدخلَنا جميعَاً، في المقام الأول، وقبل كلِّ حساب، في هذه التَّجربة الشَّهيرة. وعندما أقول جميعَنا، أعني نفسي أولاً، مُقدِّمَ المُشاركة السَّابقة؛ وعادل القصَّاص ومنصور المفتاح وعثمان حامد، الذين تصِلُهم نسخة المُشاركة قبل نشرِها؛ والسِّر السَّيِّد وبابكر الوسيلة وعبدالواحد ورَّاق وسيدأحمَّد بلال، الذين تصِلُهم بعد نشرِها مباشرةً؛ وعبدالمنعم رحمة وآمال علي، اللَّذينِ أُرسلت لهما نُسخةٌ منها قبل نشرِها؛ وعدداً يربو على العشرين شخصاً وصلتهم عن طريق الواتساب؛ وأخيراً، مئاتٍ من الأشخاص الذين زاروا الرُّكنين (أو العمودين) بموقعَيْ "سودانفورول" و "سودانيزأونلاين"، منذ نشر المُشاركة قبل خمسةِ أيام (وهمُ الأشخاص الذين لم نجد حتَّى الآن وقتاً كافياً لإسداءِ الشُّكر لهم على القراءةِ النَّهِمة والحرصِ على المتابعة).
جاء في أول جُملةٍ من المُشاركةِ السَّابقة ما يلي: "كان يومُ أمسِ في الجزرِ البريطانية مُساوياً في ساعاتِه تماماً لليلتِه، فيومُ الخميس ٢٢ سبتمبر من عام ١٩١٦ يُصادِفُ الاعتدالَ الخريفيَّ في نصفِ الكرةِ الشَّمالي". وهذا يعني أننا قد رجعنا بأنفسِنا في هذا الخطأ غيرِ المقصود ١٠٠ عام، من غير أن ينتبهَ إليه (أو يُعلِّقَ عليه) أيٌّ من الأشخاص المذكورين (بِمَنْ فيهم كاتبُ هذه السُّطور). فقبلَ أن نُواصلَ حديثَنا عن اثنينِ من حروفِ المعاني في ارتباطِهما بتجربة الغوريلا وتعبير الفيل الاصطلاحي، نرجو من القارئ الكريم أن يُلقيَ مرَّةً أخرى نظرةً مُتأنِّية إلى بدايةِ هذه الفقرة، وأن يُضاهيها بالجُملةِ الواقعة في مستهلِّ المشاركةِ السَّابقة، التي كان ينبغي أن تُكتبَ "فيومُ الخميس ٢٢ سبتمبر ٢٠١٦"، وليس ١٩١٦.

سنُفصِّلُ في حلقةٍ قادمة دلالاتِ هذا "الخطأ" غيرِ المقصود، وسنربِطُه بحديثِنا عن حروفِ المعاني.


محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الخميس سبتمبر 29, 2016 2:03 am، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

عفواً، قصدتُ - بطلبٍ من الصديق محمد خلف - إجراء تصحيحات قليلة على المساهمة السابقة. غير أن تكراراً أو استنساخاً لنفس المساهمة قد حدث من غير قصد (إذ يبدو أنني ضغطت على قرص "اقتباس" عوضاً عن قرص "تعديل"). فقمت بإلغاء التكرار هنا. أرجو المعذرة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

عبر هذه الحلقة، الأولى، يبدأ محمد خلف في تحليل عدم انتباهنا الجماعي للخطأ غير المقصود الذي ورد في صدر مساهمته قبل السابقة:



حروفُ المعاني: هل هناك فيلٌ في الغرفةِ أم أنَّ بها غوريلا؟

-الحلقة الأولي-




أشِرنا في الحلقةِ السَّابقةِ التَّمهيدية إلى خطأٍ غير مقصود، وقلنا إننا سنربِطُه بالموضوع الرَّئيسي الذي نتناولُه ضمن عددٍ من الحلقات، وهو حروفُ المعاني. كما أشِرنا أيضاً إلى أنَّ تناولَنا للموضوعاتِ النَّحوية، ومن ضمنِه هذه الحروف أو الأدوات المتعدِّدةِ الاستعمالات، سيكون مُرتبِطاً بسياقاتٍ شخصية، حيث ربَطنا "التَّصغيرَ" بعُذُوبةِ امرأةٍ من مِلبورن، و"صِيغةَ أفعلِ التَّفضيلِ" برجُلٍ من الخُرطوم، و"ياءَ النَّسبِ" برجُلٍ آخرَ من وادي عبقر. أمَّا "حروفُ المعاني"، أو تلك الأدوات الدَّلالية الفارهة، فسنربِطُها بنا: نحنُ المتابعين (نُصبت للتَّخصيص) بلهفةٍ وتشويقٍ عارِمَيْن لهذا العمود الذي عَمَرَهُ لنا القصَّاص، وتناوله المفتاح، وتابعه ورفعه جمعٌ عرمرمٌ من القرَّاء. إلَّا أنَّ كَثْرَتَنا، على تحبيذِنا لها، لم تعصِمنا من الذَّلل أو تنبِّهنا في الوقتِ المناسب إلى مَوضِعِ الخطأ.
غير أن للأمرِ وجهاً آخرَ إيجابياً (أو عدَّةَ أوجُهٍ، كما سنتعلَّمُ لاحقاً من حروفِ المعاني)، فتجربةُ "الغوريلا الخفيَّة" الشَّهيرة أو "الغوريلا في الغرفة" (وهي غيرُ تعبيرِ "الفيل في الغرفة" أو "الغوريلا ذاتِ الثَّمانِمائة طن")، التي أجراها كلٌّ من كريستوفر تشابريس ودانيل سيمونز في عام ١٩٩٩، تؤكِّدُ وجودَ ما أسماه كلٌّ من إيريان ماك وإيرفن روك في عام ١٩٩٢ بـ"العَمَاءِ غيرِ المقصود" أو "العَمَاءِ الإدراكي"، وهو نقصٌ يعتري الانتباه، ليس بسببِ عيبٍ في الرُّؤية، وإنما هو وَضعٌ نفسيٌّ ينتابُ المرءَ (أو يتمُّ إحداثُه عمداً، كما في التَّجربة)، فيمنعه من رؤيةِ مؤثِّراتٍ غير مُتوقَّعة، مثل الغوريلا في تلك التَّجربة الشَّهيرة. وتتلخَّص في جعلِ مجموعةٍ من الأشخاص يُشاهِدونَ شريطَ فيديو يَعرِضُ لعبةً داخل قاعةٍ صغيرة يشتركُ فيها سِتَّةُ أشخاص، ثلاثةٌ بفنائلَ بيضاءَ وثلاثةٌ آخرون بأُخرى سوداء، يتبادلون بينهم كرة سلَّة بتمريراتٍ سريعة؛ ويُطلبُ مُقدَّماً من المشاهدين أن يحصوا في صمتٍ تمريراتِ الكرة التي يتمُّ تبادلُها بين الَّلاعبين.
وفي أثناءِ سيرِ المباراة، يمرُّ عبر الغرفةِ شخصٌ متنكِّراً في زِيِّ غوريلا؛ وعندما يشعرُ بأن لا أحدَ قد انتبه لوجودِه، يعودُ إلى داخلِ الغرفة، ويتوسَّطُ الفريقين، ثمَّ يضرِبُ صدرَه في مُحاكاةٍ لغوريلا حقيقية، قبيل أن يمضي إلى حالِ سبيله. وفي تلك التَّجربة التي أُجريت أولَ مرَّةٍ في جامعة هارفارد، أخفقَ نصفُ الأشخاص الذين شاهدوا الشَّريط أثناء إحصائهم للتَّمريراتِ في رؤيةِ الغوريلا، كأنَّها مخلوقٌ خفيٌّ، على الرَّغم من أنَّ وجودَها داخل الغرفة قد استغرق، حسب شريط الفيديو، تسعة ثوانٍ؛ ليس ذلك فحسب، وإنَّما لم يُصَدِّق الكثيرُ منهم، إلا بعد مشاهدةِ الشَّريط مرَّةً أخرى، أنهم أخفقوا في مشاهدةِ جسمٍ بهذا الحجم الضَّخم (حتَّى ولو لم يبلُغ وزنُه ٨٠٠ طن)؛ الأمر الذي يعني أنَّنا عند التَّركيزِ الشَّديدِ على شيءٍ بعينِه، لا نُدرِكُ فقط الكثيرَ مما يدورُ من حولِنا، وإنما لا نُدرِكُ أيضاً أنَّنا لا نُدرِكُها!
وفي التَّجربةِ التي مررنا بها جميعاً، قُرَّاء هذا العمود، انصرف ذهنُنا، أو بالأحرى مئاتُ الآلافِ من خلايانا العصبية (إنْ لم نقل ملايينَ منها)،إلى متابعةِ المباراة، بالتَّركيزِ الشَّديدِ على إحصاءِ التَّمريرات، وكلَّما اشتدَّ التَّركيز، نُشِرَ مزيدٌ من النِّيوترونات (أي الخلايا العصبية)، فتندفعُ في تشكيلاتٍ مُتتابِعة، فتستخدِمُ مساراتٍ جاهزة، وتبني لها شبكاتِ اتِّصالٍ جديدة، إلى أن يُصبِحَ لديها جيشٌ عرمرم، في مجابهةِ المباراة والتَّصدِّي لرصدِ التَّمريراتِ الخاطفة. فلا غروَ، إذاً، أن تظهرَ أمامنا 'غوريلا رقمية' (عُمُرُها ١٠٠ عام)، من غير أن تلتقطها عدساتُ الدُّماغ؛ فعندما تتدفَّقُ المعلومات، ويتمُّ تقديمُها في حلقاتٍ مُتتابعة، تنتظِمُها سياقاتٌ محدَّدة، نتطلَّعُ للمزيدِ منها، ونتلهَّفُ لمَقدَمِها؛ وعندما ترِدُ، نقرأُها بِنَهمٍ، ونُركِّزُ على فِيلِ المكتوب (أو غوريلتِه)، ولا نعبأُ كثيراً بظلِّه، سواءً احتوته الغرفة لثوانٍ معدودات (كما في تجربة الغوريلا) أو التصقَ بها التصاقاً (كما في عام ١٩١٦). وهذا يقودُنا مباشرةً إلى حرفَيْنِ من حروفِ المعاني: "في"، فهو للاحتواء؛ و"الباء"، فهو للإلصاق.
إلَّا أنه قبل الاقتراب من تلك الحروف التي تناولها أبو القاسم عبدالرَّحمن بن إسحق الزجاجي، وأجملها في نحوِ ١٥٠ مَوضِعاً، علينا أن نُوضِّحَ بأن تجربة "الغوريلا الخفِيِّة"، أو "الغوريلا في الغرفة"، تُخلطُ أحياناً بتعبيرِ "الفيل في الغرفة" الإنجليزيِّ (الذي يعني تفادي الحديثَ عن أمرٍ جَلَل)؛ وبتعبيرِ "الغوريلا ذات الـ٨٠٠ طن" الأمريكيِّ (الذي يُشيرُ إلى سيادةِ منطقِ القوة)؛ فكِلا التَّعبيرَيْن الاصطلاحِيَيْن (تماماً كاستخدامِنا للمثلِ السُّوداني "عينك في الفيل وتطعن في ضله"، في الفقرةِ السَّابقة) لا صلةَ له بتجربة "الغوريلا الخفيَّة".

فإلى حلقةٍ قادمة، إنْ شاء الله، مع الزَّجاجي؛ وإلى أن يحينَ ذلك الوقت، نطلبُ من القرَّاء هذه المرَّة أن يُنظِّفوا زَجاجَ نظَّاراتِهم ونوافذِهم لرصدِ ما يقعُ تحت أعينِهم، وأن يُنبِّهونا إنْ أخطأنا في أمرٍ جَلَل، فالمؤمِنُ لا يُلدغُ من جُحرٍ مرَّتين، ومن أخطائِنا يزدادُ تعلُّمُنا (أين أنت يا أحمد الفكي، ولماذا لم تقرأ حتَّى الآن رسالتي إلى عادل القصَّاص؟).

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الثلاثاء أكتوبر 18, 2016 8:11 am، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
íæÓÝ ÍãÏ
مشاركات: 71
اشترك في: الاثنين مايو 18, 2015 4:29 pm

مشاركة بواسطة íæÓÝ ÍãÏ »

[size=24]
أجد متعة لا تضاهى في تتبع هذا الخيط (!) وبالطبع، ليست من شأن هذه المتعة أن تعصمني من العمى؛ فربما تمر غوريلا، وأخرى، وأختها، دون أن انتبه إلى أيّ من الغوريلات (!) بل ربما كانت هذه المتعة نفسها هي السبب، لي ولغيري، في حدوث هذا "العَمَاءِ الإدراكي" (وأرجو ألا تكون "العماء" غوريلة أخرى تتربع دون أن نلحظها)! ولعل الأصدقاء، هنا، يوافقونني على السبب المستمد من المتعة.

وشرح هذه المتعة هو إنه بالغ ما بلغ حرصنا وموقفنا النقدي، إلا أننا نُصادر، في مرات كثيرة، للشخص الذي نطمئن إلى أنه صاحب معرفة، وأنه شديد الدقة والعناية بما يكتبه.. ويحملني اليقين العريض إلى أن الأستاذ محمد خلف هو من القلة القليلة التي تمتاز بهذه الميزة.

على كل حال، سنواصل متعتنا بالتفكُّر في "حروف المعاني"؛ ولا أدري لماذا لم تكن "معاني الحروف"؟ فقد حملتني الصياغة الأولى للتفكير في أن ثمة حروف ليست للمعاني؛ فهل وردت الصيغة لتقصي الحروف غير العاملة من حيث الإعراب؟ أقصد الأحرف التي ليست لديها إمكانية العمل إعرابيًا إذا سبقت الاسم أو الفعل، كحروف النداء في الاسم ، والسين وسوف في غير ذلك. وهل لمجرد أنها لا تعمل في الإعراب أضحت بلا معنى؟!
جاء تفكيري الذي أومأت إليه من مظنة معنىً متفق عليه من معاني الإضافة، تحمله الصيغة "حروف المعاني" أو "قصة القصّاص"، مثلًا، وأقصد الإضافة بمعنى "اللام"، ويتوفر هذا المعنى عندما تكون الإضافة ليست بمعنى "في" (الظرفية) ولا بمعنى "من" (التبعيض والخبرية)، وتقديرها كالآتي: "حروف (لـ) المعاني" وقصة (لـ) القصّاص! وهكذا.
قال ابن مالك:
نونًا تلي الإعراب أو تنوينا.. مما تضيف أحذف كطور سينا
[color=red]والثاني أجرر، وانوِ "من" أو "في"؛ إذا.. لم يصلح إلا ذاك، واللام خذا
لما سوى ذينك، واخصص أولا ... أو أعطه التعريف بالذي تلا
[/color]

أرجو ألا أكون قد نسيت غوريلا في تعليقي!
عذرًا:
عدّلت (طول سينا) إلى (طور سينا) وهذا هو الصحيح!
سأتابع...
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

كما حفَّز تأمُّل محمد خلف في "الخطأ غير المقصود" أخاه الأصغر، الشاعر بابكر الوسيلة، على هذا الاستدعاء، المـتأمِّل، الحميم، الذي ورد إلى الأوَّل في هيئة رسالة شخصية؛ فما كان منه إلَّا أنِ استأذن الثاني في نشرها، لتضيف بُعداً مختلفاً للحوار؛ فوافق الأخير بنداوةٍ معهودة:



"أجمل من الخطا
صاح شنو؟"




هذه العبارة الشعرية الجميلة التي وردت ضمن إحدى قصائد صديقي عاطف خيري ( وكنت أقول لعاطف خيري الذي يحبك حباً يعجز الشعر، شعره، عن وصفه، إنك تشبه أخي محمد في كثير من طرق التعبير الفلسفي عن العالم، وكان عاطف يحب هذا القول ويختشي من فكرة التشابه هذه).
أوردت هذه العبارة فقط لأوضح مدى المساحة الحرة من المعرفة والالتصاقات التي يمكن أن يحدثها الخطأ بين بني البشر منذ أول خطأ ارتكبه الإنسان وآل به إلى هذه الحقائق غير المنتهية في حياته الدنيا. أوليس الخطأ البشري المتكرر هو الذي يؤسس لمجال "الحقيقة" الذي تعتمده يا محمد كحافز للمعرفة والعلم؟ يتوفر الخطأ (وليس دائماً عن لا قصد)، فتتوافر الحقائق بمجالات مغناطيساتها اللامتناهية. إذ كيف كان بالإمكان توفر هذا المجال من كتابتك لولا الخطأ (المقصود في مخيلتي).
الخطأ شيء عظيم لا شك في ذلك. به ابتدأت الحياة وعليه ستنتهي. لكن هذا شيء والخطأ الذي وقعت فيه الصحافة السودانية فيما يخصني وأودى بي إلى معارفَ (حقائقَ) جديدة، فهذا ما سأقوله لك لاحقاً.

أحبك يا محمد.

بابكر الوسيلة
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

في هذا الجزء نواصل مرافقة ذاكرة بابكر الوسيلة وهي تستدعي "إحدى حالات الخطأ":



خطأ الصحافة



رأينا نحن المهتمين (المنصوبة على الاختصاص والخصوصية أيضاً) أن نقيم احتفالاً بالذكرى الثالثة لرحيل صديقنا الشاعر والتشكيلي والروائي والقاص والموسيقي محمد حسين بهنس (كانت أمي تحبه جداً، وكانت تقول له استغراباً في الاسم: بهنس ده شنو).
قمت بكتابة إعلان في الفيسبوك بعنوان (بهنس في "بابا كوستا" يشرب قهوته ويفكر في المستقبل). وكان هذا بمثابة توجيه الدعوة للأصدقاء والمهتمين بالأمر للتفاكر في كيفية إخراج الاحتفال. و"بابا كوستا" هو مقهى معروف، خصوصاً لدى الشأن الليلي الخرطومي فيما مضى، ويقع في مكان إستراتيجي في شارع الجمهورية (ولا أعرف من أين أتى هذا الاسم، ولا كيف بقي حتى هذا العهد).
كتبت هذه الدعوة على صفحتي بالعنوان آنف الذكر، لكن الصحافة السودانية (ثلاث صحف) المتعجِّلة كعادتها نشرت هذا الخبر من صفحتي دون تدقيق، لتقول من عند خيالِها إن "بابكر الوسيلة" قد أفادها ببدء فعاليات الاحتفال اليوم السبت. فجاءت قناة العربية بكامل فريقها للتغطية، وجاءت قناة BBC العربية؛ وقنوات سودانية أخرى، مثل النيل الأزرق، وسودانية 24. ولكن"الحقيقة" تقول بأن هناك "خطأ" قد ارتكبه أحد الصحافيين، وهذا ما أودى باجتماعنا إلى توسيع الماعون، بدلاً من تضييق مساحات الاحتفال ببهنس رحمه الله.
وهذا أمرٌ سيأتي توضيحه.

بابكر الوسيلة
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

تعرف يا محمد دوما نقول العصف الزهنى وهذا الحوار الذى اشعلته بصندل
استغراقك لتتجلى من جرائه تلك القطوف المعرفية الدانية والحانيه على جلاس حوضك ذاك
المعرفى يتبادلون اقداح دنه المثمل
البعاث للنشوة والولاد للرؤى فما ابتدرته عن الخطأ ليتناوله ذاك الأخ
فى خيط القصاص ليعقبه بابكر الوسيله من زاوية اخرى فتق فى رؤية ما كان لها أن تتنزل لو لا
وقوفى على ما كتبا ذياك بخصوصها اى عن الخطا وجاءنى هاتف الايه ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
وتذكرت قصة ذائعة الصيت بان
أحد الأبناء بعث والده بأن يخطب له أحلام بنت عمه وكانت مليحة كذات الخمار الاسود فذهب والده والتبست
عليه الأسماء أو تماثلت كما تقول يا خلف أو قلت البارحه عن جريان الشمس وتطابقها
مع الحقيقه العلميه فبدلا عن احلام
طلب الرجل يد حليمه لابنه فوافق أهلها على الفور وكان لحليمه تلك قبح بائن وفى الاثر والعرف نقول سعد الشينه
وعندما رجع لولده واخبره بان وافق عمك على طلبك لحليمه فاندهش الابن وقال لوالده يا ابتاه انا لا أرغب فى حليمه بل أحلام
فقف الرجل راجعا لأخيه بأن ابنه لم يطلب حليمه ولكنه يرغب فى أحلام
فقال له والد البنتين بناتى ليس ببقر
أن أراد حليمه فمعها ثلاث بقرات وخمسة حبال فى الجزيره وهى أقرب إلى العشره فدان فذهب لابنه
فقبل العرض وتزوج بحليمه وأنجب منها اجمل الأبناء النجباء فانظر لذاك الخطأ الذى اذا تمعناه لن ننفك
عن الحق ولن تغيب عنا الحقيقه .

صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

هنا يعقِّب محمد خلف على كلٍّ من بابكر الوسيلة ويوسف حمد:



أبا بكرٍ وَيُوسُفُ أنا أخوكُما، فلا تبتئِسا




(تقدَّمَ كِلا العلمَيْنِ مُنادًى محذوف، إلَّا أنَّ عملَه فيهما أشدُّ ظهوراً من تلك "الغوريلا الخفيِّة"؛ إلَّا أنَّ في العنوانِ أيضاً إشارةً ظاهرة إلى سورة "يُوسُف"، الآية رقم 69، حيث قال ابنُ يعقوبَ لأخيه "أنا أخوك فلا تبتئس").

كنتُ مُوقناً بأنَّكما ستأتيان، فقد ظللتُ أسمعُ وقعَ خُطاكُما في الفلواتِ، وعبر الجسرِ، وتحت النَّوافذ؛ وخلفكما جمعٌ عرمرمٌ من الكُتَّابِ والمُبدعينَ والقرَّاءِ النَّشِطينَ والنَّاشِطينَ والنَّاشِطات. وليس هناك أفضلُ من الخطأ لجذبِكُما، (وجحافلِ الآخرينَ)، إلى ساحةِ الإنتاجِ الفكريِّ والإبداعي؛ فالخطأ كما انتبهتُما فعلٌ إنسانيٌّ صميم (ولا فكاكَ من إسارِه، إلَّا بغربلتِه على الدَّوام، للاقترابِ شيئاً فشيئاً من قممِ "الحقيقةِ" أو الظَّفرِ بإحدى ذُرواتِها، من غيرِ يقينٍ بالوصولِ إليها؛ لذلك، فإننا نُشيرُ إلى فضائها دائماً بـ"مجالِ الحقيقة"؛ هذا بالطَّبع بخلافِ الحقِّ الذي لا مجالَ معه للباطل).
وما "حروفُ المعاني"، بالنِّسبةِ لنا، إلَّا مناسَبةٌ، أو بتعبيرٍ آخرَ سياقٌ، لاستجلاءِ مفهوم الخطأ، وفحصِ تاريخِه، واستشرافِ مستقبلِه ("وفي ذلكَ فليتنافَسِ المُتنافِسون"). أمَّا الحروفُ نفسُها، فقد اختلف النُّحاةُ في تعريفِها، إلَّا أنَّ هناك اتِّفاقاً على تسميتها بحروفِ المعاني، تمييزاً لها عنِ الحروفِ الأخرى، وهي حروفُ المباني أو حروفُ العربية أو الحروفُ الهجائية أو حروفُ التَّهجِّي (أو حروفُ الأبجدية: ألف باء جيم دال). وتُشيرُ كلمة حرف في اللُّغة العربية إلى طرفِ الشَّيءِ أو جانبِه؛ وبما أنَّ الحرفَ حدٌّ من حدودِ الكلمة أو جانبٌ من جوانبِها، فإنَّه لا دَلالةَ له في ذاتِه، إلَّا في ارتباطِه بكلمةٍ كاملة.
وكذلك حروفُ المعاني، فهي حدٌّ من حدودِ الجملة أو جانبٌ من جوانبِها؛ وبما أن اللُّغة، في تعريفِها الكلاسيكيِّ مبنًى ومعنًى، فإن حروفَ المباني تختصُّ، بحسب اسمِها المُطابِق، بالبناء؛ أي أنَّها تقومُ بتكوينِ الدَّالِ الصَّوتي، بالتَّعبير الحديث؛ بينما تختصُّ حروفُ المعاني، بحسب اسمِها المُطابِق أيضاً، بالمعاني؛ أي أنَّها تَكُونُ لها بمثابةِ المدلولِ (مقارنةً بالدَّال)، إذ إنَّها تشكِّل قسماً من أقسام الدَّلالة، فلا يقومُ الكلامُ (اسمٌ وفعلٌ وحرف) أو يستقيمُ له معنًى إلَّا بتكاملِ أجزائه (لذلك، تُسمَّى أحياناً بحروفِ الرَّبط، لأنها تربِطُ الأسماءَ بالأفعال، والأسماءَ بأمثالِها).
فيا عزيزاي لا تبتئِسا من ورودِ الخطأ، بلِ اجعلاه مناسبةً لإنتاجِ المعرفة، بالاقترابِ الحثيثِ من أفضلِ مساراتِها؛ وهذا لا يمنعني، بالطَّبعِ، من تحذيرِكما برفقٍ بألَّا ترتكِبا ’خطأً‘ بأنْ تتَّخذا من القاعدةِ الإعرابية قيداً دائماً، بل يُمكنُ للشُّعراءِ أحياناً التَّمتُّعُ برُخصتِهُمُ الشِّعريةِ المعروفة، أي ما كان يُعرفُ بضروراتِ الشِّعر؛ بينما يُمكنُ لغيرِهُمُ التَّمتُّعُ بحُرِّياتٍ محدودة (كتلك التي يُتيحُها تبادلُ المواضع)؛ وهو ما سنتطرَّقُ إليه في حلقةٍ عن تبادلِ حرفَيْ "الباء" و "في" موقعَيْهما في إطارِ الحُرِّيةِ النِّسبية التي توفِّرُها حروفُ المعاني. (وأقولُ النِّسبيةَ، خشيةً من الفوضى النَّحوية، التي تعصفُ بقواعد اللُّغة، فيقودُ ذلك مباشرةً إلى نسفِ مبناها وإهدارِ معناها).

من حسناتِ ضيقِ الوقت أنَّه أجبرني على ضمِّ تعليقٍ على مشاركةِ أخٍ فعليٍّ إلى أخرى لآخرَ مجازيٍّ، وربَّما ينبثقُ في نهاية الأسبوعِ سياقٌ لتناولهما على انفراد، إلى جانب الإجابة على ما طرحه الصَّادق (صبراً يبلُّ الآبري يا منعم!)

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

يمكن القول إن المساهمة التالية من محمد خلف قد ولدت كنتيجة لعدة تعالقات وتقاطعات، من بينها حديث هاتفي بيني وبينه؛ كما من بينها مساهمة يوسف حمد، وتسبُّب اسمه في حضور أكثر من "يوسف" في وجدان وخاطرة الكاتب:



عادلُ (القصَّاصُ) ويُوسُفُ (الصِّحافيُّ) أضاءَ اللهُ دربَكُما بقَبَسٍ من سُورَةِ "يُوسُف"




عزيزي عادل
ظلَّت رسالتي الأصليةُ إليك تستضيءُ منذ أولِ حرفٍ فيها إلى آخرِ نقطةٍ بها (لاحظ تبادلَ المراكزِ بين حرفَيْ المعاني: "في" و"الباء") بقبسٍ ساطعٍ من سُورَةِ "يُوسُفَ"، وأعني بذلك، على وجهِ التَّحديد، الآية رقم ٣ من السُّورة الكريمة: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ". فالقصَصُ القرآنيُّ الذي يصدُرُ عن الحقِّ، لا يَقُولُ إلَّا الحقَّ؛ بينما تنتمي الأقاصيصُ، (التي تبرَعُ أنتَ يا عزيزي في سردِها، لكونِها مُنتَجاً إنسانياً صميماً)، إلى مجالِ الحقيقة، التي نُغربلُها ونُنقِّحُها دوماً بالتَّعديلاتِ وتعديلاتِ التَّعديلات.
سألتني، بينما كنتُ أعبُرُ حديقة هايدبارك في سعييِّ اليوميِّ إلى العمل، قائلاً: لماذا تضَعُ اسمَ يُوسُفَ مرَّةً داخل مُزدوجتَيْن، ومرَّةً بدونِهما؛ ولماذا لا نُوحِّدُ طريقة كتابتِهما؟ (أعِدتُ صياغة سؤالِكَ بما يتماشى مع أسلوبي في التَّعبير، فأرجو ألَّا ينتقِصُ ذلك قدراً من الدِّقَّة). فأجَبتُك قائلاً: هذا تقليدٌ اتَّبعته في كتابةِ أسماءِ سُوَرِ القرآنِ في الرِّسالة، وفي كافَّةِ المشاركاتِ التي جاءت في أعقابِها؛ ولا أرى مُسوِّغاً كافياً الآن للعُدُولِ عن ذلك التَّقليد (أعِدتُ صياغة التَّعبيرِ الشَّفهيِّ بما يتماشى مع أسلوبِ الكتابة، فأرجو ألَّا يهدِرُ ذلك قدراً من السِّياق). ثم قلتُ لكَ يُمكِنُكَ الرُّجوعَ العشوائيَّ إلى أيٍّ من الصَّفحاتِ أو المُشاركاتِ السَّابقة لتستيقنَ من اتِّساقِ اتِّباعي لذلك التَّقليد (ولو كان تصميمُ المواقع طيِّعاً لمُستخدميه، لقمتُ بتنضيدِ أسماء السُّور باللَّون الدَّاكن، تمييزاً لها عن بقية الأسماء، ولوضعتُها مع رقمِها بين معقوفتَيْن أو قوسَيْن كبيرين). وهنا أتتني فكرةُ هذه المشاركة:
لماذا لا نستفيدُ من خبرتِكَ السَّابقة في العملِ بمكتبة جامعة الخرطوم، لتُصيغَ لنا نظاماً عددياً أو أبجدياً أو مزيجاً بينهما لتسهيلِ عملية الرُّجوعِ إلى أيِّ سطرٍ داخل هذا الكمِّ الهائلِ من المُشاركات؛ فلربما يستفيدُ الآخرون أيضاً من هذه التَّقنيةِ المُستحدثة في إطارِ هذا الرُّكن، لتكونَ عَوناً للمُتابعينَ للأركانِ الأخرى في هذا الموقع أو لأركانٍ في مواقعَ أخرى بالشَّبكةِ الفضائية.
على سبيلِ المثال، لدى هذا الرُّكن، حتَّى الآن تسعُ صفحات (تعادلُ أربعَ صفحاتٍ في موقع "سودانيزأونلاين")؛ ويُوجدُ بالصَّفحةِ التَّاسعة حتَّى الآن (غير هذه المشاركةِ التي نحنُ بصددِها) ثلاثَ عشرةَ مشاركةً ( بما فيها مشاركة التَّكرارِ غيرِ المقصود، التي تخلَّلتِ المشاركتَيْنِ الأولتَيْن بشأنِ الخطأ غيرِ المقصود، كذلك)؛ وبهذه المشاركةِ الأخيرة حتَّى الآن أربعُ فقراتٍ (من غيرِ العنوان طبعاً، وبما فيها هذه الفقرة التي نحنُ بصددِها الآن). لذلك، يُمكِنُ الإشارة إلى هذه الفقرة بأنَّها ٩-١٤-٤ (حيثُ يُشيرُ العددُ الآحادي الأول لرقم الصَّفحة؛ والعددُ العشريُّ الثَّاني إلى رقم المشاركة؛ والعددُ الآحاديُ الثَّالثُ إلى رقم الفقرة). أمَّا السُّطورُ نفسُها، فإنَّها لا تخضعُ لمعيارٍ بعينِه، وستكونُ خاضعةً للاجتهادِ الشَّخصي، إذ إنَّها ستعتمدُ على نوعِ الآلةِ المُستخدمة (ديسكتوب، لابتوب، آيباد، آيفون)، وتقنياتِ التَّحكُّمِ في حجمِ الحروف وتصفيفِ الصَّفحات. إلَّا أننا سنكونُ على الأقل على مرمى حجرٍ (أو نقتربُ مثل ضربةٍ أخيرةٍ في مباراةٍ لكرةِ الغولفِ في لندنَ أو مِلبورن) من الكَلِمةِ أو التَّعبيرِ المعنيِّ في أو بالسَّطرِ المطلوب.

عزيزي يُوسُف (٩-١٤-٥)
شكراً لك، فأنتَ اسمٌ ورقمٌ لا يُنسى، فقد أتاحَ لنا اسْمُك المحبَّبُ إلى النَّفسِ مناسبةً في المشاركةِ السَّابقة إلى تأمُّلِ توأمةٍ روحية، إضافةً إلى أنه أعادنا في هذه أيضاً إلى صميمِ فكرةِ الرِّسالة؛ على أملِ أن ينبثقَ قريباً جداً سياقٌ آخرُ لتناولِ ما تبقَّى من ملاحظاتِكَ القيِّمة.

عزيزاي (٩-١٤-٦)
حَفِظَكُما اللهُ، وأحاطَكُما برعايته، وغَمَرَكُما بقبسٍ ساطعٍ من سُورةِ "يُوسُفَ"، وأُشيرُ بشكلٍ خاصٍّ إلى (١٢-٣)؛ (فيا أمَّ ليلاسَ وَيُوسُفَ أنا أيضاً أخوكِ فلا تبتئسي؛ حَفِظَكِ اللهُ، وقوَّاكِ، وشَرَحَ لَكِ صَدرِكِ، وأَسْبَغَ عَلَيْكِ فضلاً واسِعاً من عندِه).

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الشاعر بابكر الوسيلة مصفِّقاً لإحدى "حالات الخطأ":



جاء يحملُ فوق كَتِفِهِ جيتاراً


جاء شاب، بفعلِ خطأ الصحافة المذكور سابقاً، يحمل فوق كتفه جيتاراً - يرقصُ الحبُّ فيه - كان "الطيِّب بشير" العامل بساحةِ الحديقة يسعى برشاقةٍ بين ضيوف بابا كوستا، وكأنَّه يهِمُّ بالطيران في أيِّ لحظة. سعيداً كان، كما تأكَّد فيما بعد، لرؤيته الجيتار على كتف الشاب الداخل للتو. والمكان يستعدُّ لنومِ آخرِ لمباته الحمراء في الحديقة، حيث لم يتبقَ إلَّا أربعة رجال وحبلٌ من الضوء معلَّقاً بذكرى بهنس على صدور الرجال. حين شعر الطيِّب بشير، فيما يبدو، بشعريَّة المكان والزمان، وأحسَّ بالغناء يتسرَّب شفيفاً من بين مسامِّه، بدأتِ الحقيقة تتموضَّع وتتعرَّى بكلِّ محبَّة أمام ناظريه؛ جيتارٌ وعازف وليلُ أصدقاء. في هذه اللحظةِ العارية، استأذَّن الطيِّب بشير، بتلهُّفٍ جائع صاحبَ الجيتار: "ياخ ممكن أغنِّي ليك وللجماعة ديل شوية أغاني وبعدين تمشوا .. والله أنا صوتي جميل!"

- ممكن ياخ، ممكن جداً.

أخذ الطيِّب بشير يرتِّب المكان بحيث يبدو مسرحاً كبيراً لصوته الذي سوف يندلق بعد قليل. بدأ صاحب الجيتار يعزف أولى الأغاني (أم هي الأغنيات)، بعد أن توسوَّس جانباً مع الطيِّب لاختيار الأغنية الأولى. تبرَّع أحد الحضور بتنويم أضواء اللمبات في اللحظة التي بدأ الضوء يتسرَّب من بين صوت الأغنية. كانت لـ"إبراهيم عوض"، وكان إبراهيم عوض هو مَنْ أخذ بيديَّ إلى تفتيحِ الدروب في "أقاصي شاشة الإصغاء"؛ أنا الذي حملته بيديَّ هاتين، مع حضرةٍ من الأيادي المتشابكة، في مقابر البكري الأمدرمانية، على بُعدِ أشجارٍ من الروضة التي يجلس على ظلالها "الطيِّب صالح"، فتَّاحُ الخيالِ الخصيب. ما زالت دموعك تترى على كتفي يا صديقي الصادق الرضي منذ صبيحة ذلك اليوم، حيث ودَّعنا إبراهيم عوض الفنان الذري، الذي لن تعوِّضه الأرضُ بما رحُبت؛ مثلما كان وما زال شاي المغارب ساخناً بيننا، ينتظرُكَ والبنتَ على أحرِّ من الشعرِ في حديقة بابا كوستا.

كان صوت الطيِّب بشير مُدهِشاً للجميع. أخذ يُغنِّي ويُغنِّي بنشوةِ الحضور. وكان بهنسُ، كما أُحِسُّ، يُغنِّي مع الحضور ويطرَب. ليلةٌ استثنائية خرجت من بين ليالي الخرطومِ حالكةِ السواد. الخرطوم بالليل عن طريق الخطأ، ونِعمَ الخطأ.

بابكر الوسيلة
íæÓÝ ÍãÏ
مشاركات: 71
اشترك في: الاثنين مايو 18, 2015 4:29 pm

مشاركة بواسطة íæÓÝ ÍãÏ »


وددتُ، وكلي أمل أنْ أكون يُوسُف، المعرّف بـ (٩-١٤-٥) في هذه الرّسالة المعمّقة! وقبل أنْ أستبين يُوسُف المقصود، أو يبين، سأهتبلُ هذه المدَّة كي أفرح بكوني "اسمٌ ورقمٌ لا يُنسى"! وأني تيّاحٌ للمناسبات المفضية إلى تأمل التوأمة الروحية. (نحتُ مفردة "تيّاح" من المضارع "يتيح"، والماضي "أتاح" لتكون صيغة مبالغة تصف فعلتي، كوني أتحتُ مناسبة محبَّبة للمبجل محمد خلف، وبعدها، ليس ثمة ما يمنع منحوتتي من عمل اسم الفاعل، حين يطلب إليها، من يطلب، أن تعمل).
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهذا تعقيب من محمد خلف، يرتاد عبره - بالإشارات غالباً - مناطق فتحها أو تسبَّب فيها التعليق الأخير ليوسف حمد:



ابنَ حَمَدٍ لأنتَ يُوسُفُ الصَّحافيُّ من غيرِ حاجةٍ لأن تنحِتَ صخراً أو تكتُبَ على صفحةِ ماء



(يُرجى التَّوقفُ قليلاً عند هذا العنوان، وتأمُّلُه مَلِيَّاً وترديدُه عِدَّةَ مرَّاتٍ، قبل استئنافِ القراءة؛ وسيتَّضِحُ جدوى ذلك التَّمرينِ في نهايةِ المشاركة)

عزيزي يُوسُف حمد
آلينا على أنفسِنا في هذا الرُّكن وفي عدَّةِ مناسباتٍ ألَّا نتطرَّقُ إلى موضوعٍ معرفيٍّ بمعزل عن سياقٍ كافٍ لتوضيحه على أفضلِ وجه؛ وهأنتذا تكتُبُ أسطُراً تُتيحُ التَّحدُّثَ عن أكثرِ من موضوع، وِفقَ أكثرِ من سِياق؛ فأنتَ بالفعلِ 'تيَّاحٌ' و'سنَّاحٌ' لفرصٍ معرفيةٍ نادرة؛ فحديثُك عن جوازِ عملِ اسمِ الفاعل (في ارتباطِ ذلك بإشارتِكَ -مُنذُ الحلقةِ التي نبَّهتُنا عليك- إلى احتمالِ تسمية حروفِ المعاني، تمييزاً لها عن الحروفِ التي لا تعمل) يُتيحُ لنا الكلامَ على نظريةِ العامل، المحرِّك الدِّيناميكي والمسوِّغ المنطقي، لعلمِ النَّحوِ العربي، والتي يجهلُها، في ظنِّي، كثيرٌ من القرَّاء؛ ومحاولتُك التِّلقائية 'نحتَ' كَلِمةٍ جديدة تُتيحُ لنا الكلامَ على النِّظامِ الصَّرفيِّ للُّغة العربية، إضافةً إلى موضوعاتٍ مثل "التَّضام" (ضمُّ كلمةٍ إلى أختِها - "كولوكيشن")، والسِّياقِ اللُّغوي، والمَقامِ المُنْتِجِ للدَّلالةِ اللُّغوية، وموضوعِ القصدية الذي سيُرجعُنا إلى إدموند هوسرل، وبضعةِ فلاسفةٍ ألمان تركناهم رَدَحَاً على مقاعدِ الانتظار.
ونعتمدُ السِّياقَ، عِوضاً عن صبِّ المعارفِ من علٍ صبَّا، لأنه يُتيحُ إمكانية نموِّها من أسفل، بعَونٍ من مُساهمينَ آخرين، وبتضافرِ أكثرِ من مُنتِجٍ للمعرفة في مجالِ الحقيقةِ المُتغيِّرة؛ وحتَّى الكلام الإلهي، الذي نزلَ بالحقِّ من علٍ "وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ"؛ (سورة "الإسراء"، الآية رقم 105)، لم يُلقَ على النَّاسِ إلقاءً متعسِّفاً، بل توسَّل سياقاً للنُّزول، ونزل بواسِطةٍ سماوية (الملك جِبْرِيل)، إلى واسِطةٍ أرضية (النَّبي محمَّد)، التفَّ حولها أصحابٌ (هُمُ الصَّحابة)، أُمِروا بالصَّلاةِ يومياً في جماعة (الصَّلواتُ الخمس)، وأسبوعياً وهم مجتمعونَ في طقسٍ جماعيٍّ فريد (صلاةُ الجمعة)، وسنوياً في جمعٍ مهيبٍ (حجُّ البيت)؛ كما أُمِروا، في تعذُّرِ وجودِ نصٍّ، أن يستعيضوا عنه بالإجماع.
إلَّا أننا نُدركُ بأننا لن نُوفيَ الحديثَ عن كلِّ هذه الموضوعات في مشاركةٍ واحدة، ولكننا نُجمِلُها هنا إجمالاً، إلى أنْ تُتاحَ فرصةٌ أو يَسنَحَ سانِحٌ بتناولِها على انفراد؛ لكنني أُريدُ أنْ أُوضِّحَ هنا بعضَ السِّياقاتِ التي تَرَكَّبَ منها عنوانُ هذه المشاركة؛ فأُمُّ ليلاسَ وَيُوسُفُ التي وَرَدَ ذكرُها في نهايةِ المشاركةِ السَّابقة هي التي استدعتِ الإشارة إلى يُوسُف حمد بابنِ حمد؛ أمَّا أداةُ النِّداء، فقد حُذِفت للتَّذكير بالعنوان السَّابق للمشاركة في ارتباطِه بِـ"الغوريلا الخفيَّة"؛ وفي عبارة "لأنتَ يُوسُفُ" إشارةٌ واضحة إلى سورة "يُوسُف"؛ "قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ" (سورة "يُوسُف"، الآية رقم 90)؛ والصَّحافيُّ هي المعلومةُ الوحيدة التي أوردتَها أنتَ يا عزيزي في قاعدةِ البياناتِ بموقع "سودانفورول"؛ والنَّحتُ في الصَّخرِ إشارةٌ إلى صعوبةِ ترويجِ المنحوتاتِ في سوقِ التَّداول اللُّغوي، في غيابِ التَّضام؛ أمَّا الكتابةُ في الماء، فهي كنايةٌ عن الاستحالة، ولم ترِد إلَّا لمضاهاتِها مع صعوبة النَّحت، من غير إيحاءٍ بتثبيطٍ لهِمَم؛ فكلُّنا في ذلك سواء، باعتبارِنا مشاركينَ في سوقِ التَّداول اللُّغوي، ومن أجل ذلك آخيتُ منحوتَتك بأخرى من عندِي، وطوَّقتُ كلاهما بأقواسِ التَّخويف ('..') حتَّى يُدرِكُ القارئ جسامة الأمر وفداحة المطلب، فاللُّغةُ ليست صناعةً فردية، إنما يُطلبُ فيها تعاونٌ وتضافرٌ من المجتمعِ اللُّغوي والنَّاطقينَ باللِّسانِ المعنِّي.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

محمد خلف يكتب عن فقدٍ عزيز. لك، ولذوي الفقيدة، عزائي الحار يا خلف:



رحِمَ اللهُ رِهامَ بنتِ ماجِدةَ بنتِ صفيَّةَ الأولى (أُمِّيَّ الثَّانية)



لم أرَ رِهامَ من قبلُ، كما لن أراها أبداً من بعدُ (إلَّا في جنانِ الخُلدِ بإذنِه تعالى)، غير أنِّي أُدرِكُ تماماً ما يعنيه موتُها الخاطفُ (هذا الخواءُ الذي ينخرُ في الصَّدر وفي الخاطر عند كلِّ تنهيدةٍ وعند كلِّ خفقةِ قلب) ووقعُه المؤثِّر على أمِّها وإخوانها وأبيها، الرَّجلِ الطَّيِّب مبارك بن الطَّيِّب علي التُّهامي؛ وما يتركه هذا الغيابُ المفاجئُ من أثرٍ مُزلزلٍ على حاتم وجميلة، وكلِّ الأهلِ الأعزاءِ ببيتِ المال وودنوباوي والثَّورات، هذا خلافاً للقضارف والسُّروراب وجدَّة، وبقيَّةِ الأهلِ الموزَّعينَ على مُدُنِ الشَّتات؛ فكيف يُمكِنُ لي أن أُعزِّيَ مَن هو مُستعصٍ -بحُكمِ الفقدِ الجَلَلِ- على العزاءِ وغيرُ قابلٍ للسُّلوان.
بثثتُ هُمُومي أولَ الأمرِ على منصور المفتاح، فهو خبيرٌ في فنِّ التَّواصلِ بين الأهلِ والأصدقاء، فاقترحَ عليَّ أن أتَّصِلَ بالنَّصري لعلَّه يتفهَّم الموقف ويُسعِفُني بمداخلَ مُجَرَّبَةٍ في مثلِ تلك الحالاتِ النَّادرةِ الحدوث؛ ولكن كيف يتسنَّى لي مخاطبته وقد حَصَرنا، لا أدري لماذا، كلَّ لقاءاتنا السَّابقة على الواتساب المكتوب، ولم نلجأ مُطلقاً إلى خدمتِه الهاتفيةِ المَجَّانية؛ وَمَا أدراني لعلَّه يُعاني من مثلما أُعاني مِنه. كلُّ ما أُدريه أنَّ مُعاناتي إزاءَ ما كنَّا نُسمِّيه بِـ"المِيتَةِ الحارَّة" كانت تُكلَّلُ دائماً بالاختفاءِ لأطولِ وقتٍ ممكن عن أنظارِ المكلومين، إلى أن يُخَفِّفَ الزَّمنُ وطأةَ الفقد، وكأنَّني حَفِيٌّ به، ممَّا تسبَّب في وصفي سابقاً بالجَفَاء تارَةً، وبالتَّعالي على الأهلِ والخُلَّانِ تارَةً أخرى؛ وما دَرُوا أنِّي أُكَتِّمُ حزني في أحشائي، وأتعالى بالفعلِ -بالمعنى الإيجابيِّ للكَلِمَة- على مَصائبِ الدَّهر، وأحصِرُها بقدرٍ عالٍ من التَّوكُّل.
وقد أَسَرَّ إليَّ مرَّةً أحدُ أبناءِ أميَّ الثَّانية صفيَّة بنتِ البدوي سليمان كركساوي بأنَّ النَّظرياتِ حولي كانت تتكاثرُ وتتقاطعُ كُلُّها في أنِّي إمَّا غريبٌ أو مُتعالٍ أو جافٍّ أو فيلسوف، إلَّا أنَّ امرأةً واحدةً فقط لم تتزحزح ثقتُها في حُبِّيَّ الجارفِ لأهلي وعشيرتي، وإنْ كان ذلك بأسلوبي الخاص، وعلى طريقتي الشَّخصية. وبوجهٍ ما، لم أَكُن مُحتاجاً إلى تزويدي بهذه المعلومة، على أهميَّتِها القصوى لاتِّزانيَّ النَّفسيِّ والوجداني، فقد كنتُ أعرِفُ، بطريقةٍ ما، ما كانت تكِنُّهُ لِي حاجَّة صفيَّة منذ صغري وإبَّان صباي الباكر؛ وكنتُ أعرِفُ أنَّها تُناديني من وراءِ البحر، وتَصِلُ إليَّ دعواتُها في بهيمِ الليلِ وأطرافِ النَّهار.
وعندما جاء وقتُ النَّحيبِ الجماعيِّ على الأعزاءِ عبدالعزيز الأول (عبدالعزيز محمَّد داود، أميرِ فنِّ الغناء السُّوداني)، وعبدالعزيز الثَّاني (عبدالعزيز العميري، بُلبُلِه الصَّدَّاح)، وعبدالعزيز الثَّالث (الاسمُ العائلي المحبَّب للصَّديق المناضل المثقَّف عمَّار محمود الشِّيخ)، لم أجِد بين الرَّاحلينَ أعزَّ من حاجَّة صفيَّة لأضمُّها لتلك السُّلالةِ العزيزيةِ النَّادرة؛ ففي مقالٍ تحت عنوان: "وداعاً ابن خالتي كليول-يانج" (في نعي عضو "اتِّحاد الكُتَّاب السُّودانيين" الشَّاعر السَّر أّناي (كليول-يانج)، قلتُ في تقديرٍ خاصٍّ لأُمِّ ماجِدةَ، إن "خالتي صفيَّة بنت البدوي كانت تُناديني ممَّا وراءِ البحار، ولكنني تهيَّبتُ الرَّحيلَ معها، وتحت أقدامي صغارٌ في كَنَفي ينشأون". كما قلتُ أيضاً "ما الموتُ الذي أدركَها سوى إذنٍ بانتشارِها في قلوبِ أكثرِ عددٍ من النَّاس".
إلَّا أنني قلتُ أيضاً في مطلعِ المقال، وفي مُصادَرَةٍ عامَّة إنَّ "الموتَ يُدرِكُ المرءَ، ولكن قلَّما يُغيِّبُهُ، كما تُوهِمُنا بذلك العبارةُ المجازيةُ الشَّائعة. وهذا ما يُفسِّرُ، في نظري، ذلك السلوكَ المُدهِشَ لأولئك الموتى الرَّائعين، الَّذين يتسلَّلون إلى يومِنا العادي، ليُفتِّقوا لونَهُ ورائحتَه. فهاهُم، خِفافاً، ينهضونَ من أسِرَّتِنا؛ يرتشِفونَ معنا قهوة الصَّباح، ويجِدُّونَ في السَّيرِ خلفنا وأمامنا، وفوق رؤوسِنا، وتحت ثيابِنا؛ ويسعَونَ معنا إلى المكاتبِ والمتاجرِ والمصانعِ والمزارعِ والمهاجرِ، وساحاتِ الحربِ اليومية". ولم أرَها رِهامَ، لكنَّ مكانها محفورٌ في القلبِ والذَّاكرة، فهي امتدادٌ لتشعُّبنا الجينيِّ، وصِلةٌ قائمةٌ لا يقوى الموتُ على فصمِ عُراها أو إطفاء جذوتها الرُّوحية. ولأجل هذا، ستحتسي معنا يومياً أقداحَ الشَّاي، وتتنزَّهُ معنا في السَّاحاتِ العامَّة؛ وسننتظرُ بلهفةِ أمٍّ رسائلها النَّصيَّة، ومرفقاتِ بريدها الإليكتروني، ومكالماتها الهاتفية، كما لو أنَّ الموتَ حدثٌ لم يكن أو هو إذنٌ بانتشارٍ أوسعَ للمرءِ أو انبثاقٍ له وفقَ ترتيبٍ جديد.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

رجعت لهذا الخيط من بدايته، أحاول أن أُلزِم نفسي
بقراءة بعض مصادره الغزيرة، وأيضاً كاحتفال بمرور أكثر
من سنتين على مداخلة خلف الأولى التى أتاحها
إغفال القصاص عن السرد الكامن في بعض العلوم.
قررت أن أبدأ بالجين الأناني وهو من اوائل الاحالات التي ذُكِرت
في المداخلة الاولى لخلف، ثم أواصل بمشيئة الله في باقي المصادر

تحياتي يا عادل ويا خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

محمد خلف يعود هنا، بعد فترة صمت خصيب، ليدعونا إلى مسارات مركزها (أو سيكون أحد مراكزها) السرد؛ وهي مسارات تسبَّب في انبثاقها (أو انبثاق بعضها على الأقل) مراسلات شخصية تمَّت مؤخراً بينه وبين الصديقين التشكليين عبد الواحد ورَّاق ومعتز بدوي:



عودة إلى الطَّيِّب صالح وعادل القصَّاص وسَبُّورَة الفصل



كنتُ أظنُّ أنَّني قد أدَرتُ ظهري تماماً لكتاباتِ الطَّيِّب صالح، بعد انشغالي عنها لفترةٍ طويلة بالقرآن؛ وكنتُ أظنُّ كذلك أنَّه لا مُبَرِّرَ للرجوعِ إليها بعد رحيله، خصوصاً وأنَّني وَطَّنتُ نفسي منذ مدَّةٍ على إدارةِ جُلِّ حواراتي مع أحياء، فالموتُ يُسدِلُ قدْراً من التَّستُّرِ على عيوبِ المقروء، هذا علاوةً على إلزامٍ لا عيبَ فيه بتوقيرِ مَنْ مَضَى، وتَركِ نُصوصِه لحُكمِ التَّاريخ؛ ولا غضاضةَ في ذلك، فمن الممكنِ دائماً تناولُ القضايا السَّاخنة التي تُثيرُها تلك النُّصوص من خلالِ سياقاتٍ بديلة. إلَّا أنَّ الصَّديق الفنَّان التَّشكيلي عبدالواحد ورَّاق قد أرسل إليَّ مقالاً للنَّاقد النَّابه أحمَّد الصَّادق، فصَحَّى في نفسي غوايةً قديمة، فكتبتُ إلى الصَّديق ورَّاق أسطراً في غضونِ وقتٍ وجيزٍ من استلامِ هديته؛ وكنتُ أظنُّ كذلك بأنَّني سأكتفي بتلك الأسطر، التي يمكن أن تُشيرَ له بأسلوبٍ شرطي بأنَّ هذا كان سيكونُ موقفي النَّقدي، لو أنَّني ما زلتُ مهتمَّاً بتلك الكتابات.
وبعد مُضي يومٍ من ذلك، وكأنَّهما على اتِّفاقٍ مُسبَقٍ على إغوائي، أو كأنَّني على موعدٍ مع قدَرٍ لا أقوى على صدِّه أو منعِ وقوعه، أرسل إليَّ الصَّديق الفنَّان التَّشكيلي معتز بدوي نسخةً رقمية من ’مشروع‘ "الأعمال الكاملة للطَّيِّب صالح" (وهي مشروعٌ، لأنَّها لم تحتوِ إلَّا على خمسِ رواياتٍ فقط من مُجملِ كتاباتِه). وكأنَّ الصَّديقين التَّشكيليَيْن قد تعاونا خِلسةً على تشكيلِ مسارِ كتاباتي في الأيامِ القادمة؛ ولا غضاضةَ في ذلك أيضاً، فمن أجلِ ذلك قد استصرخنا خاصَّةَ الأصدقاءِ وعمومَ قرَّاءِ رسالتي إلى الصَّديق عادل القصَّاص، لإعادةِ تشكيلِ مساراتِ بعضِنا البعض، حتَّى نتمكَّنَ من فتحِ فضاءٍ فكريٍّ واسع يسمحُ بإعادةِ بناءِ حركةٍ ثقافية، معافاةً من أخطاءِ الماضي، وممتلئةً بآمالٍ متجدِّدةٍ، ومشرئبةً إلى ألقٍ مُنبثقٍ من خَلَلِ العَتَمَةِ وأفقٍ ممتدٍ فيما وراءِ الغيوم.
بدأتُ بـ"موسم الهجرة إلى الشَّمال" في قراءةٍ بطيئة، غير أنَّها تتمُّ بتلذُّذٍ عجيب (إذ لا مُبَرِرَ للإسراع، فالنُّسخةُ الرَّقمية لا تُعادُ لمُرسِلِها؛ فهي صَدَقةٌ جارية، ولا صاحِبَ لها؛ ودعواتُنا لمُرسِلِها، وصاحبِ الفضلِ الأكبر كاتبِها: الأستاذ الرَّاحل، ذي الاسمِ المُنطبقِ على مُسمَّاه: الطَّيِّب صالح). وتوقَّفتُ طويلاً أمام حديث مصطفى سعيد، أحدِ شخصيات "الموسم" المُهِمَّة، إنْ لم يكن أهمَّها على الإطلاق، عن نفسِه، قائلاً: "أقرأُ الشِّعرَ، وأتحدَّثُ في الدِّينِ والفلسفة، وأنقدُ الرَّسمَ وأقولُ كلاماً عن روحانياتِ الشَّرق"؛ وهي خلافاً لكلماتِ ماركس الشَّاب الذي كان يحلمُ عبرَها بالقضاءِ على استلابِ العمل وصنميَّةِ البضاعة، قد قيلت بدافعِ المُباهاةِ والتَّنويهِ عن الذَّات، الذي يتطلَّبه بناءُ الشَّخصيَّةِ الواهِمة المُتحرِّكةِ في فترةِ ما بين الحربَيْن في فضاءِ البندرِ الكولونيالي. إلَّا أنَّ ما استوقفني أكثر هو قوله: "فمضى عقلي يعَضُّ ويقطعُ كأسنانِ مِحراثٍ. الكلماتُ والجملُ تتراءى لي كأنَّها معادلاتٌ رياضية. والجبرُ والهندسةُ كأنَّها أبياتُ شعرٍ. العالمُ الواسعُ أراهُ في دروسِ الجغرافيا، كأنَّه رُقعةُ شطرنج". وحملني قِطارُ القراءةِ المُتأنيَّة إلى عالمِ القصَّاص ورسالتيَّ الشَّهيرةِ إليه.
وتذكَّرتُ فجأةً أنَّ أولَ يومٍ له بفصلِ الدِّراسة، وهو خلافاً لأولِ يومٍ لمصطفى سعيد بذلك الفصل، في تلك المدرسةِ على ضفَّةِ النَّهر (وأجزمُ بأنَّها أقربُ إلى المدرسةِ الصِّناعية بأمدرمان، وهي المدرسةُ الوحيدة في عاصمةِ بلادِنا على ضفَّةِ النَّهر -التي استأثر بها القصرُ، ومباني الدَّولة ومؤسَّساتُها الرَّسمية، وممتلكاتُ بعضِ الأعيان- وهي مبنيَّةٌ من الحجر الأبيض -وليس الطُّوب الأحمر، كبقية المدارس التي نشأت لاحقاً- وهي أيضاً المدرسةُ التي تتوسَّطُها حديقةٌ غَنَّاء، ويُقرَعُ في ساحتِها الجَرَسُ فتسمعه النِّسوةُ في الضَّفَّةِ الشَّرقيةِ بشمباتَ وحلَّة حمد ببحري؛ وكانت مَدرستي الابتدائية -بيت المال: أبي قرجة- تستعيرُ مباني المدرسة الصِّناعية في الخريف، حينما يُوهِنُ المطرُ الهتَّانُ عروشَها وتخرُجُ قطراتُه الممزوجةُ بالطِّينِ من بين السُّقوف، فتتَّسِخُ ملابسُنا البيضاء، التي قضت أمُّهاتُنا سحابةَ يومِهُنَّ في غسلِها)، لم يقضِ القصَّاصُ اليومَ الأول في إجراءاتِ التَّسجيل، والإجابةِ على أسئلةِ المُشرِفين عليه –وهو واجبٌ عادةً ما يقومُ به الآباء- وإنَّما حباهُ اللهُ بناظِرٍ مُلهَمٍ ومُلهِمٍ، جنَّبَه وزملاءَه الجُدد رهبةَ اليومِ الأولِ، بالشُّروعِ مباشرةً في بسطِ خيوطِ السَّرد: "سأحكي لكم قصَّةً باهرة".
واللَّافتُ للانتباه، أن النَّاظرَ قد انفردَ بتلاميذه الصِّغار في يومٍ لا يحتاجُ فيه إلى استخدام وسائل الاتِّصال التَّربوية التَّقليدية، ومن ضمنِها السَّبُّورة؛ ففي تلك الأيام، كانت تُستخدمُ سَبُّورةُ الحامل (على شاكلة لوحة الحامل التي يستخدمُها التَّشكيليون، أمثالُ ورَّاقٍ ومعتز)، التي تُطوى وتُنقلُ إلى فصلٍ آخر، بعد الانتهاء من استخدامِها؛ فلم يكنِ النَّاظرُ في سردِه الافتتاحي في حاجةٍ إليها، فخرجَ صوتُه نقيَّاً، متحرِّراً من كلِّ قيد؛ ومن ضمنِها، تلك العوائقُ المعرفية المُختبئة في البنيةِ الثُّنائيَّةِ الأبعاد لسَبُّورةِ الفصلِ السَّوداء، التي يكتبُ عليها المدرِّسون بطَبشُورَةٍ بيضاء، فتنتقِلُ عبرها علومٌ، ومعارفُ، ومعلومات؛ أو تقاليدُ، وعقائدُ، وأيديولوجيات؛ أو أساطيرُ، وأكاذيبُ، وضلالات.
قدَّمنا في السَّابق، عبر هذا الرُّكن، حيثياتٍ كافية حول السَّرد؛ وسنقدِّمُ في مشاركاتٍ لاحقة بإذنِ الله عدداً من الحيثياتِ بشأنِ اللُّغة ومشكلاتِ الكتابةِ والتَّعلُّم. أمَّا الآن، فيكفي التَّنبيه فقط بأنَّنا لن نبتعدَ شِبراً واحداً عن مِحوَرِ الحقِّ والحقيقة، إذ يُبلِغُنا القرآنُ (الذي بلَّغَه لنا رسولٌ أمِّيٌّ) بأنَّ اللهَ علَّمَ في عليائه بالقلم: "اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ؛ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ؛ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"؛ (سورة "العلق"، الآيات رقم 3-5)؛ بينما نستخدِمُ في دُنيانا وسائلَ أخرى كذلك، من بينِها القِرطاسُ واللَّوحُ والسَّبُّورةُ والصَّفحةُ البيضاءُ، في عمليةِ التَّعلُّمِ، بحثاً في نهايةِ المطافِ عن الحقيقة. كما يجدُرُ أيضاً التَّنبيه إلى تعليقِ الصَّديق الأستاذ مسعود محمَّد علي، ذي الخبرةِ الطَّويلةِ في مجال التَّدريس، وهو ما زال مُنهمِكاً بفضلِ الله في مِهنةِ المتاعب، حيث قال لنا باكِراً (3 نوفمبر 2014) ضمن هذا الرُّكن: "شُكراً خلف على الحصَّة؛ شُكراً عادل على السَّبورة".

محمد خلف
أضف رد جديد