نيرتتي، تضامن جماهير المركز و الهامش،محمد سليمان عبد الرحيم

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

نيرتتي، تضامن جماهير المركز و الهامش،محمد سليمان عبد الرحيم

مشاركة بواسطة حسن موسى »










اعتصام نجيرتيتي واستعدال النضال
جماهير المركز وجماهير الهامش تنتصر بالنضال المدني السلمي، لا بالكفاح المسلح.



محمد سليمان عبد الرحيم *


في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي، وتحت وطأة القمع الوحشي، القتل والاغتيالات، والتعذيب وبيوت الأشباح، وحل النقابات والاتحادات وقوائم الفصل التعسفي المتطاولة، وتجريم جميع أشكال النضال السلمي، هرعت المعارضة السودانية الشمالية، فرادى وجماعات وأحزاب، إلى دولة إرتريا الوليدة آنذاك على الحدود الشرقية لتؤسس للكفاح المسلح بقناعة تامة بأنه لم يكن من الممكن إسقاط نظام الإنقاذ الفاشي أو الضغط عليه وحمله على التفاوض من أجل التغيير إلا بالعمل المسلح، بعد أن أعلن النظام نفسه وبلسان رئيسه أنه لن يفاوض إلا من يحملون السلاح.

بعد فترة وجيزة من استقلال دولة إرتريا، استعرت بالخلافات بنيها وبين النظام السوداني نتيجة دعم الأخير للحركات الجهادية الإرترية. لم تضع إرتريا أي زمن إقناع نظام الإنقاذ بتغيير سياسته، وإنما عمدت مباشرة للرد عليه بالمثل، فدعت جناحاً منقسماً من تنظيم "القيادة الشرعية" لزيارة إرتريا، وهناك أغدقت عليه التسهيلات العسكرية من معسكرات وأسلحة وذخائر وتدريب، وعمدته قوة أساسية من قوى المعارضة السودانية. في ذات الوقت، كانت جراحات الحركة الشعبية لتحرير السودان من هزائم صيف العبور وانقسام الناصر قد اندملت أو كادت، فنقلت أرتالاً معتبرة من قواتها وعتادها إلى الجبهة الشرقية تحت اسم "لواء السودان الجديد" والذي أصبح بمثابة عمود الظهر لقوى الكفاح المسلح على الحدود الشرقية، وبعد ذلك شرع العديد من قوى المعارضة الأخرى في بناء وحدات مسلحة صغيرة في المعسكرات التي وفرتها الحكومة الإرترية.

في ذلك الوقت كنت ضمن مجموعة الناشطين السياسيين تسعى لتكوين حركة سياسية جديدة توسمت فيها أن تكون إطاراً لتوحيد جماهير ما اصطلح على تسميته ب "القوى الحديثة" في المركز والمدن الكبرى، والتي احترفت تاريخياً الكفاح السلمي لإسقاط الدكتاتوريات العسكرية، مع ما سمي بجماهير "السودان الجديد" في الأرياف والهامش والتي ظلت تضطر المرة تلو الأخرى لحمل السلاح دفاعاً عن وجودها وفي سبيل انتزاع حقوقها المشروعة. لقد رأينا في النضال ضد نظام الجبهة الإسلامية آنذاك فرصة تاريخية لقوى السودان الجديد والقوى الحديثة لمزاوجة أدوات النضال المدني السلمي مع وسائل الكفاح المسلح بحيث "تضيف إلى وحدة برنامجها السياسي ورؤيتها للسودان الجديد، وحدة أساليبها النضالية وأدواتها القتالية، من أجل مواجهة السلطة سياسياً ومنازلتها عسكرياً وهزيمتها والإطاحة بها نهائياً".

في يونيو 1995 التأم مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية والذي اجتمعت فيه معظم قوى المعارضة الشمالية مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، وفيه أعلن التجمع الوطني الديمقراطي لأول مرة تبنيه للكفاح المسلح كواحد من أساليب النضال لإسقاط نظام الخرطوم مؤكداً "المضي في العمل الدؤوب بكافة وسائل المقاومة السياسية والعسكرية والشعبية، و"مشروعية العمل المسلح الذي تقوم به فصائل التجمع الوطني الديمقراطي من أجل إسقاط النظام وفق الآليات التي اتفق عليها"، و "تشكيل لجنة سياسية عسكرية عليا تقوم بالتنسيق والإشراف على تنفيذ برامج تصعيد النضال وإسقاط النظام". تلى ذلك بفترة وجيزة ابتدار المعارضة لعملياتها العسكرية في شرق السودان.

بالرغم من تركيز مختلف قوى المعارضة على الكفاح المسلح لهزيمة نظام الجبهة الإسلامية إلا أن بياناتها وتصريحاتها ظلت، ولأسباب مفهومة، تتحدث عن الكفاح المسلح "كواحد" من وسائل منازلة النظام، وليس كبديل للنضال المدني السلمي، غير أن الأمر عملياً لم يكن كذلك. لقد أدت الهجمة الشرسة والوحشية لنظام الإنقاذ، من جانب، وانشغال قوى المعارضة ببناء أذرعها العسكرية، من الجانب الآخر، إلى تصفية البنية التحتية للعمل المدني السلمي المعارض بالكامل. من ناحية أخرى، أعطى اشتعال العمليات العسكرية على الحدود الشرقية انطباعاً كاذباً للجماهير بأنه لم تعد هناك ضرورة لقيامها بأي عمل مدني سلمي ضد النظام، وأوحى لها بأن اجتياح قوات المعارضة الظافرة شوارع الخرطوم قد أصبح مسألة وقت، ليس إلا. وهكذا، فإن حملة القضاء على إمكانيات النضال المدني، والتي بدأتها الجبهة القومية الإسلامية، تم استكمالها من قبل التجمع الوطني الديمقراطي بتبنيه الكامل للكفاح المسلح بدلاً عن النضال المدني.

واصلت المعارضة عملياتها العسكرية على الحدود الشرقية وخاضت قواتها العديد من المعارك غير أنها لم تستطيع أن تحقق أي انتصارات يؤبه لها أو أن تغير شيئاً من موازين القوى. لقد تسابقت قوى المعارضة نحو بناء وحداتها العسكرية ولكنها لم تكن موحدة مطلقاً حول أهداف ونطاق العمل المسلح، فبعضها كان يراه أداة لهزيمة نظام الجبهة الإسلامية والإطاحة به نهائياً، وبعضها كان يرى فيه أداة للضغط على النظام للوصول إلى حل متفاوض عليه، بينما كان هناك آخرون يرون فيه معالجة لخطر البندقية "الجنوبية" ومحاولة لموازنتها ببندقية شمالية. وبعد ما يقارب ال 10 سنوات من العمليات العسكرية على الحدود الشرقية وقعت الحركة الشعبية لتحرير السودان اتفاقية السلام الشامل مع النظام في نيفاشا في مطلع سنة 2005، وبعد ذلك بأشهر قليلة تم توقيع اتفاقية القاهرة مع من تبقى من قوى التجمع الوطني الديمقراطي لتأتي وتشارك في مؤسسات نظام الإنقاذ التشريعية والتنفيذية. بذلك اختتمت المعارضة كفاحها المسلح وطوت صحائفه دون أن تحقق هدفها المعلن، وهو إسقاط نظام الإنقاذ، ليس ذلك فحسب، وإنما، وبتوقيعها تلك الاتفاقيات، منحت ذلك النظام 15 سنة أخرى (نصف عمره تقريباً) من الحكم..

حقبة العمل المسلح في شمال السودان، بل وتجربة العمل المسلح في كل أصقاع السودان، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، لم تكن كلها، كما يتخيل البعض فترة بطولات وتضحيات، وإنما انطوت على قدر هائل من الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان والسرقات والمتاجرة بالعون الإنساني ومواد الإغاثة والخضوع للوصاية الأجنبية، ولهذا فهي تحتاج إلى توثيق وفحص دقيق مستقل طال انتظاره. هنا تجدر الإشارة إلى مقال للصديق الراحل الخاتم عدلان بعنوان "الخطاب الذي لم أسمعه من الحركة الشعبية لتحرير السودان" نشره على صفحات "الشرق الأوسط" في اعقاب توقيع اتفاقية نيفاشا، وفيه يكتب الخاتم بلسان الحركة الشعبية لتحرير السودان ما كان يتوجب عليها أن تقوله عن تجربتها ونقتطف من ذلك قوله "ولعل القضية الأهم في ماضينا هي قضية حقوق ا لإنسان. ففي المراحل المختلفة لحربنا، والتي لم تكن في كل مراحلها حرب تحرير، وخاصة في السنوات 1991-1993، عندما انحدرت إلى صراع داخلي مرير ودموي، ارتكبنا مجازر اقشعرت لها حتى أبدان المقاتلين أنفسهم المتعودين على رؤية الموت والدم.... وقد ذكرت منظمات حقوق الإنسان أننا ارتكبنا المجازر الجماعية، ومارسنا التعذيب، وسجنا الناس في ظروف غير إنسانية دفعت بعضهم إلى الجنون، ونهبنا أبقار المواطنين واستغلينا مواد الإغاثة لصالح جنودنا... ولا يمكننا أن نكتفي بتجاهل مثل هذه التقارير، ولا يمكن أن نكتفي باتهام المنظمات التي فضحتها بانها ذات دوافع ومقاصد إمبريالية أو استعمارية." صدى كلمات الخاتم عدلان يعود الآن من العالم الآخر ليقض مضاجع لوردات الحرب الذين يتفاوضون في هذه اللحظات حول تصيبهم من غنائم "السلام" بعد أن اكتنزوا غنائم الحرب.

لقد أسقطنا نظام الإنقاذ، ولم نفعل ذلك بالكفاح المسلح، وإنما بالنضال المدني السلمي، وبالمظاهرات والمواكب والإضرابات بالاعتصامات المشهودة أمام القيادة العامة وفي مختلف مدن البلاد. نعم إن ثورتنا السلمية تمر الآن بمراحل عصيبة وتواجه صعوبات وتحديات خطيرة، ولكني كلما أنظر إلى ما آل إليه الحال في دولة جنوب السودان، وإلى حال الدولة التي انطلق منها كفاحنا المسلح على الحدود الشرقية، وإلى حال الكثير من دول أمريكا اللاتينية، آخذ نفساً عميقاً وأحمد الله أننا لم نسقط نظام الإنقاذ بالكفاح المسلح.

وحينما أنظر الآن إلى صور جموع النساء بأثوابهن الزاهية الألوان وصور جموع الرجال بجلاليبهم البيضاء الناصعة وجميعهم يمارسون اعتصاماتهم الهادئة الجسورة السلمية العزلاء الصامدة في نجيرتيتي وفتابرنو وكتم، وأرى مظاهراتهم الهادرة وأسمع هتافاتهم الداوية، وأشهدهم ينتزعون مطالبهم انتزاعاً رغم بطش القوات المسلحة والأمن والعصابات المسلحة، أقول لنفسي : ترى حينما دعونا في تسعينات القرن الماضي القوى الحديثة وقوى الهامش إلى "أن تضيف إلى وحدة رؤيتها السياسية، وحدة أساليبها وأدواتها النضالية"، هل جال بخاطرنا آنذاك أن تلك القوى ستتوحد يوماً ما حول وسائل وأدوات النضال المدني السلمي، لا النضال المسلح، وأنها ستنتصر بالنضال المدني السلمي في المركز وفي الهامش معاً؟ يا لمكر التاريخ!!


* كاتب وصحفي وقيادي في حركة "حق"
أضف رد جديد