Story Lesson أو الحِصَّة قِصَّة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »


كلُّ قطرةِ دمٍ أحمرَ قانٍ وأنتم بخيرٍ، وأحسنُ ممَّا كنتم عليهِ قبل بدءِ الحَراك


زمانُ الثَّوراتِ زمنٌ نوعيٌّ، لا "يُقاسُ فيه الوقتُ بملاعقِ القهوةِ" الصَّغيرة (في إشارةٍ إلى قصيدة "أغنية حبِّ جي ألفريد بروفروك" للشَّاعرِ الأمريكيِّ-البريطاني، تي إس إليوت)؛ ولا تَرَدُّدَ فيه يُقعِدُ بأميرٍ عن تنفيذِ واجبِه المقدَّس (في إشارةٍ إلى تَرَدُّدِ "هاملت" أميرِ الدنمارك في الأخذِ بثأرِ أبيه). وكذلك مكانُ الثَّوراتِ، فهو أيضاً نوعيٌّ، يزدحمُ فضاؤه بألقٍ نوراني، ولا تتشابهُ شوارعُهُ أو تتابعُ في جدلٍ مُمِل؛ ففي ساحةِ الاعتصام، يُبَشِّرُ "شَفَّاتَةٌ" بالوعي بشكلٍ غير منقطع، ولا تُعَكِّرُ أيُّ كنداكةٍ" أجواءَ السَّاحةِ بـ"القطيعةِ" (أو النَّميمةِ) أو الحديثِ المتهافتِ عن مايكل أنجلو.

كان الزَّمانُ عند أرسطو، مثل زمنِ الحبُّوبات، نسبيَّاً وحميميَّاً، يُقاسُ بالفعلِ الإنسانيِّ وتتابعِ الأحداثِ الجِسام، ولا يُذكَرُ منه إلَّا "سنةْ حفروا البحرْ"، وعام الفيضان، وعرس السُّرَّة بت حاج أحمد، ويومْ كتلوا التِّمساحْ، وسنةْ ستَّةْ الشَّهيرة؛ إلى أن جاء نيوتن، فأقصى الزَّمانَ خارجَ نسبيَّتِه وحميميَّتِه المُحبَّبة، وأقامَهُ على قاعدةٍ رياضيةٍ صلبة، تتمَدَّدُ خارجَ حدودِ حركةِ الأشياء وأنشطةِ الفعلِ الإنساني؛ فأصبح الوقتُ يُضبَطُ بالسَّاعاتِ السِّويسريَّة وتُقاسُ به حركةُ الأجرامِ السَّماويَّة، بعد أن كان يُحَدَّدُ بالمآتمِ والأعراسِ والأحداثِ الاجتماعيَّةِ الجسيمة. إلَّا أنَّ قدرَ آينشتاين كان هو أن يُعيدَ للزَّمانِ نسبيَّتَه، من غيرِ أن يُهدِرَ دورَهُ في قياسِ الحركةِ على المستوى المحلِّي، الذي يتحَدَّدُ بمعدَّلاتِ سرعتِها، قياساً على سرعةِ الضَّوء.

وكذلك كان المكانُ عند أرسطو مُعَطَّراً بأريجِهِ وعبقِ رائحته أو مُحَمَّلاً ومُترَعاً، كما يرى غاستون باشلار، بجماليَّاتِهِ، فيستقرُّ في ذاكرتِنا بيتُ الطُّفولة، وساحةُ الرَّوضة، وملعبُ المدرسة، ورائحةُ "مسز روبنسون" (في إشارةٍ إلى "قاهرةِ المُعِزِّ" في ذاكرةِ مصطفى سعيد، وهو واحدٌ من أبطالِ رواية "موسم الهجرة إلى الشَّمال")؛ إلى أن جاء نيوتن، فأقصى المكانَ خارجَ نسبيَّته وحميميَّته المُحَبَّبة، وأقامَهُ على قاعدةٍ رياضيَّةٍ صلبة، تسمحُ بهندستِهِ وقياسِهِ خارج حدود حركةِ الأشياء وأنشطةِ الفعلِ الإنساني؛ فأصبح المكانُ يُقاسُ بالأمتارِ والسِّنتمتراتِ والملِّمترات، وتُحدَّدُ زواياه بحسابِ المثَّلثات، وتتجلَّى حركيَّةُ رقعتِه بحسابِ التَّفاضلِ والتَّكامل، بعد أن كان يُحَدَّدُ بانبساطِ السَّهلِ وارتفاعِ الجبل، وبتلوِّي النَّهرِ كالثُّعبانِ، وبظلالِ النَّخلِ على الجدول. إلَّا أنَّ قدرَ آينشتاين كان هو أن يُعيدَ للمكانِ نسبيَّتَه، من غيرِ أن يُهدِرَ دورَه في قياسِ أبعادِ الكواكب والنُّجوم والمجرَّاتِ أو يُسقِطَ إمكانيَّة التَّنبؤ لاحقاً بتمَدُّدِ الكون أو اكتشافِ ثقوبِهِ السَّوداء.

على أنَّ قدرَنا، منذ أوَّلِ أيَّامِ هذا العيدِ "الحزينِ" بشكلٍ استثنائي، وفي أعقابِ هذا الشَّهرِ الفضيلِ على الدَّوام، ألَّا ننسى على الإطلاق زمانَ هذا الاعتصام أو مكانَه؛ فقد تعلَّمنا فيه بأضعافٍ مُضاعَفَة، وبوتيرةٍ تفوقُ سرعةَ الضَّوء؛ وانكشف لنا الغطاءُ، وأُزيحَ عنَّا الغموضُ بشأنِ الظِّلال؛ وتسارعَ بيننا انتشارُ الوعي، وتعمَّقت لدينا وشائجُ وارتباطاتٌ لم تكن أوَّلَ مرَّةٍ مرئيَّة. فمن ينسى عباراتٍ مثل "أرفعْ يدَّكْ فوقْ التَّفتيش بالذُّوقْ"، أو "لو عندك، خُتْ؛ لو ما عندك، شِيلْ"؛ وأيُّ ثِقَلٍ دَلاليًّ تحمله عبارة "يا عنصري ومغرورْ؛ كلَّ البلدْ دارفورْ"؛ وأيُّ مجدٍ سماويٍّ يُشيرُ إليهِ رفعُ الأقباطِ المسيحيين للسُّرادق، حتَّى يؤدِّي المسلمون على الأرضِ صلواتِهم في سلام". وفي ساحةِ الاعتصام، مارسنا الدِّيمقراطيَّة بأصلِها الإغريقيِّ القديم، قبل أن تتحوَّلَ في بعضِ النَّماذجِ المعاصرة إلى مَسخٍ نيابيٍّ مُشوَّه؛ وأحيينا فكرةَ المولدِ النَّبويِّ الشَّريف، وأعِدنا إنتاجَ خِيَمِهِ، وعمرنا ساحتَه بالحوارِ والمخاطباتِ المتلاحقة؛ وأقَمنا صلواتِنا وأكملنا صيامَنا وقيامَنا؛ كما ارتفعت عقيرتُنا بالغناءِ والأناشيدِ الحماسيَّة؛ وكلَّلنا السَّاحةَ بالجلالاتِ، وزغاريدِ الكنداكاتِ، واللَّايفاتِ المنقولةِ والمحضورة؛ وزيَّنَّا الجدرانَ بالرُّسوماتِ؛ وأمَّنَّا المداخلَ بالمتاريسِ والحُرَّاسِ الظُّرفاء.

ملأنا السَّاحةَ شيباً وشباباً، نساءً ورجالاً؛ وعندما امتدَّت إلينا خِلسةً يدُ الغدرِ فجراً وفجوراً، تساقطنا موتًى وجرحى؛ لكنَّنا لن ننسى طيلةَ العُمُرِ فضاءَ السَّاحةِ أو فيضَ أوانِها، فقد تعلَّمنا فيها قيمةَ التَّكاتف، ونبذنا لديها سياساتِ التَّشتُّت؛ وحفرنا فيها على جباهِنا شعاراتِ الحُكمِ المدنيِّ المُقبِل، وهتفنا ملءَ صدورِنا وحناجرِنا: "مدنيَّاااااااااو".

"ستظلُّ وقفتُنا"، كما كانت منذ ثورة أكتوبر المجيدة، "بخطِّ النَّارِ رائعةً طويلة"؛ إلَّا أنَّ كلَّ قطرةِ دمٍ تُسفَكُ، فهي غاليةٌ علينا، لكنَّها مع ذلك إشارةٌ دالَّة على أنَّنا بخير، وأحسنُ ممَّا كنَّا عليه قبل بَدءِ الحَراك؛ فكلُّ عامٍ وأنتم بخير، وتُصبِحونَ على وطن؛ فبالفعلِ الآنَ، "الحصَّة وطن"، وإنْ سَرَدنا تفاصيلَها للأجيالِ المُتعاقِبة في شكلِ قصَّةٍ، يُستحصَلُ منها الدُّروسُ ويُؤخَذُ منها العِبَر.

محمد خلف
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

نعم، إنّ الدرس والقص والفن والتراث والتشكيل والقيم والعادات الحميدة ما هى غير الوطن الذى يسكننا ونسكنه ولا فكاك لنا منه ولا
فكاك له منا، بل الحجل فى والرجل ويا حبيبى سوقنى معاك. إنه ذات ما قاله إليوت عن الزمان فيه وفى أوقات ثوراته وقياسها وقياس
الحراك الثورى والمد الشعبى بما أبدى من بداعةٍ وما وهب من جمالٍ وما أعطى من نوادرٍ وما قرب من المتباعد وأبعد كل مختلف
عليه وعمق إستغراق الكل فى صناعة الحلم المستحيل، والكنداكات فيه أكثر حزماَ وعزماً وإراده قتلنا الفراغ وأسقطنا كل فارغ مبغض من
ثرثرة وقطيعه وقطعن العهد بأن الوقت للنضال وبناء الوطن الحلم بلا نواقص ولا مثالب وما قاله أرسطو وقربته يا خلف بقول الحبوبات
فى نسبية الزمان والمكان وما أرسخ قولهن!! وما أروع تواريخهن المرتبطه بالأحداث الكبيرة كزمن الكتله والفيضان والترماج إلى أن
جاء نيوتن وأزاح النسبيه وأسس الثوابت الرياضية تلك والأساليب الهندسيه الدقيقه وأسس للعمران الذى نراه
وما رأيناه فى مكان الإعتصام الذى تهندست فيه المآوى خياماً وغيرها وتوزعت سوح الخدمات والطبيخ والصلاة وتعمقت فيه الصلات الإنسانيه
الراقيه بين ألوان الطيف السودانى الحضرى والريفى والبدوى، المحلى والأقاليمى وأفرز كل ذلك أنواعاُ من الأدب البديع والفن الأصيل رسماً
وتصميما وخطوط وكان للغناء نكهةً وللموسيقى مكاناً فى القلب تسليه حتى تفجرت حمم القهر والظلم وفاضت حمامات الدماء أنهراً وجدائل،
ستبقى منحوتةً فى الذاكرة ما بقينا أبداً فلا الزمان زمان قتل ولا المكان مكان إباده والناس محتمية بالقيادة العامة للقوات المسلحه حامية الحمى
وحاقنة الدماء وحافظة الأمن ولكنه أصبح المكان الغلط والزمان الذى هو خواتيم رمضان وفجر العيد بدلاً أن يتسربل بالفرح لبس الناس الأسود حداداً
على الفقد العظيم فقط ليتسيد بعض البلهاء سدة الحكم الذى ما
كان لهم أن يحلمون به لولا ذلك الحراك المشهود.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »


موظِّفاً "سايكوباثولوجيا الحياة اليوميَّة" لفرويد، محمد خلف يتأمَّل في المُصرَّح وغير المُصرَّح به كما ورد في المؤتمر الصحفي الأخير للمجلس العسكري الانتقالي:






سايكوباثولوجيا الحياة اليوميَّة للمُتشبِّثينَ بالحُكم: جرجرةٌ وهفواتٌ وزلَّاتُ لسانٍ مُجَلجِلة:

إذا اعترفتم بالجُرمِ أمام القضاء، حسبما يُمليه ضميرٌ اِستيقظَ بغتةً، فبِها؛ وإلَّا، فسوف يُلاحِقكم العقلُ اللَّاواعي، بإملاءاتِه اللَّاإراديَّة، على رؤوسِ الأشهاد






بدأ القرنُ العشرون بدايةً مُبشِّرةً بتطويرٍ حاسمٍ لعلمِ الفيزياء؛ ففي عام ١٩٠٥ - "عام المعجزات" (أنَس ميرابيلِس) - نشرت مجلَّة "حوليَّات الفيزياء" أربعَ أوراقٍ من إعداد عالم الفيزياء الألمانيِّ الأشهر، ألبرت آينشتاين؛ من بينها الورقة التي صاغ ضمنها ما بات يُعرَفُ بـِ"النَّظريَّة النِّسبيَّة الخاصَّة"، التي لم تشمل تناولَ الجاذبيَّة. وفي عام ١٩١٥، تمكَّن آينشتاين من وضعِ "النَّظريَّة النِّسبيَّة العامَّة"، وصياغتِها رياضيَّاً في عام ١٩١٦، لِتشملَ الجاذبيَّة، وتتجاوزَ بذلك ما رَسَخَ في الأذهانِ بشأنِها على يدِ إسحق نيوتن؛ غير أنَّ إثباتَ تلك النَّظريَّة لم يتم إلَّا في عام ١٩١٩، في أعقاب الحرب العالميَّة الأولى، تحت إشراف ثلاثةِ علماءَ فلكيين، أشهرهم الفلكيُّ البريطاني آرثر إستانلي إدنجتون.
كان نيوتن يعلمُ أنَّ الضَّوءَ ينحني وينعطفُ عن مسارِه بالقرب من الأجرام السَّماويَّة الضَّخمة، كالنُّجوم على سبيل المثال، (ومن ضمنها شمسُنا المعروفة). إلَّا أنَّ آينشتاين قد تنبأَ بانحناءٍ مُضاعَفٍ للضَّوء، وأنَّ ذلك يحدُثُ - حسب نظريَّته - ليس بسبب الأجسام الضَّخمة، كما يبدو من أوَّلِ وهلة، وإنَّما بسبب انحناءِ البنيةِ المُدمَجةِ للزَّمانِ والمكانِ ذاتِها أو ما باتَ يُعرَفُ بالزَّمكان. ولم يكن من سبيلٍ إلى إثباتِ ذلك، إلَّا بحدوثِ كسوفٍ كُلِّيٍّ للشَّمس وفقَ ترتيبٍ فلكيٍّ مؤاتٍ؛ وهو ما تنبَّه له الفلكيُّ البريطانيُّ، فرانك واتسون دايسون، في حينه في عام ١٩١٦؛ وهو ما حدث بالفعل في عام ١٩١٩، وفق مسارٍ فلكيٍّ تمَّ رصدُه عبر كلٍّ من سوبرال، في شمال البرازيل؛ وبرنشيبي، قبالة ساحل غرب أفريقيا.
ففي ذلك العام، وأثناء ذلك الكسوف الكُلِّيِّ الشَّهير، كانتِ الشَّمسُ رابضةً في قُبالةِ القلائص “هايديز" (وهي عنقودٌ نجميٌّ مفتوح في كوكبةِ الثَّور، يقعُ على مسافةٍ قصيرة بالحسابِ الفلكي من الشَّمس، تبلغُ 153 سنةً ضوئيَّة)؛ وهو عنقودٌ يمتليءُ بالنُّجومِ المتباعِدةِ والشَّديدةِ اللَّمعانِ والبريق، ممَّا يُسَهِّلُ عمليَّة تصويرِ اِنحناءِ ضوئها وتسجيلِها في شرائحَ فوتوغرافيَّة، تمهيداً لحسابِ درجةِ الانحناء؛ وكلُّما كثُرت النُّجوم الشَّديدةُ اللَّمعان، كلُّما زادتِ العيناتُ، وارتفعت نسبة الدِّقة في الرَّصد والتَّسجيل، ومن ثمَّ الدِّقة في تقدير حجم الانحناء. وقد تبيَّن ممَّا تمَّ رصدُه في أفريقيا، وهو ما تمَّ تأكيده في كسوفاتٍ كليَّةٍ لاحقة، أنَّ درجة الانحناء هي ضِعفُ ما ذكره نيوتن، الأمر الذي أثبت صِحَّة تنبؤ آينشتاين؛ علاوةً على أنَّه رَسَّخَ شُهرتَه، بينما رأى فيها البعضُ فألاً حسناً، جاء في أعقابِ حربٍ مدمِّرة، لِيشهدَ على عهدِ تصالحٍ بين خصمينِ لدودين؛ فصاحبُ النَّظريَّةِ عالِمٌ ألماني، ومُثبِتُ النَّظريةِ فلكيٌّ بريطاني، كانت تدورُ بين بلديهما رُحى حربٍ لا تُبقِي ولا تذَر.
في عام ١٩٠١، كتب عالمٌ ذو صلةٍ بألمانيا كتابه الأكثر رَواجاً وشعبيَّةً؛ وهو كتاب "سايكوباثولوجيا الحياة اليوميَّة"، لمؤلِّفِه مؤسِّسِ التحليلِ النَّفسي، الطَّبيبِ النَّفسيِّ النِّمساوي، سيجموند فرويد. وتتلخَّص فكرة الكتاب في أنَّ نسيان الأسماء المعروفة، والكلماتِ الأجنبية، وترتيبِ المفردات في الجملة الواحدة؛ وهفوات التَّعبير الشَّفهي، وزلَّات اللِّسانِ والقلم، لا تتمُّ كلُّها بمحضِ الصُّدفة، وإنَّما يتحكَّمُ فيها منطقٌ صارم، يلعبُ فيه العقلُ اللَّاواعي دوراً حاسماً في إظهارِ ما ظلَّ مكبوتاً رَدَحاً من الوقت أو تمَّ إخفاؤه حديثاً خَشيةً من اِفتضاحِ أمرٍ جلل. إلَّا أنَّ نظريَّة فرويد في هذا الشأن لم تحظَّ بقبولٍ كاملٍ في أوساط المُشتغِلين بعلمِ النَّفس، واعتبرها البعضُ مجرد تكهُّناتٍ تفتقرُ إلى إثباتٍ علميٍّ - في تجربةٍ حاسمة - شبيهٍ بذلك التي لقيه تكهُّن آينشتاين بشأنِ اِنحناء الضَّوء، وإنْ لم يرقَ إلى مستواه في الأهميَّة العلميَّة.
نحنُ هنا لا نُقدِّمُ إثباتاً حاسماً لرأيِّ فرويد، ولكنَّنا نطرحُ سانحةً للتَّأمُّل؛ ففي المؤتمرِ الصَّحفيِّ، الذي عقده النَّاطقُ الرَّسميُّ باسمِ المجلسِ العسكريِّ الانتقالي، محاولةٌ افتراضيَّة للتَّستُّرِ على جريمةٍ نكراء، وسعيٌ مظنونٌ لتشتيتِ الأذهانِ بالجرجرةِ والمماطلةِ وإنفاق السَّاعاتِ الطِّوال في الحديث المُمِلِّ لإحباطِ الثُّوَّار وكسرِ عزيمتهم، والتَّشكيكِ في وحدتِهم، بغرضِ النَّيلِ من قيادتِهم والتفافِهم حولها، لتمهيدِ الطَّريقِ لبقائهم في السُّلطة، وتشبُّثِهم بالحُكم. كما أنَّ المؤتمرَ الصَّحفيَّ يُوفِّرُ فرصةً نادرة للحُكمِ على مرتكبي الجريمة، في ضوءِ ما أدلى به النَّاطقُ الرَّسمي، على مرأًى ومسمعٍ من الصَّحفيين ووكالاتِ الأنباء، وشاشاتِ التِّلفزيون المحلِّيَّة والإقليميَّة والعالمية؛ وعلى خلفيَّةِ ما طرحناه حول نظريَّة فرويد بشأنِ الأخطاءِ المُرتكَبة وزلَّاتِ اللِّسان.
لم يكن في الأمرِ زلَّةٌ واحدة، بل مهرجانٌ محضورٌ من الهفواتِ المُرتكَبة عن طريقِ اللِّسانِ والعلاماتِ غيرِ اللُّغوية؛ لكنَّنا سنُركِّزُ هنا على الأخطاء وزلَّاتِ اللِّسان، باعتبارِها ذاتَ صلةٍ بما أوردناه بشأنِ فرويد. ذكر النَّاطقُ الرَّسميُّ أنَّ المجلسَ العسكريَّ اجتمع وقرَّر فضَّ الاعتصام (بالرَّغم من أنَّه كان يرمي إلى إقناع المشاهدين والمستمعين بأنَّ المقصودَ من الفضِّ هو "منطقة كولمبيا"، مع ملاحظة أنَّه لجأ إلى ما يُسمَّى بلٌطفِ التعبير "يوفيميزم"، باستخدامِ كلمة "تنظيف"، التي لم تُفلِح في إزالةِ اللُّؤم عن فحوى كلامِه)؛ ولم يرعوِ النَّاطقُ في توريطِ كلِّ المتواطئين في ارتكابِ الجُرمِ المشهود، من رئيسِ المجلسِ إلى رئيسِ القضاء (الأمر الذي أسقط عنه أحقيَّة الاضطلاعِ بالتَّحقيقِ المطلوب مع المتَّهمينَ بارتكابِ الجريمةِ النَّكراء). كما أشار النَّاطقُ الرَّسميُّ إلى الضبَّاط الذين ساندوا الثَّوار ودافعَ عنهم، بالقولِ إنَّهم "تجاوزوا" (بالرَّغم من أنَّه كان يرمي إلى القول بأنَّهم "انحازوا").
من جانبٍ آخر، حَفِلَ كلامُ عضوٍ آخرَ بالمجلسِ العسكريِّ بالتَّهديد الصَّريح والمبطَّن، ولم يخلُ حديثُه أيضاً من الهفوات؛ وقال إنَّ السُّودان ليس هو فقط "قوى الحرِّيَّة والتَّغيير"، وليس هو "تجمُّع المِهننِّين"؛ فحزبُ الأمَّة والمؤتمر السُّوداني لديهم كوادرُ يُمكِنها تشكيل حكومةٍ انتقاليَّة؛ وبما أنَّ هذَيْنِ الحزبَيْن هما من ضمن "قوي الحرِّية والتَّغيير"، فهل يكشفُ هذا الخطأ دافعاً مُبَيَّتاً لشقِّ الصَّفِّ أم يُنبئُ عن مغازلةٍ لِخَصمِيْنِ معروفَيْن؛ أمِ الاثنينِ معاً. أمَّا إذا تركنا زلَّاتِ اللِّسان جانباً، واعتمدنا رواية النَّاطق الرَّسمي بالقولِ إنَّ المقصود من الفضِّ كان "منطقة كولومبيا" وإنَّ الغارةَ العسكرية تحوَّلت عن طريق الخطأ في تنفيذ التَّعليمات إلى حملةٍ غادرة على ساحة الاعتصام - إذا اعتمدنا هذه الرِّواية المهزوزة، فإنَّ ذلك لا يُخلِّصهم من الشَّرك الفرويدي الذي التفَّ حول أعناقهم بإحكامٍ شديد؛ فمؤسِّسُ التَّحليل النَّفسي، سيجموند فرويد، يري في نفسِ الكتاب المذكور أنَّ زلَّاتِ اللِّسانِ والقلم، إضافةً إلى الهفوات، والأعمال التي يتمُّ تنفيذُها عن طريق الخطأ، كلُّها توشي عن رغبةٍ دفينة في إخفاء الدَّوافع ووضعها تحت رادار العقل الواعي، إلَّا أنَّ العقل اللَّاواعي يكشف على الدَّوام عن الرَّغباتِ المكبوتة.
في الختام، يُمكِنُ القول: بما أنَّ عدداً من الزَّلَّاتِ والهفواتِ قد حدثت في مؤتمرٍ واحد، وأنَّ قفاها المُدَّعاةَ كان هو الآخرُ خطأً فظيعاً، ومراميه الدَّفينةُ أسوأ وأفظع، فلا مناصَ لهم من تحمُّلِ تبعاتِ ذلك الفعلِ الشَّنيع، ولا مكانَ هنا للمتشكِّكينَ في قولِ فرويد، فهُم مُدانونَ برأسِ قولِه وقفاه؛ فإذا اعترفتم بالجُرمِ أمام القضاء، حسبما يُمليه ضميرٌ اِستيقظَ بغتةً، فبِها؛ وإلَّا، فسوف يُلاحِقكم العقلُ اللَّاواعي، بإملاءاتِه اللَّاإراديَّة، على رؤوسِ الأشهاد.


محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

محمد خلف يغرِسُ علماَ في تلِّ جمهورية أعلى النَّفَق:





قمرٌ صغيرُ الحجمِ على ذُرى جبلٍ؛ و"جمهوريَّةٌ" فاضلةٌ بأعلى النَّفقِ في ساحةِ الاعتصام





للذِّهنِ البشريِّ قدرةٌ فذَّةٌ على الاستدلال، لا تكتفي فحسب بفحصِ محتوياتِ العقل، لاستكشافِ أساسِه المنطقي؛ أو تقتصرُ فقط على تحليل معطياتِ الحسِّ التي تضعُنا في قلبِ العالم، للنَّفاذِ عبرها إلى القوانينِ التي تنتظمُه؛ وإنَّما تسعى أيضاً إلى التَّدقيقِ في عباراتِ اللُّغة، لاستكناهِ أساسِها البلاغي، الذي يتجاوزُ التَّفسيرَ الحرفيَّ لدلالاتِها الظَّاهرة. ووفقاً لكلِّ ذلك، يستخدمُ العلماءُ والفلاسفة واللِّسانيونَ وسائلَ شتَّى، تغطِّي الأقانيمَ الثَّلاثة (وهي العالمُ والعقلُ واللُّغة)؛ وتشملُ، على سبيلِ المثال، التَّجربةُ الفكريَّة (غيدانكن-إكسبيريمينت)، والمفارقةُ المُوهِمَة (بارادوكس)، والمجازُ أو الكناية (ميتونيمي)؛ مُتتابعةً جميعَها (بداخلِ أقواسها) على التَّوالي.
فاعتماداً على التَّجربةِ الفكريَّة التي يكثُرُ استخدامُها في مجالِ العلوم الطَّبيعيٍّة، تَخيَّلَ إسحق نيوتن أنَّ للأرضِ - كما هو الحال مع كوكبِ المُشتَرِي (جوبيتر) - أقماراً عديدة، من بينها على وجهِ التَّحديدِ قمرٌ صغيرُ الحجمِ على علوٍّ منخفضٍ فوقَ تلٍّ أو جبل، يدورُ كما القمرُ الفعليُّ حول الأرض، لِيحسِبَ عن طريقِه عالمُ الفيزياءِ البريطانيُّ قوَّةَ الجاذبيِّة. وحسب قوانين كيبلر الخاصَّة بحركةِ الكواكب، يُوجدُ تناسبٌ ثابتٌ بين نصف قطر المدار ومدَّته أو فترته، حيثُ يتناسب مربَّعُ المدَّة مع مكعَّب نصف قطر المدار. وبما أنَّه قد تبيَّن لكيبلر صحَّة هذا التَّناسب، ليس فقط مع الكواكب التي تدورُ حول الشَّمس، وإنَّما أيضاً مع الأقمار التي تدورُ حول كوكب المشتري (وعددها ٧٩ قمراً، بعد إضافة ٢٦ قمراً لم يُطلق عليها اسمٌ رسميٌّ بعدُ)، فإنَّ هذا التَّناسب سيكونُ قائماً مع القمرِ الصَّغير الذي تخيَّله نيوتن في تلك التَّجربة الفكريَّة الافتراضيَّة.
وبما أنَّ نصف قطر مدار القمر معروفٌ سلفاً ومدَّته معروفةٌ أيضاً (وهي شهرٌ واحد)؛ وأنَّ نصف قطر مدار الأرض معروفٌ سلفاً هو الآخر، فقد توصَّل نيوتن - باستخدام التَّناسب الثَّابت - إلى حساب مدَّة دوران القمر الصَّغير حول مداره، فوجدها ساعة ونصف. وأخيراً، بما أنَّ حركة القمر الصَّغير حول مداره هي عبارة عن تسارعٍ، يقتضي تغيُّراً مستمرَّاً في الاتِّجاه، فإنَّ ذلك القمر سيكونُ مُتَّجِهاً في تسارعٍ مستمرٍّ نحو مركز الأرض؛ وعندما حَسَبَ نيوتن هذا التَّسارع، وجده مطابقاً لتسارع سقوط الأجسام على الأرض (وهو ٩.٨ متر في الثَّانية للثَّانية)؛ وهي نفسُ النتيجة التي توصَّل إليها من قبلُ غاليليو في تجربته الشَّهيرة؛ فاستخلصَ العالمُ البريطانيُّ من كلِّ ذلك قانون الجاذبيَّة الكونيَّة.
أمَّا الفيلسوف الإغريقي أفلاطون، فقد كان منشغلاً في محاوراته الخالدة بمعضلة كيفيَّة التَّوصُّل إلى معرفة الأشياء لأوَّلِ مرَّةٍ، في غيابِ مثالٍ سابق يُشيرُ إليها. وقد كان الحلُّ الذي توصَّل إليه هو وجودُ تلك الأشياء في صورتها المثاليَّة في عالم المُثُل (أو الأفكار)، وهي تلك الصُّور التي نسيها الإنسانُ عند مجيئه إلى العالم الحسِّي (المادِّي)، والتي سوف يظلُّ يستعيدُها رويداً رويداً عن طريق التَّذكُّر. وضَرَبَ أفلاطون لذلك مثلاً بالأشكال الهندسيٍّة البسيطة (مثل الدَّائرة والمثلَّث والمربَّع)، إذ لا توجد أشكالٌ مكتملة لها في الطَّبيعة (أي عالم المحسوسات)؛ كما ضَرَبَ مثلاً بالأشياء البسيطة، مثل المقعد والمنضدة والنَّافذة، التي يتمُّ تطوير أشكالها تباعاً، من غير أن نصِلَ أبداً إلى صورةٍ نهائيَّة نقول إنَّها هي الصُّورة التي تُطابقُ المثال، على الرَّغم من تعرُّفِنا عليها في المقامِ الأوَّل، حسب تصوُّر أفلاطون، في ضوء معرفتنا السَّابقة لصورِها الأولى في عالم المُثُل. إلَّا أنَّ ما كان يرمي إليه أفلاطون هو مثالاتٌ لمفاهيمَ كبرى، مثل الحقيقة والجمال والعدالة (وهو المفهوم الذي تناوله في محاورة "الجمهوريَّة" الشَّهيرة).
قد يختلفُ البعضُ مع رأي أفلاطون في تصوُّره لمنشأ تلك المفاهيم المذكورة، ولكنَّ قليلاً من النَّاس مَن يختلفُ معه حول مآلاتها ومنطق تطوُّرها؛ وهي كما نرى مثالاتٌ على شاكلةِ تلك التي يتطلَّعُ الآنَ إليها السُّودانيون في ثورتهم الجارية منذُ رَدَحٍ، وهي الحرِّية، والسَّلام، والعدالة؛ إضافةً إلى قيم الدِّيموقراطية والحكم المدني - عِلماً بأنَّ المنخرطين في الحَراكِ السُّوداني لم يلجأوا إلى الاطِّلاع على كتب النَّحو المدرسيَّة لصياغة مفاهيمهم اليوميَّة أو استشارة متون البلاغة الكلاسيكيَّة لاستكناه دلالاتها العميقة؛ وإنَّما شكَّلوا هندسة المكان بحسِّهم الثَّوريِّ التِّلقائي، وصاغوا بلاغته بارتجالِ هتافاتِه وأغانيه، فاحتشدت ساحة الاعتصام بكلِّ الرُّموز التي ترسِّخ المفاهيم الأساسيَّة للحَراكِ الجماهيريِّ السِّلمي.
ففي ساحةِ الاعتصام، يُرفرفُ علمُ البلادِ الخفَّاقُ على أعلى السَّاحة، وهناك تتراءى للحشدِ الهادرِ "جمهوريَّةُ" أعلى النَّفق؛ وفي فضاءِ السَّاحةِ، تتناثرُ منابرُ المخاطباتِ الجماهيريَّة، وسُرادِقاتُ الحوار، ومنصَّاتُ الغناء؛ كما تتكاثرُ "بروشُ" الصَّلاة، وخيامُ "الحرِّيَّة"؛ علاوةً على وفودِ التَّوافقِ الإثنيِّ، ومندوبي مبادراتِ "السَّلام". هذا فيما يُشيرُ التَّجاورُ اللَّصيقُ القائمُ بين ساحةِ الاعتصام ورئاسةِ القوَّات إلى تأكيدِ الإصرارِ على إنهاءِ حُكمِ العسكر وإحلالِ البديلِ المدنيِّ الديموقراطيِّ بوسائلَ سلميَّة، إضافةً إلى تذكيرِ القوَّاتِ العسكريَّة في عِقرِ دارِها ذاتِهِ بدورِها الدُّستوريِّ المُختصِّ بحمايةِ المدنيين؛ وهو الدَّورُ الذي تقاعست عنه "قوَّاتُ الشَّعبِ" بشكلٍ تراجيديٍّ في "ليلةِ الغدرِ"، عشيَّةَ عيدِ الفطر.
فمَن ينسى أيَّامَ الاعتصام التي انقضت 59 يوماً تِباعا؛ مَن ينسى شعاراتِ الشَّفَّاتةِ الشَّيِّقة؛ من ينسى أهازيجَ الباعةِ المُروِّجينَ لشُربِ الشَّاي، وتفتيشَ الفتيةِ لدى المداخلِ المُترَّسَة؛ مَن ينسى الجلالاتِ، وزغاريدَ الكنداكاتِ، والمسيراتِ اللَّيليَّة؛ مَن ينسى قطارَ عطبرة المُحتشدَ بالثُّوَّار، والموفورَ بالأمل؛ مَن ينسى مذاقَ الأطعمةِ التي كانت تُقدِّمُها نساءُ وادي هور؛ مَن ينسى فُرسانَ "اللَّايفاتِ"، ومقابلاتِ أجهزةِ الإعلام العالميَّةِ، وزُوَّارَ السَّاحةِ من سفراءِ الدُّولِ الأجنبيَّة؛ مَن ينسى ليالي رمضانَ، وساعاتِ السَّحورِ، وانتظارِ وقتِ الإفطارِ في ساحةِ الاعتصام. لن ينسى أحدٌ مِنَّا أيَّاً من تلك المشاهد الاستثنائيَّة، لكنَّ الواجبَ يُحتِّمُ علينا أن يُسجِّلَ كلُّ واحدٍ مِنَّا، بما توفَّر لديه من وسائلَ سمعيَّة وبصريَّة، أحداثَ تلك الأيَّامِ - إلينا، وإلى الأجيال المقبلة.
إلَّا أنَّ بلاغة المكان وأهميَّته التَّاريخيَّة لا يُمكنُ تمثُّلها بجهودٍ فرديَّة مُشتَّتة، بل يجدُرُ منذ الآن، جنباً إلى جنبِ مع كافَّةِ أشكالِ النِّضالِ السِّلميِّ الرَّاميةِ إلى استعادةِ الحُكمِ المدني، أن يشرعَ المهتمُّونَ في التَّفكيرِ – علاوةً على الرَّصدِ، والتَّسجيلِ، والتَّدوينِ، وجمعِ الموادِّ، والمخلَّفاتِ الأثريَّة – في إعادةِ إنتاجِ فضاءِ الاعتصام - فيزيائيَّاً، ورقميَّاً، وطبوغرافيَّاً – في شكلٍ متحفٍ يُخلِّدُ آثارَ الثَّورة السُّودانيَّة، مثلما يعملُ في نفسِ الوقتِ على تحفيزِ الآخرين على نقضِ حركةِ الجَزرِ الثَّوريِّ المُنتشِرَةِ في العالمِ قاطبةً.


محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »


فيما يتهيأ للعيد، وللتأمل في متغيِّرات واقعنا السياسي الجديد، محمد خلف ينعطف نحو الجوار، القريب البعيد:



التَّوظيف الإمبراطوري للمكانِ في جنوب البلديَّةِ الملكيِّة بلندن: ثلاثةُ متاحفَ حجريَّةٍ باقية ومعرضٌ كريستاليٌّ بائد




تفتخِرُ المدنُ الكبرى وتزدانُ بمتاحِفِها الشَّهيرة، التي تُهيئُ لها مساحةً وافِرة في قلبِ مراكِزها الحضريَّة النَّابضة بالنَّشاطِ البشري؛ فمتحفُ اللُّوفر، يقعُ في الدَّائرةِ الأولى من أغونديسماتِ باريس؛ والمتاحِفُ الإسميثونيَّة، يقعُ معظمُها ضمن "النَّاشونال مول" في واشنطن، الذي يقعُ بدورِه بين "الكابيتول هيل" ونصب لينكولن التَّذكاري، وكلاهما على مَقرُبةٍ من البيت الأبيض. أمَّا في لندن، فإنَّ جُلَّ متاحِفِها الشَّهيرة تُوجَدُ في مبانٍ متقارِبة، ضمن رُقعةٍ مُحدَّدة، داخل البلديَّة الملكيَّة التي تضمُّ منطقة "كينزينغتون"، حيث يُوجَدُ القصرُ الملكي (قصر ديانا)، وقاعة ألبرت الملكيَّة للموسيقى، والكليَّة الملكيَّة (إمبيريال كوليدج)، وهي أشهرُ الجامعاتِ البريطانيَّة، وأفضلُها بعد أكسفورد وكيمبردج والكليَّةِ الجامعيَّة (يو سِي إل)؛ إضافةً إلى أنَّ بها الكلِّيَّة الملكيَّة للفنون، والكلِّيَّة الملكيَّة للموسيقى.

ففي جنوب "كينىزينغتون"، يُوجَدُ متحفُ التَّاريخِ الطَّبيعي، ومتحفُ العلوم، ومتحفُ فيكتوريا وألبرت (في آند إيه)، التي يفصِلُ بين ثلاثتها شارعُ المعرض (إكزيبيشَن رود)، الذي كان يقودُ – في منتصف القرن التَّاسع عشر - مباشرةً إلى المعرضِ الكبير، الذي كان قائماً بدورِه داخل حديقة "هايد بارك" الشَّهيرة. وكانت لندن، إبَّان العهدِ الفيكتوريِّ، في عَجَلَةٍ من أمرِها لإبرازِ هيمنتها الاقتصادية على العالم، بعد أن خضَعَ لها، سياسياً، دولٌ كثيرة من شتَّى القارات. لذلك، بُنِيَ المعرضُ بسرعةٍ مُذهِلة (في 35 أسبوعاً)، بعد أن شُيِّدت كلُّ جُدرانِه بالدُّعامات الحديدية والألواح الزُّجاجيَّة؛ وكان من فرطِ جَمالِه الأخَّاذ، وشفافيَّته السَّاحرة، أن أطلقَت عليه مجلَّةٌ أسبوعيَّة اسمَ "القصر البلُّوري" (كريستال بالاس)، فسَارَ الاسمُ بين النَّاس، إلى يومِنا هذا. واستمرَّ "القصرُ" في عرضِ منتجاتِه لمدَّةِ خمسةِ أشهرٍ ونصف، بدءاً من أوَّل مايو من عام 1851؛ إلَّا أنَّ المعرضَ الكريستالي، على قِصَرِ عُمُرِه، قد أدَّى رسالته في إظهارِ عنفوانِ السُّوقِ الرَّأسمالي مع بدايةِ نشوئِه، حيث خُصِّصت أجنحتُه لعرضِ منتجاتٍ صناعيَّة من جميع دول العالم. وقد زاره كارل ماركس، فكان بمثابةِ مختبرٍ لنظريَّاتِه الاقتصاديَّة؛ وقد عَدَّهُ رمزاً لاحتفاءِ الرأسماليِّةِ المُفرِطِ بالسِّلعة، هذا إضافةً إلى صيرورتِه ساحةً مفتوحة لاستبصاراتِه الاجتماعيَّة.

ففي ذلك العام، سمحتِ السُّلطاتُ الإمبراطوريَّة لأوَّلِ مرَّةٍ بامتزاجِ الطَّبقاتِ في مكانٍ واحد، درءاً للاحتقان الذي تولَّدَ في أعقاب حركة الشَّارتيين، التي كانت تُطالِبُ بتعميم حقِّ الاقتراع على جميع الرِّجال من سنِّ 21 عاماً، إضافةً إلى تثبيت مبدأ الاقتراع السِّرِّي، وإلغاء شروط المِلكيَّة المفروضة جُزافاً على المرشَّحين لعضويَّة البرلمان؛ كما جاء ذلك السَّماحُ مَنعاً لتكرارِ حدوثِ اضطراباتٍ كمثلِ تلك التي جاءت في أعقابِ ثورات عام 1848 التي أطاحت بعددٍ من الحكوماتِ الأوروبيَّة. وقد مرَّت أيَّامُ المعرض من غيرِ وقوعِ ما يُفسِدُ أجواءَ الحدثِ الدُّوليِّ غيرِ المسبوق أو يُعَكِّرُ صفوَ السَّلامِ الاجتماعي. وعلى المستوى التِّجاري، حقَّقَ المعرضُ أرباحاً ساعدت في شراءِ الهكتاراتِ الواقعة جنوب حديقة "هايد بارك"، التي شُيِّد على رُقعتِها الممتدَّة المتاحفُ الثَّلاثةُ الشَّهيرة؛ وهي التَّاريخ الطَّبيعي، والعلوم، وفيكتوريا آند ألبرت. أمَّا القصرُ نفسُه، فقد تمَّ تفكيكُ هياكلِه الحديدية وألواحِه الزُّجاجيَّة، وإعادةُ تركيبِه في منطقة "سيدنام هيل" بجنوب لندن؛ وقد ظلَّ القصرُ البلوريُّ قائماً هناك حتَّى ساعةِ احتراقِه في عام 1936؛ ومنذ ذلك الوقت، أُطلِقَ على المنطقة المجاورة اسمُ "كريستال بالاس".

ومثلما أنَّ المعرض الكبير كان مُتجاوِزاً للحدودِ القوميَّة الضَّيقة، باستقبالِه للمنتجاتِ الصِّناعية من جميع أنحاء العالم، فقد كانتِ المتاحفُ الثَّلاثة، منذُ إنشائها وإلى الآن، قائمةً على اعتمادِها على المساهماتِ الدُّولية؛ فمتحف فيكتوريا آند ألبرت يقومُ في الأساس على عرضِ المنتجاتِ الفنِّيَّة من دولِ المستعمراتِ البريطانيةِ السَّابقة؛ ومتحف العلوم الطَّبيعيَّة بطبعِه – تماماً، مثل فروع المعرفة التَّخصُّصية التي تُغذِّيه - قائمٌ على تضافرِ جهودِ العلماء في جميع بقاع الأرض؛ أمَّا متحف التَّاريخ الطَّببعي، فهو يعتمدُ على جلبِ الهياكلِ العظميَّة والمتحجِّراتِ من بُقعٍ شتَّى وحقبٍ جيولوجيَّةٍ مختلفة. وقد كان تشارلس دارون يبعثُ بفِنشاتِه من أرخبيل غلاباغوس إلى ريتشارد أوين، عالِمِ الطَّبيعة المُقيمِ بالمتحف، فيتمُّ تشريحُها وتصنيفُها؛ إلَّا أنَّ خِلافَاً قد نَشَبَ بينهما، ليس بسببِ التَّدورُّنِ (إيفولوشن) نفسِهِ، وإنَّما بشأنِ الآليَّة التي يقومُ عليها، وهي الانتقاءُ الطَّبيعي.

لا زالتِ المتاحفُ الثَّلاثة في جنوب البلديِّة الملكيَّة تؤدِّي دورَها العالميَّ المعهود، في تناسقٍ تامٍّ مع وظيفتِها التَّعليميَّةِ المحلِّيَّة، إذ تفتحُ المتاحفُ أبوابَها بالمجَّان للأسرِ والأطفالِ وتلاميذِ المدارسِ وطلَّابِ المعاهدِ العليا والجامعات؛ هذا إضافةً إلى دورِها الاقتصاديِّ في إغراءِ السِّياح وجذبِهم لزيارةِ البلاد. في المقابل، لا يُرى الآنَ في منطقةِ المعرض غيرُ نُصبٍ تَذكاريٍّ أُقيمَ لألبرت إلى الغربِ من المكانِ الذي كان يشمَخُ فيه القصرُ البلُّوري، حاوياً بداخلِه أشجارَ الدَّردارِ الباسقة، ودُورَ عرضِ المنتجاتِ الصِّناعيَّة المحلِّيَّة والعالميَّة. ولا زال ألبرت، في تمثالِهِ المطلِّيِّ بماءِ الذَّهب، جالساً تحت ظُلَّةٍ عالية، وفي حِضنه كتالوج المعرض؛ وقد كُتِبَ على جوانبِ النُّصبِ السُّفلى أسماءُ القاراتِ الأربع (أوروبا، والأمريكتين، وأفريقيا، وآسيا)، في إشارةٍ إلى العمقِ الدُّوليِّ للبلاد؛ وعلى جوانبِه الوسيطة، مفرداتٌ لها دَلالاتٌ على نشرِ الهيمنةِ الإمبراطوريِّة عبر كلِّ تلك الجهات، وهي: التِّجارة، والزِّراعة، والصِّناعة، والهندسة.

وفي شمالِ البلديِّةِ الملكيِّة، حيثُ تسكنُ أُسرتُنا الصَّغيرة وتعملُ كنداكتُها الكريمةُ عضواً مُنتخَباً في مجلسِها، كنَّا قبل أسابيعَ نشُدُّ الرِّحالَ إلى إقليم الباسك الإسباني في زيارةٍ قصيرة خلال عُطلةِ الجامعات، إلَّا أنَّ جدول أعمال المجلس قد حتَّم عدم مشاركةِ الكنداكة، فذهبنا إلى بِلباو (وتُسمَّى "بِلبو" بلغةِ الباسك) من غيرِ أن نستمتعَ بصُحبتِها؛ ولكنَّ عزاءَنا قد جاء في شكلِ ما تلقَّيناهُ من معرفةٍ جديدة وتبصُّرٍ كان غائباً عنَّا بشأنِ دورِ المتاحفِ الوطنيَّة، كمدخلٍ للتَّعرُّفِ على الثَّقافاتِ البعيدة عنِ المركزِ الأوروبيِّ السَّائد. لن نتحدَّثَ الآن وهنا عن دورِ متاحف مدنِ الباسك (وتحديداً؛ بلباو، وسان سباستيان، وغيرنيكا) في حَفظِ وعَكسِ الثَّقافاتِ المحلِّيَّة للإقليم، على أملِ أن نستعرِضَ بعضَ الملامحِ المتعلِّقة بذلك الدَّورِ في مشاركةٍ قادمة، تحت عنوان: "الحل في بِلبو" ودروسٌ مُستفادةٌ من جداريَّةٍ شهيرةٍ لبابلو (في إشارةٍ إلى جداريَّة "غيرنيكا" للرَّسَّام والنَّحاتِ الإسبانيِّ الأشهر، بابلو بيكاسو).


محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الثلاثاء أغسطس 13, 2019 1:39 am، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

صديقنا سيد أحمد يحتفي بزيارة محمد خلف لبعض المعالم التاريخية لمدينة لندن:


هذا المقال قطعةٌ أدبيَّة، بل قطعةٌ أثريَّة، يجبُ الاحتفاظُ بها لوقتٍ طويل؛ والمقال أهمُّ من أيِّ دليلٍ سياحيٍّ- مَتحَفيٍّ آخرَ لمدينة لندن، ولا بُدَّ من تقديمِه لجهةٍ رسميَّة لاعتمادِه بهذه الصِّفة؛ كما أنَّ لغته العربيَّة شديدةُ البلاغة، ولا أشكُّ أنَّكَ حين تُترجِمُه إلى الإنجليزيَّة، ستُترجِمُه ببلاغته تلك. ويُعتبَرُ المقال قطعةً أدبيَّة، ومساهمةً حقيقيَّة في الاحتفاءِ بمدينة لندن من مثقَّفٍ عاش العُمقَ الثَّقافيَّ للمدينة.

أتمنَّى أن أقتطِعَ منه فقرةً للاستشهادِ بها في مقالٍ سأكتُبُه عن محاولاتِ إعادةِ القطع الأثريَّة التي اُنتُزِعت من بلدانِها إبَّانَ الحِقبةِ الاستعماريَّة.

لا أدري هل وصلني المقالُ كاملاً، فقد انتهى عندي في عبارة "للرَّسَّامِ والنَّحاتِ الإسبانيِّ الأشهر بابلو بيكاسو"؛ فإذا لم تكُن هذه نهاية المقال، أرجو إرسالَه لي على الإيميل أدناه:
[email protected]

سيد أحمد
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأربعاء أغسطس 14, 2019 7:33 am، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

محمد خلف يرد على سيد أحمد:


شُكراً يا أبو السِّيد؛
المقالُ الذي وصلك مكتمل، وهو جزءٌ من ثلاثيَّة (وقد تكون رباعيَّة أو أكثر)؛ وقد التقط مقترحَ المتحف لساحةِ الاعتصام من المشاركة السَّابقة؛ وفي المرَّةِ المقبلة، سوف يتمُّ مواصلة الحديث عن المتاحف في إقليم الباسك (منشأ الحربِ الأهليَّة الإسبانية)، وصولاً في نهاية الأمر إلى استشراف السَّلام والتَّصالح الوطني.

خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

محمَّد خلف يتأمَّل في فعل "الجُمْلة" لشباب الثَّورة، في مقابل شغل "القطَّاعي" للقيادات السِّياسيَّة السَّائدة:




القصَّة حِصَّة: شبابُ الثَّورة يقصُّونَ طريقَ الحقِّ، و"رجالُ" الدَّولة يُحاصِصونَ وراءَ الحقيقة





يُمكِنُ التَّعبيرُ عن الفرق بين بُعدِ النَّظرِ وقِصَرِهِ بِعِدَّة سُبُل: منها البلاغيُّ، مثل التَّعبير عن الأوَّل (أي بُعدُ النَّظر) بعبارة "ينظرون فوق رؤوسهم"، والتَّعبير عن الثَّاني (أي قِصر النَّظر) بعبارة "يُحَدِّقون تحت أقدامهم"؛ ومنها العسكريُّ، مثل الإشارة إلى الأوَّل بالإستراتيجيَّة، فيما يتمُّ الإيماءُ إلى الثَّاني بالتَّكتيك (وهي الثُّنائيَّة التي يكثُرُ استخدامُها في القاموسِ السِّياسيِّ المتداول، إنْ لم نقُل في الخطابِ السِّياسيِّ السَّائد)؛ ومنها العِلميُّ، حيثُ يُمكِنُ التَّمثيلُ للأوَّلِ بالفرضيَّاتِ النَّظريَّةِ الواسعة (النِّسبيَّة العامَّة وميكانيكا الكم)، فيما يتضمَّنُ الثَّاني أنشطةَ المختبراتِ العلميَّة، بما فيها من مشاهداتٍ وتجاربَ معمليَّة محدودة.

وفي التَّوظيفِ اليوميِّ، لا يكونُ بُعدُ النَّظرِ مزيَّةً بإطلاقِ القولِ العامِّ على عواهنه، كما لا يكونُ قِصرُ النَّظرِ مَسَبَّةً مزمومةً بتقييدِ القول ضمن حدودِ ذاتِه الضَّيِّقة؛ بل يأتي التَّعويلُ في المقامِ الأوَّلِ على الاستخدامِ السِّياقيِّ لفحوى القول، إضافةً إلى صِدق النِّيَّة والإخلاصِ في القول. ويُمكِنُ التَّمثيلُ لإهدارِ صدقِ النِّيَّة، في التَّاريخِ البعيد، بحادثة رفع المصاحف على أسِنَّة الرِّماح، كما يُمكِنُ التَّمثيلُ عليه في التَّاريخِ القريب بتظاهراتِ الدِّفاعِ عنِ الشَّريعة قُبيلَ وبُعيدَ انهيارِ النِّظام بفعلِ ضرباتِ الحَراكِ اليوميِّ المتعاظِم. أمَّا إهدارُ قاعدة الإخلاصِ في القول، فيُمكِنُ التَّمثيلُ عليها دوليَّاً بانتشارِ الأنباء الزَّائفة "فيك نيوز"، ومحليَّاً بالحربِ الدِّعائيَّة المتمثِّلة في أنشطة "الجِداد" الإليكتروني.

إلَّا أنَّنا نُريدُ أن نُرسِيَ تقييمَنا للأحداثِ السِّياسيَّة الجارية، بناءً على مبدأِ التَّسييق المُشار إليه آنِفاً، من غيرِ إهدارٍ لقاعدتَي صدقِ النِّيَّة والإخلاصِ في القول؛ والأهمُّ من ذلك كلِّه، نُريدُ أن نُرسيَ ذلك التَّقييم وفقاً لِما ظللنا نتحدَّثُ عنه طيلة الوقت عن الفرقِ القائمِ بين الحقِّ والحقيقة؛ فالحقُّ اسمٌ للأوَّل (فهل مِن مُبلغٍ عنِّي طه سليمانَ والنُّورَ الجيلاني طلباً بترقيقِ نُطقِ همزةِ الوصل، اقتداءً بالبسملة التي تُطيحُ بالألف كتابةً حتَّى لا تُظهَرُ الهمزةُ المُحقَّقة في مُفتتحِ السُّور) ووصفٌ دائمٌ لكلامِه؛ والحقيقةُ وصفٌ للثَّاني، الذي يعتريه التَّغيُّرَ والحَدَثان (فهل من مُبلِغٍ عنِّي مصطفى رجب في "أبوحليمته" بالقربِ من "حلفايةِ النُّورِ" رجاءً بأنَّ من الأفضلِ أن يكتُبَ كلمة "اتفضَّل" العامِّيَّة من غيرِ همزةِ قطع؛ وأن يُبلِغَ تحيَّاتي إلى "حَمَام الكدرو"، جعفر طه حمزة).

فالثَّورةُ فعلٌ دائم، يتسنَّمُ الشَّبابُ قيادتَه في مراحلَ مختلفة، وفقَ أُفقٍ إستراتيجيٍّ مفتوح. كان ذلك هو الحالُ في أكتوبرَ، وفي أبريلَ، وفي ديسمبر؛ وسيظلُّ الأمرُ كذلك دائماً ما دامتِ الشُّهورُ دائرَةً، فالأيَّامُ وفقاً للحقِّ دول: "إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" (سورة "آل عمران"؛ الآية رقم 140). وقد قام به (أي ذلك الفعل)، هذه المرَّة، وسيحرسُه، في المقامِ الأوَّل، "كنداكاتٌ" و"شفَّاتة"، آلوا على أنفسِهم حمايةَ الوطنِ الغالي، وضحُّوا بالنَّفيسِ ليرى الآتونَ شمساً جديدة وظهيرةً لا تُلهِبُ ظهراً إلَّا في خدمةِ إعمارِ البلاد، بعد طولِ إفسادٍ وإذلالٍ وخراب. ومن حقِّ هذا الجيلِ المنتصِرِ أن يرى جُلَّ أحلامِه تتحقَّقُ، ومن حقِّه في نفسِ الوقتِ أن يتشكَّكَ في قدرةِ السِّياسيين القدامى على تحقيقِ ذلك الأمر الذي أصبح، بعد لأيٍّ و"لَولَوَةٍ"، قريبَ المنال.

إلَّا أنَّ الخطورة تكمُنُ في أنَّ أيَّ استعجالٍ في نَيلِ كسبٍ فرديٍّ مُستحَقٍّ، أو تكوينِ جسمٍ تنظيميٍّ مطلوب، من المُمكِنِ بل من الواجبِ أن يُثيرَ شكوكَ ألصقِ النَّاسِ بهم وأكثرِهم ثقةً في صدقِ نواياهم؛ فالحقُّ يُدركُ بغتةً، لكنَّه لا يُبنى على عجل؛ وكذلك فإنَّ البصيرةَ تُفقَدُ فجأةً، لكنَّ البصرَ يُفقَدُ تدريجياً، في أغلبِ الأحيان. ولا يُوجدُ تفكيرٌ إستراتيجي، إلَّا وسبقته مجهوداتٌ فكريَّة مُضنية وتصوُّرٌ نظريٌّ مُتَّسق؛ وكلُّ ذلك لا يتمُّ بين عشيَّةٍ وضحاها (إلَّا إذا كان فكراً انقلابيَّاً أو اعتقاداً "داعشيَّاً" أو نزوعاً فوضويَّاً بلا ضوابطَ منهجيَّةٍ أو توازُناتٍ محسوبة). ومع ذلك، فإنَّ الأُطرَ التنظيميَّة القديمة لا تسَعُ قدراتِ الشَّباب ولا تستوعِبُ أنشطتهم، ناهيكَ أن تستشرفَ أحلامَهم أو تُحقِّقَ تطلُّعاتِهم في إرساءِ مجتمعٍ قائمٍ على الحرِّية والسَّلام والعدالة.

في المقابل، تُدرِكُ الهياكلُ السياسيَّة القديمة قيمةَ الحقيقة، وتعرِفُ دروبَها الملتوية؛ ويتراكمُ لديها إرثٌ ثريٌّ من المعارف المذهبيَّة، والتكتيكاتِ اليوميَّة، والنِّضالاتِ التي لم تنقطع على مرِّ الأيَّام. وهي التي قاومتِ النِّظامَ السابق، بامتداداتِه العميقة الحالية، منذ أوَّلِ أيَّامِ انقلاب عام 1989. وهذه الكياناتُ السِّياسيَّة، بلا استثناء، بامتداداتِها النِّقابيَّة العميقة، هي التي أهدتِ الجماهيرَ عقلاً منظَّماً وأكسبتها حَرَاكاً حديثاً عالي الدِّقَّة. صحيحٌ أنَّ قياداتِها "هرِمت"، ولكنَّ الحِكمةَ قد تراكمت لديها بالتَّقادم؛ وسواءً كانت هذه تنظيماتٌ تخيَّرتِ النضالَ السِّلمي أو تلك التي نزعت إلى حملِ السِّلاح، قد تسلَّحت جميعُها بفنِّ الممكن، والقدرةِ على العملِ وفقَ الحدودِ الدُّنيا، وتقديمِ التَّنازلات. وإذا كانتِ المُحاصَصةُ بمعناها القديم شراءً واضحاً للذِّمم، فإنَّها وإنْ لم تخلُ في هذه المرَّةِ تماماً من ذلك العيبِ الذَّميم، قائمةٌ - في إطارِ الإجماعِ على الحدود الدُّنيا - على التَّدرُّب الطَّويل على التَّلوِّي مع مُنحنياتِ الحقيقة، أكانت في ذلك صافيةً أم أُصيبت، مثل كلِّ حقيقةٍ، برشاشٍ من الباطل.

يُهدِّدُ البلادَ خطرٌ بالدَّاخلِ، كما يُحيطُ بها خطرٌ بالخارج؛ وهي تصحو وتنامُ على برميلِ بارودٍ قابلٍ للانفجار في أيِّ لحظة؛ ففي الداخل، يسعي حاملو السِّلاح إلى تحقيقِ سلامٍ اجتماعيٍّ وتنميةٍ متوازنة؛ وفي الخارج، يسعى مُورِّدو السِّلاح ومُصدِّروه على السَّواء إلى ترتيبِ أوضاعٍ إقليميَّةٍ مستقِرَّة، وإلى جرجرةِ البلاد إلى لَعِبِ أدوارٍ تخدِمُ مصالحَ دوليَّة؛ وكلا اللَّاعبَيْن، الإقليميِّ والدولي، لا يقبلانِ إلَّا بالسَّيطرةِ على الأحداث وتنظيمِ مصالِحِهما الاقتصاديَّة والإستراتيجيَّة، في مقابلِ إرساءِ أوضاعٍ داخليَّة تضمنُ نوعاً من الموازنةِ بين تحقيقِ الاستقرارِ المحلِّي واستئنافِ الوضعِ الرَّاهنِ بمظهرٍ سطحيٍّ جديد، مقبولٍ لكلِّ الأطرافِ المتصارِعة.

في ظلِّ هذه الوضعيَّةِ الجيوسياسيَّة، قد يبدو أنَّ ما يلزمُ الشَّباب، على الأقلِّ في الوقتِ الرَّاهن، هو الصَّبرُ على المكارِه، والاحتفالُ بِما أُنجِزَ (على طريقةِ "قفِّلْ واحتفِلْ")، ومراقبةُ تطوُّرِ الأوضاعِ بتفاؤلٍ يسودُه الحذر؛ وسوف يُدرِكونَ في اطمئنانٍ أنَّ الحقَّ في نهايةِ الطريقِ الطَّويلِ معهم، إلَّا أنَّ الحقيقةَ تحتاجُ إلى تدبُّرٍ وقتيٍّ، و"بصارةٍ" ستأتي مع الوقت؛ فالحقُّ يتحَصحَصُ، أي يتبيَّنُ، من تلقاءِ ذاتِه (قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ؛ سورة "يوسف"، الآية رقم 51)، فيما تحتاجُ الحقيقةُ إلى مُحاصَصَةٍ (بالمعنى الإيجابيِّ للمفردة)، أي تبيينٍ، يصدُرُ عن مُختصِّينَ ذوي كفاءاتٍ ومعرفةٍ أكاديميَّة ضليعة أو تجاربَ تراكمت لديهم عبر خبراتٍ مُكتسَبة.

وعلى ذِكرِ مادَّة [ح ص ص]، نُرسِلُ يا مُصطفى رجب تحيَّةً إلى مدينة الحَصَاحِيصَا، وبقيَّةِ المدنِ السُّودانيَّةِ المنسيَّة (التي كُنَّا نزورُها واحدةً تِلوَ أخرى في مدارسِنا التَّأسيسيَّة: "في القولدِ التقيتُ بالصِّدِّيقِ أنعِم به من فاضلٍ صَديقِ")؛ وإلى صديقِنا المُشترك حسن علي عيسى، وشقيقتِه فائزة، وصديقتِها التي نتمنَّى لها حظَّاً سياسيَّاً وافِراً، وبقيَّةِ أصدقاءِ الدُّفعة (ولا نستثني عبد الدافع؛ مع إسداءِ تحيَّةٍ خاصَّة إلى زوجتِه مريم)؛ ومن هناك إلى ود سُلفابَ، مُرسِلينَ تحيَّةً إلى مُصطفى الآخر، صاحبِ "مريمَ الأخرى" وفنَّانِ الشَّباب الدَّائم: مُصطفى سيد أحمد (فكم نحتاجُ الآنَ إلى استبصاراتِه الثَّاقبة، وبَصَرِه الحادِّ رغم النَّظَّاراتِ ذاتِ العدساتِ السَّميكةِ الخادعة، وحاسَّتِه السَّادسةِ المُذهِلة)؛ ولا ننسى أن نقِفَ على رُبى أربجي إجلالاً لذلك المعلِّمِ النُّموذجي، الذي كاد بالفعلِ أن يكونَ رسولا.



احتفاءً بالعيدِ الكبير، أجَّلنا مشاركة "المعرض الكبير" تحت عنوان: "الحل في بلبو" ودروسٌ مُستفادةٌ من جداريَّةٍ شهيرةٍ لبابلو" - فكلُّ عامٍ وأنتم على وطنٍ حرٍّ يعمُّ فيه الخير، ويسودُ ربوعَه العدلُ والسَّلام؛ على أملِ أن نعودَ بكم مرَّةً أخرى إلى "خَيطِنا" الإستراتيجي: "الحِصَّة قصَّة"، عِوضاً عن هذا السِّياق الذي استدعاه في الوقتِ الرَّاهنِ تكتيكٌ بعينِه، فأسميناه بمقلوبِ العبارة: "القصَّة حِصَّة".

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

لم ولن نغادر ساحة الاعتصام. هذا مشهد من إحدى سليلاتها، يرويه بابكر الوسيلة:




في بيتنا "ساحة اعتصام"

بابكر الوسيلة





"علي" يتحمَّلُ مناكفاتٍ لا حَصرَ لها من "شياطين" البيت، وينزوي لِيُمارسَ مناكفاتِه الخاصَّة مع اللُّغةِ الإنجليزيَّة التي بدأ في تعلُّمِ جُمَلِها الأولى في المدرسة، إضافةً إلى جنونٍ بالرِّياضاتِ عجيب؛ "مُنَى" تُمَسرِحُ حياتَها وسط خشبةِ السَّرير، وتُؤلِّفُ - بخيالٍ شخصيٍّ محض - أناشيدَ صُويحِباتِها المحلِّيَّاتِ في الحي؛ "صلاح" يختصِرُ العالم، ويَحِيكُ - بخيوطٍ ملوَّنة - لوحتَه القادمة؛ "صباح" صارت كثيرةَ الضَّجرِ من "ق.ح.ت" (قافْ حَتَاء)، للدَّرجةِ التي تحوَّلت عندها إلى "ق.ح.ط" (قافْ حَطَاء)؛ "آسيا" ماتزالُ تصنعُ المُعجِزَةَ في التآلف؛ "أنا" أُردِّدُ صمتيَ الدَّاخلي، وأبتهجُ للأغنيةِ الجديدة.

كلُّ ذلك يتمُّ في حَوشِ البيتِ الصَّغير؛ ممَّا يستدعي الذَّاكرة الجماعيَّة لأهلِ البيت تسميَته بـِ"ساحةِ الاعتصام".

الثَّورة تدخلُ بيوتَنا، ولا تخرُجُ إلَّا بكرمٍ فيَّاضٍ وروحٍ جديدة، غير أنَّها لا تنسى أبداً يدَ الطِّفلِ الذي يُوصِلُها إلى بدايةِ الشَّارعِ، بدايةِ الأُفُق.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

تغيَّب محمد خلف عن هذا الخيط لبعض الوقت، لكن دون أن تغيب عن قلبه وذهنه هموم واقعنا السياسي الراهن، بانشباكاته المختلفة، وما يحيط به من مهددات:



هذا الفصلُ المُجحِفُ بين المكانِ والزَّمان لا يُجدي في الأرضِ فتيلا



ظننَّا لفرطِ سذاجةٍ فكريَّة أنَّ من الممكن، لاعتباراتٍ متعلِّقة بتسارع انقضاء فترة الانتقال، إرجاء موضوع المكان لبعضِ الوقت؛ فقد تركنا مشروعَ المتحفِ مُعلَّقاً في الهواء، وكان في البالِ الذَّهابُ إلى بِلباو، ومن ثمَّ إلى سان سبستيان وغيرنيكا، لنرى كيف ينظرُ أهالي الباسك إلى تاريخِهم القريب، وكيف يحتفونَ بالمكان، وينقلونَه من فضاءٍ بَلقَعٍ إلى مدارٍ مركزيٍّ لهويَّةٍ إثنيَّة لا تنغلقُ على ذاتِها، إلَّا لِتنفتحَ على الآخرِ الأمميِّ عبر الاحتفاءِ برموزِ السَّلامِ العالمي: من مارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديلا إلى ملالا يوسف وآبي أحمد علي. إلَّا أنَّ جُرذاناً نَشِطَةً كانت تقضمُ أجزاءً مُتعاظِمةً من حِبالِ الزَّمن، فيما أخَذَ توتُّرُ سَهمِه يشتدُّ، ولا ينقطعُ أبداً عنِ الخفقان. فكان انصرافُنا للتَّأمُّلِ في موضوعِ الزَّمان وعلاقتِه الحميمة بتكوُّنِ الذَّاكرةِ الثَّقافيَّة، وصيرورتِه اللَّازمة مُكوِّناً أساسيَّاً للهُويَّةِ الوطنيَّة. غير أنَّ أحداثَ الثُّلاثاءِ الفاجعة نبَّهتنا مُجدَّداً وبشكلٍ موجِعٍ إلى خطورةِ ترتيبِ المكان.

لم يخلُ تخطيطُ الخرطوم عبر كلِّ الحقبِ اللَّاحقة لتأسيسِها من التَّوظيفِ السِّياسي. فعند افتتاحِ الجمعيَّة التَّشريعيَّة الأولى في عام ١٩48، كان الحاكم العام البريطاني يجلسُ في وسطِ الطَّاولة الأماميَّة المرتفعة قليلاً عنِ الأرض، وعلى يُمناهُ ويُسراهُ كُلٌّ من السِّكرتيرَيْنِ الإداريِّ والمالي، بينما كان السَّيِّدانِ الجليلانِ (المهديُّ والميرغني) يجلسانِ بتؤدةٍ على جانبَيِ الطَّاولةِ الرَّئيسيَّة. هذا، فيما كان نوَّابُ الشَّعبِ (إدارةٌ أهليَّة، فموظَّفون وتُجَّارٌ وأعيان) يصطفُّون بأدبٍ جمٍّ على مقاعدِ القاعةِ الكبرى، قبل نشوء البرلمان في عام 1954. وإذا تمعَّن النَّاظرُ إلى طُبوغرافيا الشَّريط المُحاذِي لنهرِ النِّيلِ الأزرق الذي يحُدُّ الطَّرفَ الشَّماليَّ للعاصمة، التي كانت تتهيأُ لإكمالِ مهامِّ الاستقلالِ الوطني، لَوَجَدَ أنَّ المكانَ مُعَدٌّ بنفسِ التَّرتيبِ الذي اصطفَّ به الحُكَّامُ وكبارُ الأعيانِ حول الطَّاولة. فَعَلَى جَنَبَتَي قصرِ الحاكم العام، يوجدُ الجناحانِ اللَّذانِ يضُمَّانِ مكاتب السِّكرتيرَيْنِ الإداريِّ والمالي، بينما يوجدُ على الجانبِ الشَّرقيِّ أوقافُ المهدي، التي تشملُ الدَّائرة ودارَ الوثائقِ المركزيَّة (إلى الغربِ من مباني كليَّة الهندسة)؛ وعلى الجانبِ الغربي، جنائنُ الميرغني (إلى الشَّرقِ من "الجِنينة" أو "حديقةِ الحيوان" سابقاً).

وكانتِ الخرطومُ مهيأةً مكانيَّاً لتصريفِ الإدارةِ السِّياسَّيةِ للبلاد، حيث توزَّعت مباني الجهازِ التَّنفيذيِّ على رُقعةٍ محدودة على مَقرُبةٍ من النَّهر، بينما تلاصقت منازلُ كبارِ الموظَّفين على مرمى حجرٍ من مكانِ العمل (إلى الشَّمالِ من مباني كلِّيتي الطِّب والصَّيدلة الحاليتَيْن)؛ وبينهما السُّوقُ الرَّئيسيُّ، بما فيه من محلَّاتٍ لبيعِ اللُّحومِ والفاكهةِ والخُضرَوات ("زِنك الخُضار"). وكان الموظَّفُ يصحو باكِراً، ويمضي خلفه مهرولاً مَنْ كان يحملُ سلَّةً (أي "قُفَّةَ الخُضار") - وهو في الغالبِ صَبيٌّ (ابنُه أو مَنِ استأجره لتصريف الخدمة المنزليَّة) – تُملأُ بما لذَّ وطابَ من "الزِّنك"؛ فينصرفُ الموظَّفُ إلى مكتبه، ويعودُ الصَّبيُّ إلى المنزل، الذي تُديره في الغالبِ سيِّدةٌ فاضلة فاتها قطارُ الزَّمن، ولم يكن بإمكانها تلبية دعوة الأستاذ الشَّاعر الوطني الكبير، عبيد عبد النُّور: "يَمْ ضفايرْ قودِي الرَّسَنْ"، ولكنَّ بناتِها داخل جدرانِ مدارسِ "الأحفادِ"، ظللنَ يُردِّدنَ "كوبليهاً" وراءَ "كوبليه" بمصاحبةِ الكابلي: "إنَّه صوتي أنا، اِبنةُ النُّورِ أنا؛ إنَّه صوتي أنا، زاده العلمُ سنا ... وَلنُحققْ كُلُّنا، ما نُرَجِّي مِن مُنى، نحو سودانٍ سعيد"؛ أمَّا بناتُ بناتِها، فقد انضممنا إلى "كنداكاتِ" البلاد، ليقُدنَ المسيرةَ، على مَقرُبةٍ من النَّهرِ، في ساحةِ الاعتصام.

ويُقالُ إنَّ النَّاظرَ من عَلٍ - والعُهدةُ على راوٍ على متنِ مروحيَّةٍ حُكوميَّة - يرى الخُرطومَ مُخطَّطةً على شكلِ عَلَمٍ بريطاني ("يونين جاك")، إمعاناً في إرساءِ تأبيدٍ رمزيٍّ لحُكمِ الإنجليزِ للبلاد؛ ولكنَّ النَّاظِرَ إليها من ذاتِ الارتفاع، في أعقابِ حُكمهم، يرى مداخِلَها الإستراتيجيَّة - أيِ الجُسُورَ - مُحاطةً من كلِّ حَدَبٍ وصَوب بمقرَّاتِ الأسلحة الرئيسيَّة للقوَّاتِ المسلَّحة (في بحري، بين الجِسرَيْن وشرق كبري شمبات؛ وفي أمدرمانَ، غرب الجسر، قبالة أبي سِعِد؛ وفي الخرطومِ، تمدَّدت مباني الرِّئاسة، متاخمةً للمطارِ المدنيِّ جنوباً، ومباني الجامعة شمالاً، على مَقرُبةٍ من "جسر الحديد")؛ وكأنَّ دَورَها الأساسيَّ ليس هو الدفاعُ عن حدودِ البلاد، وإنَّما الانقضاضُ على الحُكمِ المدني، وحراسةُ النِّظامِ العسكريِّ الذي انقضَّ عليه من خطرِ الانقلابات المضادَّة. إلَّا أنَّ السِّحرَ قد انقلبَ على السَّاحرِ إبَّانَ فترةِ الاعتصام، فكان لا بدَّ من فَضِّه بأيِّ ثمن، مهما كانتِ الخَسارةُ فادِحةً، وَ"ليحدُث" بعدها "ما يحدُث".

وعندما تمَّ التَّفكيرُ في تحديثِ المطارِ العسكريِّ وتوسيعِه في نهاية السِّتيناتِ من القرنِ الماضي، لم يحفلِ الوطنيونَ الجُدَدُ في أوائلِ العهدِ المايويِّ بمصيرِ مدرسة وادي سيدنا الثَّانويَّة، وكانت تُعَدُّ واحدةً من ثلاثةٍ من أفضل المدارس الثَّانويَّة في البلاد (إلى جانب حنتوب وخور طقَّت)، فتشتَّت فصولُها في ضيافةٍ طويلةِ الأمد على حساب مدارس أمدرمان الحكومية، وتلاشتِ "الدَّاخليَّات" التي كان يعمُرُ أماسيها الأستاذ النُّور عثمان أبَّكر بقصائدِه الفذَّةِ وساكسفونِه الصَّدَّاح، وتفرَّقت مهاجعُ طُلَّابِها على الأحياءِ السَّكنيَّة، من غيرِ حسابٍ للآثارِ الاجتماعيَّة لهذا التَّهجيرِ القسري، ومن غيرِ أن يرصُدَ راصدٌ نتائجَه على المستوى الأكاديمي. وإبَّانَ الحُكمِ العسكريِّ الأوَّل، تمَّ تهجيرٌ أشدُّ شراسةً ومأساويَّةً للنُّوبيِّين؛ ولا عزاءَ للمُهَجَّرينَ أو أسلافِهم اللَّاحقين، مهما كان حجمُ التَّعويضِ ونوعُه. غير أنَّ إنقاذاً ما قد تمَّ لبعضِ الآثارِ بجهدٍ من اليونيسكو وعددٍ من العلماءِ الأفاضل، إضافةً لتوفُّرِ سِفرٍ باللُّغتين، من إعداد الإداريِّ المسؤول، حسن دفع الله، لِيكونَ السِّفرُ عَوناً للمهتمِّين بتقييمِ آثارِ ذلك القرارِ المصيري.

إلَّا أنَّ النَّاظرَ من عَلٍ في هذه اللَّحظاتِ العصيبة من تاريخِ البلاد، سيجدُ صعوبةً كُبرى في تمييزِ المقارِّ الأمنيِّة التي تغلغلت وسطَ الأحياءِ السَّكنيَّة في سوبا، وكافوري، وموقف شندي؛ وفي العديد من الأماكنِ التي سيكشفُ عنها التَّحقيقُ في مُقبِلُ الأيَّام. وما أحداثُ الثُّلاثاءِ الماضية إلَّا تنبيهٌ باهِظُ الثَّمنِ على الأخطارِ التي ظلَّت تُحدِقُ بقاطِني الأحياء السَّكنيَّة طيلة ثلاثةِ عقودٍ وإلى تاريخ هذا اليوم؛ فكم من الأفرادِ قد تضرَّرَ في الخفاءِ اِقتياداً أوِ اختطافا، وتعذيباً في الأقبِيَةِ أو تقتيلاً في ظلامِ الزَّنارين؛ فإنِ استُشهِدَ محمَّد الأمين (22 عاماً) وأُختُه رانيا الأمين (19 عاماً) في العلنِ، فإنَّ والدتَهما المكلومة لن يُشفِي غليلَها إقرارُ أعلى السُّلطاتِ بإصابةِ نَجلَيْها برصاصةٍ طائشة. كما أنَّ ترحيلَ المقارِّ الأمنيَّةِ من الأحياءِ السَّكنيَّة لم يعُد وحدُه كافياً، بلِ المطلوبُ منذُ الآنِ إجلاءُ كلِّ الثُّكُناتِ العسكريَّة من العاصمةِ القوميَّة والمدنِ الرَّئيسيَّةِ للبلاد.

فإنْ تحقَّقَ ذلك بوضعِ خُطَّةٍ مدروسة لإكمالِ الإجلاء، فربَّما يتجدَّدُ الأملُ باستعادةِ ساحةِ الاعتصام؛ وإذاً لأسرعنا الخُطى إلى بِلباو (فالحلُّ في بِلبُو، وهو اسمُها بلغةِ الباسك)، لِنتعلَّمَ منها صَنعةَ الاحتفاءِ بالمكان، وفتحَ فضائه للآخرِ الأُمميِّ، لأجلِ الاقتداءِ برموزِه الدَّاعِيَةِ للسَّلام، تمهيداً لوقفِ الاحتراب، ومشاركةِ ثرواتِ البلاد، وإرساءِ قيمِ التَّصالحِ الوطني؛ وإذاً لأقَمنا متحفاً، على مَدخَلِه كنداكةٌ ترفعُ إصبعاً واثقاً لشمسِ الحرِّيَّة، وترتدي ثوباً أبيضَ ناصعاً لإعلاءِ شأنِ السَّلام، وعلى جانبِ حقيبةِ يدِها الأخرى ميزانٌ ذهبي، تأكيداً لقيمِ العدالةِ المنشودة.


محمد خلف
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

يا سلام، عودة الكتابة في هذا الخيط تحتاج (كرامة)، هل الكرامة هي القربان الذي كان يُقدم للآلهة؟

المهم، هل إجلاء المقار الأمنية المادية سيُجلي سلطتها المكتسبة من خلال احتكارها للعنف المسلح؟
وبالتالي هل سنستعيد فضاء "حريتنا" بإخلاء المكان من المباني؟
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

فيما لم تغِب عن باله موضوعات ذات صلة بمساهمات سابقة، إلا أن حفاوة محمد خلف بعودة فناننا عبد الكريم الكابلي للبلد قادته إلى تأمل حاذق في قصيدة/أغنية الأخير "المرايا"، وهو التأمل الذي تناسلت منه ومعه، بالرشاقة الأسلوبية المعهودة من خلف، تأملات متساوقة وممتعة أخرى:



"كلِّميني يا مرايا"؛ (....)؛ أجَلْ، "إيَّاكِ أعني، واسمعي يا جارة"، فأنتِ في البالِ أيضاً كتلك



أشرنا ضمن المشاركةِ السَّابقة إلى نشيد "فتاة اليوم والغد"، قبل عودة الفنَّان الكبير عبد الكريم الكابلي إلى الوطن (الذي لم يُغادره أصلاً، إلَّا بالمعنى الحرفي للحدود الجغرافيِّة)؛ وفي هذه المشاركة، في أعقاب عودته المُشرِقة من الغرب، نُشيرُ إلى أغنيته الشَّهيرة التي يقولُ فيها: "كلِّميني يا مرايا؛ أنا شايفك طربانة؛ حكوا ليكِ حكاية، ولَّا كنتِ معانا، ولَّا إنتِ بتقري يا ساحرة ظنوني، ولَّا شُفتِ الصُّورة شايلاها عيوني". ونرمي من وراء هذه الإشارة، عدا التَّرحيب بالعودة المُشَرِّفة لصاحب الأوبريتات الشَّيِّقة، إلى تشبيك المكان في الواقع الأرضي بصنوِه الزَّمان، وإلى إبرازِ شِعرِيَّةِ المراوحةِ القائمة بين التَّعيينِ الحرفيِّ للدَّوال والتَّضمينِ المجازيِّ لمدلولاتِها، هذا إضافة إلى تثمين دور الصَّادق إسماعيل في توسيعِ الحَدَقِ وتكثيرِ زوايا الشَّوف. سنشرحُ للقارئ ما ورد عاليه على مهلٍ وبقدرٍ غير مطوَّلٍ من التَّفصيل.

على المستوى الخاص، تُستخدَمُ المرايا - في أماكنِ التَّزيُّن وغرفِ الاستحمام والحقائبِ اليدوية - للاطمئنانِ على سلامةِ البدن وملائمةِ المظهرِ الخارجيِّ والهندامِ للمناسبةِ الاجتماعيَّة وحالةِ الطَّقس. أمَّا على المستوى العام، فإنَّها تُستخدَمُ - في المتاجرِ وصالاتِ العرضِ والمصاعدِ الكهربائيَّة - للإيحاءِ بالرَّحابةِ وتبديدِ الخوفِ من الأماكنِ الضَّيِّقة ("الكلوستروفوبيا" أو رهاب الاحتباس). ولأنَّ الصُّورةَ المنعكسة على المرآةِ تستغرقُ وقتاً (اختصاراً: من سقوط الضَّوء على المرآة، إلى انعكاسِه على الشَّبكيَّة، ومرورِه عبر العصبِ البصريِّ إلى منطقة التَّصالب، ومنها عبر مسالكَ بصريَّةٍ إلى عددٍ من نقاط التَّحكُّم في المِهادِ البصري، ووصولِه عند مؤخِّرةِ الرَّأسِ إلى المركزِ البصريِّ لدى الفصِّ القذالي "الأوكسيبيتلي"، لتحليلِ الصُّورةِ المنعكسة، والارتدادِ في طريقِ العودة، لرؤيتِها على المرآةِ بالعينِ المجرَّدة، بعد اكتسائها بكلِّ الألوان الممكنة ضمن نطاق الضُّوء المرئيِّ داخل المجالِ الكهرومغنطيسي، هذا بالطَّبعِ إذا سلِمَ المرءُ من عمى الألوان)، فيُمكِنُ اعتبارُ المنعكسِ ماضياً لها، بقدرِ ما هو أيضاً حاضرٌ ماثلٌ للتَّأمُّلِ وأخذِ العبر.

على "ضوء" هذا الفهم المختصر، نُريدُ أن نجعلَ من ساحةِ الاعتصام مرآةً قوميَّة لتأمُّلِ الرَّاهن واعتبارِ السَّابقِ والمُقبِلِ في أكثرِ البقعِ إضاءةً واستنارةً في تاريخ السُّودان الحديث، على الرَّغم ممَّا طالها من لَغَطٍ وتعتيمٍ متعمَّد. وبهذا الفهم أيضاً، يُمكِنُ اعتبارُ مشروعِ المتحف المطروح، الذي تتشابك فيه رحابةُ المكانِ مع تغيُّراتِ الزَّمان، واحداً من الأدواتِ الفعَّالة لصيرورةِ السَّاحةِ مرآةً تكشِفُ للقادمينَ من بقاعِ الأرض والآتينَ في مُقبِلِ الأزمانِ شراسةَ الظَّلَمَة وانتهاكاتِهم الآثمةَ للحقوق، في مقابلِ بسالةِ المظلومين ومطالباتِهم المستمرَّة بردِّ المظالمِ وانتزاعِ الحقوق. وبالطَّبعِ، لا ينفصلُ هذا المشروعُ عن الأدواتِ الأخرى، ومنها الكتابةُ المضادة لكلِّ تزويرٍ للتَّاريخ، وحفظُ الوثائقِ والسِّجلات، وتنظيمُ الأرشفة، وتطويرُ طرائقِ التَّحليل، والحفاظُ على حرِّيَّةِ التَّعبير وحمايةُ أصحابِ الرُّؤى المُخالِفة، الملتزمينَ مثل غيرِهم بالدِّفاعِ عن الفضاءِ الدِّيمقراطي.

من المهمِّ التَّذكيرُ بأنَّ القدرة على التَّصوُّر وإنتاجِ الصُّور الفنِّيَّة ليس وَقفاً على الشُّعراءِ والأدباءِ والفنَّانينَ التَّشكيليينَ وحدِهم، فالعلماءُ بما حباهُمُ اللهُ من معرفةٍ راسخة، وبما لديهم من آلاتٍ وأدوات (على سبيل المثال، المِجهر لرؤيةِ الأشياءِ متناهيةِ الصِّغر، والتِّلسكوب لتقريبِ الأجرامِ البعيدةِ متناهيةِ الكبر)، هم أقدرُ من غيرِهم على التَّصوُّر، وأحياناً يُنافسون المبدعين الآخرين في إنتاجِ الصُّورِ الفنِّيَّة. فمثلاً، يُمكِنُ لشاعرٍ (كما فعلَ شاعرٌ مرهفٌ مثل الكابلي) أن يُخاطِبَ مرآةً (وهو يقصد اِمرأةً لنقاءِ وجهِها ومَلاحَتِه) فيقولُ لها: "كلِّميني يا مِرايا؛ أنا شايفِكْ طربانة ....إلى آخرِ الأُغنية"، ولكنَّ المرآةَ الفعليَّة لا تتهشَّمُ في الخاطر، بل لا تُراوِحُ مكانَها، وتتنافسُ مع صورةِ المرأةِ في لعبةِ المرايا المتقلِّبة أو منواليَّةِ "الخفاءِ والتَّجلِّي". في المقابل، يُمكِنُ لعالِمٍ مثل ريتشاد فاينمن (الذي سبق أن أشرنا إلى حديثِه عن معرفةِ العالِمِ بالوردة، في مقابل رؤيةِ الشَّاعرِ لها) أن يتحدثَ عن ارتطام الفوتوناتِ بالإلكترونات أو حالة الهياج التي تحدُثُ للأخيرة و"المشاورات" التي تحدُثُ فيما بين الأولى لاختيارِ "مَن" يُمَثِّلُها عند الانعكاس الجزئي للفوتونات عن سطحِ المرآة (وهي لوحٌ زجاجيٌّ ثقيل، ظهرُه مغطًى في الاستخدامِ الاعتياديِّ بالكروم أو الألومنيوم؛ وفي الاستخدامِ العلميِّ بنتريدات وأوكسيدات السِّيليكون، وأحياناً بالفضَّةِ والذَّهب). ولكن رغم تلك "المشاوراتِ" المُلزِمة، لا نُدرِكُ على وجه اليقين متى "يتصرَّفُ" الضَّوءُ كجُسيمٍ "بارتيكل" ومتى "يُقرِّرُ" من تلقاء ذاتِه التَّدفُّقَ كموجة "ويف"، في مراوحةٍ دائمة، تتدافعُ فيها الإلكترونات داخل أحشاءِ اللَّوح الصَّقيل، فيما تتنافسُ الفوتونات في لعبةِ الظُّهورِ المدبَّرِ بدقَّةٍ متناهية على مسرحِ الأحداثِ الطَّاغيةِ على السَّطح: سواءً كان ذلك سطحَ مرآةٍ مستوياً (باحتمالٍ يتراوحُ بين صفر% و 16%) أو ساحةَ اعتصامٍ ملتوية، جرَّاءَ العتمةِ والتَّكتُّمِ وبؤسِ الانعكاس.

وفي كلِّ الأحوال، يحتاجُ التَّحديقُ عبر المرايا، مهما كان طلاءُ ظهرِها، إلى توسيعٍ للحدقةِ وتكثيرٍ وتنويعٍ لزوايا الشَّوف، وهو ما ظلَّ يفعله الصَّادق إسماعيل بأسئلته التي تكشِفُ المُستترَ وتُزلزِلُ هدأةَ الاتِّفاقاتِ الصَّامتة؛ ومن بينها، سؤالُه الرَّئيس الذي أعدتُ عُذراً صياغته: هل سنستعيدُ فضاءَ "حرِّيتِنا" بإخلاءِ المدنِ الرَّئيسيَّة من المقارِّ الأمنيَّة والثُّكُناتِ العسكريَّة؟ قطعاً، لن تتمَّ الاستعادةُ على وجهِ الكمال، ولكنَّها ستكونُ خطوةً في الطَّريقِ الصَّحيح؛ فثمَّةُ كتابةٌ تضعُ يدَها على الجُرحِ بتقصِّي الأثر، وثمَّةُ أخرى تسعى إلى إحداثِ تأثيرٍ على الأرض، من غيرِ أنْ تؤدِّيَ المراوحةُ إلى تضييعِ الأثر أو إضعافِ التَّأثير. ومع تطوُّرِ وسائلِ الرَّقابة وتقنياتِ الاستطلاع، يُمكِنُ لأجهزةِ السُّلطة أن تُمارسَ سطوتَها من بُعدٍ، مثلما يُمكِنُ لدروناتِها (أي مَركِباتِها المُسيَّرة) أن تصطادَ المعارضينَ من عَلٍ. أمَّا العنفُ، شأنُه في ذلكَ شأنُ السُّلطةِ التي يسعى إلى ترسيخِها، فهو – مثلما أوضحَ الفيلسوفُ الفرنسيُّ الرَّاحل ميشيل فوكو- لا يُمكِنُ احتكارُه، إذ يتوزَّع، وإنْ لم يكن بالتَّساوي، على مستوياتٍ ونطاقاتٍ لا تُحَدُّ، بدءاً من شكلِه الآليِّ الفظِّ، وتبدِّياتِه العضليَّةِ المقيتة، وانتهاءً بالإساءةِ اللَّفظيَّة، والنَّظرةِ الجارحة، والتَّجاهلِ المُتعمَّد.

فالجارةُ ("التي يرِفُّ بالشَّبابِ وجهُها الصَّبوح") بلا اسمٍ ولا عنوان، المُشارُ إليها في عنوان هذا المقال، تستحِقُّ ردَّ اعتبارٍ، بعد أنِ استخدمَها رجلٌ من فَزَارة، للوصولِ إلى قلبِ أُختِ رجلٍ آخرَ من طَي؛ ولأنَّ الإشارةَ إليها وحدَها لا تكفي مع تجاهلِ وضعيَّتِها وطمسِ هويَّتِها، فقد آسَرنا التَّأكيدَ على حضورِها في البال، عند انتقالِ النَّظرةِ من خِباءٍ إلى خِباء، تماماً مثلُ المراوحةِ القائمة عند كلِّ مجازٍ بين طرفَيِ التَّشبيهِ والاستعارة (تصريحاً وتضمينا)؛ فصورةُ الأسدِ لا تختفي عند وصفِ رجلٍ به (أي المجاز) لشجاعتِه، وكذلك فإنَّ القمرَ لا يحتجِبُ كلِّيَّاً عند وصفِ اِمرأةٍ به لحُسنِها وجمالِ وجهِها وبهائه؛ والمرأةُ الصَّادقةُ قُدَّامَ المِرآةِ الصَّادقةِ تتشاركانِ حروفَ الدَّالِ (صوتاً وحرفا) وتتقاسمانِ ملامح المدلول (وهو الصُّورةُ الذِّهنيَّة)، في مراوحةٍ لا تنقطع لإنتاجِ الدَّلالة؛ فأهلاً ومرحباً مرَّةً أخرى بالكابلي، فتعلُّقُنا بإسهاماتِه الفنِّيَّة لم يعترهِ بتقادمِ العهدِ أيُّ انقطاع (باختلاسِ نُطقِ الحرفِ في الفعلِ المعتلِّ أو إشباعِه، أي تسكينُ الرَّاءِ أو تحريكُها بالكسر، مع جزمِ الفعلِ بحذفِ حرفِ العلَّة، في كلتا الحالتَيْن، وهو الياءُ، آخرُ الحروفِ الأبتثيَّة)، وبِهِ نختِمُ هذا المقال.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

مداخلة خلف الأخيرة أرجعتني لبداية هذا الخيط وعنوانه، فللحقيقة إن أكبر دهشة ممتعة كانت حين
أكتشفت أن السنة الضوية هي تلك المسافة التي يقطعها الضوء في سنة.
كانت القصة غريبة جداً، فقد كنت مسافراً لوحدي من سنار الى الخرطوم وأنا في الصف الأول الثانوي
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. أجلسني رقم تذكرتي بجوار رجل لا يتكلم كثيراً ويحمل كتاباً باللغة
الانجليزية في يده، وبعد أن تحرك البص وبالضبط عند مدينة الكاملين، سألني الرجل من أين أنت وأجبته،
فقال لي أنه قادم من لندن وأنه يدرس الماجستير في الفلك، فسألته هل يؤمن بوجود حياة أخرى في كواكب
غير كوكب الأرض؟ فقال يمكن لأننا لا نعرف هذه الكواكب وهي بعيدة جداً وشرح لي قصة السنة الضوئية. ثم قال المعلومة
التي اصابتني بتلك الدهشة العجيبة الممتعة وهي أنه لو افترضنا أن هناك كوكب فيه حياة، يبعد عنّا الف سنة ضوئية،
واستطعنا، نحن البشر، اختراع تليسكوب يرى هذه المسافة، فسيستغرق الضوء الف سنة ليصل الى هناك ثم الف أخرى
ليعود لنا بالصورة، وبالتالي لن نشاهدها أنا وأنت، بل سيشاهد الناس الذين يأتون بعد الفين سنة صور المخلوقات أو صورة الكوكب
نفسه قبل الف سنة من ميلادهم. فلا نحن سنشاهدها ولا اللذين سيشاهدونها سيرون ما يحدث في تلك اللحظة بالظبط
في ذلك الكوكب.
أظن أنني ظللت مندهشاً ليومين أو ثلاثة بسب هذا الاكتشاف، كان ممتعاً ومخيفاً ومبهراً واصابني بنوع من النشوى غريب.
أتذكر هذه القصة وأذكرها الآن، لأني استعدت في بداية هذا الخيط، عندما قرأته أول مرة، نفس ذاك الشعور، قصة هذا الكون،
هذا الخلق، هذا الحق، أو هذه الحقيقة، هي أعظم وأجمل وأمتع القصص. في كل قصة قصة، كيف تفاعل الناس مع انعكاس
صورهم في الماء لأول مرة، أو في أول سطح صقيل، ومع ظلالهم، كلها قصص ليست لحصة واحدة فقط بل للعمر كله يا قصاص،
فقصة الكون هي الأمتع والأدهش.

محمد خلف شكراً وحباً لك على هذا القص البارع، ربما لم استمتع واتعلم في حياتي وافرح بهذه المعرفة مثلما فعلت
من خلال هذا الخيط.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

المحنة العامة، التي يمر بها عالمنا اليوم، بسبب الهجوم المتكاثر للفيروس التاجي (فيروس الكورونا أو كوفيد-١٩)، لا سِيَّما ضراوته في إيطاليا، أثارت في محمد خلف مشاعر، أفكار وتداعيات مختلفة، ومتعالقة:



فيروس "الجحيم"، وقِناع دانتي، و"تشايناتاوُن" على مرمى حجرٍ من فلورنسا


ليس من مرامي هذا المقال الإفتاء بصِحَّة أيٍّ من نظريَّات المؤامرة المنتشِرة في وسائل التَّواصل الاجتماعي بشأنِ "كوفيد ١٩" أو تكذيبها، وإنَّما الإقرارُ بوطأةِ الورطةِ الحالية، التي تقولُ حكوماتُ الدُّولِ المتضرِّرة إنَّها جاءت حصريَّاً بسبب الفيروس التَّاجي ("كرونافايرس")، الذي خرج عن السَّيطرة لسرعةِ انتشاره، والتصاقِه بالأجسامِ الصَّلبة، مع طولِ مدَّةِ فعاليَّته بتلك الأجسام، ممَّا يزيدُ من خطرِ الإصابةِ به. ومن أشدِّ دواعي هذا الإقرار، هو تعزيزُ التَّكاتفِ الدُّوليِّ لدحرِ هذا الوباء؛ وعلى المستوى المحلِّي، العملُ على منعِ وصولِه للبلاد، والاستعدادُ لدحرِه بالتَّعاونِ المدنيِّ المتحضِّر، وتناسي كلِّ الخلافاتِ المؤقَّتةِ النَّاشئةِ حاليَّاً بين الثُّوَّار، ودعمُ جهودِ الحكومةِ الانتقاليَّة في صدِّ الوباء، رغم التَّحفُّظِ على سُلحُفائيَّتِها في تحريكِ الملفَّاتِ الأخرى؛ فالسَّببُ كما تبيَّنَ لكثيرينَ قد ظلَّ كامِناً ومنصَهِراً تماماً في بِنيتِها الثُّنائيَّة.

ونقصدُ بالتَّعاونِ المدنيِّ المتحضِّر استشرافَ أُفُقِ الحداثة، باستصحابِ القيمِ الجماعيَّةِ الإيجابيَّة، المتمثِّلةِ في التَّعاضد، ونصرةِ المظلوم، والتَّعلُّمِ من تجاربِ الآخرين، محلِّيَّاً ودوليَّاً؛ ففي فصولِ محوِ الأُمِّيَّة، يُمكِنُ استصحابُ قيمِ الإيثار؛ وفي لجانِ الأحياء، يُمكِنُ المحافظة على قيمةِ الانتصارِ للمظلوم؛ وفي وسائلِ التَّواصلِ الاجتماعي، يُمكِنُ إحياءُ قيمةِ التَّعلُّمِ من تجاربِ الآخرين. ففي نادي السِّينما، على محدوديَّته، قد محونا من قبلُ أُمِّيَّتنا السِّينمائيَّة؛ وفي "الفتيحابِ" و"الصَّافيَّةِ" و"غرفةِ القصَّاص" (إضافةً إلى "غُرَفيَّةِ تجاوز")، قد حذقنا سُبُلَ التَّعاملِ مع النُّصوص، قبيل تعرُّضها للمعالجةِ المسرحيَّةِ أو السِّينمائيَّة؛ ومن أكاذيبِ وسائلِ الإعلامِ الرَّسميَّة، قد تعلَّمنا القراءةَ بالمقلوب وفرزَ "الطُّرَّةِ" المُعيبةِ في "كتابتها"؛ مثلما يفرز شبابُ اليومِ إماراتِ "الفوضى الخلَّاقة" المختلطةِ بأرضِ الواقع، الأغربِ أحياناً من الخيال.

يُصوِّر فيلم "روما" (أو "روما فيللِّيني") للمخرج الإيطالي فيديريكو فيللِّيني - الذي تمَّ عرضُه على شاشاتِ السِّينما في المدنِ الثَّلاث في منتصفِ السَّبعينات - العاصمةَ الإيطالية في أزهى عصورِها وأكثرِ أحيائها الشَّعبيَّةِ امتلاءً بالحياة، في مشاهدَ تقطَّرُ رونقاً وعذوبة؛ إلَّا أنَّ المتجوِّلَ في شوارعِها، في الرُّبُعِ الأوَّلِ من القرنِ الحادي والعشرين، يحسُّ بمظاهرِ الفوضى تضرِبُ أطنابَها عند كلِّ تقاطعٍ وعبر كلِّ طريقِ مشاة. وكما يقولُ عالمُ الفيزياءِ الكوانتيَّةِ الإيطالي، كارلو ريفولي، إنَّ الزَّمانَ يمضي في تجاربِنا المشاهدةِ عنه في ترتيبٍ منتظِم، مثلما يصطفُّ الإنجليزُ في انتظارِ بصٍّ أو قطار؛ ولكنَّه يتدافعُ في مستواه الكمومي (نسبةً إلى ميكانيكا الكم)، كلُّه في نفسِ الوقتِ، مثلما يفعلُ الإيطاليون، عند استخدامِ وسائلِ النَّقلِ العام. فهل هذه الفوضى هي السَّببُ في تضرُّرِ إيطاليا أكثر من باقي الدُّولِ الأوروبيَّة في مواجهةِ الفيروسِ التَّاجي (أو "الكرونا")؟ أم أنَّ الجاليَّةَ الصِّينيَّة التي تُسيطِرُ على الأعمالِ في مدينة براتو، التي تقعُ على مرمى حجرٍ من فلورنسا، هي في واقعِ الأمر الصِّلة التي تربط إقليم توسكانا الإيطالي بمدينة ووهان الواقعة بإقليم هوبي الصِّيني؟ لا نُريدُ إجابةً، بقدرِ ما نُريدُ التَّنبيه إلى خطورةِ اللَّامبالاةِ واطمئنانِ النَّفسِ الزَّائف حِيالَ الكوارث، مع التَّشديد على أهميَّة التَّماسك وضبط النَّفس في مواجهتِها.

بالحديثِ عن فلورنسا، دعونا نقبِضُ أطرافَ موضوعٍ يتشابكُ فيه الواقعُ الرِّوائيُّ مع الخيالِ السِّينمائي، ليتداخلَ الاثنانِ معاً مع الواقعِ الفعلي (أو ما يبدو أنَّه كذلك). في عام ٢٠١٣، نشرت دار "بنتام برس" روايةً بعنوان "الجحيم" (إنفيرنو) للكاتب الرِّوائيِّ الأمريكي، دان براون؛ وهي واحدةٌ من خمسٍ (من مجموعٍ كلِّيٍّ وصل حتَّى الآن إلى سبعِ روايات) يظهرُ فيها نفسُ البطل، وهو "روبرت لانغدون"، الذي يعملُ أستاذاً متخصِّصاً في علم الرُّموز ("سيمبولوجيا"؛ وليس علم العلامات، "سيميولوجيا" أو "سيميائيَّة"). وقد استخدمه الكاتبُ في فكِّ شفراتٍ مستعصية، أشهرها "شفرة دافينشي"؛ ومنها أيضاً "ملائكةٌ وشياطين"، و"الرَّمزُ المفقود"، "وأُصول". كما تمَّ إخراجُ ثلاثةٍ منها في شكلِ أفلامٍ عاليةِ الإقبالِ والرَّواج (بلوكبسترز)، من إخراج رون هاوارد، وتمثيل توم هانكس.

في رواية "الجحيم" (الذي يُشيرُ إلى الدَّرَكِ الأسفل من معماريَّة "الكوميديا الإلهيَّة" للشَّاعرِ الإيطاليِّ الملحمي، دانتي أليغييري)، تقومُ "الدكتورة إليزابيث سينسكي"، رئيسة منظَّمة الصَّحَّة العالميَّة، بإشراك صديقها الشَّخصي "روبرت لانغدون" في محاولةٍ لحلِّ لغزٍ للوصولِ إلى مكانِ فيروسٍ أخفاه عالِمٌ مختصٌّ في مجال علم الوراثة ("جينيتيكس")، وهو شابٌّ مليارديرُ متهوِّرٌ يؤمِنُ بجانبٍ من نظريَّة توماس مالتوس بشأن تقليص الانفجار السُّكاني عن طريقِ التَّدخُّلِ البشريِّ بالتَّعديلِ الجينيِّ ونشرِ الفيروسات، إنْ تعذَّرَ تسارعُ الكوارثِ بشكلٍ طبيعي. إلَّا أنَّ شركةً أمنيَّةً عالميَّة عهِد إليها المليارديرُ بتدشينِ الفيروس، قد قامت باختطافِ بروفيسور "لانغدون"، وأخضعته إلى عملياتِ إيهامٍ متعمَّدٍ للوصولِ عبره، بمعاونةِ صديقةٍ للملياردير، إلى مكانِ الفيروس، بعد أن قامت جهةٌ تتعاونُ مع منظَّمةِ الصَّحَّة العالميَّة، ولكنَّها تخدِمُ أهدافاً خاصَّة، بمطاردة الملياردير، ومحاصرته داخل برج بالاتسو فيكيو بفلورنسا، ممَّا أدَّى في نهاية الأمر إلى تفضيلِه السُّقوطَ من أعلى البرج، بعد أن استيقنَ من تَركِهِ لصديقتِه ما يكفي من المؤشِّراتِ الفرعيَّة وخارطةِ الطَّريق التي يُمكِنُ أن تقودَها خطوةً على إثرِ أخرىَ إلى مكانِ الفيروس.

بعد ارتكابِ عناصرِ الشَّركةِ الأمنيَّةِ لعدَّةِ هفواتٍ قاتلة، ونجاةِ البروفيسور بجلدِه عدَّةِ مرَّات، خشيتِ الشَّركةُ الأمنيَّة من افتضاحِ أمرِها وانهيارِ سمعتها، التي تعتمدُ في الأساسِ على بُعدِها عنِ الأضواءِ وتنفيذِ وصايا عملاء الشَّركةِ بحذافيرِها من غيرِ تساؤلٍ أو تشكيكٍ في دوافعِهمُ الأخلاقيَّة، فاضطرَّت إلى خرقِ بروتوكولها ورفض تنفيذ الوصيَّة، بعد أنِ اكتشفت قبيل أربعٍ وعشرينَ ساعةٍ فقط من تنفيذها، وهي في شكلِ شريط فيديو، أنَّ بثَّ الشَّريطِ سيكونُ متزامِناً مع انفجارِ عُبُوَّةٍ للفيروس ستؤدِّي إلى تقليص الجنس البشري إلى النِّصف. وبعد أن فاقت من هولِ الصَّدمة، تحركتِ الشَّركةُ الأمنيَّةُ بسرعة، متعاونةً في ذلك مع منظَّمة الصَّحة العالميَّة، ممَّا قاد في النِّهاية إلى الكشفِ عن مكانِ الفيروس، وإحباطِ المؤامرة، ونجاةِ الجنسِ البشريِّ من كارثةٍ كانت قابَ قوسينِ أو أدنى من الوقوع. هذا باختصارٍ مخلٍّ ما جاء في الفيلم الذي أخرجته هوليوود في أكتوبر 2016.

سيكونُ هناك متَّسعٌ من الوقتِ لفحصِ التَّعديلات التي أجرتها شركة أفلام كولومبيا على الحبكة الرِّوائيَّة حتَّى يتناسبَ الفيلمُ مع ذائقةِ الجمهور الذي يضمن نجاح البلوكبسترز؛ وسيكون هناك متَّسعٌ لمناقشة تبنِّي رئيسة منظَّمة الصَّحَّة العالميَّة طرفاً من إستراتيجيَّة "بيرتراند زوبريسكي" وصديقته "سيينا بروكس" الخاصَّة بالتَّعقيم الجزئي للسُّكَّان؛ وسيكون هناك متَّسع أيضاً لتوضيح دلالة قيادة اِمرأةٍ عالِمة لمنظَّمةٍ دوليَّةٍ تُكافِحُ وباءً يُهدِّدُ العالمَ قاطبة. وعلى مستوى الواقع، سيكون هناك متَّسعٌ من الوقت لإجراءِ التَّحقيقات وغربلة كافَّة نظريَّات التَّامر المنتشرة في وسائل التَّواصل الاجتماعي؛ وسيكون هناك متَّسعٌ لمعرفةِ المزيد عمَّا رَشَحَ بشأنِ "مناعةِ القطيع"؛ كما سيكون هناك متَّسع لتقييم دور دكتور تيدروس أدحنوم غيبريسوس، الإثيوبيِّ الأصل، والرئيسِ الفعليِّ لمنظَّمة الصَّحَّة العالميَّة.

وفوق كلِّ ذلك، سيكون هناك متَّسعٌ لزيارة فلورنسا، واعتلاء درجات "الدُّومو" لتأمُّل أرجاء المدينة التي سيطرت على حياتها السِّياسية والثَّقافيَّة عائلة ميديتشي، التي خرج من أعطافها عددٌ من البابوات والأباطرة الأوروبيين؛ وسيكون هناك متَّسعٌ للتَّنزُّهِ في السَّاحات التي كان يتجوُّل في أرجائها بوتيتشيلي وليوناردو دا فينشي ومايكل أنجلو؛ بل من الممكن في معرض أوفيزي مشاهدةُ النُّسخةِ الأصليَّة للوحة "ميلاد فينوس" أو "العائلة المقدَّسة" أو تمثال "داؤد" ("إل دافيد") أو عدداً من النُّسخ المنتشرة من التِّمثال في عددٍ من ساحات المدينة؛ وفي الأمسيات، يُمكِنُ مشاهدة "الدُّومو" نفسه من ميدان مايكل أنجلو الكبير، من فوقِ تلٍّ مرتفعٍ بشرقِ المدينة. كلُّ هذا ممكنٌ ومتاحٌ للجميع، فقط بعد انحسارِ الوباء.

إلَّا أنَّ ما هو مطلوبٌ الآنَ هو أقصى درجاتِ التَّماسكِ، والتَّعاضدِ، والتَّكاتفِ، والتَّآلفِ، والإيثار. فالثَّورةُ التي بهرتِ العالمَ بقدرةِ شبابِها على التَّوحيدِ وتناسي الخلافات، هي الآنَ مطالبةٌ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى بإنزالِ هزيمةٍ سَّاحقةٍ بهذا العدو المستتر، الذي لا يُجدي معه سوى الحكمةِ والصَّبرِ والجَلَد، باتِّباعِ إرشاداتِ السُّلطاتِ الصَّحَّيَّة المحلِّيَّة والدَّوليَّة، وضبطِ النَّفسِ عند الشَّدائد، ومحاربة الشَّائعات، وتقديم العونِ للمحتاجين؛ ومن بعدُ، التَّوكُّلُ على الحيِّ القيُّوم الذي لا تأخذُه سِنَةٌ ولا نوم؛ وبمعنًى أبلغ، "اِعقلها وتوكَّل"، أي اِستخدمِ العقلَ أوَّلاً، ومن ثمَّ توكَّل على الله.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الأحاسيس التالية هي بعض ما ولَّده المقال الأخير لمحمد خلف في وجدان وجدي كامل:


عندما يكتب محمد خلف واقرا ما يخطه، فأنا أحس بالنشوة والألم معًا. أحس بالنشوة لأني أقرأ لأحد أصدقاء ( الكار) كما يُقال- أصدقاء الفكرة والمعاناة في النصف الثاني من السبعينيات والثمانينات، نخرج من معطف بولا أو بدون معطف ( كما وصفه لي محمد في رسالة بالواتس) ونتمرد على مؤسسة التعتيم العام حينها - ولم تكن بعد بهذه الصفات الغميسة التي أضافتها الإنقاذ. أتألم (وهذا ما لم أنسه) لحالة التشرد العالمي الذي صرنا عليه وليس من سبيل لنا للعودة في الأغلب من الحالات. محمد خلف بإنجلترا وحسن موسى بفرنسا وهاشم محمد صالح بأميركا وأسامة الخواض وعبد اللطيف على الفكي بأميركا. عادل القصاص بأستراليا وبشرى الفاضل بكندا ومصطفى آدم بالشارقة ومحمد عمر بشارة بإنجلترا والباقر موسى بكندا وأسماء كثيرة كانت هناك ومنها من هو بالسودان لا يزال ومنهم من رحل. ما ذكرت إلا أسماء قليلة جدا على سبيل المثال فقط طبعا.

وجدي كامل
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

بعد إقصاء موضوعي، اقتضاه السياق، يعود محمد خلف، بهذه المساهمة، للحديث عن الأقانيم الثلاثة: العالم، والعقل، واللُّغة:


من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّاعة: تأمُّلاتٌ في زمنٍ مُستعاد

(الحلقة الأولى)



كان جَدِّي محمود سليمان كركساوي يُصِرُّ على أن نتناولَ معه وجبة العشاء (التي تُعِدُّها خالتي فوزيَّة، صُغرى بناته)؛ وكان دائماً ما يُردِّدُ على مسامعنا خلال الوجبة القولَ المأثور: "أنتَ تُريد، وأنا أُريد؛ واللهُ يفعلُ ما يُريد". وكنَّا نُريد، عقب حلقة الكابلي التي احتفت بالمكان، أن ننتقل إلى الفنَّان الرَّاحل إبراهيم عوض، لنبتدرَ في ذِكراه العَطِرة حديثاً مطوَّلاً عن الزَّمان، نبدؤه بأغنيته الخالدة: "يا زمن وقِّف شويَّة" (حتَّى يستكملَ ثوَّارٌ قليلو الخبرة مهامَّ الفترة الانتقالية). إلَّا أنَّ الجائحةَ قد استدعت حاجةً مُلِحَّة للتَّنبيه على مخاطرها، فكانتِ المشاركةُ السَّابقة مكرَّسةً لذلك الغرض، مع التَّشديد على المحافظة على الوحدة، ودعم الحكم الانتقالي، مهما كثُرت أخطاؤه أو قلَّت حِيلتُه.
في فترة الإغلاق الكامل ولزومِ النَّاسِ مساكنهم، نُريدُ أن نُعاودَ فكرةً سعينا إلى تحقيقها مُسبقاً ولم نُفلح في إكمالِها، وهي إحداثُ تعميقٍ للأقانيم الثَّلاثة التي استعرضناها أفقيَّاً: العالم، والعقل، واللُّغة؛ ففي البدء، لم يكن هناك مسوِّغٌ للاستعجال، فتركناها على حالها إلى أن ينبثقَ سياقٌ يُعجِّل بطرحها مجدَّداً. وهذا السِّياقُ الذي نحن بصدده الآن هو سياق الجائحة الذي يستدعي النَّفاذَ مباشرةً إلى موضوعِ الزَّمان، الذي يتشظَّى بين ثوانٍ تُقاسُ بحركة عقارب السَّاعة، وبين آجالٍ مسمَّاةٍ للموجودات إلى حين قيام السَّاعة. فهذه الجائحة (أي هذا الوباء الذي يجتاح العالم) لم تستثنِ أحدا؛ فقد طالت في موضع إقامتي ابنَ الملكة الأمير تشارلز، ولي العهد، وأمير ويلز؛ كما طالت رئيسَ الوزراء الحالي، وعمدة لندن السَّابق، بوريس جونسون (الذي أفردنا له في السَّابق عدَّة مشاركاتٍ بشأنِ التراث الإسلامي في الأندلس، المتمثِّل بصورةٍ خاصَّة في قصر الحمراء القائم حتَّى الآن في غرناطة).
ففي هذا الوقت الذي تُكتبُ فيه الوصايا على عجلٍ فوق أغطية محرِّكات السيَّارات، ويحضُرها شهودٌ من وراء أسيجة المنازل، سنوجزُ الكلامَ بشأنِ تعميق الأقانيم الثَّلاثة حتَّى لا تضيع الفكرة الكلِّيَّة، وحتى يسهُلَ الانتقالُ المباشر إلى موضوع الزَّمان. وليس ذلك خشيةً من اقتراب أجلٍ، ولكن لأجلِ قارئٍ افتراضيٍّ يستحقُّ تزويده بالإطار الكلِّي للحُجَّة؛ وسوف يكونُ هناك متَّسعٌ من الوقت، بعد انقشاع الجائحة، لتقديم مزيدٍ من التَّفاصيل، متى ما انبثقَ في الأفقِ سياقٌ يُساعدُ على استجلاء كلِّ نقطةٍ على حِدَة. لهذا، سنبرزُ بدءاً من الفقرة التَّالية بعضَ النِّقاطِ المهمَّة المتعلِّقة بكلٍّ واحدٍ من الأقانيم المذكورة آنفاً؛ وهي العالم، والعقل، واللُّغة؛ على أن ندلف بعدها مباشرةً إلى موضوع الزَّمان، عِلماً بأنَّ هناك تداخلاً بين الأقانيم، كما أنَّها ستكونُ محكومةً، تماماً مثل محاورها المعمَّقة، بآليَّة الاعتماد (سوبرفينينس)، التي تستلزم استناد النَّاشئ على السَّابق الأكثر عمقاً منه.

أوَّلاً: العالم
بنية ثلاثيَّة تراتبيَّة للواقع:
قوًى تتحرَّكُ في مجالاتٍ، تُنظِّمها قوانين فيزيائيَّة.
ذرَّاتٌ وجزيئات في جدولٍ للعناصر، تُفسِّره ميكانيكا الكم.
موجوداتٌ حيَّة (تشملُ فيروساتٍ تنشط بالالتصاق بها)، تُصنعُ لها بروتيناتٌ عبر موجِّهاتٍ مكتوبة بأحرف كيمائيَّة محدودة.

ثانياً: العقل
بنية ثلاثيَّة تراتبيَّة للفكر
أساسٌ ماديٌّ قديم، يقوم بتنظيم وظائف الجسم الأساسيَّة من الغرفة السُّفلى للدُّماغ.
جهازٌ لإنتاج المشاعر المُعَزِّزة للبقاء (القتال أو الفرار)، يُدارُ من الغرفة الوسطى للدُّماغ.
قشرةٌ عليا قادرة على إنتاج الوعي والتركيب اللُّغوي، الذي ينشأ في الفصِّ الأيسر للدُّماغ.

ثالثاً: اللُّغة
بنية ثلاثيَّة تراتبيَّة للكلام
إنتاجٌ صوتي، محكوم بقوانين فونولوجيَّة.
تركيبٌ نحوي، محكوم بضوابط منطقيَّة.
توجُّه دلالي، يستلزم أسلوبَ أداءٍ بعينه ضمن عددٍ محدود من الخيارات.

بمعنًى آخر، فإنَّ ورود هذا الأسلوب الأدائي ضمن سياقٍ (نهائي)، هو الذي يتحكَّم ( بصورةٍ قاطعة) في تأدية المعنى. وهذا الوجه المكتمل للُّغة، عبر البنيات الثُّلاثيَّة الثَّلاث، هو الذي هيأ في نهاية الأمر لإنتاج المعرفة (الأرضيَّة)، وتلقِّي العلم (السَّماوي)، وتطوُّر العلوم الطَّبيعية، وانبثاق العلوم الاجتماعيَّة، التي تفتحُ المجالَ لإنتاجِ عددٍ من الأبنية الاجتماعية للواقع، والتي تشمل المال، والأعراف، والمناسبات الاجتماعية، والقوانين، والمنشآت، والأدوات؛ وكلَّ ما يتَّفقُ النَّاسُ عليه، من غير أن يكونَ قائماً بطبعه؛ هذا إضافةً إلى الأدائيَّات، التي تُدشِّن أوضاعاً جديدة أو تضع الأحكام أو تُرسِّم المراسيم؛ ففي سلطنة الفونج، على سبيل المثال: "عندما ينطقُ السُّلطان، فهو ينطقُ الحقيقة"، حسب ما جاء في "عصر البطولة في سنَّار"، من تأليف جاي إسبولدينغ، وترجمة أحمد المعتصم الشِّيخ؛ "وإذا تكلَّم السُّلطان بطريقةٍ رسميَّة من فوق كرسيِّ العرش، فإنَّ كلماتِه تكتسبُ قوَّة القانون". وبهذا الاقتباس، نختمُ هذه الحلقة التَّمهيديَّة، آملين أن تنشأ قوانينُ نرتضيها، صادرةً عن هيئاتٍ تشريعيَّة منتخبة، بعد أن تركنا وراءنا عهداً تتحكَّمُ فيه الإشارة، والتَّلويح بعصا، والتَّآمر بليل.

في الحلقة المقبلة، سوق ندلف، بإذنِ الله، مباشرةً إلى تناول موضوع الزَّمان، الذي يتشظَّى من جانب في توازٍ كاملٍ مع الحقيقة، منظوراً إليه عبر ساعةِ برجٍ أو أخرى متدليةٍ من يد؛ فيما يلتئمُ من جانبٍ آخرَ في توازٍ تامٍّ مع الحق، في ليلةِ إسراءٍ أو بُراقِ مِعراج.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّاعة: تأمُّلاتٌ في زمنٍ مُستعاد


(الحلقة الثَّانية)





في الحلقةِ السَّابقة، أوجزنا الكلامَ بشأنِ أقانيم الحقيقة الثَّلاثة، حتَّى لا تضيع الفكرة الكلِّيَّة. ونبدأُ هذه الحلقاتِ المُكمِّلة بالكلام عنِ الحقِّ، حتى يسهُلَ الانتقالُ المباشر إلى موضوع الزَّمان. ولو تسنَّى للقارئ الكريم التَّمعُّن في مصفوفة البنياتِ الثُّلاثيَّة الثَّلاث، لوجَدَ أنَّها تنتهي جميعُها بشأنٍ لُغوي: بنية الواقع، بأحرفٍ كيمائيَّة محدودة؛ وبنية الفكر، بتركيبٍ لغويٍّ هو عبارة عن استعدادٍ فطريٍّ لاكتسابِ اللُّغة (متمركزاً في الفصِّ الأيسر للدُّماغ)؛ وبنية الكلام، التي تنتهي بتوجُّهٍ دلاليٍّ وأسلوبٍ أدائي، سمح للسُّلطان (عمارة)، وهو جالسٌ على كرسي العرش في البلاط السِّنَّاري، أن "ينطقَ الحقيقة"، وأن تكتسب كلماته قوَّة القانون، بحُكم أدائيَّاتِ اللُّغة المكتسَبة عبر حراكٍ طويلِ الأمد داخل المصفوفة؛ إلَّا أنَّ الحقَّ، الذي "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" (سورة البقرة؛ الآية رقم "255"؛ وتُسمَّى "آية الكرسي") لا تتشظَّى لديه الأقانيم، بل تلتئمُ في أمرٍ واحد يجمعُ شمل الإرادة، والقول، والكينونة؛ إذ "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (؛ الآية رقم "82").

نستخدم مصطلح مصفوفة "ميتريكس" (وللأستاذ الفنَّان التَّشكيلي أحمد المَرضِي العُتبى حتَّى يرضى عن هذا الاستحدام)، تيمُّناً بمصفوفة تنفيذ مهامِّ المرحلة الانتقاليَّة؛ إلَّا أنَّ ما يُميِّز هذه المصفوفة الكبرى للبنياتِ الثُّلاثيَّةِ الثَّلاثِ للحقيقة، هو أنَّها شديدةُ الحركيَّة، بدفعٍ من السَّابق للَّاحق منذُ النَّشأةِ الأولى للكون، وفقاً لآليةِ الاعتماد (سوبرفينس)، مع تداخلٍ لا ينقطع بين مكوِّناتها الموزَّعة بشكلٍ تراتبيٍّ عبر الأقانيم الثَّلاثة. على سبيل الأمثلة فقط، تتميَّز أكثر الموجوداتِ صلابةً في أُقنوم العالم، على المستوى الكمومي (نسبةً إلى ميكانيكا الكم)، ومن بينها الصخور الجرانيتيَّة، بحركيَّةٍ دائبة ("وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ"؛ سورة النَّمل، الآية رقم 88")؛ في حين تتجمَّد حركة الأشخاص الخائفين من الوحوش المفترسة، إن هم لم يستخدموا داخل أقنوم العقلِ آليَّةَ ردِّ الفعلِ التِّلقائيِّ بالفرارِ أو القتال؛ أمَّا في أقنوم اللُّغة، فإنَّ الحرف السَّاكن (ضمن مجموعة الحروف الصَّوامت) لا يُمكِنُ نُطقُهُ إلَّا بتحريكِه بحرفِ عِلَّةٍ متحرِّكٍ قصير (مثل فتحةٍ أو ضمَّةٍ أو كسرة).

وهذه الحركيَّة لا تتمُّ إلَّا بانقضاء مدَّةٍ زمنية، تطولُ أو تقصُر؛ فما هو هذا الزَّمن الذي يمرُّ بانقضاءِ ثوانيه (إنْ لم نقل نانوثوانيه)، وكيف تُقاسُ مُدَدُه؟ وكيف يتمُّ التمييز بين ثوانيه التي انقضت (الماضي)، وبين لحظاته المقبلة (المستقبل)؟ اقترح إسحق نيوتن زمناً خطِّياً أُقيمَ على أكتافِه صرحُ الحياةِ المعاصرة، بينما زعزع ألبرت آينشتاين هذه الخطِّيَّة ببناءِ صَرحَيْ النِّسبيَّة الخاصَّة في عام 1905، والنِّسبيَّة العامَّة في عام 1915؛ وقبل صياغتهما، كان هناك إقرارٌ في أوساطِ العلماء، لم تُفلِح أيٌّ من هاتين النَّظريَّتينِ الأساسيتينِ في زعزعته، كما لم تُفلِحِ الفيزياءُ الحديثة في نقضِ فحواه، وهو أنَّ القوانين الفيزيائيَّة بمجملها لا تُميِّزُ بين الماضي والمستقبل أو السَّبب والنَّتيجة، فيما عدا القانون الثَّاني للدِّيناميكيَّة الحراريَّة؛ وهو المبدأُ الذي يقضي بأنَّ الحرارة تنتقل، داخل نظامٍ مُغلَق من غيرِ وجودِ تأثيرٍ صادرٍ ممَّا حوله، من الجسم السَّاخن إلى البارد (ولا يحدُثُ العكسُ مُطلقاً)؛ وهذه الخاصِّيَّة التي يشتملُ عليها هذا المبدأ الفيزيائي الأساسي هي التي تُمكِّنُ من التَّمييز بين الماضي (السَّاخن) والمستقبل (البارد)؛ وبالتَّالي، التفرقة الواضحة بين السَّبب (الذي يحدُثُ أوَّلاً) والنَّتيجة (التي تحدُثُ بتأثيره تالياً).

وقد استقرَّ هذا المبدأ، الذي صاغه رودلف كلاوزيس، إلى حين؛ وهو ما يُعرف بالإنتروبيا، وهي مقدارٌ يزدادُ باضطراب النظام (أي انتقال الحرارة في الأجسام من الحارِّ المنتظم إلى البارد بإحداثِ اضطرابٍ في النِّظام). إلَّا أنَّ لودفيغ بولتزمان (الذي مات منتحراً، بسبب فشلِه في إقناعِ معاصريه) أوضحَ أنَّ الحرارة هي عبارة عن تحريضٍ مستمرٍّ للجُسيمات الميكروسكوييَّة (وذلك قبل اقتناع العلماء بوجودِ الذّرَّاتِ في الأساس)، بحيث يتمُّ تسخينُها عشوائيَّاً بالالتصاق بالجُسيمات السَّاخنة؛ وبشكلٍ حاسم، فإنَّ الإنتروبيا ليست اضطراباً لنظامٍ سابق، بحيثُ يُمكِنُ التَّمييزُ بين الماضي والمستقبل، وإنَّما هي زيادةٌ للاضطراب باختيارِ ترتيبٍ بعينِه، مع تجاهلٍ تامٍّ أو عدم القدرة المطلقة على معرفة التَّرتيباتِ الأخرى. وبشكلٍ حاسم أيضاً، فإنَّه إذا عُرِفت كلُّ التَّرتيبات الممكنة، فإنَّ التَّمييز القائم بين الماضي والمستقبل سينهار، وسيذهبُ معه التَّسلسُلُ القائم بين السَّبب ونتيجته.

في وقتِ تفشِّي الجائحة وتفتيشِ الأُسرِ عن وسائلَ لتزجيةِ الوقت، أخرجت لنا اِبنتي ماريا لعبةَ ورقٍ قديمة لم يمسسها أحدٌ منذ طفولتها، تُسمَّى "أونو"؛ وتشتمل على 108 كروت، بأربعةِ ألوان (أحمرَ، وأخضرَ، وأصفرَ، وأزرق)، وكروتٍ يبدأ ترقيمُها من صفر إلى تسعة، وكرتينِ يأمرانِ بسحب كرتين آخرَيْن، وأربعةِ كروتٍ يأمرُ كلُّ واحدٍ منها بسحب أربعةِ كروتٍ أخرى؛ وكرتين لإرجاع الدَّور في اللَّعب، وكرتين لتفويته، وكرتين لتغيير اللَّون، وآخرَيْنِ يعطي كلٌّ منهما اللَّاعبَ مطلقَ الحرِّية في أن يستبدلَ أيَّ كرتٍ بآخر. وفي البدء، تنتظم هذه الأوراقُ (أي الكروت) الجديدة وفقاً لترتيبٍ بعينِه؛ إلَّا أنَّه من الممكن تصوُّرُ ترتيبٍ للأوراق وفقاً لعدَّةِ خياراتٍ أخرى، تشمل اللَّون، والرَّقم، والتَّوجيهات المختلفة التي يحملها الكرت. ولكي يبدأ اللَّعب، لا بُدَّ من خلط الأوراق جيِّداً؛ ومع الخلط، يتلاشى تدريجيَّاً التَّرتيب السَّابق الذي ينتهي عنده اللَّعب. ويفوز اللَّاعب بتخلُّصِه من كلِّ الأوراق، إلَّا أنَّه يستوجب عليه أن يقول "أونو"، عندما يتبقَّى لديه كرتٌ واحد فقط؛ ولذلك سُمِّيت اللَّعبة "أونو" (وتعني رقم واحد في اللُّغتين الإيطاليَّة والإسبانيَّة: وهما لُغتا ذلكما البلدين الأوروبيَيْن اللَّذين تضرَّرا أكثر من غيرهما من جرَّاءِ الجائحة).

ووفقاً لبولتزمان، فإنَّ الإنتروبيا هي تماماً مثل لعبة "أونو" (ولو أنَّه لم يستخدم هذه الاستعارة المطوَّلة، فهي من بناتِ أفكارِنا التي تسبَّبت فيها اِبنتي ماريا، ومن وحي سياق الجائحة الذي استدعى تزجية الوقت بالتَّخلُّص من "الكَرور"، ومشاهدة الأفلام، وقراءة الرِّوايات، إضافةً إلى لعب الورق)، وهي لعبةٌ يُمكِنُ التَّركيزُ فيها على ترتيبٍ بعينِه باعتباره ترتيباً خاصَّاً، مع تجاهل التَّرتيبات الأخرى تماماً؛ ولو وُجِد مَن له القدرة على تذكُّر كلِّ ترتيبات الأوراق، فإنَّ كلَّ ترتيب سيكونُ خاصَّاً لديه، مهما تمَّ خلطُ الأوراق. وفي الإنتروبيا، وفقاً لبولتزمان، يتمُّ التَّركيزُ على ترتيبٍ بعينِه؛ وبدءاً منه، يتمُّ التَّمييزُ بين الماضي والمستقبل؛ ولكن إذا عُرِفت كلُّ الترتيبات، بدون إقصاءٍ لأيٍّ منها، فسينتفي الفرقُ القائمُ بين الماضي والمستقبل. وبصورةٍ أوسع، وهو توسيعٌ من بناتِ أفكارنا أيضاً، إذا وُجِدت قوَّةٌ لديها عِلمٌ مطلق، ومعرفةٌ كاملة بأدقِّ التَّفاصيل، ("مَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ"؛ سورة يونس، الآية رقم "61")، فإنَّ الزَّمان بمُجمَلِه سيكونُ طوعَ بنانِها (إنْ لم يكنِ الواحدُ الأحدُ هو الزَّمانُ ذاتُه)؛ "أونو"!

في هذه الحلقة، التي تُشكِّلُ واحدةً من الحلقاتِ التَّكميليَّة، نودُّ التَّنبيه على أنَّنا لا نستخدمُ إنجازاتِ العلوم الطَّبيعية للتَّدليل على صِحَّة ما جاء به القرءان، أو نلجأ لأحدثِ مكتسباتِ الحقيقة للتَّدليلِ على إعجازِ ما نطق به الحقُّ؛ وإنَّما نتوسَّلُ بمنجزاتِ العلومِ جميعِها لإضاءةِ بعضِ ما اغتُمِضَ من آياتٍ، كما نتوسَّلُ بالحقيقةِ للاقترابِ حثيثاً من الحقِّ، ولكن هيهات.


في الحلقةِ المقبلة، سنزورُ معاً غار حِراء والمسجد الحرام، خصوصاً مع قلَّةِ المصلِّينَ بسببِ الجائحة، لنتأمَّلَ سويَّاً أصداء الإسراء والمعراج على المفهوم النِّسبي للزَّمان؛ وسوف نختمُ بالهجرة وحَجَّة الوداع، لتناول موضوع النَّسيء، واستعادة الزَّمان بتخليصِه من أثرِ الأشكالِ الرِّياضيَّةِ المتعالية والاجتياحِ النِّيوتونيِّ الآسِر.

محمد خلف
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

عن المساهمة الأخيرة (الحلقة الثانية) لمحمد خلف، كتب صديقنا محمد عبد المنعم (فوكس):


هذه الحلقة متطورة جداً جداً يا محمد. هذا ما خرجت به بعد المطالعة التمهيدية، وهى عادة عندي أصطنعها لألتقط مناخ المكتوب.
ولعل فكرة أن معطيات ومخرجات العلوم الطبيعية والتجريبية والإجرائية لا تستخدم هنا لإثبات صحة القرآن، لهذه الفكرة نجاعة حاسمة فى أن القرآن والعلوم لا تتبادلان مشروعية الإثبات. إذ أن كل منهما حقل بذاته ودال على نفسه وأنهما معاً و بالانفراد يصدران من مشكاة واحدة أقنوماها هما الحق (بذاته) والناموس (للآفاق).
صوبنى إن لم لم أكن قد إلتقطت الكُنْه.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

يا سلام على الكتابة التى تنزع شوك النعاس من قعر الروح ليكتمل الوعى ويتحق الايقاظ
من بعد ثبات من ديمومة البقاء بالمنزل فى هذا الزمان العصيب
ويا لعظمة تلك الاقانيم الثلاثة بتراتبيتها ويا لبهاء فعلها فى الروح والعقل والمكان ويا لربطها بالثورة والثوار والكرونا التى لا تفرق بين العالى والواطى ولا الآمر والمأمور بل بتمام العدل تنفذ لمن شاء لها وكيف ما شاء لها ومتى ما شاء لها وإن كان فى كامل بذة الحمايه كالطيار والحورانى،
عرافة لصيدها من كل جنس ولون
أشكرك أخى
وأستاذى خلف على هذه الكتابة الفخيمة و التى جاءت فى وقت كسل العقل وخمول الروح لتجدد الخلايا فى كليهما
الشكر كل الشكر لك وحفظك الله والاسره من هذا البلاء والوباء الخبيث
ولك والكل شديد السلام.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

انتاج المعرفة (الأرضية) وتلقي العلم (السماوي)

من حسنات الجائحة أنها أعادتك إلينا،
لا أريد قطع التسلسل السلس هذا، ولك أن تترك التوضيح للنهاية.
سؤالي لماذا استعملت (المعرفة) مقابل الأرضي و (العلم) مقابل (السماوي)؟


وتحياتي لكما عادل وخلف
أضف رد جديد