رائدات في ظروف غير مواتية: بين متعة السرد والصرامة البحثيّة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عثمان حامد
مشاركات: 312
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:04 pm

رائدات في ظروف غير مواتية: بين متعة السرد والصرامة البحثيّة

مشاركة بواسطة عثمان حامد »

الكتاب من تأليف الدكتورة- الهولنديّة- مارينا دي ريخت, لنيل درجة الدكتوراة، من جامعة امستردام، وقد قام بترجمته من الإنجليزيّة الي العربيّة الصديق/ الكاتب والصحفي محمد عبد الحميد عبد الرحمن، راجع الترجمة الأستاذ سعد صلاح وهو قد صدر حديثاً من دار "مهاجرون" للنشر بالقاهرة:
تتعرض الباحثة في الكتاب لحياة نساء يمنيات، في حقل الرعاية الصحيّة الاوليّة، وهو بحث يزاوج بجدارة فائقة بين صرامة البحث الأكاديمي، وبين متعة السرد، والحكي، والقدرة علي التشويق، فهو( يمزج بنجاح بين النهج الأكاديمي والكتابة المفعمة بالحيوية عن قصص الحياة الشخصية لنساء عملن مع الكاتبة لسنوات في مشروع تنموى) كما جاء في تقديم دار النشر للكتاب على صفحته الأخيرة. أدعو القراء بكل سرور لقراءة مقدمة الكتاب، فهي ستضيء فكرة الباحثة، وستفتح شهية القراء بالتأكيد للمزيد. فالتحيّة للدكتورة مارينا، وللصديق الأستاذ محمد عبد الحميد عبد الرحمن، ولكل من ساهم مع مارينا في انجاح هذا البحث المتميز، وبالطبع التحية للمرشدات اليمنيات اللائي تناولهن البحث، وتعرض لتجرتهن في هذا الحقل-حقل الرعاية الصحيّة الاوليّة-

[quote]


رائدات
في ظروف غير مواتية
المرشدات الصحيات
وسياسات التنمية في اليمن






د. مارينـــا دي ريخــــت





ترجمة
محمد عبد الحميد عبد الرحمن



راجع الترجمة
سعد صلاح خالص







رائدات
في ظروف غير مواتية
المرشدات الصحيات
وسياسات التنمية في اليمن



مارينا دي ريخت


ترجمة
محمد عبد الحميد عبد الرحمن


راجع الترجمة
سعد صلاح خالص








هذا الكتاب ترجمة لـ
Pioneers or Pawns?
Women Health Workers
and the Politics of Development in Yemen


Marina de Regt


رسالة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة امستردام بإشراف البروفيسور
ب.ف. فان در هايدن

امستردام 22 ابريل 2003








اهدــــــــــــداء





اهدي هذا الكتاب لروح ثلاثة نساء هن


امي جيني دي ريخت خوهرس (1928 - 2001)
زميلتي ثيرا دي هاس (1935 - 1999)
صديقتي ماريان رنس (1960 - 1999)





















المحتـــــــــويات

اهـــــــــداء
المحتويات
تمهيـــــــد

1. من البحث الأكاديمي إلى العمل التنموي ثم العودة للبحث الأكاديمي
1.1 رداع: التجربة الاولي مع العمل التنموي
1.2 الحديدة: تجربة ثانية
1.3 من العمل التنموي الي البحث الاكاديمي
1.4 الملامح العامة للكتاب

2. المرأة ، العمل في الرعاية الصحية وسياسات التنمية
2.1 مشروعان للتحديث
2.2 خطابات التنمية
2.3 سياسات تنمية الرعاية الصحية
2.4 المرأة والسياسات الثقافية للعمل المأجور

الجزء الاول: اليمن وسياسات التنمية
3. بناء الامة
3.1 تاريخ موجز لليمن الحديث
3.2 المرأة اليمنية وسياسات التنمية
3.3 سياسات الرعاية الصحية في اليمن

4. مشروع هولندي يمني
4.1 خطابات التنمية الهولندية
4.2 الرعاية الصحية كجزء من برنامج تنموي (1984 – 1986)
4.3 الرعاية الصحية في مشروع مستقل (1987 – 1986)
4.4 برنامج على نطاق مدينة (1993 – 2000)
4.5 خلاصات

الجزء الثاني: حدود متغيرة
5. اشواق التعليم : نساء من المدينة
5.1 قصة حواء
5.2 "كنت فقط اريد ان اتعلم"
5.2.1 الأسر والآباء وفرص التعليم
5.2.2 التعليم كوسيلة لتطوير الذات
5.2.3 مساحة للمناورة

6. المجموعة الاولي (1985- 1988)
6.1 "لم نكن نعلم ما هي المرشدة"
6.1.1 اختيار عشوائي؟
6.1.2 شرح العمل
6.1.3 حضور الدورة التدريبية
6.2 في الزى الابيض
6.2.1 العمل في الرعاية الصحية
6.2.2 الزيارات المنزلية
6.2.3 الحصول على وظيفة
6.3 التخلي قبل اكمال التدريب
6.3.1 الزواج
6.3.2 طموحات اكبر
6.4 تمهيد الطريق لأخريات
6.5 خلاصات

الجزء الثالث: اوضاع وهويات جديدة
7. البحث عن وظيفة : نساء من السكن العشوائي
7.1 قصة ايمان
7.2 "نحن بحاجة للعمل"
7.2.1 الوضع الاجتماعي في تهامة
7.2.2 بنات يتحملن المسؤلية ، احلام محطمة
7.2.3 مزايا العمل المأجور
7.3 قصة بدرية
7.4 " ساحصل على وظيفة أولاً ثم اكمل تعليمي"
7.4.1 ماذا يعني ان تكوني مَولدة
7.4.2 اثر العمالة العائدة
7.4.3 الخطوة الاولي في وظيفة

8. المشروع في ذروته (1988 – 1993)
8.1 مجموعة جديدة من المرشدات
8.2 المزيد من المتخليات مرة اخرى
8.3 اوضاع وهويات متغيرة
8.3.1 التعود على الزيارات المنزلية
8.3.2 من مرشدة صحية الي قابلة صحية
8.3.3 سائقات وتعلم سياقة
8.3.4 "لقد حصلنا على كل شيء"
8.4 خلاصات

الجزء الرابع : اشكال تحديث اخرى: نساء من أحياء عشوائية جديدة
9. الحلم بحياة افضل
9.1 قصة سارة
9.2 مجموعة اخرى من العائدات
9.2.1 الي السعودية والعودة منها
9.2.2 المكانة الاجتماعي للعائدين
9.2.3 شابات وطموحات

10. تعزيز ام تدهور؟ (1993 – 2000)
10.1 نتائج برنامج على نطاق المدينة
10.1.1 مرشدات اكثر : مرشدات اخريات
10.1.2 المرشدات كمسؤولات مراكز
10.1.3 دخول مزيد من الرجال
10.1.4 الوجه الآخر من الاندماج
10.2 من مرشدة الي قابلة صحية
10.2.1 سياسية جديدة
10.2.2 التهيئة للمستقبل
10.2.3 في مواجهة التراجع؟
10.3 "ايام المشروع قد انتهت"
10.3.1 تغيرات سياسية
10.3.2 لا مرشدات بعد الآن؟
10.4 خلاصات

خلاصات: رائدات ام رهائن
بيبليوغرافيا
قائمة مصطلحات




مقدمـــــــــــــة

عندما كنت مراهقة أصابني الملل من البقاء في بلدي هولندا و حلمت دائماً بالمغامرات والسفر إلي بلدان بعيدة، ومنذ ذلك الحين قررت أن أتعلم العربية وأن أتخصص في الأنثروبولوجيا.
تلقت أمي تدريبها في التمريض وعملت به كمهنة وكم تمنت أن يشاركها أحد أبناءها أو بناتها اهتمامها بالمجال الطبي والعمل به لكن أحدا من أبنائها الثلاثة لم يحقق أمنيتها. لكن مسارات حياة الأفراد تتغير فجأة في بعض الأحيان كما يتضح في قصص هذا الكتاب بفعل تأثير الظروف أو بالمبادرات التي نتخذها نحن أو بتأثير الآخرين. وسواء أسميناها مصادفة أو قدراً أو عناية إلهية فإن هذه التغيرات المفاجئة قد تصبح جزءا منسجماً من مخطط اكبر.

إن هذا الكتاب نتاج لعدد كبير من التغيرات المفاجئة التي صدف وأن توافقت مع بعضها البعض في نهاية الأمر، وهو عبارة عن دراسة أنثروبولوجية لنساء يعملن في مجال الصحة في بلد عربي تتشابه قصصهن واهتماماتهن إلي حد كبير مع قصة أمي. تطلعت المرشدات مثل أمي إلي التعليم بشوق كبير وقد منحهن الدخول إلى المجال الصحي الفرصة لتطوير أنفسهن ولذا فإنني اهدي هذا الكتاب أولا وأساسا لروح أمي. يصف الجزء الأول من الكتاب مبادراتي الخاصة والظروف الأخرى التي قادت إلى تأليف هذا الكتاب وهنا أود أن اذكر بالشكر والعرفان العدد الكبير من الأشخاص الذين منحوني علاوة على أمي الإلهام والعزم والمساندة.

ليس من المدهش القول أن هذا الكتاب لم يكن ليرى النور لولا مساندة وحب العديد من النساء في الحديدة من العاملات في المجال الصحي وغيرهن من اللواتي نجحن في أن يجعلن الحديدة وطني الثاني ولقد أحببت الحياة والعمل معهن وفارقت الحديدة بمشقة. إن فكرة إعداد رسالة دكتوراه بعد ستة أعوام من العمل في مشروعات التنمية لم تكن وليدة اعتبارات بحثية وفكرية فحسب بل كانت أيضا تلبية لاعتبارات ودواع عملية، لقد أتاحت لي هذه الفكرة فرصة البقاء على صلة بالأصدقاء في الحديدة وإن كانت من موقع وزاوية أخرى.

أنني مدينة بالكثير جدا لهؤلاء الصديقات والأصدقاء الذين يتعذر ذكر أسمائهم جميعا إضافة إلي دواعي الخصوصية لكنني اشعر أن علَى أن اذكر بالاسم كل من عائشة، إيمان، بلقيس، بثينة، حنان، جميلة، جميلة، مرجانة، ونعمة واعدهن بالا تكون نهاية هذا الكتاب نهاية صداقتي لهن.

و بالإضافة للنساء اليمنيات في الحديدة، ثمة نساء أخريات قدمن لي الكثير من الدعم والمساندة، من أهمهن بالنسبة لي السيدة ثيرا دي هاس زميلتي الهولندية في الحديدة وأم المرشدات ، فمنذ زيارتي الأولى للمشروع قدمت لي السيدة دي هاس كل عون ممكن وأصبحت صديقة حميمة، ولن انس أبدا تلك الليالي التي قضيتها في منزلها وهي تطبخ لي وتحدثني عن حياتها وعن المشروع، كانت دي هاس شديدة الاهتمام ببحث الدكتوراه الذي كنت اكتبه لأنها كانت تحب زميلاتها اليمنيات وشديدة الفخر بإنجازاتهن. لقد ماتت مبكراً ويحزنني جدا أنها لم تر النتاج النهائي لهذا الجهد وهى الشخص الثاني الذي اهدي إليه هذا الكتاب.
ومن الكثيرين ممن قدموا لي الدعم والمساندة في اليمن اذكر محمد عيدروس، يوكا بورينخا، ديبي بيني، خالد الدبعي، علي غيلان ، سام لولي وعبد الله السياري.

عندما قررت أن اجمع المادة الأولية لرسالة الدكتوراه في العام الأخير من عملي في الحديدة تلقيت دعما حماسياً وملهماً من الدكتورة اناليس مورز التي أشرفت على رسالتي للحصول على الماجستير وبقيتُ على اتصال دائم بها طوال فترة عملي في اليمن ولم يكن هذا الجهد ليرى النور بدون دعمها ومساندتها أو على الأقل كان سيبدو مختلفا عما هو عليه الآن. إن اهتمامها الأصيل بمشروع بحثي، وقراءتها المتعمقة لكل ما كتبت وتشجيعها الدائم لي لتحسين عملي وتجويده كان له اثر كبير وحاسم على النتاج النهائي للبحث وإنني لأشعر بجزيل الامتنان لها. كما أود أن اعبر عن فائق شكري لسياك فان در خيست للمساعدة القيمة التي قدمها لي وقبوله لي كطالبة دكتوراه بالرغم من انه لم يكن يعرفني قبل تنال اناليس درجة الأستاذية الكاملة، وكم اشعر بالامتنان للمساعدات التي قدمها لي خاصة في بعض القضايا ذات الطابع العملي كما اشكر له تعريفي بالأنثروبولوجيا الطبية.

لقد ساعدني العديد من الناس على العودة للمجال الأكاديمي بعد رجوعي إلى هولندا عقب ست سنوات من العمل في الخارج، وأود أن أخص بالشكر اليس يونكر الذي ابتعد مثلي لسنوات عن العمل الأكاديمي ولقد التقيته في الشهر الأول لعودتي وبالرغم من أننا لم نكن نعرف بعضنا البعض فقد انتهينا صديقين حميمين، وقد أسسنا معا نادي التاريخ الشفاهي الذي تحول إلى مجموعة دعم فعالة للباحثات الشابات في مجال الدراسات النسوية والذي أود أن أعرب عن شكري لكل أعضائه. كما أود أن اقدم شكري لأعضاء نادي دعم وحدة الأنثروبولوجيا الطبية بجامعة امستردام ونادي امستردام للانثروبولوجيا التابع لمدرسة امستردام لأبحاث العلوم الاجتماعية. لقد مثلت اجتماعات هذه الأندية بالنسبة مصدراً غنياً للاستلهام الفكري والعلاقات الاجتماعية على حد سواء.
علاوة على أعضاء هذه الأندية، هناك أيضا العديد من الذين قرأوا كتاباتي وعلقوا عليها وساعدوني بطرق أخرى، و أود هنا أن أخص بالشكر كلا من ماريو باوتلر ، جانين كلارك، رنيكا فان دالن، مارجريت فون فابر، رونيدا كونيخ، وندي لي، الين موير، كارين فان نيوكريك، مثياس بيلكمان، ناتالي بوتز، راشي سبرونك، إلى دي ريخت ، ادا راوس، علي صالح العمري، ليدفين سخيبرس، وليم فان دي سخندل، ستيني شامي، ديلور والترز و فازير ساميندال. اما صديقتي ماريان رينز فقد شاطرتني أفكاري وكتاباتي الأولى. لقد اكتشفنا الانثروبولوجيا النسوية سوياً وسوياً طمحنا بأن نكون باحثتين وناشطتين في آن واحد. و قد تمكنت من تحقيق هذا الحلم أما هي فلم تعش لتحقق حلمها، وأنا اعرف كم كانت ستسعد بكتابة رسالة دكتوراه بنفسها ولذلك فهي الشخص الثالث الذي اهديه هذا الكتاب.

واعبر عن عميق شكري لمدرسة امستردام لأبحاث العلوم الاجتماعية والمؤسسة الهولندية لتطوير بحوث المناطق المدارية اللتين وفرتا التمويل لأجزاء مهمة من بحثي، وهيأت لي مدرسة امستردام لأبحاث العلوم الاجتماعية مناخا طيبا ويسرت إداراتها كل الدعم الضروري لعملي.
وقامت السيدة مارتا بالوش بمراجعة النص وتصحيحه وتحريره وأنفقت إجازتين ثمينتين في ذلك وتحملت عناء الحضور من لندن لمناقشة التعديلات القيمة التي اقترحتها والتي أقدرها حق التقدير. أتقدم بوافر الشكر ايضاً للسيد تون سميت الذي صمم الغلاف واخرج الكتاب.

و أخيرا وليس أخرا أعرب عن خالص شكري لعائلتي وأصدقائي لدعمهم المستمر لي وأخص بالذكر والدي الذي اهتم دائماً بكل ما افعل وبقراءة كل ما اكتب تقريباً وأنا مدينة له بتطوير حسي للاهتمام بالبشر الذين يعيشون في ظروف غير مواتية وصعبة، كما أنني ممتنة لاخوتي أسرهم وأصدقائي العديدين الذين اهتموا بي رغم انشغالي ببحثي واتصلوا بي ودعوني إلي موائدهم وحفلاتهم ومسراتهم وغيرها. إن كتابة رسالة دكتوراه حول صديقاتي الحميمات في اليمن محاطة بأصدقاء وأقارب حميمين مثلهن في هولندا، بالرغم من فقداني لثلاثة منهن، شكلت بالنسبة لي سبيلا مثالياَ للشعور بالرضا عن فترة هامة من حياتي.











مقدمة






الفصــل الأول
من البحث الأكاديمي إلى العمل التنموي ثم العودة للعمل الأكاديمي

يدور هذا الكتاب حول نساء كن زميلات عمل أولاً ثم صرن صديقات وأخيرا اصبحن موضوعا للبحث الأكاديمي ويتحدث عن فترة هامة من حياتهن عملن فيها كمرشدات صحيات في مجال الرعاية الصحية الأولية في مشروع تنموي هولندي-يمني مشترك. يتناول الكتاب بالتحليل الكيفية التي أثر بها التدريب والتوظيف على الفرص الجديدة التي حصلن عليها وكذلك أشكال السيطرة الاجتماعية الجديدة التي خضعن لها. لكن الكتاب يؤرخ أيضا لفترة هامة من حياتي لأنني عملت في نفس المشروع التنموي لسنوات، لذلك فإن تجربتي الشخصية في اليمن مرتبطة إلى حد كبير بتجربة النساء اللواتي اكتب عنهن مما يجعل تجربتي في اليمن مفارقة إلي حد ما لتقاليد البحث الأكاديمي الميداني التي يتحول فيها الناس إلي موضوعات للبحث بالدرجة الأولى، قد تعقبها الصداقة وربما زمالة العمل في حالات نادرة. لكل ذلك تسترعي خلفية مشروعي البحثي بعض الاهتمام وتبقى صلتي باليمن في مراحلها المختلفة ذات أهمية في فهم أسباب وكيفية إجراء هذه الدراسة.

1.1 رداع التجربة الأولى في العمل التنموي

في يونيو عام 1991، أي بعد عام واحد من إنهاء دراستي الجامعية في الأنثروبولوجيا في جامعة امستردام، قرأت إعلانا عن وظيفة في مشروع للتنمية الريفية في اليمن تطلب فيه المنظمة الهولندية للتنمية مستشارة في الصناعات اليدوية للمساعدة على تطوير منافذ تسويق لمنتجات السجاد الذي تصنعه نساء ريفيات في محافظة رداع في اليمن. شعرت بالرغبة في الحصول على هذه الوظيفة بالرغم من أنني درست الأنثروبولوجيا وليس الحرف اليدوية.
أثناء دراستي للحصول على درجة الماجستير في الثمانينيات تخصصت في موضوع النساء والعمل المأجور في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وكنت متحمسة لفكرة العمل في الخارج في حقل ذي صلة بموضوع دراستي، هذا علاوة على أنني كنت أتساءل دائما عن جدوى وقيمة البحث العلمي الاجتماعي بالنسبة للبشر الذين يكونون موضوعا لهذه البحوث وكنت ابحث عن وسيلة لإجراء بحوث نافعة للبشر الذين يدور البحث حولهم.
بوحي من المناقشات التي كانت تدور في مجال الدراسات النسوية ، اكتسبت ميلا إلي العمل فيما سمى وقتها بـ "البحث النشط" وهو نوع من البحوث يشارك فيه الأفراد أو المجموعات موضوع الدراسة بنشاط في مختلف مراحل البحث مثل تصميم البحث وتحليل نتائجه وتعمل هذه البحوث على تحقيق هدف واضح هو التغيير الاجتماعي.
لم تكن تجربتي الأولى في المغرب مرضية بالنسبة لي من هذه الناحية، فقد اخترت موضوع الأدوار المتغيرة للنساء العاملات في صناعة السجاد في مدينتي الرباط وصالة المغربيتين لكن رغبتي في إشراك النساء اللواتي كنت ادرس أحوالهن في بحثي لم تتحقق إذ كان ذلك اصعب مما توقعت، وتمنيت أن اعمل من خلال منظمة أو مشروع لتحقيق رغبتي وجاء مشروع اليمن مدخلا لتحقيق أمنيتي ومبادئي وطموحاتي النسوية.

تقدمت للوظيفة في اليمن وحصلت عليها وساعدني في ذلك أنني أتحدث العربية، (باللهجة المغربية) إضافة إلي معرفتي السابقة بصناعة السجاد ، ولو أنها كانت من منظور أنثروبولوجي وليس ذي صلة مباشرة بالتسويق. وحصلت على عقد لمدة ثلاث سنوات للعمل كمستشارة للحرف اليدوية في مشروع التنمية الريفية المتكاملة بمحافظة رداع في اليمن وهو مشروع مشترك للإدارة العامة للتعاون الدولي التابعة لوزارة الخارجية الهولندية ووزارة الزراعة اليمنية، وخلال وقت قصير وجدت نفسي اُستعد للسفر إلي اليمن التي كنت اعرف عنها القليل جداً.

عندما وصلت اليمن في نهاية عام 1991 كانت زهرة أول امرأة يمنية قابلتها تعمل في الإرشاد الزراعي الريفي في مشروع التنمية الريفية المتكاملة برداع وهي مدينة ريفية تقع جنوب شرقي صنعاء وتبعد عنها ساعتين بالسيارة في منطقة تعتبر قبلية ومحافظة جدا. بدأ مشروع التنمية الريفية المتكاملة بمحافظة رداع عام 1978 وكان من المخطط أن يستمر حتى عام 1994 ويستهدف المشروع تحسين مستوى معيشة مواطني منطقة رداع بإنشاء الطرق والسدود وتطوير تقنيات الري واستدخال وسائل وتقنيات زراعية جديدة.
كانت زهرة واحدة من المرشدات الزراعيات في قسم الإرشاد الزراعي النسوي بالمشروع وكانت النظيرة المحلية لي خلال السنوات التالية. تتلخص وظيفتها في تقديم الإرشاد وتعليم النساء وتدريبهن على وسائل وطرق جديدة للحياة والعمل، وعلى سبيل المثال يعمل المرشدون والمرشدات في الإرشاد الزراعي وفي مجال المياه والصرف الصحي والإرشاد الصحي وقد حصلوا جميعا على التعليم الأساسي كحد أدنى إضافة إلي عام كامل من التدريب الذي مولته منظمات أجنبية في المجال الذي تخصصوا فيه. وفر المشروع التدريب للمرشدات في رداع وقامت وزارة الزراعة اليمنية بتوظيفهن. عملت المرشدات مع خمسة خبراء أجانب، سودانيين اثنين في مجال الإرشاد الزراعي والإنتاج الحيواني وثلاثة هولنديين في مجالات الصحة، التغذية والحرف اليدوية وقد عمل كل منهم مع إحدى المرشدات لتنفيذ البرنامج الإرشادي الموجه للنساء الريفيات.
أعجبت منذ البداية بالدوافع القوية لزهرة وزميلاتها المرشدات اليمنيات الأربعة فقد كن شابات طموحات تدفعهن إرادة قوية للارتقاء بحياتهن شخصيا وبحياة النساء الأخريات. وقد جبن القرى برفقة نظرائهم من الخبراء الأجانب وفي بعض الأحيان بمفردهن بصحبة سائق لإرشاد النساء حول الوسائل والتقنيات الزراعية الحديثة وطرق العناية بالحيوانات، والإرشاد الصحي والغذائي ولتعليم النساء كيفية صناعة السجاد المعقود من صوف الأغنام. لقد صمدن بمفردهن في رداع حيث كان عدد قليل جدا من النساء يعملن مقابل أجر ويدخلن الحياة العامة. وقد أخبرتني النساء الهولنديات اللواتي كن يعملن بالمشروع عن الصعوبات الجمة التي واجهنها للعثور على نساء يمنيات راغبات في القيام بمثل هذه الأعمال وكيف أنهن كن سعيدات بالعمل مع نظيراتهن اليمنيات.

كانت العلاقة بين الخبراء الأجانب ونظيراتهن اليمنيات مضللة بالنسبة لي، الهولنديات بملابسهن الزاهية الألوان حاسرات الرؤوس يقدن السيارات ذات الدفع الرباعي واليمنيات بالشرشف (الملاءات) الملتف حول أجسادهن وعيون تطل من خلف الحجاب الذي يغطي الوجه وحركتهن المحدودة، لم يكن ثمة تناقض اكثر وضوحاً من ذلك ومع ذلك فقد بدا أن هنالك تعاوناً ناجحاً بينهن.
خلال السنوات الخمس الماضية تمكنت زهرة والمستشارة الهولندية التي سبقتني من تدريب خمسين امرأة ريفية في ثلاثة قرى على صنع السجاد الصوفي يدويا وكانت مهمتي هي البحث عن قنوات تسويق مستدامة لسجادهن. في السابق كان الرجال اليمنيون يصنعون السجاد الصوفي على منوالات أفقية لكن هذه الحرفة أوشكت أن تندثر بهجرة الرجال إلي مناطق اليمن الأخرى والسعودية ودول الخليج إضافة إلي حلول سجاد المصانع محل السجاد اليدوي لتوفر الأموال لشرائها وهُجر صنع السجاد اليدوي منذ ذلك الوقت. في عام 1986 تم استقدام مستشارتين مغربيتين للمشروع اقترحتا تدريب النساء الريفيات على صنع السجاد اليدوي على منوال رأسي يمكن وضعه داخل المنزل بالعكس من المنوال الأفقي الذي يجب وضعه خارج المنزل لأنه يحتل مساحة كبيرة. أظهرت النسوة في قرى رداع اهتماما بالغا باكتساب مهارات جديدة تساعدهن في الحصول على دخل مستقل. في السنوات اللاحقة تم تدريب خمسين امرأة ريفية على صنع السجاد المعقود لكن الخبراء الأجانب المقيمون في اليمن كانوا المشترين الوحيدين للسجاد المصنوع يدويا لأن اليمنيين كانوا يفضلون السجاد المصنوع آلياً ذي الألوان المتعددة على السجاد الأبيض المصنوع من صوف الأغنام. كانت الهوة بين صانعات السجاد وزبائنهن المحتملين كبيرة جداً حيث انه كان من المتعذر على النساء مغادرة قراهن لبيع السجاد في المدن ولم يهتم أقاربهن الذكور بتسويق السجاد وكنت أنا الوحيدة القادرة على تجسير هذه المسافة ببيع السجاد في صنعاء كما كانت تفعل الهولندية التي حللت محلها. فشلت جهودنا في تطوير وسائل تسويق دائمة أخرى وبما أن المشروع برمته كان على وشك الانتهاء فقد تقرر إيقاف برنامج السجاد تاركين خمسين امرأة ريفية بلا مصدر دخل.
واجهتني تجربتي الأولى في مشروع للتنمية مباشرة بالتفاؤل المفرط لخبراء التنمية الأجانب وأفكارهم غير المدروسة جيدا التي تنتهي بإدخال أنشطة دون استبصار لنتائجها بعيدة المدى كما كنت أتساءل عما سيحدث للمرشدات اليمنيات عند انتهاء التمويل الهولندي للمشروع، بالرغم من أنهن كن موظفات لدى وزارة الزراعة اليمنية ولا تقوم المنظمات الأجنبية المانحة بدفع رواتبهن إلا أن سياق عملهن كان مرتبطاً بوجود الخبراء الأجانب إلي حد كبير إذ أن الخبراء الأجانب هم الذين كانوا يدعمون عمل المرشدات كما إن كل الأنشطة كانت ممولة من الدعم الهولندي. خلال العام والنصف التي قضيتها في المشروع غادرت الغالبية العظمى من الخبراء الأجانب لأن المشروع كان يشارف على نهايته كما تقلص عمل المرشدات تدريجياً حيث تزوجت اثنتان منهن وتركن العمل.
و بتوقف الدعم الفني والمالي الهولندي لمشروع التنمية الريفية المتكاملة برداع نهائيا في نوفمبر 1994 توقفت أنشطة قسم الإرشاد الريفي النسوي بدورها إذ لم يعد هنالك مال لوقود السيارات للطواف على القرى وظلت المرشدات اللواتي بلا عمل في المكاتب. وبعد وقت قصير غادر رئيس القسم إلي وظيفة أخرى وفضلت اثنتان من المرشدات، إحداهن زهرة، البقاء في منازلهن حيث لم يعد هناك جدوى من الذهاب للعمل لعدم توفر سيارات ولا موارد لتمويل أنشطة القسم كما كان ذلك هو حال الأقسام الأخرى للمشروع. انهار مشروع التنمية الريفية المتكاملة برداع بالرغم من برامجه التي كانت تطمح لأن تكون نقطة انطلاق للتنمية الريفية في كل المنطقة.

1.2 الحديدة: تجربة ثانية

اصبح وجودي في رداع بلا جدوى بانتهاء مشروع السجاد فتحولت من رداع إلي الحديدة ميناء اليمن الرئيسي على البحر الأحمر في أغسطس 1993 حيث عرض على العمل كأنثروبولوجية في للرعاية الصحية الأولية الذي تموله هولندا ، فقبلت العمل في مكان آخر في اليمن بسعادة بالغة لأنني أحببت الحياة والعمل في هذا البلد. وكان حصولي على وظيفة أخرى بسهولة فيما تعذر ذلك على زميلاتي اليمنيات في مشروع رداع إشارة جلية إلي الوضع غير المتكافئ لوضعهن مقارنة بوضعي، حيث أنهن اضطررن إلي البقاء في منازلهن لفقدانهن عملهن بالرغم من استمرار الحكومة اليمنية في دفع رواتبهن.
كان مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة الذي بدأ عام 1984 مشروعا مشتركا بين الإدارة العامة للتعاون الدولي الهولندي ووزارة الصحة العامة اليمنية. كانت الحديدة مدينة ساحلية صغيرة في أوائل الستينيات لكنها نمت بسرعة شديدة في وقت وجيز لتصبح ميناء اليمن الرئيسي. اجتذبت الأنشطة التجارية في المدينة أعدادا كبيرة من المهاجرين من مختلف المدن اليمنية ومناطق المرتفعات وقرى سهل تهامة الساحلي بالإضافة إلي المهاجرين العائدين من الخارج، و تسبب النمو السريع للمدينة في وقت قصير نسبيا في نشوء حزام من الأحياء العشوائية الفقيرة المحرومة من المياه النقية والكهرباء وخدمات التعليم والرعاية الصحية. وفي الوقت الذي تركزت فيه أنشطة الرعاية الصحية التي كانت تنفذها برامج ومنظمات التنمية الأجنبية في المناطق الريفية طوال سبعينيات القرن الماضي تحول انتباه خبراء الصحة الدوليين إلي ضرورة الاهتمام بأحزمة الفقر حول المدن الكبيرة(cf. Rossi-Espangnet 1984) وكان مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة نتاجا لهذا الاتجاه الجديد في التفكير وقد تم تصميمه كمشروع تجريبي على أن يتم توسيعه لتغطية كل أنحاء مدينة الحديدة وربما مناطق أخرى في اليمن بناءً على نتائجه.
تشكلت أول مجموعة خبراء من د. كارل روير رئيس الفريق ود. محمود خبير الصحة العامة التونسي، ثيرا دي هاس ممرضة صحة عامة، فيرا تيرانيو قابلة صحية (ممرضة توليد) ويوكا بورنخا أنثروبولوجية وكانوا مسؤولين عن تنفيذ أنشطة المشروع بالتضامن مع نظرائهم اليمنيين من وزارة الصحة العامة اليمنية .
بدأ المشروع أولى أنشطته بافتتاح مركز صحي صغير لخدمات صحة الأمومة والطفل في إحدى أحياء السكن العشوائي في الحديدة وبسب عدم توفر ممرضات يمنيات عملت الممرضة والقابلة الصحية الهولنديتين في ذلك المركز مبدئيا. وكان النشاط التالي الفائق الأهمية للمشروع هو تدريب نساء يمنيات للعمل في مجال التعليم والإرشاد الصحي كمرشدات صحيات. وقد تم تدريب المرشدات، اللواتي اكملن جميعا ستة سنوات من التعليم الابتدائي، لمدة عام كامل في مجال خدمات الصحة الوقائية وبالتحديد في صحة الأمومة والطفولة. لم يكن من اليسير في البداية العثور على نساء للتدريب كمرشدات بسبب تدني نسبة التعليم بين النساء بالدرجة الأولى والنظرة السلبية لعمل المرأة المأجور عموما وفي الحقل الصحي على وجه التحديد. كان الرجل - ولا يزال - يعتبر هو العائل الوحيد لأسرته كما أن الفصل الحازم بين الجنسين يحد من فرص حصول النساء على عمل مأجور. يضاف إلي ذلك كله المكانة الاجتماعية المتدنية لبعض أشكال العمل الصحي كونها تتضمن ملامسة الاجساد والسوائل التي تفرزها، وكان السائد تقليديا أن يؤدي مثل هذه الأعمال أفراد ذوي مكانة اجتماعية متدنية cf. Gerholm 1977: 131)).
وبالرغم من هذه المعوقات فقد تمكن المشروع من تدريب وتوظيف عشرين مرشدة في الحديدة خلال عامين. قسمت المرشدات وقتهن بين تقديم خدمات الصحة الوقائية في المراكز الصحية وتقديم الإرشاد الصحي في زيارات منزلية للنساء في بيوتهن. واُنشأ مركز صحي ثان تابع للمشروع في حي عشوائي آخر عام 1989. عندما وصلت للحديدة في أغسطس 1993 كان المشروع قد توسع لتغطية جميع المراكز الصحية الثلاثة عشر في الحديدة وكانت هنالك اكثر من مائة مرشدة يعملن في المراكز الصحية في الحديدة بعد أن تم تدريبهن بواسطة العديد من المنظمات الأجنبية المانحة وكان عدد منهن يتحملن مسؤولية إدارة بعض هذه المراكز وقد أعجبت كثيرا بالعدد الكبير من النساء العاملات في الرعاية الصحية خاصة المرشدات وكان الوضع مغايرا تماما لما كان عليه في رداع.
نظرا لطقس الحديدة الحار جدا نُصحت بالبحث عن سكن جيد مكيف الهواء يمكن الاسترخاء فيه بعد العمل وحصلت على مسكن صغير مستقل في واحدة من أحياء الحديدة الراقية وقد سبب لي ذلك بعض الضيق والحرج في البداية بسبب من تناقضه الحاد مع ظروف السكن الرديئة لقاطني الأحياء العشوائية والمرشدات اللواتي اقضي معهن معظم أوقاتي لكن ومع مرور الوقت تكشفت لي مزايا هذا الوضع خاصة على ضؤ الوقت الطويل الذي كنت انوي أن اقضيه في الحديدة. من الممكن قضاء وقت محدود في ظروف سكن رديء لكنى اشك في أنني كنت سأبقى في الحديدة لأربع سنوات دون الراحة والخصوصية التي يوفرهما مسكن جيد. وكان تحت تصرفي سيارة تابعة للمشرع يشاركني فيها في البداية نظيري اليمني وقد ساعدني ذلك كثيرا في التحرك في الحديدة بحرية. وبينما كانت رداع مدينة صغيرة يسكنها ثلاثون ألف نسمة كانت الحديدة ميناء تجاريا مزدحما ويقطنها اكثر من ثلاثمائة ألف نسمة وقد استخدمت سيارة المشروع للذهاب للعمل وزيارة المراكز الصحية ومختلف المناطق التي يتطلبها عملي لكنني كنت أيضا استخدمها لزيارة الزملاء والأصدقاء خارج أوقات العمل وفي العطلات الأسبوعية.
ما هي مهمة الأنثروبولوجي في مشروع للرعاية الصحية الأولية؟ في منتصف السبعينيات اتضح تماما أن إدخال التكنولوجيا لم يؤد تلقائيا إلي تحسن مستوى معيشة غالبية السكان وإن تحقيق ذلك يستوجب أخذ العوامل الاجتماعية والثقافية بعين الاعتبار، ومنذ ذلك الحين وجدت أعداد متزايدة من الأنثروبولوجيين طريقهم إلي مشاريع التنمية خاصة مشاريع الرعاية الصحية الأولية التي وظفت الأنثروبولوجيين على نطاق واسع بسبب الأهمية الكبيرة التي أوليت للمفاهيم المحلية حول الصحة والرعاية الصحية والمشاركة المجتمعية . عمل الأنثروبولوجيون الأجانب في مشروع الحديدة منذ البداية بعقود دائمة ومؤقتة وأجروا بالتعاون مع المرشدات دراسات أولية أساسية في مناطق المشروع وبعض تحليلات البحوث التطبيقية القصيرة وقدموا المشورة حول تأسيس برامج محو الأمية وتعليم الخياطة للنساء في المراكز الصحية . كانت تلك هي أيضا مسؤولياتي وعلاوة على تأسيس برنامج لإشراك المجتمع المحلي في المشروع حيث كان علىّ أن اعمل على تأسيس ثلاثة عشر لجنة صحية محلية في المناطق المحيطة بالمراكز الصحية، وكانت هذه اللجان تضم خمسة شخصيات محترمة من المجتمع المحلي لتمثيل مصالح المجتمع في المنطقة التي يقع فيها المركز الصحي وتحديد اوجه صرف الأموال التي تجمع من المستفيدين من خدمات المركز بموجب نظام استعادة التكلفة . كما كان تدريب أعضاء هذه اللجان ومراقبة أداءها جزءً من واجباتي وكان علىّ أن أقوم بكل ذلك بالتعاون الوثيق مع المرشدات والقابلات الصحيات والممرضات في المراكز الصحية ومكتب الصحة بمحافظة الحديدة.
خلال السنوات الأربع والنصف التي قضيتها بالحديدة عملت بتعاون وثيق مع المرشدات في تدريب اللجان الصحية والإشراف عليها بالإضافة إلي مجهودات محدودة المدى لإجراء بحوث حيث درسنا العادات الغذائية السائدة وتغذية الأطفال وسط فقراء الحديدة، و اثر برامج محو الأمية وتعليم الخياطة وبرامج الرعاية الصحية للفقراء في المركز الصحي وممارسات وطرق التوليد التقليدية في المدينة. كل هذه البحوث كانت مبنية على احتياجات العاملين في المراكز الصحية وإدارة المشروع وقد جرى تصميم البحوث وتنفيذها وإعداد تقاريرها بالتعاون مع المرشدات والممرضات والقابلات العاملات في المراكز الصحية. وكانت مهمتي الرئيسية هي تدريب النساء العاملات في الحقل الصحي والإشراف عليهن أثناء إجراء البحث وليس إجراء البحث بنفسي، لإكسابهن مهارات استقصاء المشاكل والقضايا التي تواجههن أثناء أدائهن لعملهن. أعددت لائحة حول كيفية اختيار اللجان الصحية المحلية بالتعاون مع المرشدات والمشرفين عليهن تعتمد على المناقشات مع المجموعة المستهدفة، والزيارات المنزلية وإجراء مقابلات معمقة مع المرشحين لعضوية هذه اللجان . وقد تم بناء على ذلك تشكيل ثلاثة عشر لجنة صحية محلية تضم في عضويتها رجال ونساء من المجتمع المحلي وأسسنا نظاما لمتابعة أنشطة هذه اللجان وقد قبلت الإدارة الإقليمية للصحة هذه اللجان تدريجيا وأصبحت لها كلمة في إدارة الخدمات الصحية.
استمتعت بعلاقتي الوثيقة بالمرشدات والمجتمع المحلي والزيارات المنزلية للذين كنا نجرى المقابلات معهم لكنني بدأت المس بنفسي محدودية البحوث التطبيقية حيث أن أي بحث كان يجب أن يفضي إلي توصيات أو خلاصات قابلة للتطبيق الفوري علاوة إلي أن المرشدات كن يعانين من عبء العمل الزائد في المراكز الصحية والإرشاد الصحي والزيارات المنزلية وبعض المهام الإضافية الأخرى مما يستنزف وقتهن تاركا القليل جدا منه لإجراء البحوث. وكان وقتي أنا أيضا محدودا، وبمرور الوقت بدأ الحنين يراودني إلي البحث الأكاديمي المعمق مرة أخرى وقررت أن استخدم وقت فراغي في جمع المادة لإجراء بحث أكاديمي معمق ولم يكن اختيار موضوع لرسالة الدكتوراه أمرا صعبا، فقد كنت ارغب في معرفة المزيد عن خلفيات ودوافع المرشدات لأنني كنت مهتمة بذلك منذ تجربتي الأولي في رداع.

1.3 من العمل التنموي إلي البحث الأكاديمي

خلال السنوات الأربع التي أمضيتها في الحديدة توطدت علاقتي بعدد من المرشدات ولم نكن مجرد زميلات عمل بل كنا أصدقاء نلتقي دائما بعد ظهر كل خميس لمضغ (تخزين) القات سويا وتدخين المداعة (النارجيلة) وكثيرا ما كنت اذهب معهن إلى حفلاتهن وأعراسهن أو أزورهن في منازلهن بعد العمل وقابلت أسرهن وشاركتهن في أفراحهن ومتاعبهن الشخصية وبادلنني نفس المشاعر. بعلاقتي اليومية بالمرشدات التقطت بعض المعلومات القليلة عن خلفياتهن ودوافعهن لأن يصبحن مرشدات لكنني كنت أتطلع إلي معرفة المزيد عن حياتهن وافترضت أن معرفتي بقصص حياتهن ستمكنني من التعرف بشكل اعمق على أوضاعهن الاجتماعية إضافة إلى طبيعة التقدير الاجتماعي لعملهن. بذل الهولنديون في المشروع كل جهد ممكن لحماية المرشدات ومساندتهن وكانوا ينظرون إليهن باعتبارهن وسائط تغيير اجتماعي قادرة على تحسين وتطوير خدمات الرعاية الصحية ومستوي المعيشة في المناطق العشوائية بشكل عام مع تغيير حياتهن أنفسهن في ذات الوقت وأعطوهن مكانة متميزة وقدموهن بوصفهن أول مجموعة من النساء العاملات تم تدريبها محليا تتمتع بصلة مباشرة ووثيقة بالمجتمع وذات قدرة كبيرة على إحداث التغيير. لكن السؤال يبقى ما هي المكانة الاجتماعية للنساء اللواتي تم تدريبهن كمرشدات؟ وما هو التغير الذي طرأ على مكانتهن نتيجة لتدريبهن وتوظيفهن؟
بالرغم من أنني لم اكن مطمئنة على إمكانية استدامة بعض أنشطة المشروع إلا أنني كنت مقتنعة بأن تدريب المرشدات كان له فائدته وقد تعززت قناعتي هذه بتأكيد المرشدات لي مرة بعد أخرى بأن تدريبهن وعملهن كان ذو أهمية قصوى بالنسبة لهن وإنهن احببن عملهن كثيرا ولا يتخيلن كيف كانت ستمضي حياتهن لو لم يصبحن مرشدات. وبالرغم من توقف أنشطة المشروع الأخرى، فقد تم تدريب وتوظيف مائة امرأة على الأقل.
توصلت الأنثروبولوجية الأمريكية ديلورس والترز التي درست ظاهرة المرشدات في مدينة عبس في تهامة إلي أن المرشدات رائدات تحدين وتعدين الحدود التقليدية في اليمن وإنني لأوافقها ذلك الرأي. وفي الوقت الذي ركزت فيه والترز دراستها حول تأثير قيام المرشدات بتقديم الخدمات الصحية للمجموعة القابعة في اسفل السلم الاجتماعي على العلاقات العرقية في اليمن ، رأيت أن اركز في دراستي على الطرق والكيفية التي غيرت بها المرشدات الحدود الجندرية (حدود النوع الاجتماعي). لقد كن موظفات حكوميات بأجر وناشطات في الحياة العامة يخرجن من منازلهن للعمل وللزيارات المنزلية لعائلات لا تربطهن بها صلة ويعملن في إدارة المراكز الصحية ويتعاطين مع من لا يمتون لهم بصلة قرابة في شئون المجتمع. على ضوء النظرة الاجتماعية السلبية لعمل المرأة الأجور خاصة في المجال الصحي اصبح السؤال الرئيسي لبحثي هو كيف ولماذا اقبل عدد كبير من النساء في الحديدة على هذا العمل؟ وعم تفصح تجربة تدريب وتوظيف المرشدات فيما خص علاقات الجندر (النوع الاجتماعي) المتغيرة في اليمن؟
خلال آخر عام من عملي في الحديدة سنة 1997 جمعت عشرين قصة حياة "محورية" من المرشدات على شكل مقابلات (باللغة العربية) سجلت على أشرطة كاسيت وقد أسميت هذه القصص "بالمحورية" لأنها كانت مركزة على محور تدريبهن وعملهن ولم اقصد أن اجمع قصص حياة متكاملة ((cf. Bertaux 1980: 8 and Moors 1995a:. وقد أستندت المقابلات على قائمة من الأسئلة تغطي الأسرة والخلفية التعليمية وأسباب الانضمام إلي برنامج تدريب المرشدات والخبرات التي حصلت عليها كمرشدة وطموحات المستقبل وتم اختيار المرشدات على أساس تاريخ التدريب والحالة الاجتماعية ووضعهن في المشروع والخلفية الأسرية.
وقد أجريت معظم المقابلات بعد ظهر أيام الجمعة، يوم عطلتنا، الأسبوعية حيث كنت أزورهن في منازلهم ونقضي وقتا ممتعا سويا. ووافقت جميع المرشدات اللواتي فاتحتهن لإجراء المقابلات على ذلك و أبدت معظمهن حماسا واضحا عندما أخبرتهن أنني سأكتب رسالة دكتوراه عنهن. لقد اعتبرن دائما وسطاء بين المجتمع وإدارة المشروع ولعبن دور المرشدين الصحيين و العاملين الاجتماعيين و الباحثين أو الذين يقومون بإجراء المقابلات، أما في دراستي فقد تم إجراء المقابلات معهن واظهرن استحسانا لاهتمامي بهن وفسروا نيتي لتأليف كتاب عنهن كاعتراف وتقدير مهمين لعملهن.

بالإضافة إلي، ذلك أجريت مقابلات مع العاملين في المشروع بمن فيهم ثيرا دي هاس ممرضة الصحة العامة الهولندية، وفاطمة سالم مشرفة المرشدات اليمنية اللتان عملتا مع المرشدات منذ بداية المشروع عام 1985، كما جمعت وثائق وبرامج وخطط عمل المشروع وسجلت نقاطا من الاجتماعات والمناقشات ذات الصلة، ومع ذلك يبقى المصدر الرئيسي لهذا البحث هو ما يمكن تسميته المعرفة المكتسبة بالتجربة وهي تلك المعارف والمعلومات التي حصلت عليها خلال سنوات عملي في اليمن وبالرغم من أنني لم احتفظ بيوميات تفصيلية ودقيقة لما لاحظته، وسمعته وخبرته فإن تلك المعرفة التجريبية هي محور تحليلي للمشروع.
تحدثت المرشدات بصراحة وانفتاح خلال المقابلات حول إحباطاتهن في العمل وضآلة فرص ترفيع وتحسين مؤهلاتهن وقلقهن من المستقبل بعد انتهاء الدعم الهولندي للمراكز الصحية. وبدمج مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة في وزارة الصحة العامة اليمنية عام 1993 بدأت المرشدات في فقدان الحماية التي كن يجدنها من مشروع أجنبي واصبحن اكثر اعتمادا وتأثرا بالتغيرات السياسية المحلية والوطنية. لم يكن مديرو الصحة المحليون في الحديدة يشاطرون إدارة المشروع رؤيتها لأهمية خدمات الصحة الوقائية للأمومة والطفولة و بدأوا يطالبون بإدخال خدمات الصحة العلاجية في المراكز الصحية. وفوق ذلك قررت وزارة الصحة العامة اليمنية إيقاف تدريب المرشدات عام 1996 وتدريب قابلات بدلا عنهن، على أن تكون القابلة قد أكملت تسعة سنوات من التعليم النظامي وسنتين من التدريب كقابلة وكان من الواضح أن المرشدات يخشين أن يفقدن دورهن. تدريجيا بدأت مساءلة قناعاتي وأفكاري السابقة؛ هل المرشدات رائدات حقا في تغيير الحدود الجندرية المرسومة كما كان ينظر إليهن خبراء التنمية الأجانب أم كانوا مجرد أدوات استخدمت لتحقيق أهداف المنظمات الدولية المانحة ومؤسسات الدولة اليمنية .
عندما عدت إلي هولندا شكلت المقاربات النقدية للتنمية مصدرا خصبا لتشكيل إطار نظري لخبرتي الخاصة مع التباسات التنمية وغموضها. واحدة من أهم المقالات التي أفدت منها هو تحليل خالد فهمي لمدرسة القابلات في مصر (1993) والتي أُسست في أوائل القرن التاسع عشر، وفي الفصل القادم سأتحدث مفصلا عن الطابع الغامض والملتبس للمدرسة كنقطة انطلاق لجدل مطول حول العلاقة بين الجندر والعمل والتنمية والحداثة. ومن الضروري هنا أن أشير إلي أنني، مقتفية خطى فهمي، قررت أن أدرس مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة باعتبارها "موقع اصطدام" تتلاقى فيها خطابات تنمية مختلفة وأحيانا متناقضة لأطراف المشروع الثلاثة، موظفي التنمية الهولنديين، مسئولي الحكومة اليمنية والمرشدات، مع إيلاء أهمية خاصة لهذا التباين. وقد قادني هذا إلي سؤال بحثي جديد هو؛ كيف يتم تطبيق مفاهيم مختلفة للجندر والعمل والتنمية والتعامل معها والتفاوض حولها على الأرض في تدريب وتوظيف المرشدات في مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة.
تثير حقيقة أنني كنت اعمل في المشروع وأشارك زملائي في الفريق الهولندي قناعتهم سؤالا تلقائيا عن تأثير ذلك على الدراسة. أشرت في بداية هذا الفصل إلى النقاشات الدائرة في الدراسات النسوية وكيف أن الباحثات النسويات كن من أوائل من شددن على أن كل المعرفة "مموضعة" (Haraway 1991). تتأثر معلومات الدراسة بخلفية ووضعية الباحث وتؤثر بالتالي على نتائج البحث، و خلال العقدين الماضيين اصبح الجدال حول موضوعية وانحياز الباحثين في العلوم الاجتماعية خاصة الأنثروبولوجية من موضوعات التفكير الرئيسية في حقل البحوث واصبح القول بأن التمثيل الاثنوغرافي تمثيل جزئي مقولة اكثر قبولا (Clifford 1986: 6) أصبحت الوقفة الاستعادية التي يتعرض فيها الباحث بإيجاز إلى دوره في إنتاج المعلومات تقليدا راسخا في الدراسات الاثنوغرافية تقريبا.
بالإضافة إلي ذلك أصبح من الواضح تماما أن الحدود بين من هو داخلي (insider) ومن هو خارجي (outsider) لم تعد ثابتة. ترسخ منذ وقت طويل الاعتقاد بأن قوة موقف الباحث الأنثروبولوجي تكمن في انه ينظر للمجتمعات التي يدرسها من الخارج حيث أن هذا الموقع كان يتيح له رؤية بعض ملامح المجتمع التي لا يستطيع من يعيش داخل هذه المجتمعات رؤيتها لأنه ينظر إليها كمسلمات . ومن جهة أخرى، كثيرا ما تمت الإشادة بالباحثين الأنثروبولوجيين لقدرتهم على الغوص داخل المجتمعات التي يدرسونها وجعل الثقافات واللغات الأخرى لغتهم وثقافتهم هم. كما اعتبرت ملاحظات المشاركين منهجية مثلى للبحوث الأنثروبولوجية حيث كان ينظر إليها كأفضل وسيلة لمزج مزايا النظرة من الداخل ومن الخارج ومع ذلك يبقى مدى مشاركة الأنثروبولوجيين في المجتمعات التي يدرسونها محدودا بوضوح.
في حالتي أنا، وبالرغم من أنني لست يمنية فقد بدأت بالمشاركة من الداخل بسبب من وضعي كعضو نشط في فريق مشروع التنمية الذي هو مادة هذه الدراسة ، وبطريقة ما كنت أنا "مشاركة كاملة" كشخص انخرط في المشروع كلياً وتحول إلى باحث بعد إقامة مستقرة في ميدان البحث ((Gans 1986: 303. لقد كنت موظفة في وزارة الخارجية الهولندية وكنت عضواً في الفريق التنموي الهولندي وأتفق معهم في العديد من مفاهيمهم حول الجندر والعمل والتنمية. كما عملت عن قرب شديد مع المرشدات وأصبح بعضهن صديقات لي وكان لدي آرائي حول وضع المرشدات وأسهمت بنشاط في حمايتهن ومساندتهن. في العام الأخير فقط من عملي في الحديدة قررت أن أجمع المادة لرسالة الدكتوراه، حيث ألزمتني خطة العمل غير العادية التي اتبعتها بطريقة خاصة في العمل وكما ذكرت من قبل فإن تحليل الممارسات العملية والخطابات المتعددة لأطراف المشروع الثلاثة – فريق التنمية الهولندي ، مسئولي الحكومي اليمنية والمرشدات – بُني أساسا على المعرفة التي تراكمت لديّ خلال عملي في الحديدة ولأجعل هذه المعرفة الناجمة عن الخبرة واضحة ولوضع خبرتي ورؤيتي في سياقها كنت في حاجة لمسافة جغرافية وذهنية، لذلك فقد كانت مغادرتي لليمن وقراءتي للمادة التي جمعتها وتقييمي لدوري فيها من مسافة معقولة ضرورياً جداً للاستفادة من مزايا منظور المشارك من الداخل في البحث.

عدت إلى هولندا في عام 1998 حيث بدأت في تفريغ الأشرطة وتحليل المعلومات التي جمعتها ودراسة النقاشات الأكاديمية الحديثة الدائرة في مجالات الأنثروبولوجيا ودراسات الجندر ودراسات التنمية. ومع ذلك لم تصبح المسافة ولا الافتراق عن اليمن واقعا كلياً لأني كنت أعود إلى اليمن بانتظام حيث عدت إلى المشروع في اليمن أربعة مرات بين عامي 1998-1999 لمراقبة برامج المشاركة المجتمعية ثم للمشاركة في مؤتمر لمدة ثلاثة أيام للاحتفال بخمسة عشر عاما من التعاون اليمني الهولندي في مجال الرعاية الصحية الأولية في الحديدة وتقييم تلك التجربة. وعدت إلى اليمن عام 2000 في عطلة لمدة أسبوعين زرت خلالها الحديدة أيضاً علاوة على أنني زرت اليمن مرتين في مهمتين استشاريتين لمشروعين آخرين للرعاية الصحية الأولية في اليمن وهما مشروع الرعاية الصحية الأولية بذمار ومشروع الرعاية الصحية الحضرية في عدن. كانت هذه الزيارات مفيدة جداً بالنسبة لي والتقيت خلالها بالمرشدات اللواتي أجريت معهن اللقاءات كما تعرفت على آخر التطورات في حياتهن وفي مشاريع التنمية وعلى أية حال فقد كان من الصعب علي أحياناً الجمع بين عملي كأنثروبولوجية في مجال التنمية والبحث الأكاديمي خاصة وأنني تبنيت موقفاً نقدياً من الاتجاه العام للمساعدات التنموية.. ومع ذلك فقد جعلتني هذه الأدوار المتغيرة التي لعبتها متنبهة وآمل أن يكون ذلك قد منعني من التوصل إلى استنتاجات مفرطة في التبسيط.
عدت إلى اليمن في مارس 2002 بعد استكمال المسودة الأولى لبحثي لعمل ميداني استغرق ستة أسابيع لملء فجوات المعلومات ومناقشة النتائج الأولية لدراستي مع أكبر عدد ممكن من الناس، وكان لهذا العمل الميداني أهمية حاسمة لمعرفة ما إذا كنت قد نجحت في الموازنة بين العمل التنموي والبحث الأكاديمي وما إذا كانت استنتاجاتي منسجمة مع استنتاجات المرشدات. قابلت خلال هذه الزيارة العديد من المرشدات اللواتي استجوبتهن وبعض أعضاء فريق المشروع السابقين وناقشت معهم الخطوط العامة لبحثي والأسئلة المتعلقة به وأعطيت عددا من فصول البحث لزملاء يمنيين عاملين في مجال الرعاية الصحية والتنمية بمن فيهم بعض الأعضاء السابقين في فريق المشروع. كما ترجمت أربعة من قصص الحياة الواردة في البحث ترجمة حرفية للمرشدات الأربعة صاحبات القصة وكان رد فعلهن مطمئناً لأنني كنت أخشى ألا يوافقن على عرضي لقصص حياتهن لكنهن عبرن عن فخرهن بأن يتم اختيار قصصهن للكتاب وعندما كنت أقرأ عليهن بعض المقاطع من قصصهن كن يقاطعنني عادة ليكملن القصة بكلماتهن الخاصة . وكانت هذه الزيارة الميدانية الثانية فرصة طيبة لتبادل المعلومات التي جمعتها لبحثي مع الأشخاص ذوي الصلة.
اعتمد جزء رئيسي من هذا الكتاب على المقابلات التي أجريتها مع المرشدات لقد جعلت قصصهن مركزا لتحليلي كطريقة لخلق فرص "للتعريف الجزئي" بالدرجة الأولى ولتجنب التباعد والتعامل معهن كـ "آخر" (cf.Moors 1995b: 20). علاوة على أنني تعمدت أن أعمل ضد التعميمات بالتقديم المباشر لقصص نساء في أوضاع متباينة يضاف إلى ذلك كله أن قصص حياة المرشدات توفر نظرة داخلية مهمة حول الترابط المتبادل بين البنية والعامل المحرك إذ أن قصص الحياة المفصلة تدفع إلى واجهة الاهتمام الدوافع الشخصية واستراتيجيات النساء لكنها تظهر أيضاً الحدود التي تفرضها البنيات الاجتماعية على مساحة المناورة المتاحة لهن وقد استخدمت القصص لتفحص العلاقات الاجتماعية وليس للتحليل السردي المفصل ولذلك عمدت إلى التحرير المكثف للقصص لتسهيل القراءة. كان طموحي الرئيسي أن اكتب كتاباً مقروءًً تستطيع المرشدات أن تتعرفن فيه على تجربتهن (بعد ترجمته للعربية) ، كتاب أصف فيه تجربتي الشخصية ويستطيع أن يقرأه ويفهمه غير الأكاديميين، اثنوغرافيا عن مجموعة من النساء في مدينة يمنية، تكون في نفس الوقت اثنوغرافيا عن مشروع تنمية وأخيراً بحثا أكاديميا للحصول على درجة الدكتوراه.

1.4- الخطوط العامة للكتاب

سأناقش في الفصل التالي الذي يظل جزءا من المقدمة المقولات النظرية الأساسية ذات الصلة بدراستي، حيث يبدأ الفصل بوصف لمدرسة القابلات المصرية التي تأسست في القرن التاسع عشر وهو مشروع عمل على تدريب وتوظيف النساء العاملات في الحقل الصحي، واربط ذلك بمشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة وأتناول الجدل الدائر حول التنمية وسياسات الرعاية الصحية الأولية وتبعاتها على النساء.
يعطي الجزء الأول من الكتاب والمعنون بـ "اليمن وسياسات التنمية" خلفية عامة عن اليمن وتحديداً عن المشروع. و أصف في الفصل الثالث عمليات بناء وتكوين الدولة وعلاقتها ببرامج التنمية والتحديث خاصة فيما يتعلق بالنساء والرعاية الصحية. أما في الفصل الرابع فاتناول تاريخ مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة بتركيز خاص على خطابات التنمية المختلفة للحكومة الهولندية والتي انعكست على مراحل مختلفة من المشروع مع تسليط الضوء على أهمية الأحداث المحلية والوطنية والعالمية مع ايلاء الاهتمام اللازم لتأثير أفراد معينين على مسار المشروع.
في الأجزاء الثلاثة التالية للكتاب أركز على المرشدات مع توضيح التطورات التي طرأت على المشروع وأقدم في كل فصل قصص حياة مجموعة مختلفة من المرشدات واحلل بناءً عليها خلفياتهم ودوافعهم واستراتيجياتهم. والأجزاء الثلاثة مبنية على أساس التسلسل الزمني وتكون فيه مجموعة واحدة هي موضع الاهتمام في كل جزء. الجزء الثاني المعنون "حدود متغيرة" أركز فيه على المجموعة الأولى من المرشدات التي تم تدريبها بين عامي 1985 – 1986 وأتناول بالتحديد كيف تمكنت هذه المجموعة من المرشدات من تغيير حدود الأيديولوجيا الجندرية السائدة تدريجياً وكيف نشأت في نفس الوقت أشكال جديدة من الضبط الاجتماعي.
أقدم في الجزء الثالث المعنون "أوضاع وهويات جديدة" المجموعتين الثانية والثالثة من المرشدات اللواتي تم تدريبهن بين عامي 1988-1990 وكيف تغيرت خلفياتهن وأقوم بتحليل تبعات ذلك على المكانة الاجتماعية للمهنة. كانت معظم نساء هذه المجموعة من بنات المهاجرين الريفيين أو المهاجرين العائدين من الخارج الذين قضوا وقتا طويلاً في أفريقيا. يشير عنوان هذا الجزء إلى الخلفيات المتباينة للنساء اللواتي تم تدريبهن وتوظيفهن لكنه يشير أيضاً إلى المكانة الاجتماعية الجديدة التي اكتسبنها من عملهن كمرشدات.
يتركز الاهتمام في الجزء الرابع المعنون "حداثات أخرى" على الفترة التي أعقبت عام 1990 والتطورات الوطنية والدولية التي أثرت على تطور مهنة المرشدات والنساء الأخريات اللواتي دخلن إلى هذا المجال خاصة أولئك الذين ولدوا وتربوا في المملكة العربية السعودية ويتم التعرض بتركيز هنا لمفاهيم الحداثة الخاصة بمجموعات المرشدات الجديدة ومفاهيم الحداثة الخاصة بالمديرين اليمنيين الذكور العاملين في القطاع الصحي الذين أصبحت لهم اليد العليا في المشروع تدريجياً.
في الخلاصة أعمل على ربط النقاشات النظرية التي بحثت في الفصل الثاني بتجربة المرشدات والعودة إلى السؤال عما إذا كانت المرشدات رائدات أم مجرد أدوات وأتناول الطريقة التي تُرجمت بها المفاهيم المختلفة حول الجندر والعمل والتنمية عملياً وكيف تم التعامل معها على المستوى المحلي في الحديدة.



الفصــل الثــاني
المرأة، العمل في الرعاية الصحية وسياسات التنمية

2.1 مشروعان للحداثة

في عام 1832 افتتحت في مصر المدرسة الأولى لتدريب القابلات التي أسسها الطبيب الفرنسي انتوني بارثليمي كلوت بطلب من محمد على باشا خديوي مصر في ذلك الوقت، وقد بدأ ارتباط الأوربيين بالرعاية الصحية في مصر في وقت أبكر من ذلك بقليل في أوائل القرن التاسع عشر عندما استعانت مصر بأطباء أوربيين لتنفيذ نظام حجر صحي بحري لمواجهة تفشي الكوليرا والطاعون (Kuhnke 1990:2). يعتبر كلوت من أهم الأوربيين الذين اسهموا في إدخال الطب الغربي إلى مصر حين بدأ بتأسيس مدرسة طبية ملحقة بمستشفي على الطراز الغربي ثم أسس مدرسة القابلات عام 1832.

كان التدريب في مدرسة القابلات يستغرق ستة سنوات خُصصت السنتان الأولى والثانية منهما لتعليم القراءة والكتابة باللغة العربية تعقبها أربع سنوات من التدريب تتضمن التوليد ورعاية الأمومة قبل وبعد الولادة، العناية بالجروح، التطعيم ضد الأمراض وتحديد وتحضير معظم الأدوية العامة.
كانت الحكيمات اللواتي تدربن في هذه المدرسة موظفات لدى الحكومة وكن يسكن ويعشن ويلبسن ويتدربن على نفقة الدولة ويعملن في أقسام الولادة في المستشفيات العسكرية والمدنية في القاهرة. تولت الحكيمات تدريجيا مزيدا من المهام مثل تحصين الأطفال ضد الجدري، وفحص النساء في المحاجر الصحية والفحص على حالات وفيات النساء في القاهرة أولا ثم في بقية البلاد لاحقا. ولم يكن من اليسير العثور على نساء راغبات في الالتحاق بمهنة الحكيمة المثيرة للجدل لكن المدرسة ظلت فاعلة على أية حال ضمن النظام الصحي العام في مصر حتى منتصف القرن العشرين. (Tucker 1985: 120; Kuhnke 199: 132).
اجتذبت مدرسة القابلات اهتمام الرحالة والمؤرخين الأوربيين منذ البداية، لأنها وفرت للنساء فرصة التدريب كقابلات في وقت لم تكن تتوفر فيه إلا فرص جد ضئيلة لتعليم النساء في مصر وكان عدد النساء العاملات لدى الدولة لا يكاد يذكر. ووفقا لكونكا (199) Kuhnke الذي درس إدخال نظرية وتنظيم الطب الأوربي في مصر. احتلت مدرسة القابلات مكانة متميزة لسببين رئيسيين "لأنها كانت المؤسسة التعليمية الأولى المخصصة للنساء في الشرق الأوسط كما أنها كانت غير مسبوقة بإدخالها مجموعة من النساء الى الخدمة الاجتماعية كان يبدو أنهن مستبعدات من الأنشطة العامة اكثر من أي مكان آخر في العالم" (مصدر سابق 122). ويضيف كونكا أن توظيف الحكيمات كان ذا أهمية مزدوجة بسبب السياق العسكري الذي مارسن فيه مهامهن حيث إنهن كن موظفات في وزارة الحربية وخاضعات للنظم العسكرية (مصدر سابق 125). وقد اندهش الرحالة والمؤرخون الأوربيون لرؤية نساء مصريات يعملن في منشأة صحية حديثة بدون غطاء للوجه وعزوا هذه الظاهرة الهامة للطابع التنويري لنظام الخديوي محمد على وكانت مدرسة القابلات في نظرهم خطوة هامة في طريق الحداثة وتنائياً عن العادات والمعتقدات القروسطية.

في مقالته المعنونة " المرأة والطب والسلطة في مصر القرن الحادي عشر" يلقى خالد فهمي (1999)Khaled Fahmi نظرة فاحصة على مدرسة القابلات ويفكك صورتها كنموذج لتنمية وتحرر المرأة المصرية ويحاجج بأن المدرسة كانت "نقطة اصطدام" دارت فيها معارك متعددة حول الحداثة والعلم (مصدر سابق 37). ويكشف فهمي النقاب عن هذه المعارك بتحليل لأهداف المدرسة وخلفية النساء الشابات اللواتي التحقن بها ومكانة القابلات اللواتي تخرجن منها، ووفقا لفهمي فإن أهم أهداف المدرسة تتلخص في خلق مناخ صحي للجيش لان مخاطر الجدري والزهري كانت تهدد استمرار التجنيد للجيش. وكان التعليم وتحرير المرأة مجرد ناتجين عرضيين للمدرسة، علاوة على أن صعوبة العثور على نساء راغبات وقادرات على اتباع البرنامج التدريبي الشاق والصارم والمطول أسفر عن إلحاق بنات ذوات أصول اجتماعية متدنية مثل بنات الأرقاء واليتيمات والمشردات بالمدرسة وإضافة لذلك فقد احتلت الحكيمات اسفل السلم الإداري في المؤسسة الصحية التي أنشأت حديثا والتي احتل فيها الإداريون المحليون والأجانب مكانة أعلى منهن وكانت الحكيمات اضعف حلقات هذه السلسلة (مصدر سابق 59). يخلص فهمي إلي انه بالرغم من استفادة الحكيمات بفعالية من فرص التمكين التي أتيحت لهن فإن الدولة أيضا استخدمتهن كوسائط للضبط والسيطرة (مصدر سابق 63) .
كان تحليل فهمي لمدرسة القابلات كـ "مشروع للحداثة" مصدر إلهام بالنسبة لي في تحليلي لمشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة حيث كان ينظر للمشروع كإحدى المحاولات الأكثر نجاحا لتحسين الرعاية الصحية الأولية في اليمن وكان لتدريب وتوظيف أعداد كبيرة من النساء الشابات في المشروع إسهاما واضحا في رسم صورة المشروع الناجح. كما كان المشروع جهدا مشتركا لأوربيين مع السلطات المحلية في وضع يحتل فيه الأوربيون المواقع الإدارية الأكثر تأثيراً. وعند تفحص لشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة بعمق يتبين أن المشروع يمكن أيضا اعتباره "موقعا للاصطدام" إذ كان المشروع يستهدف بالدرجة الأولى تحسين خدمات الرعاية الصحية الأولية وفقا للمفهوم الغربي للرعاية الصحية، وثانياً اعتبرت المنظمة الهولندية المانحة تدريب وتوظيف النساء (المرشدات الصحيات) أجراءً ذي طابع تحرري بخروج النساء من منازلهن والتحاقهن بالعمل المأجور. هذه الآراء الخارجية عن الرعاية الصحية والنساء لابد أن تتم ترجمتها وتداولها والتفاوض حولها مع السلطات المحلية والنساء المعنيات. ومن اوجه الشبه اللافتة للنظر انه لم تبذل إلا عناية طفيفة بخلفية الشابات اللواتي تم تدريبهن كمرشدات في مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة وكيفية تأثير هذه الخلفية على مكانة مهنة المرشدة. وبطريقة مماثلة تضمنت واجبات المرشدات عناصر تحدت الحدود الجندرية التقليدية مثل الزيارات المنزلية لعائلات لا تربطهن بها صلة وأخيرا فإن المرشدات مثل الحكيمات كن في اسفل الهرم الإداري للمؤسسة الصحية في اليمن يعلوهن تراتب من خليط من الإداريين المحليين والأجانب.
استفادت المرشدات كثيرا من الفرص التي قدمت لهن على شكل تدريب وفرص عمل لكن ذلك قد ولّد أيضا أشكالا جديدة من الضبط الاجتماعي، ففي الوقت الذي اعتبرت فيه المرشدات رائدات تجاوزن الحدود الجندرية المألوفة بدخولهن إلي حقل جديد من العمل المأجور، فإنني ابحث أيضا عما إذا كن مجرد أدوات (قطع شطرنج) استخدمت بواسطة السلطات اليمنية والأوربية لتحقيق اجندتها الخاصة. علاوة على أن الدخول إلى حقل الوظيفة الجديدة ربما ينجم عنها أشكال جديدة من الضبط الذاتي في الوقت الذي قد يمارس أفراد الأسرة أيضا أشكالا جديدة من الضبط الاجتماعي. و بطريقة مماثلة لتلك التي اتبعها فهمي، سأحلل مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة بتفحص خلفيات المرشدات وشروط تدريبهن وتوظيفهن، خبراتهن ومشاكلهن وفوق ذلك كله رأيهن في دورهن في المشروع (1998: 37Fahmi ). لكن في الوقت الذي اعتمد فيه فهمي على الأرشيف في تحليله تمكنت أنا من لقاء المرشدات وإجراء المقابلات معهن أثناء عملي في المشروع.
تلعب قصص المرشدات دورا محوريا في تحليل "مشروع الحداثة" هذا، لكن قبل تقديم قصصهن وتحليل المشروع سأناقش أولا المفاهيم النظرية الرئيسية والنقاشات ذات الصلة ببحثي.

2.2 خطابات التنمية
تمثل مقالة خالد فهمي حول مدرسة القابلات جزءا من الكتاب الذي حررته ليلي أبو لغد بعنوان "إعادة صنع المرأة؛ النسوية والحداثة في الشرق الأوسط" Remaking Women: Feminism and Modernity in the Middle East (1998). Lila Abu-Lughod الذي قدمت فيه مقاربة جديدة المرأة والجندر في الشرق الأوسط خاصة فيما يتعلق بالدراسة التاريخية للمشروعات التي ركزت على "إعادة صنع النساء" (المشروعات التي استهدفت تحديث النساء في الشرق الأوسط في القرنين التاسع عشر والعشرين). وترى أبو لغد أن الدراسات السابقة عن المرأة والجندر في الشرق الأوسط لم تعتن بحيوية وحساسية الجدال حولهما في لحظة تاريخية محددة ولا بأهمية الصلة بين الإصلاحات التي أنجزت لصالح المرأة وسياسات التحديث (مصدر سابق 5).
لا يمكننا وضع الإلتباسات والغموض الذي يكتنف هذه المشروعات في بؤرة الاهتمام إلا بتحليل الطرق التي اتبعت لإنتاج وإعادة إنتاج المفاهيم المختلفة للحداثة. و تدعو أبو لغد- على خطى ميشيل فوكو- لكشف وتوضيح الافتراضات حول المرأة في المجتمع، تلك الافتراضات التي تشكل أساس العديد من هذه المشروعات، كما وتُولي أهمية كبيرة للدراسة النقدية لـ "سياسات الحداثة Politics of Modernity". إن الطرق التي يتم بموجبها اعتبار الأفكار والممارسات الجديدة حديثة وتقدمية لم تأت بأشكال وصيغ تحررية فحسب بل لازمتها أيضا أشكال جديدة من الضبط الاجتماعي (مصدر سابق 6).
ثانيا يتعين علينا الاهتمام بما تسميه أبو لغد "سياسات علاقات الشرق والغرب " the politics of East/West relations" وبالخطابات المستلفة من أوربا، أو تلك التي يدعمها الأوربيون، أو تلك التي تشكلت استجابة للتعريفات الاستعمارية لـ "تخلف" الشرق (مصدر سابق) وتشدد ليلى أبو لغد على الحاجة الملحة للاهتمام بالديناميات الفعلية للتهجين الثقافي لنتمكن من مساءلة المفاهيم الجامدة للثقافة ولتجاوز ثنائية الشرق والغرب (مصدر سابق 16). ثالثا تؤكد أبو لغد على أنه من الضروري دراسة دور الطبقة الاجتماعية بربطها بسياسات الحداثة وعلاقات الشرق والغرب. لا بد أن نعرف من هم المشاركون في الجدال والنقاشات حول المرأة وما هي علاقة مشاركتهم هذه بتعزير المشروعات الطبقية وتلك المتصلة بالهوية؟ (مصدر سابق 6).
بينما تركز المقالات الواردة في كتاب أبو لغد على المشروعات الحداثية في القرنين التاسع عشر والعشرين فإنني أرى مقاربتها مفيدة جدا لتحليل المشروعات الحداثية المعاصرة مثل مشروعات التنمية فيما يسمى بـ "العالم الثالث". لقد استخدم مفهوما التحديث والتنمية في خطابات محددة للحداثة ذات صلة بتاريخ الرأسمالية والاستعمار وبزوغ نظريات معرفة أوربية معينة ابتداء من القرن الثامن عشر. وبينما كانت المشروعات الاستعمارية جزءًا من "سياسات العلاقات بين الشرق والغرب" اندرجت مشروعات التحديث والتنمية ما بعد الاستعمارية في نطاق "سياسات العلاقات بين الشمال والجنوب". تعتبر التنمية مفهوما مفتاحيا لنظريات التحديث بعد الحرب العالمية الثانية حيث تزايد اهتمام الدول الغربية بتحديث الدول المستعمرة والمتحررة حديثا من الاستعمار وتنطلق هذه الفكرة من منظور تطوري تتحدد فيه مراحل مختلفة من التنمية على أساس أن دول "العالم الثالث" تمثل مراحل مبكرة من التنمية، و للوصول إلي مستوى الدول الأوربية (الحداثة الأوربية) فإنها تحتاج إلى مساعدة وان التحديث والتنمية يمكن أن يساعدا هذه الدول في اللحاق بالركب الأوربي. وبالرغم من أن نظريات التحديث قد انتُقدت ورُفضت على نطاق واسع فإن الافتراضات الأساسية التي يستبطنها مفهوم التنمية ظلت جزءا من خطابات التنمية الراهنة.
خلال العقدين الماضيين تزايدت بشكل واضح البحوث الأكاديمية التي فككت المزاعم المعرفية المضمنة في خطابات التنمية السائدة وصاغت موقفا نقديا للكيفية التي تشتغل بها صناعة التنمية، حيث يذهب اسكوبار Escobar (1984; 1995) إلى أن خطابات التنمية قد أنتجت "العالم الثالث " بالاستخدام المطرد لوسائل وطرق محددة تنظم المعرفة والسلطة. أولا يسبق التنمية استيلاد مفهوم "الشاذ" أو غير العادي كتعريف للظواهر الاجتماعية التي تختلف عن تلك المعروفة في الغرب ثم وإطلاق تسميات كـ "المتخلفة" و"الناقصة النمو" و"الأمية". يعقب ذلك تقديم هذه الظواهر كمشكلات يتعين حلها. ثانيا ظهرت سلسلة من المنظومات التنموية الرئيسية والفرعية التي تسمح للخبراء بإزاحة هذه المشكلات من السياق السياسي وإعادة عرضها في السياق العلمي المحايد بوضوح (1984: 384). كان ظهور اقتصاديات التنمية تطورا هاما في هذه الاستراتيجية حيث اعتبر النمو الصناعي والاقتصادي طريقا لتحقيق ما توصلت إليه الدول الغربية وصمم اقتصاد التنمية لمساعدة الدول غير الغربية لتحقيق ذلك الهدف. ثالثا تم مأسسة ومهننة التنمية وصار لها مؤسساتها ومهنها وممارساتها على المستويات المحلية والوطنية والدولية (مصدر سابق 388).
يمكن تعريف مشروعات التنمية التي تبادر بها وتمولها وتديرها المنظمات الغربية المانحة كمشروعات مجسدة لخطابات تنمية. بينما كانت مشروعات التنمية موضوعا للدراسات الأنثروبولوجية منذ نشأتها، مال الأنثروبولوجيون إلى التركيز على دراسة آثار الأنشطة التنموية، أسباب فشلها والطرق الكفيلة بتحسين كفاءة هذه المشروعات. وأدي ايلاء أهمية اكبر للعوامل الثقافية والاجتماعية إلى تعيين أنثروبولوجيين للعمل في مشروعات التنمية وظهر إلى الوجود "أنثروبولوجيا التنمية" (cf. Escobar 1991). وأصبحت الافتراضات التي يقوم عليها مفهوم التنمية مقبولة من حيث المبدأ بدلاً عن مساءلتها وتدقيقها ونقضها كما يقترح اسكوبار. خلال السنوات العشرة الماضية تزايد بشكل ملحوظ عدد الأنثروبولوجيين الذين اتخذوا التنمية موضوعا للدراسة بهدف تفكيك الأفكار والممارسات التي تشكل أساس التنمية (cf. Sachs 1992; Hobert 1993; Crush 1995) هذه الدارسات تسمي في بعض الأحيان "الانثروبولوجيا التنموية" تمييزا لها عن "أنثروبولوجيا التنمية"
تعتبر دراسة فيرجسون المعنونة " الآلة اللاسياسية: التنمية، اللاتسييس والسلطة البيروقراطية في ليسوتو" Ferguson’s The Anti-Politics Machine: “Development”, Depoliticization and Bureaucratic Power in Lesotho (1990). واحدة من أولى الدراسات التي تناولت خطاب التنمية مطبقا على مستوى مشروع تنمية. يركز فيرجسون في دراسته لمشروع تنموي ريفي في ليسوتو (جنوبي أفريقيا) على الآثار الجانبية غير المقصودة للمشروع ويفعل ذلك بتحليل الأفكار والخطابات التي تؤسس للمشروع وتأثيرات هذه الأفكار والخطابات على الممارسات العملية. مقتفيا خطى فوكو يتحدث فيرجسون عن التنمية كـ "جهاز مفهومي" لتأكيد حقيقة إنها " ليست مجموعة من الافتراضات الفلسفية والعلمية المجردة بل آلية ذات نسق مفصل تفعل شيئا ما" (مصدر سابق 15). خُطط ونُفذ المشروع في ليسوتو بهدف تحسين الأوضاع الاقتصادية في الريف والحد من الفقر الذي اُعتبر مشكلة فنية وليست سياسية. بالرغم من فشل معظم أنشطة المشروع، بمعنى أنها لم تؤد الغرض منها، فقد كانت النتائج الجانبية للمشروع اكثر أهمية لأنها أدت إلى تعزيز وتقوية السلطة البيروقراطية للدولة. وبالتالي فقد كان للمشروع نتائج سياسية هامة جدا لكن لم يتم الإقرار بهذه النتائج تحت غطاء "مهمة فنية محايدة" لا يستطيع أحد الاعتراض عليها (مصدر سابق 256) ولهذا يطلق فيرجسون تسمية "الآلة اللاسياسية" على التنمية؛ فهو يرى أن الجهاز المفهومي للتنمية يُنكر النتائج السياسية لأنشطتها من جانب فيما تعزز سلطة بيروقراطية مستعمرة وتوسع من نطاقها وانتشارها من جانب آخر (مصدر سابق 1973).
يقدم فيرجسون دراسته كدراسة أنثروبولوجية ولكنه يضيف انه يركز على الجهاز الذي ينجز "التنمية" (بالعكس من الأبحاث الأنثروبولوجية التي تركز على التنمية) وليس على البشر الذين يراد تنميتهم (مصدر سابق) فهو يرى أن العاملين في التنمية والمستفيدين منها وممثلي الحكومات جميعا جزء من الماكينة الشاملة للتنمية وأن الطريقة الوحيدة لتفادي هذه الخطابات التنموية هي مقاومتها وتكوين حركات مناهضة لها. يتبنى كل من اسكوبار وفيرجيسون اطروحات ميشيل فوكو حول مفهوم الخطاب باعتباره نسقا متكاملا من الأفكار يكمن خارج نطاق الأفراد ويركزان على إنتاج وإعادة إنتاج خطاب التنمية. بالرغم من دراساتهما قد قدمت إضاءات مهمة لآليات اشتغال خطابات التنمية إلا انهما لم يتركا إلا مساحة محدودة للأدوار الوسيطة والتمثل الفعلي للخطاب على الأرض.
إن افتراض أن المعرفة التنموية حزمة واحدة من الأفكار والمفاهيم و"نشاط كلي واحد يخضع لسيطرة قوية من الأعلى" (Grillo 1997: 20) لا يحظى بإجماع بين الباحثين في أنثروبولوجيا التنمية، إذ يصفها جريللو (مصدر سابق 21) بـأنها "أسطورة التنمية" وينتقد هذه الأسطورة ويوصمها بالافتقار إلى المعلومات والمركزية الثقافية وأنها مؤسسة على ثقافة الضحية التي يكون طرفيها "العاملين في التنمية" و"ضحايا التنمية"، وتماما مثلما ليس هنالك " بشر يتم تنميتهم" لا توجد أيضا مجموعة واحدة ومفردة من "العاملين في التنمية" إذ أن مجموعات البشر المنخرطون في التنمية تتشكل من خليط واسع غير متجانس كما أن أفكارهم وممارساتهم قد تتغير بمرور الزمن علاوة على أن الناس لا ينحصرون فقط فيمن يتأقلم مع التنمية أو من يقاومها بل لديهم ردود فعل واستراتيجيات اكثر تنوعا وتعقيدا. يقدم لونج Long (1992) مقاربة تعتمد على الأطراف الفاعلة، تعترف بالحقائق المتعددة والممارسات الاجتماعية المتنوعة لمختلف الأطراف.
تقتضي المقاربة المعتمدة على الأطراف الفاعلة، عند تطبيقها في مجال التنمية، تحليلا متكاملا للكيفية التي تتعامل وتفسر بها مختلف الأطراف الاجتماعية الفاعلة العوامل الجديدة في حياتهم، وفهما للعوامل التنظيمية والاستراتيجية والتفسيرية المتصلة بها وتفكيكا للمقولات التقليدية للتدخل المخطط (مصدر سابق 9).
في كتاب صدر حديثا يطبق ارسي ولونجArce and Long (2000) ) المقاربة المعتمدة على الأطراف الفاعلة لدراسة الحداثة ويركز ارسي ولونج على دراسة الكيفية التي تتم بها مواءمة وتجسيد أفكار وممارسات الحداثة على الممارسات المحلية (مصدر سابق 1) بينما كانت الحداثة مرتبطة لوقت طويل بالرؤى الغربية للتنمية أصبح من الجلي الآن أن الناس يمكن أن يكون لديهم أفكار ورؤى مختلفة للحداثة وأنهم قد يتبنون ميولاً معادية للحداثة ويرى آرسي ولومنج ضرورة اعتماد اثنوغرافيا عاكسة يتم خلالها تحليل ممارسات وخبرات الأطراف المحلية إضافة إلى معارف وتجارب الباحث لكي يتسنى إجراء بحوث أنثروبولوجية تنموية جيدة (مصدر سابق 27). تلك هي الطريقة الوحيدة للتخلص من المقولات الأحادية الجانب حول التنمية والاعتراف بالمفاهيم المختلفة للتنمية والحداثة التي قد تكون لدي الناس إضافة للممارسات والاستراتيجيات التي يتبنونها لوضع هذه المفاهيم موضع التنفيذ. وهكذا نرى أن مفاهيم التنمية تحيل إلى مفاهيم الناس حول التقدم المجتمعي بينما تحيل مفاهيم الحداثة إلى إحساس الناس بانتمائهم للحاضر.

3-2 سياسات تنمية الرعاية الصحية:
لم يكن من قبيل المصادفة أن تكون مدرسة القابلات المصرية ومشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة مشروعين للرعاية الصحية. بينما اعتبرت الرعاية الصحية لوقت طويل مهمة خيرة وجيدة بحكم التعريف ولا سياسية (لا علاقة لها بالسياسة) بحكم طبيعتها، أصبح من الجلي الآن أن الرعاية الصحية، خاصة الرعاية الصحية الغربية، أداة هامة جداً لتوسيع وتعزيز سلطة الدولة (Van der Geest 1986). يحدد فان در خيست ستة أسباب رئيسية تجعل من الرعاية الصحية الغربية أداة سياسيةً: أولا الرعاية الصحية خدمة يحتاج إليها الجميع وبالتالي تبدو مستبعدة من المصالح السياسية. ثانيا تعمل الرعاية الصحية الغربية بطريقة لا تسيسية لأنها تختزل الرعاية الصحية إلى شأن فردي بدلا من أن تكون شأناً اجتماعيا. ثالثا تعتبر الرعاية الصحية وسيلة فعالة للضبط الاجتماعي وتنظيم سلوك أفراد أي مجموعة وتوصم أولئك الذين لا يتأقلمون مع الأعراف الاجتماعية "بالمرضى" علانية. رابعاً الرعاية الصحية ضرورة أساسية لاستمرار إعادة إنتاج القوى العاملة وعلاقات الإنتاج لذلك فإن تدخل الدولة في تنظيم الرعاية الاجتماعية أمر جوهري. خامسا تزايد بشكل واضح استخدام مؤشرات الرعاية الصحية كمعيار للتنمية. وأخيرا يعمل استدخال وتعزيز الطب الغربي على إخضاع الناس لمعارف وتقنيات عالية التعقيد بدلا من تشجيعهم على الاعتماد على أنفسهم حيث أن ارتفاع كلفة التكنولوجيا المطلوبة لتوفير الخدمات الطبية الغربية يجعل الدولة واحدة من المنظمات القليلة جداً القادرة على توفيرها وهذا بالطبع في صالح الدولة. بتوفير الرعاية الصحية الغربية تؤسس الدولة صورة إيجابية عن نظامها السياسي بينما تعزز اعتماد الناس على هذه الخدمات سلطة الدولة وتضمن الانسجام الاجتماعي ((Van der Geest 1986: 246. وهكذا نرى أن الرعاية الصحية أداة سياسية مهمة وأن الطريقة التي تنظم بها الرعاية الصحية وثيقة الصلة بالتنظيم الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع.
تتجلى الأهمية السياسية للرعاية الصحية بشكل خاص عندما ننظر إلى الدول الاستعمارية وما بعد الاستعمارية. أولا، كان التوسع الاستعماري الأوروبي في القرن السادس عشر بداية لانتشار العديد من الأمراض والوبائيات في كل العالم (Doyal 1979: 101) ثانيا، تسبب التوسع الاستعماري في تدمير العلاقات الاجتماعية والبيئية الحيوية ودمرت صحة السكان المحليين (مصدر سابق 107). ثالثاً، تم تشجيع التدخلات لتوفير الرعاية الصحية خدمة للمصالح السياسية والاقتصادية للمستعمرين بالدرجة الأولى (Packard 1997: 94) ودعم وشجع إجراء البحوث على أمراض المناطق المدارية لأن الملاريا والحمى الصفراء شكلتا تهديدا جديا لجهود المستعمرين الأوروبيين وصحتهم. واعتبرت الصحة دائما هي الخلو من المرض وكانت تدخلات الرعاية الصحية ذات طابع فني يستهدف السيطرة على المرض بالدرجة الأولى وانطلاقا من النموذج الطبي الأوروبي في بدايات القرن العشرين والتي كان ينظر فيها إلى الجسد الإنساني باعتباره آلة تحتاج إلى الصيانة عندما تتعطل، فقد كانت الرعاية الصحية العلاجية مفضلة دائماً على الصحة الوقائية. بينما كان هنالك اهتمام مقدر بالصحة العامة في أوروبا في أوائل القرن التاسع عشر انفصلت الصحة العامة تدريجياً عن عمل الأطباء وبدأ النموذج الهندسي "يسيطر تدريجيا" على عالم الصحة والطب (Macdonald 1994: 32). إن قوة "النموذج الهندسي" ذو صلة وثيقة بالمفاهيم الغربية للحداثة التي تسيطر فيها المعرفة والتكنولوجيا على الجسد البشرى وهذا يفسر أيضاً جاذبية "النموذج الهندسي" في الدول النامية حيث يعتبر الطب العلاجي المتقدم رمزاً قوياً للحداثة .
وُفرت الرعاية الصحية لجزء من السكان المحليين في العديد من المستعمرات لكن هذه الرعاية كانت مقتصرة إلى حد كبير على مناطق الإنتاج والجيش للحفاظ على تدفق العمالة والجنود للجيوش فيما اُستبعد بقية السكان عن الرعاية الصحية الغربية ولم يكن لموضوع الرعاية الصحية الريفية أولوية في الفترة الاستعمارية "لم تكن الرعاية الصحية هدفاً في ذاتها بل كانت من متطلبات التنمية فقط" (مصدر سابق 74). يذهب باكارد (مصدر سابق) إلى أن المصالح السياسية والاقتصادية للمستعمرين هي التي كانت تحدد مقدار وحدود توفير الرعاية الصحية في الدول النامية حتى عقب الحرب العالمية الثانية، أما الآن فقد أصبحت برامج الرعاية الصحية تستهدف جميع السكان لأن الدول الصناعية أصبحت في حاجة لأسواق جديدة لسلعها المصنعة. أما على الصعيد السياسي فقد اعتبرت السيطرة على أمراض المناطق المدارية سلاحاً في الحرب ضد الشيوعية فقد عمدت الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال على إنشاء برنامج ضخم لمكافحة الملاريا للحصول على مساندة الحكومات والسكان المحليين (مصدر سابق 98). وبالرغم من أن تنمية الرعاية الصحية قد وضعت الآن تحت شعار "لنعمل نحو عالم أفضل" فإن العديد من ملامح المرحلة الاستعمارية لازالت باقية مثل عدم المساواة في توزيع الموارد الصحية والميل إلى اعتبار الرعاية الصحية شرطاً مسبقاً للتنمية الاقتصادية والنظر إلى الصحة باعتبارها الخلو من المرض وتواصل واستمرار الاتجاهات الاستعمارية التي تعتبر السكان جهلاء وفي حاجة للمعرفة الفنية (مصدر سابق 102-111). لقد اعتبرت الرعاية الصحية حلاً فنياً محضاً بتجاهل تام للديناميات الاجتماعية والاقتصادية ولم ينم وعيً حقيقي بأن الصحة ليست شيئاً فنياً محضاً وأنها مرتبطة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية إلا في أواخر الستينيات من القرن الماضي عقب فشل العديد من تدخلات الرعاية الصحية في البلدان النامية. وفي هذا السياق اكتسبت الرعاية الصحية الأولية أهميتها بتركيزها على الوقاية والمشاركة المجتمعية والمساواة والتكنولوجيا الملائمة والتعاون عبر القطاعي. من الضروري أن تصبح الرعاية الصحية شاملة وليست انتقائية وأن تُكافح الأسباب الاقتصادية والاجتماعية للأمراض.
كان المؤتمر الدولي للرعاية الصحية الأولية الذي نظمته هيئة الصحة العالمية في الما آتا في (الاتحاد السوفيتي السابق) عام 1987 نتيجة لهذا التحول في التفكير الغربي حول التنمية، حيث اعتبر أن الإرشاد الصحي ورعاية الأمومة والطفولة قبل وبعد الولادة والتطعيم وتوزيع وسائل تنظيم الاسرة والأدوية الأساسية، أنشطة أساسية لمكافحة وفيات الرضع والأطفال والأمهات أثناء الحمل والولادة والحد من النمو السكاني. وأصبح تدريب عاملي الرعاية الصحية الأولية والصحة المجتمعية جزءاً رئيسيا من مقاربة الرعاية الصحة الأولية التي تم تطويرها والتوصل إليها في الما آتا واتفق على تدريب أفراد محدودي التعليم من المجتمعات المحلية في فترة قصيرة ليعملوا على توفير خدمات التثقيف الصحي والصحة الوقائية لمجتمعاتهم على أساس تطوعي على أن يقدموا على سبيل المثال الرعاية الصحية الأولية والإرشاد الصحي حول النظافة والتغذية وأن يقدموا خدمات تطعيم الأطفال وتوزيع وسائل تنظيم الاسرة.
كانت فكرة تدريب عاملي الصحة المجتمعيين معتمدة إلى حد كبير على تجربة حركة الصحة العامة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية مع صعود دولة الرفاه الاجتماعي في نهاية القرن التاسع عشر حيث عملت نساء الطبقة الوسطى اللواتي كن يسمين بـ "الزائرات الصحيات" على زيارة نساء الطبقة العاملة لتثقيفهن حول الصحة والأمومة الجيدة والتغذية كجزء من مهمة حضارية عامة تستهدف زيادة النمو السكاني (Ramirez-Valles 1997: 72). وفي مرحلة لاحقة تعين على نساء الطبقة العاملة أن يقمن بهذا العمل بأنفسهن لأنهن أقدر على الوصول إلى والتأثير على النساء الفقيرات (مصدر سابق 71). اعتبر تعليم وتثقيف النساء ، خاصة النساء الفقيرات حول "الأمومة الجيدة" حلاً أساسياً لمشكلة وفيات الأطفال ووسيلةً لزيادة النمو السكاني وبناء أمة معافاة. "ارتبطت الأمومة بعلاقة مزدوجة بالحكومة والمنظمات التطوعية"(مصدر سابق) .
وقعت الغالبية العظمى من حكومات دول العالم على إعلان الما آتا وأدخلت الرعاية الصحية الأولية في سياساتها الصحية. كانت معظم دول العالم راغبة في دعم برامج الرعاية الصحية الأولية لأسباب سياسية حيث أنها كانت تنظر للرعاية الصحية الأولية كوسيلة لتوسيع المرافق الصحية والحد من معدلات الوفاة والمرض ولتعزيز المصداقية السياسية للحكومات وكوسيلة لتخفيض الإنفاق على الرعاية الصحية (van der Geest et al. 1990: 1028). علاوة على ذلك فقد استخدمت الرعاية الصحية لضمان دعم المانحين لأن منظمات التنمية الدولية قد سبقت الجميع في الترويج لنشاطات الرعاية الصحية الأولية في البلدان النامية. من المهم أن نلاحظ أن مقاربة الرعاية الصحية كما تم تطويرها في ألما آتا بمبادئها الخمسة المتمثلة في المساواة ، الوقاية ، المشاركة المجتمعية ، التكنولوجيا الملائمة ، والتعاون عبر القطاعي لم تكن جزءاً من النظام الغربي للرعاية الصحية الأولية (see also Macdonald 1994: 13). من الواضح أن هذه المقاربة قد تم تطويرها خصيصاً للبلدان النامية لكن على أساس المفاهيم الغربية. يرى راميرز– فالس (1997: 75 Ramirez-Valles). أن المنظمات المانحة حثت وضغطت وقادت الحكومات الوطنية لتبني وسائل تميل للاعتماد على المجتمعات المحلية في توفير الخدمات الصحية الأولية للفقراء ومع ذلك فإن القليل جداً من الدول أبدت اهتماماً جدياً بعناصر الرعاية الصحية الأولية و لم تتطابق مقاصد هذه المفاهيم مع الأفكار المحلية إلا نادراً (cf. Stone 1986; Stone 1989; Woost 1997).
بالرغم من أن الرعاية الصحية الأولية كانت تستهدف تعزيز اعتماد السكان المحليين على أنفسهم في الرعاية الصحية فقد تم في حالات عديدة فرضها من قبل الدولة وتنفيذها بواسطة مهنيين يعملون في الحكومة أو في المنظمات المانحة وأصبحت الرعاية الصحية الأولية أداة سياسية هامة لمؤسسات الدولة والمنظمات المانحة على حد سواء ويعود ذلك إلى حد كبير للطابع الغامض لتعبير "الرعاية الصحية الأولية" التي يمكن أن تحتمل شتى المعاني لمختلف الناس في مواقع مختلفة في التراتب السياسي" (van der Geest et al. 1990: 1025). ولهذا يدعو فان در خيست وآخرون (مصدر سابق) إلى استخدام منظور متعدد المستويات في رعاية الصحية الأولية. والمنظور المتعدد المستويات يعني ألا ندرس موضوعات البحث منعزلة بل في علاقتها مع مستويات المجتمع الأخرى وتشير كلمة مستوى تحديداً إلى دوائر التنظيم الاجتماعي العالمية والوطنية والإقليمية والمحلية (مصدر سابق 1026). يتيح لنا المنظور المتعدد المستويات اكتشاف المعاني المتعددة لظاهرة تحمل نفس الاسم في مستويات مختلفة من التنظيم الاجتماعي (مصدر سابق 1026). يقدم مصطلح الرعاية الصحية الأولية نفسه بشكل خاص في منظور متعدد المستويات حيث أنه أطلق من مؤتمر دولي نظمته هيئة الصحة العالمية وتبنته حكومات وطنية وروجت له منظمات مانحة دولية ومنظمات حكومية وتم تنفيذه على مستويات محلية في البلدان النامية. ويمكن أن يعزى فشل العديد من مشاريع الرعاية الصحية الأولية إلى اختلاف آراء ومصالح الأطراف المتعددة ذات الصلة. وتتطلب دراستي للمرشدات في مشروع الرعاية الصحية الأولية الحضرية بالحديدة أيضا
ايمان شقاق
مشاركات: 1027
اشترك في: الأحد مايو 08, 2005 8:09 pm

مشاركة بواسطة ايمان شقاق »

الاخ عثمان حامد
شكراً على ايرادك اجزاء هذا الكتاب..
عشت في اليمن فترة قصيرة من حياتي... لكني اذكر جيداً كيف كان حال النساء،
ففي المدرسة الاعدادية اذكر انه كانت في فصلي (اولى اعدادي) نساء في سن العشرين كان اغلبهن قد تزوجن تحت ضغط اسرهن .. وتركن الدراسة فترة من الزمن.. ومن ضمن هذه المجموعة اذكر مرشدة صحية كانت تحكي عن تجاربها وكيف انها اصرت على ان تتعلم الاسعافات الأولية ضمن برنامج للهلال الاحمر اليمني، ثم واصلت مشوارها ... وكانت تطمح في ان تعمل كطبيبة في يوم من الايام، فرجعت للمدرسة لتكملة دراساتها، كنت معجبة بقوة شخصيتها وإصرارها.
واذكر كيف كانت حالة الطالبات من غير المتزوجات، وحكاياتهن عن ضغوط اسرهن على تزويجهن مبكراً، لاعتقادهم بأن من تعدت سن السابعة عشر قد "فاتها قطار الزواج"!!

التحيه للدكتورة مارينا دي ريخت والاستاذ محمد عبد الحميد ولك لتنويرنا بصدور هذا الكتاب.

تحياتي
ايمان
صورة العضو الرمزية
عثمان حامد
مشاركات: 312
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:04 pm

مشاركة بواسطة عثمان حامد »

شكراً الأخت إيمان علي مشاركتك،
وقد كتبت رداً قبل فترة، علي مداخلتك هذه، لكنه اختفى بين أضابير البورد، فقد أرسلته بطريقة خاطئة علي (ر-خ) بدلاً عن( أكتب رد)، ربما تجدينه بين رسائلك حسب ما قلت للصديقة نجاة، واوضحت لها، وبذلك فقد صعب علي أن استعيد الرد، وصعب علي ان أستعيد اللحظة والمشاعر التي كتبت بها ذلك الرد، حول موضوع الكتاب، وموضوع اليمن بشكل خاص، فانا- ككثيرين غيري- لا أعرف كيف استعيد كتابة موضوع كتبته قبل فترة، او حتي قبل لحظة. ربما استطيع، لكنها ستكون كتابة حامضة، وجافة، وأنا-ككثيرين غيري- لا أحب تلك الكتابات المصنوعة، فالكتابة عندي- حتى لو كانت مداخلة صغيرة- هي بداهة، وصفاء لحظة، إنها عندي-ككثيرين غيري-ليست عملاً إجرائياً، إنها حالة. إنها ليست عملاً يخلص منه المرء، بمجرد ان يضغط علي الكي بورد: ومنذ تلك اللحظة فقد هجرت هذا البوست، و(حرته)، برغم من أنيّ كنت اطمح في تطويره، بمشاركة الاصدقاء، ليتحول لمكان كتابي عن هذا الكتاب، وعن اليمن، ومفارقاتها، ونكاتها المتصلة بهذه المفارقات، والتي ربما كان محمد عبد الحميد، وأسامة الخواض، وغيرهم ممن لهم علاقة باليمن، سيثرونها أكثر.
آسف للثرثرة الزائدة، لكنها الكتابة.
شكراً علي المشاركة، مرة ثانية.
أضف رد جديد