Story Lesson أو الحِصَّة قِصَّة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الصديق عادل عثمان،

في اللحظة التي دفعت أنت بتعليقك أو ملاحظتك أو تساؤلك للنشر هنا، كنت أنا من بين أول من قرأه، إذ كنت أجلس - حيث أنا الآن - الى "منبر الحوار الديموقراطي". فهممت بالرد عليك، ذلك أن المعلومات التي سألت عنها متوفرة لدي. غير أنني ما لبثت أن بعثت برسالة مشاورة قصيرة الى منصور لظني أنه ربما يرغب في الاستجابة. فخولني بكتابة الرد. وقبل أن أقوم بتنفيذ ردي جاءتني، قبل وقت قصير، السطور الحميمة التالية من محمد خلف:


عزيزي عادل

رسالتي إليك بدأت تعمل كرسالةٍ أيضاً إليَّ، فكأنها امتصَّت خاصيَّة البومارانغ (السفروق) الأستراليِّ الأصل؛ فها هو سميٌّ لي من جنوب الوادي، محمد خلف الله سليمان، يهفو عبرك إليَّ - أو كأنها لعبةُ كرةِ مضرب، لا أقول يشترك فيها عملاقان، وإنما ينخرط فيها لاعبان من بلادِ العمالقة، أحدُهما في "ويمبلدون" والآخرُ في "ملبورن"، يتبادلانِ الضرباتِ المتبادلة عبر طرفي الكرةِ الأرضية؛ فيما ينتظر سميٌّ لي من جنوب الوادي، محمد أحمد خلف الله، منذ مولدي، أن أهفو إليه متجاوزاً قوله، فقد قرَّر منذ ذلك العهد أنه لا يجب أن يُفهم قوله على إطلاقه، "وإنما هي الحلولُ التي نضعها لنفسحَ مجالَ القولِ أمام الدارسين" – أو كأنها مباراةٌ وديَّة بين "سودانفورول" و"سودانيزأونلاين" ليس فيها مهزومٌ أو منتصر؛ فها هو منصور يبرهِّنُ ذلك بمساهمته في الموقعين بنفسِ المشاركة، موجِّهاً خطابه لي وناديا (أو "نادية"، كما أُحبُّ أن أكتبَ اسمَ رفيقةِ عمري)، فيسأل سميٌّ لك، عادل عثمان، عن صاحب الاسم؛ فنحارُ جميعاً: هل ينبغي أن يردَّ منصور أم عادل القصَّاص، أم نكتفي بالإجابة المُضَمَّنَة في هذه الرسالة المقتضبة، إذا قرَّر القصَّاصُ نشرها في رُكنِه بموقع "سودانفورول"؛ أو سمح لمنصور بنشرها في رُكنِه بموقع "سودانيزأونلاين".

محمد خلف


-----------------------

أيضا، يا صديقي عادل، نادية هي إبنة عمنا وأستاذنا الراحل الرشيد نايل محمد (المحامي)، أخت أمينة ومامون، وابنة خالة (أو عمة) منصور المفتاح، الذي أورد إسمها في تعليقه هنا لأنها هي التي بعثت إليه بنسخة من رسالة خلف، عبر بريد خاص، قبل أن نقوم ببذلها هنا، في إشارة إمتنان منه.

لك مودتي وشوقي للتواصل معك.

عادل
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 10:00 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

منعم رحمة، يا منعم علينا وبنا، منذ "بيت الصافية"، الذي لم أره، ومع ذلك كنت - وما أزال - أحد قاطنيه؛ ومنذ "تعريشة سلوى حبيب"، "بيت السابعة"، "بيت توني"، "بيت جبرا" وعصبة "نسوان عادل القصّاص" الجميلات، كما وسمهنَّ، بوسامة لسانه المعهودة، إبن أمي، محمد مدني؛ ومنذ غير ذلك من وساماتنا - وهي جَمَّةٌ، أنت فصلٌ مكينٌ، حَيٌّ وجارٍ، من فصول حياتنا، التي هي ليست ماضية، وإنَّما ماضية إلى الأمام.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الثلاثاء نوفمبر 18, 2014 12:20 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

يا عادل عثمان والقصاص

ناديه علمٌ ممنوعٌ من الصرف للعلمية ومجيئها على وزن الفاعل وعلم بالإضافة إلى علمين الرشيد نايل ومحمد خلف
وعلمٌ لأنها القارئ الأول لخلف وعلمٌ لأنها ملمة إلماما دقيقا بكل فنون التثقيف وواقفة على أرضيةٍ معرفية صلده
وإن توفر لها الظرف لتكتب فحتماً سيقع فك قارئها من الدهشه فإن لناديه حس أدبى وفنى وإنسانى رفيع المقام
لها التحايا وسمح الأمانى.





منصور
آخر تعديل بواسطة منصور المفتاح في الاثنين نوفمبر 17, 2014 5:50 am، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الهميم والحميم، منصور

ها أنتذا تبرهن، عبر أكثر من حزمة عشب أو باقة ورد، بأن الدرب الذي التقينا فيه، كان، وسيظل، أخضرا ل أو على كلينا، كما ل أو على كل من بنا مَسٌّ منه أو منها.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

القصاص عل الدرب يبقى أخضرا وسالكا ليس بشاقٍ ولا وعِرْ وعلنا نظل قادرين
على أن نسلكه، شكراً عادل وشكرا لعادل الآخر الذى منحنا رخصة
القول عن ناديا ولم نستطع قولها كما ينبغى.
شكرا ثانية القصاص,



منصور
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وما أن قالد شقيق روحنا، محمد خلف الله سليمان، "رسالتنا" هذه حتى بعث الينا بهذه الكلمات الموسومة بالحضن:



عادل شقيقي

تلك محبة لا توصف.
هي فرجة معرفية لاتملك إلاّ وأن تقف أمامها مشدوهاً ومندهشًا.

تحياتي لهذا السميّ الجميل.
وعنوانه لو تفضلت ولنا الكثير.

تحياتي للعائلة والأصدقاء.

محمد
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 10:02 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

صديقي خلف،
رُبَّمَا في الفترة التي كنتَ أنت تبدع خلالها نَصَّكَ السردي الأول، "تحليق انسيابي فوق حرم الجامعة"، باللغة الإنجليزية، أو رُبَّمَا – وهذا هو الأرجح – في الوقت الذي نُشِرَ فيه هذا النص في مجلة سوداناو، في نوفمبر من عام 1980، كان ضجري وضيقي، من جُلِّ المواد التي كان يفرضها علينا منهج تدريس مواد الزراعة، خلال السنة الأولى واليتيمة التي درستها في مدرسة أُم ضَوَّاً بان الزراعية، قد بَلغَا أوجهما.
كان السبب الرئيس الذي دفعني إلى اختيار دراسة الزراعة هو أنني أردتُ أنْ أنخرط في دراسة ثانوية عُليا (ثانوية لاحقاً)، لا تحتوي – في ذلك الوقت – على مواد الرياضيات، الفيزياء والكيمياء! فعندما كنتُ أنتظر دوري لمقابلة مُمَثِّل وزارة التربية والتعليم، الذي كانت مهمته مراجعة استمارات الالتحاق بالمرحلة الثانوية العُليا، قُبَيْل الجلوس لامتحانات نيل شهادتها، بما في ذاك التأكُّد من صِحَّة البيانات الشخصية للطُّلَّاب المُمْتَحَنِين ومنح الفرصة لمن يرغب في تغيير – أو بالأحرى – إعادة ترتيب تطلُّعاته أو خياراته الدراسية للمرحلة الثانوية العُليا، إذا بأحد زملائي الطلبة المُمْتَحَنِين يسألنني عمَّا إذا كنت سأجري تعديلاً في ترتيب تطلُّعاتي أو خياراتي، التي كانت: (1) أكاديمي (2) زراعي (3) تجاري (أو، رُبَّمَا، صناعي – طبعاً لو كان متاحاً لي خيار عدم كتابة "تجاري" أو "صناعي"، لفعلت!) فأجبته بأنْ لا. فقال لي بأنه قَرَّر وضع خيار التعليم الزراعي في صدر تطلُّعاته أو خيارته. وعندما سألته لماذا يريد أن يُقدِمَ على خطوة كهذه، أجابني بأنه يُقَالُ إنَّ مواد التعليم الزراعي قليلة وسهلة. فسألته هل تعني سهولتها هذه خُلُّوُها من الرياضيات، الفيزياء والكيمياء. فرَدَّ عليَّ بأَّنَّ هذا بالضبط ما حَبَّبَ إليه هذا الخيار! فما كان مني إلَّا أنْ حذوتُ حذوه، ليس دون تَأمُّلٍ فحسب، وإنَّمَا بلَهْوَجَةٍ ودغدغةِ أُمْنِيَةٍ مُكَابِرَةٍ أيضاً، فيما كانت مُخَيِّلَتِي تتَذَوًّقُ النُعُومَةَ والفُغُوْمَ اللذين توحي بهما كلمة "زراعة"؛ فطلبتُ من ممثل الوزارة أنْ يجعل تطلُّعاتي أو خيارتي مرتبة على هذا النحو: (1) زراعي (2) أكاديمي (3) تجاري (أو صناعي).
ثم لم ألبث أنْ نجحتُ في امتحان الدخول للمرحلة الثانوية العُليا بنسبة غير ممتازة ولكنها جيدة، إذْ أحرزتُ تقديرات عالية في مواد كالتاريخ، الجغرافيا، اللغة الإنجليزية، اللغة العربية والتربية الإسلامية، بينما أذكر أنَّ تقديري في الرياضيات كان 3 من 100 (وفي أغلب الظن أنَّ ذلك التقدير العددي، الفقير إلى درجة تكاد تكون إستثنائية، لم يُمْنَح لي مقابلَ حَلِّيَّ لمسألةٍ من مسائل الامتحان، وإنَّمَا لقاءَ كتابة اسمي ورقم جلوسي على صدر ورقة الإجابات!). فكانت مدرسة أُم ضَوَّاً بان الزراعية من نصيبي، حيث عانيتُ، في اليوم الأول من وصولي إليها، من ثلاث صدمات:
الصدمةُ الأولى تتمثَّلُ في أنني وجدتُ مباني مدرسةٍ تُنَاقِضُ الصورة التي أنشأها في مُخَيِّلَتي قِسْمٌ مُؤثِّرٌ من قراءاتي السردية والشعرية، حتى ذلك الوقت، إلى جانب الدلالات الناعِمَة والفاغِمَة التي أحالتني إليها كلمة "زراعة"؛ ذلك أنني فُوجِئْتُ بمباني مدرسةٍ لا تتوسَّطُ مَرْجَاً أخضرَ مُطَرَّزَاً بأشجارٍ متنوعةٍ وورودٍ وزهورٍ مُتَعَدِّدَة، وإنَّما صُفِعَتْ عينايَ بهيئةٍ هزيلةٍ وكئيبةٍ لمبانٍ مُقَامةٍ على أرضٍ شاسعةٍ، آيلةٍ لصحراء، ينبتُ منها الغبار والعُبُوس.
الصدمةُ الثانيةُ تتلخَّصُ في أنَّ غُرَف الداخليات كانت عبارة عن غُرَفٍ مُلَفَّقَةٍ، أُنْشِئَتْ لأجلنا – مؤقتاً، فيما قيل لنا – داخل بَرَنْدَةٍ طويلة ذات سقفٍ زِنْكِيٍّ؛ أي أنَّ ذلك الإِنشاء تَمَّ بتقسيم تلك البَرَنْدَة إلى حُجَيْرَاتٍ ضيِّقة، تشبه الزنازين، بواسطة ألواحٍ من خشب البُوسَنَايْت أو الأَبْلَكَاش؛ وكان الفصل شتاءً، حيث الريح لا تُحَاوِرُ الخاطر، وإِنَّمَا تَلْطُمه.
أما الصدمةُ الثالثةُ – الأشَدُّ قُوَّةً وقسوةً من الصدمة الأولى والثانية معاً – فقد كان مصدرها ليس تَبَيُّنِي خرافة خُلُّو مواد التدريس هناك، التي كان ينحدر معظمها من منهج تدريسٍ مصريٍّ، من الرياضيات، الفيزياء والكيمياء فقط، وإِنَّمَا – أيضاً – اكتشافي أنه لم تكن ثَمَّة مادة من المواد التي كنا نُدَرَّسُهَا خلال تلك السنة عارية – بدرجات مختلفة – من عناصر تلك المواد الثلاث. فكانت النتيجة أنني لم أجد أيَّمَا متعة – لذلك السبب ولاعتقادي بغياب السرد – في أية مادة من مواد تلك السنة الدراسية، الأولى والأخيرة. الإِثارةُ الهَشَّةُ، الوحيدة والمؤقتة، التي كنت أشعر بها خلال الأسابيع القليلة الأولى هناك، كانت تتمَثَّلُ في المعانقة الطازجة لأُذنيَّ للهجة المصرية الصادرة عن عدد قليل من مدرسينا المصريين.
كان ذلك مأزقٌ دِرَاسيٌّ لم – وفي الغالب لن – أواجه مثيلاً له طوال حياتي الدراسية المُنتَظِمَة. وكان ما ضاعف من غيظي أنَّ ذلك الزميل الطالب، الذي تَسبَّبَ لي فيه، لم يكن من بين الطلبة الذين تَمَّ إلحاقهم بمدرسة أُم ضَوَّاً بان الزراعية؛ فلو كان معنا هناك لكنت فَشَّيْتُ غبينتي فيه بطريقةٍ تلائم عمرنا في ذلك الحين. فقلت في نفسي رُبَّمَا كان من الذين أُحِيلُوا إِلى مدرسة زراعية أخرى مثل طلحة أو أبو نعامة؛ أو – ورجَّح حُنْقِي، أو رغبتي في الانتقام، هذا الاحتمال – رُبَّمَا لم ينجح في امتحان الشهادة الثانوية العليا؛ إذْ إنَّ شخصاً بمثل هذا الغباء – واستثنيت نفسي، طبعاً، باعتباري ضحيةً – لا يمكن أنْ يكون النجاح حليفه!
أما أملي في الخلاص من ذلك المأزق، فلم يكن سوى أنْ أتطلَّعَ، بفارق الصبر، إلى انتهاء العام الدراسي، كي أحزم روحي المكروبة وأمتعتي وأعود إلى بيتنا الأُمدرماني، الكائن في الثورة الحارة السابعة، دون رجعة، مهما كانت النتائج.
وما أنْ فعلتُ العودة، بنهاية ذلك العام الدراسي، حتى أبلغتُ ناس بيتنا بعدم رغبتي في العودة لمواصلة دراسة الزراعة، كما اقترحت عليهم أنْ يجدوا لي طريقة تنقلني إلى "مدرسة أكاديمية" في أمدرمان، إلى حيث لابد أن يكون للسرد نصيبٌ في بعض المواد.
قابَلَ رَجُلَا بيتنا، أبي وأخي الأكبر، قراري ذاك بعاصفة من الغضب، الذي كانت عَاقِبَتهُ إعلان كليهما الامتناع (الرَخْوِ طبعاً) عن تقديم المساعدة لي، فيما احتضنته امرأة البيت، أمي وأمك، الحاجة صفيَّة، ليس بعاطفتها السخيَّة فَحَسْب، وإِنَّمَا بسعيها العملي كذلك – هي التي ليست بقارئة ولا كاتبة – لإيجاد مدرسة ثانوية ("أكاديمية") تستوعبني.
فكان أنْ كُلِّلَتْ مساعيها بقبولي في المدرسة الأهلية الثانوية العليا بأمدرمان (حيث سبقتني أنت إلى الدراسة فيها) التي كان ناظرها، في تلك الفترة، يُدْعَى التِّلِب (نسيت اسمه الأول؛ ترى، هل تربط صديقنا مأمون التِّلِب أية قرابة به، غير قرابة أمدرمان، رُبَّمَا؟) غير أنَّ إدراة المدرسة رفضت قبولي في الصف الثاني بحجة أنني قرأت مواد مختلفة ("غير أكاديمية") في السنة الأولى؛ فرأتْ أنْ لابد من مروري بمواد الصف الأوَّل. ولم يكن ثَمَّة من بُدٍّ من الرضوخ؛ فانتظمت في "سنة أولى ثانوي عالي" مرة أخرى.
لم يوَفِّر لي التحاقي بالمدرسة الأهلية الثانوية العليا الاستمتاع بمواد ذات وشائج متباينة الكثافة بالسرد (مثل اللغة العربية، اللغة الإنجليزية، التربية الإسلامية والتاريخ) فقط، وإنَّما كافأت روحي الظمأى للسرد، للشعر، ولأنواع أخرى من "القراءات أُمْ غِيْرْ دَقْ"، بالمكتبة المدرسية.
كانت المكتبة المدرسية هناك ذات فوائد نوعية مُرَكَّبَة. فهي رفدتني بثروة سردية وشعرية ضخمة، علاوة على آفاق تأملية ونقدية مختلفة، في مدة وجيزة، مما كان سيستغرق منِّي سنوات من "المُعَافَرَة المُستَقِلَّة"؛ كمَا أهدتني فكرة عملية ثانية للتَهَرُّبِ من حِصَصِ الرياضيات، الفيزياء والكيمياء، وذلك بأنْ غدوت أتجَنَّب – في كثير من الأحيان – حضور تلك الحِصَص بالذهاب إلى المكتبة.
أمَّا الفكرة العملية الأولى، فقد كانت تتمثَّل في أنني كثيراً ما كنت أحوِّل الوقت المُمِلَّ، الذي كنت أقضيه في هذه الحِصَص، إلى وقتٍ مُمْتِعٍ؛ وذلك إمَّا بالقراءة، شبه السِرِّيَّة، لجزءٍ أو نَصٍّ – إبداعي على الأرحج – من كتابٍ، مجلةٍ أو صحيفةٍ؛ أو بالانهماك، شبه السِرِّيِّ، في كتابةٍ ما، غالباً ما يكون لها نزوعٌ إبداعيٌّ؛ أو بمحاولاتٍ، شبه سِرِّيَّةٍ، في الرسم؛ (وقد كان من فوائد انتقالي إلى المدرسة الأهلية أنَّه كان لدينا أستاذٌ مُتَخَصِّصٌ في الرسم، رغم عدم اكتراث معظم التلاميذ بحضور حِصَّتِهِ – بل أحياناً كنت أنا التلميذ الوحيد الذي يحرص على حضورها؛ غير أنني لست أستَحْضِر، على وجه التحديد، فيما إذا كنتُ قد تَمَرَّدتُ على تلك الحِصَّة كذلك، لصالح القراءة، أم أنها أُلْغِيَت بالأساس. على أنني أتذَكَّر أنني لم أنخرط سوى في حِصَصٍ قليلة منها، وهي التي كان محكوماً عليها – أصلاً – بحضور بالغ الضمور في الجدول الأسبوعي للحِصَص المُقرَّرَة علينا. كما أستَدْعِي أنَّ أستاذ مادة الرسم ذاك كان هو أيضاً أحد المرتادين القلائل لتلك المكتبة المدرسية. كذلك كان من أبرز الفوائد التي منحني لها ذلك الأستاذ أنْ علَّمني كيفية تقسيم سطح الورقة – ذهنياً أو تَصَوُّرِيَّاً على الأقل – قبل البدء في رسم منظر طبيعي؛ كما كان قد اقترح عليَّ قراءة كتاب إِيْرْنِسْتْ فِشَرْ "ضرورة الفن"، الذي كان حاضراً في المكتبة أيضاً – وقد فعلت ذلك بمتعةٍ وفخر. ومن المؤسف أنني لا أستَحْضِرُ اسم ذلك الأستاذ. بيد أنني أتذَكَّر حين تعرَّفْتُ لأوَّل مرة، في منزل بَشَّار الكُتُبي، إلى الفنان التشكيلي عبد المنعم الرَّيَّح – بعد ذلك ببضعِ سنواتٍ – ظننتُ – لمدة غير قصيرة – أنه ذلك الأستاذ من فرط أوجه الشبه بينهما: نفس طول القامة، عين لون البشرة، نفس الوجه المستطيل العامر بلحيةٍ موصولةٍ بالفودين وبالشارب. وعندما سألتُ وَدَّ الرَّيَّح فيما إذا كان هو ذلك الأستاذ، لم ينفِ ولم يُؤَكِّد. بيد أنَّ افتقار وَدَّ الرَّيَّح – في ذلك الوقت على الأقل – إلى مَلْمَحٍ رَئيسٍ من ملامح ذاك الأستاذ – المُتَمَثِّل في هدوءٍ راسخٍ – كان هو الذي حسم لي أمر اختلاف الشخْصِيَّتَين).


(يتبع)
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين يناير 26, 2015 3:42 am، تم التعديل 5 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

كتبتُ، على مدار بضع حِصَصٍ من حِصَصِ الرياضيات، الفيزياء والكيمياء رسالةً طويلة، ذات ثلاثة أجزاء تقريباً، موجَّهة إلى صديقي القديم، الحميم، الهميم، بكري حسين حسن عمران، الذي – ويا لحزني المقيم عليه – رحل عن دنيانا بعد كتابة تلك الرسالة بنحو ربع قرن، بسبب صعقة كهرباء خليجية.
حين كتبتُ تلك الرسالة الطويلة إليه، كان بكري مُبْتَعَثَاً، من قِبَل عائلته التي كان جُزْءٌ منها يجاور أسرتي في الحارة السابعة، ليتلَقَّى كورساً قصيراً في علوم الكمبيوتر في القاهرة. كان سرداً حارَّاً، أهيَفَاً ودفَّاقاً. كانت حساسيتي النقدية، الغريزية تقريباً في ذلك الأوان، قادرةً على أنْ تتعرَّف بسهولة على الهوية الإبداعية العامة لتلك الرسالة. فتماطلتُ في بعثها إليه بالاشتغال الدؤوب، المُمْتِع، عليها، إلى الدرجة التي كانت أحياناً تُنْسِيني أنَّ هذه رسالة كُتِبَتْ إلى صديقٍ صميمٍ وأنَّ من حقه، ليس أنْ يطَّلع عليها فحسبُ، وإنَّمَا أنْ يمتلكها في المقام الأوَّل والأخير. فظللتُ على ذلك النحو من التماطل و/أو العمل عليها، الذي تُوِّجَ بعَنْوَنَتِي لها بِ "حُمَّى الزمنِ الصِفْر"، إلى أنْ رجع بكري من القاهرة، فسلَّمته نسخة منها باليد! فقال لي، بسخريته الهادئة، الرشيقة والموحية، بأنه لن يكون بوسعه أنْ يتقَيَّد بنفس الخطوات والإطار الزمني للردِّ عليها!
أمَّا النسخة التي بقيتْ بحوزتي، والتي كان كل يومٍ يمرُّ عليها يزيدني قناعة بأنها نص إبداعي، فقد أرسلتها إلى محمد نجيب محمد علي، الذي كان حينها يشرف على تحرير صفحتين أدبيتين أسبوعيتين من صفحات مجلة الإذاعة والتلفزيون والمسرح. بيد أنه لم يتمكن من نشرها – رغم إعجابه الجارف بها – كما أوضح لي ذلك حين التقيته بعد بضعة أسابيع من إرسالي إليه بها، وذلك بتحريض وتسهيل من خلف الله سعد، صاحب كُشْك الجرائد الشهير الواقع في سوق الحارة الرابعة. فكان السبب الذي منع محمد نجيب من نشرها يعود إلى إنهاء المجلة تعاقدها معه في الوقت الذي كان هو يعدُّ ذلك النص للنشر في العدد المقبل.
كان للإعجاب الجارف لمحمد نجيب بتلك الكتابة، كما كان لحَمِيَّة خلف الله سعد نحوي، كشاب يافع ظل يراه يعِدُ بمستقبل إبداعي، دوراً حاسماً في أن أعرض على الأخير نصاً سردياً آخر، موسوماً بعنوان "عفواً، كنتُ أُمارِسُ فيكِ العِشقَ"، كنتُ قد فرغتُ حديثاً من كتابته، التي توزعتْ بين حِصَصِ الرياضيات، الفيزياء والكيمياء وبين "غرفة السابعة".
يدين هذا النص، وقبله كاتبه، لخلف الله سعد بالكثير.
تعود صلتي بخلف الله إلى "علاقتي التاريخية" بكُشْكه، الذي لم يكن شهيراً بسبب بيعه للجرائد، المجلات، الدوريات وطائفة من مطبوعات أخرى، محلية وغير محلية، فقط، إذْ كان يتمتع بزبائن كُثْرٍ بنتيجة موقعه في سوق كبير، ولا بعامل الانتشار الاجتماعي لخلف الله، فحسب، وإنَّمَا، أيضاً، لأنه كان يُمَثِّلُ مُلتَقًى عفوياً لعدد من ذوي الاهتمامات و/أو الممارسات التي تنتمي للحقل الثقافي، الإبداعي، الصحفي والسياسي من قاطني الحارة الرابعة، وبعض الحارات المجاورة وشبه المجاورة، بل وحتي بعض الحارات القَصِيَّة إلى ذلك الزمن. فقد كان من أشهر مرتاديه – على سبيل التمثيل – بَشَّار الكُتُبِي، سامي سالم، عبد الوهاب حسن الخليفة، أحمد الطَيِّب عبد المُكَرَّم وأحمد المصطفى الحاج؛ ولم أكن أعرف من هذه القامات النقدية والأدبية أحداً عدا سامي سالم، الذي كانت تربطه صداقة بابن عمي الشاعر محمد الفاضل تمساح، مما نجم عنها صداقات له مع أقرباء آخرين لي؛ فيما كنتُ أنا – رُغْمَ صِغَر سِنِّي في ذلك الحين – أحد أبرز "الزبائن العريقين" للكُشْك؛ إذْ إنَّ علاقتي المتنامية به بدأت منذ أنْ كنت تلميذاً في مُستَهَلِّ المرحلة الثانوية العامة (المُتَوَسِّطَة لاحقاً)، ورُبَّمَا قبل ذلك بقليل، أي منذ ذيل المرحلة التي كنتُ فيها صديقاً لسلسلات "الألغاز"، "أرسين لوبين"، "القديس" و"الهارب"، على سبيل المثال. فكان من نتيجة كثرة تَرَدُّدِي على الكُشْك أن غدوتُ صاحب حظوة وثقة لدى خلف الله إلى الدرجة التي صَيَّرَتهُ يطلب مني أحياناً الجلوس في الكُشْك لحراسته والإشراف على البيع، حينما يكون ذاهباً لقضاء غرضٍ ما، لمدة تطول أو تقصر، وكانت غالبا ما تطول؛ بالإضافة إلى أنه – وهو القارئ الذكي، المُتَابِعُ الاجتماعي النشط والسياسي اليساري العنيد، كان قادراً على الإلمام العام بمراحل نمو حساسيتي الثقافية، الإبداعية والسياسية العامة، غير السائدة فيمن هم في مثل عمري. وذلك ما جعله يأمل – كما أصدقاء ومعارف آخرين – في أن أصبح عضواً في الحزب الشيوعي السوداني، الذي كان هو عضواً فيه.
وفي مرحلة ما من مراحل "صعودي المدرسي"، التي كان يوازيها نُمُوٌّ حَثيثٌ لحساسيتي الثقافية، الإبداعية، الاجتماعية والسياسية، المُكتَسَبَة من خارج المدرسة بشكلٍ رئيس، انتقل سَأَمِي من مواد الرياضيات، الفيزياء والكيمياء إلى بقية المواد المدرسية. فكان هذا حافزاً إضافياً لي للتَهَرُّبِ، ليس من حِصَصٍ بعينها فقط، وإنَّمَا من الذَهَابِ إلى المدرسة بَرُمَّتِها. فصار ذهابي إلى الكُشْك، سواء للونسة مع خلف الله أو لمساعدته بحراسة الكُشْك والإشراف على البيع في غيابه، بما يشمل طبعاً حافز "الاطِّلاع المجَّاني" على بعض المعروضات، من العادات المُحَبَّبَة لديَّ.
لم يترَتَّب على قراءة خلف الله لنص "عفواً، كنتُ أُمارِسُ فيكِ العِشقَ" إعجاباً به فحسب، وإنَّمَا أيضاً حماساً لعرضه على مَنْ يرتاد الكُشْك من ذوي الاهتمامات والخبرات النقدية والأدبية. فكان بَشَّار الكُتُبِي أوَّل من قرأ هذا النص، بحضوري المُتوَتِّر. أثنى بَشَّار على النص مُعَلِّقاً بأنه يُمَثِّلُ كتابةً جميلة وجديدة؛ ثُمَّ اقترح على خلف الله عَرْضه على كُلٍّ من سامي سالم و أحمد الطَيِّب عبد المُكَرَّم للإفادة من رأيهما، كما من احتمال تَمكُّنِهمَا من المساعدة في نشره.
وفي يومٍ تالٍ، أو رُبَّمَا في عصر نفس ذلك اليوم، طالع أحمد الطَيِّب النص، بحضوري المُتَطَلِّع بغير قليل من التَوتُّر. سيلعب التقييم النقدي لأحمد الطَيِّب الدور الحاسم، الأوَّل، في أن تغدو هويتي الأدبية: كاتِبَ قِصَّةٍ قصيرة؛ إذ كان رأيه أنَّ هذا النص يمكن إدراجه تحت تصنيف "الحساسية الجديدة في القِصَّة القصيرة" – وسيتفق معه لاحقاً كُلٍّ من عبد الوهاب حسن الخليفة، عبد الله محمد إبراهيم، سامي سالم وبَشَّار الكُتُبِي – وذلك لما يشتمل عليه – كما أوضح – من مفارقة للشكل والأسلوب التقليديين للقِصَّة القصيرة، حيث يتم تطبيق تقنيات مختلفة على الشكل وحيث الطاقة الشعريةً للُّغَة تتفَجَّرُ إلى مدىً بعيد.
قَبْلَ أحمد الطَيِّب، ومَنْ أيَّدَه مِنْ تلك القامات الأدبية والنقدية، لم أكن أعلم أن ذلك النص يمكن أن يُصَنَّفَ كقِصَّة قصيرة، كما لم أسمع بتيار "الحساسية الجديدة في القِصَّة القصيرة". ومنذ ذلك الحين، أصبحت قراءة القصة القصيرة لديَّ تسير على قدم المساواة مع – إن لم تتَفوَّق أحياناً على – قرائتي للرواية والشعر؛ حيث سأفيد، فائدةً جَمَّة، من خبرات الاطِّلَاع، الكتابة والنقد، في هذا الحقل وفي غيره من حقولٍ، لتلك القامات الأدبية والنقدية، ولقاماتٍ أخرى تَشرَّفتُ بمعرفتها ومصادقتها، في نفس تلك الفترة تقريباً، وهذه تشمل محمد خلف الله سليمان، أحمد المصطفى شريف ومحمد عثمان عبد النبي، وقبلهم وأثناءهم، أحمد المصطفى الحاج، الذي لعب دوراً مماثلاً لخلف الله سعد في سريان اسمي والحديث عن تلك القصة إلى دائرة أوسع، لا تبدأ من محمد نجيب محمد علي ولا تنتهي عند سعد الدين إبراهيم، وذلك بحكم حركته اليومية الدائبة بين أكثر من حارةٍ، حَيٍّ ومَوقِع.


(يتبع)
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الخميس يناير 08, 2015 7:42 am، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

مَوْضَعَتْنِي بعضُ الصداقات التي تَسَبَّبَتْ فيها قِصَّة "عفواً، كنتُ أُمارِسُ فيكِ العِشقَ" – قبل أن يتحقَّقَ لها النشر بنحوٍ من عامين – في مرحلة جديدة من الأسئلة أو الاهتمامات ذات العلاقة العضوية بالهَوِيَّة الشخصية والمشتركة، بالممارسة الاجتماعية-الثقافية الشخصية وبالتغيير السياسي العام؛ وهي المرحلة التي شَهِدَتْ تأثيراً متداخلاً ومتفاوتاً من كُلٍّ من بَشَّار الكُتُبِي، محمد سعيد بَازَرْعَة وأحمد الطَيِّب عبد المُكَرَّم. إنها المرحلة الراديكالية، إلى سأقطع فيها مع التعليم المدرسي المُنتَظِم، ومع الخريطة الاجتماعية الأبجدية.
فإذا كنتُ في السابق أتَجنَّبُ أحياناً الذهاب إلى المدرسة كي أقضي وقتاً طويلاً في كُشْك خلف الله سعد، فقد صرتُ الآن أُكْثِرُ من تفادي المضي إليها من أجل قضاءِ زمنٍ أطول في صالون بَشَّار. و لو كان الجلوس لحِصَصِ الرياضيات، الفيزياء والكيمياء يجلب لي حموضة سابقاً، فقد بات حضوري لأيَّةِ حِصَّةٍ اليوم يَتسبَّبُ لي في حَرَقَان. أصبح شعوري بالغربة عن أيَّةِ مادَّةٍ، عن أيِّ مُدَرِّسٍ، عن أيِّ تلميذٍ-زميلٍ، يتعاظم يوماً بعد آخر. وشيئاً فشيئا غدوتُ أُحِسُّ بأن بعض الطلبة يتغامزون بشأني، إذ يلمسون انكماشي من التفاعل المؤسسي-الاجتماعي معهم، كأنَّمَا لسان غمزهم يقول: "مَنْ يظنُّ نفسه؟!" وليس ذلك بنتيجةِ تحاشيَّ الانغماس العام معهم في عوالم المرحلة فحسب، وإنَّما، أيضاً، لأنني درجتُ – عندما أجيئ إلى المدرسة – على جلب جريدة يومية، "الأيام" أو "الصحافة"، معي. فكنتُ، قُبَيل الدخول إلى مبنى المدرسة صباحاً، أقرأ الصفحة الأخيرة – تلك التي تضُمُّ الصفحة قبل الأخيرة كذلك، أي التي تحتوي عادةً على شؤون الرياضة، التي هجرتُ الاطِّلاع عليها مع تَوقُّفي عن ممارسة لعبة كرة القدم، رغم أنني كنت مُبَرِّزاً فيها، منذ أعوام قليلة. ولما كانت هذه الصفحة هي مثار الاهتمام الأبرز لأغلب بقية زملائي الطلبة، مما يحمل بعضهم على التَسابُق نحوي، وبالتالي انكبابهم وفرضهم عليَّ إفرادها بيننا من أجل القراءة المشتركة، كنت أقوم بفصلها عن بقية الجريدة، ومن ثَمَّ أمنحها لأوَّل زميل يَبلُغَني؛ ولم أكن أفعل ذلك دون ندمٍ وخجلٍ داخليين.
ظللتُ على هذه الحال من الغربة عن المدرسة، من إهمال دروسها، ومن التَهرُّبِ المتزايد من الذهاب إليها، لصالح المضي إلى صالون بَشَّار، إلى أن جاءت المرحلة الحاسمة، مرحلة الجلوس لامتحانات الشهادة السودانية، التي لم أكن، بالطبع، مستعداً لها من جميع الجوانب. ولأنني لم أُرِدْ أن أُبَدِّد وقتي في عمل شيء أنا على يقين من أنَّ لا طائلَ من ورائه، أي كتابة اسمي ورقم جلوسي وانتظار مرور نصف الزمن على كل امتحان لكي أُحَرِّر نفسي منه، لم أجلس لأيِّ امتحان.
وازى ذلك "التَحوُّل الثقافي" تَغيُّرٌ تدريجيٌّ في خريطة ارتباطاتي الاجتماعية، التي كان يطغى عليها صداقاتي ومنادماتي مع الأقرباء والجيران. فصار صالون بَشَّار، بالنسبة لي، هو المدرسة والمَلْهَى: نقاشاتٌ ثريَّة تبدأ خلال النهار، أو منذ الصباح عندما يكون اليوم عطلة، وتستمر إلى المساء الذي يكافئها بالعَرَق، وغالباً بانضمام مناقشين أو ندماء جُدُد. كنتُ أنا الرائد الأصغر سِنَّاً، الأكثر صمتاً وإصغاء، بين رُوَّاد ذلك الصالون، الذي كان يقيم فيه محمد سعيد بَازَرْعَة لبضعة أشهرٍ كلما حضر إلى العاصمة من بورتسودان، والذي كان يرتاده، على نحوٍ شِبْهِ مُنتَظِمٍ، كُلٌّ من أحمد الطَيِّب عبد المُكَرَّم، عبد الوهاب حسن الخليفة، عبد الله محمد إبراهيم، معاوية معروف وشخصي. غير أن ذلك الصالون لم يكن يخلو، سواء خلال النهار أو المساء، من رُوَّاد غير مُنتَظِمين، من ذوي الاهتمامات الثقافية أو الإبداعية أو السياسية، أو حتى ناشدي "المنادمة الصرفة". فكنت تلتقي فيه أحياناً بسامي سالم، أحمد المصطفى الحاج، محمد مصطفى الأمين، التجاني سعيد، عمر الطَيِّب الدوش، ود أبُّو، الطاهر عبد الرحيم، خلف الله سعد، محمد عثمان عبد النبي، سيد أحمد بلال، خالد عبد الله حسن (نيجي)، عبد الله محمد الطَيِّب (أبْسَفَّة)، صلاح محمد إبراهيم، حاتم محمد صالح، يحيى فضل الله العوض، السر السيد، عثمان الحويج، هشام الشاذلي، حسان الشاذلي، عبد الحليم كابو، عبد المنعم الرَيَّح، محمد عبد الله (تَمَّنُّو)، كمال إبراهيم، محمد خلف الله سليمان، الفاضل كَبَّاشي، أبو الحسن بَلَّه، عبد المنعم الشيخ، جعفر نصر، محمد مدني، عادل عبد الرحمن، محمد أحمد عمر الحَبُّوب، إبراهيم سعيد، الطَيِّب إبراهيم العبَّادي؛ ولاحقاً، عبريَ على الأرجح، بكري حسين حسن عمران، محمد خلف الله عبد الله، إبراهيم جعفر، عثمان حامد، أحمد الأمين أحمد، محمد النعمان، درير محمد عبد الرحيم، عصام علي (السمين). إنَّمَا هذه أسماء للتمثيل فقط.
كانت الكثير من الأفكار والحوارات التي تدور في ذلك الصالون تثير اهتماماً متنامياً عندي. لكن كانت قضيتا ما يُسمى بـِ "الأقليَّات العرقية" (وذلك-هذا مُصطَلَحٌ خبيثٌ، مُكَابِرٌ، مُتَعجْرِفٌ، مُضَلِّلٌ) و"التغيير السياسي الرَادِيكَالي"، عبر الكفاح المسلح، من أجل بناء مجتمع اشتراكي، على رأس القضايا التي تجد مني اهتماماً أكثر. كانت القضية الثانية تتَعزَّزُ باضطراد بتأثير من حواراتي الشخصية مع كل من بَشَّار الكُتُبِي ومحمد سعيد بَازَرْعَة وأسئلتي واستفسارتي لهما عن ملابسات تأسيس ومآلات منظمة "طلائع الكادحين الثوار"، التي أُشْتُهِرَت بنعت "الجيفاريين"، الذي يُقَالُ إنَّ مصدره هو تصنيفٌ نقديٌّ لعبد الخالق محجوب، والتي شاركا في تأسيسها في نهاية ستينيات القرن المنصرم إلى جانب كُلٍّ من عمر شين، فضل عبد الحميد، الطاهر عبد الرحيم، ولاحقاً محمد عثمان عبد النبي وفتح الرحمن بارْدُوس (وقيل سيد أحمد بلال كذلك). كما اضطلعا في ممارسة عملها العنيف المتناثر المحدود، الرمزي تقريباً، الأوَّل والأخير، الذي تفَجَّر في أعقاب انقلاب 25 مايو 1969 بفترةٍ وجيزة. ساهم في ذلك التعزيز أيضاً بعضُ قراءاتٍ ماركسية كلاسيكية وأخرى ماركسية جديدة و/أو نقدية للرؤى والتطبيقات الاشتراكية – تلك المستندة إلى تأويلاتٍ رائجة لأفكارٍ وشعاراتٍ ماركسية كلاسيكية – التي كانت سائدة في ذلك الحين. على أن ذلك التعزيز تُوِّجَ، وأُلهِمَ أكثر، ببزوغ الأفكار الآيديولوجية-السياسية والعمليات العسكرية للحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، ومِن ثَمَّ اقترنتْ – بوضوح أكثر – بالقضية الأولى، هذه التي دَرَجَ الأدب السياسي، و"غير السياسي"، السائد لدينا، على وَسْمِها بمشكلة أو مسألة أو قضية "الأقليَّات العرقية" في السودان.
لم يأتِ ترتيب "قضية الأقليَّات العرقية"، في هذا السياق، باعتبارها المسألة الأولى التي أثارت اهتماماً مركزياً متنامياً لديَّ، جُزَافاً. يعود الفضل، الأوَّل، في غَرْسِ هذه القضية في قلبي، قبل عقلي لحُسْنِ حظِّي، لأُمِّي، أي أُمِّنَا، الحاجة صفيَّة بنت محمود، الأنصارية. حدث ذلك عندما شاهدتها، وأنا بعد تلميذٌ في أُهْبَةِ المرحلة الثانوية العامة، تُوَجِّهُ أسئلةً مُدَجَّجَةً بالغضب، بالاحتجاج وبالإدانة، إلى قُوَّةٍ من الشرطة كانت تقوم باعتقال مريم، جارتنا، الحيطة بالحيطة، صانعة وبائعة العَرَقِ، أُمِّ عوضية، رمضان، سعيد، حَمَّدُو وآخرين، التي كنتُ أنا – وما أزال – ابناً لها كذلك، والتي سنصير، نحن مقيمي "غرفة السابعة" وزُوَّارنا من الأصدقاء، رُوّاداً لبيتها وزبائن لمنتجها من العَرَقِ. رأيتُ مريم، ذلك اليوم، مُكَوَّمَةً في منتصف شاحنة الكُومَر. كانت، في تكَوُّمِها ذاك، مُحَاطَةً بعددٍ من أوانيها التي تستخدمها في صناعة العَرَقِ وفي بيعه: قِدُورٌ، حِلَلٌ وقنانٍ. ولم يكن بوسع أُمِّي، أي أُمِّنَا، الحاجة صفيَّة بنت محمود، الأنصارية، سوى أن تُشْهِرَ قلبها وعقلها، عبر لسانها، في تلك القُوَّةِ من الشرطة:
"مالكُمْ قاطعين رزقها ومُجَوِّعين أولادها؟! إنتو جِبتوا ليها شُغُل تاني وهي أبَتو؟! حَسَّع بتستفيدو شنو من البتعملوا فيهو ده؟!"
لم يأبه أيُّ فرد من أفراد تلك القُوَّةِ بهذه المرافعة؛ ثُمَّ مضت شاحنة الكُومَر وفي صندوقها الحديدي الخلفي تترجرج مريم وأوانيها، وقد خلَّفَ ذلك المشهد حزناً في بعض مَنْ كان يشاهد، لاسِيَّمَا فينا، نحن أطفالها، لا مبالاةً من بعض الجيران والمارَّة، شماتةً من بعضٍ آخر منهم، غضباً ولعناتٍ من الحاجة صفيَّة بنت محمود، الأنصارية:
"الله لا بَارَكْ فِيكُمْ ولا كَسَّبْكُمْ! الله يَقطَعْ عِيْشْكُمْ زي ما قطعتوا عيشها! شَاحْدَةْ الله، صاحب القُدْرَةْ المَابَعَدَا قُدْرَةْ، يَوَرِّيني فِيكْ يوم ياالنميري!"
كان ذلك المشهد يتَكرَّر بين فترة وأخرى. وكانت مرافعة الحاجة صفيَّة بنت محمود، الأنصارية، تتَكرَّر معه أو فيه، إنْ كانت حاضرةً، وهي التي لم تكن – وما تزال لا – تريدنا – نحن أولادها – أن نشرب الخمر لأنها تُضِرُّ بصَحَّتِنا، تُبَدِّدُ مالنا، ولأن الله يُحَرِّمها. أمَّا إنْ لم تكن حاضرةً، فإن عباراتها الغاضبة ولعناتها سرعان ما تبدأ بملاحقة آثار الشرطة، التي ترى أنها لم تعد تجد شغلاً لها سوى تصَيُّد الفقراء من أمثال مريم، لتُخْتَتم بالدعاء على الذي كان السبب، جعفر نميري، وبالشروع في خصم بعض أكل البيت، المحدود غالباً – إلى الدرجة التي يمكن أن تُسَوِّغَ تحريمه على الجيران أحياناً – لتناوله لعوضية، الابنة البكر لمريم، عبر الحيطة التي تفصل بين بيتينا. وحين يتم إطلاق سراح مريم، فإنها تناولها التهنئة أو الحَمْدَلَة بالسلامة، إلى جانب شيءٍ يُؤكَلُ أو يُحَلَّي به، عبر نفس الحيطة، التي كانت مريم تبادلها عبرها بعض أكل بيتها أو تَحْلِيَاتِه في أوقاتٍ أخرى، مُستَقِرَّة.
بعد مرور أكثر من عشر سنواتٍ على واقعة اعتقال مريم تلك، سأقوم باستلهامها وحلم العدالة الاجتماعية، الذي يتوَسَّلُ الكِفاح المُسلَّح، في قصتي القصيرة، "نَشيدُ التَماسُكِ وزَهرَاءُ التي تعرفُ كيف تضحكُ ويتَرقرقُ صوتُها في فمكَ"، التي صَدَّرتُها بإهداءٍ إلى كُلٍّ من بَشَّار الكُتُبِي، محمد سعيد بَازَرْعَة، عُشَاري أحمد محمود وعبد الله بولا. ولو مُنِحْتُ سانحة لأجري تعديلاً في، أو إضافة إلى، ذلك الإهداء، لوضعتُ أُمَّنَا، الحاجة صفيَّة بنت محمود، وخالتي مريم، صانعة العرق، في المقدمة، ثُمَّ أضفت أحمد الطَيِّب عبد المُكَرَّم، حسن موسى وعبد الله علي إبراهيم – الذي أعانتني أطروحته الرائدة والنافذة، "الماركسية وقضايا اللغة في السودان"، أيَّمَا اعانة، ولكن مواقفَ وممارساتٍ صحفية تالية له من خلال مقالاتٍ كان يُكَرِّسُها للمتابعة السياسية، عبر زاوية كان يكتبها لجريدة "الخرطوم" على أيام شِبْهِ ديموقراطيتنا الثالثة، وَلَّدَتْ غُصَّةً في قلبي. كان ذلك الإهداء – وما يزال – امتنانٌ وعرفانٌ لرموزٍ أضافت لي مواقفها وممارساتها الاجتماعية، السياسية، وأطروحاتها الثقافية-الفكرية الكثير، النوعي، الذي سيعينني لاحقاً على ارتياد آفاق ثقافية وسياسية أرحب، حيث سَيتَطوَّرُ سؤال "الأقليات العرقية" إلى اهتمام أشمل بـِ "مسألة الهَوِيَّة" لدينا على أكثر من مستوًى، بما يشمل العام والخاص، وعبر سياقات زمانية ومكانية مختلفة، بما في ذلك تجربة شتاتنا السوداني العريض الراهن.


(يتبع)
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين أكتوبر 12, 2015 10:14 am، تم التعديل 8 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

في تلك الفترة – وهي عينُ الفترة التي انهمكتُ فيها في صداقتك، عزيزي خلف، وصداقةِ عزيزنا عبد اللطيف علي الفكي – كان إعجابي بأطروحات عبد الله بولا وعشاري أحمد محمود قد بلغ ذروته. كما كانت رغبتي – المُفْعَمَة بعناقٍ غَضٍّ لمفهوم "المثقف العضوي" – في الانخراط في عملٍ سياسي قد وصلت أوجها. ففيما كان بولا يبدو لي المفكر التقدمي الأمثل، كان عشاري (الذي كنت أحسبه عضواً في الحركة الشعبية) يقف، بأطروحته الجديدة والسديدة عن "السياسة اللغوية في السودان"، في عيني نموذجاً لذلك المفهوم الغرامشيِّ، الذي برهن عليه – أكثر، في نظري، لاحقاً – "تقريرُ مذبحة الضعين" وتعرُّضُه للاعتقال المتكرِّر، في الوقت الذي كان فيه بَشَّار الكُتُبِي ومحمد سعيد بَازَرْعَة تجسيداً لروعة الفعل والشعر له. فكان أن اقترحتُ على بَازَرْعَة – الذي كان يضع اللمسات الأخيرة لمغادرة السودان والالتحاق بالحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان – أن يجعلني أصحبه. بيد أنه كان يرى أن الحركة الشعبية في أمَسِّ الحاجة إلى شماليين يعملون على الجباه السياسية، الثقافية، الإعلامية، النقابية والطلابية في الخرطوم، وأن بوسعي تقديم الكثير في هذا الصدد بمكوثي في العاصمة، على نحو ما يفعل عشاري، حسبما مَثَّلَ.
غير أن العمل السياسي الجماعي المساند للحركة الشعبية في و/أو من الشمال كان بالغ الضمور، البطء والبعثرة، تقوم به بؤرٌ جَدُّ قليلة ونحيلة، تفتقر إلى التنسيق فيما بينها، كما فيما بينها وبين الحركة الشعبية، التي كانت تُرَكِّزُ – بسببٍ من قصورٍ فكري، ثقافي وسياسي بنيوي داخلي وبتأثيرٍ من الحصار الحكومي المركزي – على العمل الاستخباري أكثر من الفعل السياسي اليومي. فأخذتُ أُحِسُّ بعطالةٍ سياسية فيما كان اشرئبابي لممارستها تنظيمياً يزداد احتقاناً. ورغم قناعتي بما ظللتُ أراه كجمودٍ فكريٍّ وضعفٍ سياسي للحزب الشيوعي السوداني، وغضبي من موقفه العام، ليس غير المُتَحمِّسِ للنضال المسلح فحسب، بل الذي كان يسعى، في المقابل، للوقوف موقف اليمين من الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان في ذلك الوقت من خريف شبه ديموقراطيتنا الثالثة، إلَّا أنني ما فتئتُ أُكِنُّ، أنا المُكْتَنِزُ بالأحلام المدنية الوسيمة، إعجاباً بـِ، وعرفاناً لـِ، تراثه المدني، السياسي والثقافي. فقلتُ أنضَمُّ إليه، إذ رُبَّمَا أساهم – إلى جانب آخرين من أعضائه وأخريات من عضواته مِمَّنْ يتوقون- يَتُقْنَ لتجديد إستراتيجيته الفكرية والسياسية – ولي فيهم-فيهنَّ أصدقاء صميمون وصديقاتٌ صميمات – أثق في سلامة الوجدان وفي خصوبة العطاء اللذين يَتمَتَّعون- يَتمَتَّعنَ بهما. وكنتُ أظنك – إلى قبل نحو عام من وقت انقلاب 30 يونيو – عضواً فيه (إلى أن أخبرتني أنت بالأسباب التي دعتك – من جانبك – للتَوَقُّفِ عن العمل السياسي المباشر منذ منتصف سبعينيات الألفية الدَّابِرَة)؛ فعلاوةً، طبعاً، على حساسيتك ورؤيتك المتقدمتين، كان تَسنُّمُكَ لرئاسة "نقابة إدراييِّ الخطوط الجوية السودانية" يسند اعتقادي ذاك. لذلك حاولتُ – أكثر من مرة – أن أستشيرك في مثل ذاك القرار إذ كنتُ أقول لك – لو تَتذكَّر – وكانت إقامتنا وقتها تَتوَزَّعُ بين منزلَيْ الثورة-الحارة السابعة وأركويت – ما معناه "إنني أريد مناقشتك أو الاستئناس برأيك في أمر هام يخصني". وكنتُ أُحِسُّ بأنك كنتَ تُخَمِّنُ ما أريد استشارتك بشأنه، ومع ذلك فقد كنتُ أشعر بأنك – وأنت سَخِيُّ العاطفة، الفكر والفعل – لا ترغب في تَحمُّلِ مسؤولية الموافقة أو الاعتراض، في ذلك الحين على الأقل، و/أو، أنك كنتَ تريد لي مزيداً من "النضج الفكري والسياسي" بما يؤهلني لتَحمُّلِ تبعات مثل ذلك القرار الجليل. فلجأتُ إلى عبد الله بولا أطلب رأيه. فنصحني، بعاطفته الوريفة وأفكاره الظليلة، بالانتظار لمدة عامين. وقد فهمتُ من هذا أنه يشترك معك – رغم قناعتي بأنكما لم تتحدثا عن هذا الأمر – فيما حَدَّسْتُ أنه موقفك.
ثم لم يلبث أن أجهز انقلاب 30 يونيو على ما تَبقَّي من الأمل في العمل السياسي العلني العام. فكان ذلك سبباً – آخر، بالنسبة إليَّ – أدَّى إلى مضاعفة جيشان وجداني برغبة الانخراط السياسي المؤسسي. فكتبتُ طلب انضمام إلى الحزب الشيوعي، بواسطة "مكتب الكُتَّاب والفَنَّانين"، عبر بشرى الفاضل، في مُسْتَهَلِّ الشهور الأولى للانقلاب. (تُرَى، هل يوحي اختيار مخاطبة أو توسيط "مكتب الكُتَّاب والفَنَّانين" بدرجةٍ ما من الحرص على هَوِيَّتي الثقافية-الإبداعية؟) كان ذلك طلباً غير سائدٍ في أفكاره وفي أسلوبه، أتَذكَّرُ أنني صدَّرته بعبارتين: الأولى لكارل ماركس، "كُلُّ ما هو إنسانيٌّ ليس غريباً عني"، والثانية لمكسيم غوركي، "لن أكُفَّ عن أن أكون إنسانياً أبداً"؛ ثم بدأتُ بالتثمين العالي للدور التاريخي، الطليعي ، الكبير، الذي اضطلعَ، وما يزال يضطلعُ، به الحزب في مسيرة الاستنارة، التَمَدُّن، التحديث والتقدم نحو مجتمع العدل والمساواة في السودان؛ ومن ثَمَّ أعربتُ عن قراري في أن أساهم في مسيرة التغيير التي يقودها. على أنني أبرزتُ وأكَّدتُ – في نفس السياق – اختلافي في بعض جوانب الإستراتيجية السياسية السائدة للحزب، ثُمَّ عَبَّرتُ عن رغبتي في مناقشة رؤيتي المختلفة عبر القنوات المتاحة داخله. بيد أنني سرعان ما ذهبتُ إلى أبعد من هذا، حين تَقَدَّمتُ برجاء ألَّا أُخْضَعَ لنمط التأهيل الماركسي المدرسي الشائع في الحزب (مدرسة الكادر) حيث بَرَّرتُ ذلك بأنني على درايةٍ بأُسُسِ الماركسية الكلاسيكية.
طبعاً لم يكن "مكتب الكُتَّاب والفَنَّانين" ينتظر الاعتداد الأخير بالنَّفْس لكي يصدر قراراً سريعاً، غير مباشر، برفض ذلك الطلب، إذ طُلِبَ من بشرى الفاضل أن يبلغني بصعوبة عقد اجتماع للمكتب لاتخاذ قرار في هذا الوقت بالتحديد (الشهور الأولى للانقلاب) بشأن طلبي، ثُمَّ أوصاني – المكتب، عبر بشرى – "أن أعمل بالتوازي مع الخط العام للحزب إلى حين يَتِمُّ البَتُّ في الطلب". سيؤكد لي الخاتم عدلان، بعد عدة أعوام في أسمرا، ما كنتُ أُحَدِّسُه: رَفْضُ الحزب (بذريعة أنني سأجلب له مشاكل) منحي عضويته، ولكن الاستعاضة عن ذلك الرفض بالإرجاءِ الذي تتناسل منه إرجاءات. نفس القرار والتبرير سيؤكدهما لي أيضاً بشرى الفاضل في القاهرة في بداية هذه الألفية، أي عقب حديثي مع الخاتم بخمسة أو ستة أعوام. قلتُ لم يكن الحزب ينتظر ذاك الاعتداد لأنني كنتُ أتَمَيِّزُ – بحسب شائعةٍ في ذلك الحين – بسمعة مزعجة كـ: "مُخَرِّبٍ" (ناقد للخط السياسي السائد للحزب)، كـ: " عُضوٍ مُفْتَرَضٍ في تنظيم يساري مُوَازٍ أو مُنَافِسٍ للحزب" ("الجيفاريين" و/أو اتحاد القوى الوطنية: الخشية من الاختراق ونَهْشِ الحزب من الداخل) وكـ: "عائقٍ" (أمام تجنيد عدد من الطالبات الديموقراطيات والطلبة الديموقراطيين في جامعة الخرطوم في ذلك الوقت: هالة، ندى، أماني سين، أماني عين، انتصار، درير، أحمد، نعمان، الصادق – لاحظ أن نجلاء، التي كانت تربطني بها علاقة حب، كانت قد استقالت من الجبهة الديموقراطية، ثُمَّ تلاها عصام الذي كان لصيقاً بي).
والآن، حين أعود بعيني الداخلية إلى الوراء، لاسِيَّمَا بعد تراكم معارف وخبرات سياسية، ثقافية، اجتماعية، وجودية، إبداعية ومهنية متعددة، باستطاعتي أن أستخلص تأثير قطبين على مسار حياتي الفكرية-الثقافية-السياسية: القُطْبُ الأوَّل يحتفي بالثقافي والإبداعي فيما يُفَضِّلُ الفعل السياسي-المؤسسي، وهذا يُمَثِّلُه بَشَّار الكُتُبِي ومحمد سعيد بَازَرْعَة (ويدعمه أحمد الطَيِّب عبد المُكَرَّم). أما القُطْبُ الثاني فيشترط التأسيس الفكري والثقافي، الذي هو تأسيسُ موقفٍ سياسي بالضرورة، بغض البصر عن الانخراط السياسي-المؤسسي أو عدمه، ويقف على رأس هذا عبد الله بولا، محمد خلف الله عبد الله وعبد اللطيف علي الفكي (ويدعمه أحمد الطَيِّب عبد المُكَرَّم. – ولا يعني هذا أن أحمد كان يقف على "الحياد". بل كان يرى جدوى ممارسة، تبادل وتداخل الحقلين، الثقافي والسياسي، في نفس الوقت). القُطْبُ الأول يصبو إلى الممارسة اليومية والنتيجة الإيجابية، بينما القُطْبُ الثاني يتبصَّر في العملية المُستَمِرَّة أو الحِرَاك (أو البُرُسِّسْ) للتطوُّر الفكري-الثقافي الذاتي والاحتمالات.
ورغم أن عدم تَرَيُّثي دفعني، عقب اقتناعي بالعائد السلبي لطلب التحاقي بالحزب الشيوعي – بالذات بعد إطلاق سراحي وخروجي من السودان – إلى الانخراط السياسي السريع مع "القيادة الشرعية للقوات السودانية المسلحة" (بواسطة بَشَّار الكُتُبِي وعادل عبد الرحمن، وتشجيعٍ – وتنبيهٍ لمزالق ذلك الانخراط – من أسامة عبد الرحمن النور)، ثُمَّ الانتظام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، في إرتريا، مما يمكن أن يعطي انطباعاً بـِ، أو رُبَّمَا يؤكد على، ميلي لمُقْتَرَحِ القُطْب الأوَّل. بيد أن تلك التجربة السياسية، أثبتت، في تقديري، أن هَوِيَّتي الثقافية-الإبداعية هي الأرسخ في وجداني أوَّلاً وفي عقلي ثانياً (أرجو ألَّا يوحي هذا الترتيب بتفريقٍ ميكانيكي). فهذه الهَوِيَّة أظهرتْ أن الذي ظَلَّ يقود بصيرتي السياسية ويحرس ممارستها إنَّمَا يكمن في حساسيتي الثقافية والإبداعية، الغريزية في المقام الأوَّل، ثُمَّ في معرفتي المحدودة، المُكْتَسَبَة من قراءاتٍ وخبراتٍ متواضعة، ومن أشواقٍ سامقة، ولكن المُسْتَلْهِمَة لمفاهيم يعود قسمٌ مَرْمُوقٌ منها – على سبيل النَمْذَجَة – إلى قراءات، إصغاءات لـِ، وحواراتٍ مع، عبد الله بولا، محمد خلف الله عبد الله وعبد اللطيف علي الفكي، في المقام الثاني (أرجو، مرَّةً أخرى، ألَّا يوحي هذا الترتيب بتفريقٍ ميكانيكي). فثلاثتكم يشترك في هَمِّ اكتسابِ – قبل توفير – المعرفة؛ منهجيةِ السَّبْر العميق؛ تَبَنِّي التَعدُّد، الشَّكِّ والاحتمال؛ خَصيصَةِ التَأنِّي، وسِمَةِ الانتباه لفراغات العادة واليقين. فَحَمَلَ وجداني وذهني، إلى منفاي الخارجي، تحذيرات عبد الله بولا من خطورةِ الخِفَّةِ الثقافية؛ تنبيهات محمد خلف الله للعوائق المفهومية لبُنْيَةِ العقل المَخْتُون؛ ودفاعات عبد اللطيف علي الفكي عن أولوية التنظير والكتابة، كأفعالٍ موازيةٍ. أعانني كُلُّ ذلك، وسواه حتماً، على ألَّا أُقَدِّمَ أيَّ تَنَازُلٍ – رغم الضغوط، الإغراءات والمكابدات – التي أنت على إلمام ببعض معالمها البارزة – لصالح السياسي النمطي السائد عندنا، يساراً كان موقعه أم يميناً. فلم أكن الأبْعَدُ عن وظيفة حرق البخور ومهنة التصفيق للقادة فحسب، وإنَّمَا كنتُ، أيضاً، المُبَادِرَ المُخْتَلِفَ، والمُمَارِسَ المُنَاهِضَ لـِ "تقليد التمرير أو التفويت"، (وهو التقليد الصادر عن بلادةٍ حيناً، عن خمولٍ حينا،ً عن مُدَاهَنةٍ حيناً، عن استسلامٍ حيناً، عن مراعاةٍ أو تَطُّلعٍ لمصالح شخصية حيناً، عن عدم تقدير للكوارث التي يمكن أن تَتَرتَّب على السكوت – كفعلٍ من أفعال التواطؤ – حيناً، ليظلَّ – ذلك-هذا التقليد – ماثلاً دائماً، مهيمناً، تحت لافتاتٍ وتبريراتٍ عِدَّة، على وجهٍ رئيسٍ، وفاعلٍ، من أوجه عملنا المؤسسي، السياسي و"الغير سياسي")؛ كما كنتُ الناقدَ، المَوْسُومَ بمواجهة الذات قبل مواجهة الرفيق، لقادةٍ ذوي وجوهٍ مَطْلِيَّةٍ بشعاراتٍ كالديموقراطية والتقدمية، قَلَّ أن يجرؤ أحدٌ على توجيه نَقدٍ لهم، حيث كنتُ، وما أزال، أرى أن فداحة أثرهم على حاضر ومستقبل الحياة السياسية (وغير السياسية طبعاً) في السودان لا يقلُّ عن فداحة آثار قادة الأنظمة التي يسعون إلى تغييرها، أو، للدِقَّة، إلى الحلول محلها. وهذا بالضبط ما ضاعف – دون ندمٍ مني – من تَجَشُّمَاتي الوجدانية والمادية، أنا الذي عشتُ، في حقبة إرتريا سِيَّمَا، أفتقرُ إلى المصادر الثقافية والفكرية، وإلى حَدٍّ كبير، الإبداعية، المُوَاكِبَة، كما إلى الوَرَفَان والتَخَاصُب المُبَاشِرَين لبعضٍ مِنَّا لسنواتٍ طويلة، مما سَبَّبَ لي رضوضاً عميقة في الروح، ما تزال بعض آثارها ناتئة، إلى الدرجة التي جَعَلَتْها تَقْعِدُ بالكثير، النوعي، من طاقاتي، خلال مرحلة ما بعد إرتريا أيضاً، أي طوال مدة مكوثي الأخير في مصر، وطرفاً من فترة انتقالي إلى أستراليا.
خلاصةُ القولِ، إنَّ تَشبُّثِي بهَويَّة المثقف، الكَاتِب، الفنَّان، حَصَّنَني من أدران السياسة اليومية، العارضة، مَيَّزَني بالعين الثالثة، لكنه – في نفس الوقت – جعلني – بالنتيجة – عُرْضَةً للانتهاش الخارجي والداخلي.
ومرَّةً أخرى، لستُ نادماً – قَطُّ – على ذلك-هذا التَشبُّثِ.
وكيف لي أن أعرِفَني دون ذلك-هذا التَشبُّثِ؟


(يتبع)
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين يناير 26, 2015 4:28 am، تم التعديل 4 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »


في وقتٍ ما من عودة عبد الله بولا، نجاة محمد علي وبناتهما إلى السودان خلال النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، وذلك بنيِّة الاستقرار النهائي في السودان، كانت نجاة قد وجدت عملاً كمُدَرِّسَة لغة فرنسية في الوحدة العلمية الفرنسية (السُوْدُسْتْ) بكلية آداب جامعة الخرطوم – وكنتُ أحد تلاميذها كما أخالك تتذكَّر – بينما كان بولا ما يزال يبحث عن عمل. فاقترحتُ عليه أن يسعى للعمل أستاذاً (لعلم الجمال أو الفلسفة مثلاً) في معهد الموسيقى والمسرح أو أستاذاً في كلية الفنون الجميلة. فَرَدَّ بقوله: "هاتان المؤسستان – بوضعهما الراهن – لن تُعَلِّمَاني. أنا أبحث عن عمل في مؤسسة تُعَلِّمَني". وعقب فَصْلِكَ من عملك في الخطوط الجوية السودانية مباشرة – ضمن الموجة الهِسْتيريَّة، لكن الإستراتيجية، التي هدف بها النظام الانقلابي إلى تصفية الخدمة المدنية والعسكرية من غير الموالين-المواليات له – رأيتك متماسكاً، كأن شيئاً لم يكن، ليس قادراً على التعامل مع سَدِّ منفذ عيشك الرئيس، بكلِّ ما يتصل بهذا من تداعيات (وأنت الذي كنت على وشك إتمام بقية خطوات زواجك) بواقعية فحسب، وإنَّمَا، أيضاً، تحويل ذلك الحدث إلى مناسبةٍ لبدايةٍ جديدةٍ، سانحةٍ تواصل خلالها العمل – بإيقاعٍ غير مُشَوَّشٍ بالوظيفة ذات الالتزامات اليومية – على تحقيق مشاريع مؤجلة، فيما ترتبط أثناءها بمشاريع جديدة، ينتمي معظمها إلى حقلَيْ القراءة والكتابة، أي الرغبة في التَعلُّم والإنتاج الكتابي. فشاهدتك – أو بالأحرى رافقتك، كما أشرتَ في رسالتك – للارتباط بكورسٍ لِلُّغة الفرنسية، وآخرَ للألمانية، فيما شرعتَ في الماجستير، بشهيَّةٍ عارمةٍ للتحصيل الأكاديمي والاطِّلَاع العام. وكان طرفٌ من خريطة قراءاتك (كما كان معظم جوانب خريطة قراءات إبراهيم جعفر) يلفت نظري، لأنه بدا لي كانحرافٍ جِذْريٍّ عن المزاج اليساري العام، الماركسي في الغالب، للاطِّلَاع الذي كان مهيمناً في أو حتى تلك الفترة؛ فكنت تقرأ، من بين ما تقرأ، لإيمانويل كانط ويورغن هبرماس. وأتذكَّرُ أنني أبديتُ لك – بوازعٍ من فضولٍ أبيضَ – ملاحظة ذلك "الانحراف الجذري"، فرددتَ عليَّ بما معناه أن بالإمكان بلوغ الحقيقة عبر أكثر من طريق. وفي ذلك الحين، كان كُلٌّ من عبد الله بولا ومحمد أحمد محمود يَتَفكَّران – كُلٌّ على حدة على الأرجح – في طريقةٍ ترفد ذلك القاص اليافع، المكتظ بتَوَقَانَاتِ الفَنِّ، التغيير الاجتماعي والثقافي، بإستراتيجية أكاديمية لاكتساب المعرفة والثقافة. فكان بولا يحثُّني على الارتباط بتَعلُّم اللغة الفرنسية (وكان قد أسعده أنني سبق أن انخرطتُ – قبل السُوْدُسْتْ – في كورسين أوليين لها عبر كُلٍّ من معهد لوممبا للغات والمركز الثقافي الفرنسي)؛ ذلك أنه كان يرى أن من شأن مثل هذا الارتباط أن يُوفِّر لي مدخلاً مناسباً لذلك الاكتساب الذي قد ينجم عنه تأهيل أكاديمي مُتَقدِّم – وعد بأنه ونجاة لن يدَّخِرا وسعاً في دعمه – في الخرطوم أو في باريس (التي كانا لا يستبعدان أن يحيلني إليها – بمساعدتهما أو بغيرها – تقدمي في الارتباط باللغة الفرنسية). أما محمد أحمد محمود، فقد كان يسعى لإيجاد وسيلة غير تقليدية تُلحِقُ تلميذاً سابقاً ظلمه تَعَسُّفُ المنهجِ التعليمي في مرحلة معيَّنة، عاملاً في الجامعة ومبدعاً صاحب إنتاج مُمَيَّزٍ كما كان يرى – كطالبٍ منتظمٍ في نفس الآن – بكلية آداب جامعة الخرطوم؛ فكان يبحث عن "أساس تشريعي" في قوانين الجامعة تسمح بذلك. كما تحدث في هذا الخصوص إلى إداريين نافذين في مجلس الكلية وفي إدارة الجامعة؛ وفي نفس الوقت، كان يحاول – عبر صديق له تربطه صلة قوية بالثقافة الإسبانية كما بالبعثة الدبلوماسية الإسبانية في الخرطوم – أن يجد لي منحة للسفر والتحصيل الأكاديمي في إسبانيا. كذلك كان يفكر في مفاتحة الملحق الثقافي الفرنسي لدى السودان، الذي كانت تجمعه به علاقة جيدة، كما الملحق الثقافي الألماني لدي السودان، بخصوص تدبير منحة تعليمية في إحدي هاتين الدولتين. ولم يكن أيٌّ من تلك المشاريع بعيداً عن التَحقُّق لولا وقوع انقلاب 30 يونيو الذي أرغم محمداً، وهو أحدُ الأعداء الفكريين الناشطين البارزين لـِ، والمُترَصَّدُ بهم من قِبَلِ، الجسد الآيديولوجي السياسي للنظام الجديد، على أن يكون – ومعه كُلُّ الحق طبعاً – من أوائل المغادرين للسودان؛ وبذا أُطْفِئَتْ تلك المساعي الحَرَّى.
لعب ذلك المفهوم المُتَقدِّم للرغبة المستمرة في التَعلُّم، الذي أكَّدَتْ عليه رؤية بولا وممارستك، دوراً مهماً في أن تصبح هذه الرغبة من أولوياتي الحياتية. كما كان لتقدير وتثمين بولا ومحمد أحمد محمود لعطائي الإبداعي، لأشواقي الثقافية والاجتماعية، للثقة في قدرتي على، و/أو لجدارتي بـِ ، التَطوُّر الفكري، الثقافي والإبداعي عين الدور من الأهمية، بل والإلهام، اللَّذَيْنِ ساهما في تحويل بعض إمكانيات موقع إقامتي الراهن إلى مصادر للتنمية الفكرية، الثقافية والإبداعية الذاتية. (وبالمناسبة، لعب محمد أحمد محمود – هنا أيضاً – عبر شهادتيْ تزكيةٍ – دوراً بالغ الأهمية في أن أحصل على منحةٍ داعمةٍ لبكاريوس في تنمية المجتمع، كما على منحةٍ تالية لعمل ماجستير في العلوم الاجتماعية، الذي ما لبث أن غَدَا دكتوراة في دراسات ما بعد الاستعمار، بنفس المنحة).
إستراتيجية الانفتاح الثقافي أو القراءات الخارجة على السائد – قبل مرحلة الانكماش الماركسي الحالي، الرسمي أو ذي البعد الواحد على الأقل – التي لَمِسْتُها في إبراهيم جعفر وفيك، ظَلَّتْ معي على الدوام، لكنها اتخذت طابعاً عملياً أثناء استقراري النسبي في أستراليا وإمعاني في خَطٍّ صاعدٍ من الدراسة الأكاديمية، المتعالقة مع همومٍ ثقافية قديمة وحادثة؛ حتى أن بوسعي أن أزعم بأنه قد كان – وما يزال – لبعض قراءاتي، خلال هذه المرحلة، دور حاسم – إلى الآن على الأقل – في النظر إلى نفسي، إلى السودان وإلى العالم. فمثلاً، الهَوِيَّة التي خرجتُ بها من السودان، والتي عَبَّأتني، خلال فاتحة الشتات (بداية تسعينيات الألفية المنصرمة)، بفكرة كتابة كتاب عن "تجربة المنفى" يحمل عنوان "كم أنا سوداني"، تَطوَّرتْ، بعد عِدَّة أعوام، إلى كتابة كتابٍ عن نفس الموضوع – ولكن برؤية وإطار مختلفين – بعنوان أوَّلي هو "كتاب المنفى". هَوِيَّة مُعِدِّ الكتاب-التَصَوُّر الأوَّل كانت – على الرغم من، رُبَّمَا، مزاعم كانت مُضَادَّة – عبارة عن هَوِيَّة مُعْطَاةٍ، مُطْمَئِنَّةٍ، تَامَّةٍ أو مُنْجَزَة، بينما هَوِيَّة كاتب الكتاب-التَصَوُّر الثاني في حالة حراك (بُرُسِّسْ) أوتَكَوُّن دائم (في سودانيتها). هذا الاختلاف الرَّادِيكَالي بين هَوِيَّتَيْ صاحبيْ التَصَوُّرين ما كان من الممكن أن يَتحقَّق دون إعادة تأمُّل أو قراءة تجربة شتاتي الشخصي – في سياق تجربة الشتات السوداني-الشمالي-العربي-المسلم – على ضوء تقسيمها إلى نوعين من الهجرة: هِجرَةٌ قريبة أو مُطْمَئِنَّة وأخرى قَصِيَّة أو مُغَامِرَة. الهجرة القريبة أو المُطْمَئِنَّة هي هجرة إلى المَفَرِّ، إلى حيث وشائج الثقافة، اللغة، الديانة تُشَكِّلُ حافزاً هاماً للاطمئنان إليها، النظري على الأقل؛ ومِصْرُ تُعْتَبَرُ الموقع الجغرافي الأبجدي لهذه الهجرة. ومع ذلك، فقد ظللتُ، إلى وقتٍ طويل، أرى إلى هَوِيَّتي العامة، شأن الكثيرين والكثيرات (الغالبية؟) مِنَّا، كهَوِيَّةٍ نقيضةٍ لهَوِيَّات عامة أخرى في هذا السياق: مصرية، سورية (أو عربية بصورة عامة)؛ (كما نقيضةٍ للهَوِيَّة العامة التِقْرِينيَّة أو التِقْرِنْجِيَّة في السياق الإرتري الذي هو، بالنسبة إليَّ على الأقل، سياق للهجرة المُطْمَئِنَّة كذلك. – لاحظ أنني استبعدتُ التِقْرِيْ بسبب تَواطُؤي، في تلك الفترة، مع بعدها الخِلَاسِي-العربي-الإسلامي-السوداني الشمالي). أما الهجرة القَصِيَّة أو المُغَامِرَة، فهي هجرة إلى اللَّامَفَرِّ، إلى الغرب-الأوروبي-الأمريكي الشمالي-الأسترالي، إلى حيث السياقُ الاجتماعي، الثقافي، اللغوي، السياسي والآيديولوجي ليس لا يُطْمَئَنُّ إليه فحسب، وإنَّمَا يُعْتَبَرُ، أيضاً، من قِبَلِ الكثيرين والكثيرات (الغالبية؟) مِنَّا، نقيضاً أو مُضَادَّاً. فكنتُ، إلى عدة سنوات للوراء، أنظر إلى هَوِيَّتي العامة – مثلي مثل الكثيرين والكثيرات أو الغالبية مِنَّا، رغم زعمي عكس ذلك، ورغم أنني ظللتُ أرى نفسي كنقيض للكثيرين والكثيرات مِنَّا – كهَوِيَّةٍ نقيضةٍ لهَوِيَّات عامة أخرى، أسترالية-أوروبية-غربية. أما الآن، فإنني أرى إليها كهَوِيَّةٍ مُتَمَيِّزَة، لا أفضل ولا أسوأ من بقية الهَوِيَّات. هي هَوِيَّةٌ أفضل أو نقيضةٌ أو مُضَادَّةٌ في مواجهة الظلم، الاستغلال، الاستعباد، الإقصاء، التعالي وكل أنواع الأفكار والممارسات البشعة ضد الإنسان ومجاله الحيوي. النظر إلى، أو التَشَبُّثُ بـِ ، الهَوِيَّة كمُعْطًى ثابتٍ، كمُنْجَزٍ جوهريٍّ وتام، ليس غير تاريخي فقط، وإنَّمَا هو ادِّعَاءٌ مُكَابِر يدحضه تاريخ وحاضر مسيرة التطور الاجتماعي والثقافي البشري. الهَوِيَّة – كالثقافة – لا تتطور من داخلها، وإنَّمَا من انفتاحها على، تجاورها أو تحاورها، مع، أخذها من، وعطائها لـِ ، ثقافاتٍ-هَوِيَّاتٍ أخرى.
لقد كان انفتاحي الثقافي، مثله مثل انفتاح العديدين والعديدات منا، تحت رحمة سوق ومبادرات الترجمة، التي هي تحت رحمة الشرطة الثقافية للدولة-نظام الحكم، في السودان وفي بعض مواقع هجرتنا القريبة (وذلك-هذا الاعتماد على سوق ومبادرات الترجمة ما يزال، لأسبابٍ متباينة، وإن، رُبَّمَا، بدرجةٍ أقل، حال الكثيرين والكثيرات مِنَّا حتى في مواقع هجرتنا القَصِيَّة). لكنها سوق ومبادرات تتم – على ندرتها وتَقطُّعِها وصعوبة الحصول على منتجاتها – خارج سياق تَطوُّرٍ أو نُموٍّ عام يطال البنيات الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، الثقافية، التعليمية، التقنية، الصحية، وغيرها، في بلدنا. وفي هذا السياق، من التَخلُّف شبه العام، ذي البواعث (والنتائج) السياسية المعلومة، فإن رخاوة بنيتنا الثقافية العامة (بما فيها التعليمية طبعاً)، ذات الأسباب (والعواقب) السياسية المعروفة، في السودان، كانت – وما تزال – من العوامل الرئيسة التي ما فتئت تعرقل انفتاحنا الثقافي.
وفي واقعٍ اجتماعيٍّ-ثقافيٍّ داخليٍّ، مُكَبَّلٍ بعِللِ التَخلُّف العام، وآخرَ خارجيٍّ مُقَيَّدٍ باستصحاب آثاره، تغدو المصادر العامة للتحفيز أو الإلهام، الحَاثِّ على الانفتاح الثقافي، شبه منعدمة لدينا. فلا تبقى، في مثل هذه الحال، إلَّا المصادر الاستثنائية للتحفيز أو الإلهام، التي من بينها، لشخص مثلي، على سبيل النَّمْذَجَة فحسب، صداقة أشخاصٍ مثل عبد الله بولا، محمد أحمد محمود، محمد عوض كَبَلُّو، سيد أحمد بلال، بشرى الفاضل، أحمد البكري، الطاهر حسن العبيد، عبد اللطيف علي الفكي، إبراهيم جعفر، موسى أحمد مُرَوِّح، ومثلك، طبعاً، عزيزي خلف.
فيما يُدَلِّلُ – أكثر – قِسْمٌ كبيرٌ من رسالتك إليَّ، أيها العزيز خلف، على حَمِيميَّتك وسخائك الوجداني، فإن قِسْماً كبيراً آخرَ منها يبرهِنُ – أكثر – على انفتاحك الثقافي والمعرفي. إنه – هذا القِسْمُ الكبيرُ – قِسْمٌ مُعَلِّمٌ، ناقلُ مَعرِفَةٍ، جديدةٍ بالنسبة إليَّ أنا على الأقل، بالذات فيما يَتَّصِلُ – على سبيل المثال – بتقسيمات، حلقات وتفاصيل تتعلَّق بعلوم الأحياء، الفيزياء والكونيَّات. ومن المصادفات المدهشة أنني كنتُ قد شاهدتُ – قبيل أيام قلائل من وصول رسالتك إليَّ – إحدى حلقات سلسلة علمية تلفزيونية يتحدث فيها عالم الفيزياء والكونيَّات الإنجليزي، إسْتِيفَنْ هُوكِنْغْ، عن انبثاق أو خلق الكون كمُحَصِّلَة لـِ "الانفجار العظيم". فتخيَّلتُ ذاك "الانفجار العظيم" انفجاراً لا سابق أو، رُبَّمَا، لا لاحق، لضخامته. فإذا بالمعلومة الدقيقة التي وفَّرتها مواكبتُك تكشف أنه لم يكن بالحجم الهائل الذي توحي به العبارة-التوصيف. بيد أن هذه الأطروحة، الانفجار العظيم، كما فهمتُ من بعض خطوطها العريضة سابقاً ومن حلقة إسْتِيفَنْ هُوكِنْغْ التلفزيونية عن أصل الكون حديثاً، تجعلني أتفَكَّرُ في أنها تقوم على نفي الأطروحة الدينية (التوحيدية)، المتمحورة حول وجود الله، وبالتالي رد أصل الكون وكل ما يحدث له وفيه لمشيئته وقدرته فقط. بكلمة أخرى، إن أطروحة الانفجار العظيم – في نسختها التي يُمَثِّلها أو يدعمها هُوكِنْغْ على الأقل – تنفي وجود الله، وتدحض، بالنتيجة، خلق الكون بسببٍ منه. على أنه، فيما يوحي لي عرضك – السردي – الدقيق والشَّيِّق – باقتناعك بهذه الأطروحة، أي بحدوث الانفجار العظيم، فإن موقفك الوجودي الراهن، الذي تشهد عليه مواضع مُتَعدِّدَة في الرسالة، تشير إلى مساندة للأطروحة الدينية (التوحيدية، في هيئتها الإسلامية طبعاً) فيما يتعلق بأصل الكون ومآله. فهل يعني هذا الجَمْع بين الأطروحتين – على افتراض صِحَّة فهمي باقتناعك بحدوث الانفجار العظيم – قناعتك بوقوعه بمشيئة وقدرة الله، مما يُجَرِّدُ هذه النظرية من مقدمتها ونتيجتها، بحسب طرح هُوكِنْغْ على الأقل، وبالتالي فإن هذه القناعة تَدرِجُ هذا الجَمْع ضمن سعيك إلى وصلِ الحداثة بطاقةٍ روحيِّةٍ أبعدَ غوراً وأقدمَ عهداً؟
ليس باعث ذلك السؤال – "الثانوي" بالنسبة لـِ "لموضوع الرئيس" الذي حَفَّزَ كتابة رسالتك الحميمة إليَّ – رغبةٌ في المناكفة، عزيزي خلف، وأنت لم تعهدني مناكفاً، وإنَّمَا هو سليلُ بعضٍ من التَفَكُّرِ – كما سبق أن أشرتُ في ردِّي الأوَّلي المضغوط عليها – الذي وَلَّدَتهُ بعض أبعادها الثرية. فهو، بهذا المعني الأبيض، سؤال اِمرءٍ لم تَشْفِ المرجعيات/التأويلات الدينية الإسلامية التوحيدية، ولا الاجتهاداتُ العلمية، مُمَثَّلَةً في نظرية الانفجار العظيم، غليلَ سؤالِ الوجودِ لديه حتى الآن.


(يتبع)
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الاثنين أكتوبر 12, 2015 10:55 am، تم التعديل 8 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهذا تعليقٌ بعث به إليَّ محمد خلف الله عبد الله، حول الفقرتين الأخيرتين من تعقيبي الأخير:


عزيزي عادل

فيما يختص بآخرِ فقرتين لآخرِ جزءٍ تمَّ نشرُه من رسالتك إليَّ، يُجدر القول بأنه لِمثل هذه التساؤلات والاستفسارات الذكية، إضافةً إلى التشديد على المحتوى المعرفي للمساهمات السردية المتنوِّعة، قد كُتبت الرسالةُ إليك في المقام الأول؛ فلا حرجَ ولا انكسافَ ينشأُ عنها، بل سرورٌ وحبور؛ وما كان يزعج المرءُ قليلاً جداً أنها تأخَّرت بعض الشيء، وكنتُ منذ تعليق علي بابكر الحصيف أتهيأ لمناقشاتٍ ذكية مع عددٍ لا يُحصى من الأصدقاء بالداخل وفي بلدان الشتات؛ ولكن التلكؤَ مفهومٌ ومبرَّرٌ ومتوقعٌ، فأرجو أن تكون استفساراتُك فاتحةَ خيرٍ لشلالٍ قادمٍ من جهةِ الأصدقاء الأعزاء في جميع بقاع الأرض.
نظرية "الانفجار العظيم"، في حدِّ ذاتها، لا تنفي الاعتقاد الديني في أيٍّ من تمظهراته فيما يتعلق بأصل الكون ومآله (على حدِّ تعبيرك الموفَّق). بل إن الفاتيكان، بعد تعثُّرِه في السابق وتورُّطه في إداناتٍ سابقة للعلماء من أمثال كبيرنيكس وكيبلر وغاليلي، قد كان سبَّاقاً إلى قبول النظرية بشكلها الحالي، لدحضها للنظريات السابقة القائلة بوجودِ كونٍ لا بداية ولا نهاية له، ولتأكيدها على وجودِ بدايةٍ محدَّدة لهذا الكون، مما يسهُل معه الزعم بأن منشئ هذا الكون هو الله.
في المقابل، فإن العلماء الملحدين، من أمثال ريتشارد دوكنز وإستيفن واينبيرج وغيرهما، يرون بأن إستيفن هوكنز وألبرت آينشتاين، على سبيل المثال، لم يخدما العلم بما يكفي لاستخدامهما لاسم الذات الإلهية بشكلٍ مجازي، عوضاً عن نفيها تماماً. إلا أن إلحاد هوكنز لا يصدُر عن تبنيه لنظرية "الانفجار العظيم"، إذ إنها بذاتها لاتكفي لنفي وجود الله، ولكنه ينشأ من اعتقاده بأن الكون، على الرغم من ابتدائه المؤكَّد بحدوث ’الانفجار‘ ذاته، إلا أنه بلا حدود؛ بمعنى أن الزمان-المكان نفسه محدود، من غير أن يكون له حدود، مما يعني أنه ليس له بدء.
وأنت كما ترى، فإن حجَّته، إن قبلنا سلفاً بعدم تناقضها ووجاهتها النظرية، تقع خارج إطار نظرية ’الانفجار‘ التي قام عليها الدليل؛ وتحوم، عوضاً عن ذلك، في مجال الاستبصارات النظرية والفلسفية؛ ولا عيبَ في ذلك، إلا أنها تفتقر لذلك الدليل القاطع كالسيف، الذي تتحلَّى به نظرية "الانفجار العظيم" نفسها.
أما في العالم الإسلامي، فخلافاً لافتقاره لوحدة المركز الذي يقبل أو يرفض أيًّاً من النظريات السائدة، فإنه مكبَّلٌ بتضخُّم التفاسير، وقِدَمِها، وعدم قدرتها على المواكبة، وفقدان صلتها بالموضوعات الحيَّة؛ وأنت تعرف جيِّداً بأنه لا يمكن، ولا فائدةَ من، مواجهة ذلك الواقع وجهاً لوجه؛ لكن التبصُّر العقلاني للموضوعات العلمية ذاتها، من غير تزيُّدٍ فلسفي، قد يفتح بابَ التفاسيرِ المغلق على مصراعيه، من دون حاجةٍ إلى مواجهةٍ تُذكر، غير مواجهة العقل المغلق ذاته.
هذا لا يعني بالطبع أن هذه التفاسير القديمة قد أكل عليها الدهر وشرب تماماً، بل على العكس، فإنها، بصيرورتها تراثاً باذخاً، ما زالت هي من أفضلِ المداخلِ الهيرمنوطيقية إلى سبيل الهداية، وأسلسِ الطرقِ إلى نور الإيمان؛ إلا أنها، مع ذلك، لا تكفي بذاتها للنظرِ إلى الإبل كيف خُلقت، أو لإماطة سر الجبال التي تمُرُّ مَرَّ السحاب، ناهيك عن فضِّ مغاليق الكون بأكمله؛ وهو ما تسعى العلومُ الحديثة لتحقيقه، إنْ لم نقلْ قد اقتربتْ بالفعل من تحقيقه، خصوصاً ثلاثة علومٍ طبيعية رئيسية، هي: علم الأحياء الجزيئية، وعلم فيزياء الجُسيمات المتناهية الصغر، وعلم الكونيات.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 10:04 am، تم التعديل 5 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

دا كلام عجيب
وعجبه في هذه المعرفة الباذخة المخيفة التي قدمها مع خلف
كانب به قد اوقف حياته على الغور في داخل هذا الكون ليقف على حقيقته
وددت لو قابلته يومها في "مونتري"، ومنعني من مقابلته تفسير خاطيء لجملة قالها لي الاستاذ مسعود، فهمتها بغير ما ارداها
ولكن ما علينا، فما يطرحه محمد خلف فتح عيني على حقيقة دهشة عظيمة اصابتني ذات يوم وانا اقرا (اكتب من الايباد ولذلك لن تظهر الهمزات على الالف ولا على الياء)
عن الخارطة الجينية ورحلة الانسان العظيمة من افريقيا الى بقية العالم
اقول انها كانت دهشة عظيمة لم اعرف كنهها، ولكني عرفت الان انا ما دهشني ليس الحقاءيق التى اوردها المقال
بقدر ما هو القدرة السردية في الرواية.

حينما قرات للمرة الاولى كتاب فراس السواح ( مغامرة العقل الاولى) تنبهت لهذا السرد الباذخ، ولكني عزيته للطابع القصصي نفسه
للاساطير التى قامت عليها ديانات الهلال الخصيب، واجدني الان وانا اقرا ما كتبه خلف ان السرد هو المفتاح لدهشتي وللمتعة التى احسها في قراءة النصوص
علمية كانت ام ادبية.

ارجو ان يكون مهفهوما ما اعنيه بالسرد هنا وانا اقصد طريقة التقديم للشيء، واعتقد ان ماحاوله خلف هنا
هو ان يفتح عيون القصاص على سردية الحياة كلها، واعتقد ان عرضه (سرده) لفتوحات العلم من فيزياء وغيره
وتنبيهه للجانب السردي فيها هي محاولة لتقاسم متعته الشخصية واندهاشه (قياسا على حالي والذي وصفته بالدهشة)
مع عادل القصاص
ليت خلف اضاء لنا اكتشافه للحق، وسرد لنا ماقبل الانفجار العظيم حيث انه في هذه الحالة لم يكن سوى الله ومعه الحرفين (الكاف والنون)
او هذا ما تصورته عن تفريقه بين الحق والحقيقة

اقول مرة اخرى ان هذا كلام عجيب واتمنى ان يتواصل السرد في هذا المكان
فالحصة قصة او سرد لم يكتمل بعد

دمتم
ودمت يا قصاص
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

عفوا
نزل الكلام مرتين
صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

[b]محمد خلف الله عبد الله، مخاطباً عادل القصاص:[/b]


"نظرية "الانفجار العظيم"، في حدِّ ذاتها، لا تنفي الاعتقاد الديني في أيٍّ من تمظهراته فيما يتعلق بأصل الكون ومآله (على حدِّ تعبيرك الموفَّق)."-


[b]إبراهيم جعفر، سائلاً محمد خلف الله عبد الله:[/b]

ذلك صحيح تماماً.

ثُمَّ: هلا لا تحدسُ، مثلي، يا محمد خلف، صلة ما، على مستوى الفلسفة، وليس مستوى العلم الطبيعي، على الأدق، ما بين نظرية "الانفجار العظيم" تلك ونظرية "الخلق المستمر" عِندَ أصحاب "علم الكلام" من فلاسفةالمسلمين الأشاعرة؟



[b]هامش:[/b] أما بشأن ما قلتماه عني، بل ما نفحتُمَانِيَ به، يا عادل ومحمد خلف، في أرجاء عدة من هذا البريد، من طيّب الكلامِ، فأنا، في كامل شأني، لستُ تماماً قدره. على كُلٍّ، لكما العرفان، بل بعض دمع العرفان، على الأدقِّ/الأرِقِّ!
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

تعقيب من محمد خلف على مساهمة الصادق إسماعيل:


إلى الصادق إسماعيل، رجلٍ آخرَ وصديقٍ محتملٍ، من كاليفورنيا

أو

"حفلة كوكتيل" في مونتري



يزدهي الوجودُ ويزدان برفقة أصدقائي الفعليين؛ أما أصدقائي المُحتملين، شأنهم في ذلك شأن الفعليين منهم، فإنهم مثل "بيير" في مقهى "الوجود والعدم" لجان بول سارتر، فإن وجودهم يزداد حضوراً وتكثُّفاً بغيابهم؛ أما أنا، فإنني مثل "بيتر" في مسرحية "حفلة كوكتيل" للشاعر والكاتب المسرحي البريطاني، ذي الأصل الأمريكي، توماس إستيرنز إليوت، الشهير بـِ"تي إس إليوت"؛ فقد كانت عيادة الدكتور السير هاري هاركورت-رايلي في المسرحية تتبنَّى أساليبَ غريبة في جمعِ المعلومات عن المرضى، وتصنِّف حالاتهم وفقاً لثلاثِ طرقٍ مُتَّبعة في علاجهم: الطريقة الأولى، إرجاع المرضى إلى حالتهم العادية بإقرارهم بسخف الحياة العادية نفسها، وبالتالي مواجهتها في شيءٍ من الصدق والواقعية – وهي الطريقة التي اتُّبعت مع "إدوارد" و"لاڤينيا" (عائلة "تشمبرلين")؛ أما الطريقة الثانية، فإنها تُتبع مع الأشخاص القلائل المتميِّزين الذين يدفعهم قنوطهم دفعاً إلى الإيمان، حيث يتم إرسالهم إلى مصحَّةٍ مجازية، ويُقال لهم كلماتٍ لا معنى لها، مثل "اِعمل على خلاصِ نفسِك بعنايةٍ تامة"؛ وهي كلماتٌ تسري على الناس العاديين، إلا أنها لا معنى لها معهم تحديداً، لأن هؤلاء الأشخاص المتميِّزين سيكون لهم تجربتهم الخاصة، التي لا تسري فيها هذه الكلماتُ، مهما خلُصت نوايا القائلين بها – وهي الطريقة التي اتُّبعت مع "سيليا"؛ أما الطريقة الثالثة، فهي الطريقة التي تُتبع مع الأشخاص الذين لم يصلوا بعدُ إلى مستوًى تكون فيه الكلماتُ التي تُلقى عليهم سارية المفعول؛ وتعتمد هذه الطريقة على الإرجاء، وتستفيد من الروابط والعلاقات التي يقيمها أوصياء العيادة مع أشخاصٍ حتى ولو كانوا في كاليفورنيا – وهي الطريقة التي اتُّبعت مع "بيتر".
فيا صديقي المحتمل، فإن كاليفورنيا مليئةٌ بالصلات الطيَّبة؛ ففيها هاشم محمد صالح بمدينة سان هوزيه، رجلٌ يندر مثاله؛ أقام لنا أولَ ندوةٍ لجماعة "تجاوز" عن "علم اللغة الحديث"، وكانت بمباني قصر الشباب والأطفال، الذي كان يستضيف في ذلك الوقت المعهد العالي للموسيقى والمسرح، الذي كان يسمح لنا بدورِه بعقدِ ندواتِ الجماعة بشكلٍ منتظم. وكانتِ الندوةُ بقاعةٍ مفتوحة تحت المبنى الرئيسي، تهبُّ عليها الرياح من جهاتٍ ثلاث؛ ومع بداية الندوة، اكفهرت السماءُ واحمَّر لونُها بعاصفةٍ ترابية أمدرمانية شهيرة، فتوقَّع الجميعُ بأن تقوم إدارة الندوة برفعها أو تأجيلها، أو يعتذر مقدِّمُ الندوة على طريقة الصورة النمطية لأساتذة الجامعات ويهرب بجلده من أتون العاصفة؛ لكن ما حدث كان متوقعاً بالنسبة لي تماماً، لأنني أعرف أرُومة الرجل ومعدنه النفيس، إلا أن ما فاجأني بحقٍّ، هو صمودُ الجمهورِ نفسِه واستمرارُ الندوة في الظلام ولمدَّة ساعتين، بتلهُّفٍ ومشاركةٍ ذكيةٍ من الحاضرين؛ وكان فيهم -بوجوده الراسخ في الندوات- الراحل أحمد الطيٍّب عبدالمكرَّم، والراحل عمَّار محمود الشيخ؛ وكان يمكن أن يكون فيها من الجمهور الثابتِ لاحقاً في ندوات الجماعة: الراحل سامي سالم، والراحل عبدالله محمد إبراهيم، والراحل محمد الحسن سالم حميد؛ أما الأحياء، فأرجو أن يسجِّلوا حضورهم في دفتر الحضور بحروفٍ من نور، متى ما سمحت لهم ظروف الكتابة بذلك.
وفي كاليفورنيا أيضاً، يقيم الأستاذ عبد اللطيف على الفكي، الذي أدهش أساتذة المعهد العالي للموسيقى والمسرح قبل طُلَّابها، الذين طالبوا بنقلِ ندواتِه العامة لجماعة "تجاوز" إلى حُجراتِ الدراسة الأكاديمية بالمعهد؛ وفيها الأستاذ أسامة الخواض، الذي كان يلهب الجماعة بحماسِه وتدفُّقِه الإبداعيِّ الثر؛ وفيها الأستاذة مريم محمد الطيِّب، مخرجة "الصلاتِ الطيِّبةِ" ذاتِها، وأمُّ سالي وعزَّة وعلي، وبنتُ أمي الثالثة حاجَّة آمنة بنت همرور، والدة كلٍّ من عوض الكريم، وعبد المنعم، وفاطمة، وسمية، والراحل إبراهيم، إضافة إلى الفنان التشكيلي البارع عبد الله محمد الطيِّب، ومحمود الصحفي بجريدة "التجمع" إبان الانتفاضة، والزراعي عبد المجيد، والمسرحي عبد العظيم؛ وفيها الأستاذ مسعود محمد علي، المعلِّم الصادق النقيُّ السريرة؛ إذا أشاد بك، فليطمئن فؤادك بأنه يعني ما يقول؛ وإذا نبَّهك إلى عيوبٍ، فعليك بالعودة مرَّةً أخرى إلى منضدة الكتابة؛ وفيها الرجل الطيِّب عمر عبد الله محمد علي، زميلي سابقاً برابطة الكتاب والصحفيين بلندن، وصحيفة "الفجر" الأولى؛ وكان في كاليفورنيا، عندما زرتُها، الشاعر محمد المكي إبراهيم ذو الكلمةِ الشعريةِ المتميِّزة، صاحب "الأكتوبريات" و"زنزباريات" و"أصبع في الشمس" و"غنائي لأختي أمان"؛ وبالطبع، "بعضُ الرحيقِ أنا والبرتقالةُ أنتِ"؛ لم ألتقِه في مونتري، لكن سيرتَه كانت تملأ البيوتَ بأريجِ ريحٍ طيِّبة، مثل ما كانت تملأُ من قبلُ بيتَ المرأةِ الفاضلة –في حي "ود أرو" بجوار سبيل "خلف الله"- فاطمة وزوجها الطيِّب عبد الرازق، والد كلٍّ من خضر وسميرة (رحمها الله وأسكنها فسيحَ جنانه) ومأمون والراحل عبد المنعم وأختهم الصغرى سهام؛ وكان فيها أيضاً الأستاذ عمر القراي، الذي كان يدهشني في أركان النقاش بالجامعة بحجم معرفته، وتمكُّنه ممَّا يؤمن به، هذا إضافةً إلى استبصاراته الدينية العميقة.
وقد أنشأ أوصياءُ العيادة علاقاتٍ وصلاتٍ مكَّنت "بيتر" من الاشتغال بصناعة الأفلام، إلا أن الروابط القائمة والمحتملة في كاليفورنيا لا تتوقف فقط على "ديزني" أو "هوليوود"، أو منها إلى مجال السياسة وحكم الولاية، ومن ثمَّ حكم الولايات المتحدة نفسها (حالة رونالد ريجان)، أو حكم الولاية توطئةً إلى الدخول إلى البيت الأبيض (حالة آرنولد إشفارتسنيغر)؛ ولكنها تشمل أيضاً سيليكون فالي وكالتيك؛ وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس؛ والأخرى في بيركلي، التي ظلَّ يدرِّس بها الفيلسوف الأمريكي جون آر سيرل منذ أكثر من خمسين عاماً؛ كما تشمل بيغ سير، التي ذهبتُ إليها بصحبة مسعود، والتي كان يقيم بها الكيميائي الشهير لايناس كارل بولينغ، صاحب كتاب "طبيعة الروابط الكيميائية"، الذي استخدم انكسار الأشعة السينية للتعرُّف على بنية الهيموغلوبين، ولاحقاً البروتين، وكان يمكن أن ينجح في معرفة بنية الـ"دي إن إيه" قبل توماس واتسون وفرانسيس كريك، لو كان قد تحصَّل على صورِ انكسارِ الأشعةِ السينية من روزاليند فرانكلين أو موريس ويلكينس قبلهما.
وفي مونتري، أقامتِ السلطاتُ المحلية تمثالاً لجون شتاينبيك بشارع كنري رو، الذي سُمي باسمِ روايةٍ له تحملُ نفسَ الاسم في عام 1958، وهو الشارعُ الذي كان يعجُّ بمصانع الساردين، إبان أيام الرواية التي تدور أحداثُها في زمنِ الكساد العظيم في ثلاثينياتِ القرنِ الماضي. وفي عام 2007، قام حاكم الولاية وزوجته بتقديمِ جائزةٍ لأسرة الكاتب وتنصيبه عضواً في قاعة كاليفورنا للمشاهير. وقد تعرَّفتُ على روايات الكاتب لأولِ مرَّةٍ من خلال الصديق الراحل خلف الله حسن فضل، الذي كان يكِنُّ له تقديراً خاصاً؛ ومنه قد اطَّلعت بالاستلاف على رواية "عناقيد الغضب" (1939)، وتعرَّفت من خلاله على "كنري رو" (1945) و"تورتيَّا فلات" (1935)، و"شرقي عدن" (1952)؛ أما رواية "بشأنِ الفئران والرجال" (1937)، فقد قرأتها من خلال بنتي ماريا، وكانت الرواية كتاباً مقرَّراً على طلاب الشهادة العامة للتعليم الثانوي، إلى أنْ أوقفها وزيرُ التعليم السابق مايكل غوف، فسلَّط الله عليه من يُقصيه من الصفوف الأمامية لحكومة المحافظين الحالية في بريطانيا.
ومن حسن الصدف، أن شتاينبيك نال جائزة نوبل للآداب في نفس العام (1962) الذي نال فيه كلٌّ من توماس واتسون وفرانسيس كريك وموريس ويلكينس جائرة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب؛ وكان يمكن أن تشاركهم فيها روزاليند فرانكلين، لو أن لوائح الجائزة تسمح بإعطائها لأسرِ الراحلين والراحلات. وتيمُّناً برواية "بشأنِ الفئران والرجال"، كتب فرانسيس كريك كتاباً بعنوان "بشأنِ الجزيئيات والرجال" (1966)، فكأنه يريد أن يقول بلسانٍ طلقٍ فصيح إن السرد، ممثلاً في عنوان رواية أمير السرد الأمريكي، هو أفضلُ الطرقِ لتوصيل المعرفة الجديدة المُكتسبة بشأنِ الحلزونِ المزدوج، الحاملِ للحامض النووي الريبي منقوص الأكسجين (دي إن إيه)، الحافظِ بدوره للخصائص الوراثية؛ وعلى نفس المنوال، ألَّف شخصانِ كتاباً في عام 2000 تحت عنوان "بشأنِ العقول والجزيئيات"، وهو عبارة عن استبصاراتٍ فلسفية حول علم الكيمياء.
أما بخصوص ملاحظاتك عن السرد، فإنها سديدة، وهي التي دفعتني، في المقام الأول، إلى التوغُّلِ في مزيدٍ من السرد ضمن هذا التعقيب، إلا أن مدَّهُ (أو إنْ شئتَ شدَّهُ) إلى ما قبل لحظة "الانفجار العظيم"، فليس بمقدورِ شخصٍ عاديٍّ تحقيقه؛ فياليتني كنتُ متحرِّكاً بالضمِّ على حرفِ الكاف، أو ساكناً بالوقفِ على حرفِ النون، ولكن هيهات؛ فذاك مقامٌ لم يُشركِ اللهُ فيه أحداً غيرَه: "ما أشهدتُهُم خلقَ السماواتِ والأرضِ ولا خلقَ أنفُسِهِم وما كُنتُ مُتَّخذَ المُضِلِّين عَضُداً" ("الكهف"، آية رقم "51"). ولكننا نتشارك في مجال الحقيقة، وهو يشمل كافَّة مجالات العلوم الطبيعية والإنسانية، كما يشمل الخبرات المكتسبة في مجالات الفنون والآداب جميعها. والحقيقة بهذا المعنى، هي اسمُ جنسٍ لكلِّ ما هو حقيق؛ وهي -وإنْ كانت في ظاهرِها صيغةُ مفردٍ مؤنث- صيغةٌ تشمل في إطارها، في واقع الأمر، كلَّ ما تمَّ التأكُّد منه وتعزيزه وتثبيته، ولو بصورةٍ مؤقتة. ويتفرَّد "مَنْ يَخْلُقُ" على "مَنْ لا يَخْلُقُ" بأنه "يحقُّ الحقَّ بكلماته"، كما جاء في سورة ("يونس"، الآية رقم "82")؛ وهو الحقُّ وقولُه مرادفٌ لاسمه: و"قولُهُ الحَقُّ"، كما جاء في سورة ("الأنعام"، الآية رقم "73")؛ أما رُسُلُه، فترتقي الحقيقة لديهم بفضلِ رسالتِهم ذاتِها إلى مرتبةِ الحقِّ: "حقيقٌ عليَّ أن لا أقولَ على اللهِ إلا الحَقَّ"، كما جاء على لسان موسى عليه السلام في سورة ("الأعراف" الآية رقم "105").
والحقيقةُ شأنُها في هذا شأنُ الخليقة، فهي اسمُ جنسٍ لكلِّ ما هو خليق؛ وكذلك البسيطة فهي اسمٌ للأرض، وتشمل كلَّ ما هو مسطحٌ وبسيط؛ والشبيبة اسمُ جنسٍ لكلِّ من شبَّ: ذكراً كان أم أنثى؛ وإذا صحَّ هذا الزعمُ، فإن الدابة هي أيضاً اسمُ جنسٍ لكلِّ حشرةٍ تدبُّ على الأرض. وفي هذا الشأن، يورد عالمُ الأحياء المتخصِّص في النمل، ومؤسِّسُ علم الأحياء الاجتماعي، إدوارد أو ويلسون، قصَّةً للنملِ في كتابٍ له تحت عنوان "الخلق" (2006)؛ إنْ أنت تأمَّلتها، وقارنتها بسورة "النمل"، لعرفت الفرقَ بين الحقيقةِ -التي هي تكهُّنٌ بتفسيرٍ لوقائعَ، والحقِّ –الذي هو في الدرجةِ الصفرِ من التفسير تحققٌ وكشفٌ للوقائعِ ذاتها. هذا علاوةً على أن من حقِّ "مَنْ يُخْلَقُ" أن يخُطَّ كتاباً عن الخلق، إلا أن "مَنْ يَخْلُقُ" يُنشئُ الخلقَ ذاتَه ثم يُعيدهُ؛ "أَوَ لم يَرَوا كيف يُبدئُ اللهُ الخلقَ ثم يُعيدهُ إن ذلك على اللهِ يسيرٌ" ("العنكبوت" الآية رقم "19").

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 10:07 am، تم التعديل 4 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

مكرر
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأربعاء يناير 21, 2015 11:43 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

أما بخصوص "الموضوع الرئيس"، الذي أثار عندك الرغبة في مناقشتي في رأييِّ القائل بـِ "افتقارِ موادَّ مدرسيةٍ كالرياضيات، الفيزياء، الكيمياء وقواعد اللغتين العربية والإنجليزية إلى بنيةٍ سردية خاصَّةٍ بها"، فإنني أبدأ بالقول، أو التأكيد على، أنني لم أقل بأن هذه العلوم، التي تنحدر منها تلك المواد المدرسية، تخلو من بنيةِ سردٍ خاصَّةٍ بها، وهو ما توحي به مُقَدِّمَةُ، مَتْنُ ومُلَخَّصُ مناقشتك، وذلك لسببٍ بسيط، هو أنني أفتقر إلى إلمَامٍ عامٍّ – مُتوَاضِعٍ حتى – بهذه العلوم، بما يؤهلني للجزم بهذا الخُلوِّ؛ وهذا أمرٌ – أي عدم الإلمام بهذه العلوم – آسَفُ – حقيقةً – له. بهذا المعنى، فإن معرفتي النسبية، أو، بالأحرى، ذات الدرجات المتباينة في فقرها، بهذه العلوم مستقاةٌ من تجربةٍ محدودةٍ محصورةٍ – زمنياً – في فترة تتلمُّذي خلال مرحلة الدراسة الثانوية العامة (أربع سنوات، بعد أن نضيف إليها سنة إعادة جلوسي لامتحانات الانتقال إلى المرحلة الثانوية العليا، إذ لم أنجح في المرة الأولى لأنني لم أحصل على تقديرٍ كافٍ في الرياضيات، الفيزياء والكيمياء)، ثم تتلمُّذي عبر فترة مرحلة الدراسة الثانوية العليا (أربع سنوات، بعد أن نضيف إليها تكرار السنة الأولى، التي كانت زراعية ثم أصبحت "أكاديمية"). لهذا جاءت عبارتي الواردة في مقالي باللغة الإنجليزية، التي اعتمدت أنت عليها في مناقشتك لي، حَذِرَةً من الجَزْم بـِافتقارِ تلك المواد المدرسية إلى بنية سردية. فهذه العبارة تقول، بحسب ترجمتي لها، التي تتبنَّي ترجمتك وترجمة عادل عثمان، ولكن بإضافةِ تعديلٍ طفيف منِّي، بغية توضيحٍ أكثر للمعنى المقصود منها في أصلها الإنجليزي: "من جهةٍ أخرى، فإن علاقتي بموادَّ كالرياضيات، الفيزياء، الكيمياء وقواعد اللغتين العربية والإنجليزية، قد تدهورت من اهتمامٍ فاترٍ إلى كراهيةٍ تامَّة. وأظُنُّ أن افتقار هذه المواد إلى بنيةٍ سردية ساهم مساهمةً أساسية في انحدار اهتمامي بها". وكما تلاحظ، عزيزي خلف، أنني استعضت عن كلمة "أعتقد" بالمرادفة "أظُنُّ" لافتراضي أن كلمة "أعتقد"، العربية بالذات، ربما تقترب – أحياناً – حتى بغير إضافة الحرف "في" – من معنى "أؤمن". لذلك تصبح خياراتي لترجمة العبارة الإنجليزية (I guess) – من أجل استقبالٍ غير مُشَوَّش – "أظُنُّ"، "أُقَدِّرُ"، "أَفْتَرِضُ"، علماً بأنني لا أستبعد "أعتقد" لأن استعمالها السائد لدينا يجعلها – أيضاً – مرادفة للكلمات أو الخيارات الثلاث المذكورة للتو. قصدتُ بهذا التوضيح أن أقول إن عبارتي تلك – حتى باستعمال المرادفة "أعتقد" – لم تقطع بخُلوِّ تلك المواد (المدرسية)، (ولا العلوم التي تنحدر منها)، من البنية السردية. ومع ذلك، ومن أجل ذلك أيضاً، فإنني لا أرفض تأويلك لكثافة تعبيري بعبارة "بما يشبه الجزم"؛ ذلك أنني عنيتُ، فعلاً، ما يشبه الجزم، ولكن ليس الجزم، للسبب البسيط، الذي ذكرته قبل قليل، وهو افتقاري، الذي أنا لست فخوراً به، إلى درجةٍ متواضعة حتى، من المعرفة بهذه العلوم. غير أن مناقشتك أوحت بأنني صادرٌ عن إيمانٍ قاطعٍ بخُلوِّ، ليس فقط تلك المواد المدرسية من بنيةٍ سردية، بل، أيضاً، بافتقادِ العلوم التي تَتحَدَّرُ منها لهذه البنية. وبما أنني لست مُلِمَّاً، إِلماماً متواضعاً حتى، بهذه العلوم، فإِنَّ المرجعية الوحيدة التي صُدِرَ عنها ظني أو تقديري أو افتراضي (أو اعتقادي) بافتقارِ تلك المواد المدرسية، التي قام بوضعها أساتذة مُتَخَصِّصِون وأستاذات مُتَخَصِّصَات في وضع المنهج التعليمي لتلك المراحل المدرسية، إِلى بنية سردية، هي تلك المواد المدرسية نفسها. ولو تتَضَمَّن ظَنِّي أو تقديري أو افتراضي (أو اعتقادي) هذا – وأعتقد في أنه يفعل – انتقاداً لهذا الخُلوِّ من البنية السردية، فإنه انتقادٌ موجَّهٌ، ضمنياً، للمنهج التعليمي، الذي قام بوضعِ تلك المواد في قَالَبٍ للتعليم المدرسي، أكثر منه لتلك المواد المدرسية نفسها. وحتى لو كانت تلك المواد المدرسية تتمتع ببنيةٍ سردية، فإن سردك الشَّيِّق – الذي استمتعت به أيَّمَا متعة – لم يُدَلِّل على وجودها في أيَّةِ مَادَّة من هذه المواد المدرسية، مثلما أشرتَ إِلى تَمَتُّعِ كتابيْ "الجينة الأنانية" و "أصل الأنواع" بحضورها (لاحظ أنني لم أضف علم الأحياء إِلى قائمة الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء وقواعد اللُّغَتين)؛ ويجدر بي هنا أن أؤكِّد بأنني لا أؤمن بأن تلك المواد المدرسية – رغم ظَنِّي بافتقارها لبنيةٍ سردية – عاريةً من توفير المتعة لكُلِّ متلقيها، بخلاف المتعة التي كانت ترفدني بها مواد التاريخ والمطالعة مثلاً، وإنَّمَا كانت عاطلةً عن توفيرها لي أنا، وبعض تلاميذَ آخرين دون شك. ورُبَّمَا كانت هذه المتعة تكمن، مثلاً، في قدرة مُخَيِّلات زملائي التلاميذ – مِمَّن يجدونها في هذه المواد – على تحويل هذه المواد، في أذهانهم، إِلى بنياتٍ أو مَوَادَّ ذات خصائصَ سردية. غير أنني لم أكن – ولست إلى الآن – قادراً على هذا، رغم قناعتي – وقناعة آخرين وأخريات، ويشَرِّفني أنك في مقدمة القائمة أيها العزيز خلف – بأن مُخَيِّلتي لا تعاني من عَطَبٍ، رئيسٍ على الأقل.
إنَّ المتعة، التي قَدَّمَتْ لي معرفةً جديدةً، بطريقةٍ جيِّدة وجَذَّابة، والتي وَفَّرَتهَا لي بعضُ حلقات إستيفَنْ هُوكِنْغْ التلفزيونية، "كَوْنُ إستيفَنْ هُوكِنْغْ" أو "[إلى] داخل الكَون مع إستيفّنْ هُوكِنْغْ"، تجد سببها الأساس في القَالَبِ السردي-المُصَوَّر لتلك الحلقات. وأحد العناصر – السردية والبلاغية – الذي حَبَّبَ لي، عندما كنت تلميذاً يافعاً، مَادَّة الجغرافيا، يكمن – مثلاً – في شَخْصَنَة النيلين، الأبيض والأزرق. فالأوَّل شُبِّهَ سَيْره (عبر أرضٍ سهلية، منبسطة، تلت خروجه من منبعه، بحيرة فكتوريا، إلى حيث يلتقي بالنيل الأزرق في المقرن) بسَيْر الرجل الهَرِم، كنايةً عن بطئه أو سريانه الوئيد، في مقابل جريان الثاني، النيل الأزرق، الذي مُثِّلَ بِعَدْوِ الشاب، الفَتِيِّ، القَوِيِّ، المُندَفِعِ (من المنبع إلى المصب، من/عبر الهضبة الحبشية وامتداداتها متدرجة الانخفاض في السودان حتى سهل وسطه). وأعتقد بأن هذا الوصف يعود – بالأساس – إلى الصحفي-المراسل الحربي البريطاني أَلَنْ مُوْرْهِدْ المُتَضَمَّن في كتابيه-استطلاعيه السَّرْدِيَين المُمتِعَين "النيل الأبيض" و"النيل الأزرق".
في مواجهة هذين النموذجين، ذوي الوشائج الوُثقى بالسرد، ما هو السردي في المعادلات الرياضية (لاحظ، أيها العزيز خلف، أنك لم تَتعَرَّض للرياضيات بالحديث)، المعادلات الفيزيائية والمعادلات الكيميائية؟ بكلماتٍ – وإضافاتٍ قليلة – أخرى: ما الذي جعل بعض حلقات إستيفَنْ هُوكِنْغْ التلفزيونية، وقبلها، مادتيْ الأحياء والجغرافيا المَدْرَسَيَّتَين قادرتين على جذب مزاجي السردي ولم يجعل مواد الرياضيات، الفيزياء والكيمياء المدرسية قادرةً على ذلك؟
طبعاً قد يقول قائلٌ، رُبَّمَا يعود سبب ذلك (عدم جَذْبِ مواد الرياضيات، الفيزياء والكيمياء لمزاجي السردي) إلى خَلَلٍ في طريقة عَرْض أو تقديم المُدَرِّس لهذه المواد، لا سِيَّمَا أن كلنا يعلم أن ثَمَّةَ أساتذةً ذوي مهاراتٍ متواضعة أو فقيرة في التوصيل. هذا بالطبع وَارِدٌ؛ ولكن ليس في كل فترات تحصيلي المدرسي، ليس طوال ثمانِ سنوات. أضف إلى هذا، أنني على قناعة – من خلال التجربة – بأن بعض مُعَلِّمِيْ هذه المواد الثلاث كانوا من أبرز المُعَلِّمِين، من جهة تَمَتُّعِهم بمهارات العَرْض أو الشرح أو التوصيل، بدليل أن بعضاً من هؤلاء المُعَلِّمِين المُتَمَيِّزِين كان يدرسنا – إلى جانب مواد الرياضيات، الفيزياء والكيمياء – موادَّ أخرى كالأحياء والجغرافيا. (وأنا أتذكر هنا – على سبيل المثال – ناظرنا في مدرسة بَكَّار الثانوية العامة، مصطفى الأسد، الذي كان مُعَلِّمِاً مُتَعَدِّد المعارف والمهارت التدريسية (والإدارية)، فقد كان يُدَرِّسُنا الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء، الأحياء، الجغرافيا واللغة الإنجليزية!) إذن، ثَمَّة من سببٍ (لأتَجَنَّب قول ثَمَّة من خَلَلٍ) كَامِنٍ – باعتقادي – في المنهج الذي قُدِّمَت به هذه المواد المدرسية إلينا، وهو سببٌ لم يُمَكِّن تلميذاً متواضعاً مثلي، كما لم يُمَكِّن تلاميذَ متواضعين آخرين وتلميذاتٍ متواضعاتٍ أخريات، من التَعَرُّفِ على المفهوم (أو الشكل أو القَالَب) السردي بواسطة مُتَلَقٍّ وقارئ مثلي، أو بواسطة مُتَلَقِّين آخرين ومُتَلَقِّيات أخريات، وقُرَّاء آخرين وقارئات أخريات. ومرةً أخرى، أؤكِّد بأن هذا لا يعني عطالة هذه العلوم عن توفير متعة ما لمُتَلَقِّين آخرين ومُتَلَقِّيات أخريات، وقُرَّاء آخرين وقارئات أخريات، وذلك – في ظنِّي – لسببٍ آخرَ، غير تَمَتُّعِ تلك المواد المدرسية ببنية سردية. بمعنًى آخر، لماذا لم يتَبَنَّ واضعو وواضعاتُ منهجِ تدريسِ هذه المواد الثلاث الإطار النظري [السردي] النقي القابل للتطبيق على مَادَّةٍ لا حصرَ لها؟ وإذا كان من الممكن النظر إلى مثل هذا السؤال كمُطَالَبَةٍ أو كمُقْتَرَحٍ يخنِقُ كل احتمالات التَعَدُّد، فلماذا ننظر إلى المنهج الذي أُعِدَّتْ بواسطته (سطوته؟) تلك المواد الثلاث كضرورة (وقد صارت تقليداً، ينتمي لـِنهج الشجرة) تخنِقُ – هي الأخرى – كل احتمالات التَعَدُّد، أي بإصرارها على رفض الاستظلال بالغابة؟
أما ناظر مدرستي الأوليَّة، مدرسة الحارة الثانية الأوليَّة بالمهدية، المُعَلِّمُ الحاذقُ والتربوي ذو المُخَيِّلَة الرحيبة والقلب العامر بالحب، هو الآخر (ولست أذكر، لأسفي البالغ، اسمه)، فقد كانت قوة عرضه وبراعته في عرض "مَادَّته"، أي للحكاية التي رواها لنا، (وهي ليست مَادَّته) مؤثِّرَةً بالفعل. بيد أن قُوَّةَ عَرْضِهِ و براعته في سرد تلك القصَّة (التي هي ليست مَادَّته) لم تكن هي التي وَضَعَتْ مَادَّة تلك الحكاية ضمن قَالَبٍ قصصي. لقد أتته تلك المَادَّة جاهزةً (في قَالَبٍ حكائيٍّ أو قَصَصَيٍّ) ، أي لقد سبق أن وضعها مُؤلِّفها (أو مُؤلِّفتها أو مُؤلِّفوها ومُؤلِّفاتها) في قَالَبٍ سرديٍّ، حكائيٍّ، قَصَصَيٍّ، وقد كان متاحاً لناظرنا الحصول عليها (سواء عبر القراءة أو من خلال التواتر الشفهي)؛ وكل ما فعله هو أن قام بسردها علينا (وليس تأليفها لنا)؛ وقد فعل ذلك بأسلوبِ تَوْصِيلٍ مُمْتِعٍ دون ريب، تماماً مثلما بالإمكان أن يحكي لك بشرى الفاضل قِصَّةً كتبها أنطون تشيكوف أو خوان رولفو ببراعة تثير إعجابك)، لكن أسلوب الناظر ذاك (وأسلوب عرض بشرى المُفْتَرَض لك) لم يكن هو الذي صَنَعَ، خَلَقَ، أَلَّفَ تلك القِصَّة في المقام الأول، كما تعطي الانطباع بذلك الجملة الأخيرة في الفقرة المعنية من رسالتك الحميمة والصميمة أيها الصديق العزيز خلف.
أمَّا مَادَّة القواعد/النحو فهي، بالنسبة إليَّ، أقل وطأةً بكثير. وسبب هذا، على الأرجح، هو اعتمادها البديهي – سواء من أجل التوضيح أو الترسيخ أو الاختبار – على إيراد نماذج أو فقرات، غالباً قصيرة، من سردياتٍ أو أبياتٍ من الشعر: (مثلاً: "عَيِّنْ الجُمْلَة الاسمية أو الجُمْلَة الفعلية أو جُمْلَة الشَّرْط أو جَوَاب الشَّرْط أو الحَال أو ظَرْف المكان أو ظَرْف الزمان أو: أَعْرِبْ ما تحته خط، في هذه الفقرة أو في الأبيات الشعرية التالية"). بهذا المعنى، فأنا أعتقد أن مادة القواعد/النحو لا تتمتع، في حدِّ ذاتها، ببنية سردية، لكنها تلجأ للسرد (والشعر) كوسيلةٍ للإيضاح، للترسيخ وللاختبار. طبعاً هذا يختلف عن تَتَبُّعِنا لقصَّة أو رحلة "عِلْم القواعد"، التي لا أشك في أنه قد ساهم في صياغته أو تكَبُّدِ مشاقه أو إرساء أسسه أو بلورة معالمه عُلمَاء نحوٍ وصرفٍ حُذَّاق. لقد استمتعتُ – على عكس ما كان يعتريني في بعض حِصَصِه (في مَادَّة القواعد، فقط) – بحكايةٍ (أسطورةٍ؟) سردها علينا، نحن تلاميذه، أُستَاذٌ كان مُحَبَّبَاً عندي عن أعرابيٍّ (عالمٍ نحويٍّ؟) قديم لم يكن يرتاح لِلْغين المُسَكَّنَة (غْ) التي تَصْدُرُ – عادةً – عن طائر الغُرَاب حين يصَوِّتُ: غَاغْ؛ فجرى يلاحق غُرَاباً يصَوِّتها على هذا النحو وهو لا يفتأ يطالبه، على نحو مُتَكَرِّرٍ، عبر الصياح فيه: "ياغُرَابُ قُلْ: غَاغُ" (بضمِّ الغين الأخيرة)، فلم يُبْصِر حفرةً على الأرض، لأنه كان يعدو وعينيه تتابعان الغراب في الفضاء، فوقع في الحفرة وكسر، من جراء ذلك، إحدى ساقيه!) كما إن حكاية أو مسيرة أو ملحمة أيِّ عِلْمٍ (ناهيك عن قصَّة أو سيرة أو ملحمة أيِّ فَنٍّ) ساهم في ميلاده أو صياغته أو تكَبُّدِ مشاقه أو إرساء أسسه أو بلورة معالمه علماءُ حُذَّاقٌ يثيرون ماهو أبعد من التقدير، الإعجاب والإجلال، اُسْتُشْهِدَ بعضٌ منهم، و تَعَرَّضَ بعضٌ آخرُ منهم لصُنُوفٍ شَتَّى من المكابدات، بل والتعذيب، كما تخبرنا بذلك حياتنا، هذه التي تدين أوجهٌ – رئيسةٌ مُتَعَدِّدَةٌ – من أوجه ملحمة احتمالها، تَطَوُّرِها ووسامة أمسها، يومها وغدها لهم.




***


تَذْييلٌ خَاطِرِيٌّ: فقرةٌ من قِصَّةٍ قصيرة كتَبْتُها عام 1984 بعنوان: صُوَرٌ زِنْكُوغْرَافِيَّة ليَومٍ عَادِي:


انْحَنَى، بزاويةٍ حَادَّة، نحو الأرض. جَهِدَتْ يده اليمني، في محاولةٍ جادةٍ لالتقاط كتاب من وسط الكتب التي كانت تَفْتَرِشُ الأرضَ بطريقةٍ حاول فارشها أن تبدو، قدر الإمكان، مُتَّسِقَة.
(............................)
حينما كادت اليد اليمنى تلامِسُ الكتاب، امتَدَّتْ ثلاثة من أصابعها بالانكماش نحو الراحة. وبينما أفلح الإبهام والسَّبَّابَة في التقاطه، تَحَوَّلتْ الزاوية الحَادَّة إلى زاويةٍ منفرجة، فإلى وضعٍ طبيعي.



***

صديقي خلف،

كَمْ أُحِبُّنَا!


عادل القَصَّاص
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 10:17 am، تم التعديل 15 مرة في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وثَمَّةُ هذا التعقيب، الحميم أيضاً، من محمد خلف:



إلى إبراهيم جعفر وكلِّ من تقاسموا معي الفضاء الداخلي لإلفةِ البيوت

عزيزي إبراهيم

أرجو أن تسمح لي باعتبارِ هذا القسم الأول من الردِّ على تساؤلك بمثابةِ ردٍّ على عددٍ من الإخوة والأصدقاء الذين علَّقوا على رسالتي إلى عادل القصَّاص فور ظهورها على موقع "سودانفورول"؛ فقد لاحظت أن كلَّ مَنْ سَارَعَ إلى التفاعلِ معها لحظةَ نشرِها، تربِطُني به -بصورةٍ أو بأخرى- وشيجةً حميمة تتعلَّق بفضاءِ البيت وإلفته، أو بدرجةٍ أخص بفضاءِ الغرفة ورائحتها الأليفة. ففي بيت حي الزهور، تقاسمت غرفةً مع عبد الله عبدالوهاب، وبشير سهل، وعبد المنعم رحمة، وجعفر التجاني، كما تقاسمت فضاء البيتِ العامرِ دوماً معك؛ ذلك البيت الذي كانت تعمُر أماسيه نقاشاتٌ أدبية وفكرية لا تُنسى، اشترك فيها عددٌ من الأسماء المعروفة، من بينهم: عبد القدوس الخاتم، والراحل عبد الواحد كمبال، والراحل سامي سالم، وعبد القادر محمد إبراهيم. وفي الفتيحاب، تقاسمت الغرفة مع علي بابكر؛ وكان يعمُرها بشكلٍ دائم أو شبه دائم كلٌّ من محمد مدني، وعادل عبد الرحمن، وأسامة الخوَّاض، وعبد اللطيف علي الفكي، وعمَّار محمود الشيخ، والسر السيِّد، وخالد عبد الله، وحسن كفاح؛ كما كانت تُقام في الفضاءِ المعروشِ خارجها ندوة الفتيحاب، التي شرَّفها المفكِّر حيدر إبراهيم علي، والحاج وراق، والماحي علي الماحي، وعبد المنعم رحمة، ومحمد عبد الحميد، ومحمد بيرق حسين، والراحل خلف الله حسن فضل، وأبوبكر الأمين، وجمال الزبير وأحمد الفكي. وفي السجَّانة، تقاسمتُ المنزل العامر مع الصديق العزيز إبراهيم بحيري، بصحبة عبد المنعم رحمة؛ وكان البيتُ لا يخلو من الصحاب، من أمثال أسامة الخوَّاض، وعبد اللطيف علي الفكي؛ وكانت زوجته الراحلة إيڤا تحتملنا بصبرٍ ومحبَّة، وتراقبنا –وعلى مقربةٍ منها ابنهما باسل- بدهشةٍ واستغرابٍ أوروبي من نمطِ حياتِنا العجيب. وفي كلٍّ من امتداد شمبات والصافية، تقاسمتُ البيتين مع عبد المنعم رحمة، الذي استضاف بِنُبْلٍ ومحبَّة عدداً لا يُستهان به من الكتَّاب؛ من ضمنهم، محمد مدني وعادل عبد الرحمن، وعمَّار محمود الشيخ، وشخصي؛ وكان البيتُ لا يخلو من حَمَلَةِ القلم؛ من بينهم، الشاعر الصديق محمد طه القدَّال، والصديق الراحل تاج السر سليمان (أبو السُرَّة)، وأسامة الخواض، وعبد اللطيف علي الفكي، والسر السيِّد. وفي الحارة الحادية والعشرين، تقاسمت البيت الواسع مع الصديق العزيز مسعود محمد علي، بصحبة عبد الله عبد الوهاب، وكان يؤنسنا أحياناً محمد جلال هاشم بتحمُّسه وتحليلاته الثقافية المُستحدثة حول موضوع الهويَّة. أما في حي الكراكسة، فقد نشأتُ وترعرعتُ إلى جانب أخي بابكر، ثم انتقلنا إلى الثورة، ترعانا أمٌّ فاضلة، ويكفلُنا خالٌ شهم، لولاه لما أكملتُ، بفضلِ الله، تعليماً؛ ولما نجحتُ، بصُحبَةِ إخوتي، في معركة البقاء اليومية على قيدِ الحياة؛ ناهيك عن أن أصبح كاتباً صاحبَ رسالةٍ لم أستبنْ إلى الآن كافَّةِ جوانبها. أما سميِّ محمد خلف الله سليمان، فعلى الرغم من أننا لم نتقاسم سكناً واحداً، إلا أننا أقمنا تحت اسمٍ واحدٍ، وتَشَارَكْنَا، بسببِ الخلطِ في الاسمين، أفضالَ بعضِنا، مثلما تحمَّلنا نصيباً من الأخطاء التي يرتكبها بعضُنا البعض على طولِ طريقِ الإنتاج الكتابي.
من يعرفونني عن قرب، يدركون أنني كثيرُ الكلام، قليلُ الكتابة؛ وأحاول منذ مدَّةٍ أن أعكس هذا الاتجاه، ولربما تكون رسالتي إلى عادل القصَّاص تدشيناً لهذا المنحى الجديد. لكنني، على أيِّ حالٍ، لم أستغرب تلهُّفَهم بالتعقيب، وكأنهم قد لمِسوا بحدسِهم التلقائيِّ إرهاصاً جديداً لهذا الاتجاه. إلا أن وشيجة الإلفة الناتجة بسببٍ من فضاء المنزل وشعريَّة المكان، بتعبير الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، إضافةً إلى المورِّثات الجينية والتحام الاسم بالاسم، هي التي سرَّعت بهذه الحدوس، فسَارَعوا بنشرِ تعقيباتهم على موقع "سودانفورول". ولو كنت مُلِمَّاً بالبعدِ الاجتماعيِّ الراسخ لأركانِ النقاش بالمواقع المختلفة داخل الشبكة، لرددتُ على كلِّ واحدٍ منهم فرداً فرداً، ولكن اللهَ أراد من وراءِ ذلك خيراً، فقد سخَّر لي سياقاً يمكنني من الردِّ عليهم جميعاً بنبرةٍ واحدة، ونَفَسٍ واحد.
وبالرغم من أن دفء المكان وحميميته يولِّد الإلفة والشعور بالأمان، إلا أنه يولِّد أحياناً الاحتكاك والشعور بالضيق، لكن اللهَ قد كرَّمني بأن أسمعني شهادةً من العديد من الذين تشاركت معهم رُوْحَ المكان، بأن الأيام التي قضيتها معهم تُعدُّ من أفضل أيام حياتهم، أو بحسب تعبير بحيري، من أثرى أيام حياتهم؛ وها هو الصديق التشكيلي ابن أمي الثالثة حاجَّة آمنة بنت همرور، عبد الله محمد الطيِّب، يسأل بتلهُّف، عبر محادثةٍ هاتفية مع عثمان حامد، عن فترة بري، التي لم تكن لتغيبَ عن الرسالة لولا غيابُ السياق الذي أُوْقِفَ بشكلٍ شبه حصريٍّ على القصَّاصين؛ وهي فترةٌ تزدهي بالفنانين على مختلفِ ضروبِهم، إذ كان على رأسِها عبد الله نفسُه؛ وشقيقته المسرحية والمخرجة التلفزيونية القديرة مريم محمد الطيِّب؛ وزوجها في ذلك الوقت ووالد بنتيها سالي وعزَّة، المسرحي والشاعر الغنائي المبدع خطَّاب حسن أحمد؛ والفنان الراحل عبد العزيز العميري الذي كان يعطِّر أجواء البيت بنكاته وأغانيه الصدَّاحة، بصحبة المبدع عازف العود الماهر مهلَّب علي مالك، الذي كان يتبادل الغناء مع عميري، ويتبارى معه في صنع القفشاتِ والنكاتِ البارعة؛ كما كان المكانُ يتعطَّر أحياناً بأريجٍ من نفحاتِ المقداد شيخ الدين، المذيعِ التلفزيونيِّ لاحقاً، وشقيقته تماضر التي لا يُباريها أحدٌ في التمثيل المُرتجل، وصنعِ النكات اللطيفة والمواقف الكوميدية بشكلٍ فوريٍّ وتلقائي.
أما بخصوص سؤالك الأساسي، يا إبراهيم، بشأنِ الصلة، على مستوى الفلسفة وليس على مستوى العلم الطبيعي، ما بين نظرية "الانفجار العظيم" ونظرية "الخلق المستمر" عند الأشاعرة، فقد نبَّهني الدكتور الراحل محمد عابد الجابري، في أكثر من موضعٍ بكتاباته الفلسفية، بعدم الانزلاق في مشكلات الماضي أو الانخراط في صراعاته؛ هذا لا يعني، بالطبع، عدم تناولها كمادَّةٍ أكاديمية في مؤتمرٍ بحثي أو فصلٍ دراسي. إلا أنني اهتممتُ أيضاً بقوله بأن الفلسفة العربية كانت توظيفاً للفكر اليوناني في مجال الدولة العربية الناشئة. فاستخلصتُ بدوري بأنه ما دام أن علم الكلام قد تأثَّر بالفلسفة العربية وترسَّم خطاها في طريقة طرح القضايا وتناولها بالتحليل، وبما أن الفلسفة اليونانية كانت شاملةً لكلِّ العلوم المُتعارف عليها اليوم، فإن علم الكلام لم يواجه علوماً منفصلةً عن رحمها الفلسفي، كما لم يواجه فلسفةً خاليةً من مصادراتِ العلوم الطبيعية، مما أنتج خلطاً لا جدوى من إعادةِ إنتاجه.
وإذا أضفنا إلى ذلك، القولَ بأن العلوم الطبيعية قد استقلَّت، وشبَّت عن الطوقِ الفلسفي، إلى درجةٍ وصلت معها إلينا صيحاتٌ صادرةٌ عن عددٍ من العلماء الأفذاذ، على رأسهم إستيفن هوكينز، بأن الفلسفة قد ماتت، فإن من الحكمة بمكان، تناول القضايا الدينية بإزاء العلوم الطبيعية بمعزلٍ عن الفلسفة، مع تجاهل تلك الصيحات غير المُستنيرة التي تظنُّ شططاً بأن الفلسفة قد نفقت؛ وبنفس المستوى، فإن من الحكمة تناولها (أي القضايا الدينية) بإزاء الفلسفة وقد تبرأتْ من الشحناتِ الأيديولوجية والنظرياتِ العلمية التي أكل عليها الدهرُ وشرِب، والتي سبَّبت في السابق كثيراً من المتاعب للمشتغلين بالفلسفة وعلم الكلام، وعلى رأسهم أبو حامد الغزالي، الذين رأوا فيها، بوضعها الهجينِ ذاك، تهديداً للدين.
بالطبع، يمكنك يا صديقي، إنْ وجدت ما يربط بين نظرية "الانفجار العظيم" و"الخلق المستمر" أن تُضيئَها لنا نحن جمهرة القرَّاء المتابعين لاستبصاراتِك الفلسفية، ولكنني أُنبهكَ مقدَّماً بما استفدته من تحفُّظ الجابري، ولا أتمنى لك أن تسقط في وهدة الانجرار إلى صراعات الماضي؛ فأمامنا القرآن، وفيه قولُ الحقِّ؛ وأمامنا العلوم الطبيعية والاجتماعية، وبها المناهج التي تنتج الحقيقة بدرجاتها وتشكُّلاتها المختلفة؛ وأمامنا أخيراً الفلسفة، بما فيها صناعة المنطق، فعن طريقِها يتمُّ صقلُ المناهجِ التي تنتج بدورِها الحقيقة بدرجاتِها المعرفية المتنوِّعة.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 10:21 am، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

ثُمَّ هذه رسالةٌ حميمةٌ أخرى يوجِّهها محمد خلف إلى منصور المفتاح:



عزيزي منصور

فيما يلي:
تعريفٌ موجز وكلماتُ وفاءٍ قليلةِ العدد جليلةِ الشأن في حقِّ الأمهاتِ الأربع
سبق أن وعدت بإعدادِه لكَ، ولصالحِ قُرَّاءِ رسالتي إلى القاصِّ المبدع عادل القصَّاص

ولو كان لي، عزيزي منصور، نصيبٌ من فصاحتك، وسلاسة عبارتك، و"خفَّة دم" كلماتك؛ لكنْتُ ضمَّخْتُ دعواتي إلى أمهاتي الأربع بعطرِ الورد، ولمَزَجْتُ عباراتي بطعمِ الكمثرى ونكهةِ القرنفُل. إلا أن طبيعة التعريف المقتضب تقتضي تقليصاً لمساحةِ الفقرات، مما يستتبعُ حَجْراً محلياً على حرية الاستطراد، وتكبيلاً مؤقتاً لتقنياتِ الكتابة؛ هذا فيما تتزاحمُ المعلوماتُ الواردة لِتشغلَ مكانها الطبيعي ضمن سياق التعريف الموجز.
فأرجو أن تفسحَ للعباراتِ التالية حيِّزاً يليقُ بوالدة المُحتفى به حتى تشغلَ كلماتُها صدارةَ الفقرةِ الأولى:
حاجَّة صفية الثانية: هي صفية بنت السيِّد محمود بن السيِّد حامد بن الخليفة محمد شريف (ابن عم الإمام المهدي وخليفته الثاني، بعد التعايشي) الذي قتلته قواتُ كتشنر في قرية الشكابة، التي سُمِّيت باسمه (الشكابة شريف)، والدة المُحتفى به عادل حسن محمد (الشهير بـعادل القصَّاص)؛ وهي أيضاً أمي الرابعة: ورثت ’حرارة‘ القلب من مُناصري الثورة المهدية، فوظَّفتها في الدفاع عن المُستضعفين، وتحمَّلت بما تبقَّى لها من طاقةٍ روحية وقوَّةِ دفعٍ عارمة أصدقاءَ ابنِها عادل المُبعدين عن الخدمة، مهما كثُر عددُهم، أو طال زمانُ تشرُّدِهم في البلاد.
حاجَّة آمنة: هي آمنة بنت عثمان همرور، والدة المخرجة التلفزيونية والممثلة المسرحية مريم بنت آمنة بنت همرور (الشهيرة بـمريم محمد الطيِّب)، وخالة المعلِّمة الرائعة والممثلة المسرحية القديرة تماضر بنت علوية بنت همرور (الشهيرة بتماضر شيخ الدين)؛ وهي أيضاً أمي الثالثة: استطاعت بحنكتها، وبراعتها التلقائية الآسِرة، أن تتحاورَ على قَدَمِ المساواة مع أبنائها المتعلِّمين رفيعي الثقافة، وبناتها المتعلِّماتِ رفيعاتِ الثقافة، وكانت تبُزُّهُم في كثيرٍ من الأحيان، خصوصاً حينما يتعلَّق الأمرُ بالبعدِ الاجتماعيِّ للحياة والترتيباتِ المعيشيةِ اليومية.
حاجَّة صفية الأولى: هي صفية بنت بدوي سليمان كركساوي، والدة النصري أمين علي النصري، الرجلِ الصالح الذي يسعى بين أيديكم في ولاية ألبرتا الكندية (الشهير بجدو)؛ وهي أيضاً أمي الثانية: أنجبت أحدَ عشرَ كَوْكَبَاً وكَوْكَبَة (هذا غير الراحلتين شادية وسامية، أسكنهما الله فسيحَ جنانه)، وتحمَّلت بجدارةٍ أعباءَ تربيتهم، بمعاونةِ أبٍ فاضل، فلم يُحوِجاهم إلى شيء، حتى ليحارَ المرءُ كيف صاروا يستأنفون مسيرة الحياةِ العاديةِ بدونهما.
حاجَّة منى: هي منى بنت مكي حسن حمد، والدة أخي الشاعر أبي بكر (الشهير ببابكر الوسيلة سر الختم)؛ وهي أيضاً أمي الأولى: أوقفت حياتها على تربيةِ أبناءٍ وبناتٍ خلَّفهما لها زوجانِ رائعانِ (طيَّب الله ثراهما)؛ إلا أنها سعت، علاوةً على ذلك، ضمن علاقاتٍ أسرية واسعة وممتدة، إلى ملازمةِ المرضى ووصلِ الرحم، وبثِّ روح المرح في بيوتِ الأفراح والمناسبات الاجتماعية السعيدة، كما لم تتوانَ لحظةً عن مواساةِ المكلومين حين يفاجئهم موتٌ خاطفٌ بقدومٍ لا مفرَّ من حدوثه.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 10:24 am، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
أضف رد جديد