جون غراي: التفلسف برؤية مختلفة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

جون غراي: التفلسف برؤية مختلفة

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

نُشرت هذه المراجعة بمجلة "تبُّين" التي يصدرها المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات بالدوحة قطر.

جون غراي: التفلسف برؤية مختلفة
سياحة موجزة في فكره

النور حمد

تعريف بجون غراي
جون غرايJohn Gray، فيلسوفٌ سياسيٌّ وُلد في بريطانيا عام 1948، وهو من المشتغلين في كتاباتهم بالفلسفة التحليلية وبتاريخ الأفكار. عمل قري أستاذًا للفكر الأوروبي بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، واشتهر في العقدين الأخيرين بسبب تأليفه مجموعة من الكتب التي أثارت جدلاً واسعًا، خاصةً كتابه، Straw Dogs، "كلاب من قش"، الذي وجد احتفاءً كبيرًا وسط كبار مراجعي الكتب، لدى الصحف الغربية الرئيسة. كتب "جورج والدن" عن ذلك الكتاب في صحيفة "الديلي تلغراف" ما نصه: "ليس هناك شيءٌ يمكن أن يدفع بك إلى التفكير، مثلما يفعل هذا الكتاب". وكتب عنه "جي بالارد"، في صحيفة "الغارديان" البريطانية: "إنه كتاب يتحدى كل افتراضاتنا عن ما يجعل الانسان انسانًا". وكتب عنه "ويل سلف"، في صحيفة "الإندبندنت" البريطانية: "بعد أن تقرأ هذا الكتاب ستجد أن كل شيء يبقى تمامًا كما هو ــــــ ولكنه يبدو مختلفًا جدًا، وهذا مزعج". أعقب جون غراي كتابه "كلاب من قش" ببعض الكتب التي لاقت رواجًا كبيرًا. من بينها كتابه الذي صدر عام 2013، بعنوان: "صمت الحيوانات: حول التقدم والخرافات الأخرى للحداثة"، The Silence of Animals: On Progress and other Modern Myths. وهو الكتاب الذي سأركز عليه في عرض أفكاره في هذه الورقة، مع استصحاب شواهد من كتابه الآخر "كلاب من قش" Straw Dogs، الذي صدر عام 2003. صدر الكتابان عن دار فارار وستراوس وجيرو بنيويورك.

عمل جون غراي، عقب تقاعده عن التدريس، مراجعًا رئيسًا للكتب لكلٍ من صحيفة "الغارديان" البريطانية، والملحق الأدبي لصحيفة "التايمز"، وكذلك لمجلة "نيوستيتسمان". جاءت جميع مؤلفات جون غراي ملفتةً للنظر، بسبب قدرتها الكبيرة على زلزلة القناعات السائدة حول فهم الانسان للكون وطبيعة علاقته به، وفهمه لنفسه، وعلاقته بأخيه الانسان. فجون غراي ينتقد العلمانية الإنسانوية بنفس القدر الذي ينتقد به الأديان. وتتمحور أفكار غراي في منحاها النقدي حول ما تسميه أدبيات الحداثة "حتمية التقدم". يرى غراي أن فكرة "التقدم" في الأصل فكرة دينية، مسيحية وأنها مجرد خرافة ورثتها عنها العلمانية الإنسانوية زاعمةً أنها فكرة علمية.

من كتب جون غراي الأخرى، التي لقيت إعجابًا لدى المفكرين والاقتصاديين والسياسيين وعامة الجمهور، كتابه المسمى، False Dawn: The Delusions of Global Capitalism، "الفجر الكاذب: ضلالات الرأسمالية المعولمة"، الذي صدر في عام (1998). ومن بين كتبه التي استرعت الانتباه أيضًا، كتابه المسمى: Black Mass: Apocalyptic Religion and the Death of Utopia ، "الكتلة السوداء: ديّانةُ القيامة وموت اليوتوبيا"، وقد صدر هذا الكتاب عام (2007). أما كتابه الأخير الذي تستعرضه هذه الورقة، المسمى: "صمت الحيوانات: حول التقدم وغيره من خرافات الحداثة"، فيلخص رؤية غراي لعجز البشر المستمر عن تحقيق الحالة الانسانية المنشودة التي طالما تصوروها، وعن الشقة التي تبقى شبه ثابتة، بين عالم الأفكار والتصورات والحلم بحالة انسانية أفضل، وبين ما عليه حقيقة أفعال الناس في الواقع. ويمكن القول إن خيطًا واحدًا يربط كل مؤلفات جون غراي، وهو أن حلم التقدم؛ أي تجاوز الانسان حالة الوحشية إلى حالة الإنسية، إنما هو وهمٌ، أكثر من كونه حقيقة.

من "كلاب من قش" إلى "صمت الحيوانات"
كتاب "صمت الحيوانات" الذي صدر عام 2013، لا يختلف من حيث الثيمات الفكرية الرئيسة من سابقه "كلاب من قش". فهو يبدو مجرد تنويع على ذات اللحن القديم، مع استطرادات وشواهد جديدة تدعم أفكار جون غراي الرئيسة التي سبق أن عبر عنها. يقول غراي في مقدمة كتابه "كلاب من قش"، إن الانسانويين يحبون أن يروا أنفسهم بوصفهم يملكون منظورًا عقلانيا للعالم. غير أن عقيدتهم المركزية حول التقدم progress، ليست سوى خرافة، وهي أبعد من حيث القدرة على ادراك حقيقة "الحيوان البشري" من أي ديانةٍ من ديانات العالم. (كلاب من قش، صxi) . يقول غراي إن الإنسانويين المعاصرين عندما ولّدوا فكرة "التقدم" مزجوا في الحقيقة بين خرافتين مختلفتين: الخرافة السقراطية حول العقل والعقلانية وخرافة الخلاص المسيحية. وإذا كان الناتج من جماع هذه الأفكار ليس متجانسًا فهذا هو ما جعله ذا قابلية للتصديق وسط الناس. يعتقد الإنسانويون أن البشر يتحسنون مع تقدم المعرفة. فهم يعتقدون أن تحقيق التصورات المنتظرة لما يجب أن يكون عليه البشر هي الهدف الأعلى للتاريخ. غير أن البحث والتقصي العقلاني يقول ليس للتاريخ هدف. إنهم يبالغون في تصوير الطبيعة عندما يصرون بأن الإنسان، الذي هو أحد صدف الطبيعة، سوف يتجاوز الحدود التي تؤطر وتحد حيوات الحيوانات الأخرى. يقول غراي من السخف البيِّن أن هذا الهراء يمنح المعنى لحيوات الناس الذي يظنون أنهم قد خلفوا كل الخرافات وراء ظهورهم (صمت الحيوانات، ص 80).

يرى غراي أن الاعتقاد في أن الإنسان متميز على سائر الحيوانات لأنه يملك إرادة حرة، مسألة موروثة من المسيحية. ويقول، لم تكن نظرية دارون لتحدث الدوي الفضائحي الذي أحدثته لو أن كتابتها حدثت في الهند الهندوسية، أو الصين التاوية، أو إفريقيا الأرواحية. وبنفس القدر، فإن الفلاسفة لم يجهدوا أنفسهم "روحيًا" ليوفقوا بين الحتمية العلمية والاعتقاد بتفرد البشر بخاصية أنهم كائنات تملك حرية الاختيار، إلا في الثقافات التي تلت ظهور المسيحية. ويرى غراي أن الجهل باللاهوت والأديان وسط الفلاسفة المعاصرين بقي مدعاةً للفخر لديهم. وهذا هو ما جعل الأصل المسيحي للعلمانية الإنسانوية لا يُفهم إلا نادرًا. ويرى غراي أن العلمويين الفرنسيين مثل سان سيمون، وأوغست كونت، اخترعوا "ديانة الإنسانية" كرؤيةٍ لحضارةٍ عالميةٍ مبنية على العلوم الطبيعية. ولقد أدى تأثيرهما على جون ستيوارت ميل إلى أن تصبح العقيدة العلمانية على الهيئة التي هي عليها اليوم. كما أن سيمون وكونت ساعدا بتأثيرهما العميق على كارل ماركس في تشكيل "الاشتراكية العلمية". وللمفارقة، فإن سان سيمون وكونت، كانا ناقدين شرسين لاقتصاد "دعه يعمل" liassez-faire. يقول غراي، إن الإنسانوية ليست علمًا، وإنما هي دين. ففي أوروبا ما قبل المسيحية، كان الاعتقاد الراسخ، أن المستقبل سوف يكون كما الماضي. فالمعرفة والاختراعات تتقدم، ولكن الأخلاق تبقى، في الغالب، كما هي، وأن التاريخ سلسلة من الحلقات لا يربطها معنى كلي. وعلى عكس هذا الفهم الذي كانت عليه ديانات التعدد، paganism، فهِم المسيحيون التاريخ كقصةٍ للخطيئة والخلاص منها. فالإنسانوية، وفقًا لما يراه غراي، تمثل تبنيًا وتحويرًا لهذه العقيدة المسيحية المتجذرة في فكرة الخلاص، تم تحويلها إلى مشروع عالمي للتحرر الإنساني. ويقول قراى إن الإيمان بـ "التقدم" له مصدرٌ آخر، أيضًا. فنمو المعرفة في العلوم الطبيعية تراكمي. غير أن الحياة البشرية بصورة كليةٍ ليست تراكمية؛ فالذي يتم اكتسابه في جيلٍ واحدٍ يمكن فقدانه في الجيل التالي. ففي العلوم الطبيعية، المعرفة خيرٌ غير مخلوط، أما في الأخلاق والسياسة فإن الأمور خليط من الخير والشر. فالعلوم الطبيعية تزيد القدرة البشرية، ولكنها، في نفس الوقت، تضخم الإخفاقات الإنسانية. (كلاب من قش، صxiii). فالعلوم الطبيعية تجعلنا نعيش أطول، ونحقق مستوىً أعلى من العيش، مقارنة بما كان عليه الحال في السابق. ولكن، في نفس الوقت تجعلنا نتسبب في تدمير حيوات بعضنا وتدمير الأرض، بصورٍ غير مسبوقة. وفي ختام مقدمته لكتاب "كلاب من قش" يقول قراى، كتب هيغل في مكان ما أن البشرية لن تقنع إلا بعد أن تعيش في عالمٍ من صنعها. ولكن على العكس من ذلك، فإن كتاب "كلاب من قش" يحاجج من أجل احداث نقلةٍ تخرج بنا من هذه الحالة من تضخم الوعي بالذات وبالأنا، Solipsism. فالبشر لن ينقذوا العالم، وهذا ليست مدعاةً لليأس، لأن العالم لا يحتاج إلى انقاذ. بل لعله من المفرح، أن البشر لن يعيشوا أبدًا في عالمٍ من صنعهم.

ينقسم كتاب "صمت الحيوانات" إلى ثلاث أقسام: القسم الأول أسماه الكاتب، "فوضى قديمة"، وأسمى القسم الثاني، "وراء الفكرة الأخيرة"، أما الثالث فأسماه "ضوءُ شمسٍ آخر". ابتدر جون غراي كتابه الأخير هذا، باقتباس قصيرٍ لجون آشبري يقول فيه: "لم تعد المواسم مثلما كانت من قبل، غير أن هذه هي طبيعة الأشياء التي تُرى مرةً واحدةً وهي تواصل الحدوث...". ولقد تكررت ثيمة المواسم الطبيعية مراتٍ في هذا الكتاب. ويبدو أنها تمثل الفكرة المحورية في تصورات جون غراي التي ترى أن التاريخ يسير في دوراتٍ، هي أشبه ما تكون بفصول السنة. أي، أنه لا يوجد، وفق رؤية غراي، تقدمٌ يسير في خطٍ صاعدٍ على الدوام، بقدر ما يوجد تبدّل في التاريخ البشري، أقرب ما يكون إلى الحركة الدائرية، ولذلك، هو أشبه ما يكون بتبدل الفصول. من الصادم في رؤية غراي أنه لا يرى أن الخير يتنامى والشر يتناقص، وذلك، على عكس فكرة "التقدم"، بقدر ما يرى أنها دورات تتعاقب في المسار الكلي، كما تتعاقب فصول السنة. وهذا المعنى هو ما أشار إليه ، "ويل سلف"، حين كتب معلقًا على كتاب جون غراي، "كلاب من قش" Straw Dogs، في صحيفة الإندبندت البريطانية، مما جرى إيراده سابقًا، حيث قال: "بعد أن تقرأ هذا الكتاب ستجد أن كل شيءٍ يبقى تمامًا كما هو ــــــ ولكنه يبدو مختلفًا جدًا، وهذا مزعج".
نداء التقدم
في الفصل الأول من كتابه "صمت الحيوانات"، الذي أسماه غراي، "نداء التقدم"، اعتمد غراي في طرح رؤاه على قصة قصيرة كتبها الروائي المعروف جوزيف كونراد في عام 1896، أسماها "محطة للتقدم"، An Outpost of Progress. كتب كونراد هذه القصة بناءً على تجربة عيشه في الكونغو. وتتلخص القصة في أن أوربييْن اثنين أُوكلت إليهما، في أوج الحملة الاستعمارية، مهمة إقامة محطة نهرية في أدغال الكونغو لتسهيل تجارة العاج. وكما تنتفع الشركة التي أوكلت لهما هذه المهمة ماليًا، فإنهما أيضًا كانا ينتفعان ماليًا. بعد فترةٍ من الوقت عرض عليهما ماسك دفاترهما، وهو من السكان الأفارقة المحليين، أن يستبدلا تجارة العاج بالرقيق، لأن ذلك سوف يدر عليهما دخلا إضافيًا. أُصيب الرجلان بالصدمة والاستغراب، وأبديا الاستنكار والاستياء تجاه ذلك المقترح. غير أنهما ما لبثا أن قبلا به. وبمرور الزمن واشتداد حالة العزلة، تدهورت صحة الرجلين وتدهورت روحهما المعنوية. وفي ثورة غضبٍ عارمة نتجت من الخلاف حول مسألة تافهة، قام كيرتس بقتل رفيقه كارليه. بعد ذلك أصيب كيرتس بحالة اكتئابٍ شديدة. وحين وصلت الباخرة التي تربط تلك المحطة بالعالم الخارجي، متأخرةً شهرين من موعدها المعتاد، وجدت أن كيرتس قد شنق نفسه للتو (صمت الحيوانات، ص 2).

واضح أن كونراد ضمَّن سخريته من الفكرة الاستعمارية في جعل عنوان تلك الأقصوصة "محطة للتقدم". ويبدو أن جون غراي وجد تلك القصة مناسبةً جدًا لاتخاذها نموذجًا لما يود طرحه في كتابه هذا، ليوضح من خلالها فكرته القائلة بأن فكرة "التقدم" فكرة مهلهلة، وليست بالتماسك الذي تبدو به. وإضافةً إلى استخدامه اقتباسات طويلة من النص الذي كتبه كونراد، يحكي جون غراي أيضًا عن التحول الذي طرأ على كونراد نفسه، نتيجة لرؤيته الممارسات الاستعمارية البلجيكية الفظيعة في الكونغو ومعايشته اليومية لها. يقول غراي، إن كونراد زار الكونغو، أول مرة، عام 1890، ليعمل قائداً لباخرة. وأنه؛ أي كونراد، استخدم بعبقريةٍ آسرةٍ التحول الذي جرى له أثناء تجربة عيشه هناك. فمجيئه ممتلئًا بالإحساس بأنه انسانٌ متفوق، جعله يكتشف خطأ ذلك الاحساس، حتى أنه قال: "قبل أن أجي إلى الكونغو كنت مجرد حيوان". ويعلق جون غراي على هذه الجملة بقوله: الحيوان الذي يقصده كونراد هو الإنسانية الأوروبية التي تسببت في موت الملايين من البشر عندما جاءت إلى الكونغو بدعوى نشر "التقدم". ويضيف غراي: إن التصور بأن الإمبريالية يمكن أن تكون قوة للتقدم الإنساني، سقط في دائرة سوء السمعة منذ تلك اللحظة. ويعلق غراي قائلاً، غير أن الإيمان الذي تم الصاقه في ذلك الزمان بالإمبراطورية لم يتم التراجع عنه. بل على العكس من ذلك، فقد انتشر في كل الأماكن؛ حتى وسط أولئك الذين يعتمدون شكليًا، عقائد أكثر تقليدية، تعتمد على الإيمان في المستقبل، ولكن، من أجل اراحة العقول من عناء التفكير المضني، لا أكثر (صمت الحيوانات، ص 4).

يقول غراي: "رغم أن التاريخ يبدو متسلسلاً متتابعًا من اللامنطق، والمآسي، والجرائم؛ إلا أن كل واحدٍ يصر، رغم كل ذلك، أن المستقبل سيكون، أفضل من أي شيءٍ جرى في الماضي. وما ذاك إلا لأن التخلي عن الأمل سوف يبعث حالة من اليأس كالتي علق بها كيرتس، بطل رواية كونراد. إذن، فالإيمان بتقدم النفس البشرية، وترقيها المستمر من الوحشية إلى الإنسية، لا يمثل لدى جون غراي سوى حيلةٍ عقلية ووجدانية لحفظ التوازن النفسي، ومحاولة لصناعة المعنى عن طريق التشبث بأهداب أملٍ كاذب. يقول غراي إن من الممكن القول، أن من أهم الفوائد العديدة للإيمان بحتمية التقدم، أن بإمكانه أن يَحُول بين الفرد وبين المعرفة العميقة للذات. ولذلك، عندما غامر كيرتس ورفيقه بالإيغال في مجاهيل الكونغو، فإن الأغراب الذين التقيا بهم لم يكونوا السكان الأصليين، وإنما ذاتيهما اللتين لم يكونا يعرفانها بالقدر الكافي (صمت الحيوانات، ص 4). ولقد استخدم غراي في كتبه "صمت الحيوانات" شواهد عديدة من شهادات وردت في مذكرات كُتَّاب سجلوا بدقة تراجع الأخلاق لدى الأفراد في أوقات الحروب والأزمات، وانفراط القانون في المجتمعات؛ أي أن الأزمات والحروب تعيد الكائن البشري إلى ما لا يختلف عما عليه بقية الحيوانات الأخرى. بل يرى غراي أن البشر في وقت الأزمات والحروب يرتدون إلى ما دون مستوى الحيوانات الأخرى.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


استخدم غراي في كتابه هذا عددًا من النصوص المقتبسة من الأعمال الروائية الشهيرة ليدلل بها على خيبات الناس في ما يعتنقون من أفكار، وفي عدم قدرتهم أيضًا على العيش وفقًا للمبادئ التي اعتنقوها. من الروايات العديدة التي استخدمها غراي في كتابه هذا رواية آرثر كويستلر التي صدرت في عام 1940 بعنوان "ظلامٌ في الظهيرة" Darkness at Noon. يقول غراي إن الرواية تعكس تجربة كويستلر الحياتية الشخصية. في هذه الرواية يحكي كويستلر عن تقلب بطل روايته بين الشيوعية والتجارب الروحية. فكويستلر نشأ في عائلة يهودية منعمة ومثقفة، لكنه شاهد انهيار حضارة البرجوازية بسبب الحرب العالمية، وجعل من نفسه عدوًا للبرجوازية، ثم أصبح شيوعيًا. كما شاهد كويستلر انهيار قيم المجتمع الفرنسي وهي تتحلل في فترة الاحتلال النازي.

عبر تجربة حياة قلقة متقلبة خلص كويستلر إلى القول في إحدى مقالاته: "ربما أن عبقرية هتلر ليست في الديماجوجية، وليست في الكذب، وإنما في المقاربة اللاعقلانية الجذرية لكسب الجمهور، والقدرة على جذب الذهنية الطوطمية لمرحلة ما قبل المنطق" (صمت الحيوانات، ص 30-31). ويستند غراي على ما كتبه الصحفي الألماني الليبرالي سباستيان هافنر عن تجربة النازية في ألمانيا حيث قال، إن كثيرًا من الألمان كانوا سعداء تحت الحكم النازي. ورغم أنه قد قيل أن الألمان أُكرهوا على قبول النازية، إلا أن ذلك لا يمثل إلا نصف الحقيقة. فهم قد كانوا شيئًا آخر؛ شيئًا أسوأ من ذلك، لا توجد كلمات لوصفه، فهم في حقيقة الأمر جرى تحويلهم إلى رفاق comraded. فقد عاشوا مخدرين في عالم من الأحلام. كانوا يظنون أنهم يتسلقون قممًا شاهقة، في حين كانوا، في حقيقة الأمر، يزحفون على بطونهم في مستنقع (صمت الحيوانات، ص 55). وفي ذات السياق يعلق غراي على ما يصفه بأنه خطأ في رواية جورج أورويل المسماة "1984"، التي مكن تلخيصها في الصورة التي رسمها أورويل لـ "المحقق الشامل". يرى غراي، خلافًا لأورويل أن الروس الذين كانوا يقومون بالتعذيب في الحقبة الشيوعية، كانوا مجرد أدوات اجرائية، حيث كانوا يعرقون ويعيشون في حالة من مستدامة من الخوف. تحت سطح الشعارات الشيوعية في الاتحاد السوفيتي كانت الأرض والبحيرات يتم تسميمها بحراك التصنيع السريع. فهناك مشاريع ضخمة لا قيمة لها تم انجازها بكلفةٍ بشرية باهظة. كما كانت الحياة صراعٌ وحشي من أجل مجرد البقاء. مات الملايين بلا سبب وعاني عشرات الملايين حيواتٍ محطمة، ومضوا دون أن يتركوا أثرًا يدل على أنهم كانوا موجودين أصلا (صمت الحيوانات، ص 53).

لإعطاء نموذج للتراجعات التي لا تلبث أن تحدث، اقتبس غراي نصوصًا من السيرة الذاتية التي كتبها ستيفان زويق، في عام 1942 تحت عنوان "عالم الأمس"The World of Yesterday ، التي صور فيها ما جرى لإمبراطورية هابسبيرغ النمسوية، التي استمرت لألف عام، ووصفها بأنها كأنها قد أُسست لتدوم إلى الأبد، إلى أن قوضتها الحرب العالمية الأولى. فنتيجةً لمقررات مؤتمر فارساي للسلام، ودعوة الرئيس ودرو ويلسون لتقرير المصير الوطني للشعوب، أصبحت أوروبا ساحة معركةٍ للجماعات الإثنية المتصارعة. تحطمت الطبقة الوسطة تمامًا وأصبح الاقتصاد يتأرج بين التضخم إلى اللاتضخم، ثم إلى التضخم الفظيع، مع حالة غير مسبوقة من العطالة. أما السياسة فأستحالت شظايا من مطرفين، مع بروز الفاشيين والشيوعيين الذي يرفضون الديمقراطية، مع حالة ضعفٍ شديدة وسط الأحزاب المعتدلة جعلتها عاجزة عن الإمساك بمنطقة الوسط (صمت الحيوانات، ص 35).
أيضًا أخذ غراي اقتباساتٍ من رواية جورج أورويل 1984. في تلك الرواية، يقول أوبراين موجهًا حديثه لوينستون: "أنت تعتقد أن الواقع شيء موضوعي، وأنه شيءٌ خارجي موجودٌ وجودًا مستقلاً بذاته .... عندما تخدع نفسك بالانجرار في التفكير بأنك عندما ترى شيئًا، تفترض أن الآخرين يرون نفس الشيء الذي تراه. ولكنني أخبرك يا وينستون الواقع ليس شيئًا خارجنا. الواقع موجود في العقل البشري، وليس في أي مكانٍ آخر. إنه ليس في عقل الفرد الذي يرتكب الأخطاء، والذي هو في كل الأحوال عقلٌ يفنى، وإنما في عقل الحزب، الذي هو عقلٌ جمعيٌّ وخالد. فكل ما يراه الحزب حقًا فهو حق .... نحن لسنا مهتمين بخير الآخرين؛ وإنما نحن مهتمون بالقوة بصورةٍ حصرية. اهتمامنا ليس منصبًا في جني الثروة، وليس في الحياة الباذخة، أو الحياة الطويلة. اهتمامنا فقط في القوة؛ القوة الصرفة .... عليك التخلص من تلك الأفكار عن قوانين الطبيعة التي تعود إلى القرن التاسع عشر..... إذا كنت تريد أن ترى صورة المستقبل، على حقيقتها، فتخيل حذاءً ضخمًا يطأ وجهًا بشريًا، ويظل ضاغطًا عليه، من الآن وإلى الأبد".

يقول غراي: في القصة التي يعيد العالم الحديث قصّها لنفسه، نجد أن الاعتقاد في التقدم يقف على طرفي نقيض مع الدين. ففي العصور المظلمة من تاريخ الإيمان الديني، لم يكن هناك أي أملٌ في تحقيق تغيير جوهري في حياة الناس. ولكن مع بروز العلوم الحديثة تفتح أفقٌ جديدٌ للتحسن. فالمعرفة المتنامية جعلت البشر يحسون أنهم يتحكمون في مصيرهم. فقد تحركوا من حالة الضياع في منطقة الظلال، وأمكنهم، من ثم، أن يخطوا إلى دائرة الضوء. لكن، في حقيقة الأمر فإن فكرة التقدم ليست على النقيض من الدين، كما تبدو في ما تقترحه هذه "الحدوتة" الحداثية . يرى جون غراي أن الإيمان بدوام التقدم لم يكن سوى محاولةٍ أخيرةٍ لإنقاذ المسيحية المتجذرة في رسالة يسوع المسيح؛ النبي اليهودي المتمرد الذي أعلن نهاية العالم. ويرى غراي أن الفكرة المسيحية مناقضة لما كان عليه الحال لدى المصريين القدماء، والإغريق القدماء، الذين لم يكونوا يرون أن هناك جديدًا تحت الشمس. فالتاريخ الإنساني بالنسبة لهم يتبع دورات العالم الطبيعي. ويقول غراي إن ما كان يراه قدماء المصريين، وقدماء الإغريق، ينطبق أيضًا على الهندوسية والبوذية والتاوية وديانة الشنتو، والأجزاء الأقدم من الديانة اليهودية.

عن طريق خلق التوقع بأن تحولاً جذريًا يمكن أن يحدث في الحالة الإنسانية، أصبحت المسيحية التي ابتكرها القديس بولس، من حياة عيسى وأقواله، هي الطاقة التي أوجدت العالم الحديث. ويضيف غراي أيضًا، إذا نظرنا إلى المسألة من الناحية العملية، فإننا نجد أن البشر قد استمروا يعيشون، إلى حدٍّ كبيرٍ، على نفس الصورة التي ظلوا يعيشون بها، عبر التاريخ. فالتبدل في الفكرة عن العالم لم يحدث إلا قبل وقتٍ قصيرٍ من التحول الذي أتى بالتوقع الحرفي للنهاية، "القيامة"، بحيث أصبح مجازًا metaphor يشير إلى الترقي الروحاني. وقد كان لا بد من أن تحدث مجموعةٌ من التحولات، ليصبح في وسع المسيحية أن تجدد نفسها في صيغة ما يمكن أن نسميه، "خرافة التقدم". هكذا تحول التاريخ من صيغته القديمة الشبيهة بتعاقب للفصول، ليصبح قصةً للخلاص. وفي الأزمنة الحديثة اختلطت هوية الخلاص بزيادة المعرفة والقوة، وهذه عينها هي الخرافة التي ساقت كلاًّ من كيرتس وكارلي إلى مجاهيل الكونغو، كما ورد في رواية جوزيف كونراد.
الانسانوية والأطباق الطائرة
يقول جون غراي، لو كان الإيمان بعقلانية الانسان نظريةً علميةً، لتم هجر هذه النظرية منذ وقتٍ طويل. ولكي يرسم غراي صورة أوضح للاعقلانية البشر، يورد غراي قصة عن فريقً علميٍّ برئاسة ليون فستينقر الذي أخرج كتابًا في كلاسيكيات علم النفس الاجتماعي، عام 1956، بعنوان "عندما تفشل النبوءة"When Prophecy Fails تم فيه رصد حالة امرأة أمريكية من ولاية متشيجان كانت تزعم أنها تتلقى رسائل من كوكب آخر، تخبرها أن نهاية العالم سوف تحدث عن طريق فيضانٍ كبير، يحدث قبل فجر يوم 21 كانون الأول/ديسمبر 1954. ولقد قامت تلك المرأة ومن صدقها ممن كانوا حولها، بترك أعمالهم، وهجر من لهم بهم علاقة من أقاربهم واصدقائهم. كما قاموا بالتخلص من ممتلكاتهم استعدادا للطبق الطائر الذي سوف يأتي لينقذهم من العالم الذي حق عليه الدمار. وبما أن فيستينغر كان من أعضاء الفريق الذي طور نظرية "التناقض الادراكي"cognitive dissonance ، فقد وجد هو وفريقه في قصة تلك المرأة فرصة لاختبار نظريتهم.
تزعم تلك النظرية أن البشر لا يتعاملون مع المعتقدات المتناقضة باختبارها عن طريق مضاهاتها مع حقائق الواقع، وإنما يخفِّضون من حدة التناقض عن طريق إعادة تأويل الحقائق التي تتحدى معتقداتهم، التي أصبحوا أكثر التصاقًا بها ولا يستطيعون فكاكًا منها. في هذا الصدد، يستشهد غراي بـ تي إس إليوت، الذي يقول، "إن الجنس البشري لا يحتمل كثيرًا الأمور شديدة الواقعية". من أجل اختبار نظريتهم، اخترق المحللون النفسانيون تلك المجموعة التي آمنت بمزاعم تلك المرأة، بغرض مراقبة رد فعلهم، عندما لا تحدث تلك القيامة، التي تنبأوا بها. وكما توقعوا، فقد رفضت المجموعة أن تقر بأن منظومتهم المعتقدية كانت خاطئة. وبدلاً عن ذلك قاموا بتأويل عدم حدوث الكارثة الكونية التي توقعوها، عازين عدم حدوثها إلى كونهم قد ظلوا في حالة صلاةٍ مستمرةٍ طوال تلك الليلة، ما جعلهم ينجحون في منع حدوثها. وكان النتيجة أن أصبحوا أكثر التصاقًا بمعتقدهم.

يقول غراي إن إنكار الواقع من أجل الإبقاء على التصور للعالم الذي يعتنقه الفرد، أو المجموعة، ليس منحصرًا فقط في المجموعات ذات المعتقدات الباطنية الشاطحة cults، ولا في فرضية أن "التناقض الإدراكي"، حالة بشرية طبيعية. فالحركات التي يعيش تابعوها في انتظار مُخلِّصٍ، يعتنقون هذا التناقض في صورته الصرفة. وينقل غراي عن فيستينقر أنه منذ أن صُلب المسيح، ظل كثيرٌ من المسيحين يأملون في عودته الثانية. ولم تكن الحركات التي حددت لتلك العودة تواريخ بعينها، نادرةً في ذلك المجال. بل يرى غراي، أن ظِلَّ القيامة يتعدى الجماعات الدينية ليلقي بنفسه على الحركات الراديكالية أيضًا، وذلك عن طريق إعادة انتاجه في صورةٍ معلمنة. فقد تلبَّست الخرافات الثوريين، من يَعَاقِبِة الثورة الفرنسية، إلى البلشفيك، وإلى ما وراء ذلك. بل إن الخرافات ألهمت حركاتٍ تبدو مختلفةً جدًا، كالتروتسكية، بل وحركاتِ نهايات القرن العشرين، كالمحافظين الجدد الأمريكيين.

يقول غراي، إذا كان هناك شيءٌ مميزٌ جدًا لدى "الحيوان البشري" فهو قدرته على إنماء المعرفة بمعدلات متسارعة. غير أنه، مع ذلك، يبقى عاجزًا عجزًا مزمنًا عن التعلم من تجربته. فالعلم والتكنولوجيا تراكمية، حيث تلغي النظريات الأجد النظريات الأقدم. أما الأخلاق والسياسة فتمثل دواماتٍ تعيد نفسها. فالتعذيب والاستعباد، مهما أطلق عليهن من أسماء، فهي شرور كوكبية. غير أن هذه الشرور لا يمكن أن تُنسب للماضي كما تُنسب النظريات العلمية التي تخطاها العلم، فهي، على خلاف النظريات العلمية، تعود تحت مسمياتٍ جديدة. فالتعذيب يعود في صورة أساليب استجواب محسنة، والعبودية تعود في صورة الاتجار بالبشر. فموانع تحقق الحياة المتمدنة، ليست كموانع تحقق المعرفة في العلوم الطبيعية التي يمكن حفظها في ذاكرة الكمبيوتر. فهي عاداتٌ سلوكية، متى ما انكسرت يصعب إصلاحها. فالتمدن طبيعيٌّ في البشر، ولكن بنفس الصورة فإن البربرية طبيعية أيضًا فيهم. ويخلص غراي إلى القول إن المتحمسين للعقلانية ربما لم يلاحظوا أن الفكرة القائلة بأن البشر سيصبحون، يومًا ما، أكثر عقلانية، تقتضي قفزةً أعظم في الإيمان، تفوق تلك التي قامت عليها الأديان. فما دام تحقق هذا الحلم يقتضي خرقًا إعجازيًا لناموس الأشياء، فإن عودة يسوع من الأموات ليست مناقضةً للعقلانية، بأكثر من فكرة أن البشر سيصبحون في المستقبل مختلفين عما ظلوا عليه عبر التاريخ.

أيضاً يرى غراي، أن من الممكن، بشكل عام، القول إن الإنسانويةhumanism تقوم على فكرة أن "الحيوان البشري" هو الكيان الحاوي لنوعٍ من القيمة المتميزة في العالم. ففلاسفة اليونان القدماء يؤمنون بأن البشر متميزون لامتلاكهم العقل الذي ينقص بقية الكائنات. ومن بين هؤلاء فإن سقراط بخاصة، كما يصفه أفلاطون، يرى أن الأنسان يمكنه باستخدام العقل أن يلج المجال الروحاني. ومن ضمن جوانب الإنسانوية المتصلة بهذا الشأن الفكرة القائلة أن العقل البشري يعكس الناموس الكوني. ورغم ذلك فإن مايكل مونتين الذي يُعد أحد إنسانويي القرن السادس عشر كان يرفض الفكرة القائلة أن العقل البشري يمثل مرآةً للعالم. كما كان يسخر من الفكرة القائلة أن العقل هو الذي يجعل البشر قادرين على أن يعيشوا عيشًا جيدًا. ومع ذلك، لم يقفل مونتين الباب أما عودة الروحانية، بسبب أنه كان أصلاً متشككًا skeptic.

يورد غراي بناءً على أقوال بعض المؤرخين، أن حالة اللامساواة في أمريكا، في بداية القرن الواحد والعشرين، أكبر من تلك التي كانت سائدةً في الاقتصاد القائم على الرق في روما الإمبراطورية، في القرن الثاني الميلادي. ويعلق غراي على ما أورده أولئك المؤرخون بقوله:
بالطبع الإنسانية ليست متجهة إلى أي جهة. فـ "الإنسانية" مجرد خيال مكون من بلايين الأفراد، الحياة بالنسبة لكل واحدٍ منهم مفردةٌ ونهائية. غير أن خرافة التقدم لها قوةٌ مفرطة. عندما تفقد هذه الخرافة قوتها فإن الذين عاشوا معتقدين فيها يصبحون، كما يصف جوزيف كونراد بطلي روايته، "محطة التقدم"، كيرتس وكارليه بقوله: "إن مَثَلُهم مَثَلُ من كانوا مسجونين طوال أعمارهم، ثم تم إطلاق سراحهم بعد سنين طويلة؛ لا يعرفون ماذا يصنعون بحريتهم". فهم عندما يضعف في وجودهم الإيمان بالمستقبل تضيع منهم أيضًا الصورة التي رسموها لأنفسهم في أفئدتهم. ولو أنهم اختاروا الموت بعد ذلك، فلأنهم، بدون ذلك الإيمان، لم يكن في وسعهم أن يعرفوا معنىً للعيش الذي عاشوه (صمت الحيوانات، ص 7).

يقول غراي أن انسانويِّي اليوم يزعمون أن لهم فهمًا علمانيًا صرفًا للأمور ويسخرون من التدين والروحانية. غير أنه من الصعب الدفاع عن، أو حتى فهم، تميز الإنسان عن بقية المخلوقات عندما يتم فصله عن مفاهيم التجاوز transcendence. فوفقًا للنظرة الطبيعية الصارمة، التي يتم النظر فيها للعالم بشروطه الخاصة به بدون الرجوع إلى خالق، أو إلى أي نطاق روحاني، لن يكون هناك تراتبية تجعل الانسان يتبوأ وضعًا في القمة. ببساطة، تبقى هناك حيوانات متنوعة لكل منها حاجاته الخاصة به. فالتميز الإنساني خرافةٌ موروثة من الدين، أعاد البشر تدويرها ليضعوها في نطاق العلم (صمت الحيوانات، ص 77).
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

خرافة أن البشر يستخدمون عقولهم ليرفعوا أنفسهم فوق العالم الطبيعي، التي عكستها آراء سقراط وأفلاطون كجزء من الفلسفة الروحانية، أعيد تجديدها في نسخة مشوهة حملتها لغة نظرية التطور. فكثيرٌ مما ورد في "صرعة" نظريات التطور الراهنة يمكن إيجاده، وأحيانًا بصورة أوضح، في ما عبّر عنه هربرت سبنسر. ويرى جون غراي أن هربرت سبنسر هو النبي الفيكتوري لما أصبح معروفًا، في ما بعد، بـ "الدارونية الاجتماعية". كان سبنسر يرى أن خلاصة السيرورة تنتهي في حرية الرأسمال Laissez-faire capitalism. ثم جاء من بعده تلاميذه الذين كانوا من أوائل الفابيين المعجبين بتجربة الاتحاد السوفياتي، ليقولوا إن النهاية هي الشيوعية. أما الأجيال الأخيرة من المنظرين الذي ودوا أن يكونوا أكثر انتماءً لمفاهيم العدالة فقد رشحوا "الرأسمالية الديمقراطية" لتكون هي النهاية لتلك "السيرورة التطورية".

صمت الحيوانات
في الفصل الذي أسماه غراي "صمت الحيوانات" وأتخذه عنوانًا للكتاب، يقول غراي، يبدو أن البحث عن الصمت أمر يخص البشر وحدهم. فالحيوانات تهرب من الأصوات، ولكن من تلك التي يصدرها غيرها. أما البشر فوحدهم هم الذين يودون اسكات الضجيج الثائر في رؤوسهم. فلأنهم متعبون من الثرثرة الداخلية فإنهم ينزعون إلى الصمت ليخرسوا أصوات أفكارهم. فالذين يبحث عنه الناس عندما يبحثون عن الصمت إنما هو نوع مختلف من الضجيج. فالمؤسسات البشرية التي أُنشئت من أجل الصمت مملوءةٌ في حقيقة أمرها بالضجيج. فالكنائس لا تنعم بالصمت إلا حين تكون فارغةً من الناس. يقول غراي إن رجل الدين الكاثوليكي ماكس بيكارد يرى أن صمت البشر مختلف عن صمت الحيوانات. فهو يراه صمتًا شفافًا ومشرقًا لأنه صمتٌ يواجه العالم؛ فهو يطلق العالمَ ويستقبله عائدًا في كل لحظة ليدخل في ذاته مرة أخرى. فصمت الحيوانات ثقيل مثل الحجارة. ولكن غراي، رغم أنه يوافق على ما قاله بيكارد أن صمت الحيوانات مختلف من صمت البشر، إلا أنه يخالفه الرأي قائلاً: في حين أن صمت الحيوانات يمثل حالة طبيعية من الراحة، فإن صمت البشر يمثل هروبًا من حالة الضوضاء الداخلية. فالصمت لدى الحيوانات حق بالميلاد، في حين أنه حالة فالتة ومتطايرة لدى البشر يهربون إليها لكيلا يكونوا ذواتهم التي هم عليها. يسعى البشر إلى الصمت من أجل الخلاص من ذواتهم. أما بقية الحيوانات فتستمتع بالصمت لأنها لا تحتاج خلاصًا من شيء. ويرى غراي أن عكس بيكارد لخصائص الصمت البشري وصمت الحيوانات يضع البشر يجلسون فوق منصة عالية تمامًا مثلما فعل مارتن هيدجر، الذي يصف الحيوانات بأنها "مساكين العالم" (صمت الحيوانات، ص 163). فمن وجهة نظر هيدجر المسيحية الجديدة فإن الفئران والنمور والغوريلا والضباع إنما تعيش لكون ردود فعلها تجاه العالم سلبية. فالحيوانات بافتقادها أي مفهوم لمعنى "الكينونة" المحير، فإنها ليست أكثر من أشياء. ومن الجانب الآخر فالبشر ليسوا أشياء لأنهم يشكلون العالم الذي يعيشون فيه. ويرى غراي إن ذلك ليس صحيحًا تمامًا؛ فكل حيوانٍ صانع لعالمه. فعالم الصقر المحلق في الهواء هو خلقٌ بذات المقدار الذي به عالم الإنسان المشدود إلى الأرض. ربما يكون هناك احساس من نوع ما بأن الحيوانات مسكينة، غير أن مسكنتها هي حالة مثالية لن يفلح البشر قط في تحقيقها. ففي حين يطفف المسيحيون وتوابعهم من "الانسانويين" صمت الحيوانات، فإن الحسد ربما يكون هو الذي يدفعهم لفعل ذلك.

اللغة بين البشر والحيوانات
يقول غراي إن الشقة بين صمت البشر وصمت الحيوانات إنما حدثت نتيجة لاستخدام اللغة. ولا يعني هذا أن بقية الحيوانات تفتقر إلى اللغة. فخطاب الطيور أكثر بكثير من المجاز اللغوي البشري. فالحيوانات تعيش في نومها، وتتحدث إلى نفسها وهي تقوم بتأدية شؤونها اليومية. فالبشر هم النوع الوحيد الذي يستخدم أفراده الكلمات ليشيدوا صورًا للذات، وقصصًا لحيواتهم. ولكن إذا كانت بقية الحيوانات تفتقر إلى هذا المنولوج الداخلي، فليس من الواضح لماذا تضع هذه المزية البشر في مقام أعلى. لماذا يجعل كسر الصمت ثم المعاضلة بضجيجٍ شديدٍ لاستعادته مرة أخرى، انجازًا؟ يقول غراي، إن الانسان هو الفراغ ينظر إلى ذاته! وهي صورة جميلة دون شك. ولكن لماذا تمنح الانسان ميزة؟ فعيون الحيوانات الأخرى ربما تكون أكثر اشراقًا، لأن البشر لا يملكون فكاكًا من رؤية العالم من خلال حجاب اللغة. فمن خلال الشعر والدين والانغماس في العالم الطبيعي يحاول البشر نثر الكلمات التي تلبس حياتهم قناعًا. أن تتخطى اللغة بوسيلة اللغة ذاتها أمر مستحيلٌ بالبداهة. وقد أكد غراي نفس هذا المعنى في كتابه "كلاب من قش"، السابق لكتاب "صمت الحيوانات"، حيث يقول: "الكتابة تخلق ذاكرةً مزيفةً، فيها يستطيع البشر تضخيم تجاربهم إلى ما وراء حدود الجيل الواحد وحدود أسلوب الحياة. وفي نفس الوقت تسمح الكتابة للبشر باختراع عالم من الكيانات التجريدية والتعامل معها خطًأ بوصفها الواقع. فتطور الكتابة مكّن البشر من تطوير فلسفاتٍ أوهمهم انغماسهم فيها أنهم لا ينتمون إلى العالم الطبيعي" .

ويستطرد غراي في مكان آخر قائلاً، من الممكن أن نفهم التأمل على أنه نشاط لا يهدف إلى تغيير الواقع، ولا إلى فهمه، وإنما ببساطة، أن نتركه ليكون ما هو عليه. فالتأمل بمثل هذه الصيغة معروفٌ لدى المتصوفة، فهو يتمحور حول محو الذات. ولكن بلا غرضٍ في الدخول في أي ذات عليا؛ وذلك هو الوهم الذي تركته الحيوانات وراء ظهرها. فالمتصوفة يودون أن يقودهم هذا الوهم إلى طريقة جديدة للعيش. فهم على حق في تفكيرهم بأن الحياة المصنوعة من الفعل فقط، ليست سوى سعيٍ وراء أشباح.

قرى وفرويد
في الباب الثاني من كتابه "صمت الحيوانات" يعرج غراي على فرويد، فيقول أن فرويد زرع علامة استفهام فوق أفكار الحداثة. فمن دون أن يتنازل عن إلحاده الثابت، أعاد فرويد تشكيل أحد أهم رؤى الدين، وهي أن الإنسان قارورة مكسورة. يقول غراي إن يحول بين الإنسان وتحقيق ما يريد ليست هي الظروف المحيطة به وحدها، وإنما النزعات التي تجهض ذلك التوق داخل نفسه. فغريزة الحبEros والابتكار تمثلان مكونًا رئيسًا في تكاملية أن تكون إنسانًا. ولكن فرويد يرى أن غريزة الموت Thanatos التي تجد تعبيرها في الكراهية والتخريب هي الأخرى طرف من هذه التكاملية. فقصد المعالجة النفسانية إذن لا يتمثل في تحقيق السلام بين هذه النزعات المتحاربة، أو لتحقيق النصر لواحدةٍ منها على الأخرى، وإنما إحداث تغيير في العقل يصبح ممكنًا من خلاله قبول الاثنتين معًا. فعبر التاريخ وما قبل التاريخ ظل الاعتقاد السائد والمقبول أن هناك علة في الحيوان البشري. فالصحة ربما فُهمت بوصفها الحالة الطبيعية للحيوانات، ولكن المرض هو الأمر الطبيعي في البشر. بعبارةٍ أخرى، أن تكون معتلاً بصورة مزمنة هو جزء من أن تكون إنسانًا. فالمحللون النفسانيون العصريون وقبائل الشمامان يجرون نفس المعالجات تقريبًا. يقول غراي إن ما يميز فرويد على سابقيه ولاحقيه من المعالجين النفسانيين أنه لم يطرح شفاءً للروح. نتيجة لكتابات فرويد، أصبح يُنظر إلى التناقضات الطبيعية في العقل البشري على أنها عللا تحتاج المعالجة. قَبِل فرويد مقولة أن الانسان كائن معتل، ولكنه كان أصيلاً في الاعتقاد بأن علل الإنسان ليس لها علاج. ففي حين عمد فرويد إلى تسليح الفرد البشري ضد العالم، كان يعرف أن العالم سوف يكسب المعركة ضد الفرد البشري في نهاية المطاف. فالقدر وليس الاختيار هو ما يقرر أين نُولد، ولأي والدين نُولد، وأي ظروفٍ سوف تحيط بينا، وإلى أي حد سوف نعاني في حيواتنا. فالمفكرون الحداثيون يظنون أن الانسان بوسعه أن يكون سيد مصيره، وهذا الاعتقاد، إلى حد كبير، هو نفس الاعتقاد بأنه لا يوجد قدرٌ أصلاً. فغاية الاستطباب النفسي لدى فرويد هي أن نقبل أقدرانا. ويقول غراي أن هذا المنحى لدى فرويد ليس منحى استسلاميًا بقدر ما هو منحى للاصطراع العقلي مع القدر في الحيز المتاح. يقول غراي، في منحىً مشابهٍ لمنحى "نيتشة"، ولكنه أكثر صحوًا منه، تصور فرويد شكلاً من الحياة وراء ثنائية الخير والشر. ويمثل هذا الفصل الذي كتبه غراي عن فرويد وأجرى مقارناتٍ فيه بينه وبين شوبنهاور، عارضًا فيه رسائل فرويد إلى انشتاين، وتجربة موت فرويد بالسرطان، وحرصه على تدخين السيجار حتى آخر لحظة، أكثر الفصول امتاعًا وإثارة للتساؤلات في كتابه "صمت الحيوانات" (ص 83 -92).

خاتمة
ما من شك أن الرؤى التي قدمها جون غراي رؤى جديدة وطازجة في وقت انخفض فيه صوت الفلسفة كثيرًا وتراجع الاهتمام بها حتى وسط النخب. تعدت رؤى جون غراي أطر النقد الذي صوبته أفكار ما بعد الحداثة لأفكار حقبة الحداثة، ووصلت بالمراجعة النقدية إلى لب فكرة الإنسان عن ذاته، بوصفه كائنًا يمتلك وضعًا يميزه عن بقية الأحياء، وشككت في وهمه المسيطر عليه بأن في وسعه أن يكون، عبر التطور، سيدًا لمصيره. غير أن أفكار غراي على قوتها وحجيتها تصبح مربكة، بل وربما مفسدةً للمعنى في الوجود الإنساني، وهو معنى ظل الإنسان يشيده عبر الحقب. ولربما أمكننا التساؤل: هل ملك الإنسان، في أي يوم من الأيام، من تاريخه، أن ينفك عن رؤية ذاته كمخلوقٍ مميز؟ وهل في وسعه أن يملك في مستقبله، سوى أن يفكر في نفسه بهذه الطريقة التي انتقدها غراي ووصفها بأنها محض وهم؟ البنى العقدية والتصورية التي شيدتها البشرية، عبر التاريخ، أضحت جزءًا لا يتجزأ من منظومة صناعة المعنى في الوجود الإنساني، ووسيلة حاسمةً من وسائل التصالح مع فكرة الوجود والعيش، وخلق التوازن النفسي والوجداني، وحراسة الكثير من منظومات القيم. ولا يقلل من أهميتها، من الناحية العملية، كونها وهمًا أو حقيقة. فما هو وهمٌ أو حقيقي لا ينسب إلى العالم الطبيعي، وإنما إلى العقل البشري. فالمشكلة في العقل البشري الذي من طبيعته أن يكون محشوًا بالأوهام. فهذه الأوهام ذاتها جزءٌ من الناموس الكوني، وليست شيئًا خارجًا عنه، خاصة إن نحن استخدمنا رؤية الفيلسوف الأمريكي كين ويلبر . يرى ويلبر أن مشكلة العقل الحداثي رسم خريطة للعالم دون أن يرسم نفسه فيها، معطيًا هذا المسلك "راسم الخريطة الذي هو ليس جزءًا منها". يقع جون غراي، هو الآخر، في ما أرى، في اشكالية فصل الذات عن الموضوع، كما وقع قبله ايمانويل كانط. ومع ذلك، نجد أن غراي مقرٌّ بأن المتصوفة، على سبيل المثال، يودون أن يقودهم الوهم إلى طريقة جديدة للعيش، وهذه تشفع له في تقديري. في سياق مشابه، يقول محمود محمد طه: "سايـر الديـن طفـولة البشرية في سحيـق الآماد، وأحسن مسايرتها، وكان بها رفيقًا، شفيقًا، يمد لها في الأوهام، والأباطيل، التي كانت تكتنف تفكيرها، ريثما ينقلها، على مكث، وفي أناة، من وهم غليظٍ، إلى وهمٍ أدق، ومن باطلٍ غليظٍ إلى باطلٍ أدق، وهكـذا، دواليك" . ولذلك فإن اخبار البشر بأن ليس للتاريخ هدف، وأنه لا ينبغي أن نبحث عن معنى للوجود، أو للحياة، وأن تنامي الخير وتنامي الحس الأخلاقي لا تتم وفق منظومة تراكمية كما يجري في العلوم الطبيعية، وأن على البشر ألا يجهدوا أنفسهم في إيجاد معنى له، دعوة صفوية، ولن تجد، بالضرورة، استجابةً واسعةً. ولكن هل دفع جون غراي بالتنوير إلى أفق جديد، وجذب التفكير الفلسفي إلى منطقة جديدة؟ نعم، لقد فعل دون أدنى شك.


((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
أضف رد جديد