الصلح الإثيوبي الإريتري: الدلالات والانعكاسات

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

الصلح الإثيوبي الإريتري: الدلالات والانعكاسات

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


الصلح الإثيوبي الإريتري: الدلالات والانعكاسات

كتبت في بداية هذا العام مقالةً عن التخبط الجيواستراتيجي لنظام الإنقاذ. وجاءت تلك الكتابة، على أثر تطورٍ لافتٍ، في التقارب التركي السوداني، كان قد أعقب، بصورةٍ مفاجئة، ميل نظام الانقاذ إلى المحور الإماراتي السعودي المصري، وما تبع ذلك من اشتراك نظام الانقاذ في حرب اليمن. ولقد أثارت تلك القفزة، في التقارب التركي السوداني، حنقًا مصريًا، سعوديًا، إماراتيًا. وقد جرت القفزة في التعاون السوداني التركي، في نفس الفترة التي استنجد فيها الرئيس عمر البشير بروسيا، على رؤوس الأشهاد، طالبًا منها أن تدرأ عنه خطر الاستهداف الأمريكي. وقد قلت، حينها، إنني أتوقع أن تحدث، نتيجةً لتلك الحالة من الحنق، أفعالٌ مضادةٌ، من نوعٍ ما، ربما تكشف عنها الأيام المقبلة. وها هو بعضٌ مما توقعته، قد أخذ في الظهور. لكن، للحق، فقد فاجأني، ما جرى، إذ لم أتوقع أن تجيء ردة الفعل بهذه السرعة، وعلى هذا النحو الذي جرى؛ خاصةً، النجاح اللافت، في مصالحة إثيوبيا وإريتريا، الذي قلب التوازنات الجيواستراتيجية، في منطقة القرن الإفريقي، وحوض النيل، رأسًا على عقب. وجعل نظام البشير، في أضعف أحواله على الإطلاق. ولربما سيكون لهذا التحول الكبير، ما بعده، في تحديد عمر نظام الإنقاذ، أو، على الأقل، تغيير طبيعته، إلى ما يخالف، كلِّيًا، الصورةَ التي طالما عرفناه بها. وها هي مصر، مما أظهرته كتابات العاملين في مركز الأهرام، تدخل، بقوة، مستغلَّةً هذه الحالة من فقدان الاتزان، التي دخل فيها نظام البشير.

قلت أيضًا، في نفس المقالة القديمة، التي أشرت إليها، إن أزمة الخيارات الجيواستراتيجية للسودان، بدأت من قبل الاستقلال. ولقد كان سببها هذا التوجه العروبي، لدى النخب السودانية، التي أدارات حراك الاستقلال، وأدارت، من بعد الاستقلال، مجمل شؤون الدولة. فقد جرَّ الاستلاب العروبي السودانَ من حاضنته الإفريقية، والشرق إفريقية، ورماه في أوار جيوبوليتيكا منظومة المشرق العربي، المتمحورة حول القضية الفلسطينية، التي ما فتئت تسير من خسارةٍ، إلى خسارةٍ أفدح من سابقتها. خرج السودان بذلك الخيار الخاطئ، من المظلة البريطانية، ليضع نفسه، بلا سببٍ وجيهٍ، يخصه، في سلَّةِ معاداة الغرب لعقود طويلة. ولقد توَّج نظام الانقاذ الحالي، حالة العداء للغرب، بالانخراط في مناطحةٍ ساذجةٍ للغرب، وفي تحالفاتٍ مع طيفٍ واسعٍ من المتطرفين، جلبت على السودان، حالة العزلة الخانقة، التي توشك، الآن، أن تخمد أنفاس كل شيءٍ، في دولته.

كان في وسع السودان، أن يسلك طريقًا مماثلاً للطريق الذي سلكته، كينيا، ويوغندا، والهند، وسائر المستعمرات البريطانية السابقة. أي، أن ينصرف إلى العمل على تثبيت، واستدامة، حالة الاستقرار، التي ورثها من البريطانيين، والتركيز على جهود بناء الدولة. بل كان في وسع السودان، أن يسلك دربًا كالذي سلكته سلطنة عُمان، التي بقيت مستظلةً بالمظلة البريطانية، حتى يومنا هذا، مفضِّلَةً، من أجل مصالحها القطرية، التغريدَ المستمر، خارج السرب العربي، متضارب الأهواء. أبعدت سلطنة عمان نفسها، عن كل المؤثرات، الخارجية، التي تعطل جهود بناء دولتها، وتضر بعلاقاتها الدولية.

أدى ضعف الرؤية الجيواستراتيجية، لمشروع الاستقلال السوداني، إلى حالة مستدامةٍ من الفشل العام. وهو فشل تواصلت حلقاته، حتى وثب الإخوان المسلمون إلى السلطة، عبر انقلابهم العسكري الذي جرى في يونيو 1989. بوصول الإخوان المسلمين إلى السلطة، وتراجع الأنظمة العروبية، من ناصرية، وبعثية، خرج السودان من الانجرار السياسي العروبي، الممتد منذ الاستقلال، إلى انجرارٍ آخر، وضعه على مسارِ إيديولوجيا الإسلاميين، عابرة الأقطار. ولا اختلاف، من حيث الخطأ الجيواستراتيجي، بين الانجرارين، فعداء الغرب، هو ما يجمع بينهما. كما تجمع بين الانجرارين، أيضًا، الصبغة الإيديولوجية الشمولية، المنكرة لتنوع السودان، ولطبيعته الثقافية، الكوشية، الشرق إفريقية. أيضًا، أضاف الانقاذيون، إلى عداء الغرب، منذ أول يومٍ وصلوا فيه للسلطة، عداء الدول العربية الخليجية، وعداء دول القرن الإفريقي. فقد انخرطوا في تدخلات في الإقليم، وفي أعمال إرهابية، متعددة، انكشفت لأهل الإقليم، وللمجتمع الدولي. فدخلت البلاد، بسببها، في فخ العزلة الدولية والإقليمية، المحكمة، التي وصلت الآن إلى أحرج مراحلها.
تحول عمى نظام الإنقاذ الجيواستراتيجي، ليصبح عمى تكتيكيًا، به فقد القطر جنوبه. انفصل الجنوب، وتعمَّقت الأزمة الاقتصادية، وتفاقم الخطر على بقاء النظام، فاضطر إلى تغيير تحالفاته، فقام بطرد الإيرانيين. لكن، لا أحد من أهل الإقليم، عربُهم، وغيرُ عربِهم، صدَّق، أن الانقاذ غيرت خطها، أو أجندتها. ولا يزال من جرَّوا الانقاذ، مكرهةً، إلى مستنقع حرب اليمن، يقولون، إن سيفها معهم، ولكن قلبها، مع قطر، ومع تركيا؛ أي، مع جملة مشروع الإسلاميين للعالم العربي.

الإنقاذ على منصة الخنق
أتقنت الانقاذ، بالممارسة الطويلة، لعبة التكتيكات السياسية، واستطاعت أن تلعب على أكثر من حبل، وأن تقوم بالملاحة بسلامٍ، وبسلاسةٍ، وسط أمواج الإشكالات الداخلية، والخارجية، لما يقارب الثلاثين عاما. وقد غرَّتها النجاحات المتتالية، في الخروج من المطبات، أيَّما غرور. فهي، بحكم بنيتها العقلية المؤدلجة، وقلَّةِ محصولِ كبار قادتها من المعارف، ومن المرونة المطلوبة، لإدارة دولة شديدة التعقيد، كالسودان، لم تنتبه إلى خطر الألاعيب التكتيكية، قصيرة الأجل. يضاف إلى ما تقدم، أنها استهانت بقدرات الغرب، وبقدرات القوى الإقليمية؛ في الجوار الشرق إفريقي، وفي الجوار العربي الخليجي، وفي الجوار المصري. وها هو العمى الجيواستراتيجي، وسوء التقدير، يقودها، مغمضة العينين، إلى فخِّ الخنقِ. وتقف الإنقاذ، الآن، على منصة الخنق، وهي في أكثر أحوالها ضِعَةً، وضعفًا، وقِلَّةَ نصير.

راهنت الإنقاذ على حالة التباعد المصري الإثيوبي، فوقفت مع إثيوبيا في ملف سد النهضة، لكي تجد مساحةً للمناورة مع مصر. وراهنت، في نفس الوقت، على حالة استمرار حالة العداء بين إثيوبيا وإريتريا، فمالت نحو إثيوبيا لتضعف أوراق إريتريا، التي يمكن أن تستخدمها ضدها. استنادًا على هذه المعطيات، وغيرها، نظَّمت الانقاذ أوراقها التي تلعب بها في المنطقة. لكن الأوضاع تبدلت، فجأةً. فقد انتهت حالة العداء الإثيوبية الإريترية. وانتهت حالة الاحتقان بين إثيوبيا ومصر، حول ملف سد النهضة. أكثر من ذلك، احتضنت السعودية والإمارات، النظامين الإثيوبي والإريتري، واستقبلت رئيسي الدولتين بحفاوةٍ لافتة. بهذه التغيُّرات الدراماتيكية السريعة الكبيرة، فقد نظام الانقاذ معظمَ أوراقه، بما فيها ورقة الصومال، التي كانت إريتريا تخدم فيها أجندة الإسلاميين، لا حبًا فيهم، وإنما كيدًا لغريمتها، إثيوبيا. باختصارٍ شديد، فقدت الانقاذ، الآن، أوراقها التي كان تدير بها تحركاتها المتقلبة في المنطقة، وتمارس بها ألاعيبها، ذات الأهداف القصيرة. ويمكن القول إن الحلف السعودي، الإماراتي، المصري، البحريني، قد كسب، حاليًّا، رُجحانَ الكفةِ، في منطقة القرن الإفريقي، ووادي النيل. وهو نجاحٌ يعد خصمًا على كفة الحلف التركي، القطري، الذي لا تزال الإنقاذ محتفظةً معه، بشعرةِ معاوية. كسبت إثيوبيا وإريتريا مغانم كثيرة، من الحلف السعودي، دون أن تقحما نفسيهما في حرب اليمن. وخرج السودان بخفي حنين، وبجنود يموتون كل يوم، في حربٍ لا ناقة لهم فيها، ولا جمل.

السودان جزء من منظومة القرن الإفريقي
يُحمد لمحمد أبو القاسم حاج حمد، أنه كان أول من دعا إلى كونفدرالية القرن الإفريقي. لكن، لم يكن طرح حاج حمد، في هذه الوجهة، عميقًا، بالقدر المطلوب. فقد اعتل طرحه، بسبب علل شخصيته. ومن ذلك، عروبيته، وانغماسه الشخصي، مع الأنظمة المختلفة في المنطقة. ثَلَمَ تماهي حاج حمد مع مختلف الأنظمة، في الجزيرة العربية، وفي القرن الإفريقي، وفي الهلال الخصيب، الحدَّ القاطعَ لطرحه. ومع ذلك، يعود له الفضل، في التأشير نحو هذه الوجهة الصحيحة.

بقي أن نقول، إن الميل الإثيوبي الإريتري، إلى المحور السعودي الإماراتي، المصري، البحريني، يقف وراءه الخوف من مشروع الإسلاميين، ومن وسائل تحقيقه العنيفة، التي بدأت تظهر عقب ثورات الربيع العربي. وتملك أجهزة استخبارات المنطقة، شرقي وغربي البحر الأحمر، من الأدلة، ما يثبت أن النظام السوداني، هو حصان طروادة الإسلاميين، في منطقة القرن الإفريقي، ووادي النيل. والنزعة التوسعية لدى محور الإسلاميين ليست وقفًا عليه، وحده، فالمحور الآخر، له نزعته التوسعية وحروبه من أجلها. يضاف إلى ذلك أن السعودية ظلت، تعمل على تصدير النسخة الوهابية من الإسلام، إلى مختلف الأقطار، مشعلة بذلك الصراع المذهبي. لكن، يبدو أن التوجه الجديد للسعودية، قد شجع كلا من إثيوبيا وإريتريا، على التقارب معها، ومع حلفها. يضاف إلى ما تقدم، فإن لهذا التقارب فوائده المالية، والاقتصادية، والأمنية، الجمة، لكلِّ من إثيوبيا وإريتريا.

ليس للسودان مصلحة في الانتماء إلى أيٍّ من الحلفين العربيين المتنافسين. وتنحصر مصلحة السودان، فيما أرى، في أن يكون جزءًا من منظومة القرن الإفريقي، التي بدأت في التشكُّل مؤخرا، فهذا يعينه على أن يتعاطى مع الطيف العربي، باتزانٍ، يضمن له استقلالية قراره. فميل إثيوبيا وإريتريا، إلى الحلف الذي تتزعمه السعودية، ميلٌ تكتيكي، وليس ميلاً استراتيجيا. فهذان قطران يعرفان كيف يديران مصالحهما، بناءً على معرفتهما الراسخة بطبيعة ثقافتهما، وهويتهما الوطنية، وصورة مستقبلهما. ولذلك فقد ظلا قطرين محترمين، ومهابين. وحين يدخلان في صفقةٍ ما، مع الفضاء العربي، يكونان رابحيْن فيها.

أما السودان فقد ظل، منذ استقلاله، قطرًا مستلحقًا، مستتبعًا. أضاعت نخبه التي أسلمت قيادها، منذ منتصف القرن الماضي، إلى العروبيين، والإسلاميين، على التوالي، بَوْصَلَته الوطنية، الهادية. وهكذا انتهى السودان، إلى مجرد كمٍّ مهملٍ، يجري به استكمال المقايضات الوقتية، في توازنات الإقليم، ما أفقده وزنه الجيواستراتيجي، بل، واحترامه. ودعونا، فقط، نقارن بين الكيفية التي استقبل بها السعوديون والإماراتيون، الرئيسين؛ الإثيوبي، أبي أحمد، والإرتيري، أسياس أفورقي، والكيفية التي ظلوا يستقبلون بها الرئيس البشير، الذي حفيت أقدامه، من كثرة الركض إليهم.

خلاصة القول، يعاني السودان من انعدام الرؤية، ومن عدم معرفة حقيقة انتمائه الثقافي، ومن ثم أهميته الجيواستراتيجية. لا مناص، البتة، من رجوع السودان إلى حاضنته الشرق إفريقية، بأن تكون سياساته متناغمة معها. وأن تكون أجندته الوطنية هي همه الأول والأخير. نحن، الآن، أحوج ما نكون، إلى رسم تصورٍ جيواستراتيجي، سودانيٍّ، يخدم المصلحة الوطنية، بعيدًا عن التماهي، الكلي، مع أي محور من المحاور العربية، أو الإقليمية. ولا تكون البداية، في هذا المسار، بتبديل الوجهة السياسية، وحسب، وإنما بتبديل الوجهة الثقافية، في المقام الأول. ويقتضي ذلك، مراجعاتٍ تاريخيةً، جوهرية. إضافةً إلى نقدٍ عميقٍ لتجربة الاستلحاق، والاستتباع، التي بدأت منذ الغزو الخديوي. ثم مراجعة تجربة الاستقلال، ونقد أخطائها المتكررة. هذا هو الطريق للخروج بملامح جديدة، لأفقٍ جديدٍ، منفتحٍ على حراك الكوكب، يكفل للبلاد، الاستقرار والنماء. ولا يكتمل ذلك، إلا بتعليمٍ جديدٍ، وأكاديميا ومراكز بحوث مستقلة، مرتبطة بنظيراتها في القرن الإفريقي. وكذلك، بإعلام جديدٍ، يرفد جهود الصحوة الثقافية، ويحدو قوافل إعادة بناء الدولة السودانية، التي أوشكت أن تتحول، بسبب فقدان الرؤية، إلى هشيم تذروه الرياح. هذا هو واجبنا المنزلي homework، الذي طالما تقاعسنا عن القيام به. وكل المؤشرات تقول: إن الأوان قد آن، لكي نطَّلعَ به. وما أكبرَ، وأطولَ، غفلة مثقفينا، وأكاديميينا، وأحزابنا، وسياسيينا، وانصرافهم عن هذا الواجب المركزي.


((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


بين سُلْطةِ البِطانةِ ووهن المعارضة

الحكام هم أكثر خلق الله عرضةً للإصابة بعمى البصيرة. فمن طبع الحاكم أن يعيش في حوصلةٍ منفصلةً تمامًا عن الواقع الذي يعيشه شعبُه. والسبب هو الإحساس بالاستحقاق المطلق في الترف، ورغد العيش، الذي يجعل الحاكم غير قادرٍ على رؤية الواقع، على نحوٍ مغاير لما يعيشه هو، ومن حوله. ولا تُلجم نزواتِ الحكَّامِ في الترفِ ورغدِ العيش، إلا الأنظمةُ الديمقراطيةُ، الراسخةُ، الفعالة. ولربما أمكن القول إن اللَّجمَ المؤسسيَّ، لشهوات الحكام في كنز المال، وفي حياة الترف، والتبذير، والدعة، لم يبدأ، بصورة جدية، إلا بعد ظهور أنظمة الحكم الديمقراطي. وبطبيعة الحال هناك استثناءات؛ فقد عرف التاريخ القديم، حكامًا زاهدين في حطام الدنيا، سبقوا مجيء الأنظمة الديمقراطية الحديثة، مثلما جرى في صدر الإسلام، ولكن، لفترةٍ قصيرةٍ جدا.

تحيط بكل حاكمٍ، بل، وكل رئيسٍ، في أي مجالٍ من مجالات الحكم، أو العمل المؤسسي، بطانةٌ، من أهل المصلحة. والبطانة وفقًا لقاموس المعاني، هم الأصفياء الذين يكشف لهم الرجل أسراه. وفي السياسة هم المقربون المحيطون بالحاكم. وهناك بطانة خيرة وهناك بطانة شريرة. وتحرص البطانة الشريرة، أشد الحرص، على أن تصبح عين الحاكم، أو المسؤول، التي يرى بها الأمور. فدور هذا النوع من البطانة، النابع من سوء القصد، يتلخص في منع الحاكم، أو المسؤول، من رؤية الأمور، على حقيقتها. تقوم تلك البطانة بصناعة صورةٍ ورديةٍ، لواقعٍ وهميٍّ، تغذِّي بها عقل الحاكم. وتظل تعيد عليه من صورٍ ورديةٍ، حتى يصدقها، ويكتمل إيمانه بها. وبطبيعة الحال، يود كل أنسان أن يكون مَرْضَيًّا عنه. ولأن البطانة تعرف ذلك، فإنها تسرف في تعبيرها، عن رضاها عن الحاكم. ويقوم الحاكم، بدوره، بسحب ذلك الرضا الذي يحسه في تلك الدائرة، المحيطة به، على النطاق الأوسع. فيخالُ أنَّ كلَّ الشعب راضٍ عنه.

لا يخرج من مثل هذه الأشراك، والفخاخ، سوى الأذكياء، الغارفين من معين الحكمة القديمة. غير أن هؤلاء نادرًا ما يصلون إلى السلطة. فالسلطة قد ظلت، عبر التاريخ، منحصرةً، بقدرٍ كبيرٍ جدا، في متوسطي المواهب، وخامديها. تستولي البطانة على عقل الحاكم، عن طريق إمطاره، بالإعجاب والثناء، بصورةٍ متواصلة، وحشو دماغه، بأنه عبقريٌّ، وأنه فريدُ عصره، وأوانه. ويقود ذلك الإطراء، المستمر، الحاكمَ إلى الركون إليها، والاطمئنان الكامل لها. فتصبح رؤيته هي رؤية بطانته. بل، وتصبح، حتى لغة خطابه، هي لغة خطابها. وهكذا يغرق الحاكم، أو المسؤول، في التضليل، حتى يبلغ مرحلة عمى البصيرة، وحالة التنويم المغناطيسي الكاملة.

قليلٌ جدًا من الحكام ومن المسؤولين من يشكك في حقيقية نوايا البطانة، وصدقها، فلا يركن إليها، ويحرص، من ثم، على معرفة حقيقة ما يجري في الواقع، بنفسه. لكنَّ، هذا النوع من الحكام والرؤساء، أندر من الكبريت الأحمر. ولقد قدمت ثورات الربيع العربي، أقوى الأدلة، على المدى العجيب، الذي يمكن أن يبلغه عمى البصيرة، لدى الحاكم. والأمثلة الأكثر بروزًا، في هذا الباب، هي أمثلة، زين العابدين بن علي، وحسني مبارك، ومعمر القذافي، وصدام حسين، وعلي عبد الله صالح. وقد مات ثلاثةٌ من هؤلاء الرؤساء الخمسة، الذين بقوا في الحكم لحوالي الثلاثة عقود، ميتاتٍ مأساويةٍ عنيفة، بسبب هذا النوع من عمى البصيرة. ونجاَ الآخران، من الموت، المأساوي، الفضائحي، العنيف؛ أعني، بن علي، ومبارك. ولقد نجيا لأنهما تخليا، أو أُجبرا، على التخلي عن الإنكار، والمغالطة، في اللحظة المناسبة.

كلمة "بطانة"، كلمة استُخدمت كثيرًا في الأدبيات، التي عالجت شؤون الحكم، في التاريخ العربي الإسلامي. وهي مرتبطةٌ عضويًا، بأنظمة الحكم المطلقة، أو الشمولية. ففرص قيام البطانة، في الأنظمة الديمقراطية، محدودةٌ جدا. وإن هي قامت، فإن تأثيرها يكون قليلا. فللنظام الديمقراطي، قوانينه وضوابطه التي تحرس الشفافية، والأداء الحكومي العلني، والمحاسبية. وكل ذلك يضعف فرص نشوء البطانة، كما يضعف تأثيراتها. وعلى خلاف الأنظمة الديمقراطية، فإن الحكام في الأنظمة الشمولية، يقيمون علاقاتٍ اجتماعيةً لصيقةً بمعاونيهم، ومسانديهم، الذين يتحولون إلى جزءٍ من البطانة، وتصبح صلتهم بالحاكم، صلةً اجتماعيةً، تجري بصورة شبه يوميةٍ، خارج إطار العمل الرسمي. وبمرور الزمن تصبح هذه الصلة، مماثلةً، في قوتها، لقوة صلة الأسرة الصغيرة، والأسرة الممتدة. ويعين هذا الجو، شبه الأسري، باجتماعياته، وثرثراته، وقفشاته، وبعده عن قيود العمل الرسمي ومقتضياته، على إحكام القبضة على رؤية الحاكم، وإبعاده عن رؤية الواقع. والحكام الذين يصبحون عجينةً طيِّعةً في يد البطانة، غالبًا ما يكونون من ذوي المعارف المحدودة، ومن ذوي البناء الأخلاقي الهش.

الإنقاذ وقبضة البطانة
ظل السودان، طيلة فترة حكم الانقاذ، محكومًا ببطانات السوء. وقد وجدت، هذه البطانات، التي تغيرت، عبر السنوات، رئيسًا، لا يملك الاستعداد، ولا القدرة، لأن يرى سوى ما تريه. لذلك، بقي النظام سائرًا في طريق المناورات الدائرية، غير المنتجة. مؤثرًا نهج الالتفاف المستمر، حول القضايا الجوهرية. ومن آخر هذه المناورات الفاشلة، ما ظل يقوم به النظام، عبر أكثر من أربع سنوات، من تفريغٍ، ممنهج لمحتوى، لما أسماها، استنادًا على "خطاب الوثبة"، "مبادرة الحوار الوطني. لتبقى، حالة الاحتقان السياسي، في محلها. وتستمر، من ثم، عزلة النظام الداخلية، إضافة إلى عزلته الإقليمية والدولية، المزمنة. لكل ذلك، تعذر وجود منفذ للخروج من الأزمة المستطيلة، التي وصلت الآن مرحلة الحرج البالغ، الذي ينذر بالكوارث.

في الوقت الذي ظل النظام يمارس فيه هذه المناورة، قصيرة النظر، أخذت الأوضاع الاقتصادية، في البلاد، في التردي، بصورةٍ بالغة السرعة. وأخذت عزلة النظام، نتيجة لأخطائه المتوالية، على مدى ما يقارب الثلاثين عامًا، تحيط برقبته، وتمسك بخناقه. ومع ذلك، بقي النظام مصرًّا على اتباع أساليبه القديمة. بل شرع، الآن، في العمل على كتابة الدستور، بنفسه، من دون شركاء، ممن لهم وزن. ونظامٌ كهذا، لا يملك، بحكم طبيعته، وتجربته، أن يأتي سوى بصيغةٍ لا تمت بأي صلةٍ لمفهوم الدستور. أيضًا، أخذ النظام يعمل، منذ الآن، في وجهة تزوير نتائج الانتخابات القادمة، إن هي قامت. وهذا هو عين عمى البصيرة، الذي تتسبب فيه بطانات السوء، ويصيب مركز القرار، في هذا النوع من الأنظمة الكليبتوقراطية.

البِطانة المنتفعة من الأوضاع القائمة، الغارقة في خدمة مصالح الذات، والعائلة، والعشيرة، التي راكمت الثروات الطائلة من سرقة المال العام، ونهبت المقدرات، وهدمت حكم القانون، وفتحت البلاد للنهب الأجنبي، ستبقى حريصةً، أشد الحرص، على جعل الخيارات السياسية، حبيسة في المجرى الذي يؤمن لها الحماية، من المحاسبة، ويضمن لها عدم الطرد من مراتع الجاه والثروة. ويمكن القول، وبكل ثقة، أن إمساك بطانات السوء الانقاذية المتتالية، بمراكز القرار، عبر ما يقارب الثلاثين عامًا، قد جعل النظام خلوًا من أي طرفٍ بارئٍ من الفساد، يمكنه أن يحاسب طرفًا آخر. فكل الذي يجري فيما سُمي، الآن، حملةً لمحاربة الفساد، ليس سوى مناورةٍ فاشلة، جديدة، وذرٍّ للرماد في العيون، بغية شراء بعضٍ من الوقت. فالنظام أصبح، ومنذ وقت طويل جدًا، فاقدًا للأهلية الأخلاقية، التي تمكنه من الحكم الأخلاقي على أطرافه، التي يصمها بالفساد. كما أن تلك الأطراف تعرف، وتملك من الوثائق، ما يؤكد أن الفساد في الانقاذ لا يستثني أحدًا قط. بل، ولربما تكون البطانة، التي تسيَّر المرحلة الراهنة، هي الأكثر ولوغًا في بركة فساد الإنقاذ، الآسنة، الشاسعة.

قيادات الإسلاميين، التي قلَّم النظام مخالبها، وأحالها إلى التقاعد، ووضعها على الرف، لم تستلم، ولن تستلم. فهؤلاء هم مركز الإيديولوجيا الإخوانية داخليًا، وهم أهل أول تجربة للإسلاميين في الحكم، في العالمين العربي والإسلامي. ولذلك، لن يطيب لهم، رغم كل شيء، أن يروا تجربتهم هذه تتبخر أمام أعينهم، وهم أحياء يرزقون. كما أنهم، هم، الأخطبوط الذي يمد أذرعه إلى مراكز الإيديولوجيا الإخوانية في الخارج. ولقد شرعت هذه القيادات، ومنذ فترة، في العمل ضد النظام، مستخدمةً كامل قوة منظومتها في الداخل، من معرفة بالسوق، وبالنظام المالي للدولة، ومن معرفة بتجارة العملة، وبتهريب الثروات، وبالإمساك بمفاصل تجارة ضروريات المعيشة، وغير ذلك. أيضًا، تعرف هذه القيادات الإسلامية، المُبعدة، ثغرات النظام، ومقاتِلَه، بأكثر مما يعرفها، أي سوداني آخر. فالحرب الآن تدور رحاها بين الإسلاميين أنفسهم. وقد جاوز العراك مرحلة الضرب تحت الحزام، ودخل مرحلة الاشتباك، والالتحام الكامل. وسينتهي هذا الصراع المرير، فيما يبنهم، كما ورد في نبوءة الأستاذ، محمود محمد طه، الشهيرة. لكن، قد يطول ميقات النهاية، وقد يقصر.

وهن المعارضة
مع تفاقم أزمة النظام، ونفاد كنانته من حيل البقاء، تباعدت خطوط المعارضة، وتفرقت كلمة الشعب، وتبددت وحدته الشعورية. لقد تحولت قوى المعارضة، بمرور الزمن، وترهل الأداء، إلى مجرد ظاهرةٍ صوتية، لا أكثر. ويشمل ذلك قوى الإجماع الوطني، وقوى نداء السودان، معا. ولم يظهر تأثير يذكر لعمل المعارضة على حالة الشارع؛ سواءً من جانب شقها الذي يعمل في الداخل، أو الآخر، الذي يعمل في الخارج، رغم وصول الأزمات حدًا لم تصله قط، في تاريخ الدولة الحديثة في السودان. وكما للنظام بطانة سوء، كذلك للمعارضة بطانة سوء. وكما سبق أن قلت، فإن الشمولية، وانعدام المؤسسية، هو الذي يخلق البطانة، وهو الذي يبقي رئيس الدولة في مقعده يد الدهر. وينطبق نفس الشيء على رئيس الحزب الذي تنعدم فيه المؤسسية. وأكبر أحزابنا لا تعرف المؤسسية، ولم تعرف غير رئيسٍ واحدٍ على مدى نصف قرن.
ظلت أجساد الأحزاب السودانية تتشقق، منذ مؤتمر الخريجين، بسبب فعل البطانات. وقد عرفت الانقاذ ذلك، فأعملت معاولها في أجساد الأحزاب جميعها، ثم انقلبت، فأعملتها في جسدها هي. أيضًا، أعملت الإنقاذ معاولها في أجساد الحركات المسلحة، ففرقتها، شذر، مذر. وكانت آخر التشققات، تلك التي أصابت الحركة الشعبية قطاع الشمال. وأحزر أن ذلك قد جرى لها بفعل دس البطانات، التي تحيط بقياداتها.

النهج الأوتوقراطي، الذي يخلق الجو الأمثل، لنشوء البطانات، هو المكون الغالب في تركيبة الحكومة، وفي تركيبة أكبر أحزاب المعارضة. فالحكومة والمعارضة طرفان لبرادايم واحد، قديم. وقد استنفد هذا البرادايم القديم كامل طاقاته، ولم يعد، يملك شيئًا من وعود الغد. وكل ما حولنا، فيما أرى، يشير إلى مجيء أوان رسم ملامح البرادايم الجديد، الذي نخرج به، من الأوتوقراطية، والأبوية السلطوية، ومن الوصاية، إلى فضاء الحرية، والممارسة الديمقراطية. وبطبيعة الحال، لا يمكن أن تحدث قفزةٌ فجائيةٌ، تنقلنا من هذا الوضع، إلى الوضع الذي نتطلع إليه. فالحكومة والمعارضة، هما ما لا يزال يمسك، عمليًا، حتى يومنا هذا، بالجزء الأكبر من مكونات واقعنا الثقافي، والاجتماعي، والسياسي. ولذلك فإن على الشباب، أن يضعوا نصب أعينهم، أن ما يجري الآن، وما سوف يجري لأعوامٍ مقبلة، قد تكثر، وقد تقل، إنما هو نفس البرادايم القديم، الذي يحمل جرثومة الفشل، والتراجع، بين جنبيه. فالبرادايم الجديد، لن يهبط من السماء. وإنما سيتخلَّقُ من الاشتباك الفكري، والتنظيمي، بين قوى المستقبل، التي تعتمل طاقاتها وسط الشباب، وبين مجموع القوى الراهنة، المكبِّلة للحاضر. فهمنا للأزمة، على هذا النحو، هو ما سيعين، في تقديري، على استيلاد البرادايم الجديد. كما سيعين، في ذات الوقت، على رسم مسارات العمل الفكري، والتنظيمي، الضخم، الذي ينتظرنا، نحن السودانيين.

((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
أضف رد جديد