Story Lesson أو الحِصَّة قِصَّة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

نوافذ مفتوحة

يحيى فضل الله



عادل القصَّاص و الحِصَّة قِصَّة

(4)



ﻋﺎﺩﻝ القصَّاص، أنت مُقِلٌّ ﻓﻲ كتاباتِك ﺍﻟﻘﺼﺼﻴﺔ، ﻟﻤﺎﺫﺍ؟


ﻏﺎلباً ﻣﺎ ﻛﺎنت ﻓﺘﺮﺓ ﺇﻧﺘﺎﺟﻲ ﺍﻟﻘﺼﺼﻲ ﻣﺘﺒﺎعدة؛ ﻭﺣﻴﻦ تَتأمَّل ﺍﻟﻔﺮﻕ ﺍﻟﺰﻣﻨﻲ ﺑﻴﻦ قِصَّةٍ ﻭأﺧﺮﻯ ﻓﺴﺘجده ﻳﺘﺮﻭﺍﺡ ﺑﻴﻦ ﻋﺎﻡٍ أﻭ ﻋﺎﻣﻴﻦ أﻭ ثلاثةِ أعوام، ﻓﻴﻤﺎ عدا قِصَّتين ﻟﻲ ﺻُدِرَﺗﺎ ﺧﻼﻝ ﻋﺎﻡٍ واحد، ﻭﻫﻮ أﻣرٌ لم أُخَطِّط ﻟﻪ؛ هذا عندما كنت ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻮﻃﻦ. بيد أﻥ الأﻣﺮ اختلف ﻓﻲ ﺍﻟﺸﺘﺎﺕ، حيث لم أكتب، ﻃﻮﺍﻝ ﺳﻨﻮﺍتٍ تِسْعٍ، ﺳﻮﻯ نَصٍّ قصصيٍّ ﻭﺍحد؛ ﻭأﻋتقد أﻥ ذلك ﻳﺮﺟﻊ لأﺳﺒﺎﺏٍ ﺗﺘﺒﺎﻳﻦ ﻣﺼﺎﺩﺭﻫﺎ ﻭﺗﺘﻔﺎﻭﺕ ﺩﺭﺟﺎﺕ ﺗﺄﺛﻴﺮﻫﺎ؛ ﻓﺒﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﻟﻰ ﺭﻫﺒﺘﻲ ﺍﻟﻐﺮﻳﺰﻳﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻴﺎﺽ، ﺑﻴﺎﺽ ﺍﻟﻮﺭﻗﺔ، الذي يُحَذِّرُني ﻣﻦ مَغَبَّةِ ﺇﻧﺠﺎﺯ نَصٍّ ﺑﻼ ﺷﺨﺼﻴﺔ مُتَمَيِّزَة، لم أتَوَفَّر، ﻃﻮﺍﻝ ﻓﺘﺮﺓ ﺷﺘﺎﺗﻲ، على ﺣﺎﻻتٍ ﻣﻦ ﺷﺒﻪ ﺍﻻﺳﺘﻘﺮﺍﺭ، الذي ﻫﻮ نسبيٌ طبعاً، الداﺧﻠﻲ ﻭﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻲ؛ ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻥ – وما يزال – ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ الإﺭﺘﺮﻱ، ﻓﻲ قطرٍ يكابدُ آلامَ وارتباكَ البدايات، ﻳﻌﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﺩﻭﺍﺭ التَشَكُّل؛ أضِفْ إﻟﻰ ذلك ﺍﻟﻐﻴﺎﺏ ﺍﻟﺘﺎﻡ ﺗﻘﺮيباً ﻟﻺصدارﺍﺕ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻋﻨﻪ. أﻣﺎ ﺍﻟﺤﻀﻮﺭ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻲ ﻓﻲ إﺭﺘﺮﻳﺎ، ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻥ، ﻭﻣﺎ ﻳﺰﺍﻝ، ﺣﻀﻮﺭاً اﺟﺘﻤﺎعياً، ﺗﺠﺎﺭياً، وظيفياً، سياسياً ﻓﻲ معظمه، ولم يكن حضوراً ثقافياً إلَّا ﻓﻴﻤﺎ ندر وبشكلٍ ﻓﺮﺩيٍّ تقريباً ﻭﻋﺎﺑﺮ؛ ثُمَّ جاء ﺍﻟﻌﻤﻞُ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻲ (ﺍﻟﻤُﻌَﺎﺭِﺽ) – ﺍﻟﺨﺎﻟﻲ، بَداهةً، ﻣﻦ أيَّة أجندةٍ ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ – ﺑﺒﺮﺍﺛﻨﻪ اليومية المعروفة. أشَرْتُ إﻟﻰ بعض العوامل ﺍﻟﺘﻲ ﻣﻦ ﺷﺄﻥ ﺗﻮﺍﻓﺮﻫﺎ، ﺍﻟﻨﺴﺒﻲ، أﻥ يُسَاهِمَ ﻓﻲ ﺧﻠﻖِ ﺳﻴﺎقٍ ﺛﻘﺎﻓﻲ يَنعِشُ الرﻭﺡ والمُخَيِّلَة؛ ﻭﻣﻊ ذلك، ﻓﺈﻧﻨﻲ ﻻ أتَنَصَّلُ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺴﺆﻭﻟﻴﺔ الذاتية، إﺫ ﻻ أكِلُّ ﻣﻦ تأنيبِ ﻧﻔﺴﻲ، ﺑﺄﻧﻨﻲ رُبَّمَا لم أُحْسِن التَأقْلُمَ على ﻭﺍﻗﻊِ ﺍﻟﺸﺘﺎﺕ، حتى أﻥ عقيرتي الجُوَّانيَّة كثيراً ﻣﺎ ﺗﺠﺄﺭ ﺑﻌﺒﺎﺭﺍﺕٍ ﻣﺜﻞ: "ﺍﻟﻠﻌﻨﺔ، ﻫﻞ أﻧﺎ لستُ إلَّا كائناً داخلياً!".

للمَكَانِ جِدَاله ﻣﻊ الذاكرة؛
للمَكَانِ ﺣﺮﻓﺔ أﻥ ﻳﻤﻮﺿﻊ ﺍﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ؛
للمَكَانِ وشائجُ وعلائقُ تُكَثِّفُ ﺫﺍﺋﻘﺔ ﺍلأﺯﻣﻨﺔ.
المَكَانُ ﻫﻮ فضاءُ التَحوُّلات ﻋﺒﺮ ﺍﻻﺧﺘﻼﻑ والتَنَوُّع،
ﻋﺒﺮ ﻧﻔﻴﻪ ﻧﺤﻮ الَّلامَكَان،
ﻋﺒﺮ ﺍﻟﺤﻀﻮﺭ ﻭﺍﻟﻐﻴﺎﺏ،
ﻋﺒﺮ تَوَهُّجِ ﺍﻟﺰﻣﻦ وتَخَثُّرِﻩ
... لكلِّ ذلك، أسألُ عادل القَصَّاص: ﺟﺎﻣﻌﺔ ﺍﻟﺨﺮﻃﻮﻡ، ذلك المكان الذي كنت تعمل في مكتبته، ﻻ شكَّ، لك ﻣﻌﻪ نوعٌ ﻣﻦ تَوَتُّرٍ وانسجام ﻓﻲ علائقك ﺍﻟﺤﻤﻴﻤﺔ ﻣﻌﻪ.


ﻛﺎﻧﺖ ﻓﺘﺮﺓ ﻋﻤﻠﻲ ﺑﺎﻟﻤﻜﺘﺒﺔ ﺍﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﺠﺎﻣﻌﺔ ﺍﻟﺨﺮﻃﻮﻡ ﻓﺘﺮﺓ ﻏﺰﺍﺭﺓ إﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻭﺟﺪﺍﻧﻴﺔ، ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ، ﻣﻌﺮﻓﻴﺔ ﻭﺇﺑﺪﺍﻋﻴﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﻓﺘﺮﺓ أداء ﻭﻇﻴﻔﻲ؛ ﺑﻞ أﺣﻴﺎﻧاً ﻛﻨﺖ أﻧﺴﻰ، ﻭﺭﺑﻤﺎ أﺗﻨﺎﺳﻰ، أﻥ لديَّ ﺍﻟﺘﺰﺍﻣاً ﻭﻇﻴﻔﻴاً ﻳﺠﺐ ﺍﻟﺨﻀﻮﻉ ﻟﻪ، ﻣﻤﺎ ﺟﻌﻠﻨﻲ ﻛﺜﻴﺮ التَعرُّض ﻟﻼﺳﺘﺠﻮﺍﺑﺎﺕ ﻭﺍﻟﺘﺤﻘﻴﻘﺎﺕ ﻭﺍﻟﻤﺤﺎﺳﺒﺎﺕ ﺍﻻﺩﺍﺭﻳﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ، ﻭﻣﺎ ﺗﺰﺍﻝ، ﺟﻴﻨﺎﺕ التَمرُّد مُتَمكِّنَةً ﻣﻨﻲ. كنتُ مُحَرِّضاً ﺩﺍﺋﺒاً ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﺸﻖ، ﻭﻣﺎ أﺯﺍﻝ. ﻛﻨﺖ أتأسَّى ﻭأﻧﺎ أﺭﻯ ﻟﻮﻋﺔ ﺍﻟﺤﺮﻣﺎﻥ تَتلَوَّى ﻓﻲ عَينَيْ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻄﺎﻟﺒﺔ أﻭ ﺗﻠﻚ، لَهْوَجَة ﺍﻻﻳﻘﺎﻉ تَرْشَحُ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻄﺎﻟﺐ أﻭ ﺫﺍﻙ. ﻣﺎ ﻣﻦ بُدٍّ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺸﻖ ﻟﻤﻦ ﻳﺮﻳﺪ ﻭﺟﺪﺍﻧاً مُعَافَىً ومَسَاماً تَبِثُّ ﺍﻟﻨﺴﻴﻢ. ﻛﻢ تَمنِّيتُ أﻥ أﺭﻯ سِرْباً من العُشَّاقِ يَلِجُ ﻗﺎﻋﺔ ﺍﻟﻤﺤﺎﺿﺮﺍﺕ ﻣﺘﺨﺎﺻﺮاً! وتأمَّل، مثلاً، ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺸﺮﻭﻉ ﺍﻟﻈﻼﻣﻲ، ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺸﺮﻭﻉ المُصَابَ بخرابٍ مَكِينٍ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﺪﺍﻥ، شَلَلٍ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﻴﺎﻝ، عَطَبٍ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻘﻞ ودَمَامَةٍ ﻓﻲ اللِّسَان، ﻟﻤﺎﺫﺍ ﻳﺮﺗﺒﻚ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺸﺮﻭﻉ ﻟﺪﻯ ﻣﺮﻭﺭ ﻓﺘﺎﺓ ﺗﺮﺗﺪﻱ تيشيرتاً وبَنطالَ ﺟﻴﻨﺰ؟ أﻭ ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺆﻛﺪ أﻥ يُغْمَى ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻟﻮ عَبَرَتْ ﺑﺘﻠﻚ ﺍﻟﻬﻴﺌﺔ مُخَاصِرَةً ﺣﺒﻴﺒﻬﺎ؟ الجَمَالُ، العِشْقُ، الخيالُ الوسيمُ، ﻫﺬﺍ ﻫﻮ ماء التَغيير. فَكَّرْتُ، ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻮﻗﺖ، ﻭﻣﺎ أﺯﺍﻝ، ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﺔ ﻣﺸﺮﻭﻉ إﻗﺘﺮﺣﺖ ﻟﻪ ﻋﻨﻮﺍﻧاً "على هامِشِ مُظَاهَرَةِ العُشَّاق: بَيانُ العِشْق". ﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻔﺘﺮﺓ كتبتُ "المِرآةُ تُعَادي الارتباك واللَّوْعَةَ المُكَابِرَة"، "ﻧﺸﻴﺪ ﺍﻟﺘﻤﺎﺳﻚ"، "ﺫﺍﺕ صفاء" ﻭﻧﺼﻮﺹ أﺧﺮﻯ ﺧﺎﺭﺝ ﺣﻘﻞ ﺍﻟﺘﺼﻨﻴﻒ القَصَصِي. ﺫﻟﻚ-ﻫﺬﺍ ﺍﻻﻧﺨﺮﺍﻁ ﺍﻟﻌﺎﻃﻔﻲ ﻛﺎﻧﺖ تَتوَازَى، تَتقَاطَعُ، تَتآصَرُ ﻣﻌﻪ قراءات، ﻣﻌﺎﺭﻑ ﻭﻣﺜﺎﻗﻔﺎﺕ ﻣﺎ ﻛﻨﺖ لأتوَفِّر ﻋﻠﻰ جُلِّها ﻟﻮﻻ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﺍﻟﺨﺮﻃﻮﻡ ﻭﻣﻜﺘﺒﺘﻬﺎ ﻭأﻧﺸﻄﺘﻬﺎ ﻭﺭﻣﻮﺯﻫﺎ، ﺣﺘﻰ أﻥ ﺑﻌﻀاً ﻣﻦ ﻋﻼﻗﺎﺗﻲ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ إنْبَنَتْ لي ﻓﻴﻬﺎ ﻭﺧﻼﻟﻬﺎ ﻣﺎ ﺗﺰﺍﻝ تَضُخُّ ﻓﻲ أﻭﺭﺩﺗﻲ ﺩﻣﻬﺎ ﺍلإﺳﺘﺮاﺗﻴﺠﻲ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﺑﺪلاً ﻣﻦ أﻥ يَهْتِفَ ﻋﺎﺩﻝ القَصَّاص ﻫﺘﺎﻓﻪ الجَمَالي "على هامِشِ مُظَاهَرَةِ العُشَّاق"، ﺑﺪلاً ﻣﻦ أﻥ ﻳﺼﻮﻍ " بَيانَ العِشْق"، ﺗﻘﺎﺫﻓﺘﻪ ﺍﻟﻤﻨﺎﻓﻲ إﻟﻰ ﺩﺭﺟﺔ اللجوء إﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻻﻋﺘﺮﺍﻑ ﺍﻟﺼﺎﻓﻲ" رُبَّمَا ﻟﻢ أُحْسِنَ التَأقْلُم على ﻭﺍﻗﻊ ﺍﻟﺸﺘﺎﺕ، حتى أﻥ ﻋﻘﻴﺮﺗﻲ الجُوَّانيَّة ﻛﺜﻴﺮاً ﻣﺎ ﺗﺠﺄﺭ ﺑﻌﺒﺎﺭﺍﺕ ﻣﺜﻞ: "ﺍﻟﻠﻌﻨﺔ، ﻫﻞ أﻧﺎ لستُ إلَّا ﻛﺎﺋﻨاً ﺩﺍﺧﻠﻴاً!"

على كُلٍّ، ﻫﺎ ﻫﻮ ﻋﺎﻃﻒ ﺧﻴﺮﻱ ﻳﺎ ﻋﺎﺩﻝ القَّصَّاص يَصْفَعُ شِعْرياً ﻫﺬﺍ "الخَرَابَ المَكِين":
بَلادٌ كُلَّمَا ابتَسَمَتْ
حَطَّ على شفتيها الذُبَابُ

ﻓﻲ مَساءٍ غريبٍ، ﻟﻢ يَعُد ﻋﺎﺩﻝ القَصَّاص إﻟﻰ ﻣﻨﺰﻟﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺎﺭﺓ ﺍﻟﺴﺎﺑﻌﺔ بالثورة؛ ﻟﻢ يَرُشَّ ﺍﻟﺒﺎﺣﺔ ﺍﻟﺘﻲ أﻣﺎﻡ ﺍﻟﺪﻳﻮﺍﻥ، ﻭﻟﻢ يمَتِّعَ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺮﺍﺋﺤﺔ ﺷﺠﺮﺓ الحِنَّاء ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻮﺣﻲ فَوْحُها ﺩﺍﺋﻤاً ﺑﻘﺪﻭﻡ الأصدقاء؛ ﻟﻢ ﺗﺮﺍﻭﺩﻩ أُمَّهُ ﻛﻲ ﻳﺄﻛﻞ ﻣﻦ ﺳﻠﻄﺔ ﺍلأﺳﻮﺩ ﺍﻟﻤﻄﺒﻮﺧﺔ ﺑﺎﻟﺰﺑﺎﺩﻱ ﻭالشَّطَّةِ الخضراء؛ ﻟﻢ ﺗﺴﺄﻟﻪ أﺧﺘﻪ (مُفِيدَة) ﻋﻦ عشاء ﺍﻟﻠﻴﻠﺔ ﻣﻊ أﺻﺪﻗﺎﺋﻪ ﺍﻟﻘﺎﺩﻣﻴﻦ؛ ﻟﻢ ﻳﺨﺮﺝ حاملاً البِسْتِلَّة ﻻﺣﻀﺎﺭ ﺍﻟﻔﻮﻝ، ﻭﻟﻢ يَسْتَدِن ﻣﻦ الدُّكَان ﺍﻟﻘﺮﻳﺐ عُلْبَةً ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺮﻧﺠﻲ.
ﻓﻲ ﻫﺬا المساء ﻣﻦ ﻳﻮﻟﻴﻮ 1991ﻡ، ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﻋﺎﺩﻝ القصَّاص إﻟﻰ ﻣﻨﺰﻟﻪ، ﻭﻟﻢ ﻳﺬﻫﺐ إﻟﻰ أيِّ ﻣﻨﺰلٍ ﻣﻦ ﻣﻨﺎﺯﻝ أﺻﺪﻗﺎﺋﻪ ﺍﻟﻤﺘﻨﺎﺛﺮﻳﻦ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﺎﺻﻤﺔ ﺍﻟﻤﺜﻠﺜﺔ. ﻟﻢ يَعُد ﻋﻮﺩﺗﻪ ﺍﻟﻌﺎﺩﻳﺔ ﻭﻟﻜﻨﻪ ﻋﺎﺩ إﻟﻰ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﻣﺨﻔﻮﺭاً ﺑﺪﺯﻳﻨﺔ ﻣﻦ ﺭﺟﺎل ﺍلأﻣﻦ؛ فَتَّشوا ﺍﻟﻤﻨﺰﻝ ﻭﺣﻤﻠﻮﺍ ﻣﻌﻬﻢ ﻧﺼﻒ ﻣﻜﺘﺒﺘﻪ ﺗﻘﺮﻳﺒاً؛ ﻟﻌﺎﺩﻝ القَصَّاص ﻣﻜﺘﺒﺔ ﻣﻨﺰﻟﻴﺔ كنتُ أﺳﺘﻤﺘﻊ ﺑﻬﺎ ﺣﻴﻦ ﺗﻀﻤﻨﺎ ﻣﻘﻴﻠﺔ ﺟﻤﻌﺔ ﻓﻲ ﻣﻨﺰﻟﻪ؛ أﺫﻛﺮ أﻧﻨﻲ أﺧﺬﺕ ﻣﻨﻬﺎ ﻛﺘﺎﺑاً ﻋﻦ ﻛﺘﺎﺑﺔ ﺍﻟﺴﻴﻨﺎﺭﻳﻮ أﺿﺎﻑ إليَّ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺠﺎﻝ.
ﺣﻤﻠﺖ ﺩﺯﻳﻨﺔ ﺍﻟﻘﺒﺢ ﺗﻠﻚ ﻧﺼﻒ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻜﺘﺒﺔ ﻭﻋﺎﺩﺕ ﺑﻌﺎﺩﻝ القَصَّاص، ﻭﻗﺬﻓﻮﺍ ﺑﻪ ﻓﻲ ﺑﺌﺮ سُلَّمٍ مُكَدَّسٍ ﺑﺎﻟﻜﺘﺐ، ﻛﺘﺐ ﺁﺧﺮﻳﻦ ﻣﺼﺎﺩﺭﺓ أُضِيفَت إﻟﻴﻬﺎ ﺍﻟﻜﺘﺐ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺴﺎﻭﻱ ﻧﺼﻒ ﻣﻜﺘﺒﺘﻪ. ﺣﺸﺮﻭﻩ ﻫﻨﺎﻙ، ﻓﻲ ﺑﺌﺮ السُلَّمٍ ذاﻚ؛ ﻭﻧﻈﺮ إﻟﻴﻪ أﺣﺪ ﺍﻭﻟﺌﻚ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺫﻫﺒﻮﺍ ﺑﻪ إﻟﻰ ﻣﻨﺰﻟﻪ ﻟﺘﻔﺘﻴﺸﻪ، ﻧﻈﺮ إﻟﻴﻪ بشماتة ﻭﻗﺎﻝ ﺳﺎﺧﺮاً: "أﻫﺎ، أﻗﺮﺃ ﺑﻌﺪ ﺩﻩ!"
ﺣﺪﺙ ﺫﻟﻚ ﺑﻌﺪ أﻥ تَمَّ إعتقال عادل القَصَّاص ﻓﻲ ﻇﻬﻴﺮﺓ ﻣﻦ ﻳﻮﻟﻴﻮ 1991ﻡ، ﺣﻴﻦ ﻛﺎﻥ يَتحرَّكُ ﻣﻦ ﻛﺎﻓﺘﻴﺮﻳﺎ القُولْدِنْ قِيْتْ، ﺑﻌﺪ أﻥ مَرَّ ﺑﺎﻟﺤﺎﺟﺔ ﺳﻜﻴﻨﺔ ﺑﺎﺋﻌﺔ المُلَاح ﻭﺍﻟﻜﺴﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺸﺎﺭﻉ ﺍﻟﺬﻱ ﺑﻪ ﺩﺍﺧﻠﻴﺔ ﺑﻨﺎﺕ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﺍﻟﺨﺮﻃﻮﻡ، ﺩﺍﺧﻠﻴﺔ ﺑﺤﺮ ﺍﻟﻐﺰﺍﻝ؛ ﻛﺎﻥ ﻗﺪ ﺧﺮﺝ ﻭﻗﺘﻬﺎ ﻣﻦ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﺔ ﻟﻴﺸﺘﺮﻱ ﻋﻠﺒﺔ ﺑﺮﻧﺠﻲ ﻭﻳﻌﻮﺩ ﺣﻴﺚ ﺗﺮﻙ ﺻﺪﻳﻘﺔ ﻣﻦ ﺻﺪﻳﻘﺎﺗﻪ ﺗﻨﺘﻈﺮﻩ ﻫﻨﺎﻙ؛ ﻗﺒﻞ ﺩﺧﻮﻟﻪ إﻟﻰ ﺍﻟﺪﺍﺧﻞ أﺷﺎﺭ إﻟﻴﻪ شخص كان طالباً ﻓﻲ ﻛﻠﻴﺔ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩ ﻳﻌﻤﻞ ﻓﻲ ﺟﻬﺎﺯ ﺍلأﻣﻦ ﻭﻛﺎﻥ ﻭﻗﺘﻬﺎ ﻳﺸﻴﺮ إﻟﻰ ﺭﺟﺎﻝ الأﻣﻦ ﻛﻲ ﻳﺘﻢ ﺗﻨﻔﻴﺬ ﺍﻻﻋﺘﻘﺎﻝ ﻋﻠﻰ طُلَّاب ﻫﻢ على الضِدِّ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺸﺮﻭﻉ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ؛ ﻭﺣﻴﻦ مَرَّ ﻋﺎﺩﻝ القَصَّاص ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻥ ﻳﺘﻢ ﺍﻟﺤﺪﺙ، ﺃﺷﺎﺭ إﻟﻴﻪ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻄﺎﻟﺐ السابق ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺫﺍﺕ ﻣﺮﺟﻌﻴﺔ ﺷﺨﺼﻴﺔ، إذْ ﺃﻧﻪ – ذلك الطالب السابق (وﺭﺟﻞ الأﻣﻦ المُتَخَفِّي وقتها) – سبق تَعرَّضَ ﻝ "ﺷﺎﻛﻮﺵ" مُدَوٍّ ﻣﻦ إﺣﺪﻯ ﺍﻟطالبات ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ على ﻋﻼﻗﺔ ﻃﻴﺒﺔ ﺑﻌﺎﺩﻝ القَصَّاص؛ ﺗﻠﻚ ﺍﻻﺷﺎﺭﺓ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﻤﺮﺟﻌﻴﺔ ﺍﻟﻌﺎﻃﻔﻴﺔ ﻗﺬﻓﺖ ﺑﻌﺎﺩﻝ القَصَّاص إﻟﻰ ﺣﻴﺚ ﻫﻨﺎﻙ، وراء أﻣﺎﻛﻦ ﻻ تَخَصُّ ﻣﺰﺍﺟﻪ ﻓﻲ شيء. وﺣﻴﻦ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﻀﺎﺑﻂ ﺍﻟﻤﺴﺆﻭﻝ يُحَقِّقُ ﻭﻟﻢ ﻳﺠﺪ ﻣﺎ ﻳﺪﻳﻦ ﻋﺎﺩﻝ وفَكَّرَ ﻓﻲ ﺇﻃﻼﻕ ﺳﺮﺍﺣﻪ، جاء ذلك الطالب السابق – ﺭﺟﻞ ﺍلأﻣﻦ ﻭأﻋﻠﻦ أﻥ ﻋﺎﺩﻝ القَصَّاص يَخُصَّهُ ﻭﺣﺪﻩ، ﻭ يَخُصَّهُ جِدَّاً، وجَدَّدَ ﻣﻌﻪ ﺍﻟﺘﺤﻘﻴﻖ؛ ﻛﺎﻥ ﺗﺤﻘﻴﻘاًﻏﺮﻳﺒاً ترَكَّزَ ﻋﻠﻰ ﻋﻼﻗﺎﺕ ﻋﺎﺩﻝ القَصَّاص ﺑﺼﺪﻳﻘﺎﺗﻪ ﻭﻛﻴﻒ ﺃﻧﻬﻦ ﻳﺰﺭﻧﻪ ﻭﻫﻮ ﻳﺰﻭﺭﻫﻦ، ثم اتَّهَمَ ﻋﺎﺩﻝ ﺑﺄﻧﻪ ﺍﻟﺼﻠﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺘﺠﻤﻊ ﻭﺇﺗﺤﺎﺩ ﺍﻟﻄﻠﺒﺔ؛ ﻭﻫﻜﺬﺍ ﺭﺍﻓﻘﺘﻪ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻘﻮﺓ ﻣﻦ ﺭﺟﺎﻝ ﺍلأﻣﻦ إﻟﻰ ﺍﻟﻤﻨﺰﻝ ﻭﻋﺎﺩﻭﺍ ﺑﻪ إﻟﻰ ﺣﻴﺚ ﺗﻢ ﻗﺬﻓﻪ ﻫﻮ ﻭﻛﺘﺒﻪ ﻓﻲ ﺑﺌﺮ ﺳﻠﻢ إﺳﺘﻌﺪﺍﺩاً ﻟﻨﻘﻠﻪ إﻟﻰ ﻣﻜﺎﻥ ﺁﺧﺮ. ﺣﺪﺙ ﺫﻟﻚ ﻓﻲ ﻃﻘﺲ أﺣﻤﻖ، ﻭﻫأﻧﺬﺍ ﻓﻲ ﻃﻘﺲ ﺧﺎﺹ أﺣﺎﻭﺭ ﻋﺎﺩﻝ القَصَّاص ﻋﻦ ﻋﻼﻗﺘﻪ ﺑﺎﻟﺤﺮﻛﺔ ﺍﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ.

ﻭﻻ تزالُ النَّوَافِذُ مفتوحة.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الثلاثاء أكتوبر 13, 2015 8:46 am، تم التعديل 8 مرات في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

نوافذ مفتوحة

يحيي فضل الله



عادل القصَّاص والحِصَّة قِصَّة

(5)



يقول عادل القصَّاص عن علاقته بالحركة الشَّعبية:

بالنِّسبة لي، يُعَدُّ انخراطي في الحركة الشَّعبية لتحرير السُّودان أمراً بديهياً، فلا أسئلتي ولا تساؤلاتي ولا تأملاتي ولا منعطفاتي كان يمكن أن تقودني إلى غير ذلك؛ ذلك أن السِّياق - الاجتماعي - الثَّقافي - الفكري الذي احتدمت فيه أسئلتي وتَفَرَّعَتْ خلاله تأملاتي وإنداحتْ بسببه قراءاتي كان سياقاً ماركسياً في أغلبه، بل إن جُلَّ هذا "الأغلبه" لم يكن ماركسياً محافظاً؛ كما لم أمر بمرحلةٍ تنظيمية - تلقينية - قط، أي أنني كنت بمنأًي عن "الماركسية المُعَلَّبَة"؛ فذهبت إلى عددٍ من المصادر الطَّازجة للماركسية مباشرةً، ثم انجذبتُ إلى كُتَّابٍ ممن يثيرون عداءَ أو سخطَ أو امتعاضَ الماركسيين الرَّسميين مثل فرانز فانون، هيربرت ماركوزه، سمير أمين، تروتسكي، آيزاك دويتشر، أنطونيو غرامشي، لويس ألتوسير ومهدي عامل، علاوةً علي كتابات أخرى مُتَفَرِّقَة عن الكفاح المسلح لاسِيَّمَا في أميركا اللاتينية كالثورة الكوبية والتوبا ماروس وبعض كتاباتِ اليسار الجديد عموماً. كانت تلك القراءات، وغيرها، تندفع، إلى جانب الفضول الشَّخصي، من أسئلة الواقع وتعود إليه، ليلتهب الذهنُ بالأسئلة، فيسائلُ السائدَ من مشاريعِ التَّغيير البديلة المحتملة، ويتأمل كتلتها التَّاريخية صاحبة المصلحة في التغيير، وتتناسل الأسئلة حتى تطال الدِّيمقرطية، الثَّقافة، الفن، المرأة، الدِّين والهوية؛ وكلُّها أسئلةٌ تُشَكِّلُ أجوبتها النَّظرية والعملية الأعمدة والمفاصل الأساسية لجدارةِ أيِّ مشروعٍ يزعم التَّغيير والجذرية؛ وهي أسئلةٌ لم أتَوَفَّر علي أجوبةٍ لها من يسارنا الشَّمالي الماركسي تحديداً. لذلك ما أن أطَلَّتْ الحركة الشَّعبية لتحرير السُّودان، حتي وجدتُ فيها، شأن عددٍ قليلٍ من الشَّماليين، استجابة حَرَّى لتَوْقٍ راسخ. على أنني، وحتي لا أبدو متحاملاً على الماركسيين الشَّماليين، أقول بأنني لم أجد في الحركة الشَّعبية لتحرير السُّودان أجوبةً ملائمة علي كلِّ أسئلتي تلك، وعلى أسئلةٍ أخرى انبثقت من خلال التَّجربة، على محدوديتها، خصوصاً فيما يتعلق بالدِّيمقراطية والثَّقافة.

في ذلك الطَّقس الأحمق، وبعد يومٍ من حشرِه في بئرِ السُّلَّم تحوَّل عادل القصَّاص إلى شبحٍ من أشباحِ ذلك البيت، بل وبدقةٍ أكثر، دخل عادل القصَّاص حالةَ ذلك التَّشبيح بعد أسبوعٍ من نقله من بئرِ السُّلَّم إلى مبني جهاز الأمن بالقوات المسلحة - القيادة العامة؛ وتمَّ استقباله وهو يدخل ذلك المبني بِمَدْحَةٍ من مجموعة عقد الجلاد التي كانت معتقلةً هناك. طبعاً مَدَحَتْ عقد الجلاد في استقباله بأوامرَ أمنية، إذ كان رجالُ الأمن يمارسون سطوتهم وسلطتهم في التَّسَلِّي والتَّمَتُّعِ بأغنياتِ عقد الجلاد. انضم إلى مجموعة عقد الجلاد وعادل القصَّاص شرف يس، موظَّفٌ بدار النَّشر جامعة الخرطوم، الفنانون التَّشكيليون: عبد الواحد وراق، المرضي عبد الله، علي الأمين، صلاح سليمان، جاه الله والمرضي مُعَلِّم. بعد ذلك تمَّ نقل الكل إلى حالة التَّشبيح في منزلٍ بالقرب من لجنة الاختيار، تَمَّ التَّعَرُّف على مكانه بواسطة أصوات الطَّلبة وحركة العربات. أثناء عملية التَّرحيل من هنا إلى هناك، كان رجالُ الأمن يأمرون بإخفاء الرُّؤوس تحت المقاعد - مقاعد العربة - كي لا تلتقط العيون أيَّ إشارةٍ يمكن التَّعَرُّف بواسطتها على المكان.

خلخلة الخريطة السِّياسية - المفاهيمية اليقينية السَّائدة في السُّودان من أجل تفكيكها وإعادة ترتيبها وموضعتها على أسسٍ جديدة ومتكافئة. هذا ما تسعى الحركة الشعبية إلى فعله في السودان. إن تاريخية مشروع الحركة الشَّعبية لتحرير السُّودان لا يكمن في انتخابها للكتلة الاجتماعية - التَّاريخية - صاحبة المصلحة الحقيقية في التَّغيير متمثلةً في تحالفِ مُهَمَّشِي الأطراف والمركز، أو في عمليتها في السَّعي نحو التَّغيير، أو في كشفِ الغطاء عن الأسئلة الحقيقية لأزمتنا وطرحها بما يليق بفداحةِ المواجهة ولغة المنعطفات، أو في مساهمتها في تَبَدُّل الحساسية وتَغَيُّر الوعي لدى العديد من الشَّماليين – بالتَّقسيم الجغرافي التَّقليدي – لاسِيَّمَا لدى بعض الشَّباب والمثقَّفين ، أقول: لا تكمن تاريخية مشروعها في كلِّ ذلك، فحسب، وإنما، أيضاً، في أن القضايا والمشكلات الجوهرية للأزمة الوطنية التي دفعت بها إلى سطح الوضوح والتَّأَجُّج، سوف لن تذوى، ولن تخمد، حتى لو انتفى وجودُ الحركةِ الشَّعبية والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان. فلقد انبجس دمُ الحقيقة وما من أحدٍ بوسعه أن يطفئَ جذوةَ الوعي ولهبَ الفعل.

قبل الدُّخول في حالة التَّشبيح، كان على عادل القصَّاص ورفقته أن يمرُّوا على صفٍّ من عساكر الأمن، صفٍّ طويلٍ من البوابة وحتى الزنزانة، يحملون عصياً مختلفة، فروعَ أشجارِ النيم، خراطيشَ بلاستيكيةً سوداءَ سميكة- بتاعة المواسير. مَرَّ عادل القصَّاص على كلِّ أفراد ذلك الطَّابور الطَّويل، وانهالت على ظهرِه عِصِيٌّ وفروعُ نيمٍ وخراطيشُ بلاستيك؛ وتَمَّ ذلك بقسوةٍ شديدة، وبسرعةٍ تحاول أن تهزم سرعة المارين عبر ذلك الطَّابور لمُعَذِّبٍ. وبعد ذلك، تَمَّ حشرُ أكثرِ من خمسةَ عشرَ فرداً في زنزانة - ثلاثة متر في ثلاثة متر - يبدو أنها بُنِيَتْ قريباً، ووُضعت عليها لمبةٌ واحدة، لا تُطفأ أبداً ليلاً أو نهاراً.
في حالة كونه شبحاً سكن في بيتِ الأشباح، أُغْمَى على عادل القصَّاص من التعذيب المستمر؛ كان يُؤمرُ بأن يرفعَ يديه على الحائط، ويتم جلدُه بخراطيشِ البلاستيك؛ بعد ذلك، تمَّ توزيعُ الأشباح على زنازينَ أضيق - مترين في متر ونصف - كلُّ تسعةِ أشخاصٍ في زنزانة، مع السماح بقضاءِ الحاجة مرَّةً واحدة في اليوم.
تمَّ نقلُ الأشباحِ إلى زنزانةٍ أوسع، عبارة عن صالون تَمَّ فيه حشرُ عددٍ كبير من النَّاس، عُرف منهم عادل القصَّاص، نور الهدي، أبو بكر الأمين، والقائد العمالي مصطفى عُبَادَة.

في أكتوبر 1991م، وَقَّعَ عادل القصَّاص أمام ضابط الأمن على استماراتٍ تمنع التَّحَدُّث عن الاعتقال، وموقعه، وما تَعَرَّضَ له فيه، وإقرارٌ بعدم مغادرة الخرطوم أو السُّودان إلَّا بمراجعة أجهزة الأمن.

القصَّاص، هل تملك الحركة الشَّعبية مشروعاً ثقافياً؟


"مشروعٌ ثقافي"؟ بل ليس هناك إستراتجيةٌ ثقافية لينحدر منها المشروع الثَّقافي. إن الحركة الشَّعبية لتحرير السُّودان مُوَاجَهَةٌ بسوءِ فهمٍ والتباسات مُرَكَّبَة، داخلياً (شمالياً وحتى جنوبياً)، إقليمياً وعالمياً؛ ولن تنحسر مثل هذه النظرة بالشِّعار أو اهتبال منابر الصدف والمناسبات؛ بل بانتشارِ الخطاب الفكري- السِّياسي - الثَّقافي، نهوضاً على تَعَدُّدِيِّتِه، وتَمَايَزَاتِه الثَّرَّة، وتأسيس قنواته؛ ولن تتأسَّسَ القنواتُ، وينتشر الخطابُ، دون مؤسَّسات، وبلا فصلٍ للسلطات. بيد أنه، عوضاً عن ذلك، باتت الحركة الشَّعبية لتحرير السُّودان، شأنها في ذلك شأن معظم الحركات والتَّنظيمات "التَّقدمية" في العالم الثَّالث، ترى إلى الفعل الثَّقافي بطريقةٍ تأجيليةٍ ذاتِ حساسيةٍ تبريرية، أخلاقيةٍ خجولة، في أفضل الأحوال. غير أن المُحَصِّلَة النِّهائية، عموماً، ومهما كانت المُسَوِّغَات الأخلاقية – ولا أقول العملية – هي الإقصاء. فالسَّائدُ من ساستنا – "التَّقدميين طبعاً" – لا يرى إلى الثَّقافي إلَّا كمُلْحَقٍ للسِّياسيِّ، لا محلَّ له من الاستقلال؛ لا ككينونةٍ مساويةٍ، موازيةٍ للسياسيِّ؛ مُتَمَايِزَةً عنه، ومُتَوَاشِجَةً معه، في نفسِ الوقت. تلك – هذه – النَّظرة الإلحاقية، الميكانيكية، تعتقد في أن معالجة القضايا الثَّقافية سوف يتمُّ على نَحْوٍ آليٍّ عقب حلِّ المسائل السِّياسية، أي بتغييرِ هيكلِ السُّلطة السِّياسية القائمة، وتَبَنِّي برنامجٍ سياسيٍّ غيري؛ وهي نظرةٌ تقوم على فهمٍ لا نصيبَ له من الصواب، لمَاهِيَّةِ ومهامِّ السِّياسيِّ والثَّقافيِّ معاً.
تُرَى أو لم يحنِ الوقتُ بعدُ كي نتأمل، إن أحدَ أهَمِّ أسبابِ الهُزَالِ والشُّحوب اللذين أصابا الحركاتِ والتنظيماتِ "الثورية"، إنما يكمنُ في غيابِ الإستراتيجيةِ الثَّقافيةِ المعافاةِ من التَدَخُّلاتِ الاستبدادية للسياسي، بسببِ الإشاحة عن "حالمية المثقف"، ذلك المُعَمَّدِ بالتُّرابِ، والغيمةِ، وزرقاءِ اليمامة؟.

قبل أن ينتهي أكتوبر، غادر عادل القصَّاص السُّودان؛ و بمساعداتٍ سرية هزمت ذلك الإقرار الذي وقَّعه أمام ضابط الأمن، غادر عادل القصَّاص مِزاجَ أمكنته الأليفة، وذائقةَ أزمنتِه المتأمِّلةِ الوثَّابةِ الحلمِ، بفضاءٍ ثقافيٍّ يلقِّحُ ممارستَه للكتابة.
أذكرُ في ليلةٍ احتفاليةٍ خاصَّةٍ بخروجه من حالةِ كونه شبحاً وخروجِه من وطنٍ قبَّحته الممارسةُ السِّياسية، تحت شجرةِ النَّبَقِ في منزلي بالجميعاب، أشهرتُ نحوَه استفزازي المِهزارَ، حين قذفتُ في وجهِه بهذا السؤال: - "خلاص يا عادل قرَّرت تهرب؟"، فكان أن واجهني عادل بإجابةٍ باكيةٍ إلى حدِّ التَّشنُّج، بكى عادل القصَّاص ليلتها بكاءً حاراً، ولم يستطع لفيفٌ من الأصدقاء الذين حوله لملمةَ عادل القصَّاص، الذي تناثر أمامنا معلناً خروجَه الجبري عن وطنٍ يُحبُّه حتى البكاء، وهربتُ أنا بعده بسنوات؛ وفي محاولةِ أن يكونَ هذا الهروبُ مثمراً، التقيت بملامحِ وأنفاسِ وأفكارِ عادل القصَّاص من خلال مجلة "مسارات جديدة" التي أصدرها "لواء السودان الجديد" وأسأله عن هذه الإصدارة..


لقد حاولنا تجاوزَ هذا الواقع القائم عبر مبادرة "لواء السودان الجديد"، إذ أُنشئَ له مكتبٌ إعلامي بأسمرا، الذي كان يُفترض أن يكون في منأًى عن حُشَرِيةِ السياسيِّ، عدوِ الوردةِ والأجنحة، حيث أسَّسنا وأصدرنا، إلى جانبِ عددٍ من الحادبين على عطر المبادرة، العددَ الأول (الأخير؟) من مجلة "مسارات جديدة" وعددين من صحيفة "بيارق"؛ وكدنا أن ننهي العدد الثَّالث من تلك الصَّحيفة، الذي ما لبث أن وُئدَ وهو على أهبة الإطلالة، ثم تُوِّجت مسيرةُ الوأِدِ بإغلاقِ مكتب أسمرا، بعد سنةٍ واحدة من إنشائه؛ والسببُ لا يعودُ إلى قرارٍ مؤسَّسي، وإنما إلى مشيئةٍ شخصيةٍ محضة. وبالطبع، إن المسألة وقد بلغت هذه الدرجة من القتامة - مأساةٌ أو ملهاةٌ أو كلتاهما، فالاستبداد والعاهات النَّفسية ليست حكراً على الجبهة القومية الإسلامية؛ ومع ذلك، ما يزال بإمكان المرء التَّشبث بالآفاقِ الحُبْلَى بوعودِ النَّسائم والنُّجوم، استناداً إلى تشاؤمِ العقلِ وتفاؤلِ الإرادة، كما يقول غرامشي، ذلك أن الحركة الشَّعبية، والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، ولواء السُّودان الجديد، ما يزالون مطرَّزين بمسؤولين مثَّقفين ومبدعين، جنوبيين وشماليين، يتمتعون بوجدانٍ وريف، وخيالٍ وثَّاب، وعقلٍ رحيبٍ وطليق؛ منهم أذكر – ليس حصراً – باقان أموم، إدوارد لينو، محمد سعيد بازرعة، كمال الوسيلة وعبد الباقي محمد مختار.

سأتركها النوافذَ مفتوحةً، حتي يتسنَّى لعادل القصَّاص أن يتصدَّى لمسيرةِ الوأدِ تلك، حين تتمظهر أمامه في أشكالٍ أخرى.
ستظل نوافذي مفتوحةً أمام اجتراحاتِ عادل القصَّاص الإبداعية، حتى يجد الإجابة علي تساؤلاته تلك الشفيفة.

(اللعنة ،أما كان بوسعي فعلُ شيءٍ آخرَ
سوى اقترافِ السفر؟
أما من أحدٍ يدلُّك، أيُّها النيلُ عليَّ؟)

ختاماً، أنتمي وبإلفةٍ حريفة إلى هذا الحلم: ( ينبغي للمقرن إذن أن يتهيأ
صدري شاخصٌ
من ذراعي يفوحُ رفيفٌ
كم أنا مضرَّجٌ بالقدوم!)
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الثلاثاء أكتوبر 13, 2015 8:49 am، تم التعديل 13 مرة في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهذه مساهمة جديدة من محمد خلف:

ستأتي مشاركتي هذه المرَّة، إنْ شاءَ اللهُ، من ثلاثةِ أجزاء، وهي عبارة عن تلخيصٍ وتعليقٍ على محاضرة "السَّرد والبرهان الرِّياضي" التي ألقاها عالمُ الرِّياضيات بجامعة أوكسفورد، ماركوس دو سوتوي، في افتتاح برنامج العلوم الإنسانية وعلم الطَّبيعة الذي دشَّنه مركز أوكسفورد للأبحاث في العلوم الإنسانية في يوم 20 يناير 2015:
(1) تلخيص كلمة عالم الرِّياضيات ماركوس دو سوتوي
(2) تلخيص مشاركتَي الشَّاعر والرِّوائي النِّيجيري بِنْ أوكري وعالم الفيرياء الرِّياضي الإنجليزي روجر بينروز
(3) تعليقٌ من شأنِه، بإذنِ الله، إضاءة العلاقة بين الحقِّ والحقيقة


السَّرد والبرهان الرِّياضي: وجهان لنفسِ المعادلة

1 -تلخيص كلمة عالم الرِّياضيات ماركوس دو سوتوي

عندما فرِغَ الصَّديق عادل القصَّاص من إعداد الجزء السَّادس والأخير من ردِّه على رسالتي إليه، أرسل إليَّ -قبل نشرِه- نسخةً تُعينني على الاستعداد للرَّدِّ عليه إنْ أرَدْت، وطلب منِّي بحيائه المعهود إنْ كنتُ أريد منه أن يجري أيَّ تعديلٍ على ما كتب؛ فقلت له إن ما كتبه مناسبٌ جداً، فمن حقِّه أن يدافعَ عن طرحه بالطَّريقة التي يراها مناسبة، فأنا من جانبي لا أرغبُ في جدلٍ بيني وبينه، وإنما أسعى إلى فتحِ فضاءٍ يُعينُ الآخرين على تطوير الحوار، خصوصاً وأن الرِّسالة، وإنْ اهتمت بأمرِ السَّرد على وجه التَّحديد، إلا أنها تلامسُ الحقلَ الثَّقافيَّ بمجمله.
إلا أن عرضاً جاء بصحيفة "الجارديان" يوم الجمعة الماضية (23 يناير 2015) لكلمةٍ ألقاها ماركوس دو سوتوي، أستاذ الرِّياضيات بجامعة أوكسفورد، في افتتاحِ برنامج العلوم الإنسانية وعلم الطَّبيعة، التي جاءت تحت عنوان: "السَّرد والبرهان الرِّياضي: وجهان لنفسِ المعادلة"، قد نبَّهني إلى شيءٍ لا يقودُ إلى إحياءِ جدلٍ بيني وبين الصَّديق عادل، بالرغم من أنه سأل في ثنايا ردِّه عليَّ: "ما هو السَّردي في المعادلات الرِّياضية (لاحظ، أيها العزيز خلف، أنك لم تَتعَرَّض للرِّياضيات بالحديث)، المعادلات الفيزيائية والمعادلات الكيميائية؟"، وإنما يمسُّ شأناً يضيءُ العلاقة بين الحقِّ والحقيقة، وهو الأمرُ الجوهريُّ الذي استدعى، من جانبي، التَّطرُّقَ إلى موضوعِ السَّردِ في المقامِ الأول، مثلما تنبَّه إلى ذلك كثيرٌ من المشاركين في الحوار، من ضمنهم مسعود محمد علي، والصَّادق إسماعيل، والسِّر السَّيِّد، الذي سيُشعلُ الحوارَ مجدَّداً بمساهمته التي أسمعني طرفاً منها عبر الهاتف يوم الثلاثاء 27 يناير.
يبدأ عالمُ الرِّياضيات، وأستاذُ كرسي سيميوني لنشرِ الفهم العام للعلوم الطَّبيعية منذ عام 2008، بالقول بأن علماء الرِّياضيات هم تماماً مثل رواةِ القصص؛ وشخصياتهم هي الأرقامُ والأشكالُ الهندسية؛ وسردياتهم هي البراهينُ التي يقيمونها بشأنِ تلك الشَّخصيات (أي الأرقام والأشكال). ويضيف قائلاً بأن العديد من النَّاس يعتقدون أن الرِّياضيات تنطوي في الأساس على توثيقِ البيانات الصَّحيحة المتعلِّقة بالأرقام والأشكال الهندسية، إلا أنها -بحسب الفيلسوف وعالم الرِّياضيات الفرنسي الشَّهير أونري بوانكاريه (1854-1912)- أمرٌ مختلف؛ فهي إبداعٌ، والإبداعُ "لا ينطوي على إنشاءِ مجموعاتٍ رياضية لا طائلَ من ورائها، وإنما ينطوي على حسنِ التمييزِ والاختيار"؛ فالرِّياضياتُ شأنُها في ذلك شأنُ الأدب، تقومُ على تبنِّي الخيارات"؛ ثم يمضي إلى حَدْسِه الأساسي الذي يضعه في شكلِ معادلةٍ رياضية، تزعمُ بأن البرهان الرِّياضي=السَّرد.
وحسب دو سوتوي، فإن البرهان الرِّياضي مثل كتابِ رحلاتٍ يَبْلُغُ فيه عالمُ الرِّياضياتِ قمَّةً، يتعيَّن على علماءِ الرِّياضياتِ من بعده أن يحدِّدوا طُرُقاً تقودهم من مناطقَ يعرفون ملامحها وتضاريسها إلى أراضٍ أجنبيةٍ جديدة؛ وهم في ذلك مثل قصَّة مغامرات "فودرو" في رواية "سيِّد الخواتم" الشَّهيرة، فالبرهانُ الرِّياضي هو عبارة عن وصفٍ للرِّحلة من المقاطعة المعروفة إلى أرضِ "موردور" الخيالية التي يسيطر عليها "سورون" ملك الظُّلُمات. ففي داخل المقاطعة المعروفة، توجد المسلَّمات الرِّياضية، والحقائق البديهية حول الأرقام، إلى جانب المسائل والفرضيات التي تمَّ إثباتُها، إذ إن ما هو معروفٌ يصبح بمثابةٍ إعدادٍ لبدايةِ الرِّحلة؛ أما الرِّحلة من هذا المكان المعروف، فهي مقيَّدةٌ بقواعد الاستدلال الرِّياضي؛ في حين أنَّ البرهانَ، في المقابل، هو قصَّةُ الرِّحلة، ورسمُ إحداثياتها، وسجلُّها الرِّياضي؛ فالبرهانُ الرِّياضيُّ النَّاجح هو مثلُ معالمَ في الطَّريق، تسمح لعلماءِ الرِّياضياتِ اللَّاحقين بتتبُّعِ نفسِ مسارِ الرِّحلة؛ وسيعيشُ الذين يطَّلعون على البرهان ذاتَ التَّجربةِ المثيرة التي عاشها المؤلِّفُ عبر نفسِ المسار الذي قاده إلى الذَّروة. ويخلُص دو سوتوي إلى أن متعة قراءة الرِّياضيات وتأليفها تتجلَّى في لحظة "الآهة" المثيرة التي نعيشها، عندما تتجمَّع وتترابط كلُّ الخيوط لحلِّ اللُّغز الرِّياضي، تماماً مثل لحظة الانسجام التَّوافقي في عملٍ موسيقي، أو انكشافِ الحلِّ للُّغزِ جريمةِ قتلٍ في روايةٍ بوليسية.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:04 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »


عزيزنا السر السيّد السلام والشوق والأمانى يا من أبقيتم على بيض سِنيّكُم
بالسودان فقد دفناها فى الملاذات لا يفقه رطيننا أهل العجمة فيها ولا ينفعلون به كما تفعلون وينفعل بكم كل من حولكم بحجم الوطن طولاً وعرضاً. فيا عزيزى قد رفعت عنى الكلفة بقولك إنك قرأت خراج خلف ستة مراتٍ عدو أرنبٍ أو صبره، فقد فعلت ذات الصنيع وأتطلع لقرآتٍ أخر على أحصى ما بجوفها من لؤلؤٍ ومرجان. وتجدنى كذلك أشاطرك الفهم والراى فإن كان الإهتمام بالعلوم التطبيقية فى مقام السنن فإن اللسانيات والإنسانيات من الفروض وكما ختمت بتحول خلف إلى القرآن فانا أرى أن المعرفة لا يمكن أن تكتمل إلا به أى القرآن فهى دوما ناقصه مهما حسبناها غير ذلك وأنه أى القرآن هو سقف المعارف كلها بل أعلى سقف على الإطلاق فمعرفة خلف المتناغمه بين التأطير والتنظير والربط الواضح بين المعارف التقريريه الوصفيه والمعياريه التقديريه أى ربط العلوم والفلسفة والإنسانيات رباطاً أبان لنا جميعا أهمية ما يجهله الكل عن سحر العلاقة الجدليه بين التطبيقى والنظرى فى السرد أو الجرد كما أشعل خلف بمعرفته وحرفته فى إبانة ذلك وكشف ما هو مخفىٌ عنا بكسلٍ أو بغيره فالحقائق دوماَ موجودةَ لا نراها حتى يتم إماطة اللثام عنها بتنوير جبار كما فعل خلف بكشف ساق العلوم الذى لا تمشى المعرفة إلا به وفعل ذلك برابط معرفة متين، أيضا تجدنى جد أسير لقولك عن سحر السير الذاتيه عن إحسان عباس كمشكاة تتبُعٍٍ لسيرة خلف فى سرده الفخيم فى رسالته لعادل القصاص بسرد الأزمنه والأمكنه والناس وتقاسم الحرف والحرف والملابسات والأحوال ووحد الكون وكواكبه والعلوم وعوالم السرد وعوالم فتوحاتها والتى تبدو للبعض كشجرة يستظلون بها ولحديدى البصيرة بغابة يتجولون ويتفيئون فى رحابتها ويتمتعون بتنوع ما تجود به وما تحويه وما تحتويه معبرين عنه بلغة دوماَ فى الصدور والآفاق فنحمد الله يا أيها السر المالك لسرك بكيد العارف لنفسه أن جمعنا خلف فى غابة معرفة لج خششها يرعب ويرهب ولك ولخلف والقصاص وعثمان السلام.


منصور
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وفي هذا الجزء، يعرض محمد خلف مداخلتيْ بِنْ أوكري وروجر بنروز عن العلاقة بين االسرد والرياضيات:


2-تلخيص مشاركتَي:
الشَّاعر والرِّوائي النِّيجيري بِنْ أوكري وعالم الفيزياء الرِّياضي الإنجليزي روجر بنروز



أ-مشاركة بن أوكري
بدأ الشَّاعر والرِّوائي النِّيجيري بِنْ أوكري مشاركته بالقول إن من الممكن التَّفاعل مع كلمة ماركوس دو سوتوي بعِدَّة مساهمات، إلا أنه أعدَّ عوضاً عن ذلك مساهمتين على طرفي نقيض، وطلب من الحضور، فيما يُشبِهُ اليانصيب، أن يختاروا أحدهما، فكان من نصيبِهم هذا الذي أشرعُ الآن في تلخيصه.
وبعد هذا الافتتاح البارع، الذي قُصِد منه التَّهيأة النَّفسية لما سيُلقى من ثقلٍ فكريٍّ على الحضورِ الموزَّعِ بدورِه على قاعتين موصَّلتين بالأقمار الصَّناعية، قال بن أوكري، قبل شروعه في تقديم مساهمته المكتوبة: إننا نلمسُ بشكلٍ حَدْسِيٍّ تقارباً بين السَّرد والرِّياضيات، فقد كنتُ منذ عام 1995 أستمع إلى عالم الرِّياضيات البريطاني مايكل عطيَّة (الذي نشأ وترعرع في السُّودان ومصر، ثم قضى معظم حياته الأكاديمية في جامعتي أوكسفورد وكمبردج)، وأحرصُ على أن أكونَ قريباً منه في المائدة العليا المخصَّصة للأساتذة ، فيُطرِبُنا بأحاديثه الشَّيِّقة عن الرِّياضياتِ وقدرتِها الفائقة على الإدهاش، إلا أن هذه هي المرَّة الأولى التي يقوم فيها عالمٌ رياضي، هو ماركوس دو سوتوي، بالجمع بين السَّرد والرِّياضيات (وكأنَّ الناسَ قد صَحوا فجأةً على أهمية هذه العلاقة التي لا يمكن الزَّعم بأنها بديهية).
"السَّردُ محبوكٌ في نسيجِ الوعي، مثلما أن الرِّياضياتِ محبوكةٌ في نسيجِ العالم. فإذا كان من الممكن أن نتخيَّلَ الوعي في صميمِ كلِّ شيء: في الحجرِ، في الهواءِ، في الأشجارِ، في الجبالِ، في النُّجومِ، وفي الذَّرات؛ وفي جميعِ الأمورِ التي تشكِّل الواقع، فإن ذلك الوعي من شأنِه أن يدركَ العالمَ في صِغَّرِ حجمِه، كما يدركُه في كِبَرِه، بوصفِه سرداً عظيماً له سِمةُ الدوام".
بهذا المدخل المكثَّف يبدأ بن أوكري كلمته الأساسية، ثم يطرح سؤالين متتاليين: هل هناك أساسٌ رياضي للسَّرد؟ هل هناك علمُ رياضياتٍ للسَّرد؟ فيُجيبُ بأنه وفقاً لورقة ماركوس، فإنه من الممكن أن نجدَ رابطاً بين البرهان الرِّياضي والسَّرد. ففي الأدب، السَّردُ نوعٌ من البرهان؛ وبالطَّبع، الأدب هو أكثرُ من ذلك، ولكنه دائماً نوعٌ من البرهان؛ إنه التَّعبيرُ الرِّياضي عن حَدْسٍ لتوتر، عن حاجةٍ لارتخاءٍ نفسي، عن حاجةٍ لإظهارِ شيءٍ حتى يمكن إدراكه. ومضى للقول إن هناك منحًى واحداً يتقاسم فيه السَّردُ تشابهاً عميقاً مع الرِّياضيات، وهو منطقُ السَّرد الذي لا مناصَ من حدوثِه؛ فالمعادلة الرِّياضية يجب أن تأتي بنتائجَ صحيحة، وكذلك في السَّرد: أين تبدأ القصَّة، وكيف تتطوَّر، وأين تنتهي، يجب أن تقودَ إلى نتائجَ صحيحة، وأن تبدو متَّسقة، فيما هي تحسبُ خطواتِها بدِقَّة.
وقال بن أوكري إن السَّردَ يتوافقُ مع الرِّياضيات الجمالية؛ وبالتَّالي، فإن أفضل رواةِ القصصِ يكونون دائماً مفكرين عميقين وصارمين؛ فاجتراحُ الرِّياضياتِ الدَّاخلية للرِّواية أو القصة هي من أصعب الأشياء التي يتحتَّم عليهم عملها؛ وبناءً على صواب هذه الرِّياضيات -وهي تَكَشُّفُ الشَّخصية أو الشَّخصيات داخل إطار الحبكة- يتحدَّد خلودُ النَّصِّ أو نسيانِه.
كما نبَّه بن أوكري إلى أهمية الإيقاع، والإيقاعاتِ الصُّغرى، وتموُّج النَّصِّ؛ كما أنه نبَّه، في المقابل، إلى الاختلافات الأساسية بين البرهان الرِّياضي والسَّرد؛ ومن بينها، عمومية اللُّغة وشموليتها وشفافيتها، إضافةً إلى الطَّبيعة المزدوجة للسَّرد -فهو زمنيٌّ، ولازمنيٌّ في آن- هذا علاوةً على تميُّزه بخاصية المحاكاة. إلا أن الفرقَ الأكبر يتجلَّى، حسب بن أوكري، في أن السَّرد يُصْدَرُ، في اعتباراته العليا، عن لغزِ الإنسان، عن كونِه عائشاً على قيد الحياة، عن الوعي نفسِه، في كلِّ حالاته، الواقعية منها وغير الواقعية. السَّردُ هو أعلى أداةٍ ابتدعها العقلُ البشري للكشفِ عن غموضِ الحياةِ والوضعِ الإنساني؛ وهو بهذا المعنى تقنيةٌ ابتدعناها لتُخرِجَنا من الظُلمةِ إلى النُّور. فأنا، والكلام للرِّوائي النِّيجيري، أعتقد أن أقدم تقنيةٍ ليست هي العجلة، أو اكتشاف النَّار، ولا حتى اكتشاف اللُّغةِ نفسِها، إنها القصُّ. فنحن نحكي قصصاً حتى في غياب اللُّغة، إذ إننا نحكيها بملامحِ وجوهنا، وإيماءاتِنا، وبريقِ أعينِنا. أنا أعتقد أن دافعَ السَّردِ قد قادنا إلى اللُّغة، وليس العكس. صحيح أن اللُّغة تضاعفُ قوةَ السَّرد وتُطيلُ مداه، إلا أنه مضمَّنٌ من قبلُ في الإنباتِ والإنجابِ وتوقُّفِ سيرِ الحياة؛ فالسَّردُ يبدأُ قبل الميلادِ، ويستمرُّ بعد الموت.
وأخيراً، فإن الانفجارَ العظيمَ كان حدثاً رياضياً يستعصي حجمه على الإحصاء، ولكنه كان أيضاً حدثاً سردياً ذا طبيعةٍ منفردة؛ فيمكن أيضاً أن يُسمَّى بالبداية العظيمة؛ ففي تلك اللَّحظة من التَّفرُّد المذهل، وُلدت رياضياتُ كلِّ شيءٍ، وسردياتُ كلِّ شيء - طفلانِ من نفسِ لحظةِ الأُمِّ-الأَبِ، التي أحضرتنا جميعاً هنا اليوم.


ب-مشاركة روجر بنروز
أما عالمُ الفيزياء الرِّياضي الإنجليزي السِّيْر روجر بنروز، الحائز على جائزة وولف للفيزياء عام 1988 بالمشاركة مع ستيفن هوكنغ (والذي ظهر مؤخَّراً كشخصيةٍ في فيلمٍ عن سيرة حياته هو "نظرية كلِّ شيء") لمساهمتهما في فهم الكون بتطويرِ نظرية ’الانفجار العظيم‘، فقد أظهر نوعاً من القلق والتَّوتر بمشاركته في هذه المناسبة، إذ إنه يرى، خلافاً لبقية المشاركين، أن البرهان الرِّياضي شيءٌ مختلفٌ تماماً عن السَّرد؛ إلا أنه أقرَّ، مع ذلك، بوجودِ صلةٍ وتماثلٍ لا تخطئهما العين، مثل الاتِّساق والرَّوعة والجمال؛ فالرياضياتُ، في نظره، مدفوعةٌ بشكلٍ أساسي بتأثيرِ الجمالِ الداخلي.
واسترسل بنروز بأنه ما كان يمكن أن يصِلَ إلى هذا الإقرار، لولا أنه استمع إلى حديثِ الفيزيائيِّ الأمريكي ألان لايتمان، مؤلف كتاب "حلم آينشتاين"؛ فقد كان يظن، مثل الأغلبية العظمى من الفيزيائيين، أن بإمكانِ القصَّاصين والرِّوائيين فعلَ ما يحلو لهم، دون قيدٍ أو إلزامٍ خارجي؛ فنبَّههم رجلٌ منهم، له باعٌ في السَّرد، أن الأمرَ ليس كذلك، إذ يتعيَّن على القاصِّ أو الرِّوائيِّ التَّقيُّد بالاتِّساق، وبمنطقِ السَّرد، وتحرِّي الدِّقة في تسلسلِ الأحداث؛ وإذا أراد أن يغيِّرَ شيئاً، فعليه أن يرجع إلى النَّصِّ لإجراءِ كلِّ التَّعديلات التي يتطلَّبها ذلك التَّغيير (هذا، بالطَّبع، غير الإيقاع الذي ذكره بن أوكري في مشاركته السابقة)؛ كما كشف لهم لايتمان بأن العمل السَّردي يجب أن يكون متَّسقاً، وقابلاً للتَّصديق، ومقيَّداً باعتباراتِ المنطق، شأنه في ذلك شأن الرِّياضيات.
إلا أن عالم الفيزياء الرِّياضيِّ المحنَّك يعود مرَّة أخرى، مُستخدماً سبورة "معهد الرِّياضيات" بأكسفورد، الذي أقيمت فيه هذه الفعالية، ومُمهِّداً بعلاقةٍ رياضيةٍ بين شكلين هندسيين متشابهين، ليدلِّلَ في خطواتٍ لا تتجاوز أصابعَ اليدِ الواحدة على صِحَّة نظرية فيثاغورس، ليصلَ بعدها إلى نتيجةٍ مفادها أن البرهان الرِّياضيَّ مختلفٌ تماماً عن السَّرد، إذ يقودُ في خطواتٍ محسوبة بشكلٍ منطقي إلى نتيجةٍ لا يمكن إلا قبولها، بخلافِ السَّردِ الذي يتركُ متَّسعاً للاختلاف، وتعدُّد وجهاتِ النَّظر. ثم لا ينسى صاحبُ "الطَّريقِ إلى الواقع"، أن يعيدَ على مسمعِ الحاضرين، الذين تابعوا الفعالية في القاعتين، والمتابعين لها عبر البثِّ الشَّبكيِّ الحي، إقرارَه بوجودِ صلاتٍ وتماثلاتٍ بين السَّردِ والبرهانِ الرِّياضي، إلا أن الأخيرَ، في نظرِه، ذو طبيعةٍ مختلفة، إذ يتعيَّن عليه أن يكون صحيحاً أو لا يكون.
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:07 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عثمان حامد
مشاركات: 312
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:04 pm

مشاركة بواسطة عثمان حامد »

الجزء الثالث من مساهمة الأستاذ السر السيد:
___________________________________________________________________


اللحظات الاكثر تعقيدا فى الرسالة
الرسالة وبما حوته من مزج بين الخاص "البعد السيري" والعام "ما يشبه التوثيق لبعض ملامح الحراك الثقافى والعديد من المقاربات ذات الطابع الفكرى لمنجزات بعض العلوم" تبدو اى الرسالة وكأنها كانت كامنة تنتظر اللحظة المناسبة او السؤال المناسب لتفيض وتختبر نفسها!! اذن ما هو التساؤل الذى فجر الرسالة وجعل منها كائنا يمشى بين الناس؟؟ هل هو ( ملاحظة القصاص والخاصة بزعمه او ظنه بان مواد الرياضيات والكيمياء وقواعد اللغتين العربية والانجليزية تفتقر الى بنية سرد خاصة بها) سيما وان كاتب الرسالة قد اشار الى ان هذا الزعم او هذا الظن هو ما دفعه لكتابتها ام هو القران الذى ناداه وهف اليه مسرعا ومازال فى ارجائه يدور؟؟ والقران الذى نعنيه هنا هو مجمل الرؤى والافكار والمعارف التى توصل لها خلف من خلال علاقته بالقران كمؤمن بالذي انزله و الذى هو الله وكمؤمن به وبما جاء فيه فالقران فى الرسالة لا يتبدى كنص معزول عن مبدعه او منزله كما راج كثيرا فى الكثير من الكتابات ودليلنا ما حفلت به الرسالة من صيغ مختلفة للدعاء والذى هو طلب الداعى ورغبته فى تغيير مصائر بعينها او اجابة رغبات بعينها وهو ما يشير الى وجود فعل لله فى التاريخ وتدخل فى مساراته "كن فيكون" فقد جاء فى الرسالة على سبيل المثال لا الحصر (وان يحفظ الله امى الاولى او وان يهبها الله الصحة وطول العمر وكذلك جاء ولن ينساه الله)...اقصد اننا فى الرسالة نقف على حضورين هما الله وكلامه اى القران ,عليه وبالنظر الى مجمل الرسالة والتى فى ظاهرها تبحث عن السرد ليس فى مجاله الاثير الذى هو الادب وانما فى بقية الحقول كعلمى الاحياء والرياضيات بل وتصل به الى ما يوحي وكأنه سمة ملازمة للوجود بمختلف عناصره وحيث هنا تتبدى لحظات الرسالة الاكثر تعقيدا خاصة وانها فى عمقها الخفى تبدو وكانها تقارب حالة السرد هذه فى الادب وفى الفيزياء وفى الرياضيات وفى الاحياء -بمعنى فيما يتصل بنشاة الحياة وبنشاة الكون- من منظور القران ومن الانطلاق بوجود خالق لهذه الكون وهذه الحياة خاصة وان الرسالة تبدأ بجملة "امر هذه الدنيا ممد ( وان شئت مشدود" بين الضرورة المتوهمة وواقع الاحتمال"- لاحظ ما توحيه به كلمة الدنيا- كما انها تقول فى ثناياها "يقترب العلماء وخصوصا فى صياغتهم لنظرية الانفجار العظيم من التصوير القرانى لاصل الكون الذى جاء طرفا منه فى الاية 30 من سورة الانبياء:"او لم ير الذين كفروا ان السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حى افلا يؤمنون" او تقول وهى تحاول التمييز بين الحقيقة والحق ونفى التماثل بينهما وكذلك توضيح فكرة الرتق فى مقابل فكرة الفتق: (وعندما يجئ فى سورة يوسف قوله "نحن نقص عليك احسن القصص بما اوحينا اليك هذا القران وان كنت من قبله لمن الغافلين"او فى سورة الانعام "ان الحكم الا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين"-فان التاكيد ياتى من اندماج الحق وصمديته باشتماله على القدرة والعلم والارادة وهى ملكات تتشظى فى مجال الحقيقة وتتوزع على مجالات فى مسار النشوء والتطور الذى لا ينقطع-هى العلم او الواقع الموضوعى واللغة الانسانية والعقل البشرى فيكون بها قص للامام بتتبع شجرة لها بنية سرد محددة او يكون ارتداد للخلف لقص اثر او استرجاع لحدث وهو المعنى المقصود فى سورة الكهف فارتدا على اثارهما قصصا).
اقول ان هذه اللحظات الاكثر تعقيدا فى الرسالة تجعل القارئ وللوهلة الاولى ان كان حدسى صائبا يحس وكأنها تحاول ان تعيد مبحث "العلم والقران" وهو مبحث ووجه بالكثير من التساؤلات كما هو معلوم وتجعله كذلك يحس ان جاز التعبير بحضور ما يشبه التاويلات الذاتية والنزوع الباطنى على الرغم من مفارقة الرسالة فى الكثير من افكارها لبعض منتجات التصوف الاسلامى كالقول بوحدة الوجود او ثنائية الحقيقة والشريعة وكمثال لهذا تاويله للقدرة والعلم والارادة كملكات تتشظى فى عالم الحقيقة وتتوزع على مجالات فى مسار النشوء والتطور الذى لا ينقطع بانها (العلم او الواقع الموضوعى واللغة الانسانية والعقل البشرى) او تأويله لاية سورة الكهف "فارتدا على اثارهما قصصا"-هنا انظر الفقرة السابقة-
وتبقى فى النهاية تساؤلات لا ادعي انني املك اجابات لها.

السرالسيد
صورة العضو الرمزية
عثمان حامد
مشاركات: 312
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:04 pm

مشاركة بواسطة عثمان حامد »

حذفت المداخلة بسبب التكرار
آخر تعديل بواسطة عثمان حامد في الأربعاء فبراير 25, 2015 12:53 am، تم التعديل 3 مرات في المجمل.
منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

منصور المفتاح
مشاركات: 239
اشترك في: الأحد مايو 07, 2006 10:27 am

مشاركة بواسطة منصور المفتاح »

صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وثَمَّةُ هذه المساهمةُ – المقَدِّمةُ من محمد خلف:



لندن-وولفرهامبتون-لندن:
على مسافةٍ من عثمانَ وروجر بنروز و"نظريةِ كلِّ شيء"

الرِّحلة إلى وولفرهامبتون

من لندن، على مسافةِ ساعتين بالقطار من وولفرهامبتون، حيث يسكن عثمان حامد وعائلته الكريمة، كنتُ أجري معه اتِّصالاتٍ هاتفية شبه يومية، منذ أولِ سطرٍ من رسالتي إلى عادل القصَّاص، إلى آخرِ علامةِ وقفٍ فيها؛ ثم من أولِ مشاركةٍ بشأنِها، إلى آخرِ مشاركةٍ بشأنِ مساهمة عالم الفيزياء الرِّياضيِّ روجر بنروز (الذي ظهر كشخصيَّةٍ –وليس بشخصِّه- في فيلم "نظرية كلِّ شيء" عن سيرة حياة عالم الفيزياء البريطاني ستيفن هوكينغ) حول العلاقة بين الرِّياضيات والسَّرد. كنت أجري تلك الاتِّصالات من لندن، بعد أن تعثَّرت عدَّة محاولاتٍ للتَّلاقي في وسط إنجلترا، كان آخرُها تأجيلُ عمليةٍ جراحية لابنه الأكبر مازن، مع إننا كنَّا نتلاقى بوتيرةٍ شبه منتظمة، عندما كان يسكن في أمستردام، أيام كان كلانا منهمكَيْن بحبٍّ عارم وإرادةٍ غلَّابة في العمل الثَّقافي العام، وسط تجمُّعات السُّودانيين في المدينتين الأوروبيتين الغربيتين.
وعندما عقدتُ العزمَ أخيراً على السَّفرِ إلى وولفرهامبتون لمقابلة عثمان، حرصتُ على التَّنقيب عبر الإنترنت عن فيلمٍ يصلُح للمشاهدة هناك، فلُفِتَ نظري إلى أن فيلم "نظرية كلٍّ شيء" -وتصنيفه 12أ- يُعرض يوم السَّبت 7 فبراير 2015 في سينما سينيويرلد بوولفرهامبتون في تمام السَّاعة السَّابعة وأربعين دقيقة مساءً، مما يعني أن صعوباتٍ ستنشأ بشأنِ الأطفال، إذا لم تتوفَّر ترتيباتٌ تسمح بحضور العائلة من غير مصاحبتهم؛ هذا بالطَّبع، إذا وافقتِ العائلة الكريمة في الأساس على دعوة المصاحبة لحضور الفيلم. وكنتُ على مسافةٍ من عثمان، داخل إطارٍ مرجعيٍّ ذاتي، أرى الأشياءَ وفق ما يتوفَّر لديَّ من معلوماتٍ نظرية عن عثمان، الذي تعرَّض في زيارةٍ سابقة إلى السُّودان إلى حادث حركة تسبَّب في فقدان عددٍ من أصابع يده اليمنى؛ وعن تعاملِ منال مصطفى -رفيقةِ دربِه منذ أيام الصِّبا في قرية أم تريبات، وشقيقةِ المسرحيِّ والمخرجِ الإذاعيِّ حاتم مصطفى، وأمِّ مازِنَ، الذي يعاني من استسقاء الرأس، والطِّفلةِ الجميلة يارا، والطِّفلِ الرَّائع محي الدِّين (الذي سُمي باسم شقيق عثمان الرَّاحل)- مع الواقعِ الأُسريِّ الجديد.
وفي يوم السَّبت، عندما وطئت قدماي أرضَ وولفرهامبتون، وبدأتُ أرى الأشياءَ إلى حدٍّ ما من داخل الإطار المرجعي الذي يتحرَّك فيه عثمان، تكشَّف لي جانبٌ من الصُّعوباتِ الفعلية التي يواجهها هذانِ الزَّوجانِ الباسلان، فكِدتُ أن أتراجعَ عن الدعوة لمشاهدة الفيلم، لكنني طرحتُها بشكلٍ افتراضي، فاقترحتْ منالُ أن نذهبَ أنا وعثمان، لأنها ستصحبُ يارا ومحيو إلى فيلمٍ للأطفالِ صباح الأحد، مما يعني أن عثمانَ سيبقى مع مازنٍ في البيت؛ فتبيَّن لي بسرعة أن ترتيباتٍ مثل هذه أصبحت ديدناً ثابتاً لشكلِ حياتهما؛ صحيحٌ أن مازناً قد وُلِد منذ إحدى عشرةَ سنةً بهذه الإعاقة، إلا أن عثمانَ كان خالياً منها، إضافةً إلى أن ابنه الأكبر ينمو كلَّ يومٍ مُستصحِباً معه مزيداً من تعقيدات الإعاقة.
بالفعل، ذهبنا أنا وعثمان إلى سينيويرلد لمشاهدة الفيلم في ذلك المساء. أمهلنا المخرج قليلاً بلقطاتٍ عن حياة ستيفن هوكينغ أيام الطلب في جامعة كمبردج قبل الإعاقة، لكنه سرعان ما أتبعها بلقطاتٍ متتابعة عن مراحل تطوُّر الإعاقة لديه، فسَرَتْ في الخاطرِ نفسُ الرَّعشاتِ الدَّاخلية ولحظاتِ التَّوتر التي لا مناصَ من حدوثها، مهما تماسك المرءُ بدافعِ التَّصبُّرِ من خارج؛ ومما زاد من وطأةِ الموقف أن بعض المشاهدين من ذوي الحوافي الرَّقيقة في المقاعد الواقعة خلفنا مباشرةً بدأوا يجهشون بحشرجاتٍ مسموعة. أما روجر بنروز، فلم يظهر في الفيلم إلا مرَّتين، وكلتاهما في أعقابِ مرحلةِ تأقلُّمِ هوكينغ الابتدائيِّ على الإعاقة: المرَّة الأولى، عندما صحب هوكينغ المُشرِفَ على أطروحته للدُّكتواراة إلى لندن لحضورِ محاضرةٍ ألقاها بروفيسور بنروز؛ والمرَّة الثَّانية، عندما حضر بنروز جلسة النَّظر في منح الدُّكتوراة لهوكينغ، فقال له رئيس الجلسة في تقييم أطروحته إن الجزء الأول منها يفتقرُ إلى الاتِّساق، بينما الجزء الثَّاني منها مجهودٌ تنقصُه الأصالة، إذ إنه مأخوذٌ من بنروز من غير إضافةٍ تُذكر؛ أما الجزء الثَّالث والأخير (أي الفصل الرابع من الأطروحة)، فرائعٌ لدرجةٍ قرَّرت معها اللَّجنةُ بناءً عليه أن تمنحه الدُّكتوراة، وهو الجزءُ الخاص باحتمال وجودِ ثقبٍ أسودَ عند بداية الكون، أو ما يُعرف بالتفرُّد الزمكاني.
وعندما سُئل ستيفن هوكينغ من قبل رئيسِ اللَّجنة التي منحته الدُّكتوراة عمَّاذا سيفعل بعد أن حصُلَ عليها، أجاب على الفور: "سأعمل على إثباتها بمعادلةٍ واحدة تثبت أن الزَّمنَ له بداية، (ألا يكونُ ذلك أمراً جميلاً، يا أستاذي)؛ معادلةٍ واحدة بسيطةٍ وأنيقة تفسِّرُ كلَّ شيء"؛ ومن هنا جاء اسم الفيلم "نظرية كلِّ شيء"؛ ومن هنا أيضاً جاء ذلك السَّعيُ المحموم من قبل علماء الفيزياء النَّظرية بشقيها الكبيرين (علم الكونيات وميكانيكا الكم)، وعلى وجه الخصوص علماء الجُسيمات الأولية، الذين تيقَّنوا بحلول مارس 2013 أنهم عثروا عبر مصادم "سيرن" بسويسرا على أولِ جُسيمٍ كميٍّ عدديٍّ في الطَّبيعة (هيغزبوزن)، مما عزَّز تفاؤلهم بأنهم يقتربون شيئاً فشيئاً من إكماِل التحقُّق من نموذجهم القياسي؛ وبالتَّالي، تمكُّنهم في المستقبل القريب من صياغةِ معادلةٍ بسيطة وأنيقة تفسِّر كلَّ شي.

وعلى مسافةٍ من (1) عثمانَ، و(2) بنروز، و(3) "نظرية كلِّ شيء" – سنواصلُ ما انقطعَ الآنَ في مشاركةٍ لاحقة.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:09 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وإلى هذه الحَلَقَةِ الأُولى من هذا العَرْضِ لمُحَمَّد خَلَف:



في كتابٍ صدر في بريطانيا يوم أمس الثلاثاء 17 فبراير تحت عنوان: "أن نُفسِّر العالم: اكتشاف العلم الحديث" لعالِم الفيزياء الأمريكي ستيفن واينبيرج الحائزِ على جائزة نوبل للفيزياء، لُفِت نظري إلى جملةٍ أوردها النَّاشرُ في معرض تقريظه للكتاب على الغلاف الخارجي المتحرِّك، حيث جاء من ضمنها عبارةٌ تقول: "وفقاً لما يكشِفُ هذا السَّردُ البارع، فإن العِلمَ قصَّةٌ كبرى، ونحن لم نصِلْ بعدُ إلى نهايتها". كما يقول الكاتب نفسُه في استهلالِه للكتاب: "أنا عالمُ فيزياء، ولستُ بمؤرِّخٍ، إلا أنني، على مدى سنواتٍ، أصبحتُ مأخوذاً بتاريخ العلم. إنها قصَّةٌ غير اعتيادية، وإنها واحدةٌ من أكثر القصص إثارةً للتَّشويق في التَّاريخ الإنساني؛ وإنها أيضاً قصَّةٌ لدى العلماءِ أمثالي فيها نصيبٌ شخصي". إلا أنه مع مضي حركة السَّرد، يجدُ العالِمُ الفيزيائيُّ نفسَه يُعبِّرُ عن شيءٍ أبعد قليلاً عن مجرد السَّرد: وهو التَّحدُّث من منظورِ العالم المنخرط في العصر الحديث عن موضوعاتِ العلم في العهدِ الماضي. واعتماداً على هذا المنظور، يجدُ الكاتبُ سانحةً للتَّحدُّث عن وجهة نظره بشأنِ طبيعة علم الفيزياء نفسِه، وعن علاقاتِه المتشابكة مع الدِّين، والتَّقنية، والفلسفة، والرِّياضيات، وعلم الجمال.

ويقول الكاتب إن هدفه ليس فقط التَّعرُّف على الكيفية التي توصَّلنا بها إلى تعلُّمِ أشياءٍ متعدِّدة عن العالم، وإنما تركيزه ينصَبُّ على أمرٍ مختلفٍ بعضِ الشَّيء – وهو كيف توصَّلنا، بادئ الأمر، إلى معرفةِ كيف نتوصَّلُ في الأساس إلى معرفةٍ بشأنِ العالم! ويقرُّ الكاتب بأنه مدركٌ للمشكلات التي تثيرها كلمة "نُفسِّر" في عنوان الكتاب بالنسبة لفلاسفة العلوم الذين يشيرون إلى الصُّعوبات النَّاشئة من وضعِ حدٍّ فاصلٍ بين الوصف والتَّفسير؛ إلا أنه يعني بالتَّفسيرِ شيئاً فضفاضاً، يسمح في إطارِ كتابٍ عن التَّاريخ، وليس فلسفة العلم، بالتَّكهُّن بإجاباتٍ لأسئلةٍ تطرحها الحياة اليومية، على شاكلةِ: لماذا فاز حصانٌ في سباق أو لماذا سقطت طائرةٌ فتحطَّمت أشلاء.

والأهم من كلِّ ذلك أنه يركِّز على كلمة "اكتشاف"، وكان يمكِّن أن يستخدم، عوضاً عنها كلمة "اختراع"، فهي أكثر تعبيراً عن الممارسة العلمية ذاتها؛ ولكنه اختار الأولى، ليشير إلى أن العلوم الطَّبيعية وصلت إلى ما وصلت إليه من تطوُّرٍ مشهود، ليس بسببِ مصادفاتٍ تاريخية عرضية لعددٍ من الاختراعات، وإنما بسببِ تركيبةِ الطَّبيعة نفسِها؛ فالعلمُ الحديث، بكلِّ ما يعتريه من نقصٍ، هو في نظرِ الحائز على جائزة نوبل للفيزياء عبارة عن تكنيكٍ ملائمٍ بشكلٍ كافٍ للطَّبيعة، مما يشهد على نجاحه – إنها، بحسب واينبيرج، ممارسةٌ سمحت لنا بتعلُّم أشياءٍ موثوقٍ بها بشأنِ العالم؛ وبهذا المعنى، فإنها تكنيكٌ كان ينتظرُ النَّاسَ منذُ زمنٍ ليكتشفوه. كما يستخدم الكاتب كلمة "اكتشاف"، ليُباعد بين نفسه وبين البنائية (وليس البنيوية) الاجتماعية، وهم أولئك الفلاسفة وعلماء الاجتماع والمؤرِّخين الذين لا يكتفون بتفسير سيرورة العلم، بل يسعون أيضاً إلى تضمينِ نتائجه، باعتبارها كلِّها منتجاتٍ لمحيطٍ ثقافيٍّ بعينِه.

واللَّافتُ للنَّظر أن واينبيرج يخصِّص فصلاً كاملاً من فصول الكتاب الخمسة عشر، والذي جاء تحت عنوان "العرب"، لتَّغطية تطوُّر العلوم العربية في عصرها الذَّهبي إبان الدَّولة العباسية في بغداد. وبدورنا سنخصِّص الحلقة التَّالية لتَّقديمِ عرضٍ موجزٍ لذلك الفصل (من ص 103 إلى ص123). يكفي أن نذكر هنا أن الكاتب يستخدم كلمة "العرب" بالمعنى الموسَّع للمصطلح، لتشمل العرب والفرس واليهود والأتراك، الذين أنتجوا العلومَ داخل محيط الدَّولة العربية الواسعةِ الأرجاء؛ إضافةً إلى ذلك، نذكِّر بأن ستيفن واينبيرج، الذي حاز في عام 1979 على الجائزة بمشاركة آخرَيْن، بينهما عالم الفيزياء الباكستاني محمد عبد السَّلام (1926-1996)، لمساهمتهم في تطوير نظرية تفاعلات القوتين الموحَّدتين (الضَّعيفة والإلكترومغنطيسية) بين الجُسيمات الأولية، قد أشار في ثنايا عرضِه لهذا الفصل إلى اقتباسٍ أورده بي كي هيتي في كتابه: "تاريخ العرب"، وهو أنه "بينما كان هارون الرَّشيد والمأمون في الشَّرق يعكفون على دراسة الفلسفتين الإغريقية والفارسية، كان معاصروهم في الغرب، شارلمان وبطانته، هواةً ينشغلون بحرفة كتابةِ أسمائهم".



الحلقة الثَّانية والأخيرة من عرض كتاب واينبيرج ستأتي تحت عنوان:

"بيت الحكمة: فلاسفة/أطباء مقابل فلكيين/علماء رياضيات".


مُحَمَّد خَلَف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:10 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

نتابع، عبر هذه المساحة، بعض الآثار الحميمة والصميمة لزيارة محمد خلف للصديق المشترك عثمان حامد:



(1) على مسافةٍ من عثمان

عُدتُ إلى لندنَ بعد غيبةٍ قصيرة، ثلاثة أيامٍ على وجهِ التَّحديد، قضيتُها بالقرب من عثمان حامد؛ وشهدتُ خلالها كيف تواجه أسرتُه في وولفرهامبتون أعباءَ الإعاقةِ المزدوجة؛ فابنُه مازنٌ يعاني من استسقاء الرَّأس، وعثمانُ نفسُه قد فقد بضعةَ أصابعَ بيدِه اليمنى. إلا أنه، مع ذلك، لم يتضجَّر أو يتبرَّم أو ينفجر (إلا نادراً، كما فعلت جين وايلد [فيليسيتي جونز] في الفيلم، بحسبانهما إنسانين من لحمٍ ودم) أو يفقد شهية العمل بأنواعه المختلفة: المنزليِّ، والاجتماعيِّ، والثَّقافيِّ، والسِّياسيِّ.
ففي البيت، يتقاسم عثمان أعباء العمل المنزلي مع منال مصطفى، حيث يعمل في المطبخ ويشرف على إطعامِ مازنٍ بصبرٍ وحبٍّ لا تخطئهما العينُ، مهما تشاغلتْ بأحاديثِه الشَّيِّقة، وأصواتِ القنواتِ التِّلفزيونية السُّودانية، وأجراسِ الهاتفِ المتلاحقة. وفي الصَّباح، عندما تذهب منال لتَّوصيل يارا بالسَّيارة إلى مدرستها ويصرُّ محيو (الذي تبدأ روضتُه بعد منتصف النَّهار) على مرافقتهما، يبقى عثمان بالمنزل مع مازن في انتظار عربة المجلس التي تأتي إلى البيت في تمام التَّاسعة؛ ولأن موقف العربة يقع على مسافةٍ من البيت وبينهما أزقةٌ متعرِّجة، قامت الأسرة بتركيبِ دائرةٍ تلفزيونية مغلقة، فحُلَّ أمرُ التَّواصلِ بينهما، الذي كان يسبِّب للطَّرفين كثيراً من المتاعب.
إلا أن ما لم يتمُّ حلُّه، وما دفعني بالأساس إلى الاستطراد حول هذا الموضوع، هو أن أسرة عثمان، وكثيراً من الأسر السُّودانية الصَّغيرة الموزَّعة على مدن وبلدان الشَّتات، حتى ولو لم تتعرَّض للإصابة بالإعاقة العقلية أو الجسدية، تحتاجُ إلى أن يُرفع عنها قدرٌ من المعاناة بتوفيرِ نوعٍ من الرِّعايا المؤقتة، حتى يتمكَّن الزَّوجان من الاستمتاع بقدرٍ ضئيلٍ من الحرية الفردية، كأن يذهبا إلى مشاهدةِ فيلمٍ (رائعٍ كفيلم "نظرية كلِّ شيء") أو حضورِ عرضٍ مسرحيٍّ أو فعاليةٍ ثقافية. وإنني أذكرُ في الخمسِ سنواتٍ الأولى بعد ميلادِ ابننا الأكبر محجوب، لم نذهب أنا وأمُّه نادية الرَّشيد إلى أيِّ عرضٍ ترفيهي، إلا مرَّةً واحدة، عندما أتت سحر الجعلي ("ست البنات"، أمُّ مازن وأسيل)، زوجة الأستاذ عبد السَّلام سيد أحمد، من تلقاءِ نفسِها من كمبردج إلى لندن، وطلبت مِنَّا أن نذهب إلى أيِّ برنامجٍ نختاره؛ فقد جاءت لنا، على وجهِ الخصوص، لتأدية هذه المهمَّة.
قطعاً، لن ننسى لها، ولعبدِ السَّلامِ، هذا الصَّنيع؛ كما لن ينسى كثيرٌ من الأسرِ الصَّغيرة صنائعَ مماثلة، إذا ما قامت في مدنِ وبلدانِ الشَّتاتِ مجموعاتٌ بدافعِ التَّطوُّعِ الذَّاتي أولاً، ثم بحثت لها لاحقاً عن تمويلٍ ذاتيٍّ أو حكومي. صحيحٌ أن هناك تنظيماتٍ تقوم بهذا العمل على مستوى البلد ككل، لكن فرصَتها ضيِّقةٌ ومحدودة، وأهدافَها تنصَبُّ على موضوع الإعاقة فقط؛ وهو في حدِّ ذاته أمرٌ جلل، لكن الأسرَ الصَّغيرة جميعَها تحتاجُ إلى مُتنفَّسٍ واسع، وإلا حدث ’بغتةً‘ ذلك ’الانفجارُ الذَّميم‘.
وفي المجال الاجتماعي، لم ينقطع عثمانُ رغم مشاغلِه العديدة عن العملِ الاجتماعيِّ العام، فتراهُ ينخرطُ في أعمالِ الجالية، على محدوديتها، ويسعى بنفسِه، مع آخرينَ، لإيجادِ مدرسةٍ لتَّعليم اللُّغة العربية والدِّين يوم السَّبت من كلِّ أسبوع، ولا يمانع رغم تحفُّظاته الآيديولوجية في أن يجدَ الآخرون مدرسةً أخرى تتسعُ لإيواءِ مسجدٍ أكثر رحابةً. أما المجال الثَّقافي، فهو مجالُه الأثير، وقد لمِستُ ذلك منذ أن كان عثمانُ عضواً في جمعية الثَّقافة والإبداع بكلية الهندسة، كما لمِستُ ذلك من ولعِه بالرَّسم، وحبِّه لكتاباتِ يُمنى العيد وفيصل درَّاج، وتشبُّثِه بكتاباتِ مهدي عامل، رغم مآخذِ الكثيرين عليه، ومن ضمنهم عثمانُ نفسه. وفي أمستردام، كان عثمانُ قُطبَ الرَّحى في العملِ الثَّقافيِّ العام بالمدينة الهولندية الأثيرة إلى نفسي، ربما بسبب عثمانَ، ونخبةٍ مختارةٍ من خيرةِ المثقفين الذين جمعتهم الأرضُ الواطئة. أما بخصوص متابعته اليومية لرسالتي إلى عادل القصَّاص، فأنا أجدني إلى الآن عاجزاً عن معرفة كيف تسنَّى له فسحةٌ من الوقت لإنجازِ ذلك، خصوصاً وأنه كان في نفسِ الوقت يجري محادثاتٍ يومية مع مريم محمد الطَّيِّب لتخليصِ وشحنِ وتوزيعِ كتابَيْ شقيقِها عبد الله محمد الطَّيِّب (الرَّسم على الهامش)، وزوجِها عبد اللَّطيف علي الفكي (خطاب عاشق "شذور") لرولان بارت. وعندما ذهبتُ معه يوم الاثنين 9 فبراير 2015 إلى بيرمنجهام لتنفيذِ الخطوةِ الأخيرة من شحنِ الكتابين، أدركتُ أن عثمانَ كان يقوم وحدُه بعملِ الجبابرة، فقد طُلب مِنَّا إعادة تعبئة الطُّرود، لتصلَ إلى عناوينَ في لندن، والقاهرة، وأمريكا؛ فأيقنتُ، كما لم يحدُث من قبل، بأنه ناشطٌ ثقافيٌّ من الطِّراز الأول.
هناك سببانِ ساهما، في نظري، بصورةٍ واضحة في تشكيل شخصية النَّاشط الثَّقافي لدى عثمان؛ الأول، هو تماسُك منال، وقدرتُها الفائقة على التَّعلُّم، وتحوُّلها من فتاةٍ بريئة من أم تريبات، إلى امرأةٍ قادرةٍ على قيادةِ سيارةٍ في مدينةٍ أوروبية، وإنابتها عن عثمانَ في كثيرٍ من مهامه اليومية؛ والثَّاني ربما يكون أمراً مؤقتاً، فقد لمِستُ، أثناء إقامتي القصيرة معه، فتوراً في العمل السِّياسي؛ وقد لمِستُ ذلك، تلميحاً وليس تصريحاً، مما كان له مردودٌ إيجابي على العمل الثَّقافي، على الأقل من ناحية الزَّمن المخصَّص لكليهما؛ فلماذا لا يفرِّغونه للعمل الثَّقافي، كما فرَّغتِ الحركةُ الإسلامية في الماضي السِّر السَّيد، من غير أن يكون بالضَّرورة ناقلاً لأسرارِها إلى التَّنظيم السِّياسي، كما أوضح ذلك الصَّديق عادل القصَّاص في معرض ردِّه على أحد المشاركين في موقع الرَّاكوبة.

مُحَمَّد خَلَف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:15 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الجزء الرابع من مساهمة الصديق السر السيد:



سلام منصور
سلام عثمان

مداخلتى الرابعة
رسالة خلف إلى القصَّاص
ضفاف اخرى

سبق ان اشرت الى ان الرسالة حفزتنى لتأمل العادى واكتشاف المهمل فوجدتنى استشعر حماسا متدثرا بالمتعة وانا ابحر الى ضفاف اخرى فى المعرفة الانسانية لم اكن اعيرها كبير اهتمام قبل ذلك وهو ما يجعلنى اشعر بالامتنان للاستاذ خلف ولرسالته البديعة وللقصاص وحكايته الاستثنائية الفاصلة .
فى مناخات الرسالة التى تنفتح على كل الفصول قرأت فى الايام القليلة الماضية كتابا بعنوان: (لماذا العلم )..الكتاب من تاليف "جميس تريفيل" وترجمة شوقى جلال وقد صدرت طبعته الاولى بالانجليزية فى العام 2008 وترجم الى العربية وصدر ضمن سلسلة عالم المعرفة فى فبراير 2010. يعنى الكتاب بالاساس وفقا لما جاء فى غلافه "نحو مواطنين مثقفين علميا"، يعنى بتعليم العلم لغير المشتغلين به لذلك جاء فى قالب سردى وبلغة شاعرية جميلة..الكتاب عبر عناوينه العديدة والتى منها على سبيل المثال "الثقافة العلمية" و"العلم: عالم مفهوم" و"محو الامية العلمية: ماذا يعنى" و "طريق الافكار الكبرى الى المعارف الاولية العلمية"، يحاول اى الكتاب ان يقول: كيف ان الفهم العلمى للانسان والطبيعة والعالم والكون من حولنا يعد اضافة جوهرية الى استمتاعنا الجمالى بالحياة وبالعالم الذى نعيش فيه.
لفت نظرى ان الكتاب يلامس وبصورة عميقة الكثير من الافكار والمقاربات التى جاءت فى الرسالة ويهمنى هنا ان اشير الى ثلاثة منها:
الاولى: محاولة خلف فى رسالته التمييز بين الحقيقة والحق فقد جاء فى الكتاب ضمن الفصل الذى عنوانه "العلم: عالم مفهوم" ما نصه (...ان المنهج العلمى قد يكون سبيلنا الى الوصول الى مقاربات اكثر ارتباطا "بالحقيقة"، لكنه لا يستطيع ان ينتج-وغير مصمم بهدف انتاج- "الحق" وسبب ذلك بسيط للغاية: اذا كانت المنظومة مبنية على اساس الملاحظة، اذن فمن المنطقى ان تظل دائما معرضة لاحتمال ان تظهر غدا ملاحظة اخرى تطيح بمبدأ استقر طويلا)- انتهى.
الثانية: وتتصل بعلاقة العلم بالجمال فالرسالة كما قرأنا كتبت بالاساس للدعوة الى البحث فى امكانية هذه العلاقة بل قدمت بعض الاشارات فى هذا الجانب اما الكتاب وفى الفصل الموسوم ب "المعارف الاولية العلمية: برهان من علم الجمال" فنجده يقدم مقاربات غاية فى الاهمية لعل اهمهمها محاولته تفنيد "توهم ان هناك صراعا دائما بين العلم والفنون" وفى سبيل هدفه هذا يتحدث عن الجمال الفكرى للافكار العلمية كما يورد مقولة دارون التى اختتم بها كتابه اصل الانواع والتى نصها "ثمة جلال نستشعره فى هذه النظرة التطورية عن الحياة" و يشير الى جماليات "النسبية" ثم يمضى هذا الفصل الجميل وكأنه يحاول ان يؤكد ان السرد خاصية تسم الوجود بشكل عام متوسلا بالكثير من القصص والحكايات ومعددا لما يمكن ان يضيفه العلم للخبرة الجمالية ولتلقى الفنون.
الثالثة: وتتصل بالجفوة التى تنتاب بعض التلاميذ من المواد العلمية كحالة صديقنا القصاص التى استدعت كتابة الرسالة ففى الفصل الموسوم ب "توزيع المسؤولية: كيف وصلنا الى ما نحن فيه؟ يحاول الكتاب ان يجيب على سؤال لماذا لا تخرج المدارس طلابا توافرت لديهم المعارف الاولية العلمية؟ وفى سبيل الاجابة على هذا السؤال يلامس بعضا مما جاء فى الرسالة كطريقة تدريس المواد العلمية ومن المصادفات انه يتخذ من "الرياضيات" مثالا ومن المدرسة الابتدائية والمتوسطة والمدرسة الثانوية والجامعة فى امريكا "موطن الكاتب" مجالا، ولا بأس من ان اذكر هنا بعضا مما قاله الكاتب فى سبيل الاجابة على سؤاله ذاك فقد قال" (...واذكر على سبيل المثال ان ابنتى وقتما كانت فى المدرسة الابتدائية ادركت وزميلاتها وزملاؤها، بوضوح، ان معلميهم يشعرون بعدم الارتياح وهم يدرسون وحدات دراسية عن الفلك) مما حدى بالكاتب ان يقول: "..حرى بنا ان ندرك ان العلم يجب الا يبدو موضوعا غريبا لا يلقى ترحيبا فى المدارس الابتدائية والمتوسطة، اذ لا شئ بطبيعته مناهض للعلم فيما يتعلق بالمراهقة".
اصل الى القول اننى على المستوى الشخصى قد نهلت كثيرا من فيوضات هذه الرسالة ويكفى انها حببت الى القراءة فى مجالات العلوم فشكرا لخلف وللقصاص.
كما أشير انWhy science هو العنوان الأصلي للكتاب.

السر السيد
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:17 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

الجزء الأول من حلقة خلف الأخيرة، من عرض كتاب واينبيرج: "أن نُفسِّر العالم: اكتشاف العلم الحديث":



الحلقة الثَّانية من عرض كتاب واينبيرج: "أن نُفسِّر العالم: اكتشاف العلم الحديث"

-الجزء الأول-

"بيت الحكمة: فلاسفة/أطباء مقابل فلكيين/علماء رياضيات"




مهَّد عالمُ الفيزياء الأمريكي ستيفن واينبيرج للفصل التَّاسع من كتابه "أن نُفسِّر العالم: اكتشاف العلم الحديث"، الذي جاء تحت عنوان: "العرب"، بالقول إن العصور الوسطى –وتحديداً الألفية الواقعة بين سقوط روما والثَّورة العلمية- لم تكن صحراءَ فكريةً قاحلة، إذ إن إنجازاتِ العلوم اليونانية، وخاصَّةً علم البصريات والفلك، قد تمَّ حِفظُها، وفي بعضِ الأحيان تطويرُها، داخل مؤسَّسات الإسلام وعبرها إلى جامعات أوروبا، كما تمَّ استمرارُ الحوار حول دور العلم الطَّبيعي داخل إطار الفلسفة والرِّياضيات والدِّين، مما مهَّد الطَّريق بدوره إلى نشوء الثَّورة العلمية.

بدأت مرحلة التَّشرُّب بالعلوم اليونانية منذ سيطرة المسلمين على الأراضي البيزنطية إبان العهد الأموي، إلا أن العصر الذَّهبي للعلوم العربية لم يبدأ إلا مع فترة حكم خلفاء الدَّولة العباسية: المنصور (754-775)؛ وهارون الرَّشيد (786-809)؛ وابنه المأمون (813-833)، الذي وصلت حركة الترجمة لنصوصٍ من اليونان وبلاد فارس والهند في عهدِه إلى أبعدِ مدًى لها؛ فقد أرسل بعثةً إلى القسطنطينية لجلب المخطوطات اليونانية، وربما صحبها الطبيب حُنين بن إسحق، أعظم مترجمي القرن التَّاسع، الذي كرَّس أسرتَه لأعمالِ التَّرجمة، فترجم مخطوطات أفلاطون وأرسطو، إضافةً إلى النُّصوص الطِّبية لكلٍّ من ديسقوريدوس، وجالينوس، وأبقراط؛ كما تُرجمت في ذلك العهد أعمال إقليديس وبطليموس في الرِّياضيات والفلك؛ وقد تُرجمت بعض تلك النُّصوص مباشرةً من اليونانية، وتُرجم البعضُ الآخر ترجمةً ثانية عن طريق السِّريانية.

في ضوء هذه الحركة النَّشطة، جاءت عبارة هيتي التي نقلها واينبيرج، والتي أشرنا إليها في الحلقة السَّابقة؛ وهي أنه "بينما كان هارون الرَّشيد والمأمون في الشَّرق يعكفون على دراسة الفلسفتين الإغريقية والفارسية، كان معاصروهم في الغرب، شارلمان وبطانته، هواةً ينشغلون بحرفة كتابةِ أسمائهم". ففي بغداد أصبح بيت الحكمة مركزاً رائجاً للتَّرجمة والبحوث في عهد الرَّشيد، وابنه المأمون. إلا أن العلوم العربية لم تكن، بحسب واينبيرج، حصراً على بغداد، بل انتشرت منها إلى إسبانبا، والمغرب، وآسيا الوسطى؛ وقد شارك فيها إلى جانب العرب كلٌّ من الفرس واليهود والأتراك، الذين كانوا جزءاً لا يتجزأ من الحضارة العربية؛ ومن هنا جاءت تسمية هذا الفصل باسم "العرب"، لتعكس هذا الفهم الاصطلاحيِّ الموسَّع.

ويقول واينبيرج إنه بشكلٍ تقريبي، يمكن تقسيم رجال العلم العرب إلى مجموعتين رئيسيتين لكلِّ منهما تقاليدها العلمية الرَّاسخة. فمن جانب، يوجد علماء الرِّياضيات والفلكيين الحقيقيين، الذين لا يعيرون اهتماماً كبيراً لما نسميه اليوم بالفلسفة؛ وفي الجانب الآخر، يوجد الفلاسفة والأطباء، الذين لا يحفلون كثيراً بالرِّياضيات، ويتأثَّرون بشكلٍ كبيرٍ بأرسطو؛ وإذا اهتموا بالفلك، فإن اهتمامهم ينحصر بصورةٍ رئيسية في التَّنجيم؛ وإذا اهتموا إلى حدٍّ ما بحركة الكواكب، فإن هؤلاء الفلاسفة والأطباء يفضِّلون نظرية أرسطو القائمة على مجالاتٍ يتمركَّز دورانها حول الأرض؛ أمَّا الفلكيون وعلماء الرِّياضيات، فإنهم يتَّبعون بشكلٍ عام نظرية بطليموس لأفلاك التَّدوير. ويعتبر واينبيرج أن لهذا الانقسام بُعداً فكرياً، انتقل إلى أوروبا، وظلَّ قائماً حتى حلول عهد النَّهضة الأوروبية، واستشراف زمن عالم الفلك البولندي نيكولاس كوبيرنيكوس.

ويورد واينبيرج عدداً من الأشخاص الذين قامت على أكتافهم مجتمعينَ إنجازاتُ العلوم العربية، إذ لا يوجد، في نظرِه، واحدٌ منهم بمفردِه له قامة غاليليو أو نيوتن. ومن هؤلاء الفلكيين وعلماء الرِّياضيات، يجيء ذكرُ الخوارزمي، والفرغاني، والبتَّاني، والصُّوفي، والبيروني، والخيَّام، وابن الهيثم، وابن حيان، والزَّرقلي، وابن ميمون؛ ومن الأطباء والفلاسفة، يجيء ذكر الكندي، والرَّازي، وابن سينا، والزَّهراوي، وابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد. ويقول واينبيرج إن تأثير العلوم العربية على أورويا لا يتجلَّى فقط في علم الجبر والخوارزمية (وهي مجموعة الخطوات الرِّياضية والمنطقية المتسلسلة واللَّازمة في نفس الوقت لحلِّ مسألةٍ ما)، وإنما ينعكس أيضاً في أسماء النُّجوم: الدَّبران، والغول، والفكَّة، و(النِّسر) الطَّائر، ومنكب الجوزاء، والمئزر، ورجل (الجبار)، والنِّسر الواقع.



انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني والأخير من الحلقة الثانية والأخيرة.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:20 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

والآن إلى الجزء الثاني أو الأخير من الحلقة الثانية أو الأخيرة من عَرْضِ محمد خلف لكتاب ستيفن واينبيرج:



الحلقة الثَّانية من عرض كتاب واينبيرج: "أن نُفسِّر العالم: اكتشاف العلم الحديث"

-الجزء الثَّاني والأخير-

"بيت الحكمة: فلاسفة/أطباء مقابل فلكيين/علماء رياضيات"




وفقاً لما جاء في الجزء الأول من هذه الحلقة، فإن عالم الفيزياء الأمريكي ستيفن واينبيرج يعتبر أن تأثير العلوم العربية على أوروبا لا يتجلَّى فقط في علم الجبر و"الخوارزمية"، وإنما ينعكس أيضاً في أسماء النُّجوم، والمصطلحات الطِّبية، مثل: القلوية، والإنبيق (وهو جهازٌ لتَّقطير السَّوائل)، والكحول، والأليزارين (وهو مركَّب عضوي يُستخدم كصباغٍ أحمر)، وبالطَّبع الخيمياء (ويعرِّفها ابن خلدون بأنها علمٌ ينظر في المادَّة التي يتمُّ بها تكوين الذَّهب والفضَّة بالصِّناعة).

يقول واينبيرج إن استعراض أسماء الأشخاص الذين قامت على أكتافهم إنجازاتِ العلوم العربية، يطرح سؤالاً مهمَّاً، وهو: لماذا تشبَّث أولئك المشتغلون بالطِّبِّ، على وجهِ الخصوص، بتعاليم أرسطو؛ ومن بينهم أطباءُ من أمثال ابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد، وابن ميمون؟ ويورد واينبيرج ثلاث إجاباتٍ محتملة: الأولى، هي أن الأطباء قد يميلون بشكلٍ طبيعي إلى كتابات أرسطو حول علم الأحياء، وهي من أفضل كتاباته؛ والثَّانية، هي أن الأطباء العرب تأثَّروا بشدَّة بكتابات جالينوس، الذي كان يُعجب بدورِه بأرسطو إلى حدٍّ كبير؛ والأخيرة، هي أن الطِّبَّ حقلٌ تصعُب فيه المواجهة المحدَّدة بين النَّظرية والمشاهدة، لذلك فإن إخفاقات الفيزياء والفلك الأرسطيين في التَّوافق المحدَّد مع المشاهدة قد لا تبدو أمراً مهمَّاً بالنسبة للأطباء. في المقابل، فإن أعمال الفلكيين قد تمَّ استخدامُها لأغراضٍ يبدو فيها أن الوصولَ إلى نتائجَ صحيحة ودقيقة أمرٌ ضروري، مثل التَّقاويم، وقياس المسافاتِ على الأرض، ومعرفة الأوقات الدَّقيقة للصَّلوات، وتحديد اتجاه القبلة؛ وحتى أولئك الفلكيين الذين طبَّقوا علمهم على التَّنجيم، فإن عليهم أن يحدِّدوا بدقة موقع الأبراج في كلِّ يومٍ من السَّنة، وإنهم من غير المرجَّح أن يقبلوا بنظريةٍ مثل نظريةِ أرسطو التي تعطي لهم نتائجَ خاطئة.

باستيلاء هولاكو خان، حفيد الإمبراطور جنكيز خان، على بغداد وقتل الخليفة (المستعصم بالله) في عام 1258، انتهت الخلافة العبَّاسية، وكانت قد تمزَّقت قبل ذلك التَّاريخ إلى دويلات (الخلافة الأموية في إسبانيا، والخلافة الفاطمية في مصر، ودولة المرابطين في المغرب وإسبانيا، التي تلتها دولة الموحِّدين في شمال أفريقيا وإسبانيا)؛ إلا أن واينبيرج يرى أن تدهور العلوم العربية قد بدأ قبل ذلك، وربما كانت بدايته في عام 1100، وبعده لم يظهر، حسب عالم الفيزياء الأمريكي، أيٌّ من العلماء، مِمَّن هم في قامة البتَّاني، والبيروني، وابن سينا، وابن الهيثم. ويقول واينبيرج إن هذه نقطة مثيرة فعلاً للخلاف، وإن الوضع السِّياسي الرَّاهن يثير مرارة الجدل حول هذا الموضوع.

صحيحٌ أن هناك مَن مارس علم الفلك في أعقاب سقوط بغداد، كالطُّوسي (الذي كتب عن الهندسة الفراغية، واقترح تعديلاتٍ لنظرية بطليموس حول أفلاك التَّدوير، التي لا يُستبعد أن يكون كوبيرنيكوس قد استفاد منها)، والشِّيرازي عالم الفلك والرِّياضيات، والفارسي (تلميذ الشِّيرازي، الذي وضع حجرَ أساسٍ لعلم البصريات بتعليلِ ظاهرة أقواس القزح وألوانِها التي تحدث نتيجةً لانكسارِ ضوءِ الشَّمس بداخل قطرات المطر)، وابن الشَّاطر (الذي طوَّر نظريةً حول حركة الكواكب، لا يُستبعد أيضاً أن يكون كوبيرنيكوس قد اطَّلع عليها حينما كان طالباً في إيطاليا). ويقول واينبيرج إنه بصرف النَّظر عن تأثُّر كوبيرنيكوس بكلٍّ من الطُّوسي وابن الشَّاطر (وهو عموماً لا يبخل باعترافِ فضلِ العرب، فقد أقرَّ بفضلِ البتَّاني، والبطروجي، وابن رشد)، فإن أعمالهما لم يتمُّ متابعتها بواسطة الفلكيين الإسلاميين، فهي، في نظره، تتعامل مع تعقيداتٍ ناتجةٍ عن المدارات البيضاوية (التي لم يكن الطُّوسي أو ابن الشَّاطر، أو حتى كوبيرنيكوس نفسه، ملمين بها)؛ والخلاصة التي يصل إليها واينبيرج هي أنه لم يقُم أيُّ فلكيٍّ عربيٍّ قبل الأزمنة الحديثة بتطويرِ نظريةٍ لمجالاتٍ فلكية مركزها الشمس.

في مجال الطِّب، تمَّ إحرازُ تقدُّمٍ في أعقاب سقوط بغداد، حيث اكتشف ابنُ النَّفيس، الذي عمل في مستشفيات القاهرة ودمشق، الدَّورةَ الدَّموية الرِّئوية؛ وهي دورانُ الدَّمِ من الجانبِ الأيمن للقلب خلال الرِّئتين، حيثُ يختلطُ بالهواء، ويتدفَّق في عودته نحو الجهةِ اليسرى من القلب؛ كما كتب ابنُ النفيسِ أيضاً عن طبِّ العيون. إلا أن واينبيرج يعتقد بأنه رغم كلِّ تلك التَّطوُّرات، فإنه من الصَّعب تفادي الانطباع بأن العلم في العالم الإسلامي بدأ يفقد زخمه مع نهاية العصر العبَّاسي، ومن ثمَّ استمر في تدهوره بعد ذلك من غير انقطاع؛ وعندما جاءت الثَّورة الصِّناعية، فإنها حدثت فقط داخل القارَّة الأوروبية، وليس في أرض الإسلام، كما لم يلحق بها العلماءُ المسلمون. وحتى بعد أن أصبحتِ التِّلسكوباتُ متاحةً إبان القرن السَّابع عشر، استمرتِ المراصدُ الفلكية في الدُّول الإسلامية في اتِّباع علمِ الفلكِ المُقيَّدِ برؤيةِ العينِ المجرَّدة، والذي يتمُّ العملُ به بصورةٍ عامَّة لأغراضٍ تقويمية ودينية، وليست لأغراضٍ علمية بأيِّ حالٍ من الأحوال.

يطرح واينبيرج سؤالين متعلِّقين بتدهور العلم الطَّبيعي في العالم الإسلامي: أولاً، ما هو الموقف العام للعلماء المسلمين بصددِ الدين؟ وثانياً، ما هو موقف المجتمع الإسلامي بإزاء العلوم الطَّبيعية؟ ويجيب واينبيرج على السُّؤال الأول بالقول إن الشَّكَّ منتشرٌ في أوساط العلماء إبان العصر العبَّاسي، ويضرب لذلك مثلاً بالفلكي الشَّاعر عمر الخيام (صاحب الرُّباعيات الشَّهيرة، والتي نقل الشَّاعر إدوارد فيتزجيرالد 75 رباعيةً منها إلى اللُّغة الإنجليزية)، وابن رشد (الذي تمَّ نفيه في عام 1195 للاشتباه في هرطقته)، والرَّازي (الذي يزعم أن المعجزاتِ خِدَعٌ، وأن النَّاس لا يحتاجون إلى زعماءَ دينيين، وأن إقليدس وأبقراط أكثر فائدةً للإنسانية من المعلمين الدِّينيين)، والبيروني (الذي كان متعاطفاً مع الرَّازي لدرجةِ أنه كَتَبَ سيرةً تُظهر إعجابه به). إلا أنه، من الجانب الآخر، هناك ابن سينا الذي وجَّه انتقاداتٍ عنيفة لكلٍّ من البيروني والرَّازي، كما أن هناك الطُّوسي الذي كان، بحسب واينبيرج، شيعياً وَرِعاً، أمَّا الصُّوفي، فإن مجرد لقبه فقط يوحي بأنه كان صوفياً. ويخلُص واينبيرج إلى أنه من الصَّعب، في غيابِ سِجِلٍّ عن الميول الدِّينية للعلماء، الوصول إلى نتيجةٍ مقنعة من هذه الأمثلة المتباينة، لكنه يعزي صمتَ العلماء حول هذه المسألة إلى الشَّكِّ والخوف، وليس بدافعٍ من التَّقوى.

يشير واينبيرج، بصددِ الإجابة على السُّؤال الثَّاني عاليه، إلى الخليفة المأمون، الذي أنشأ بيت الحكمة، ليدلِّل على دعمه للعلوم، كما يشير أيضاً إلى انتمائه إلى فرقة المعتزلة، التي كانت تسعى إلى إيجادِ تفسيرٍ عقلانيٍّ للقرآن. إلا أن المعتزلة، بحسب واينبيرج، لم يكونوا متشكِّكين دينياً، بل كانوا يعتقدون بأن القرآنَ هو كلامُ الله، لكنه تمَّ خلقُه من قِبَلِه تعالى، ولم يكن موجوداً منذُ الأزل. وفي نفسِ الوقت، يرى واينبيرج أنه لا ينبغي اعتبار المعتزلة دعاةً للحرياتِ المدنية الحديثة، فقد قاموا باضطهادِ المسلمين الذين كانوا يعتقدون بأن الله ليس في حاجةٍ إلى خلقِ القرآن الخالد منذ الأزل. إلا أن الشَّخصية الرَّئيسية التي يُشار إليها عند الحديث عن نشوء التَّوتر بين العلم والإسلام هي أبو حامد الغزالي الذي ارتحل من الإيمانِ إلى الشَّك، ثم من الشَّكِّ إلى الإيمان؛ وبعد أن تشرَّب بأعمال أرسطو، قام بتلخيصها في كتاب "مقاصد الفلاسفة"، ثم قام لاحقاً بمهاجمة العقلانية في كتابه الأشهر "تهافت الفلاسفة"، الذي ردَّ عليه ابن رشد فيما بعد في كتاب "تهافت التهافت".

يقول واينبيرج إن هجوم الغزالي على العلم والعقلانية اتَّخذ شكلَ مذهبِ العلِّية الظرفية أو الموقعية، وهو مذهبٌ يرى أن أيَّ شيءٍ يحدُث، مهما كان ظرفُ حدوثِه، هو عبارةٌ عن مناسبةٍ فريدة، لا تتحكَّم فيها قوانينُ الطَّبيعة، وإنما تتم بإرادةٍ مباشرةٍ من الله تعالى (وهي نظريةٌ لم تكن جديدةً على الإسلام، فقد طوَّرها منذ قرنٍ الأشعريُّ، الذي يقف على طرفي نقيض من المعتزلة). ويشير واينبيرج أيضاً إلى أن الدِّيانات الأخرى، مثل اليهودية والمسيحية، تقرُّ باحتمال وجود المعجزات، وخروجها على النِّظام الطَّبيعي؛ إلا أن الغزالي، في نظر عالم الفيزياء الأمريكي، يمضي أبعد من ذلك، إذ إنه ينكر أهمية النِّظام الطَّبيعي على الإطلاق. ويقول واينبيرج إن من العسير فهم ذلك الموقف، لأننا نلاحظ اطِّراداً وانتظاماً في الطَّبيعة، وما من شكٍّ في أن الغزالي كان يدرك ذلك، فكان من الممكن أن يحفظ مكاناً للعلم داخل عالم الإسلام، باعتبارِه أنهُ مَا شاءَ اللهُ عادةً أنْ يَحدُث، وهو الموقف الذي تبنَّاه في القرنِ السَّابع عشر نيكولا ملبرانش؛ إلا أن الغزالي لم يفعل ذلك، بل أوضح موقفه في كتابٍ آخرَ شبَّه فيه العلم بالنَّبيذ؛ فالنَّبيذُ يقوِّي الجسم، لكنه محرَّمٌ على المسلمين؛ وعلى نفسِ المنوال، فإن علم الفلك والرِّياضيات يقوِّيان العقل، لكننا "نخشى بأن ينجذبَ المرءُ من خلالِهما إلى تبنِّي مذاهبَ شديدةِ الخطر".

ويختم واينبيرج هذا الفصل بالقول إن كتابات الغزالي لم تكن وحدها التي تشهد على تنامي العداء الإسلامي للعلوم الطَّبيعية في العصور الوسطى؛ ففي عام 1195 في قرطبة إبان عهد الموحِّدين، قام العلماء (وهم علماء الدِّين المحليين) بحرقِ كلِّ الكتب الطِّبية والعلمية؛ وفي عام 1449، قام المتعصِّبون الدِّينيون بتدميرِ مرصد أولوغ بيك في سمرقند. أمَّا اليوم، فإننا نرى نفسَ الإشاراتِ التي أثارت مخاوفَ الغزالي في القرن الثَّاني عشر. ويمضي واينبيرج قائلاً: أخطرني مرةً صديقي الرَّاحل (محمد) عبد السَّلام، عالم الفيزياء الباكستاني الذي كان أول مسلمٍ ينال جائزة نوبل في العلوم (لأعمالٍ أنجزها في إنجلترا وإيطاليا)، أنه سعى لإقناع حكام دول الخليج الغنية بالنَّفط للاستثمار في البحوث العلمية، فوجد أنهم متحمِّسون لدعم التَّقنية، ولكنهم يخشون من أن تؤدي العلوم البحتة إلى تآكلٍ ثقافي (فعبدُ السَّلامِ نفسُه هو مسلمٌ وَرِع، ويدينُ بالولاءِ لجماعةٍ إسلامية، هي الأحمدية، التي يُنظر إليها باعتبارِها طائفةً ابتداعية في باكستان، ولسنواتٍ لم يستطع العودة إلى بلادِه بسببِ معتقدِه الدِّيني). ومن المثير للغرابة أن سيِّد قطب، الرُّوحَ الموجِّهة للإسلام الرَّاديكالي الحديث، قد نادى في القرن العشرين إلى استبدالِ كلٍّ من المسيحية واليهودية والإسلام في عهدِه بإسلام ٍعالميٍّ نقي، لأنه كان يأمل جزئياً في إنشاء علمٍ إسلامي لتَّجسيرِ الهُوَّة القائمة بين العلم والدِّين؛ إلا أن العلماء العرب في عصرهم الذَّهبيِّ لم يكونوا يؤدُّون علماً إسلامياً، إنهم كانوا يؤدُّون علماً فحسب.



انتهى الجزءُ الثَّاني والأخير من الحلقة الثَّانية والأخيرة؛ وربما نعقبه بحلقةٍ خاصَّة تحت عنوان: "على مسافةٍ نقديةٍ من واينبيرج"، تمهيداً لاستئنافِ ما انقطعَ من سلسلةِ (على مسافةٍ من (1) عثمانَ، و(2) روجر بنروز، و(3) "نظرية كلِّ شيء")، حتى نتمكَّن، إن شاءَ اللهُ، من إضاءة العلاقة بين الحقِّ والحقيقة؛ والتَّعليق بعد ذلك على كتابات السِّر السَّيِّد الشَّيِّقة، التي أرجو لها ألا تتوقَّف عن التَّدفُق، ريثما يلتقط الآخرون أنفاسَهم، ويبدأون في إثراءِ أركان النِّقاش بمعارفهم الغزيرة وتجاربهم الرَّائعة.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:22 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

أما الآن، فإلى هذه الحلقة الأولى من تعقيب نقدي لمحمد خلف على واينبيرج:



على مسافةٍ من عالم الفيزياء الأمريكي ستيفن واينبيرج

الحلقة الأولى


لا يُخفي عالمُ الفيزياءِ الأمريكي إلحادَه، لكنه لا يرفع رايةً إلحادية على رؤوسِ الأشهاد، كما يفعل عالمُ الأحياء البريطاني ريتشارد دوكنز، أو الفيلسوفُ الأمريكي دانييل دينيت، أو بدرجةٍ أقل عالمُ الاجتماع الأمريكي روبرت رايت. وما دفع هؤلاء إلى التَّبجُّح بإعلان مبادئهم الإلحادية، هو بروزُ التَّطرُّفِ المسيحيِّ في بلدانهم أولاً، ثم ساعدَ التَّطرُّفُ الإسلاميُّ المرتبط بالإرهاب، ثانياً، في علوِّ نبرةِ النَّزعة الإلحادية لديهم، فَنَشَرَ دوكنز كتاب "الانخداع بالله"، ودينيت كتاب "كسر الرُّقية"، ورايت كتاب "تطوُّر (فكرة) الله". في المقابل، لم يكتب واينبيرج موخَّراً (يوم 17 فبراير 2015، في بريطانيا) إلا كتاباً معتدلاً، هو كتاب "أن نُفسِّر العالم: اكتشاف العلم الحديث"، الذي استعرضنا في ثلاثِ حلقاتٍ جانباً منه، خصوصاً الفصل التَّاسع الذي جاء تحت عنوان "العرب"؛ فما الذي يُفسِّر هذا الاعتدال؟

في البداية، نودُّ أن ننبِّه على أن كتاب واينبيرج الأخير لا يُعدُّ أفضلَ كتبِه التَّنويرية؛ ومن أراد ذلك، فعليه بكتابه الموسوم "الثَّلاثُ دقائقَ الأولى"؛ ولكننا اخترنا استعراض كتابه الذي صدر مؤخَّراً لصلته بموضوع السَّرد، ولتخصيصه فصلاً عن العلوم العربية في عصرها الذَّهبي، ولصدورِه في أعقاب الكتب الثَّلاثة المذكورة أعلاه. من جانبٍ آخر، يعتقدُ بعضُ المعلَّقين أن كتاب واينبيرج الأخير لم يكن متوازناً، لأنه ركَّز على الفلك والرِّياضيات، وأغفل الكيمياء والأحياء. إلا أنني أرى بأن ذلك تحديداً هو نقطة قوته، وربما يفسِّر إلى حدٍّ كبير نزوعه نحو الاعتدال.

ما يميِّز واينبيرج على غيره من علماء الفيزياء، غير حصوله على الجائزة الكبرى في هذا المجال، هو تمكُّنه من كلا القسمين الرَّئيسيين لعلم الفيزياء؛ فمن جانب، يأتي اهتمامُه بعلم الفلك وعلم الكونيات، الذي تهيمن عليه النَّظرية النِّسبية العامة بنموذجها القياسي، المُصاغ وفقاً لدرجة تقويس أو انحناء الزَّمكان؛ ومن جانبٍ آخر، يأتي تخصُصه في علم فيزياء الجُسيماتِ المتناهيةِ الصِّغر، الذي تهيمن عليه ميكانيكا الكم بنموذجها القياسي، المُصاغ وفقاً لدرجات التَّفاعل بين الجُسيمات الأولية، بقسميها الرَّئيسيين: الفِرميونات والبوزونات. وتأتي أهمية هذا التَّمكُّن المزدوج في أن القوانين التي تتحكَّم في القسمين الرَّئيسيين للفيزياء لا يمكن التَّوفيق بينهما حالياً، ولكن العلماء يحسون بدرجةٍ عالية من التَّفاؤل بأنهم يقتربون حثيثاً من إيجادٍ حلٍّ موفَّق يقود إلى تفسير كلِّ شيء.

إلا أن هذه الوضعية المفعمة بالتَّناقض، إضافةً إلى إحساسه بأن الإنسان لا يستطيع تفسير كلِّ شيء، قد ملأت واينبيرج بحزنٍ لا يُوصف، مما حدا به إلى الميل نحو الموسيقى الكلاسيكية والأدب، لعله يجد هناك عزاءً وسلواناً؛ وربما يكون هذا الإحساس بعدم القدرة النَّاجعة على التَّفسير هي التي دفعته إلى تعاطفٍ داخلي مع الذين يجدون ملاذاً آمناً لهم في الدِّين، فهو لا يتعرَّض لهم مثل أصحاب الكتب الثَّلاثة بالنَّقد أو التَّجريح؛ وكلُّ ما يدَّعيه هو أن المنهج العلمي الذي يتَّبعه في البحث والاستقصاء لا يقوده إلى طريقِ الله، لكنه لا يسخر مِمَّن يزعم بأنه وصل بغير النَّهج العلمي إلى طمأنينة الإيمان. وربما تكون صداقته لعبد السَّلام، الذي تَشَارَكَ معه الجائزة، هي التي قادت إلى هذا الموقف المعتدل. وقد رأينا عند استعراضنا لمداخلة روجر بنروز بشأنِ محاضرة ماركوس دو سوتوي حول "السَّرد والرِّياضيات" أن الفيزيائيَّ الأمريكي ألان لايتمان هو الذي أقنع زملاءه بتغيير موقفهم إزاء السَّرد؛ فللعلوم الطَّبيعية عموماً وجهٌ اجتماعي، ومن هنا تأتي أهمية اختراقها من قبل المؤمنين، إذا أرادوا لدعواهم رواجاً في إطار الصِّيغ النُّموذجية المهيمنة داخل تلك العلوم.

صحيحٌ أن هناك استحالة في تفسير كلِّ شيء، ولكن ذلك لم يمنع واينبيرج من الالتفات إلى الوراء، في محاولةٍ لتَّلخيص تاريخ العلوم، وتوضيح ما تمَّ تفسيره بالفعل عبر تلك المسيرة الطَّويلة؛ وما يفاجئ المرءُ عند تفحُّصه لكتاب واينبيرج الأخير هو أنه خصَّ العلومَ ذاتَها باعتبارِها أهمَّ اكتشافٍ بشري، ليس المخترعاتُ أو الاكتشافاتُ الكبرى، وإنما المنهجُ التَّجريبيُّ ذاتُه باعتبارِه أهمَّ اكتشافٍ إنساني؛ أو ما عبَّر عنه بالقول "كيف توصَّلنا، بادئ الأمر، إلى معرفةِ كيف نتوصَّلُ في الأساس إلى معرفةٍ بشأنِ العالم!". وما كان يمكن لواينبيرج أن يصِلَ إلى هذا الاستبصار، لولا أنه ينطلق في الأساس من موقع عالم الفيزياء، وليس عالم الكيمياء أو الأحياء، ومن هنا نقطة قوته، كما ذكرت عاليه؛ ولكن، ما الفرق بين هذه العلوم الثَّلاثة؟، وما الذي يوفِّر لعالم الفيزياء موقعاً لا يملكه الآخرون؟


سنحاول الإجابة على هذين السؤالين في حلقةٍ نرجو أن تكون هي الأخيرة حول كتاب واينبيرج الأخير.


محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:24 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

وهذه هي الحلقة الثانية أو الأخيرة من التعقيب النقدي لمحمد خلف:



على مسافةٍ من عالم الفيزياء الأمريكي ستيفن واينبيرج

الحلقة الثَّانية والأخيرة




طرحنا في نهايةِ الحلقةِ الأولى سؤالاً حول ما الذي يميِّز علم الفيزياء على علمي الكيمياء والأحياء، وسؤالاً آخرَ مرتبطاً به، وهو ما الذي يوفِّر لعالم الفيزياء موقعاً لا يملكه الآخرون. ولكي نشرع في الإجابة على هذين السُّؤالين، لا بدَّ أن نمهِّد بالحديث عن مفهومي الزَّمان والمكان القبليَيْن، وأهميتهما القصوى بالنِّسبة لتَّأطير كافَّة العلوم. ونحن نعلم، منذ البدء، أن النَّظرية النِّسبية الخاصَّة والعامة قد وحَّدتا مفهومي الزَّمان والمكان في "نسيجٍ" واحد، بات يُعرف في أوساط العلماء بالزَّمكان. إلا أن كلَّ الصيِّغ العلمية المهيمنة السَّابقة للنِّسبية قد تعاملت معهما على وجهٍ منفرد، وكذلك هو الحالُ الذي نشأت عليه الفطرة السَّليمة، مما أطال عمرَ التَّعاملِ معهما إلى الآن بشكلٍ منفصل؛ إذ لم يكن هذا التَّعاملُ، في نظري، مجردَ عادةٍ منطقية طارئة تزول -بكلِّ بساطة- بإدراكِ أسبابِ نشوئها، وإنما أصبحت طبيعةً ثانية مستقرَّةً في بنيةِ العقلِ البشريِّ الفاحصِ للظَّواهرِ التي تتبدَّى أمامه. وبما أننا هنا أمام مفهومين توأمين، فإن التَّحوُّل من مفهومٍ إلى آخرَ يتمُّ بنقلةٍ غِشتالتية دماغية أشبه بثنائية البطَّة والأرنب.

منذ بداية القرن العشرين، فطِنتِ اللِّسانياتُ الحديثة إلى أهمية التَّعامل مع اللُّغة وفقَ صيغتين للزَّمان، وهما الصِّيغة الآنية التَّزامنية (السِّنكرونية)، والصِّيغة التَّاريخية التَّعاقبية (الدِّياكرونية)؛ وبما أنه لا يوجد حتى الآن تحديدٌ علميٌّ مستقر لمدَّة الحاضر أو الآن (وآخرُ الدِّراسات تقولُ إنها ثلاثُ ثوانٍ)، فإن الحاضرَ، في حقيقةِ الأمرِ، وفقاً لهذا التَّصوُّر، هو إطارٌ أو حيِّزٌ مكانيٌّ مُفترض قابلٌ لاستيعابِ كلِّ تبديات الظاهرة في آنٍ واحد أو نصٍّ واحد، ولا شيءَ خارجه؛ أما التَّاريخُ، وفقاً للصِّيغةِ الثَّانية، فهو تعاقبٌ لآناتٍ مندرجةً في خطِّ زمانيٍّ لا ينقطع، ولا يرجعُ أبداً إلى الوراء.

من جانبٍ آخر، فإن الهندسة الإقليدية التَّقليدية رسِّخت مفهوماً للمكانِ، يوهمُ بتساوٍ لا وجودَ له للظَّواهر في رتبتيها الزَّمانية والمنطقية؛ فإذا تحدَّثنا عن الفيزياء والكيمياء والأحياء، فإننا نضعهم من دون أن نشعر، كما الأشكال الهندسية على سطحٍ مستوٍ ثنائيِّ الأبعاد، في صناديقَ فكريةٍ متجاورة برتبتيها المكانية والآنية. ووفقاً لهذا التَّصوُّر، فإن الأدلَّة المتجمِّعة من هذه العلوم الثَّلاثة، يتمُّ النَّظر إليها على قدم المساواة، باعتبار أنها معزِّزةٌ لبعضِها البعض، وكذلك الأدلَّة القادمة من العلوم الاجتماعية الأخرى، فإنها تلتقي كلُّها في نقطةٍ واحدة؛ وهو ما يُسمى بالكونسيلينس، أو مجمَّع الأدلة (وهي، للأسف، كلمة غير متداولة في الأدبيات الفكرية العربية، علاوةً على أن ترجمتها، إنْ وجدت، ليست مستقرَّة؛ لذلك، لجأنا إلى الكلمة المعرَّبة).

إلا أن هذه العلوم الثَّلاثة، إضافةً إلى العلوم الاجتماعية الأخرى، تتفاضلُ برتبتها الزَّمانية والمنطقية. ومن الممكن تصوُّر كونٍ من غيرِ حياةٍ، ناهيك عن حياةٍ اجتماعية، فهي لم تنشأ في هذا الكون إلا منذ 3.5 بليون عام (بعد بليون عام من نشوء الأرض، وبعد حوالي 10 بلايين عامٍ من نشوء الكون)؛ كما يمكن تصوُّرُ كونٍ لم تتكوَّن عناصرُه الكيماوية المعروفةُ بعدُ، مثلُ الذَّراتِ، أو حتى الإلكتروناتِ والبروتوناتِ والنِّيوترونات. وبخلافِ رتبتها الزَّمانية، فإن هذه العلوم تتمايز منطقياً؛ فالأحياء تعتمد على الكيمياء، وهي بدورِها تعتمد على الفيزياء؛ وهو ما يُسمى بالسوبرفينينس، أو الاعتماد غير المتساوق (وهي، للأسف، كلمة أيضاً غير متداولة في الأدبيات الفكرية العربية، علاوةً على أن ترجمتها، إنْ وجدت، ليست مستقرَّة؛ لذلك، لجأنا، مرَّةً أخرى، إلى الكلمة المعرَّبة).

فمن موقع الأحياء والفلسفة والعلوم الاجتماعية، صدرتِ الكتبُ الإلحادية الثلاثة التي تحدَّثنا عنها في الحلقةِ السَّابقة، وهي كتاب "الانخداع بالله" لريتشارد دوكنز، وكتاب "كسر الرُّقية" لدانيل دينيت، وكتاب "تطوُّر (فكرة) الله" لروبرت رايت. وقد اعتمدت ثلاثتُها على نظرية دارون للتَّطوُّر بآليةِ الانتقاء الطَّبيعي، أي أنها اعتمدت جميعُها على الصِّيغة النُّموذجية المهيمنة في علم الأحياء؛ كما استندت ثلاثتُها في تعضيدها لنَّظرية دارون على انتقادِها المُرَكَّز لويليام بيلي صاحب كتاب "اللَّاهوت الطَّبيعي"، حتى ليظنُّ المرءُ أنه إذا لم يوجد بيلي، لاخترعوا له شبيهاً لينتقدوه بدلاً عنه. أما الخطأ القاتل الذي ارتكبه بيلي، حسب وجهة نظر الدَّاروينيين الجُدد، فيتمثل في حجَّته الغائية (أو التَّصميم الذَّكي)، وهي قوله إنك إذا كنتَ عابراً خلال مَرْجٍ أخضرَ ورأيت ساعةَ يدٍ مُلقاةً على الأرض، فستفترضُ أن أجزاءها المكوِّنه لها لم تتجمَّع من تلقاءِ نفسها، لأنها في غاية التَّنظيم والتَّعقيد البديعين، فلا بدَّ أن أحداً قد قام بتصميمها، وإلا فلن تعمل بصورةٍ جيِّدة؛ ولأن الكونَ منظَّمٌ ومعقَّدٌ، فلابد أن أحداً قد صمَّمه؛ وهذا ’الأحد‘ هو الله الأحد. ولكن فكرة دارون قد جاءت قبل كلِّ شيء لنفيِّ هذا التَّصميم المُسبق، و’حُجَّتها الطَّويلة‘ تتلخَّص بالأساس في إمكانية التَّطوُّر البطئ، خطوةً بسيطةً وصغيرةً على إثرِ أخرى، وعبر أزمنةٍ طويلة، حتى يتمُّ الوصول إلى هذا التَّعقيد الظَّاهري، الذي لم يجيء نتيجةَ تصميمٍ مُسبق، وإنما عبر مصادفاتٍ لا تتكرَّر، إذا تهيأتْ إمكانيةُ إعادتها.

قد يبدو أن لنَّطرية دارون وجاهتها في إطار أوجه الحياة القائمة أصلاً، ولكنَّ مسيرة التَّطوُّر لم تبدأ فقط مع نشوء الحياة قبل بضعةِ بلايينَ من السَّنوات، وإنما تُلتمس إلى الوراء في نشوءِ الكونِ نفسه، بما في ذلك نشوءُ فكرتي الزَّمان والمكان القبليتَيْن، وربما أزمنةٌ وأمكنةٌ أخرى، وربما أكوانٌ وأكوان. وعلم الفيزياء المتداول الآن بشِقَّيه المعروفين يقفُ عاجزاً عن اكتناه كلِّ الأسرار، أو تفسير كلِّ الظواهر البادية وغير البادية للعيان (ومن هنا حزنُ واينبيرج المُقيم). كلُّ ما يستطيعه عالمُ الفيزياء، باعتباره حارساً لأعظمِ أنظمة الحقيقة، والمفسِّر لما دونِها من مراتبِ المعرفة، هو التَّقيُّد بما يُمليه عليه النَّهجُ العلمي، وبما تطرحه الظَّواهرُ المشاهدة أو المحتملة؛ ولكنه لا يستطيع، بحكم حراسته لنِّظام الحقيقة، أن يفرَّ خفيفاً إلى الله، إلا بوازعٍ داخلي أو ضميرٍ مستيقظ أو صوتٍ خفيٍّ أو تجربةٍ روحية مكثَّفة أو ’قفزةٍ في الظَّلام’ أو بمشيئةٍ منه أو وحيٍّ عليه؛ وكلُّها أوجهٌ تقتربُ من الحقِّ، وربما تلامسُه؛ لكن الحقَّ ليس نظاماً، وإنما هو منشِيءٌ ومفسِّرٌ لأنظمة الحقيقة؛ لكنَّ كلَّ شيءٍ بميقات: "سنُريهم آياتِنا في الآفاقِ وفي أنفسهِم حتَّى يتبيَّنَ لهم أنهُ الحقُّ أو لم يكفِ بربِّكَ أنَّهُ على كلِّ شيءٍ شهيدٌ"؛ سورة "فُصِّلت"، آية رقم "53".

صحيحُ أن القرآنَ يدعو إلى التَّبصُّرِ والتَّعقًّل، ويستخدم أمثلةً شبيهة بأمثلة بيلي، لكنه لا يعتمدها وسائلَ للبرهنة، وإنما ترغيباً وتحبيباً للإيمان؛ ولو كان الأمرُ بهذه البساطة، التي يدَّعيها بيلي أو يزعمها مناصرو فكرة ’التَّصميم الذَّكي‘، لسهُل الأمرُ، وأصبح الجميعُ -وفقاً لحجَّةٍ منطقية مُفحِمة أو معادلةٍ رياضية مُلزِمة- مطمئنينَ بنعمةِ الإيمان.

وأخيراً، فإن القرآنَ –منظوراً إليه بإزاءِ فكرةِ الزَّمن- يمكن رؤيتُه وفقاً لثلاثِ مستويات: فبصفتِه آياتٍ بين دفَّتي مصحف، هو كلامُ اللهِ في آنٍ، وهو متاحٌ للجميع، ويمكن الإطِّلاعُ عليه في أيِّ وقت، كما يمكن استخدامُه في العباداتِ والتَّبرُّكِ والتَّعويذ؛ وبصفته تنزيلاً، هو كلامُ اللهِ الذي نزل على نبيِّه متفرِّقاً في فترةٍ استغرقت نيفاً وعشرين عاماً، كما اشتمل على آليتي النَّسخِ والإنساء (وقد وقع المعتزلة القدامى في خطأٍ فاحش بحصرِهم للقرآنِ ضمن هذين المستويين فقط؛ كما يقع المعتزلةُ الجدد في نفسِ الخطأ، بتعاملِهم مع القرآنِ كنصٍّ، مثل بقية النُّصوص، له وجهٌ سينكروني، وآخرُ دياكروني يتحكَّم فيه أزمنةُ التَّنزيل)؛ وبصفته كتاباً في الأعالي ("وإنه في أمِّ الكتابِ لدينا لعليٌّ حكيمٌ"؛ سورة الزُّخرف، آية رقم "4")، فإنه موجودٌ منذ الأزل؛ وهو زمنُ الحقِّ، إنْ وُجد سبيلٌ إلى تفهُّمِه، فإنه كفيلٌ بتفسيرِ الأزمنة التي تثوي دونه. وإذا كان موقعُ الفيزيائيِّ هو الموقعُ المرشَّحُ لتَّفسيرِ كلِّ شيء، فإن موقع المؤمن المسلَّح بالحقِّ هو الموقعُ المرشَّحُ لتَّفسيرِ كلِّ شيءٍ وأكثر، فالله أكبر؛ بمعنًّى آخر، يمكن للحقِّ أن يفسِّر أنظمة الحقيقة، ولكن الأخيرة لا تفسِّر الحقَّ بذاتِها، فالعلاقة بينهما غير متساوقة؛ ولكن يمكن للمشتغلين بأنظمة الحقيقة أن ينفذوا إليها بسلطان، وما السلطانُ إلا إذنٌ من سُلطاتِ العَلِّيِّ المُتعالي.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:25 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

ثُمَّ إلى هذا العَرْضِ الجديد من محمد خلف:




ميلادُ قضيةٍ افتراضية (تيوريما): مغامرةٌ رياضية

لمؤلفه عالم الرِّياضيات الفرنسي سيدريك فيللاني



صدر يوم أمس الخميس (5 مارس 2015) كتابٌ جديدٌ لعالم الرِّياضيات الفرنسي الشَّهير سيدريك فيللاني، الحائز على عدَّةِ جوائزَ أوروبيةٍ وعالمية، أهمها "ميدالية فيلدز" في عام 2010، التي تُمنح كلُّ أربعِ سنوات، وتُعتبر على نطاقٍ واسع المعادلَ الرِّياضيَّ لجائزة نوبل التي لا تُمنح لعلماء الرِّياضيات، إذ إنها تنحصر فقط في خمسةِ مجالاتٍ هي الفيزياء، والكيمياء، وعلم وظائف الأعضاء أو الطِّب، والأدب، والسَّلام (وفي عام 1968، أُضيفت إليها جائزة نوبل التِّذكارية في الاقتصاد، التي تُمنح بواسطة البنك المركزي السُّويدي). وقد صدر الكتاب الجديد بلندن عن دار بودلي هيد تحت عنوان: "ميلادُ قضيةٍ افتراضية: مغامرةٌ رياضية".

ما جذب اهتمامي بشأنِ صدورِ هذا الكتاب، غير خروجه للتَّو من المطبعة، هو صلته الوثيقة بالسَّرد، وهو الموضوعُ الرَّئيسي الذي حفَّزني، في المقام الأول، إلى إعدادِ رسالةٍ مطوَّلة إلى الصَّديق القاص عادل القصَّاص. ويقول الكاتب في التَّمهيد لكتابِه حديثِ الصُّدور إن "هذا الكتابَ يحكي قصَّةً عن رحلةٍ أو سعيٍّ رياضي طويل، منذ اللَّحظة التي تمَّ فيها اتخاذُ القرار بالمُضيِّ قُدُماً باتِّجاه المجهول، وحتى اللَّحظة التي كشف فيها المقالُ الرِّياضي عن توصُّلِه إلى نتيجةٍ جديدة –قضيةٍ افتراضيةٍ جديدة (تيوريما)- تمَّ قبولها للنَّشر في مجلةٍ عالميةٍ مرموقة.

ومع أن الكتاب هو عبارة عن سردٍ موجَّه بالأساس للقارئ العادي حتى يتمكَّن من الفهم والوقوف بنفسه على لحظة الوحي الرِّياضي، إلا أنَّ الكتابَ قد احتشدَ، على غيرِ عادةِ الكتبِ الموجَّهة لغالبية القراء، بالمعادلات الرِّياضية التي قد تستعصي على الفهم. لذلك لن نحاول هنا عرضاً للكتاب بمجمله، وإنما سنحاول أن نسلِّط الضوءَ على بعضِ النِّقاط الجوهرية التي ستعين القارئ على فهم الكتاب والاستمتاع به في نفسِ الآن؛ فهو قبل كلِّ شيء سردٌ قُصِد به الأمرين معاً. وقبل أن نبدأ في ذلك، لعل من المناسب أن نذكر ما قاله عالمُ الفيزياء ستيفن هوكينغ بصددِ ورودِ المعادلاتِ في كتابه الأشهر: "تاريخٌ موجزٌ للزَّمن"؛ فقد ذكر العالم البريطاني أن بعض النَّاس أخبروه بأن أيَّ معادلةٍ يتمُّ تضمينها في الكتاب ستخفِّض حجم مبيعاته إلى النِّصف؛ فقال ساخراً بأسلوبه التَّهكُّمي المُحبَّب إنه قرَّر عدم تضمين أيِّ معادلةٍ في الكتاب؛ إلا أنه بالطَّبع لم يكن قادراً على إسقاطِ معادلة آينشتاين الشَّهيرة، لكنه تمنَّى ألا تهدر المعادلة نصف مبيعات الكتاب!

من جانبٍ آخر، فإن أركان النِّقاش في المواقع الحالية على الإنترنت، لم يتمُّ تصميمُها بحيث تستقبل في ودٍّ وترحابٍ المعادلاتِ الرِّياضية، مهما قلَّ عددُها؛ فقد اشتملت رسالتي إلى القصَّاص على معادلتين شهيرتين هما معادلتا نيوتن وآينشتاين، وكان وجودهما ضرورياً لمعرفة العلاقة بين الشَّكل والمحتوى (أو المضمون، حسبما يتمُّ التَّعبير عنه في مجال النَّقد الأدبي)، إلا أن المواقعَ استعصت على التَّضمين، غير أن عادل القصَّاص بهِمَّته ومثابرته المعهودتين، نجح أخيراً في تضمين المعادلة في موقع "سودانفورول"، بعد إذنٍ كريمٍ من الأخت الأستاذة نجاة محمد علي، ومساعدةٍ تقنية من الأستاذ أحمد المرضي، وبشكلٍ حاسمٍ من الأستاذ ياسر عبيدي؛ وما زال موقعانِ آخرانِ، هما "سودانيزأونلاين" و"الرَّاكوبة" عاريين من تلكما المعادلتينِ الشَّهيرتين. وما ساعد عالمُ الرِّياضيات الفرنسي على عكسِ الاتجاه الذي تبنَّاه أقرانُه، هو قدرتُه، رغم وجودِ المعادلاتِ المُنَفِّرة، على استخدامِ عدَّة حِيَلٍ سردية، منها عرضُ مراسلاته وإيميلاته مع زميله وتلميذه السَّابق كليمنت موهوت، وإشارته إلى حبِّه وافتقاده للخبز والجبن الفرنسيين، وحديثه عن أحلامه، وقوله بأن العقل اللاواعي يلعب دوراً كبيراً في تفهُّمه للمعضلات الرِّياضية، وعندما تأتي لحظةُ "المعجزة" ويتم الاختراق، فإن كلِّ شيءٍ يتمَّ وكأنه قد تمَّ بفعلِ ساحر؛ وهي لحظةٌ، حسب قوله، أطولُ من لحظةِ الذَّروة، فقد تستمرُ لسَّاعاتٍ وأحياناً لأيام.

يركِّز الكتاب على قضيةٍ افتراضية (تيوريما) رئيسية، وهي عبارة عن برهانٍ جديد يفسِّر أثر التَّحلُّل الأُسِّي، الذي اكتشفه عالم الفيزياء السُّوفييتي ليف لانداو، وهي خاصيَّة غامضة ومعقَّدة ترتبط بسلوك البلازما (وهي الحالة الرَّابعة من حالات المادَّة الأساسية؛ والحالات الثَّلاث الأخرى هي حالة الصَّلابة، وحالة السِّيولة، والحالة الغازية). وخلافاً للحالاتِ الثَّلاث، فإن البلازما يتم نشوؤها عن طريق تسخين الغاز أو تعريضها لحقلٍ كهرومغنطيسيٍّ قوي بواسطة اللِّيزر أو الموجات الصُّغرى، بحيث يقلُّ أو يزدادُ عدد الإلكترونات، مما ينشأ عنه جُسيماتٌ صُّغرى موجبة أو سالبة تُسمى الأيونات.

ما يهمنا من كلِّ ذلك هو أن المعادلات المذكورة في الكتاب ليست موجوداتٍ في الذِّهن فحسب، وإنما هي جزءٌ من بنية العالم المادي، بكلِّ تركيبه المعقَّد، المشتمل على عددٍ لا حصرَ له من الاحتمالات. وما تحاول المعادلة الوصول إليه هو تصوُّرٌ أكثر دقةً لهذه الاحتمالات المرتبطة بسلوك البلازما. والمعروف أن معظم المعادلات تشتمل على إيجادِ تسويةٍ ما بين طرفين، إلا أن ما يميِّز هذه المعادلة أنها لا تشتمل على تسوية، لأنها مرتبطة بخاصيةٍ تُسمى الإنتروبيا (أو التحوُّل العشوائي)، وهو مفهومٌ هامٌّ في الدِّيناميكية الحرارية، وخصوصاً القانون الثَّاني الذي يتعامل مع العمليات الفيزيائية الكبيرة التي تنطوي على عددٍ كبيرٍ من الجزئيات البالغة الصِّغر، كما يبحث سلوكَها من ناحية التِّلقائية أم عدمها. ويشتمل القانون الثَّاني للدِّيناميكية الحرارية على قانونٍ أساسي مفاده أن أيَّ تغيُّرٍ يحدث بشكلٍ تلقائي في نظامٍ فيزيائي معزول، فلا بدَّ أن يصحبه ازديادٌ في مقدار الإنتروبيا.

يجدر بالانتباه أيضاً أن المعادلات هي في حقيقتها طريقٌ مختصر أو صيغةٌ اختزالية لقانونٍ أو نظريةٍ هي في الأساس جملةٌ خبرية قابلة للنفي والإثبات أو تحتمل الصِّدق أو التَّكذيب. وعلى سبيل المثال، فإننا نجد في البلاغة العربية أن الجملة الإنشائية التي تنطوي على أمرٍ أو استفهام لا تحتمل الصِّدق أو التَّكذيب، بخلاف الجملة الخبرية؛ وكذلك في المنطق، والرِّياضيات، فإن الجملة الخبرية هي التي تحتمل الصِّدق أو التَّكذيب. وبما أن الصِّيغة الاختزالية المُختصرة هي التي تُستخدم، لسهولتها وقدرتها على التَّنبؤ، في المنطق والمعادلات الرِّياضية، فإنه لا بدَّ أن نسلِّط الضُّوءَ هنا على فرقٍ مهمٍّ بين التَّنبؤ والتَّفسير. فالتَّنبؤ يعتمد على الوصف المطابق بقدر الإمكان لواقع الحال، بحيث يمكن بسهولة الانتقال من الحال إلى المستقبل في صيغةٍ تنبؤية، تُعتبر المعادلاتُ والصِّيغُ الرِّياضية هي أفضلُ شكلٍ لها. إلا أن التَّفسير يتمُّ في معظمه بالجمل الخبرية العادية، التي تُستخدم أيضاً مع غيرها من الجمل الإنشائية في السَّرد، إذ لا يمكن أن تنشأ قصَّةٌ من مجردِ عرضٍ لمعادلات، فبالتَّفسير يتمُّ شرح المعادلات، وكلُّ معادلةٍ تنطوي في الأساس على بنيةٍ ضمنيةٍ شارحة، يخرجها السَّردُ من الخفاءِ أو الكمونِ إلى العلن.

ويقول الكاتب إن ما يميِّز الكتاب عن غيره هو اعتمادُه على التَّعاون، فكثيرٌ من النَّاس يظنون أن الرِّياضياتِ نشاطٌ انفرادي، يقومُ فيه عالمُ الرِّياضيات بعملٍ مُمْسِكاً فيه بقلمٍ داخل غرفةٍ منعزلة، ولكنها في الحقيقة نشاطٌ اجتماعي، يبحثُ العالِمُ عبره عن الإلهامٍ من خلال المناقشاتِ، والمقابلاتِ، والمصادفاتِ، والحظوظ؛ فحياةُ العالِمِ وعملُه، كما يقول سيدريك فيللاني عن نفسِه، يرجع الفضلُ فيهما إلى الحظِّ والصُّدفة؛ إلا أنه بمزيدٍ من التَّفاعل مع الآخرين، يزداد الحظُّ وتتنامى الصُّدف. ويقول، أخيراً، إن النَّاسَ يعتقدون أن الرِّياضياتِ مكرَّسةٌ بصددِ الأرقام؛ وصحيحٌ أنها تبدأ بالأرقام، إلا أنه في البرهانِ الرِّياضي أو في حياةِ الكاتب قلَّما تجدُ بالكادِ أيَّ أرقام! إنها فقط بصددِ المفاهيم، والتَّفكير المنطقي؛ إنها أشبه بعملِ المحامي أو مخبرِ المباحث؛ ويشير فيللاني إلى رجلِ المباحث السِّينمائي المعروف "كولومبو"، فإنه دائماً ما يستخدمُ الحدسَ في التَّعرُّفِ على المجرم، لكنه يلجأ في كلِّ مرَّةٍ إلى المنطق لإثبات الجريمة؛ وكذلك عالمُ الرِّياضيات، فإنه يستخدمُ الحدسَ للتَّكهُّنِ بالحلِّ الصَّحيحِ للمعضلةِ الرِّياضية، ولكنه يلجأ إلى المنطق للبرهنةِ عليها.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:27 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »


أمَّا الآن، فإلى هذا التعقيب لمحمد خلف، المُتَوَلَّد عن أفكارٍ أثارها العَرْضُ السابق، كما عن مَفاهيمَ ومُتَابَعاتٍ آنِفَة ذات صِلَة:




إنطاقُ المعادلاتِ من جهة، وتحويلُ كلِّ شيءٍ إلى معادلةٍ من جهةٍ أخرى


قلنا في معرض حديثنا عن كتاب سيدريك فيللاني الجديد "ميلادُ قضيةٍ افتراضية: مغامرةٌ رياضية" إنه "لا يمكن أن تنشأ قصَّةٌ من مجردِ عرضٍ لمعادلات؛ فبالتَّفسير يتمُّ شرح المعادلات، وكلُّ معادلةٍ تنطوي في الأساس على بنيةٍ ضمنيةٍ شارحة، يخرجها السَّردُ من الخفاءِ أو الكمونِ إلى العلن". ونحاولُ هنا، لأهمية هذه الملاحظة بصددِ علاقة السَّرد بالرِّياضيات، أن نسلِّط عليها مزيداً من الضُّوء، حتى نخرُجَ بنتيجةٍ محدَّدة إزاء هذه القضية التي طال الحديثُ عنها. وأولُ ما يلفت الانتباه في صياغةِ هذه الملاحظة أن العالِمَ الفيزيائي يلجأ إلى صياغةِ ما يعتقدُه في شكلِ معادلةٍ حتى يمكن تداولُ المحتوى المعرفي لاعتقادِه، وفحصُه بين أوساطِ العلماء في صيغةٍ مختزلة سهلة التَّناول، إضافةً إلى استخدامها في عمليات التَّنبؤ التي تستند في جوهرها على الاعتقاد بأن ترتيباً مستقبلياً يمكن التَّكهُّن به وفقاً لما هو قائمٌ الآن، وبناءً على آلياتٍ تحسِبُ وتائرَ التَّغيُّرِ مع مرورِ الزَّمن. إلا أن العالِمَ الفيزيائيَّ يحتاجُ أيضاً أن يشرحَ ما يعتقده لمجتمعِ العلماء، فيلجأُ إلى تفسيرِه في أفضلِ صيغةٍ ممكنة، ربما تضطره إلى استخدام الأمثال والتَّشبيهات، وكثيراً ما يلجأ إلى تجارب الفكر (غيدانكنإكسبيريمينت)، لكن طريقته المفضَّلة عندما يطرح أفكاره على الجمهور العريض هي السَّردُ، الذي يأخذ عادةً شكلَ قصَّةٍ أو مسرحيةٍ قصيرة أو وصفٍ دراميٍّ مكثَّف.

لن نتدخل هنا في عملِ العالمِ الفيزيائي الذي يسعى إلى تحويلِ كلِّ شيءٍ إلى معادلةٍ رياضية مختزلة تعين على تطوير فكرته وفق أكثر الصِّيغِ المتداولة فعاليةً، ولكننا سنصحبه في رحلةٍ تفسيرية نستنطق فيها واحدةً من المعادلات الفيزيائية المعروفة. ولأن أولَ ما يثير النُّفور لدى القارئ العادي للمعادلات هو لجوؤها إلى التَّشفير، مما يُحدِث لديه إحساساً بالعجز وعدم الثِّقة في قدراته العقلية، فإننا سنحاول فكَّاً للشِّفرات أو الرُّموز المستخدمة في معادلة آينشتاين الشَّهيرة، خصوصاً وأنها واحدةٌ من المعادلتين اللَّتين برزتا في رسالتي إلى الصَّديق عادل القصَّاص. وبما أن المواقع الحالية على الإنترنت لا تستقبل بودٍّ وترحاب المعادلات الرِّياضية، سنحاولُ ترجمةً لها، ربما تمرُّ في يُسرٍ عبر الحاجزِ التَّقني الخفي الذي تفرضه المواقع، من غيرِ قصدٍ، على أركان النِّقاش.

في عام 1905، توصَّل آينشتاين إلى معادلته الفيزيائية الشَّهيرة، وهي: (ط = ك.س2 [تربيع]). والملفت في هذه المعادلة أن الرُّموز التي تحتاجُ بالفعل إلى توضيح، ليست هي الطَّاء (الطَّاقة)، أو الكاف (الكتلة)، أو السِّين (سرعة الضُّوء)؛ ولا حتى علامة التَّربيع (2)، أو علامة الضرب (.) الواقعة بين الكاف والسِّين – ما يحتاجُ بالفعل، وبدرجةٍ حاسمة، إلى الشَّرح المفصَّل، هي علامة المساواة (=). ففي المعادلات الرِّياضية، على وجه العموم، عندما نقول إن طرفاً من المعادلة يساوي أو يكافئ طرفاً آخرَ منها، فإننا نعني أن ذلك يتمُّ إما على وجه المطابقة التي لا لبسَ فيها والتي يمكن الوصول إليها حدسياً من غير اللُّجوء إلى تضريب، أو على وجهِ الاعتقاد الذي يحتاجُ بالفعل إلى عملياتِ تضريبٍ للتَّوصُّلِ إلى صحَّة ما نعتقده. ومع أن المعادلات القائمة على المطابقة تحقق أقصى درجات اليقين، إلا أن محتواها المعرفي يشارف درجة الصِّفر أو يبلغها؛ فإذا قلت إن (1=1)، فيمكنك أن تطمئن بشكلٍ يقيني إلى نتيجة المعادلة، لكنك لم تضفْ أيَّ محتوًى معرفيٍّ جديد يساهم في تنمية المخزون المعرفي العالمي، إذ إن كلَّ ما توصَّلت إليه هنا لا يزيد شبراً واحداً عن تفسيرك للماءِ بالماء، أو ما أصبح يُعرفُ في لغةِ المناطقة بتحصيل الحاصل.

لذلك، فإن المشتغلين بالعلم التَّجريبي الذين يسعون إلى تحقيقِ إضافةٍ معرفية في مجال الحقيقة ينؤون بنفسهم عن هذا النَّوع من المعادلات، على الرغم من يقينيته وعدم النِّزاع في صحته. على العكس من ذلك، فإنهم يسعون إلى صياغةِ معادلاتٍ تحقق أكثر قدرٍ من المحتوى المعرفي، على الرغم من إمكانية وقوعِها بشكلٍ أكبر في الخطأ، وإمكانية تعرُّضها بشكلٍ أكثر تواتراً للدَّحض والتَّفنيد. والمعادلاتُ بهذا الفهم، تشبه إلى حدٍّ بعيد أسلوبَي التَّشبيه والاستعارة في علم البلاغة. فأنت إذا قلت الأسد كالأسد، أو زيدٌ كزيد، فإنك لم تخرج شبراً واحداً عن تفسيرك للماءِ بالماء؛ لكن الإضافةَ تحدث إذا قلت: زيدٌ كالأسد (ربما في وجهٍ واحدٍ من وجوه التَّشبيه)؛ وتزداد الإضافة إذا قلت: زيدٌ أسد (في أكثر من وجهٍ من وجوه التَّشبيه)؛ إلى أن تخرج من مجال التَّشبيه وتدخل في مجال الاستعارة (وهي أيضاً نوعٌ من التَّشبيه)، فتسقط أداةُ التَّشبيه ووجه الشَّبه معاً، وندخل في منطقة الغموض؛ وإذا عثرنا على ما يزيل اللَّبس، كان العائدُ من الاستعارةِ أكبر. وكذلك الحال مع المعادلات الفيزيائية الشَّهيرة، ومن ضمنها معادلة آينشتاين الأكثر شهرةً.

صحيحٌ أننا نعرفُ اليومَ أن معادلة آينشتاين تشير بلسانٍ ذَرِبٍ إلى وجودِ تكافؤٍ بين الطَّاقة والكتلة، إلا أن التَّعامل معهما في القرن التَّاسعَ عشرَ كان يتمٌ وفقاً للمعالجة المنفصلة؛ فعلى سبيل المثال، تمَّ التوصُّل إلى قانون بقاء الطَّاقة من ناحية، مثلما تمَّ التوصُّل إلى قانون بقاء الكتلة من ناحيةٍ أخرى، من دون التَّكهن بوجود صلةٍ بينهما؛ وكانت أشكال الطَّاقة المعروفة حتى ذلك الوقت (1905)، تتمثَّل بشكلٍ رئيسي في كلٍّ من الطَّاقة الكيماوية، والحرارية، والكهربائية والمغناطيسية (اللتان تمَّ توحيدهما بواسطة مايكل فراداي وجيمس كلارك ماكسويل)، ولم يكن في الحسبان، حتى ذلك الوقت، تصوُّرُ شكلٍ آخرَ من أشكالِ الطَّاقة. إلى أن جاء ألبرت آينشتاين، فأوجد صلةً لم تكن متوقعة، هي تكافؤ الطَّاقة والكتلة؛ كما أوجد مصدراً للطَّاقة لم يكن في خَلَدِ أحدٍ من قبلِه، وهو وجودُها المستتر بداخلِ أيِّ كتلةٍ مادية، مهما صغُر حجمُها أو تباينَ عنصرُها.

ولكن كيف السَّبيلُ إلى العبورِ من الطَّرف الأول للمعادلة إلى الطَّرف الثَّاني منها؟ أو بمعنًى آخر، كيف يمكن اجتياز علامة المساواة (=)، وتحقيق الانتقال عبر الحاجزِ التَّقني الخفي الذي تفرضه (هذه المرَّة) الطَّبيعة (وليست مواقع الإنترنت) على عملية العبور؟ وكتمهيدٍ للإجابة، يمكن القول إنه لا يمكن الانتقال بين طرفين مستقلين، إلا بوجود معامل تحويل؛ تماماً مثل تحويل الجنيه إلى دولار أو العكس، فلا يمكن إجراء عملية التَّحويل، إلا بمعرفة سعر الصَّرف. وكذلك في معادلة آينشتاين الشَّهيرة، فإن معامل التَّحويل هو سرعة الضُّوء، مضروبةً في نفسِها. وهذا بدوره يقودنا إلى نقطةٍ أخيرة تتعلَّق بالمقادير التي انطوت عليها المعادلة.

منذ البرهنة في عام 1676على أن الضُّوء ينتقل في سرعةٍ متناهية، أي غير مُطلقة، كانت هناك مقاديرُ متداولة، لكنها تتغيَّر مع تطوُّرِ أجهزة القياس، إلا أن المترَ نفسَه قد أُعيد تعريفه في عام 1983 وفقاً لنِّظام الوحدات الدُّولي. ما يهمنا من ذلك، هو أن قيمةً لـِ (س) كانت متوفِّرةً عند صياغةِ المعادلة، ولكن الكتلةَ كانت صمَّاء، إذ لم يقم إرنست رزرفورد ومعاونوه بتوضيحِ التَّركيب الذَّري للمواد، إلا بعد عام 1910 (أي بعد 5 أعوام من صياغة المعادلة)؛ ونحن نعرف اليوم أن ذلك نفسه لم يكن كافياً، إذ لا زالت العمليات المتعلِّقة بتطوير النُّموذج القياسي للمواد في كشفٍ وتدقيقٍ مستمرين. كما لم تتم عملية تحرير الطَّاقة الكامنة في المواد، إلا مع سماع طبول الحرب العالمية الثَّانية، حيث تمَّ البرهنة عليها بشكلٍ فاجع في هيروشيما ونجازاكي.

نخلُص من كلِّ ذلك إلى أن معادلة آينشتاين لم تكن معادلةً رياضية ذهنية تشارف درجة اليقين الذي يجرِّدها من أيِّ محتوًى معرفيٍّ إضافي، بل هي معادلةٌ رياضية فيزيائية تستهدي ببنية العالم المادي، وتقاربه عبر صيغةٍ مفتوحة تولِّد معارفَ متجدِّدةً في مجال الحقيقة على مرِّ الأيام؛ وسيكون تصوُّرنا للوجودِ المادي فقيراً بدونها، فالمعادلة التي نحن بصددِها ليست ترفاً ذهنياً، بل هي شعلةٌ تضيء أركان الكونِ بمجمله؛ فهللا انتبهت أركانُ النِّقاشِ لأهميتها المعرفية القصوى.

محمد خلف
آخر تعديل بواسطة عادل القصاص في الأحد أكتوبر 04, 2015 12:29 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
أسامة الخواض
مشاركات: 962
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:15 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة أسامة الخواض »

"مهندس القص"؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
أسامة

أقسم بأن غبار منافيك نجوم

فهنيئاً لك،

وهنيئاً لي

لمعانك.

لك حبي.



16\3\2003

القاهرة.

**********************************
http://www.ahewar.org/m.asp?i=4975
أضف رد جديد