Story Lesson أو الحِصَّة قِصَّة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

صورة

ألتوسير و"التُّونسيَّة"؛ ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة

محمد خلف



الدَّلالة، بحسب عالِمِ اللِّسانيَّاتِ السُّويسري، فيردينان دو سوسير، هي علاقةٌ قائمةٌ في العمق بين دالٍ ومدلول؛ وما دام الأمرُ كذلك، فيتعيَّن علينا ألَّا نُقلِّلَ من شأنِ أيِّ طرفٍ من طرفي التَّعريف (أي الدَّال، وهو التَّعبير الصَّوتي أو المكتوب؛ والمدلول، وهو الصُّورة الذِّهنيَّة)؛ وفي الغالب، يكون الدَّال، على أهميَّته القصوى، هو الذي يقعُ ضحيَّة هذا التَّقليل من الشَّأن، إن لم نقلِ الإهمالَ التَّام. فمَن مِنَّا توقَّف قليلاً ليتأمَّل عبارة "وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ" في سورة "هود"، الآية رقم 36؛ أو عبارة "مَا وَصَّى بِهِ نُوحَاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ" في سورة "الشُّورى"، الآية رقم 13. تنبيهاً لنا جميعاً وتفادياً لهذا الإهمال غير المقصود، ندعو القارئ المُستعجِلَ أن يتوقَّفَ قليلاً أمام الجِناسِ اللَّفظيِّ للدَّوال في الثُّنائيَيْن ["ألتوسير" و"التُّونسية"]، و[مصر والمصير]، ريثما نشرعُ لاحقاً في توضيح الدَّلالة المُستقِرَّة في أحشاء العلاقةِ القائمة بين كلٍّ من هذينِ الزَّوجَيْنِ اللَّفظييَيْن.

نبَّهنا في كتاباتٍ عديدة إلى أهميَّة نظريَّة الفيلسوف الفرنسي، لوي ألتوسير، حول الدَّور التَّكويني والتَّكميلي لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة في رفد وتطوير المفهوم الكلاسيكيِّ للدَّولة. فالمفهوم الكلاسيكيُّ ينحصرُ في منظورٍ يتناولُ مصطلح "الدَّولة" باعتبار أنَّها أداةٌ (مُستقِلَّة أو طبقيَّة) لتنظيم المجتمع، استناداً إلى الإدارة العلميَّة، ووفرة المال، وقوَّة الجيش والشُّرطة، والتَّحكُّم في أنظمة السُّجون وأجهزة الاستخبارات (وإن أُضيفَ إلى هذه التَّرسانة الأمنُ السِّيبرانيُّ الحديث، فإنَّ الإضافة، على أهميَّتها، لن تخرُجَ بالأداة عن المفهوم الكلاسيكيِّ للدَّولة). أمَّا ألتوسير، فإنَّه يؤكِّد على الدَّور الحاسم لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة في تصريف شؤون الدَّولة الحديثة؛ وهذه الأجهزة تتمثَّل، حسب نظريَّته، في مؤسَّسات التَّربية والتَّعليم، ودواوين الثَّقافة، وأجهزة الإعلام، ودور النَّشر، والصُّحف والمجلَّات، والمرافق الدِّينية، والأندية الرِّياضية، والتَّنظيم الأُسري.

قد يحتلفُ كثيرٌ من علماء السِّياسة مع الفيلسوف الفرنسي، إلَّا أنَّ نشوء الدَّولة الحديثة في السُّودان، مع استكمال الغزو الاستعماري في أواخر القرن التَّاسع عشر، لا يُمكِنُ تفسيرُه إلَّا بعونٍ من نظريَّة ألتوسير؛ بل يُمكِنُ القولُ بأنَّ نظريَّته كان سيطالُها النِّسيان، لولا أن تهيأ لها في دولة السُّودان المصري الإنجليزي وضعٌ نموذجيٌّ للتَّطبيق. فبادئ ذي بدء، كان الحكمُ، بِحُكمِ اتِّفاقيَّة عام 1899، ثنائياً؛ ثمَّ سرعان ما تقاسَمَ الشَّريكان، بِحُكمِ الخصائص المتوفِّرة لدى الطَّرفين، أعباء السَّيطرة على البلاد. فاضطلع الشَّريكُ الأضعف بمهامِّ التَّرجمة، وكتابة المنشورات باللُّغةِ العربيَّة، والتَّعليم في المدارس الابتدائيَّة، والإشراف على المساجد، وإقامة المناسبات الدِّينيَّة (المولد والأعياد)، وتنظيم الفرق والأندية الرِّياضيَّة. هذا، بينما سيطر الحاكم العام، بسكرتيرَيْهِ الإداري (الذي كان بمثابةِ رئيسٍ للوزراء) والمالي، على أجهزة الدَّولة الكلاسيكيَّة (بدون تدخُّلٍ منه يُذكَرُ في إدارة أجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة).

حاولنا التَّدليل في مقالاتٍ سابقة على قدرة الشَّريك الأضعف على التَّأثير بانتشارِ الكلمات الفرنسيَّة التي لا مُبرِّرَ لوجودها إلَّا لأنَّ لغةَ بلاد الغال (فرنسا وبلجيكا) قد أتت إلى مصرَ مع حملة نابليون الشَّهيرة، ومنها إلى بلاد السُّودان، عن طريق الشَّريك المهيمن على أجهزة الدَّولة الاستعمارية الآيديولوجيَّة. وبالرَّغم من أنَّ الكاتب الرِّوائي الكبير، الطَّيِّب صالح، قد استهجنَ في إحدى زياراتِه إلى السُّودان وجودَ لافتةٍ في مطار الخرطوم مكتوباً عليها ترحيباً باللُّغة الفرنسيَّة "بيا(نْ)فينو"، إلى جانب التَّرحيب باللُّغتين العربيَّة والإنجليزيَّة، إلَّا أنَّ الكلمات الفرنسيَّة المُستخدَمة في العامِّيَّة العربيَّة في الخرطوم لا حصرَ لها. على سبيل المثال، يستحِمُّ شابٌّ أنيقٌ من ساكني الأحياء الرَّاقية بصابونٍ ("سافون"، وليس "سوب")؛ ويرتدي قميصاً ("شيميز"، وليس "شيرت")؛ وبنطلوناً ("بنتالون" بالمفرد، وليس "تراوزرز" بالجمع)؛ ويجلس هُنيهةً على الصَّالون ("سالون"، وليس "ليفينغ روم")؛ ليتناولَ كأساً من الأناناس ("أناناس"، وليس "باينابل")؛ قبيل أن يخرج، فتطأ قدماه الرَّصيف ("تروتوار"، وليس "بيفمنت").

إلَّا أنَّ ما ذكرناه هو مجردُ عددٍ من الكلمات؛ وكنَّا نبحثُ عن عباراتٍ أو جملٍ كاملة، حتَّى نستيقنَ من صِحَّة ما نقول؛ وما كان يقفُ أمام طريقنا غيرُ نضوبِ المعرفة باللُّغة الفرنسيَّة وقلَّةِ المتعاونين معنا في هذا الشأن، على كثرةِ خرِّيجي شُعَبِ اللُّغةِ الفرنسيَّة بجامعاتِ البلاد، وازديادِ عددِ المستوطنين السُّودانيين بالمدنِ الفرنسيَّة. إلى أن ظهرت معضلةُ "التُّونسيه"، في عبارة "رِكِب التُّونسيَّه" الدَّارجة، والمُنتشِرة في دردشات الإنترنت. وهي عبارةٌ عن عربةِ "كومر" قديمة لشرطة الخرطوم، مكتوباً على واجهتها كلمة "التُّونسيَّه"؛ وكان يُظنُّ أنَّ المقصود بهذه الكلمة شركة الطَّيران التُّونسيَّة، إلَّا أنَّ ما يُكذِّبُ هذا الظَّنَّ هو أنَّ طائرات الخطوط الجوِّيَّة التُّونسيَّة قد اشتُهِرت بحُسنِ أدائها ونظافتها، وهذه عربةٌ مهترئة لنقلِ المعتقلين بواسطة الشُّرطة العاصميَّة؛ كما أنَّ العبارة تُستخدَمُ كنايةً عن "وقوعِ المرءِ في شرِّ أعمالِه"، وليس كنايةً عن تمتُّعه برحلةٍ مريحة تُسيُّرها شركة طيران عربيَّة مرموقة.

وتفسيرُنا، وهو ما نعتبرُه "دليلاً دامغاً" (إسموكينغ غن) يأتي من التَّأثيرِ المنسيِّ للُّغةِ الفرنسيَّة في السُّودان، باعتبارها عنصراً مُكوِّناً لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة، التي تسرَّبت بشكلٍ ناعمٍ إلى عاصمةِ البلاد عبر حاملها الأساسي، وهو الشَّريكُ الأضعف في الحُكمِ الثُّنائي لبلاد السُّودان. فالعبارة هي في الأساس جملةٌ فرنسيَّة في غايةِ التَّعقيد، لا يلمُّ بها إلَّا من خَبِرَ دروبَها النَّحويَّة الشَّائكة؛ ونحنُ لا ندَّعي لأنفسِنا هذه المعرفة العميقة، ولكنَّا كمواطنينَ محظوظينَ ببلوغِنا الرُّبعَ الأوَّل من القرن الواحد والعشرين، قد استعنَّا بمجهوداتٍ مُدَورَنةٍ (إيفولفد) من غوغل. ضمير الجمع للغيبة (إل) باللُّغةِ الفرنسيَّة يُشيرُ إلى الذُّكور، وهو ما يَلقَى تغضيداً باضطلاع الرِّجال بالخدمة الشُّرطيَّة في العاصمة المثلَّثة؛ والضَّميرُ الشَّخصيُّ المُدغم (تـ"و")، قد استُخدِمَ عِوضاً عن ("فو")، إمعاناً في الازدراء بالمقبوض عليهم وإهانتهم بالمخاطبة غير الرَّسميَّة؛ والحرف المدغوم ("تـ") مع "أو(ن) الأنفيَّة" يُصبح "تون"، بمعنى يحتفظون بكم لديهم؛ والظَّرف ("سي")، بمعنى هكذا؛ لِتُصبح الكلمة (الجملة الفرنسيَّة الكاملة) على واجهة العربة "التونسيه" (بدون تاء مربوطة، إشارةً إلى وجود مدَّة بعد الياء)، بمعنى، "سيرمون بكم في هذه العربةِ هكذا"؛ ولِتُصبح عربة الكومر، وليس شركة الطيران "التُّونسيَّة"، "ضبطيَّةً" أو "حراسةً" متحرِّكة يُوضع بها معتقلون، لا براءةَ لهم إلى أن تتمَّ إدانتهم (حسب القاعدة الجنائيَّة المُتَّبعة)، فهم مُدانونَ ومرذولونَ مُسبقاً بالعبارةِ الفرنسيَّةِ الجارجة: "التونسيه" (فالهمزةُ التَّحتانيَّة لا يحفلُ بها أحدٌ؛ وهو ما جرت عليهِ العادةُ إلى وقتِنا هذا، مع توفُّرِ كلِّ التَّسهيلاتِ اللَّازمة في لوحاتِ المفاتيح "الكيبوردات" الحديثة).

سنحاول أن نُكمِلَ التَّحليل بالتَّركيز على الثُّنائية الأخرى في حلقةٍ مُقبِلة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

على إثر قراءة صديقنا سيد أحمد بلال لنسخة الواتساب من هذا المقال، ندَّ عنه:


"يا سلام يا محمد
تتبع ورصد حتى جحر الضب
يا أخي هذا عمل يفكك ما في الذاكرة نفسها الى وحداته الاولى
وأظنك قد اتيت بهذا كله تعضيدا ودعما للجانب الأضعف -الأقوى (ان دقق ورصد قواه المادية والمعنوية ) في ثنائية الحكم الحالي في بلادنا".
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

ألتوسير و"التُّونسيَّة"؛ ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة

(بمثابةِ حلقةٍ ثانية)

محمد خلف



أهميَّة نظريَّة الفيلسوف الفرنسي، لوي ألتوسير، حول الدَّور التَّكويني والتَّكميلي لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة لا تقتصرُ فقط على رفدِ وتطويرِ المفهوم الكلاسيكيِّ للدَّولة، وإنَّما تتعدَّاه، في نظرنا، إلى تنصيب التَّاريخ الثَّقافيِّ نفسِه صنواً للتَّاريخ السياسي؛ وكلاهما، من منظوره، أي ألتوسير، يشوِّشانِ على نقاء المفهوم الكلاسيكي، الذي يعتمدُ الاقتصادَ أساساً أوحدَ لبلورةِ أطروحاته. فمن الأشياء اليوميَّة المُعتادة، وليس بالضَّرورة الأحداث الضخمة الجِسام، يُمكِنُ التأسيسُ لتدوينِ تاريخٍ جديدٍ للبلاد، هو أقربُ إلى روحِ الشَّعب، وأبعدُ عن الأطروحاتِ التي تُردِّدُ بقلمٍ واعٍ لمقصدِه أحياناً، وفي مرَّاتٍ أخرى من دون وعي كافٍ منه، طريقة شوف الرَّحالة الأجانب والمُقيمين المؤقَّتين، وتبنِّي ملاحظاتهم العابرة أو القبول التَّام لها من غير تمحيصٍ نقديٍّ لِما جاء في مذكِّراتهم التي لا غنًى للباحثِ عنها، والتي تُضمِّنت في شكلِ وثائقَ ومتونٍ امتلأت بها رفوفُ المكتبات وخزانات دورِ الوثائق في المؤسَّسات الأكاديميَّة المحليَّة والأجنبيَّة.

على سبيلِ المثال، يُمكِنُ صياغةُ تاريخٍ حميم لجماعتَيْ أو طائفتَيْ الأنصار والختميَّة (وبالتَّالي، حزب الأمَّة والحزب الاتِّحادي الديمقراطي، إن لم نقُلِ الأحزابَ الاستقلاليَّة والاتِّحاديَّة) من خلالِ رصدِ الأنشطة اليوميَّة لدار الذِّكرى ببيتِ المال (والذي يُقرأُ فيه راتبُ الإمامِ المهديِّ مرَّتين يوميَّاً)، وقصر الشَّريفة الواقع على مرمى حجرٍ من الدَّار (والذي يُقرأُ في ساحتِه المولدُ يوميَّاً ويُختَمُ كلَّ خميس). كما يُمكِنُ كتابةُ تاريخٍ أنصعَ بتتبُّعِ الأنشطة اليوميَّة لِجَدِّي بدوي سليمان كركساوي؛ فقد كان يحتفظُ إلى جوارِ سريرِه (عنقريبه) بشيئين: مُصحفٌ مكتوب بخطِّ اليد، يتمُّ استلافُه من قبل سكَّانِ الحيِّ كلَّما أطلَّ في كَنَفِ أُسرةٍ صغيرةٍ مولودٌ جديد؛ ودفترُ الأستاذِ الكبير، الذي يُقيِّدُ في أسطرِه المُتتابِعة ما يصطلِحُ علماءُ الاجتماع على تسميته بالأزماتِ الاجتماعيَّة الأُسريَّة الأساسيَّة: ميلادُ طفلٍ، وزواجُ راشدٍ، وموتُ إنسانٍ أيَّاً كان عُمُرُهُ.

وعندما يُولدُ طفلٌ جديد في بيتِ المال، كان يُسمَّى، على سبيل المثالِ، محمَّداً أو فاطمة؛ مصطفى أو أسماءَ؛ أحمدَ أو رُقيَّة. وبتأثيرٍ ناعمٍ من الشَّريكِ الأضعفِ في الحُكمِ الثُّنائي، صار المولودُ يُسمَّى عادلاً أو فاتنَ؛ سامي أو سامية؛ مجدي أو ماجدة. وعندما يخطو راشدٌ أو تأتي القِسمةُ إلى راشدةٍ، كانتِ الخطوةُ تُكلَّلُ بالدَّلُّوكةِ والزَّغاريدِ النَّديَّة. وبتسلُّلِ ذاتِ التَّأثير، أصبحتِ المناسبةُ تُجَهَّزُ بالشَّاشاتِ وكاميرات السِّينما المُتجوِّلة التي تعرِضُ أفلاماً مصريَّة لمحمود شكوكو وإسماعيل يسن، تتخللَّها أُغنياتٌ خفيفة مرِحة وقفشاتٌ كوميديَّة تسرُّ النَّاظرين؛ هذا كلُّه قبل ظهورِ الفنَّانِ "الذَّرِّي"، إبراهيم عوض، بصوته الذي تحمله النَّسماتُ منذ أطرافِ اللَّيل، فيتقاطرُ حوله الفتيانُ والفتياتُ من كلِّ حَدَبٍ وصَوب. وعندما ينتقلُ شخصٌ إلى رحمةِ ربِّه، كانت أيَّامُ المأتم تُجَلَّلُ بالقرآنِ، بصوتِ الشَّيخ عبد الباسط عبد الصَّمد والشَّيخ محمود الحصري، قبل أن يجدَ الشَّيخانِ الجليلانِ مشكاةً للتِّلاوة أو شرفةً للتَّرتيل، إلى جانبِ الشَّيخَيْن الكريمَيْن من شمالِ الوادي.

وإذا انتقلنا إلى التَّعليم، أي غير التَّعليم التَّقليدي في الزَّوايا والخلاوي، كانتِ المؤسَّسات التَّعليميَّة للشَّريكِ الأضعف تُنافسُ الأخرى التي تمَّ افتتاحُها حديثاً: من المداراس الأوَّليَّة (الأساس)، إلى الابتدائيَّة (المتوسِّطة)، ثمَّ الكلِّيَّات الثَّانويَّة (التي تطوَّرت لاحقاً إلى جامعة). وكان المدرِّسون المصريُّون همُ الذين يُشرِفون على تلك المدارس التي تمَّ افتتاحُها منذُ العقودِ الأولى للحُكمِ الثُّنائي. وكان طلاب كليَّة غردون ينقسمون إلى "أفنديَّة" و"شيوخ"، فاضطلعَ الشَّريكُ الأضعف بمهمَّة تربية النشءِ وتخريجهم "شيوخاً". وفي رواية "موسم الهجرة إلى الشَّمال"، قاد شخصٌ يركبُ حصاناً ويرتدي بنطالاً وقُبَّعةً بطلَ الرِّواية، مصطفى سعيد، إلى مدرسةٍ فسيحة على شاطئ النِّيل؛ وعندما دخل الطِّفل (البطل) إلى الفصل، وجد المدرِّسَ يرتدي قفطاناً، فطاردته لعنةٌ قادته في نهاية المطاف إلى القاهرة ولندن (عاصمتَيِ الحُكم الثُّنائي)، ليكتوي بسعيرِ المأساة بقتلِه لشريكتِه الأولى، وشَرَكِه المنصوب، جين موريس.

وكان المتعلِّمون "يتثقَّفون" بقراءةِ الصُّحف والمجلَّات المصريَّة؛ ويستمعونَ إلى إذاعاتِ القاهرة قبل أن تُفتتحُ واحدةٌ في أمدرمان؛ ويُشاهدون الأفلام المصريَّة التي تُعرَضُ مساءً في دورِ العرضِ المحدودة؛ وكانتِ الخِيَمُ وصيواناتُ الطُّرقِ الصُّوفيَّة وسُرادقُ الحكومة يُشرِفُ على تزيينها ورسمِ خطوطِها عددٌ من الخطَّاطين المصريِّين؛ كما شارك أفرادُ البعثةِ المصريَّة في تأسيسِ الفِرَق الرِّياضيَّة، فلا عجبَ أن يُغيِّرَ الدِّكتاتورُ الثَّاني اسمَ فريقٍ منها في بيت المال من "فاروق" (الملك المخلوع في أعقاب "الثَّورة" المصريَّة) إلى "ناصر"، عند تنفيذِ قرارِ دمجِ الأندية، فضاع الفريقُ الوطنيُّ "الكراكسة" من جرَّاءِ هذا القرار المُجحِف؛ وكانتِ الأسطواناتُ الأولى لكرومة وزنقارَ وسرور تُطبعُ في القاهرة؛ وكان الشُّعراءُ يهفون للإقامةِ المؤقَّتة فيها؛ فلا غروَ أن تشرَّبتِ الحركةُ الوطنيَّة السُّودانيَّة، بجناحَيْها الاتِّحاديِّ والاستقلاليِّ معاً، إبَّان عهد الطَّلب في القاهرة، بروحِ الثَّقافة المصريَّةِ العميقة، إن لم يكن بتبدِّياتِها السِّياسيَّةِ الظَّاهرة على السَّطح.

لا نقولُ إنَّ للقاهرةِ أطماعاً في السُّودان، ولكن نقول إنَّ لها مرامياً واضحة في جنوبها منذ نشوء الدَّولة المصريَّة الحديثة في كَنَفِ الاستعمار؛ فإستراتيجيَّتُها الكبرى - التي أدَّت إلى مشاركة الوطنيِّين المصريِّين في حملة الغزو، ومن ثمَّ المشاركة في حُكمِ البلاد بدَورٍ محدود - قائمةٌ على حراسةِ الحدودِ الجنوبيَّة وتأمينِ مصادرِ مياه النِّيل. ولم يكن في مقدورها (بجُثُوِّ المستعمرِ على صدرِها) أن تقومَ بهذا العملِ وحدَها. وكان من حظِّ الحركةِ الوطنيَّة المصريَّة في أعقاب ثورة عرابي أن كان لدى المستعمرِ البريطانيِّ هدفٌ واحدٌ من وجوده في مصر، وهو حراسةُ حركةِ الملاحة في قناةِ السِّويس لضمانِ وصولِ البضائع من الهند، جوهرةِ التَّاجِ البريطاني. لوضوحِ هذينِ الهدفَيْن وأهميَّتهما الإستراتيجيَّة لكلٍّ من بريطانيا ومصر، كان من اليُسرِ عقدُ شراكةٍ، أو زواجِ مصلحةٍ، تبرمه وزارةُ الخارجيَّة البريطانيَّة بالاتِّفاقِ مع تركيا ومصر، التي كانت خاضغةً للسُّلطانِ العثماني، من غيرِ حاجةٍ إلى تدخُّل وزارة الحرب أو المستعمرات في هذا الشَّأنِ الدبلوماسيِّ الخاص. ومن هنا نشأ ما يُسمَّى بالحُكمِ الثُّنائي أو السُّودانِ الإنجليزيِّ المصري.

هذا ما كان بشأنِ تأسيس دولة الحكم الثُّنائي، ولكنَّ تطوُّرَه قد شابه صراعٌ دائم بين الطَّرفين، أدَّى إلى خصومةٍ سافرة، خصوصاً مع تتالي قدوم الحُكَّام الجدد من خرِّيجي جامعتَيْ أكسفورد وكيمبردج، ونمو الحركة المتصاعدة داخل المركز الكولونيالي لتفكيكِ جميعِ المستعمراتِ البريطانيَّة. وكان من جرَّاءِ هذه الخصومة أنِ استمالَ كلُّ طرفٍ قسماً من أقسامِ الحركةِ الوطنيَّة؛ فكانتِ المجموعاتُ الاتِّحاديَّة، بحُكم فكرتها الأساسيَّة، أقرب إلى مصر؛ بينما كانتِ المجموعاتُ الاستقلاليَّة، بشكلٍ مفارقٍ ومتناقضٍ، أقرب إلى بريطانيا؛ ولا يُمكِنُ تفسيرُ هذا القرب إلَّا برغبةِ الموظَّفين البريطانيِّين - لتأكُّدهم من المصير المحتوم للمستعمرات - ألَّا يتركوا في السُّودانِ وراءهم مستعمرٌ آخرُ، ولو تسربل بأزياءِ العروبةِ والإسلام أو الوحدةِ المصيريَّة لشعوبِ وادي النِّيل. وبالفعل، تسلَّلت هذه الخصومة بين الشَّرِيكين إلى الحركةِ الوطنيَّة النَّاشئة، فنشبَ بينها صراع، أُزيلَ في إحدى المرَّاتِ بالتَّوصُّلِ إلى صيغةٍ تصالحيَّة، يتمُّ بموجبها تعريفُ الحركة الوطنيَّة السُّودانيَّة بأنَّها "في اتِّحادٍ مع مصرَ وتحالفٍ مع بريطانيا".

هذا الوضعُ، على غرابته، لا ينتقِصُ من قامةِ الحركةِ الوطنيَّة الوليدة، بوجودِ كلٍّ من دهاقنة السِّياسة البريطانيَّة وإستراتيجييِّ السِّياسة المصريَّة، التي لم تتغيَّر ولن تتغيَّر؛ ولولا دهاءُ الأزهريِّ المُطابقِ لذكاءِ الشَّريكين، لتعثَّرَ نشوءُ الدَّولةِ السُّودانيَّة منذُ لحظةِ الميلاد. إلَّا أنَّ المشكلة ما زالت تُراوحُ مكانَها، فمصيرُ الدَّولةِ السُّودانيَّة مرتبط بمصيرِ مصر. وإذا لم تستصحبِ الدَّولةُ السُّودانيَّة ذكاءً ودهاءً أزهريَّاً يوميَّاً، ستؤدِّي الضَّوضاءُ المتصاعدةُ من الجانبَيْن في الإنترنت، وردودُ الأفعالِ غيرِ المراقبةِ في الصُّحفِ السَّيَّارة، إلى حدوثِ ما لا يُحمَدُ عُقباه. نحنُ واثقونَ بأنَّ أجهزةَ الاستخباراتِ المصريَّة تعملُ بمنتهى الحكمة، في مراعاةِ مصالحها، ولكنَّها قادرةٌ على اللُّجوءِ أحياناً إلى قعقعةِ السُّيوف، مثلما هو بائنٌ من مواجهتها للتَّهديدِ الإثيوبيِّ بملءِ سدِّ النَّهضة. فهل تتمتَّع أجهزةُ استخباراتِنا ودبلوماسيِّينا في أعقابِ الثَّورةِ بدهاءٍ وذكاءٍ أزهريَيْن؟؛ فإن لم يكنِ الأمرُ كذلك، وهو في الغالبِ ليس كذلك، فيجبُ الإسراعُ في هيكلةِ الأجهزة الأمنيَّة ووزارتَي الخارجيَّة والرَّي (مع ملاحظةِ أنَّ تسمية الأزهريِّ جاءت من نَيلِ شهادة "العالِميَّة" أو "المشيخيَّة" من الجامع الأزهر الشَّريف في مصر).

في الختام، نودُّ أن نُعبِّرَ عن احتفائنا بدحضِ تفسيرِنا في الحلقة السَّابقة لعبارة "التُّونسيَّة"، بعد أن تبيَّن لنا تعرُّضُ الصُّورةِ التي اعتمدنا عليها للتَّزييف عن طريق تقنية "الفوتوشوب"؛ إلَّا أنَّ أطروحتَنا الرَّئيسيَّة بصدد أهميَّة دور أجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة ما زالت قائمة، وما طرحناه أعلاه يمضي أكثر في تعضيدِ هذه الفكرة الجوهريَّة التي استندت إلى تطبيقِ الفكرة على واقعِ نشأةِ الدَّولة وتطوُّرِها في السُّودان. وربَّما نشرحُ في حلقةٍ مُقبِلة ما نعني بالاحتفاء، الذي سيقودنا إلى جون إكِلِس، وكارل بوبر، وتوماس كون، وليونارد سسكند، ومنهجيَّةِ العلوم الطبيعيَّةِ والاجتماعيَّةِ معاً.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في السبت يوليو 11, 2020 4:13 am، تم التعديل مرة واحدة.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

"توْنَسَة "آلتوسير"

مشاركة بواسطة حسن موسى »



"توْنَسَة "آلتوسير"

سلام يا عادل القصاص و سلام يا محمد خلف الله.
كتبت يا محمد في حلقتك الأولى  حول ما اسميته بـ »معضلة » التونسية"تفسيرا لغويا اعتبرته "دليلا دامغا"و "سموكن قن"[ كذا]  في خصوص » التَّأثيرِ المنسيِّ للُّغةِ الفرنسيَّة في السُّودان، باعتبارها عنصراً مُكوِّناً لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة، التي تسرَّبت بشكلٍ ناعمٍ إلى عاصمةِ البلاد عبر حاملها الأساسي، وهو الشَّريكُ الأضعف في الحُكمِ الثُّنائي لبلاد السُّودان. »
ثم خرّجت على هذا الزعم نظرية بحالها في قراءة هذا التأثير السري على أساس عبارة » التونسية »
المكتوبة في واجهة سيارة أمامها رجل شرطة سوداني.:
"
فالعبارة هي في الأساس جملةٌ فرنسيَّة في غايةِ التَّعقيد، لا يلمُّ بها إلَّا من خَبِرَ دروبَها النَّحويَّة الشَّائكة؛ ونحنُ لا ندَّعي لأنفسِنا هذه المعرفة العميقة، ولكنَّا كمواطنينَ محظوظينَ ببلوغِنا الرُّبعَ الأوَّل من القرن الواحد والعشرين، قد استعنَّا بمجهوداتٍ مُدَورَنةٍ (إيفولفد) من غوغل. "
و قد قد اوقعك تعويلك التام على سيدنا قوقل في شر اعمالك لأنه اغواك بالإفتاء في ما ليس لك به علم.و أظن أن جل العارفين بالفرنسية قد وجدوا صعوبة كبيرة في فهم "تأويلك" البلاغي لعبارة" التونسية" في الصورة إياها.و بينما كنت ألكلك في عقلنة مخاطرتك "التونسية" كفيتني شر المعافرة بـ "إحتفاء" متأخر بتصحيح وصلك بخصوص صورة" التونسية".

و في الحلقة الثانية من مكتوبك كتبت يا محمد خلف : »
في الختام، نودُّ أن نُعبِّرَ عن احتفائنا بدحضِ تفسيرِنا في الحلقة السَّابقة لعبارة "التُّونسيَّة"، بعد أن تبيَّن لنا تعرُّضُ الصُّورةِ التي اعتمدنا عليها للتَّزييف عن طريق تقنية "الفوتوشوب"؛ إلَّا أنَّ أطروحتَنا الرَّئيسيَّة بصدد أهميَّة دور أجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة ما زالت قائمة، وما طرحناه أعلاه يمضي أكثر في تعضيدِ هذه الفكرة الجوهريَّة التي استندت إلى تطبيقِ الفكرة على واقعِ نشأةِ الدَّولة وتطوُّرِها في السُّودان. « 
طبعا غلطة الزميل" فوتوشوب" لم تلهمك إحتمال أن اطروحتك الرئيسية بصدد دور اجهزة الدولة الآيديولوجية قد تنطوي على خلل مفهومي ما،فرميتنا بسلامتنا في كومر "التونسية" بينما سيدنا قوقل قاعد يراعي ساكت و يقول محمد خلف دا مالو مستكتر على قراء سودان الجميع مشقة البحث الجاد في سيرة الدولة و الآيديولوجيا؟
كتبت يا محمد خلف : »


نبَّهنا في كتاباتٍ عديدة إلى أهميَّة نظريَّة الفيلسوف الفرنسي، لوي ألتوسير، حول الدَّور التَّكويني والتَّكميلي لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة في رفد وتطوير المفهوم الكلاسيكيِّ للدَّولة. فالمفهوم الكلاسيكيُّ ينحصرُ في منظورٍ يتناولُ مصطلح "الدَّولة" باعتبار أنَّها أداةٌ (مُستقِلَّة أو طبقيَّة) لتنظيم المجتمع، استناداً إلى الإدارة العلميَّة، ووفرة المال، وقوَّة الجيش والشُّرطة، والتَّحكُّم في أنظمة السُّجون وأجهزة الاستخبارات (وإن أُضيفَ إلى هذه التَّرسانة الأمنُ السِّيبرانيُّ الحديث، فإنَّ الإضافة، على أهميَّتها، لن تخرُجَ بالأداة عن المفهوم الكلاسيكيِّ للدَّولة). أمَّا ألتوسير، فإنَّه يؤكِّد على الدَّور الحاسم لأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة في تصريف شؤون الدَّولة الحديثة؛ وهذه الأجهزة تتمثَّل، حسب نظريَّته، في مؤسَّسات التَّربية والتَّعليم، ودواوين الثَّقافة، وأجهزة الإعلام، ودور النَّشر، والصُّحف والمجلَّات، والمرافق الدِّينية، والأندية الرِّياضية، والتَّنظيم الأُسري. ».
 
يفهم القارئ من هذا الكلام أن مفهوم الدولة الموصوف بالكلاسيكي ينطرح في صورة الأداة المحايدة التي يتوسل بها من يملك أزمّة جهاز الدولة لتوجيه عمل الدولة وفق مصالح الطبقة المهيمنة على جهازها. كما يفهم القارئ من الإستطراد الذي يخص لوي آلتوسير أن ألتوسير اضاف لمفهوم الهيمنة الأداتية المتمثلة في جهاز الدولة مفهوما مستجدا للهيمنة الآيديولوجية.و هذا الفهم يغمط مولانا ماركس حقه في تحليل علاقة الدولة بالهيمنة الطبقية على مستوييها المادي و الرمزي.و في حقيقة الأمر فالتوسير استند على تحليل ماركس و استطرد على أثره مفصلا في دور مؤسسات الثقافة في تزييف الوعي الإجتماعي و تسويغ هيمنة آيديولوجية الطبقة القابضة على جهاز الدولة.و قد سبق آلتوسير بعض علماء الإجتماع مثل "ماكس فيبر" و " بيير بورديو" ،على أثر ماركس، في تحليل دور مؤسسات الثقافة في تسويغ الهيمنة الآيديولوجية.

أما القول بأن »نشوء الدَّولة الحديثة في السُّودان، مع استكمال الغزو الاستعماري في أواخر القرن التَّاسع عشر، لا يُمكِنُ تفسيرُه إلَّا بعونٍ من نظريَّة ألتوسير؛ بل يُمكِنُ القولُ بأنَّ نظريَّته كان سيطالُها النِّسيان، لولا أن تهيأ لها في دولة السُّودان المصري الإنجليزي وضعٌ نموذجيٌّ للتَّطبيق » .و القارئ النابه يفهم أن السودانيين انقذوا نظرية ألتوسير من النسيان » فدي يا محمد خلف لحقت فيها الحديث المفبرك :"إحذروا البرد فإنه قتل اخاكم أباذر".عشان مصر، الشريك الأضعف في الحكم الثنائي،كانت نفسها واقعة ـ و ما زالت ـ تحت تأثير آيديولوجيا الإستعمار، الآنجلوساكسوني. و تأثير الثقافة و اللغة الفرنسية في مصر لا يعول عليه في تهريب لغة موليير للسودانيين من وراء ظهر السلطات البريطانية. و بعدين كمان يا محمد التوسير دا ـ [ 1918 ـ1990]ـ كتب نظريته في "الآيديولوجيا و الجهاز الآيديولوجي للدولة" ـ سنة 1970 و استبعد انه استحضر أثناء كتابتها تاريخ الحكم الثنائي في السودان . فكيف يتهيأ لها وضع نموذجي للتطبيق في السودان؟

غايتو يا محمد خلف يبدو ان الخواجة "دوسوسير" و الخواجة "ألتوسير" ما بخارجونا و أهي قضيتنا بايظة و ما فضل لينا إلا بركات الأزهري صاحب الدهاء، او كما جرت عبارتك
:
" ولولا دهاءُ الأزهريِّ المُطابقِ لذكاءِ الشَّريكين، لتعثَّرَ نشوءُ الدَّولةِ السُّودانيَّة منذُ لحظةِ الميلاد. « .. » وإذا لم تستصحبِ الدَّولةُ السُّودانيَّة ذكاءً ودهاءً أزهريَّاً يوميَّاً، ستؤدِّي الضَّوضاءُ المتصاعدةُ من الجانبَيْن في الإنترنت، وردودُ الأفعالِ غيرِ المراقبةِ في الصُّحفِ السَّيَّارة، إلى حدوثِ ما لا يُحمَدُ عُقباه".
أها يا محمد ورينا "الدهاء الازهري" دا بيشتروه في ياتي اجزخانة؟ عشان ما يحدس لينا ما سيحدس و ندخل تاني في جحر الضب القالو سيدأحمد.سلام يا سيدأحمد.

سأعود
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

"توْنَسَة "آلتوسير"

مشاركة بواسطة حسن موسى »

[size=24حذف للتكرار
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »


ألتوسير و"التُّونسيَّة"؛ ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة

(بمثابةِ حلقةٍ ثالثة)

محمَّد خلف




عبَّرنا في الحلقةِ السَّابقة عن احتفائنا بدحضِ التَّفسيرِ الذي تقدَّمنا به لعبارة "التُّونسيَّه"، بعد أن تبيَّن لنا تعرُّضُ الصُّورةِ التي اعتمدنا عليها للتَّزييف عن طريق تقنية "الفوتوشوب"؛ وقلنا إنَّنا ربَّما نشرحُ ما نعني بالاحتفاء، الذي سيقودنا إلى جون إكِلِس، وكارل بوبر، وتوماس كون، وليونارد سسكند، ومنهجيَّةِ العلوم الطَّبيعيَّةِ والاجتماعيَّةِ معاً. ومبعثُ احتفائنا، الذي سنأتي إلى تفصيلِه بدءاً من الفقرةِ المُقبِلة، يأتي من أنَّ الكشفَ مُبكِّراً عن تعرُّض الصُّورة للتَّلاعبِ الرَّقمي قد أسدى لنا خدمةً كبيرة بدحضِ ما اعتبرناه "دليلاً دامغاً" (إسموكينغ غن) على تأثير اللُّغة الفرنسيَّة - باعتبارها مؤشِّراً على هيمنة الشَّريك الأضعف على جهاز الدَّولة الآيديولوجي – في اللُّغة العامِّية المُستخدَمة في عاصمة البلاد؛ فكلَّما كان الدَّليلُ المقدَّم قابلاً للدَّحض، كلَّما كان عِلميَّاً، بتعبير كارل بوبر. علاوةً على ذلك، فقد انهار دليلٌ واحد فقط، وبقيت أدِلَّةٌ كثيرة في جوفِ التَّفسير؛ وهي الأُخرى قابلةٌ للدَّحض، من غير أن تتأثَّرَ الفكرة الأساسيَّة، وهي سيطرةُ الشَّريك الأضعف على الجهاز الآيديولوجي لدولة الحكم الثُّنائي، التي ما زالت تُلقِي بظلالِها الكثيفة على تطوُّر الدَّولة السُّودانيَّة الحديثة.

في عام 1946، التقى عالِمُ الأعصابِ الأسترالي، جون إكِلِيز، بالفيلسوف النَّمساوي، كارل آر بوبر، في نادٍ للأساتذة بجامعة دَنِيدِن النِّيوزيلنديَّة، فأبلغه أثناء محادثتهما بالخلاف الدَّائر بشأن انتقال الإشارات عبر صدعِ التَّشابكِ بين الخلايا العصبيَّة (ساينابتيك كِليفت)، وانقسام العلماء إلى فريقين أحدُهما يرى أنَّ الانتقالَ يتمُّ كيميائيَّاً، وآخرُ على رأسِه إكِلِيز يرى أنَّ الانتقالَ يتمُّ كهربائيَّاً؛ وكانت كلُّ الدَّلائل تُشيرُ إلى أنَّ العالِمَ الأستراليَّ سيكونُ بين الفريق الخاسر، الأمر الذي أصابه بحالةٍ من اليأس والقنوط؛ فما كان من بوبر إلَّا أن حثَّه على الاحتفاءِ بدحضِ فرضيَّتِه، لأنَّ ذلك لن يمسَّ طريقة الوصول إلى نتائج البحث، وإنَّما يمسُّ فقط تفسير تلك النَّتائج، وأنَّ ما يقومُ به إكِلِس هو ممارسةٌ علميَّة من الطِّرازِ الأوَّل، بصرفِ النَّظر عمَّا تأتي به النَّتائج؛ كما طلب منه بوبر أن ينضمَّ إلى الفريقِ الآخر أو يُشرِفَ بنفسِه على دحضِ فرضيَّته الأولى، وهو ما تمَّ لاحقاً: فقد تمَّ على يد بيرنارد كاتز أوَّلاً دحضُ الفرضِيَّة الكهربائيَّة، وتأكيد انتقال الإشارات العصبيَّة المُستثارة عن طريق التَّوسُّط الكيميائي؛ إلَّا أنَّ إكِلِيز قد دعم أيضاً نظريَّة كاتز بإثبات أنَّ النَّواقل العصبيَّة المكبوتة تُساهِمُ هي الأخرى في تنظيم الإشارات عن طريق التَّوسُّط الكيميائي.

من حسنِ الطَّالع أنَّني تعرَّفتُ على طريقة بوبر إبَّانَ عهدِ الطَّلَب، وقد كان عنوانُ بحثِ تخرُّجي هو "حلُّ بوبر لمشكلة هيوم المتعلِّقة بالاستقراء". وقد اتَّبع كثيرٌ من العلماء طريقته، كما تبنَّاها لفيفٌ من غير العلماء، بينهم المُستثمِرُ المجريُّ-الأمريكيُّ الشَّهير، جورج سوروس. وقد حفِظني من الارتماءِ الكاملِ في أحضانِ نظريَّتِه، تعرُّفي على توماس كون عبر كتابه الأشهر: "بنية الثَّوراتِ العلميَّة"، وكتابه الآخر الأقلِّ شهرةً والذي نُشِرَ بعد مماته، وهو "ما بعد البنية". يقِرُّ كون، بشكلٍ عام، بطريقة بوبر؛ ولكنَّه يرى أنَّ العلوم لا تتطوَّرُ بتخلِّي العلماءِ سريعاً عن الفرضِيَّاتِ المُدحَضة، وهم أولئك العلماء الذين يُسمِّيهم ليونارد سَسكِند بالبوبراتسي، في إشارةٍ لاذعة إلى الباباراتسي، وهمُ الصَّحفيُّون الذين يُطاردون المشاهير، ويستعجلون النَّتائج بالاكتفاء، من غيرِ تمحيصٍ كافٍ، بمصادِرَ غير موثوقٍ بها عنهم أو صورٍ تُلتقطُ لهم على عجلٍ للتَّدليل بها على "حقائقَ" لا يَدعمها سياقٌ، فينشرونها للتَّكسُّب خارج حاكميَّة السِّياق.

يرى توماس كون أنَّ هناك نوعينِ من العِلم: عِلمٌ "عاديٌّ" يومي، يتطوَّر بالتَّراكم، ويعملُ تحت إطاره العلماءُ "العاديُّون" وفقاً لنظريةٍ عامَّة نُموذجيَّة (بارادايم)، لا يتخلَّى عنها المُشتغِلونَ بالعلمِ التَّجريبيِّ مهما تراكمتِ الإخفاقاتُ المختبريَّة التي لا يُوجَدُ لها تفسيرٌ في إطار الصِّيغة أو النَّظريَّة النُّموذجيَّة المُهيمِنة، إلى أن تصِلَ إلى الدَّرجةِ التي تُحدِثُ أزمةً في مجالِ الفيزياء؛ وحينها يبرزُ نوعٌ آخرُ من العِلم، وهو عِلمٌ استثنائيٌّ ينهض بمهمَّةِ تغييرِ الصِّيغة النُّموذجيَّة واستبدالها بأخرى، في ثورةٍ علميَّة تكونُ قادرةً على معالجةِ كلِّ الإخفاقات المختبريَّة السَّابقة، وتوسيع المدى التَّفسيريِّ للإطارِ النَّظريِّ الجديد، الذي سيُمارَسُ تحته، بعد حينٍ، عِلمٌ عادي يواجِهُ مُقبِلاً إخفاقاتٍ جديدة، تستدعي هي الأخرى، بعد نشوبِ أزمةٍ لاحقة، تغييراً يُؤدِّي إلى إيجادِ صيغةٍ جديدة؛ وهكذا تتطوَّرُ العلوم عن طريقِ القفزاتِ التي تُحقِّقها تحوُّلاتُ البرادايم، وليس فقط عن طريق تراكم المعارف العلميَّة المتفرِّقة.

من النَّتائج المنطقيَّة لهذه الرُّؤيَّة العِلميَّة الثَّاقبة أنَّ العلماء يتشبَّثونَ بنظريَّتهم العِلميَّة العامِلة مهما طرأ عليها من عيوب، وأنَّهم لا يتخلَّون عنها تماماً إلَّا إذا انبثقت نظريَّةٌ أخرى، أكثرُ نجاحاً في معالجة الإخفاقات، وأكبرُ مدًى تفسيريَّاً لتوسيعِ آفاقِ التَّطوُّر العلمي. وما نشاهده اليوم في علم الفيزياء ينهضُ دليلاً على ذلك؛ فمن جهة، يُوجد النُّموذج القياسيُّ لفيزياء الجُسيماتِ المتناهية في الصِّغر، الذي يعمل وفقاً لمقتضيات الفيزياء الكموميَّة؛ ومن جهةٍ أخرى، يُوجَد النُّموذج القياسيُّ لعلم الكونيَّات، الذي يعمل وفقاً للنَّظريَّة النِّسبيَّة العامَّة؛ وكلا النُّموذجَيْن موفَّقٌ في مجالِه، لكنَّهما متناقضانِ عند استخدامهما في تفسير الظَّواهر الفيزيائيَّة العامَّة، مثل الضَّوء والطَّاقة والجاذبيَّة. وقد سعى ألبرت آينشتاين حتَّى ساعةِ مماته إلى إيجادِ صيغةٍ نظريَّةٍ لتوحيد حقول الفيزياء، فلم يُوفَّق؛ كما حاول إستيفن هوكينغ المُضيَّ في نفسِ الطَّريق، فلم يُوفَّق هو الآخر؛ ويُمكِنُ تفهُّمُ جزءٍ من سعيِهِ هذا من مشاهدةِ فيلمٍ عن حياته، اختار له المخرِجُ عنواناً مُوحيَاً، هو: "نظريَّة كلِّ شيء"؛ وهي ما زالت حُلماً يُراود المشتغلين بالفيزياء، الذين ينتظرون بأنفاسٍ متلاحقة، نتائجَ التَّشغيل المتقطِّع لمصادم هيدرون الكبير في معهد "سيرن" بسويسرا.

ما نُريدُ أن نخلُصَ به من هذا التَّناول هو: لا أحدَ منَّا يملك الحقيقة كلَّها، بل يحتاجُ العلماءُ وغيرُهم من المُشتغِلين بالقضايا التي تهمُّ النَّاسَ إلى التَّمسُّكِ بآرائهم إلى أن يتَّضحَ أمام أعينهم بُطلانُها؛ كما يحتاجون إلى تفهُّمِ وجهات نظر الغير، والاستعدادِ لتقبُّلِها والدِّفاعِ عنها على مرأًى ومسمعٍ من الجميع، إذا ما ثبُتَ صِحَّتُها. وقد ظللنا في هذا الرُّكن (أو الخيط) نعتقدُ بأنَّ المعرفة جهدٌ جماعي، وأنَّ الحركة الثَّقاقيَّة لا تنمو بجهدِ المثقَّفين الأفراد وحدهم، إلَّا إذا انفتح أمامهم الفضاءُ الثَّقافيُّ الدِّيِمقراطي، الذي تتصارعُ فيه الأفكار، وليس الأفراد، وتُحترَمُ فيه كافَّةُ وجهاتِ النَّظر، إلى أنْ يتبيَّنَ، بما لا يدعُ مجالاً للشكِّ القريب، بُطلانُ أيٍّ منها، من هذا الجانب أو ذاك.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأربعاء يوليو 15, 2020 5:09 am، تم التعديل 4 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

حُذِفَ للتكرار. فمعذرة.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

سلام عادل وخلف

"نظرية كل شيء"، ما ذا عن نظرية "الأوتار"؟ ما هي وهل ستكون فعلاً جامعة مانعة كما يقول الفقهاء؟

مودتي لكما
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

يرغب محمد خلف في أن ينوِّه إلى أن هذا المقال يدين للسؤال المُرَكَّب، الذي ورد في المساحة السابقة، لصديقنا الصداق إسماعيل:



نظرية الأوتار: مسعًى باسلٌ لإبداعِ لحنٍ متعدِّد الأنغام من دونِ عونٍ من عازفٍ منفرد

محمد خلف



لا نسعى، كما ليس في مقدورنا، أن نوفِّر للقارئ شرحاً أكاديميَّاً مطوَّلاً بشأنِ "نظريَّة كلِّ شيء"، سواءً انطلقت من النِّسبيَّة العامَّة أو ميكانيكا الكم، أو جاءت عبر فرضيَّاتِ جاذبيَّة الكم التي تسعى للجمعِ بينهما؛ ومن ضمن تلك الفرضيَّات، نظريَّة الأوتار التي تتقدَّم الرَّكب بإحيائها للأمل وتعزيزها للثِّقة في التَّوصَّل إلى نظريَّة فيزيائيَّة شاملة لكلِّ شيء. لا نسعى لذلك، وإنَّما نُريدُ أن نطرح المسألة في إطارِ سياقٍ يسمح بتناول المسعى العلمي البحت من منظورٍ فلسفيٍّ يُساعِدُ على إضاءة بعض الجوانب التي قد تُخفى على بعض المشتغلين بالعلمِ أنفسِهم.

عندما نقول "نظريَّة كلَّ شيء"، فإنَّنا نعني توحيد قوى الطَّبيعة الرَّئيسيَّة الأربع، وهي: الجاذبيَّة، والكهرومغنطيسيَّة، والنَّوويَّة بشِقَيْها القوي والضَّعيف، فيما هي تؤثِّر مجتمعةً وعلى حِدَةٍ على الجُسيمات المادِّيَّة المتناهية الصِّغر (الإلكترونات والبروتونات والنِّيوترونات والنِّيترينوات، بأنواعها المختلفة جميعها). بدأت بحوث الجاذبيَّة بشكلٍ جاد مع غاليليو غاليلي، وانتظمت في نظريَّة فيزيائيَّة مُقنِعة مع إسحق نيوتن، إلَّا أنَّه لم يتمَّ تفسيرها بصورةٍ حاسمة إلَّا عن طريق النِّسبيَّة العامَّة التي صاغها ألبرت آينشتاين في عام ١٩١٥. في المقابل، اضطلعت ميكانيكا الكم بتفسير القوى الثَّلاث الأخرى تفسيراً وافياً. ومع ذلك، فإنَّ كلتا النَّظريَّتَيْن النَّاجحتَيْن في مجالَيْهما بشأنِ تفسير قوى الطَّبيعة لا تُعضِّدانِ بعضَهما البعض، بل تتناقضان. ومن هنا نشأت الحاجة إلى دمجهما في نظريَّة شاملة قادرة على تفسير كلِّ قوى الطَّبيعة في معادلةٍ لا يتعدَّى طولها بضع بوصات.

في هذا المقال، سنصفُ كلَّ جهدٍ إنسانيٍّ لا يخشى من استخدامِ العقلِ إلى أبعدِ مدًى ممكنٍ بأنَّه باسلٌ، إلَّا أنَّ هذا الجهد سوف يُصبِحُ جهداً إبليسيَّاً مريداً إنْ هو تخطَّى بإرادةٍ ذاتيَّةٍ حدودَه وسعى إلى توظيفِ أوهى نتائجِه لأجندةٍ آيديولوجيَّة أو لأغراضٍ لا تمُتُّ إلى بسالةِ العقلِ بِصِلَةٍ مهما كانت واهية. فالحياةُ على ظهرِ هذا الكوكب مُواجهةٌ بتناقضٍ رئيسيٍّ يستدعي حلَّاً بتضافرِ كافَّةِ الأطراف؛ فمن جهةٍ، يبدو أنَّنا نحيا في كَنَفِ كوكبٍ عاديٍّ، ضمن نجمٍ عاديٍّ، في مَجَرَّةٍ عاديَّة؛ ومن جانبٍ آخرَ، يبدو أنَّ الحياةَ على متنِ هذا الكوكب قائمةٌ على عددٍ من التَّوازناتِ الفائقةِ الدِّقَّة، بحيثُ إذا اختلَّ توازنٌ بزيادةٍ أو نقصانٍ متناهي الصِّغر، لأصبحتِ الحياةُ غيرَ مُمكِنةٍ حتَّى "في خبر كان"، لعدم توفُّر متطلَّباتِها الأساسيَّة (كربون؛ أكسجين؛ هايدروجين؛ نتروجين؛ حديد) أو لاستحالة نشوء المجرَّاتِ نفسِها، وبالتَّالي عدم تكوُّن النُّجوم والكواكب، ومن ضمنها كوكب الأرض.

في البدء، أشارت هذه الوضعيَّة، التي تُسمَّى بالكونِ المثالي، بلسانٍ فصيح إلى مُصمِّمٍ بارعٍ لهذا الكونِ البديع. وتتعدَّد وتتنوَّع التَّوازناتُ الدَّقيقة التي قادت إلى نشوء هذه الوضعيَّة، بدءاً من كيفيَّة إنتاج الكربون داخل نَوَى النُّجوم (التي هي عبارة عن مفاعلاتٍ نوويَّة ضخمة)، ومروراً بكسرِ التَّماثل ونشوءِ القوى الرَّئيسيَّة بُعيدَ لُحيظاتٍ من "الانفجار العظيم" (وهو عبارة عن مفاعلٍ نوويٍّ تتضاءل أمام ضخامته المفاعلات النَّوويَّة داخل نَوَى النُّجوم)، وانتهاءً بأهمِّها، وهو ما يُعرَفُ بالطَّاقة المُظلِمة (وهي بخلاف المادَّة المُظلِمة) أو مضاد الجاذبيَّة أو الثَّابت الكوني (وهو بمثابة العدد واحد وأمامه 119 صفراً، فإذا نقص الرَّقمُ صفراً أو زاد عنه آخرُ في حجم الطَّاقة المُظلِمة، لتوقَّفَ تمدُّدُ الكونِ أو انطلقَ شارداً من غير أن تتمكَّن قوَّةُ الجاذبيَّة من إيقافِه مُطلقاً).

لا نستطيع أن نجزم بشكلٍ قاطع ما الذي دفع بعضَ العلماء إلى تبنِّي نظريَّة الأوتار: هل كان ذلك بدافعٍ من بسالةٍ عقليَّة لسبرِ أغوار التَّوازنات الدَّقيقة للكون أم هو تعدٍّ إبليسيٌّ (أو لابلاسيٌّ) سافر، نشِطَ عندما بدأت نظريَّة "الانفجار العظيم" تقودُ بِخُطًى ثابتة نحو تأكيد إبداعِ هذا الكون على يدِ مُبدعٍ حاذقٍ له؟ لكنَّنا سننحو نحواً إيجابيَّاً إزاء هذا الجهد العقليِّ النَّظري إلى أن يتبيَّنَ لنا تهافتُ دعوة أصحابه أو ينكشف لنا سِرُّ مخطَّطهم الآيديولوجي. خصوصاً، لأنَّنا نعتقد بأنَّه كلَّما كان التَّوازنُ محفوظاً، كلَّما تأكَّدت راهنيَّة الإيمان. فلو اختلَّ التَّوازنُ إيجابيَّاً، لبطلت قضيَّة الإيمان، لأنَّنا سنكونُ أمام مسألةٍ علميَّة لا تحتاجُ له، لأنَّها مُقنِعةٌ للجميع دون فرز؛ ولو اختلَّ التَّوازنُ سلبيَّاً، لعصفت به (أي الإيمان) تماماً، وتضاءلت الحاجة إلى فرضيَّة إله مبدِع للكون (مثلما جاء في زعمِ بيير-سايمون لابلاس أمام نابليون).

في عام 1921، اقترح ثيودور كالوتسا تمديد أبعاد النَّظرية النِّسبيَّة العامَّة الأربعة، بإضافةِ بُعدٍ ضمن مجالٍ ذي مقدارٍ بدون اتِّجاه (إسكيلر فيلد)، لتُصبح خمسة أبعاد، بدلاً من أربعة، حتَّى تُمكِّنَ ألبرت آينشتاين من حلِّ مشكلة توحيد المجالات. وفي عام 1926، اقترح أوسكار كلاين بأنَّ هذا البُعد الخامس يقع على المستوى الكمومي (نسبةً إلى ميكانيكا الكم)، وأنَّه ملفوفٌ ضمن دائرة أسطوانيَّة متناهية الصِّغر (نصف قطرها ناقص واحد يسبقه 30 صفراً من السِّنتمتر الواحد). ارتفع هذا العدد في نظريَّة الأوتار إلى 11 بُعداً. وبما أنَّ الكم المتناهي في الصِّغر يُمكِنُ أن يكون لَبِنَةً أساسيَّةً (بيلدينغ بلوك) للكون المتناهي في الكِبر؛ وبما أنَّ بدايات "الانفجار العظيم" قد صاحبتها فترة تضخُّم كوني، فإنَّ الأبعاد المتعدِّدة يُمكِنُ أن تكونَ مكاناً ملائماً لإيواءِ كونٍ متعدِّد (أو أكوانٍ متعدِّدة).

ضمن هذه الأكوان المتعدِّدة، يُمكِنُ أن تُحَلَّ معضلة التَّوازنات الفائقة الدِّقَّة، مثلما حُلَّت من قبلُ مشكلة التَّدورُّن (إيفولوشن)، وفقاً لآليَّة الانتخاب الطَّبيعي. فنحنُ، وفقاً لنظريَّة الأوتار التي تتبنَّى بشكلٍ متحمِّس فكرة الأكوان المتعدِّدة، موجودون على ظهرِ كوكبٍ ملائمٍ بشكلٍ فائقٍ للحياة، لأنَّنا لا يُمكِنُ أن نكون أحياءً على متنِ كوكبٍ لا يتمتَّع مثله بأفضلِ شروطٍ للحياة. فهناك أكوانٌ أو جيوبٌ كونيَّة لا حصرَ لها، وربَّما يكونُ لها قوانينُ فيزيائيَّة خاصَّةٌ بها، وربَّما تخضع هي الأخرى لنفسِ القوانين الفيزيائيَّة الكلِّيَّة الشَّاملة. وقد تكونُ هناك كواكبُ أخرى، ضمن جيوبٍ كونيَّة أخرى، لها شروطٌ مشابهة أو مماثلة لشروط الحياة على ظهر هذا الكوكب. كلُّ ذلك، على المستوى النَّظريِّ، ممكنٌ. إلَّا أنَّ التَّعويلَ على البرهنةِ أمرٌ واجب، ومهمَّة الإثبات تقعُ على مَنِ ادَّعى.

فإنْ كان هناك أحياءٌ في كوكبٍ آخرَ غيرِ كوكبنا، فأينَ هم (سؤال العالم الإيطالي إنريكو فيرمي)؟
وإنْ كان هناك أبعادٌ تفوقُ العشرةِ أبعاد، فأينَ هي (سؤالٌ مطروح بشكلٍ مُطَّرِد)؟
وفيما يتوازنُ هذا الكونُ بشكلٍ فائقٍ يفوقُ الخيال، ستستمرُّ الحاجةُ إلى مُبدِع.
وفيما ينحفِظُ التَّوازنُ بين اعتقادٍ واعتقاد، سيتعزَّزُ راهنيَّة الإيمان.
وهذا المسعى العِلميُّ الباسل، لإبداعِ لحنٍ متعدِّد الأنغام من دونِ عونٍ من عازفٍ منفرد، سيلقى مِنَّا كلَّ إعزازٍ واحترام، إنْ هو تمسَّكَ بالعروة العقليَّة البحتة، وانصرف عن التَّوظيف الآيديولوجيِّ البائس.
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

شكراً يا خلف ويا عادل

أذكر أنني قرات شرح "للأبعاد" بطريقة مبسطة، لا أذكر أين ولكني أذكر أن الشرح
بدأ بأن طلب منّا الشارح أن نتخيل البعدين "الطول والعرض"، فشبّههما بالكائنات التليفزيونية
فهي تمتلك طول وعرض، مثل أن تَقُّصَ صورة من مجلة. وطلب أن نتخيل أننا نريد أن نسجن الكائن
التلفزيوني في سجن، فكل الذي علينا أن نفعله هو وضعه في مكان له ارتفاع سنتمتر واحد.
ولأنه لا يعرف الإرتفاع فلن يستطيع الهروب. ولأننا نملك بعد ثالث هو الإرتفاع فإننا لكي نهرب من
السجن العادي نحتاج بُعد رابع، ألا وهو الزمن، فلو ملكناه نستطيع أن نهرب بالرجوع أو التقدم في
الزمن إلى اللحظة قبل أو بعد السجن. بالطبع هذا الأمر يتعلق بطبيعة المكان، فمكاننا ثلاثي الأبعاد، ومكان
الكائنات التلفزيونية ثنائي الأبعاد.
والآن، نظرية الأوتار تقترح ١١ بُعداً. هذا يحتاج لفلم سينمائي لتصوره مثل Interstellar والذي قارب
موضوع "الأبعاد" بشكل غريب لم استوعبه حتى الآن بصورة واضحة.

وأخيراً، أشكرك على هذا الشرح وعلى عنايتك بأسئلتي، وأحياناً أتردد في طرحها خوف أن تغيّر خطتك في الكتابة،
أو تصرفك عن الاسترسال في موضوع معيّن، ولكني وجدت سؤال "نظرية الأوتار" مناسباً فطرحته
أضف رد جديد