السودان والتداول السلمى للأديان

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
ÚËãÇä ãÍãæÏ
مشاركات: 5
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:15 pm

السودان والتداول السلمى للأديان

مشاركة بواسطة ÚËãÇä ãÍãæÏ »

لقد كانت الكتل السكانية فى كل من مصر والسودان تعيش حالة من التجانس الإثنى والثقافى والدينى منذ أن تقدموا شمالاً مع تقدم خط المطر وتراجع الثلج الأخير، قبل حوالى عشرة ألف سنة. وإستمروا على هذه الحال من التوافق إلى أن بدأت أولى الهجمات الأجنبية على الأراضى الشمالية. لذلك كان لزاماً على الشعب السودانى القديم أن يتصدى لتغول الأغراب على أرض هى جزء من أرضه. وعليه فقد خاض الكثير من المعارك الشرسة ضد متوالية الإحتلال الأجنبى لمصر، التى تسابقت إليها الأطماع منذ القرن السابع قبل الميلاد. فأصبح كل غاز يخرجه غازٍ آخر. أو كل غاز يسلمها لغازٍ جديد. بدءً بالأشوريين الذين بدأوا هجومهم عام 671 ق.م. وتصدى لهم الملك "تهارقا". ثمّ جاء بعدهم الفُرس ليعقبهم الإغريق وأخيراً الرومان الذين إمتد بهم الزمان حتى أجلاهم العرب عام 640 ميلادية. من ذلك يتضح أن الأجانب قد تناوبوا على حكم مصر لأكثر من 1300 سنة. وكان آخرهم الرومان قبل أن يأتى العرب. وهؤلاء المتأخرين جاؤا بمشاريع جديدة فكلاهما يتبنى طرح دينى مغاير. مما حتم على السودان أن يصبح القطر الوحيد الذى يدخل فى إحتكاكات مباشرة مع حَمَلة العقائد من مختلف المشارب. فقد كان صراعه الأول مع الأمبراطورية الرومانية، الدولة الأولى التى تتبنى المسيحية كدين رسمى. وكانت وقتها هى القوة الأكبر والأعظم فى العالم. ثمّ بعدها مع دولة أخرى لا تقل عنها قوة وخطر، وهى دولة الخلافة الإسلامية التى بدأت تنداح فى العالم تحت راية دين جديد. كل منهما كانت مصر بالنسبة له حلقة مهمة فى مشروعه التوسعى. أما بالنسبة للمواطنين فالإحتلال لم يكن يعنى لهم إنتزاع الأرض الشمالية من أهلها فحسب بل يخلق تهديد مستمر لما تبقى لهم من أرض. ففى عام 30 ق.م عندما تمكن القائد الرومانى "أوكتافيوس" من وضع حدٍ لسيادة البطالسة أو البطالمة على مصر، كان ذلك إعلاناً بدخول السودان فى مرحلة جديدة من النضال ضد أعداء جدد. فتحول شماله الأقصى مع الجنوب المصرى إلى ساحة تحفل بالهجمات والهجمات المضادة بدأتها الكنداكة فى عام 24 ق.م. أى بعد حوالى ستة أعوام من بدء الإحتلال الرومانى. ثمّ توالت الحروب بعد ذلك. سلسلة من المعارك كانت فى معظمها تنتهى بإتفاق لا غالب ولا مغلوب. آواخر هذا الصراع ضد الرومان قاده تحالف واسع بين أبناء المنطقة. هبوا معاً ضد عدوهم المشترك وهاجموا تحصيناته فى الجنوب المصرى، وتمكنوا من إحراز نصر مؤقت بإجتياح حامياته وأسروا الكثير من جنوده. عندها إضطر الرومان إلى حشد جيوشهم وتجريد حملة قوية على هذا الحلف وتمكنوا من إلحاق الهزيمة به. بعدها عقد الطرفان إتفاقية أو معاهدة، تلزم السودانيين بإطلاق سراح الأسرى الرومان والمحافظة على السلام لمدة مائة عام. أما السودانيين من جانبهم فقد إشترطوا أن يتاح لهم مواصلة التعبد لآلهتهم "أوزوريس" و"إيزيس" و"مين" فى معبد جزيرة فيلة قرب أسوان وأن يسمح لهم بإستعارة تمثال معبودتهم الكبرى "إيزيس" من ذلك المعبد ليطوفوا بها فى مناطقهم موسمياً، لكى تهب الخصب لآراضيهم. لقد أظهر هذا الإتفاق ملامح من شخصية هذا الإنسان السودانى، وهى شدة تمسكه بمعتقداته. فلم تكن له مطالب مادية، وإنما إنحصرت مطالبه فى الجانب الروحى فقط. أما فيما يتعلق بالمعاهدة فلا أدرى لماذا حددت مدة سريانها بمائة عام. ربما كان الرومان يعتقدون أن المواطنين سينسون خلال هذه الفترة عدائهم للرومان أو إن حدة هذا العداء ستضاءل، ولكن إتضح لهم فيما بعد أن هذه الفترة رغم طولها لم تهدئ خواطر المواطنين نحوهم. ولم تتغير النظرة إليهم كعدو غازٍ ومحتل. فما أن إقتربت تلك الفترة من الإنقضاء حتى بدأوأ فى الإستعداد لمنازلة عدوهم التقليدى من جديد. ولكن هذه المرة ليست دفاعاً عن الأرض فحسب. بل دفاعاً عن الأرض والدين. فقد بدأت المسيحية تتوسع وتزداد إنتشاراً على حساب الديانة القديمة فى مصر، وذلك تحت حماية الحكم الرومانى. مما أجج من حالة العداء. عن ذلك يقول دكتور أسامة عبد الرحمن النور فى كتابه "تاريخ السودان القديم" "عندما أصبحت المسيحية الديانة الرسمية للدولة فى عهد قسطنطين الأول "306-337 م." بدأت القلاقل مجدداً فى المناطق الحدودية". بذلك يكون قد أضيف بعداً جديداً للصراع. حين دخل الدين إلى ساحة المعركة وأصبحت كل مكونات الهوية مهددة بالزوال الأمر الذى صب مزيداً من الزيت على النار. فهبت شعوب الجنوب فى ثورات متتالية ضد الرومان والدين الجديد معاً. أحس بعدها الأمبراطور الرومانى إن الخطر يكمن فى تجمع المواطنين من سكان الجنوب حول معتقداتهم وإشتراكهم معاً فى إقامة طقوسهم الدينية فى معبد فيلة حسب ما نصت عليه الإتفاقية. لذلك رأى إن إضعافهم وكسر شوكتهم لن يتأتى إلاّ بتفريقهم، وعدم إتاحت الفرصة لهم للتلاقى فى مواسم حجهم إلى معبد فيلة، لذلك أمر بإغلاق المعبد ونقل تماثيل الآلهة إلى القسطنطينية وسجن كهنة المعبد. وذلك تحت حماية أتباع الدين الجديد. ففى ذلك الوقت كان أتباع المسيحية فى مصر فى تزايد مستمر وبالذات فى النواحى الجنوبية، حيث نجد أنه وبعد أقل من ثلاثين عام من أمر الأمبراطور بإغلاق المعبد قام رئيس مطارنة أسوان بتحويل نفس المعبد "معبد إيزيس" إلى كنيسة. ولابد إن ذلك قد تمّ بموافقة ومباركة الحكومة الرومانية حتى تغلق وإلى الأبد آخر مزارات أصحاب الديانات القديمة. ولكن وبالرغم من هذا التعسف فقد ظل أتباعها جنوب الشلال الأول مخلصين لمبادئها فترة طويلة من الزمن. ولكن فى ذلك الوقت بدأت حالات التفكك تطرأ على مجتمعاتهم كنتيجة لحالة الشيخوخة والضمور التى بدأت تصيب جسد مملكة مروى ككل بالترهل والإنفرط.
عندما شارفت حضارة مروى على الذبول دخلت المنطقة فى مرحلة مجهولة لقد تحللت المملكة القديمة ولم تنشأ كيانات سياسية جديدة واضحة المعالم لتحل محلها. فتحولت الدولة إلى مجموعة من المشيخات المتناثرة التى تسعى كل منها لتدبير أمورها وإدارة شئونها فى إطارها المحلى. هذا التفسخ السياسى أدخل المنطقة فى حالة من الركود الإقتصادى. بعدها بدأت هذه المجتمعات تعيد صياغة نسيجها السياسى فظهرت فى القرن السادس الميلادى، ثلاث ممالك هى نوباديا أو نوباتيا فى الشمال ما بين الشلال الأول وحتى أواخر الشلال الثانى المعروف ببطن الحجر وعاصمتها فرس قرب مدينة وادى حلفا. وتقع إلى الجنوب منها مملكة المقرة وعاصمتها دنقلا العجوز، وتحتل الموقع ما بين الشلال الثانى والشلال الخامس بالقرب من مدينة بربر أو كبوشية. وتتاخمها جنوباً منطقة يبدو أنها لم تكن تحتل مساحةً كبيرة، عرفت قديماً بإسم "الأبواب" موقعها بالضبط غير محدد. لذلك يمكننا أن نعتبر المملكة الثالثة وهى علوة وعاصمتها سوبا بالقرب من الخرطوم، تقع ما بين الشلال الخامس إلى ملتقى النيلين. ولها إمتداداتها الجنوبية. بدأت شعوب هذه الممالك تتبنى تدريجياً وطواعية الدين المسيحى. فقد تصدوا له عندما كان دين رسمى تشرف الدولة على إرساء أسسه. وتقبلوه عندما أصبح دين شعبى يسعى به الناس، عامة الناس. فأقبلوا عليه حتى صار عقيدة لغالبية السكان وبدأوا فى إستقبال البعثات التبشيرية منذ حوالى عام 540 م. ثمّ فيما بعد، تبنته هذه الممالك كدين رسمى منذ حوالى عام 580 م. بالطبع لا يمكننا القول إن المسيحية لم تظهر فى السودان إلاّ فى القرن السادس الميلادى تحديداً، وكذلك لا يصح القول أنها تلاشت فى القرن السادس عشر. فهناك العديد من العوامل التى ساعدت فى دخول المسيحية إلى المنطقة قبل الدخول الرسمى المتثل فى وجود إرساليات دينية. وذلك كنتيجة للتواصل الذى كان يوفره النشاط التجارى بين هذه الممالك وجيرانها من مسيحى مصر وأثيوبيا، ثمّ أضيف إليه تواجد آخر نتيجة للإضطهاد الذى مارسه الرومان فى البدء قبل أن تتحول روما رسمياً للمسيحية ضد طلائع المتنصرين فى مصر، وعلى نفس المنوال لحق بهم آخرون عند دخول العرب، فهرب العديد من الرهبان إلى السودان عندما فرضت عليهم الجزية مقابل الإحتفاظ بمعتقداتهم. فهناك من يرى أن جبل الأولياء صار مستقراً لعدد كبير من هؤلاء الرهبان الذين هاجروا إلى السودان فراراً من قسوة الإضطهاد، وأنهم إعتكفوا فى كهوف صغيرة، وقطاطى متواضعة، وكانت لهم علاقات طيبة مع المواطنين، حتى إعتبرهم السكان من أولياء الله الصالحين، ولذلك أسموا المنطقة التى يسكنون فيها "جبل الأولياء". هذه رواية ربما تحتاج للمزيد من التأكيد ولكن ليس هناك ما يدحضها فى الوقت الراهن. على العموم لقد تسرب المسيحيون للسودان نتيجة لظروف مختلفة. ثمّ تعايشوا مع سكانه وتعايش معهم السكان ولم يتغول أى طرف على حقوق الآخر فى العقيدة والتعبد، وقد ظلّ هذا الإحترام المتبادل مستقراً حتى بعد أن صارت المسيحية دين الكثرة الغالبة من الناس. وهو الأمر الذى دفع ببعض المحدثين من الباحثين إلى تسميتها بالممالك المسيحية. ولا أعتقد إن كثرة المؤمنين بدين معين تكفى وحدها لإلصاق صفة دينية بالمكان. كما لا أعتقد أن أهلها كانوا يسمونها كذلك. فهذا النوع من التسميات جاء به التطرف الدينى الذى غزى العالم بعد العصور الوسطى والحروب الصليبية. فحتى الفونج ما كانوا يعرفون دولتهم بأنها إسلامية ولكنهم كانو يعرفون أنفسهم بأنهم مسلمين. وبالطبع ذلك ينطبق على الممالك الأقدم. فعندما دخل الإسلام أرض مصر كان السودانيين لا يميزون أنفسهم عن المصريين بالدين. وإنما كانوا يظهرون هويتهم دون تطاول على هوية الآخرين أوحقهم فى الإعتقاد وهى سمة ملازمة للحرية. وهذا ما أهلهم لإنشاء ممالك مميزة تستطيع أن تقف فى وجه الغزو الثقافى، وتحمى نفسها من تغول الآخرين. وتعيش تفاعلاتها الخاصة سواءً على نحوٍ إيجابى أو سلبى، حيث أن تاريخهم لم يخلوا من مناوشات ولكنه فى نفس الوقت لم يخلو من مظاهر التوافق والإنسجام الذى أدى فى مرحلة ما إلى توحيد شطريها الشماليين نوباديا والمقرة فى دولة واحدة حوالى عام 700 م. وقد ظلت هذه الدولة قائمة وقوية حتى حوالى عام 1323 م. وقد شهدت عبر هذا التاريخ الطويل الكثير من الأحداث لعل أهمها ما وقع فى بداياتها الأولى والذى تمثل فى تصديها الباسل لمحاولات الجيوش العربية غزو السودان فى منتصف القرن السابع الميلادى. أما المملكة الجنوبية علوة فقد حافظت على إستقرارها وإزدهارها لفترة أطول إستمرت زهاء الألف عام عامرة بالسكان. إلى أن جاءت نهايتها أخيراً على يد دولة الفونج سنة 1504 م.
عندما دخل المسلمون مصر عام 640 ميلادية. لم يجدوا مقاومة كبيرة من قبل الحكومة الرومانية المحتلة. فأحكموا سيطرتهم عليها فى وقت وجيز. بعدها إلتفتوا إلى المناطق المحيطة. ففى عام 641 م. أى بعد عام واحد من إخضاع مصر جردوا حملة لمهاجمة شمال السودان ولكنها أرتدت دون أن تحقق شئ. فقد وجدت مقاومة شرسة أجبرتهم على إلتزام حدودهم ولم تتكرر المحاولة طيلة عهد عمر بن العاص، إلى أن جاء خليفته عبد الله بن أبى سرح، الذى كرر المحاولة وذلك بعد عشرة أعوام من الهجوم الأول. أى فى عام 651 م. ويبدو أن هذه الحملة كانت تتحرك بتصميم أكبر من أجل تحقيق الأهداف التى عجزت عنها الحملة الأولى. فواصلت تحركها حتى وصلت دنقلا عاصمة مملكة المقرة وهناك وقع الإشتباك الذى وردت بعض تفاصله فى المصادر التاريخية العربية. فحول ذلك يقول إبن عبد الحكم المتوفى عام 257 هجرية، 871 ميلادية فى كاتبه "فتوح مصر والمغرب". الذى جاءت فيه رواية الأحداث على طريقة المؤرخين العرب القدامى فى إعتمادهم على الروايات الشفاهية وإثبات إسماء الرواة لإضفاء المصداقية على ما يكتب. فنجده يقول "حدثنا إبن لهيعة عن يزيد بن أبى حبيب قال، كان عبد الله بن سعد بن أبى سرح عامل عثمان على مصر فى سنة إحدى وثلاثين. فقاتله النوبة.
قال إبن لهيعة، وحدثنى الحارث بن يزيد قال إقتتلوا قتالاً شديداً، وأصيبت يومئذ عين معاوية بن حديج، وأبى شمر بن أبرهة، وحيويل بن ناشرة، فيومئذ سموا رماة الحدق، فهادنهم عبد الله بن سعد إذ لم يطقهم. وقال الشاعر
لم تر عينى مثل يوم دمقلة والخيل تعدو بالدروع مثقلة
قال إبن حبيب فى حديثه، وإن عبد الله صالحهم على هدنة بينهم، على أنهم لا يغزونهم، ولا يغزو النوبة المسلمين، وأن النوبة يؤدون كل سنة إلى المسلمين كذا وكذا رأساً من السبى، وأن المسلمين يؤدون إليهم من القمح كذا وكذا، ومن العدس كذا وكذا فى كل سنة.
قال إبن أبى حبيب، وليس بينهم وبين أهل مصر عهد ولا ميثاق، وإنما هى هدنة أمان بعضنا من بعض".
وفى رواية أخرى جاء على لسان شيخ من حمير قال "شهدت النوبة مرتين فى ولاية عمر بن الخطاب فلم أر قوماً أشد بأساً منهم، ولقد سمعت أحداً يقول للمسلم أين تحب أن أضع سهمى منك؟ فربما عبث الفتى منا، فقال فى مكان حدقة العين. كذا فلا يخطئه كانوا يكثرون الرمى بالنبل مما يكاد يرى من نبلهم فى الأرض شئ. فخرجوا إلينا ذات يوم فصادفونا ونحن نريد أن نجرى حملة واحدة بالسيوف، فما قدرنا على معالجتهم، ورمونا حتى ذهبت الأعين، فعدت مائة وخمسين عيناً مفقوءة، فقلنا ما لها ولا خير من الصلح وإن سلبهم لقليل ونكايتهم شديدة". وقال الشاعر
لم تر عينى مثل يوم زمقلة والخيل تعدو بالدروع مثقلة
من هانين الروايتين تتضح عدة أشياء هامة أولها إتفاق الرواة على الوقفة البطولية الباسلة التى جسدها أبناء السودان فى مقاومتهم للغزو الأجنبى، أياً كان هذا الغزو. وإذا وضعنا فى الإعتبار أن من يروى هذه الأحداث هم من الطرف الآخر، الطرف الذى دحر فى هذه المعارك. وهو لا شك أنه دحر وهزم حين لم يحقق أهدافه من الحملة وإنما فقد فيها غير القتلة، مائة وخمسين عين إن صحة الرواية. ففى مثل هذه الحالات غالباً ما يكتفى الجيش المهزوم بالصمت أو على الأقل يحاول أن يقوم بتشويه صورة عدوه. بينما يقوم الطرف المنتصر وهو الشعب الذى إستطاع حماية بلده وصد العدوان عنها بإظهار فخره وإنتشائه بالنصر وتضخيم قدراته والإحتفاء بشجاعة وبسالة أبنائه. وهم بلا شك قد فعلوا ذلك، ولكن لم تصلنا نصوص مكتوبة من جانبهم. فكل ما نعرفه عن هذه الأحداث قد أمدتنا به الكتابات العربية، وهم على الأقل من الموالين والمتعاطفين مع الجانب المعتدى. وبالطبع ما كانوا يرون أن ما يقومون به هو إعتداء على الآخرين وإنما هى حروب من أجل واجب مقدس. لذلك كان ينبغى عليهم حين لم يحققوا تقدماً فى معاركهم أن يكتفوا بالقول أنهم لم يتمكنوا من إحراز نصر حاسم فى القتال فلجأوا للمهادنة. أما أن يقوموا بالإشادة بقوة عدوهم وإظهار مهاراته القتالية نثراً وشعراً فلابد أنهم كانوا أمام شعب متميز من حيث القوة والصلابة والإصرار، واجههم بشجاعة ما كان لهم قبل بها رغم أنهم كانوا القوة التى لا تقهر فقد كانوا يمتلكون أضخم جيوش العالم فى ذلك الحين. لا تنقصهم العدة والعتاد وبين صفوفهم أشد الرجال إيماناً وصلابة وإقدام، دوخوا العالم وأخضعوا أعتى الدول لسطانهم فأحكموا سيطرتهم على بلدان العالم من عمق آسيا وحتى أطراف أوروبا. ولكنهم عندما إتجهوا جنوباً تراجعوا وهم ينظرون بعين الإعجاب للشعب الذى هزمهم وبدد أطماعهم فى الإستيلاء على أرضه. فهو لم يتهاون فى الدفاع عن حريته وسيادته على تراب وطنه. فوقف فى وجههم ببسالة، جعلتهم يرتدون عما حشدوا له ويتضح ذلك فيما أورده إبن عبد الحكم حين ذكر وفقاً لرواية الشهود أن عبد الله بن أبى سرح لم يطقهم، أى لم تكن له طاقة بهم، أى إنهم كانوا أكبر من طاقته فهادنهم. وما ورد فى الرواية الثانية على لسان شيخ حمير قوله "لم أر قوماً أشد بأساً منهم. ثمّ يضيف قائلاً خرجوا إلينا ذات يوم فصادفونا ونحن نريد أن نجرى حملة واحدة بالسيوف، فما قدرنا على معالجتهم، ورمونا حتى ذهبت الأعين، فعدت مائة وخمسين عيناً مفقوءة، فقلنا ما لها ولا خير من الصلح وإن سلبهم لقليل ونكايتهم شديدة". فى هذا الحديث يعترف الرجل بالعجز والهزيمة قائلاً فما قدرنا على معالجتهم. أى لم نستطع التغلب عليهم ثمّ يقول ما لها. أى لا فائدة من المعركة فالصلح خير. وقد عزا تراجعهم لسببين بقوله "أن سلبهم لقليل ونكايتهم شديدة". فإذا أخذنا السبب الأول وهو أن "سلبهم قليل" أى ما يمكن أن يغتنم منهم ليس بكثير، وهو تبرير لا أخلاقى لا أعتقد أنه مقبولاً لدى المسلمين وهم الذين ملأوا الدنيا ضجيجاً بأنهم ما خرجوا إلاّ من أجل نشر دين الله الحنيف، أى إنهم كانوا يخوضون حروب مقدسة لأهداف مقدسة وهى هداية الناس للدين القويم. فإذا كان هذا هو ما يسعون إليه، فإن قلة الأسلاب والغنائم يجب ألاّ تقعدهم عن أداء واجبهم الأسمى الذى سوف يسألهم الله إن هم تقاعسوا عنه أو قصروا فيه لأطماع دنيوية تتعلق بسلب ونهب الشعوب لا هدايتها لدين الله. وإلاّ فهم ليسوا أكثر من قطاع طرق يقتلون الناس من أجل الإستيلاء على ما حباهم الله به من خير. ولأنى أربأ بهم أن يكونوا كذلك فسوف أرجح السبب الثانى وهو أن نكايتهم كانت شديدة. أى إنهم لم يتراجعوا إلاّ أمام عنف الضربات التى تلقوها من السودانيين الذين لم تكن تحركهم أطماع السلب والنهب ولا الرغبة فى الإنتشار الأيدولوجى. وإنما فقط كانوا يدافعون عن أرضهم وشعبهم وحريتهم، ولذلك كانت دوافعهم أقوى فصمدوا على الأرض وتصدوا للعدوان وصدوه مما أكسبهم التقدير والإحترام حتى من عدوهم. وذلك ما عبر عنه أحد شعراء الحملة الذى أظهر إعجابه ببطولة أهل دنقلا ببيت الشعر المذكور وإن كان إسم المدينة قد ورد بنطق مختلف فهى مرة دمقلة ومرة زمقلة ولكنها فى كل الحالات تعنى دنقلا. أما فيما يتعلق بما ذكره شيخ حمير فى الرواية الثانية فأعتقد أنه قد تجاوز بعض الشئ فى إظهار إعجابه بمهارتهم ومدى قدرتهم فى إصابة الهدف فإستنتج حواراً كان يدور بين جنود الطرفين. لا أعتقد أنه جرى على هذا النحو، بل لا أعتقد أنه جرى أصلاً. فلم يكن الأفراد من الفصيلين يتحدثون نفس اللغة حتى يدور بينهم هذا النوع من الحوار العفوى. وهذا لا يعنى أنه لم يكن هناك بعض الأفراد من هذا الطرف يتحدثون لغة الطرف الآخر. ولكن هؤلاء فى الغالب هم عدد محدود يقوم بالترجمة متى ما تطلب الأمر، بين الجانبين. وهذا لا يكفى لإدارة مثل هذا النوع من الحوار بين جيشين متقابلين يتجاذب جنودهما أطراف الحديث يقول أحدهم أين تريد أن أضع سهمى منك فيرد الآخر فى مكان الحدق، فيصاب فى عينه. هذا قد يكون محاولة لإظهار كثرة الإصابات فى العين فهى فى الرواية الأولى تعرض لها ثلاثة أشخاص بالإسم ربما كانوا من القواد، مما يعنى أن العدد كان أكبر. أما فى الرواية الثانية فقد قدروا بحوالى مائة وخمسين شخص. على كل حال يبدو أنها كانت معركة شرسة دفعت فى نهاية الأمر القوة المهاجمة لأن تتراجع وتجنح للسلم. فتمّ التفاوض حول الهدنة والتوصل إلى إتفاق ما، يوقف القتال بينهم، وهذا هو الثابت أما بقية بنوده فقد إختلفت الآراء حولها. فوفقاً لما أورده إبن عبد الحكم من قول إبن أبى حبيب، بأنه "ليس بينهم وبين أهل مصر عهد ولا ميثاق، وإنما هى هدنة أمان بعضنا من بعض". هذا يظهر أن ما تمّ بينهم من توافق إقتصر على هدنة توقف الأنشطة العدائية. وقد أشتمل أيضاً على إتفاق إقتصادى لتحقيق بعض المصالح المتبادلة فوفقاً لقوله كان على كل طرف أن يوفر للطرف الآخر بعض الإحتياجات. من الجانب النوبى عليهم "أن يؤدون كل سنة إلى المسلمين كذا وكذا رأساً من السبى، وأن المسلمين يؤدون إليهم من القمح كذا وكذا، ومن العدس كذا وكذا فى السنة". هذا النص يوضح أن الأخذ كان بمقابل، وليست هناك جزية أو جباية مفروضة على طرف دون آخر. فإذا أعتبرنا أن ما يقدمه النوبة كان جزية حسب ما يرى البعض، فلماذا لا نعتبر القمح والعدس هو الآخر كان جزية فرضها النوبة على المسلمين.
عندما حدث الهجوم العربى على السودان كانت المسيحية لا تزال حديثة العهد. عمرها لا يتجاوز المائة عام، وذلك بعد أكثر من مئاتى عام من تبنيها كديانة رسمية فى الأمبراطورية الرومانية التى كانت تحكم مصر. فإذا كانت الدولة فى مصر تدعم تبنى الديانة المسيحية ففى السودان لم يكن لها من داعم سوى رغبة الناس وإختيارهم وإرادتهم الحرة. ومثلما وقفوا بصلابة ضد روما المسيحية ورفضوا ديانتها متمسكين بدينهم دين الإله أوزير "أوزريس" ولم يدخلوا فى الدين الجديد إلاّ بعد أن بدأ يتسلل إليهم من خلال التفاعل الإنسانى الطبيعى لا عن طريق التسلط والقهر والإجبار. وقفوا كذلك بحزم فى وجه التقدم العسكرى الأسلامى فى أول الأمر، وصدوه بقوة حتى لا يفرض عليهم عنوة دين لا يرتضونه. ففى ذلك الوقت ورغم أن المسيحية لم تكن قد تغلغلت بينهم بشكل واسع، مع العلم أن إنتشارها كان كبيراً فى الجارتين الأقربيين مصر وأثيوبيا. ولكنها لم تكن قد بلغت ذلك الشأن فى السودان. ولكن فيما بعد تبناها عدد مقدر من الناس. وإن ظل البعض على ولائه القديم لدين آبائه وأجداده. وظلوا هكذا لعدة قرون كلٌ مخلص لما يدين به. كانوا فيها يتفاعلون مع المسلمين ويتبنى بعضهم الدين الجديد عن طيب خاطر دون إكراهٍ أو إجبار. وبدأت أعدادهم فى التزايد دون أن يخلق ذلك فجوة إجتماعية بين أتباع الدين القديم وأتباع الجديد فقد ظلّ الجميع يتعايشون فى تآلف لا إقصاء أو إكراه فيه. لكل فرد الحق والحرية فى أن يعتقد فيما يشاء من الأديان. لذلك كان هناك من يتبنى المسيحية ومن يتبنى الإسلام ومن يتبنى ما يشاء من الديانات الأفريقية وإستمرّ الوضع على هذه الحال إلى أن ظهرت دولة الفونج الإسلامية، والتى لم يجُبّ ظهورها الأديان السابقة، والدليل على ذلك أن هذه الأديان سواء القديمة منها ذات الأصول الأفريقية أوالمسيحية لا زالت باقية ولها أتباعها ولها تأثيراتها فى الحياة الإجتماعية. فهذه الأديان لم تتوقف أو تختفى بمجرد أن آلت الأمور لدولة الفونج كأول مملكة يقف على رأسها حاكم مسلم. وذلك لسبب بسيط يكمن فى طبيعة الإنسان السودانى وهو رفضه للقهر وتغيير هويته وإنتمائه رغماً عن إرادته. وذلك ما شكل كل تاريخه فالمسيحية عندما دخلت السودان لم يدخلها الرومان عنوة ولم تفرضها سلطة حاكمة على أحد وإنما تقبلها الناس طواعية وعن إقتناع وطيب خاطر، حتى أصبحت دين معظم الشعب ومن ثمّ أفرزت حكم جاء موافقاً لما يؤمن به أكثرية الناس. وهذا لا يعنى أن أصحاب الديانات القديمة قد تم إستئصالهم أو محاربتم ومنعوا من ممارسة طقوسهم الدينية وإنما أستمرت حركة التثاقف والإقناع والإقتناع على مهل. حتى إستطاع الدين الجديد أن يكتسب القاعدة العريضة من الأتباع. وكذلك الأمر بالنسبة للإسلام فعندما حاول المسلمون فى القرن السابع فى عهد عمر بن العاص ثم عبد الله بن أبى سرح الدخول للسودان بقوة الفتح وقف الشعب السودانى فى وجههم، وقاتلهم قتالاً شهدوا هم أنفسهم بضراوته، مما شل قدرتهم ومنعهم من دخول هذه الأراضى. ولكن فيما بعد عندما أصبحت مسألة الإقتناع بالدين الجديد مسألة إختيار وتوافق وتراضى بدأ الناس يقبلون عليه حتى أصبحت القاعدة العريضة من الناس تؤمن به. وبالتالى تبوأ مواقع القيادة من يتبنون عقيدة غالبية الناس فظهرت مملكة سنار التى يتربع على سدة حكمها سلاطين الفونج المسلمين. وعندما دخلت مملكة الفونج فى صراع مع مملكة علوة ما كان ذلك صراع دينى وإنما صراع على الزعامة والسلطة. وليست لقهر الناس وإجبارهم على الدخول فى الدين الجديد فمثل هذا النوع من التعدى على الهوية وتغيير القناعات الشخصية بالقوة لا يلائم الإنسان السودانى. لذلك نجد أن هناك الكثير من الناس ظلوا على دينهم القديم رغم تحول الدين الرسمى للدولة إلى دين آخر. ولا يعنى الدين الرسمى للدولة بمفهوم اليوم لهذا المصطلح، وإنما هو فقط يعنى أن الزعامة قد أصبحت فى يد الغالبية التى تدين بهذا الدين أو ذاك دون أكراه لأحد بأن يتبنى قناعات الآخر. لذلك ظلت مراحل الإمتداد الزمنى للعقائد تتداخل فى السودان فعندما تحول للمسيحية ظل الكثيرون متمسكين بدين آبائهم ولم ينكر عليهم أحد ذلك. وعلى نفس المنوال عندما تحول للإسلام ظل الكثيرون متمسكين بدين آبائهم وأيضاً لم ينكر عليهم أحد ذلك. إن مسألة قهر الناس على تبنى عقيدة بعينها قد شهدته الكثير من دول العالم فقد مارسه المسلمون حين إجتاحوا بلدان العالم وفرضوا الجزية على غير المسلمين وأسموهم بالذميين تمييزاً لهم عن سواهم، وبالتالى أعلوا الهوية الدينية على الهوية الوطنية. وكلنا يعرف ما كان يتم فى أوروبا العصور الوسطى من قبل الكنيسة ومحاكم التفتيش. فقد كان كل هؤلاء يعتمدون على قوة السيف والإخضاع القسرى. ولكن السودان كل تحولاته الدينية تمت عن طريق التقبل والإقتناع الشخصى وليس الفرض بالترقيب والترهيب. فهذا النوع من الدعوة للدين لم يعرفه السودان إلاّ حديثاً مع المراحل التى ظهرت فيها الجماعات الإسلامية التكفيرية. أو ما يعرف بجماعات الإسلام السياسى. فهم ورغم أستنكارهم لممارسات الكنيسة فى أوروبا إلاّ أنهم يمارسونها بحذافيرها نظرياً وعملياً. ويتنصلون عنها فى نفس الوقت تحت إدعاء أن ليس فى الإسلام كهنوت، وهم الكهنوت نفسه. أليس الكهنوت هو الذى يقول للناس ألا رأى لكم إلاّ ما أرى. فرأيهم هو رأى الله وإرادته. وكل من يخالفه مرتد وكافر مباح الدم. وهذا ما فعلته كنيسة العصور الوسطى حين قتلت حرقاً الفلكى "جوردانو برونو" عندما صرح برأيه حول علاقة الأرض بالشمس. وما فعله هؤلاء بالأستاذ محمود محمد طه حين صرح برأيه حول قوانين سبتمبر. فقد أتوا به للمحكمة لكى يستتاب أى يدفع دفعاً لكى يتوب ويتراجع عن رأيه ويتبنى رأيهم، وإلاّ فسلطة الدولة أو سلطة الكنيسة لا فرق، سوف تذهب به إلى المحرقة أو المقصلة أو المشنقة أيهم تفضل المحكمة. وفعلاً شنقوه. ألم يكن منطوق الحكم يقول ألا رأى لك إلاّ ما نرى, ولا كهنوت فى الإسلام. وهم كهنوت القرن العشرين، جماعات متسلقة. تستغل التناقضات السطحية من أجل الوصول للسلطة. ومتى ما تهيأ لها ذلك سعت للقضاء على كل رأى حر بإستخدام سلاح الدولة وسطوتها. وإن لم يتهيأ لها ذلك. لجأت لمسألة التخويف والترهيب والرفض والإقصاء والإستئصال للآخر. وهذه ظاهرة ساذجة لا تتوفر لديها الحجة ولا القدرة التى كانت لدى السابقين، لذلك لا يمكنها أن تحدث تغييراً يذكر فى المجتمعات فالناس ليسوا بحاجة لمن يخيفهم ويرهبهم بل هم بحاجة لمن يقف معهم كتف بكتف ويحترم حريتهم وإرادتهم. على العموم وبعيداً عن حالات الشذوذ التى تعيشها جماعات الإسلام السياسى، فقد كان تغلغل الأديان فى السودان دائماً بالحسنى والتراضى التى لا يتم فيها إزالة السابق وإحلاله باللاحق. لذلك عندما إنتشرت المسيحية لم تلغى المعتقدات القديمة فهناك من ظل على دينه وهناك من إعتنق المسيحية ولكنه حملها بعض ملامح دينه القديم فظلت الكثير من العادات والتقاليد والطقوس تمارس كما هى. أو مع بعض التعديل مع كامل الإيمان بالمسيحية دون أن يستشعر الإنسان حرجاً أو تناقضاً فى ذلك أو يتلقى إنتقاداً من الآخرين. وحدث ذلك أيضاَ عند دخول الإسلام فظل هناك العديد من الناس على نصرانيتهم وتحول غالبية الناس إلى الإسلام ولكن ظل الكثير منهم يتمسك بالعادات والتقاليد التى تعارف عليها منذ المسيحية وماقبلها فحتى ملوك الفونج المسلمين لم يتخلوا أو يتنكروا لأرثهم الثقافى إذ أخذوا معهم بعض التقاليد الأفريقية القديمة، والقديمة جداً ودخلوا بها الإسلام ومنها إغتيال الملك عندما يتقدم فى السن. لذلك فإننا نجد بعد قيام دولة الفونج لم ينكر أحد على من أراد من السودانين تمسكه بمسيحيته. فكان هناك عدد منهم لا زال يعمل مع ملوك ومكوك سنار، سواءً فى مجال الكتابة والتوثيق أو فى مجال التجارة وغيرها. وبالطبع هناك من لا يعمل مع الملوك وهم كثر وكانوا جميعاً يسكنون بين الناس، وينتشرون فى الأسواق، يعيشون حياة طبيعية كاملة المواطنة مع المسلمين. وقد إستمر هذا الوضع حتى دخول الأتراك السودان عام 1820 م. فقد ذكروا أن المسيحيين كانت لهم كنائسهم وأساقفتهم ويقيمون شعائر دينهم دون أن يتهددهم أحد. ولعل من الأشياء الطريفة التى تدل على هذه النقلة المتداخلة من دينٍ لأخر والتى تتسم بالتسامح الفائق. ما كشفت عنه العمليات الآثارية فى ستينيات القرن الفائت. فقد كان هناك قبر لولى يعتقد الناس فى صلاحه، مثله مثل الكثير من قبور الأولياء المنتشرة فى السودان اليوم. التى يزورها الناس من أجل طلب المساعدة فى حل بعض المشكلات الحياتية، أو للإيفاء بالنزور وتقديم القرابين، أو لمجرد التبرك بمقام الشيخ. وكان هذا القبر يعرف بقبر الشيخ "عويس القرنى" بالقرب من وادى حلفا عند قرية "صحابة". كان الأهالى يزينون قبره بالرايات البيضاء علامةً على قدسيته ومكانته الدينية، ويحرقون عنده البخور. أى كانت تمارس لديه كل الطقوس التى تمارس فى أضرحة الأولياء والصالحين ولا ينقصه شئ. لكن الأحداث لم تسمح لهذا الشيخ أن يبقى فى مرقده بأمان. فبعد بناء السد العالى دخل قبره ضمن نطاق المواقع التى يتهددها الغرق مع الكثير من الأماكن الآثارية الأخرى فى تلك المنطقة. فأوكلت عملية إنقاذها لفريق بحث إسكندنافى. وبدأ هذا الفريق عمله دون عائق. ولكن فى مطلع عام 1964م. أكتشف وجود قبر قديم يعود إلى الحقبة الفرعونية تحت مزار الشيخ قرنى. فتهيب مواصلة العمل والحفر تحت هذا المكان المقدس لدى أهالى المنطقة، ولكنه كان مضطراً لذلك حيث إن المهمة الموكلة إليهم هى إنقاذ الآثار المهددة بالغرق، والتى هى حتماً سوف تغرق بعد إكتمال التخزين فى البحيرة خلف السد. إضافةً لذلك فهم لا يعرفون مدى أهمية الآثار التى توجد تحت هذا الضريح، فقد تكون ذات قيمة عالية، وإن تركت لأى إعتبار فسوف تفقد للأبد. وفى ذلك لا يستثنى حتى قبر الشيخ، فمن الأجدى نقل القبر من مكانه لتجنيبه هذا المصير، ومن ثم مواصلة البحث عن الآثار القديمة. فإتصل فريق البحث بالمدير الأدارى لمدينة حلفا وطلبوا منه التدخل. فقام هذا المدير بإقناع المواطنين بأهمية نقل القبر من مكانه. لأنه إن ترك فسوف يختفى تحت الماء وسوف تنقطع صلتهم به نهائياً. أما أن هم وافقوا وسمحوا بنقله إلى مكانٍ آمن فسوف تتسنى لهم زيارته متى ما شاءوا. وهو كمسئول حكومى سيتعهد بسلامة الإجراءات. وقد وفر فريق متخصص سوف يتكفل بإزاحته عن موقعه دون أن يمس، وهو فريق الآثار نفسه. وبالفعل وافق الأهالى وبدأ الحفر لإستخراج جثمان الشيخ أولاً ومن ثمّ الوصول للآثار التى تحته. ولكن كانت المفاجأة المدهشة عندما أستخرجت رفاته من القبر فقد ذهل أتباع الشيخ ومريديه حيث إتضح أنه ما كان شيخاً مسلماً وإنما شيخ مسيحى بل هو ليس مسيحياً عادياً بل مسيحياً برتبة أسقف يتدلى من عنقه ويزين صدره صليب الأساقفة.
إن هذا الحدث أو هذا الموقف له دلالات عميقة تتحدث عن نفسها. فهذا الأسقف كان رجلاً صالحاً فى نظر الناس حينما كانوا يؤمنون بالمسيحية ولكن فيما بعد تغير الحال. فمع تعاقب الأجيال كانت مساحة إنتشار الإسلام تتسع وعدد الإتباع يتزايد دون وجود خطٍ فاصل بين ما هو مسيحى وما هو إسلامى. وذلك لأن المسألة تمت بالتدريج وعلى مدى طويل مما جعل الناس يحملون معهم معتقداتهم المسيحية ويدخلون بها للإسلام، هذه النقلة التى تمت بكثير من الرضى والتسامح، لم تخلق جفوة بين القديم والحديث. حيث من الواضح أن الأجداد والآباء المسيحيين كانوا يتبركون بقبر هذا الأسقف ثم جاءت الأجيال الأولى من المسلمين لا تحمل ضغائن تجاه الماضى بل كانوا فى حالة من التصالح التام معه. فإستمروا فى تقديس ما رأوا أمهاتهم وآبائهم يقدسونه بغض النظر عن معتقدهم. ثم عندما جاء الأبناء والأحفاد تحولت الصورة الذهنية لصاحب هذا القبر من رجل دين مسيحى إلى رجل دين مسلم. وإستمرت الممارسات والطقوس على حالها. هذا على مستوى قداسة الأشخاص كأولياء وصالحين التى تحتل نفس الموقع تقريباً فى جميع الأديان. أما على مستوى الممارسات اليومية المتمثلة فى العادات والتقاليد والقيم فهناك الكثير منها الذى جاء من فترات ما قبل المسيحية بالآف السنين ومن المسيحية نفسها لا زال له صدى فى موروث وقيم الشعب السوانى.
ÚËãÇä ãÍãæÏ
مشاركات: 5
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:15 pm

مشاركة بواسطة ÚËãÇä ãÍãæÏ »

رغم أننى قد كتبت هذا الموضوع قبل أكثر من عام إلا أننى عدت إليه مع مواضيع أخرى كتبتها فى أوقات سابقة ولم تتح لى فرصة لنشرها تتحدث عن طبيعة العلاقة التاريخية والتكوين الإثنى القديم لسكان وادى النيل أو ما يعرف اليوم جغرافياً بمصر والسودان. وما كنت أريد الخوض فى الهوشة الفجة التى أثارتها بعض الدعاوى العمياء عن حقوق السيادة ما قبل (سايكس بيكو) وعصبة الأمم والأمم المتحدة. إذا كان الأمر يستقيم هكذا, فسوف نعود إلى العصر الجليدى الأخير, وسوف نرى.
أضف رد جديد