مقالاتي في صحيفة التيار

Forum Démocratique
- Democratic Forum
صورة العضو الرمزية
الصادق إسماعيل
مشاركات: 295
اشترك في: الأحد أغسطس 27, 2006 10:54 am

مشاركة بواسطة الصادق إسماعيل »

النور
سلام
في ونسة عابرة مع محمد جلال هاشم ذكر معلومة، لا أدري مدى صحتها،
أن الأعراب الذين تمردوا على الخليفة ابوبكر وحاربهم، فيما بات يعرف
بحروب الردة، هم غالبية الجيش الذي أُرسل مع عمرو بن العاص لغزو
مصر. وأنهم عاشوا بعد الغزو في اطراف المدن، وحينما تم تنظيم الجيش
كمؤسسة ايام المماليك اصبحوا ينهبون ويعيشون على قطع الطريق بعد
الاستغناء عن خدماتهم. ونتيجة لتلك الحروب ضدهم نزحوا جنوباً نحو
السودان واستقروا هناك.
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


شكرا يا الصادق
تواصلت مع الصديق الدكتور محمد جلال هاشم قبل أسبوعين تقريبا وقد أشار لي إلى ذلك وأثق أن محمد وجد المعلومة في مصدر معتمد.
عموما سوف أبحث في ذلك أكثر لأنه مفيد جدا لطرحي، خاصة انني أرى أن الأعراب الذين دخلوا السودان لم يأتونا من مراكز الحضارة ولم يكونوا أهل علم.
مع المودة
آخر تعديل بواسطة Elnour Hamad في الأربعاء نوفمبر 02, 2016 5:07 pm، تم التعديل مرة واحدة.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


في تشريح العقل الرعوي
(6)

انطلق هذا الطرح من ملاحظة مركزية، لم أبدأ بها هذا الطرح، رغم أنها وقفت وراءه، وكانت مبتدأه. وآثرت أن أسبق عرضها بمراجعات لتاريخنا، ومحاولة تلمس جذور البدوية والرعوية في وعينا، التي لا تنفك تمسك بنا وتقعدنا عن اكتساب الحداثة، وتعيق قدرتنا على النهوض بحياتنا، ودفعها إلى الأمام. لقد كمنت القيم البدوية والرعوية طيلة فترة التحديث الاستعمارية، التي فُرضت علينا، من علٍ، فرضا. وما أن خرج المستعمر انسربت تلك القيم البدوية والرعوية التي كانت كامنة تحت السطح، إلى مركز إرث التحديث القليل الذي ورثناه من الحقبة الاستعمارية، وفجرته من الداخل.

تتعلق تلك الملاحظة المركزية بحالتيْ السودان والصومال، بوصفهما أكثر الدول تعثرًا في إفريقيا، بل وفي العالم بأسره، في ما يتعلق بالأخذ بأسباب الحداثة. فالأحوال الداخلية المتردية في هذين القطرين، تدعم زعمي هذا، بما لا مزيد عليه. كما تعضده أكثر، كل التقارير الصادرة عن المنظمات الدولية، في العقود الأخيرة. وهي تقارير سنوية تصدرها هذه المنظمات تكشف فيها مستوى أداء الدول في جوانب عديدة. ولقد بقيت هذه التقارير تضع كلاً من السودان والصومال، في ذيل القائمة. هناك مشترك ما في بنية الوعي في هذين القطرين. فلو قارنّا السودان والصومال بكل من إثيوبيا، وكينيا، ويوغندا، لاتضح لنا أن سببًا ما قد جعل هذه الأقطار الثلاثة تنعم بمقادير أكبر من الاستقرار النسبي، ومن القدرة على الحفاظ على مكتسبات الحداثة، وتحقيق نمو لا بأس به، في جهود التحديث والتمدين. وفي تقديري أن القبلية، وبنية العقل الرعوي، وتبنّي نسخة فجة من الإسلام، اشتُهِر بها الرعاة في التاريخ الإسلامي، هي التي أقعدت كلا من السودان والصومال عن النهوض. فطبيعة الحياة البدوية، وبنية العقل الرعوي التي تتحكم فيها، تقفان، بطبيعتهما، ضد المؤسسية، وضد المساواة أمام القانون. فكل بدوي يرى أن قبيلته هي خلاصة، خلاصة البشر. وهذه خاصية تاريخية ضرورية حمت بها القبيلة نفسها. فأفراد القبيلة يجري تسلحيهم معنويًا، منذ نعومة أظافرهم، بأنهم الأفضل، والأعلى، والأحق. ولا مجال للمقارنة بينهم وبين غيرهم. فغيرهم لا يستحقون مثلما يستحقون هم. بل إن العشائر التي تنتمي إلى قبيلة واحدة يضع كل قبيل منها نفسه في مرتبة أعلى.

بنية العقل الرعوي هي التي وقفت وراء سيادة العلّة الأساسية المجهضة للمؤسسية في الدولة الحديثة، وهي المحسوبية. فما يسمى "الواسطة"، أو"الضّهر"؛ أي وجود أقارب في مراكز اتخاذ القرار، كانت، ولا زالت، تمثل ميزة يتباهى بها من يمتلكها. وعلى سبيل المثال، هناك قناعة رسخت منذ فترة طويلة، وهي أن من لا يملك "واسطة"، لا يستطيع أن يدخل الكلية الحربية، أو كلية الشرطة. فهاتان الكليتان، كما هو معلوم، تمنحان مدخلا على مركز السلطة، وعلى دوائر النفوذ، ومن ثم تأمين المصالح. ولا ينحصر ذلك في مجرد أن الزي الرسمي يفتح كثيرًا من الأبواب المغلقة، وإنما يتعدى ذلك إلى اتاحة الفرصة للاشتراك في أي انقلابات عسكرية مستقبلية محتملة. (راجع شريف حرير، إعادة تدوير الماضي في السودان: نظرة عامة للتحلل السياسي، (ترجمة مبارك علي عثمان، ومدي النعيم)، في: شريف حرير وتيرجي تفيدت، السودان: الانهيار أو النهضة، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، ج م ع، 1997، ص 56). وقد ظل سودانيو الهوامش المختلفة يعتقدون، وهم محقون، أن مجالات معينة في الخدمة العامة ظلت حكرًا على أبناء السودان النهري، كضباط الجيش، والعمل في وزارة الخارجية، أو الخدمات التي ارتبطت بالسكك الحديدة والنقل النهري، ومشروع الجزيرة. وقد برزت هذه الاحتكارية العرقية لوظائف الدولة، بصورةٍ صارخة، جدًا، في عملية السودنة. فمن بين 800 وظيفة كبيرة جرت سودنتها قبل الاستقلال، بقليل، حصل كل الجنوبيين على ستّ وظائف فقط؛ أربعة جرى تعيينهم مفتّشي مراكز، إضافة إلى اثنين جرى تعيينهم، في وظيفة مأمور. (يوسف محمد علي، الوحدة الوطنية الغائبة، مركز عبد الكريم ميرغني، أم درمان، السودان، 2012، ص 33). وما من شك أن ضغوط أهل الهامش المستمرة على المركز، أثمرت، لاحقًا، بعض التغيير في هذه الصورة. غير أن التغير لم يكن جوهريًا، بقدر ما كان رضوخًا لمحاصصاتٍ مؤقتة، فرضتها ضرورات توازن القوى، واللعب على عنصر الزمن. وهي تبدلات سطحية تسير في ذات الوجهة القديمة، مع تعديلات طفيفة لا تغير من جوهر الموضوع، ولا تسير في وجهة استعادة المؤسسية والجدارة. ويظهر هذا جليًا جدًا في كوتات الوظائف التي تمنحها الحكومات، عقب كل اتفاق سلام، مع فصيل من الفصائل المحاربة.

يرى شريف حرير وتيرجي تفيدت، أن المحاباة يجري استخدامها بوصفها وفاءً أخلاقيًا للأقارب، فتتحول المحاباة من علة هادمة للمؤسسية وللشفافية، إلى فضيلة اجتماعية مقدرة وسط متنفذي القبائل المسيطرة. وهكذا، يجري الالتفاف على القوانين والضوابط، ليتحقق ما يراه كبار شاغلي الوظائف العامة وفاءً وواجبًا أخلاقيًا، تجاه أهلهم. فالخضوع للتبعية، ولأنظمة الحماية القاعدية في المجتمعات، وسطوة القيم القبلية، هي التي تفرض المحاباة. وهي التي تجعل الأحزاب السياسية، والخدمة المدنية، لا تقفان عند حد انتقاء الأفراد للوظائف العامة، بسبب صلة القربى، وحسب، وإنما تتجاوزان ذلك، إلى حماية الفساد، ومأسسته، وغضّ النظر، كليًا، عن سوء الإدارة. (شريف حرير وتيرجي تفيدت، مصدر سابق، ص 56). لقد سيطرت هذه القيم الجهوية الرعوية على مسارات العمل الإداري في السودان سيطرة شبه كاملة، لأن سلطة العقل الجمعي المتشكل على هذه الصورة، تصعب مقاومتها، إلا لدى قليلين. فإذا وقف الموظف العام أمام رغبات ذويه، في فتح الأبواب لذويه لمجرد صلة القربى، فغالبًا ما يسمع من أهله وأقاربه عبارة: "الزول ده ما فيهو فايدة". وقليلون من يقوون على الوقوف أمام هذا التيار التخريبي الجارف.

لا يقف هذا النمط من القيم المعتلة وراء التوظيف فحسب، وإنما يمتد إلى منح ملكية الأراضي، ومنح تراخيص المشاريع الزراعية، ومنح الرخص والتصديقات، وخلق مسارات جانبية تلتف على النظم واللوائح والقوانين، لتتمكن فئات بعينها من الإثراء على حساب الآخرين. ففي المستبطن من قناعات بنية العقل الرعوي، ليس هناك دولة ومواطنون، وإنما هناك؛ نحن، وهم. ولقد تشابه السودان والصومال، في هذا المنحى، تشابهًا يصل حد التطابق. وتمثل حقبة سياد بري المثال الأوضح في هذا النهج الجهوي الاستحواذي. فعلى الرغم من أن الصومال قطر متجانس عرقيًا ودينيًا ولغويًا، إلا أن سياد برى منح عشيرته "الدارود" كل شيء في الدولة، وحرم العشائر الأخرى من أي شيء فيها. فالموارد العامة في الصومال جرى تحويلها في فترة حكم سياد بري إلى جيوب النخب التي ترعى شؤون العشيرة. وبهذا تحولت المؤسسات القديمة، التي هي ليست جزءًا من نظام سياد بري القمعي، إلى قواقع فارغة. ( راجع: Lidwien Kapteijns, Clan Cleansing in Somalia: The Ruinous Legacy of 1991, University of Pennsylvania Press, 2013, p2) .

حين لا تكون في مواجهة القبيلة، قبيلة أخرى، تنازعها على الحيازات، تنقسم القبيلة على نفسها، ويتحول الصراع، من صراع مع "الآخر" المغاير، إلى صراع بين العشائر في القبيلة الواحدة. فمنظومة الانتماء الرعوية لا تنسى التراتبية التي هي أصل كل شيء فيها. فالهرمية التي تتعامل بها القبلية مع الخارج، واضعة نفسها على قمتها، موجودة أيضًا في الداخل، حيث تضع عشيرة نفسها على القمة، بإزاء بقية العشائر. عمومًا، تناقض بنية العقل الرعوي، جوهريًا بنية الدولة الحديثة. فهي لا تعرف الصالح العام، ولا تعرف المؤسسية، أو الشفافية، أو أي شيء من هذه المصلحات المرتبطة بالفكر السياسي الحداثي. إنها تعرف القبيلة والعشيرة، والفخذ، وأحقيّتها المطلقة في الحيازة. ومثلما كانت الحيازة تتحقق في الماضي، ولا تزال، عن طريق السيف والرمح، أصبحت تتحقق، لبنية العقل الرعوي المتغلغلة في بنية الدولة الحديثة، بالقرطاس والقلم، عن طريق المتنفذين الذين لا يزالون خاضعين لعقل القبيلة ومنظومة قيمها. فالدولة الحديثة لا تقوم بغير تخليق بنية وعي حداثيٍّ، وبغير إخراجٍ كليٍّ لبنية العقل الرعوي، التي تسربت إلى جسد الدولة الحديثة، كما هو الحال في السودان والصومال، حيث بلغ تغلغلها حد الوصول إلى نواة الدولة، وتفجيرها من الداخل.

كما سبق أن أشرت، هذه المقالات ليست سوى مساحة للعصف الذهني. ولا يدعي كاتبها أنه ممسك بكل خيوط هذه القضية المعقدة. ما يملكه كاتبها، ويمكنه قوله بثقة كبيرة، أن هناك أجندة بحثية جمة، لا تزال تنتظرنا. وأن الحلول لا تأتي إلا عن طريق البحث العملي، وسيادة عقلية البحث العلمي، بعد القضاء على نزعات "الكلفتة" والابتسار في تناول القضايا. فنحن لسنا بحاجة إلى اختراع شيء جديد. فهناك منظومة من العلوم الإنسانية التي يمكن عن طريقها ملاحظة الظواهر الاجتماعية والاقتصادية، وتحليلها، بحيدة وموضوعية. ولابد من الإشارة هنا، إلى أن بنية العقل الرعوي تتسم بالميل الشديد إلى التبسيط، والاختزال، واستسهال الأمور. يصيب بنية العقل الرعوي الإعياء السريع من التفكير، والتأمل، لأنهما ليسا من طبيعتها. وهو إعياء يصيب حكوماتنا، كما يصيب قوى المعارضة لدينا، أيضا. فالخطاب السياسي لدينا لا يزال خطابا مشغولا بالكسب السريع، ويتسم بقصر النظر، وبالعجلة، والنزق، وضمور المعارف، والكسل العقلي، الذي يقود إلى انصرافٍ تلقائيٍّ عن التأمل في أصل الظواهر، والانحصار، من ثَمَّ، في الانشغال بـ "المجابدات" السياسية اليومية، التي ما أنجبت، عبر تاريخ حقبة ما بعد الاستقلال، لدينا، سوى مواليد مشوهين.

بعبارة أخرى، مهمة الأكاديمي والباحث، ليست الانضمام إلى صفوف الراكضين إلى السلطة، بلا عدة أو عتاد، وإنما البحث في أصل الظواهر، بروية، وبعمق، بغية تحليلها وتفسيرها. ولا أعني هنا أن يبقى الباحث أو الأكاديمي في برج عاجي، أو أن يمتنع كليًا عن الناشطية السياسية، أو أي ناشطية أخرى، تسعى إلى التغيير. فالمثقف العضوي، كما عرّفه غرامشي، وإداورد سعيد، وغيرهم من المفكرين، مثقف فاعل مناضل. غير أن الفاعلية والنضال كثيرًا ما تُبتذل وتتحول إلى أعمال شعبوية دارجة. مهمة المثقف والأكاديمي الباحث هو تلمس العلل المركزية، وسبر أغوارها، والتعريف بها، من أجل أن تقف وراء إرادة التغيير رؤية واضحة. وليصبح، من الممكن، رسم سياسات محكمة، لا تهتم بالتجميل الفوقي لسلطة النخب الطافحة فوق ركام الفوضى السائدة، وإنما تنصرف عن هذا الطريق المطروق، الذي خبرنا مغبّاته، مع مختلف الأنظمة، ديكاتوريِّها وديمقراطِّيها، لتصل إلى جذور الأزمات وإلى القواعد الشعبية، لتغير البنية العقلية، وإعادة تعريف الذات الجمعية، وحشد العقول وحفزها إلى السير في وجهة المؤسسيّة والشفافية وحكم القانون، واحترام القانون. بغير ذلك، لن تنجح أي جهود في إعادة المؤسسية للحياة، بعد أن شبعت موتًا، عبر ستّ عقود من النزاعات الدامية المريرة، التي لم تخرج من إطار نزاعات "الإيقو"، Ego disputes، بين الأشخاص. وهي نزاعات تخفي نفسها وراء مختلف المزاعم المضللة.

لقد ظل التنافس، عبر سنوات الاستقلال، منصبًا على الوصول إلى حيث توجد مفاتيح خزائن المال العام، وتحويله، من ثم، عبر مختلف الحيل، إلى الجيب الشخصي للعائلة، وإلى الأسرة الممتدة، ومن بعدهم إلى سائر المحاسيب الداعمين. كما يجري تحويل المال العام في وجهة منظومة القوى الأمنية، بمختلف مسمياتها، من أجل ضمان البقاء في السلطة. فحين تتحول القُوى الأمنية إلى طبقة جديدة ملحقة بمركز السلطة، وتصبح ذات مصالح اقتصادية واجتماعية نابعة من مركز السلطة، تستميت هذه القوى الأمنية في الدفاع عن الأوضاع القائمة. كما تندفع بشراسة لقمع أي بادرة معارضة تشتم فيها تهديدا لمصالحها الاقتصادية، أو للمزايا الاجتماعية التي اكتسبتها.

بغير لمس جذور العلل المزمنة، لا تتخلق الدافعية للإصلاح: لا لدى النخب ولا لدى العامة. هذه الدافعية والرغبة الصادقة في تحسس أصل العلل تمثل ركنا شديد الأهمية في مسار تبديل الذهنية، ومن ثم في مجريات عملية التغيير. مرة أخرى، من يعمل للتغيير وهو منصرف عن مناقشة علل الثقافة السائدة، لن ينجز أكثر مما ينجزه حاطب الليل. هذا إن قُدر له أن ينجز شيئًا، أصلا. فما ظللنا نشهده، منذ الاستقلال، ليس سوى مسلسلٍ متِّصلٍ من التراجعات، بلغ أن وضع الدولة ذاتها، التي نتقاتل، من منطلقات جهوية، على تملك مفاصلها، في مهب الريح. وبطبيعة الحال، فإن الأنظمة العسكرية تعبر عن هذا المنحى الذي أتحدث عنه، أكثر مما تعبر عنه الأنظمة الديمقراطية. غير أن الأنظمة الديمقراطية لم تسلم من الاسهام في هذا التخريب، بل هي التي كانت تتيح، باستمرار، للعسكريين ذرائع الوصول إلى السلطة.

ما وددت التركيز عليه في هذه الحلقة، أن الواجب المباشر، الذي ينبغي أن يكون أكثر الزامًا للمثقف وللأكاديمي الباحث، هو البحث عن أصول الظواهر، خاصة حين تقع البلدان، كما هو حال بلادنا، في دوامات العجز والركود، وتراجع الأخلاق، وتفشي التدين المظهري، وانهيار منظومة القيم النبيلة، واضمحلال التمدن، وتراجع العقول والفهوم، وتسارع وتيرة "بَدْوَنَة" الوجدان، التي انخرطت فيها قنواتنا الفضائية. كل أولئك يجري لدينا في السودان، الآن، على قدم وساق، وبوتائر بالغة السرعة. ورغم ميلِ الحالِ الذي لا يحتاج إلى دليل، فالويل والثبور، لمن يجرؤ، ويمد إصبعه، ليشير إلى أيٍّ من ذلك. فللركود والتراجع حراسٌ لا يترددون في تصويب فوهات بنادقهم لكل من يحاول لمس صنمهم الذي يحرسون به مصالحهم، كحال قريش قبل الاسلام.

في ظروف المنعطفات التاريخية الحادة، والانهيارات الاستثنائية، ينبغي أن يقف الأكاديمي على مسافة، من الجوقة التي لا تحب أن ترى أو تفكر في شيءٍ، سوى تغيير قمة هرم السلطة المتمثل في الحكومة. وعلى مسافة، أيضًا، من الملتفين حول مركز السلطة الذي لا يرون أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. هذه المسافة الفاصلة جد ضرورية للباحث لكي يمسك بعنان عقله ووجدانه، ومعرفته، ويحبسهما من الانزلاق في مجرى الاندفاعات الغوغائية، العمومية، الدارجة، التي تحركها غالبية القوى المعارضة، وكذلك الخطاب السلطوي التخديري المُقْعِد للقوى المسيطرة. بغير ذلك، لن يتمكن الباحث من رؤية المشهد برمته، ومن جميع زواياه، ولن يصل إلى اكتشاف الظواهر، وبلورة فهم متكامل لأصلها وأسبابها، ولن يتمكن، من ثم، من تحليلها، والدعوة إلى مناقشتها بشفافية، من أجل الوصول إلى طرق لمعالجتها.
كما سلفت الإشارة، يمثل كل من السودان والصومال نموذجين استثنائيين في التراجع والفشل. وتمثل الصومال، بخاصة، حالة غريبة، منعدمة النظير في صعوبة تحقيق الوحدة الوطنية، وفي قدرة وإصرار الفاعلين فيها على تخريب بنية الدولة، وكلك، في الاستعصاء الشديد على التحديث. وتأتي الغرابة، كما سلفت الإشارة، من أن الصومال بلدٌ متجانسٌ، من حيث الأصل العرقي، واللغة، والدين، ولكن، مع ذلك، بقيت مضطربة لعقود، ولا تزال مضطربة، إلى اليوم. والذين يرون في التنوع السب الرئيس للتناحر، ويدعون إلى التجانس، عن طريق بتر أطراف البلدان، عليهم أن ينظروا إلى الصومال، الذي لا يوجد بلد في العالم يماثله في التجانس. يقدم الصومال أسطع الأمثلة على أن التجانس العرقي والديني واللغوي، لا يمثل، وحده، صمامًا للأمن والاستقرار.

أنشأ سياد بري نظام حكم فاسد، واتخذ سياسة عشائرية، ليحكم قبضته على السلطة. اتجه برَّي إلى النظام الوراثي، وصعّد عشيرته (الدارود)، إلى قمة هرم السلطة، فسيطرت على جميع ركائز الاقتصاد. انصرف سياد بري عن العمل الجاد لتطوير الصومال وتحديثه، وبناء اقتصاد حديث نامٍ، وتحقيق للوحدة الوطنية فيه. اعتمد بري في الاقتصاد على المعونات التي وفرتها له تحالفاته في حقبة الحرب الباردة. غير أن المعونات ظلت تذهب في وجهة تقوية الأجهزة الأمنية، وشراء الذّمم طلبًا للدعم والمساندة، حتى سميت الوجهة التي تنتهي إليها تلك المعونات، بـ "مقبرة المعونات"، (راجع: سولومون ديرسو، وبيروك مسفين، الصراع في أقاليم الصومال، مركز الإمارات للبحوث والدراسات الاستراتيجية، أبوظبي، 2010، ص 17). وبانهيار نظام سياد بري، دخلت العشائر الصومالية، المنتمية إلى أصل عرقي واحد، وتدين بدين واحد، وتتكلم لغة واحدة، في دوامة متطاولة من التناحر. وقد اشتد الصراع العشائري في السيطرة على مقديشو، بين محمد فارح عديد وعلي مهدي، عقب هروب سياد بري، حتى انقسمت العاصمة إلى شطرين. (المصدر السابق، ص 20). وهكذا بدأت حقبة لوردات الحرب، وتناسلت الانقسامات على مختلف الصعد، واستمرت حالة الاضطراب، إلى يومنا هذا.

من يرون أن تفكك الدولة في الصومال تسببت فيه سياسات سياد بري الداخلية، ومحاولته إعادة احتلال إقليم أوغادين، الذي جره إلى الحرب مع إثيوبيا، وخسارته تلك الحرب، وغير ذلك من الأسباب، لا يذهبون بالتحليل إلى نهاية الشوط. فالمشكلة تكمن أصلا في البداوة، وفي العقلية الرعوية، وفي الاعتماد، في إدارة الدولة الحديثة، على البنيات الاجتماعية الأولية، المتمثلة في العشيرة، وما تنطوي عليه من تعصب أعمى، وأنفة، وحرص لا يني في النظر إلى الآخرين من علٍ، زراية بهم، واستحقارا لهم. وقد فاقم انهيار الدولة في الصومال، الذي تسببت فيه العشائرية، النزعة العشائرية أكثر، فأكثر. فلقد أدى انهيار الدولة إلى احتماء الأفراد بقبائلهم وعشائرهم طلبًا للأمن والحماية. ولما لم تعد هناك مؤسسات وسلطة مركزية تفرض القانون والنظام، لجأت القبائل والعشائر، بل والمؤسسات إلى تسليح نفسها لضمان أمنها وفرض قوانينها. وهكذا اختفت المؤسساتية من الوجود تمامًا، أو كادت. وانفتحت أبواب البلاد، من ثم، لتجار السلاح لعدم وجود سلطة مركزية تراقب الحدود، (المصدر السابق، ص 26). وتفاقمت الأوضاع، حتى أضحى الحال في مجمله، باعثًا على اليأس.

لا تملك بنية العقل الرعوي صبرًا على المؤسساتية وعلى حكم القانون، والتقيد بالنظم، رغم أنها تهتم بتلك الأمور في سياق حفاظها على بنيتها كمؤسسة منفصلة، لا تخضع إلا لذاتها، ولا تتبع سوى منطقها التاريخي في السيطرة، واحتكار موقع اليد العليا، الذي ورثته صاغرًا عن كابر. أيضًا، لا تملك بينة العقل الرعوي، بحكم تضخم "الإيقو"، والغلو في الأنفة، والعُجْبِ المطلقِ بالذات، قدرةً على المساومة، أو استعدادًا للوصول إلى الحلول الوسط. ولذلك غالبًا ما تقودها هذه الخصائص إلى نسف مؤسسة الدولة، حين تطالها يدها. ولسوف أجري مقارنة في الحلقة القادمة بين أحوال السودان والصومال، بإزاء كل من إثيوبيا وكينيا ويوغندا، طمعًا في أن ينشأ في أذهاننا جميعًا السؤال الشهير، شديد الأهمية: لماذا هم كذلك، ونحن هكذا؟ ففرضيتي المبدئية، في مجمل هذا الطرح، أن السودان والصومال غلبت في تاريخهما القريب، قيم البدو الرعاة. فغلبة قيم البداوة ظاهرة جديدة، خاصةً في تاريخ السودان القريب. فعمر "البَدْوَنَة" وقيمها، التي جلبها الأعراب إلى السودان، لا يتعدى السبعمائة عام. وهذا مسار قصير تسهل مراجعته، كما تسهل إعادة الأمور فيه إلى مسارها القديم، الذي اعترضته عوارض البداوة، وقيم الرعاة، وحرفته عن مساره.
(يتواصل)

((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


في تشرح العقل الرعوي
(7)

لا تحتاج ظاهرة غلبة الثقافة الرعوية على بنيتي الوعي في السودان والصومال، في تقديري، إلى جهدٍ في إقامة الشواهد. فحال البلدين الآن، يحكي عن تجسيدهما لهذه الظاهرة، بأفضل مما يمكن أن يحكيه أي باحثٌ أو محللٌ، أو حتى مجرد واصف. فظاهرة العجز عن الامساك بالحداثة وتثبيتها في واقع القطرين، تعلن عن نفسها بوضوح، لا مجال للمراء فيه. ويتمثل طرفٌ من تجليات هذه الأزمة في السودان، بخاصة، في ظاهرة الانكار، وعدم القدرة على رؤية النقائص. وليس هذا بغريب، ففي مثل هذه البيئات، التي تسيطر عليها القيم الرعوية يتعذر النظر الموضوعي للأمور. ويصعب فصل ما هو ذاتي، عما هو موضوعي؛ إذ يختلطان اختلاطًا يجعل النظرة الموضوعية للأمور معتذرةً تماما. وبما أن بنية العقل الرعوي مؤسسة، بصورة عامة، على إنكار النقائص، فإن الإقرار بالخطأ، والاعتراف بالنقص أو القصور، من حيث هما، أمور غير مرغوبة. فهما يمثلان لدى العقل البدوي الرعوي، إقرارًا بالضعف، وإعلانًا للهزيمة. ويفسر هذا، في تقديري، تفشي ظاهرة عدم القدرة على الاعتراف بالخطأ، بيننا؛ نحن السودانيين، وضيقنا الشديد بالنقد، الذي غالبًا ما نَعُدُّه استهدافًا شخصيًا، وننطلق في التعاطي معه من هذه الزاوية. ولا غرابة إذن، أن بقيت مساجلات المثقفين السودانيين، منذ أن نشطوا في الكتابة، بُعيد الربع الأول من القرن العشرين، حافلةً، إلى اليوم، بالقسوة والمرارة، والميل الذي لا يني للانتصار للذات، والتقليل من شأن الخصم، بل والعمد إلى إهانته، والزراية به، بكل سبيلٍ ممكن.

يستخدم "المتحاورون"، أو "المتبارزون"، على الأصح، في مجادلاتهم الفكرية مع خصومهم في الرأي، على صفحات الجرائد، والمواقع الإلكترونية، جميع الأسلحة المتوفرة لديهم لسحق الخصم الفكري، سحقًا لا قيامة بعده. فالعقلية الرعوية، بطبيعتها المرتبطة ارتباطًا عضويًا بالقيم المتجذرة في محيطها البيئي، الجغراثقافي، الرعوي، لا تملك إلا أن تحول الحوار الفكري إلى مبارزة. وبصورة تلقائية، يجري تعليق شرف الفرد، وشرف القبيلة، وشرف الطائفة، وشرف الحزب الذي ننتمي إليه، وشرف الشريحة الاجتماعية التي تضمنا، وتحرس منظومة مصالحنا، على هذه المبارزة، التي لابد من الانتصار فيها، بكل سبيل ممكن. يجري تعليق الشرف الفردي والجماعي، على الحوار الفكري، مثلما كان يجري تعليقهما، في الماضي، على المبارزة بالسيف، بين فرسان القبائل المتحاربة. ولا أراني بحاجةٍ إلى عرض نماذج، مما ظل يجري بين مثقفينا، من "مبارزات"، من هذا النمط المتسم بالعنترية، مما ساد بيننا، عبر أكثر من ثمانية عقود. فالنماذج، كما يقولون، "على قفا من يشيل".

ظاهرة مقاربة الحوار من زاويتي النصر أو الهزيمة، ليست حصرًا على أشخاص بعينهم من مثقفينا، ممن لا تنفك تجري بينهم هذه "المشاجرات" الفكرية، التي تُسمى حوارًا، وإنما هي ظاهرة عامة، تعود جذورها إلى قيم القبيلة ومنظومتها الأخلاقية، المبنية على؛ إما النصر، وإما الموت، وإما عار الأبد. ترى هذه البنية العقلية الرعوية، في التنازل للآخر، والإقرار بصواب رأي الخصم، حين يكون مصيبًا، والاعتراف بالخطأ، أو بالنقص، أو القصور، هزيمة، لا غير. والهزيمة لدى العقل البدوي الرعوي، من حيث هي، وبغض النظر عن ملابساتها، مخلة بالشرف، ولا ينبغي أن تحدث أبدًا، فإن هي حدثت، فلا شرف بعدها، ولا نهوض من كبوتها. فهي مثل عود الكبريت الذي لا يشتعل سوى مرة واحدة. ولا غرابة أن أصبح هذا المجاز هو المجاز الذي انتقته هذه االعقلية الرعوية، لتشبه به "شرف البنت".

كل المكابرات، التي تزخر بها حياتنا، مما نراه لدى المسؤولين الحكوميين، وقادة الأحزاب السياسية، وصفوة المثقفين، وعامة الناس، وغيرها من الخلال السيئة، يقف وراءها ما يمكن أن نطلق عليه "رهاب فقدان الشرف"، الذي ليس هو بشرفٍ، أصلا. بل، على العكس من ذلك تمامًا، فكثير مما تواضعنا عليه بوصفه شرفًا، هو، في حقيقة الأمر، وحشيةٌ، وغرورٌ لا يعرف الحدود، بل وأحيانًا وضاعةٌ ونذالةٌ، ومفارقة للقيم النبيلة، لا تنفك تلتحف بأغطية الشرف والكرامة. فالشرف والكرامة هما التزام الأمانة، والصدق والموضوعية، وقولة الحق ولو على نفسك، والامساك بلجام النفس الجامحة، الميالة إلى الاستعلاء والزهو، والانتباه الشديد إلى تلفتاتها المنبثقة أصلا من الغرور ومن "الإيقو" المنتفخ.

تزعج التحليلات، والمراجعات، والنقد، بنية العقل الرعوي، أيما ازعاج. فهي تمثل نقيضًا للأسس التي قامت عليها في المبتدأ. فالتفكير المتأمل الناقد، والنزوع للاعتدال والتوسط والمصالحة أمور مكروهة في البيئات الرعوية. فهي تسير في اتجاهٍ معاكسٍ تمامًا لمنظومتها القيمية المتمحورة حول "النصر أو الموت، أو عار الأبد"، كما سلفت الإشارة. فمنظومة القيم الرعوية مخضتها ومحصتها الحروب والصراعات الدامية، وتأسست حول الحرص على القهر والغلبة، والإقلال من شأن الآخر. وهذا طبيعي، لأن الحفاظ على كيان القبيلة، وتحصينها ضد غارات المغيرين، وحفظ ممتلكاتها، بل وزيادتها، وبأي سبيل، أمورٌ تقوم على إظهار القوة، والفخر بها، وعلى الإعلاء من شأن الذات، وتأكيد الشعور لدى كل فرد في المجموعة بالتفوق على الآخرين. يقول نوردنستام إن احترام الأعرابي السوداني لنفسه يعتمد، بصورة كلية، على احترام الآخرين له. ولذلك فإن نظام الفضائل لديهم، لا ينبع من داخلهم، بقدر ما ينبع من تصور الآخرين لهم. راجع:Raphael Patal, The Arab Mind, Charles Scribner’s Son, New York, 1983m p 101. . لذلك تجدنا، نحن السودانيين، مشغولين، إلى حد كبير، بصورتنا في أذهان الآخرين، بأكثر من انشغالنا بحقيقة أنفسنا. وهذه، في تقديري، تجعل النظر إلى الداخل متعذرًا تمامًا. هذه البنية العقلية نقيضة تماماً للبنية العقلية التي حاول الإسلام غرسها في الناس، وهي التي عبر عنها ابن عطاء الله السكندري بقوله: "ما ترك من الجهل شيئًا من ترك يقين ما عنده إلى ظنِّ ما عند الناس". أي، من الجهل الشنيع أن تترك ما تعرفه يقينًا عن نقائصك، وتتطلع إلى ما يظنه الناس عنك؛ أي، أن تتطلع وتحتفي بظن الناس فيك، أنك شخصٌ خيِّر، رغم أنك تعلم يقينًا، أن ظنهم هذا غير صحيح.

يمكن القول إن العقيدة المركزية التي تتمحور حولها قيم القبيلة، منسوجة على النول الذي نسج عليه عمرو بن كلثوم هذه الأبيات، التي تقول:

بغاةٌ ظالمينَ وما ظُلمنا، ولكنَّا سنبدأُ ظالمينا
ملأنا البرَّ حتى ضاقَ عنّا، ونحنُ البحر نملأُه سفينا
إذا بلغ الصبيُّ لنا فطامًا، تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا
وكُنَّا الأيْمَنِينَ إذا الْتَقَيْنا، وكانَ الأيْسَرِينَ بنُو أَبِينا
فَصَالُوا صَوْلَةً فِيمَنْ يَلِيهِمْ، وصُلْنا صَوْلَةً فِي مَنْ يَلِينا
فَآبُوا بِالنِّهَابِ وبِالسَّبايا، وأُبْنَا بِالمُلُوكِ مَصَفَّدِينا

هذه هي ثقافة الرعاة؛ رأسمالها القوة، والفخر، إضافة إلى فرضها على الآخرين بقوة البأس. وكذلك ارهاب الآخرين استباقيًا، عن طريق إخافتهم بقصائد الفخر التي يبثها شعراء القبيلة في أسواق العرب الموسمية، للتجارة وللشعر، كسوق عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، وغيرها. فغريزة البقاء والحفاظ على الكيان القبلي في بيئة سمتها الرئيسة، شك السلاح، لا يمكن أن تسمح، إطلاقًا، بإبداء الضعف. فالتواضع، والانكسار، والامساك بلجام النفس، التي تمثل أعلى الفضائل الإسلامية، لا تمثل فضائل في مثل هذه البيئات، وإنما ضعة ومنقصة. فالتواضع والميل للاعتراف، وللإقرار بحق الآخر، والنزول عند رأي الآخر، تهدد مقومات البقاء، ولذلك، فلا تسامح معها البتة. فالحفاظ على البقاء بالقوة، وبكل توابعها، في بيئة لا تعرف غير منطق القوة، خط أحمر قاعدي، لا يُسمح لأي فردٍ من الجماعة بالنزول إلى ما تحته.

يرى براين تيرنر أن نظام الحماية الي كان سائدًا في الجزيرة العربية هو الذي شكل منظومة القيم البدوية. فالقبيلة الضعيفة كانت تحتمي بالقبيلة القوية لقاء إتاوة تدفعها القبيلة الضعيفة. فإذا بقيت القبيلة الضعيفة لوحدها، استهدفتها المغيرون فسلبوا أموالها وسبوا نساءها، وانتهكوا شرفها. وينطبق ذلك على الأفراد. فالفرد البدوي المتجول في الصحراء مع أغنامه، والمسافر لوحده، أو في رفقة قليلة، يكون محميًا ببأس قبيلته، وقدرتها على أخذ الثأر ممن يجرؤ على الاعتداء عليه من القبائل الأخرى. نظام الحماية القبلية هذا يجعل الفرد متماهيًا، بصورة مطلقة مع سلطة القبيلة، ومع بناها القيمية، وعقلها الجمعي، (Bryan S Turner, Weber and Islam, Routlege & Kegan Paul, London, 1974, p 82). . ومن هنا جاء غياب الصوت الشخصي، وطغيان نزعة التعبير عن ذاتٍ جمعية، هي فوق النقد وفوق المراجعة.

هناك نقطة جوهرية جرى لمسها لمسًا خفيفًا في هذا الطرح، ولسوف أتوسع فيها مستقبلا، حين تتحول هذه المقالات إلى كتاب. هذه النقطة الجوهرية هي أن الإسلام جاء بقيم أنسوية، وحاول غرسها في بيئةٍ وحشية، هي بيئة الجزيرة العربية. فالقيم التي جاء بها الإسلام كانت نقيضًا للقيم البدوية الرعوية، التي كانت سائدة في معظم أرجاء جزيرة العرب. ولم تخل من سيادة تلك القيم الرعوية حتى الحواضر؛ مثل مكة والمدينة. غير أن المدينة كانت أكثر حضرية، وأقل تأثرا بقيم البيئة الرعوية المحيطة بها، من مكة. وهذا هو السر، في تقديري، في اختيار النبي الكريم لها مكانًا للهجرة، ما جعلها عاصمةً للمدنية الإسلامية الناشئة حينها.

دعا الإسلام تلك العقلية الرعوية ومنظومتها القيمية بالحسنى، ثم ما لبث أن أضطر إلى قهرها بمنطقها، وهو منطق السيف والقهر والغلبة. بظهوره، وجّه الإسلام، ضربة قوية لعصبية القبلية استطاعت أن تفككها، إلى حد ما، وتعطل حدتها القديمة، لمدد غير يسيرة. وقد قاد ذلك إلى اطفاء نيران الحروب الداخلية. فقد تخلت القبائل عن حروبها مع بعضها، وتوحدت في وجهة الجهاد. (ابراهيم اسحق ابراهيم، هجرات الهلاليين، هيئة الخرطوم للصحافة والنشر، الخرطوم، 2011، ص 32). ولقد كانت الغنائم، التي أقرها الإسلام، نقلا لها كحافز للقتال وقف وراء تحفيز أفراد القبائل لمقاتلة بعضها، لتصبح حافزًا في الوضع الجديد، لكن، بالحصول عليها من غير المسلم المهزوم. ومع ذلك، تربصت القبلية ومنظومتها القيمية بالإسلام، فهادنته في مبتدأ أمره، بعد أن عرفت قوة شكوته عبر معاركها الحربية معه التي انهزمت فيها. ولكن، ما أن التحق النبي بالرفيق الأعلى، وضعف دفق الإسلام، وتراجعت حرارته في النفوس، انقلبت عليه القبيلة، وأفرغته من محتواه، وأحلت قيمها الموروثة، التي جاء الإسلام أصلا لمحوها، ولكن بعد أن أسمتها "إسلاما"، هذه المرة، بحكم تبدل الظروف، وتعذر الرجوع إلى الوضع القديم، كما هو. وقد عبر عن ذلك سادة بني أمية، عقب تولي عثمان الخلافة، حين قال أبو سفيان للخليفة عثمان بن عفان، حين صارت الخلافة إليه، "قد صارت إليك بعد تيم وعدي"، إشارة إلى قبائل أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب". ثم قال: "فأجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو الملك، وما أدري ما جنة ولا نار"، (المقريزي، كتاب التخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم، (تحقيق حسين مؤنس، دار المعارف، مصر 1984، ص 56). وبالفعل، تحول الإسلام عقب الفتنة الكبرى إلى ملك قائم على العصبية القبلية الموروثة من الجاهلية. وهكذا أعادت بنية العقل الرعوي انتاج الإسلام بما يناسب هواها. هذا الإسلام المعاد إنتاجه "رعويًا"، هو ما يظنه المسلمون اليوم، الإسلام الذي نزل من السماء.

لربما تكون نزعة الانكار، ومقت التفكير النقدي، والانصراف عن الملاحظة، وعدم القدرة على استنطاقها، إضافة إلى تضخم الذات والرضا عن النفس بلا انجاز، هو ما يجعلنا، نحن السودانيين، لا نبدي اهتمامًا جديًّا بصعود اثيوبيا الصاروخي، مؤخرا، وبتراجع أحوال السودان والصومال. أعني، أن نهتم بذلك، بالقدر الذي يجعلنا نتنبه للعلة المُقعدة، التي حبست كلّاً من السودان والصومال عن النهوض. فسر انطلاق إثيوبيا أخيرًا، وهو انطلاق طال انتظار الإثيوبيين له، إنما يعود، في تقديري، لكون إثيوبيا ظلت بيئة حضرية، احتفظت رغم الاضطرابات، والفقر المدقع، بحضريتها. لم يتعرض التاريخ الإثيوبي لانقطاعات، ولا للتدخلات الأجنبية، إلا لخمس سنوات فقط أثناء الحرب العالمية الثانية. ولم يكن لتلك السنوات الخمس تأثيرٌ معيق. فتواصلية التاريخ مكّن لنمو القيم المتمدينة فيها، ولثبات بنية الحكم ومؤسساته. هذا في حين غلبت في السودان والصومال القيم الرعوية، واستشرى، من ثم، نهج تقوية القوى الجهوية المختلفة، لنفسها، على حساب بنية الدولة.

لو نحن نظرنا بعقول صاحية، صافية، إلى جوارنا الإقليمي، رغم قلة كسبه من التحديث، وقارنّا أحوالنا بأحواله، لاتضح لنا أننا مصابين بداءٍ عضال لا تخطئه العين. لقد مرت كل الدول التي نالت استقلالها، حوالي عقديْ الخمسينات والستينات، من القرن الماضي، بفترة من الاضطراب، وبحالةٍ من الضياع، أعقبت خروج المستعمر، ولقد استمرت تلك الحالة عقودًا، وكان ذلك أمرًا طبيعيًا. غير أن ثلاثًا من دول الجوار القريب، هي إثيوبيا، وكينيا، وإلى حد ما يوغندا، أخذت تنعم بشيءٍ من الاستقرار النسبي، وشرعت تحث الخطى في مسارات التحديث، والتنمية، في حين تخلف كل من السودان والصومال. يطرح هذا الوضع سؤالاً جوهريًا لا معدي عن الإجابة عليه، وهو: لماذا كان كلٌّ من السودان والصومال استثناءً في عدم الحفاظ على مكتسبات التحديث، والوقوع في براثن التراجع المضطرد الذي لامس، حواف الفوضى؟ لابد أن هناك علةً مركزيةً في الثقافة السائدة، تحول، وباضطراد، دون الإمساك بأسباب الحداثة، وتجعل الدولة أضعف من القوى المجتمعية، وأعني، بصورة خاصة هنا، القوى المتمثلة في سلطة النخب المعادية للصالح العام، المنشغلة بالوجاهة وبإثراء الذات والعشيرة، وشفط المال العام، من حيث ينبغي أن يعمل، وتحويله للدوران خارج فلك الدولة، والعمل المستمر في الفتك الذريع ببنية الدولة.

احتفظت إثيوبيا بتحضرها، إذ حصنتها المرتفعات الشاهقة من زحف الرعاة. لقد ظلت أقاليم أثيوبيا متمحورةً، طوعًا أو كرهًا، حول دولتها المركزية، في كل أحوالها؛ هبوطًا وصعودا. احتفظت إثيوبيا بتواصلية تاريخها، والاحتفاظ بسماتها الثقافية عبر العصور. وأهم ما احتفظت به إثيوبيا هو شخصية الإثيوبي، التي ظلت إطارًا جامعًا للإثيوبيين، رغم اختلاف الإثنيات، واللغات، والديانات. أيضًا، حافظت إثيوبيا على استقلالها، وعلى ما يقتضيه استقرار الدولة من انصياع المواطن للسلطة، واحترامه لها، سواء كانت سلطةً دينيةً أو دنيوية. ويرى إبراهيم اسحق ابراهيم، أن من ضمن أسباب هجرة القبائل العربية من الجزيرة العربية إلى إفريقيا الابتعاد من سلطة الدولة. وأن هذه القبائل وجدت صعوبة في الخضوع لسلطان الدولة المركزية، أينما حلت، (إبراهيم اسحق، مصدر سابق، ص 32).

من الضروري جدًا، الإشارة هنا، إلى أن الانصياع لنظم الدولة، ولحكم القانون، ضروري جدًا للتحضر واستدامته. وليس بغائب عني، من الجهة الأخرى، أن الشعوب التي لا تعرف كيف تتمرد وتعصي، حين يقتضي الأمر التمرد والعصيان، تبقى، يد الدهر، في أسر القهر والاستغلال. ومع ذلك، فإن الشعوب التي لا تعرف كيف تنصاع لنظم الدولة، ولحكم القانون، تضر بقيومية الدولة، بل وتهدد بقاءها. فهناك حاجة لكل من الانصياع والعصيان، ولكن بحسابٍ محسوبٍ في كل حالة.

يمكن القول أن التطور يحتاج الانصياع،conformity ، ولكن بعلم، كما يحتاج للتمرد والعصيان، ولكن بعلم أيضًا. تمرد السودانيون وعصوا مرتين؛ في أكتوبر 1964، وفي أبريل 1985، ولكنهم تمردوا من غير علم، فلم يجنوا شيئًا، وظلت الأمور بعد كل تمرد، تسير نحو الأسوأ. والغريب أن التساؤل حول نتائج هذين التمردين لم تجر بما يكفى، لا من حيث السعة، ولا من حيث العمق. بل إن ذات الحداة الأقدمون، لا يزالون يحثون الناس على تمرد جديد، شبيه، يجري من غير علم، على ذات النسق السابق. غلب على الإثيوبيين في عموم تاريخهم الانصياع، ولكنهم حين تمردوا على نظام الدرك والرعب الأحمر، الذي ساد فترة حكم منغستو هيلا مريام الشيوعية، تمردوا بانضباط، ولم تهتز الدولة عقب سقوط أديس أبابا، ولم ينفلت عقد النظام. وأرجو أن نقارن استقرار الأحوال في إثيوبيا عقب هروب منغستو، وانهيار قوات الدرك، وسقوط أديس أبابا في أيدي الثوار، بما جرى في جنوب السودان، الذي انفصل بهدوء تام، نتيجة لاستفتاء شعبي. فقد انتهت حال جنوب السودان، في وقت بالغ القصر، إلى فوضى ما لها من قرار. ولا غرابة، فثقافة الرعاة لا تستطيع، بطبعها، التعاطي مع إدارة الدولة، لأنها، تمثل، بطبيعتها، نقيضًا للمؤسسية. وهذا ما فات على جون قرنق، منذ البداية، حين ظن أن بوسع حركته أن تقفز، جملةً واحدة، على هذا الواقع المتخلف.

على خلاف السودان والصومال، حفظت مزية احترام الدولة والانصياع لسلطتها وقوانينها، لأثيوبيا تواصلية الاستقرار الإداري البيروقراطي، رغم ما جرى من تغيُّرات جوهرية في نظام الحكم، منذ انهيار النظام الإمبراطوري. وعلي سبيل المثال، وهو مثال مدهش حقًا، استمرت الخطوط الجوية الإثيوبية تنمو باضطراد، رغم مرور البلاد في بحر القرن العشرين، بثلاث حقب سياسية، متباينة أشد التباين. فقد ظلت الخطوط الجوية الإثيوبية تنمو في حقبة الإمبراطور هيلاسلاسي، وفي حقبة منغستو الشيوعية، وفي ظل النظام الحاكم اليوم، ولم يؤثر أيٌّ من هذه الأنظمة، سلبًا، على تطورها. بل أصبحت الناقل الجوي الأول، في إفريقيا كلها.

يدل كل ما تقدم ذكره، على أن في إثيوبيا بنية مؤسسية، متماسكة سلمت من إلى حد كبير من تلاعب النخب. كما يدل على وجود ضوابط وكوابح بنيوية، ترسخت، وأضحت مانعةً للتراجع، ولانهيار البنى القانونية، والإدارية، والمحاسبية، وسائر منظومة أخلاق العمل الضرورية لتماسك الدولة. هذه الانهيارات هي ما اتسم بها السودان طيلة حقبة ما بعد الاستقلال، بسبب أن الكوابح التي تحول دونها لم تكن متوفرة أصلا في بنية الثقافة السائدة، وفي التقاليد، وفي الموروث التاريخي القريب الذي شكله الرعاة. وتعطينا الدولة المهدية نموذجًا واضحًا للكيفية التي ينسف بها العقل الرعوي بنية الدولة. ولأن إثيوبيا حافظت، رغم كل الاضطرابات على التواصلية الحضارية، وسلمت بحكم طبيعتها الجغرافية، من وصول الرعاة إلى قلب حضارتها، استطاعت أن تحافظ على الثابت الوطني الرئيس، وهو تماسك جهاز الدولة، واحتفاظه، في كل الأحوال، بقدر معقول من الفاعلية.
(يتواصل)

((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


في تشريح العقل الرعوي
(8)

تحدثت في الحلقة الماضية عن ظاهرة الإنكار المستشرية وسطنا، نحن السودانيين. وأبدأ بمثال يعكس بقية واقع الحال، رغم ما يتسم به من شطط، وهو انكار الإسلاميين، ومكابرتهم في الاعتراف بفشل تجربتهم التي بلغ عمرها الآن سبعة وعشرين عامًا، ونيف. لم يبدر منهم طيلة هذه المدة ما ينبئ بأنهم يمكن أن يقرِّوا بالفشل، على الاطلاق. وفي هذا دلالة على نسخة الإسلام التي رفعها هؤلاء القوم، هي نسخة رعوية. بعبارة أخرى، هي نتاج للمسخ الذي قام عقل الرعاة لقيم الإسلام. وتلك ظاهرة لم تخل منها حقبةٌ، من حقب التاريخ الإسلامي. الشاهد، أن الإنكار والمكابرة، سمتان من سمات بنية العقل الرعوي، لا يسهل عليه هجرهما. فهما، كما سبق القول، جزء من البنية النفسية، التي تُنشِّئ عليها القبيلة أفرادها، من أجل حراسة أمنها، في بيئة اجتماعية لا تقبل الإقرار لأي نقص، على قاعدة: "لنا الصدر دون العالمين، أو القبرُ"، غلا توسط، ولا اعتدال.

رغم كل صور الفشل المدوية التي شهدنا حلقاتها، حلقة، حلقة، على مدى سبعة وعشرين عامًا، لا يبدو أن هناك شيئًا يمكن أن يجعل أهل الانقاذ يقرون أنهم أداروا تجربة غلب عليها الفاشل. فلا هجرة الريف الملحمية، التي جعلت الأرياف خاويةً على عروشها، وجعلت العاصمة تتضخم، حتى تعذرت أدارة شؤونها، ولا اتساخ هذه العاصمة بصورة لا شبيه لها في مدن العالم، ولا تراجع سعر الجنيه السوداني، بمتوالية هندسية، لا تنفك تتواصل، ولا تدهور التعليم، الذي بلغ بطلاب الجامعات درجة عدم معرفة الإملاء، دع عنك النحو والصرف، ولا احتلال السودان ذيل القائمة في كل مؤشرات النمو التي تصدرها المؤسسات الدولية، ولا ديونه التي قاربت، أو جاوزت، الخمسين مليارًا من الدولارات، ولا أي شيء من هذا القبيل، يمكن أن يجعلهم يقرون بالفشل.

لقد ظل الاسلاميون السودانيين، يديرون مسيرةً متصلة من التخريب الممنهج، الذي طال بنية الدولة، وقوانينها، وضوابط خدمتها المدنية، وحرمة مالها العام، ونزاهة قضائها، ومعيشة أهلها، بل وحتى أمنهم الشخصي، ومع ذلك لا يزالون يحاولون أن يهتفوا، ويهللوا ويكبروا، بنفس الحماسة التي كانوا عليها عام 1989. وحتى كارثة انفصال الجنوب لم تحدث لهم ذكرا. وبطبيعة الحال، هناك من بين الانقاذيين، ممن لهم علمٌ، وبهم حياءٌ، جعلاهم يباعدون بين أنفسهم، وبين هذه الحالة المستعصية من الانكار الممتد. ولكن هؤلاء قليلون يُعدون على الأصابع. وجماعة الانقاذ هنا، مجرد مثال فقط، فكل السياسيين السودانيين كانوا على ذات الشاكلة. كل الفرق أن أهل الانقاذ وجدوا في تجربة الحكم زمنًا طويلاً لم يجده غيرهم. ومع ذلك، لم يسعفهم طول الزمن هذا في التدبر والمراجعة، والاعتراف بالفشل، ومن ثم اليد لمواطنيهم المختلفين معهم، طلبا للعون، أو فتحًا لأبواب المشاركة في القرار السياسي، وفي إدارة شؤون. بل، أغرتهم القدرة على البقاء في السلطة طويلا، بفتلِ مزيدٍ من حبال الانكار والمكابرة، والغلو في العزة بالإثم.

ظللنا، لعقودٍ، نرى قادة الانقاذ يقفون، كل يوم، أمام أجهزة الإعلام، مؤكدين أننا نتطور وننمو. بل إن بعضهم يجنحون إلى إغاظة معارضيهم، بكل سبيل ممكن، وبكل منكرٍ، من القول، والفعل. وحين ينكسر كبرياء بعضهم قليلاً، بسبب ضخامة الفشل وصعوبة انكاره، يحيلون أسبابه إلى الاستهداف الدولي! ويا لها من حيلةٍ رخيصةٍ، مكشوفة! فالاستهداف، إن صح أن هناك استهدافًا، غرضه الأساس الإعاقة، فلماذا لم يعق هذا الاستهداف دولا أخرى؟ فها هي الدولة في إيران لم تنشطر، ولم تتفكك، ولم تتراجع، مثلما حدث لدولتنا السودانية؟ لقد أضعفت العقوبات إيران، هونًا ما، ولكن إيران بقيت متماسكةً، وفاعلةً في محيطها الإقليمي، بل ومسببة قلقًا حقيقيًا لكل المنطقة.

الفارق بيننا وبين إيران، في تقديري، هو أن في إيران دولة بقيت حاضرة، مدًا وجذرًا، على مدى الأزمان، منذ حقب الامبراطورية الفارسية، ومرورا بحقب الإسلام المختلفة. بقيت إيران بسبب عراقة تقاليد الدولة فيها، وبسبب أن أهلها يتشاركون شعورًا قوميًا إيرانيا موحدًا. أما نحن، فلم نعرف أصلاً ما الدولة. وأعني هنا، أننا لم نعرفها في تاريخنا القريب المؤثر على حاضرنا، وهو تاريخ لا يتعدى مداه الزمني الخمسمائة عامًا الأخيرة. ولا يُستثني من ضعف الدولة عندنا، واضطرابها، في الخمسمائة عام الماضية، سوى فترة الاستعمار البريطاني (1898-1956). وهي فترة قصيرة العمر، حرسها البريطانيون من التخريب، وما أن رحلوا انهارت عقب خروجهم مباشرة، كما سبق أن أشرت في الحلقات السابقات.

لقد ظلت تلك التي نسميها، مجازًا، "دولة"، مجرد ساحةً للنهب، وتحويل المال العام للحيازة الخاصة، دون أي شعور بالذنب. فالعقل الرعوي طبيعته السلب، وليس من طبيعته البناء. فهو يمثل مرحلة من مراحل التطور البشري، ونمطًا من أنماط عيش البشر. فالبدو متنقلون، ولهم مفهومهم للزمن، والتطور والتغير ليس وجود لهم في نمط عيشهم. فالزمن لديهم اقرب ما يكون للدائري. ولذلك تظل حياة البدو، كما هي تقريبًا، ولآلاف السنين. وحين يعلو البدو على الحضر بالغلبة، ويجلسوا في مقاعد القيادة، بدلا منهم، يحبسون الحياة، بإخضاعهم لها لطبيعتهم. وهذا ما حدث حين جرى في تخريب سوبا. فقد هُدمت تقاليد الدولة السودانية القديمة الراسخة، وقامت على أنقاضها سلطنة الفونج، وهي سلطة رعاة.

تلك، في تقديري، هي النقطة التي جرى فيها القضاء على بقايا الدولة الكوشية النوبية العظيمة، وإرثها وتقاليدها الدولتية العريقة، واستبدالها بكيانٍ مهلهلٍ، أصبح أداةً للنهب، وموضوعًا له، في ذات الوقت. مرة أخرى، الفارق بيننا وبين إيران، بل بيننا وبين إثيوبيا، أننا انقطعنا عن جذرنا الحضاري، الكوشي القديم، الذي عرف الدولة منذ آلاف السنين، وحافظ على تقاليدها، حتى نهاية العصر المسيحي. مع اعتبار الفارق الكبير من حيث الرسوخ والانجاز الحضاري، الذي تتفوق فيه دولة مروي، التي استمرت من القرن الثالث قبل الميلاد، إلى القرن الرابع الميلادي، على الممالك المسيحة التي قامت على أثرها. تمثل المنعطف الخطير، الذي أربك مسيرة التاريخ السوداني، في الصورة التي قامت بها سلطنة الفونج، التي حولت الدولة إلى مجرد كرسيِّ للمجد القبلي، والشخصي، وللوجاهة الاجتماعية، وللحيازة، عن طريق آلة الحرب. كانت حقبة سنار سلسلة متصلة من الحروب على الحطام. والميزة الوحيدة لسنار، هي انتشار التصوف، الذي كثيرا ما أطفأ من نيران القتال المرير، في تلك الحقبة المشتعلة.

البحث في الظواهر يمكن أن تجري جمع مادته، عبر مناهج كثيرة، منها طريقة "ملاحظة المشارك"؛ أي أن يراقب الباحث المنخرط في مجال بعينه، انخراطًا يمنحه صفة المشارك، حدوثًا متكررًا لظاهرة ما، بما يصل إلى تشكُّل ما يمكن أن نعدُّه نمطًا. يسمي أهل مناهج البحث العلمي الكيفي، هذا النوع من طرق جمع المعلومات، بـ "ملاحظات المشارك" participant observation. ويُستخدم هذا النوع من طرق جمع المعلومات، في البحوث المتعلقة بالأنثروبولوجيا الثقافية، وغيرها من فروع علم الإنسانيات.

العقل الرعوي منحبس، دائمًا، في الهم الشخصي، ومنحجبٌ دائمًا عن الهم العام. ولهذه الظاهرة في حياتنا السودانية تجليات جمة. غير أن الاعتياد، من جهة، والانكار، من جهة أخرى، إضافةً إلى عدم القدرة على الملاحظة، تجعل الكثيرين لا يلتفتون إلى الظواهر السالبة، دع عنك أن يقروا بوجودها. وأحب، في ما يلي، في هذه المقالة، أن أورد أمثلة لهذه الحالة. وتتعلق الأمثلة بتحويل الملكية العامة، إلى ملكية خاصة. أي؛ تحويل ما هو للدولة، وما هو ملك عام، إلى الحيازة الشخصية.

أول تلك الأمثلة، تعكسها ظاهرةٌ متواترةٌ الحدوث، في قرى الجزيرة. فقد لاحظت عبر عقودٍ من المعايشة اللصيقة، أن كل فردٍ يعيد بناء حوش منزله، لأي سبب من الأسباب، يسعى، وبصورة تلقائية، إلى ضم جزء من مساحة الشارع، إلى بيته. ولقد لاحظت، في عدد من القرى، كيف أن الشوارع التي كانت في ما مضى فسيحةً، تحوّلت بفعل هذه الاعتداءات المتكررة، إلى أزقة بالغة الضيق. فما كان منها يمرر شاحنةً، أصبح لا يمرر عربةً صغيرة. بل إن بعض الشوارع تحولت إلى أزقة لا يستطيع صاحب حمارٍ يحمل على جنبتي حماره، حزمتي قصب، أن يمر من خلالها.

ولا تنفك هذه النزعة المتجذرة في نوع من الطمع، يبلغ درجة العصاب، تثير الشجاراتِ بين الناس. ويفشل شيخ القرية في ايقاف هذه الاعتداءات، ويأتي الناس للوساطة لإيقاف الشجار. فشيخ القرية أصلاً بلا سلطات تنفيذية وعقابية. والناس مصابون بانتفاخ الأنا، وبقلة الحياء في ابداء الطمع والدفاع عنه إلى أقصى الحدود، ما يجعلهم لا ينصاعون للسلطة، ولا للقانون. والمسؤولون الإداريون الذين ظلوا يعملون منذ الاستقلال في إدارة الشؤون البلدية في المدن، وفي الأرياف، ينتمون إلى ذات العقلية التي لا تسعى لتعديل سلوك الناس، ومنع التعديات بقوة القانون. تحققتُ من عموم هذه الظاهرة المتكررة، بسؤال بعض الأصدقاء الذين من يعيشون في قرى مختلفة، من قرى الجزيرة، لم أعش فيها، ولم أزرها بصورة متكررة، وأكد لي جميعهم حدوثها، وبذات الصورة.

أخذت هذه الظاهرة صورة أخرى، في العاصمة الخرطوم. وقد بدأت صورها الأولى تظهر في سبعينات القرن الماضي. أخذ سكان الامتدادات السكنية المختلفة، يبنون مصاطب خارج بيوتهم، ثم يقومون بتسويرها؛ إما بسياجٍ شجري أو حديدي، أو بكليهما. فضاقت الشوارع وأصبحت لا تتسع لمرور سيارتين، تسيران متعاكستين. يقضم جارٌ جزءًا من الشارع، ولا يعترض، عليه جاره، وإنما يتخذ من ذلك ذريعة، ليقضم هو جزءًا من الشارع مثله، وفي صمتٍ تام. وهكذا تستمر هذه المؤامرة الصامتة لقضم الشارع ليتحول إلى مجرد زقاق. ومن يقومون بهذا النوع من نهب الملكية العامة، والحاقها بالملكية الخاصة، في القرية، وفي المدينة، يعدونه، "فلاحة" و"نجاضة" و"شطارة". بعبارة أخرى، يصبح الاعتداء على الحيز العام فضيلة ومأثرة. ولهذا النمط من الأخلاق السيئة جذور تاريخية. فما يهم الفرد أو الأسرة، هو منزلهم، وحسب. ولا شأن لهم بالشارع؛ اتسع، أو ضاق، أو انغلق كليا. فهذه العقلية تقف على النقيض تمامًا من نظم الدولة، ومن أسس التخطيط الحضري، ومن جملة ما نسميه، المصلحة العامة المشتركة. هذا مع أن أساس فكرة الدولة، بغض النظر عن صورتها التي تكون عليها، من صلاحٍ أو طلاحٍ، هو إقامة الوزن بالقسط؛ بين الحيز الخاص، والحيز العام. فالتمدن كله قام على القوانين التي تحافظ على هذه المعادلة البسيطة. لكن العقل الرعوي، بطبيعته، يضيق بهذه المعادلة، ويظل يعمل على تكسيرها، ما وسعته الحيلة.

من الأمثلة الأحدث نسبيًا، في التعدي على الشارع العام، ظاهرة تمدد أصحاب الدكاكين خارج دكاكينهم. أصبح كل صاحب دكان، يبني أمام دكانه مظلةً من الحديد، ويحميها بشبكة معدنية، ليجعل منها امتدادًا لدكانه ووضع جزءٍ منبضائعه في الشارع العام. ويبدو أن بعض، أو كل، "العقول الرعوية" الجالسة في إدارة المحليات، وجدت في هذه التعديات فرصةً جديدة لزيادة الأتاوات، أو فرصة لتلقي الرشاوى، فغضت عنها الطرف، ولربما شجعتها. ولم يكن الأمر كذلك، لما أصبحت هذه التعديات أمرًا طبيعيًا، ولما بقيت هذه التحديات، دون أن يطال أصحابها القانون. بعض هذه المظلات المعدنية وتوابعها، يمتد في الشارع العام من ثلاثة إلى خمس أمتار، الأمر الذي يخلق، مع توقف المواطنين، بسياراتهم، أمام هذه الدكاكين للشراء، اختناقات مرورية مزعجة. وبما أن التمدن يعني تكامل المنظومة الحضرية، فإن أي انكسار في جزء من هذه المنظومة، يؤدي إلى تأثر بقية الحلقات الأخرى، فتنهار في تتابع يشبه تتابع انهيار قطع الدومينو. وهكذا تتآكل مكاسب التحديث في حياتنا ونترد باستمرار إلى الفوضى و "الإيدية". وكما تقدم، لا يقف هذا النمط من السلوك، المعاكس للتحضر ولقيم الحداثة، عند الأفراد في الحواري، وإنما يتعداهم إلى رجال الدولة أنفسهم. فالعقلية هي، هي، في الحالين. وكما ورد في الأثر، "كيفما تكونوا يُولَّى عليكم".

تتجلى رعوية عقول المسؤولين، في الاعتداءات المتزايدة على الساحات العامة، التي شغلت الصحف السودانية في العقود الأخيرة، خاصة في ظل نظام الانقاذ الحالي، الذي ترك للعقل الرعوي الحبل على الغارب، ودعمه بسلطة باطشة، وبضرب المحاسبية، ما شجَّع على التجاوزات. المهندسون الذين رسموا الخرائط في البداية، وجعلوا للشوارع مساحات معلومة، تختلف من شارع لآخر، وتركوا فضاءات خالية لمنشآتٍ يُتوقع أن تتولد لها الحاجة مستقبلاً، رسموا خرائطهم وفق ما درسوه في علوم التخطيط الحضري. غير أن العقل الرعوي الذي يتشاطره الجمهور، مع النخب الحاكمة، لا يؤمن بالصالح العام ولا بالملك العام. فهو لا ينفك يضع عينه على الملك العام ليحوله، بمختلف الحيل، إلى ملكٍ خاص. فالبداوة قامت على الشعور بالأحقية المطلقة: "ونشرب إن وردنا الماء صفوًا، ويشرب غيرنا كدرًا وطينا". فهي ترى أن من حقها أن تضع كل ما يمكن أن تطاله يدها، عن طريق القهر والغلبة، تحت يدها. ولذلك، فإن الرعاة حين اجتاحوا بنية القرية السودانية، وبنية المدينة السودانية، اجتاحوها بنفس العقلية. وهي عقلية يتع1ر عليها أن تفهم أن هناك معادلة ينبغي حفظها، بين الملكية الخاصة، والملكية العامة.

أيضًا، سبق أن ذكرت، أن سودنة الوظائف، التي جرت قبل الاستقلال بقليل منحت أكثر من 98% من الوظائف للسودانيين الشماليين، حتى في الجنوب. وهذا تصرف جرى على ذات الأنساق التي ذكرنا. فقد أصبحت الوظيفة الحكومية عقب الاستقلال جزءًا من أسلاب الفترة الاستعمارية، التي كانت الأعين مصوبة عليهاوما أن ذهب المستعمر، ذهبت الوظيفة الحكومية للأسرة، وللأقارب، وللقبيلة، ولسائر المحاسيب. تبعت ذلك أيضا، استغلال الحق في المنازل الحكومية. فقد ظل الموظفون الحكوميون يسكنون في المنازل الحكومية، تأسيًا بالبريطانيين، الذين كانوا أغرابًا، عابري سبيل. وبما أن القلم أصبح في يد الأفندية، الذين خلفوا البريطانيين على الكراسي، جاد هؤلاء الأفندية على أنفسهم، بالسلفيات الميسرة من البنوك، لبناء المنازل الفاخرة، في امتدادات الدرجة الأولى الجديدة، ثم قاموا بتأجيرها للسفارات ولأعمال التجارية وللأجانب، وظلوا يسكنون في بيوت الحكومة، وهي بيوت مدعومة الخدمات. بل إن بعضهم ظل مستمرا في السكن في البيت الحكومي بعد سنواتٍ، وسنواتٍ، من تركه العمل. وتبعت ذلك تصاريح السفر على الطائرات والقطارات والبواخر. وتبع ذلك الحصول على المشاريع الزراعية الشاسعة وغيرها من الأراضي الحكومية، بأسعار بخسة. وراجت في فترة من الفترات ظاهرة منح مساحات لقطع الأخشاب، ولإنتاج الفحم، ما وضع ضغطا مستمرًا على الموارد الطبيعية، أوصلها حد النفاد، وما تسبب في تدهور مريع في البيئة.

ورث الوطنيون تدليل البريطانيين لأنفسهم. غير أن البريطانيين كانوا يعيشون في دولة غريبة، لا يعنيهم مستقبل أهلها كثيرا، ولذلك لم يجدوا بأسًا في تدليل أنفسهم من مالها العام، خاصة أنهم جاءوها من بيئة متقدمة وحياة رغدة، مرفهة. غير أن الوطنيين لم يروا قدرة البريطانيين على البناء، وقدرتهم على حراسة ما بنوه، وإنما رأوا الريع الذي ظنوه لا ينضب، فأخذوا يخمشون منه بلا ضوابط، أو روادع. تفتحت، عقب الاستقلال، شهية العقل الرعوي للحيازة وللتملك، ولتحقيق المجد الشخصي، والوجاهة الاجتماعية، واندفع إلى الغرف من المال العام، بما يشبه الجنون. دلل الوطنيون أنفسهم من المال العام، تأسيًا بالبريطانيين، وجاء من بعدهم خلفٌ ساروا على ذات الدرب، لأن البنية العقلية ظلت كما هي، ولم تتغير. والآن صحونا جميعًا، لنجد أن الدولة قد ذهبت. كما وجد هؤلاء الذين بنوا العمائر من المرمر والرخام، أنهم لا يستطيعون الوصول إليها في الخريف، إلا بعد أن يخوضوا في الأوحال؛ راجلين، أم راكبين. وأنهم، لحظة خروجهم من أبوابهم، ومن أسوارهم الأنيقة، وسياراتهم الفارهة، يغرقون في الفوضى، والأوساخ، وفوضى الشارع العام، وكآبة المنظر، التي تعوذ منها النبي الكريم.

تجلس كل هذه الأحياء الراقية فوق بنية تحتية غاية في البؤس. فهي بلا نظام صرف صحي، إضافة إلى معاناتها، مثل بيوت الفقراء من انقطاعات الماء والكهرباء، ومن ضعف خدمات النظافة. غير أن أهل هذه العمائر أقدر من غيرهم على اجتراح الحلول الفردية. وتقود كل هذه الظواهر إلى وضع الأصبع على ظاهرة عدم قدرة على تنسيق الجهود، وعلى العمل المؤسسي الرسمي السليم؛ يستوي في ذلك الأفراد والدولة. وعلى سبيل المثال، يوجد في كل بيت من هذه البيوت، وفي غيرها في من الأحياء الأقل فخامة، بئر سيفون وسيبتك تانك. والسبب أن الدولة لا تملك من المال، ولا من سداد الرؤية، ولا من القدرة على تنسيق الجهود، ما يمكنها من إنشاء نظامٍ عام للصرف الصحي. ولذلك يحل كل بيت مشكلة الصرف الصحي بمفرده، هذا مع العلم أن سيبتك تانك واحدًا، وبئرًا واحدًا، يمكن أن يستوعبا الصرف الصحي لعدد من البيوت. تمامًا، مثلما يحدث في العمارات متعددة الطوابق التي يسكنها عدد من الأسر. فلو جمع المال الذي يصرفه الأفراد على منشآتهم هذه، لربما كفى نصفه لعمل نظام صرف صحي عام. ولكن، لا وجود للدولة في حياتنا، ولا وجود لمفهومها أصلا. كما أننا لا نملك العقل الذي يمكن أن يدير الدولة، ويضمن ديمومة فعاليتها.

لا شك في ضرر نظام الآبار الفردية، ضحلة العمق، بالبيئة، خاصة في مدينة تشقها ثلاثة أنهر. الشاهد أن العقل الرعوي جعل من الدولة في السودان عبئًا على المواطن، بدل أن تكون عونًا له. فهي أقرب ما تكون إلى الشيء الزائد الضار. ذكر الدكتور خالد التجاني، مرة، أن عدم وجود الدولة في الصومال، جعل الشيلينغ الصومالي أكثر قدرة في الحفاظ على قيمته، في حين أدى وجود الدولة غير الرشيدة، ذات السياسات الخاطئة، في السودان، إلى فقدانٍ متواصلٍ في قيمة الجنيه السوداني.
يتواصل


((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
ÅÓãÇÚíá Øå
مشاركات: 453
اشترك في: السبت سبتمبر 10, 2005 7:13 am

مشاركة بواسطة ÅÓãÇÚíá Øå »

سلام استاذ النور حمد
اظن انك لم تاخذ بكلام الاستاذ كحديث باحت ومؤرخ جيد مثل الاستاذ عبد الله علي ابراهيم, بل سجنت رائه في اطار التحليل الماركسي للاشياء وذلك لاسباب كثيرة يمكن ان نشير اليها في هذه السلسلة التي تبذلها لنا هنا في موقع سودانفوراول وصحيفة التيار.
اول هذه الملاحظات ان كلام ابن خلدون يجانبه الصواب فيما يتعليق بالاعراب البدو,
وإقتباسا من حديثك فيما يخص غياب الممالك في تاريخ سكان وسط وشمال الجزيرة العربية اي ما يسمى بصحراء النفوذ , هذا الحديث يفنده وجود مملكة كندة والتي ينحدر منهم المناذرة الذين حكموا منطقة البحرين الحالية في الشمال من جزيرة العرب اي ما يسمى جغراقيا بمنطقة نجد وازدهرت هذه المملكة ما بين القرنين الرابع الى الاول قبل الميلاد وانتقلت من الوثنية الى اليهودية ثم المسيحية كما انه يشار اليها من قبل المؤرخين الشعر ان الشاعر العربي امرؤ القيس الذي لقب بالملك الضليل ينتمى اليها , استمرت المملكة رغم الحروب حتى ظهور الاسلام في القرن السابع إذ قام الخليفة الناي عمر بن الخظاب بارسال جيش الفتوحات الى شمال الجزيرة كما هو مدون في كتب التاريخ الطبقات لابن سعد , الطبري المبتدا والخبر في اخبار العرب , على سبيل المثال, وطرد عمر سكان المملكة واجبرهم الى الرحيل الى بادية الشام والعراق . صحيح ان العرب البدو الذين سكنوا في بقية الارجاء الواسعة بعيدا عن الاماكن الحضرية مثل مكة والمدينة الواقعة في الجزء الشمالي هم الذين قصدهم القران بالوصف الشائع الذي يقال عنهم بإن الاعراب اشد كفرا ونفاقا وذلك لبعدهم عن الدين الذي جاء يهدي نفس هؤلاء البدو الاعراب ويعلمهم الحكمة والموعظة, كما يقول القران , لكننا اذا القينا نظرة تاريخية على ما وقع من بعد موت محمد وعهد الفتوحات سنجد حينها ان قرارات الخليفة عمر والحديث الذي ينسب عليه موضوعية واكثرا قبولا من الناحية الاكاديمية العلمية وهو قوله ان لولا البدو الاعراب لما كان الاسلام قد انتشر وعم ارجاء واسعة من المعمورة في زمن وجيز, سيكون هذا تحصيل حاصل بالطبع اذا نظرنا الى رسالة محمد بعين الفاحص المؤرخ كيف بدات دينا ثم دولة ذات باس وشدة وانتهت بانتاج حضارة هي الحضارة العربية الاسلامية, كما سيكون تحصيل حاصل ان نقول اليوم بانه لولا كنور الطاقة السائلة التي تتلاطم امواجها في باطن جزيرة العرب بقدر كبير عن ما هو الحال في بقية ارجاء المعمورة لما كان البنزين والجازولين والعظور والمستحضرات البترولية الاخرى ولا يحزنون.
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

شكرا يا اسماعيل على التعقيب ولسوف أنظر في ما قلت حين أحول هذه المقالات إلى كتاب. حينها يصبح لدي متسع من الحيز لتغطية الفجوات. ولا أزعم أن ما كتبته خال من الفجوات، ففيه فجوات كثيرة.ومع ذلك، فإن ما يهمني تثبيته هو أن الأعراب الذي وفدوا إلى السودان لم يفدوا من مراكز الحضارة العربية الإسلامية، وإنما كانوا رعاة وفدوا سعيا وراء المراعي الأوسع والأكثر عشبا، وماء، وهذا ثابت. فهم حين وفدوا لم يكونوا إضافة لحضارة وادي النيل الكوشية النوبية العتيدة، التي عرفت الدولة منذ آلاف السنين، وسكنت أبنية الححر ونحتت ورسمت النقوش الملونة على الجدران، ومارست التقاليد الزراعية المنتظمة الراسخة. لقد كان وفود الأعراب عبئا على التراث الحضاري الكوشي. فهم الذين جروا التقاليد الحضارية النوبية إلى الوراء، ولا يزالون يجرونها، منذ أن سلبوا ملك النوبة وخربوا تقاليد الدولة لديهم وسطحوا ارثها الحضاري، وارتدوا بوادي النيل إلى القبلية وقيمها، في شك السلاح والسلب والنهب والعمل باستمرار ضد اي سلطة مركزية. فلقد ظل الابتعاد عن ارث الدولة لدى النوبة يزداد منذ اسقاط الأعراب لدولة المقرة في القرن الرابع عشر، ومملكة علوة بتخريب عاصمتها سوبا في القرن السادس عشر، إلى يومنا هذا. وسلب الأعراب لملك النوبة حقيقية تاريخية ثابتة. تجده عند يوسف فضل، وعند وليام آدمز، وعند سبولدينق، وعند ماكمايكل، وغيرهم، بالاضافة إلى ابن خلدون.

نعم هناك ممالك عربية كملك كندة وملك الغساسنة، ولكنها ممالك صغيرة، هي أقرب إلى ملك القبيلة. ولهذا النوع من الممالك ما يشبهه في السودان؛ مثال، ملك الشايقية وملك الجعليين، ومملكة تقلي. ولقد أشرت في هذه المقالات أن ملك الجعليين انقسم إلى ملكين أحدهما للسعداب بغرب النيل في المتمة، والآخر للنمراب بشندي. وشندى العاصمة الكبرى للجعليين لم يتجاوز سكانها حتى القرن التاسع عشر ستة آلاف نسمة. ويمكننا أن نقيس على هذا أن المملكة كلها كانت لا تضم سوى عشرات الآلاف من السكان. فهذه ممالك لقبائل، أو لعشائر من قبلئل اتسمت بكونها محاربة، وليست من نوع الممالك التي خلفت أثرا حضاريا. وحتى اسم مملكة لا يطلق عليها إلا تجوزا. فالممالك الحقيقية هي ما قامت على ضفاف الأنهار كما هو معروف، في وادي الرافدين، ووادي النيل، في مصر والسودان، ووادي السند وغيرها من الأنهر الكبيرة التي شهدت ميلاد كبريات الحضارات الانسانية. فالقضاء على الدول النوبية هو ما ولد ما نطلق عليه بصعوبة شديدة اسم ممالك، كملك الشايقية وملك الميرفاب، وملك الجعليين، وملك العبدلاب. ولو نظرت إلى هذه الممالك من الناحية الجغرافية فهي لا تشغل أكثر من خمسمائة كيلومتر، بمعدل مائة كيلومتر طولية لكل مملكة. أما من حيث العرض، فهو عرض السهل الفيضي لوادي النيل الذي لا يتجاوز على الضفتين بضع كيلومترات. فذا قلت إن وادي النيل، في السودان، من منحناه إلى الخرطوم لم تكن فيه في القرن التاسع عشر ممالك تستحق الاسم، فهل أكون مخطئا؟

نعم فتح الإسلام البلدان بالأعراب، وما كان له أن يحقق كل هذه الانجازات بغيرهم. غير أن الأعراب، بطبيعتهم البدوية، اجتذبتهم الحرب والغنائم بأكثر مما اجتذبتهم العقيدة. ففي حياة النبي جاء عنهم في القرآن : "قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم" وبعد موت النبي ارتدوا، فأكرهتهم الدولة الناشئة بما فيها من مؤمنين حقيقيين على العودة، وفتحت بهم البلدان، فخرجوا ورأوا الحضارة وذاقوا حلاوة الغنائم فاندمجوا في البنية الجديدة، وصار بعضهم من ساكني الحضر، وتمددوا حتى وصلوا الهند والسند شرقا والاندلس غربا، وجاءوا إلى السودان بقيادة بن أبي سرح وحاربهم النوبة وقاوموهم بشدة، فكانت اتفاقية البقط، التي هي اتفاقية غنائم بالتراضي بين الطرفين. ولما ضعف ملك النوبة اجتاح مملكتهم عرب جهينة وربيعة وأحاطو بوادي النيل شرقا وغربا، وأخذوا يناوشون ممالكه المتراجعة حتى قوضوها، وأحالوا البلاد كلها إلى بادية مفتوحة للسلب والنهب.

تفضلت وقلت أن ما أورده بن خلدون غير صحيح، ولكنك لم تقل لماذا هو غير صحيح.
رأي بن خلدون في أن العرب ليسوا أهل حضارة، وليسوا أهل صناعة صحيح تماما. وهو ليس صحيحا في وقت بن خلدون وحسب، وإنما هو صحيح حتى يومنا هذا. في كل دول الخليج وفي السعودية لا يوجد من يشتغلون بالحرف. ليس هناك حداد، ولا نجار، ولا سباك، ولا براد، ولا بناء، ولا ميكانيكي خليجي. ولو وُجد فهو نادر جدا، وربما تجده فقط في البحرين مثلا، وإلى حد ما في سلطنة عمان، أما اليمن والعراق وسائر بلاد الشام ومصر فوضعها مختلف، لأن لها تاريخيا حضاريا طويلا، ولا حضارة بلا صناعة. وقد شهد السودان صناعة متقدمة جدا في صهر الحديد في مملكة مروي، حتى سميت مروي "بيرمنغهام إفريقيا". فأين ذهبت هذه الصناعة الرائدة في العصور اللاحقة؟ في تقديري أن هذا مما قضت عليه الهجمة الرعوية الضخمة التي أنهت حضارة النوبي وغيبت الإرث الكوشي العظيم في وعينا، وجعلتنا ننظر إلى اهراماتنا وكأنها من فعائل جن سليمان.

عموما شكرا على الملاحظات فقد منحتني نقاطا أناقشها في الكتاب بشيء من التوسع.
مع التقدير
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


في تشريح العقل الرعوي
(9)


كنت قد بدأت في الحلقة الماضية تقديم بعض الأمثلة من حياتنا، التي تعكس سيطرة بنية العقل الرعوي على مسلكنا. وسأمضي في هذه الحلقة لتقديم المزيد منها. والغرض من الأمثلة هو تسليط الضوء على بعض العلل المُقْعِدة، على مستوى المسلك الشخصي، التي، حين يجري تجميعها، يتكون منها نمط عام. وتصبح لهذا النمط العام تأثيراته السلبية على مختلف أوجه حياتنا. وحين تتحكم علل الثقافة الرعوية التي تعمل بطبيعتها في وجهة التحلل من الالتزامات تجاه الدولة، ومن الالتزام بقواعد المؤسسية، يصبح بناء الدولة، والاحتفاظ بفعاليتها، واستقامتها، أمورًا متعثرةً، إن لم نقل مستحيلة.

فطن حكامنا الديكتاتوريون، ومن يعملون تحت إمرتهم، أننا نحصر فكرة التغيير، في تبديل الحكومات، فأخذوا يغيرون الوزراء، وغيرهم من المسؤولين، متى ما أحسوا بدنو انفجارٍ شعبي. ففي عهد الرئيس السابق جعفر نميري، وفي عهد الرئيس الحالي عمر البشير، جرى تغيير الوزراء، وغيرهم من الدستوريين، ومن القيادات السياسية، مرات كثيرة. وليراجع منا من يشاء، عدد المرات التي غيَّر فيها نميري والبشير الوزراء، ورؤساء البرلمان، والقيادات السياسية، وبقيت الأمور على ما هي عليه.

إهمال علل ثقافة الشعب، والتركيز على علل الحكومة، نهجٌ مضلل، لا ينتج منه سوى الاستمرار في الأزمة، وإعادة انتاجها، مراتٍ، ومراتٍ، في مسارٍ دائريٍّ، يلف حول نفسه. وبطبيعة الحال، لا تفعل الحكومات الفاسدة سوى نشر الفساد، ولو تُركت مكانها، تفاقم الفساد واستشرى. ولا أحب أن يُفهم أنني أقول إن علينا أن نترك الحكومة الحالية وحالها، وننصرف لمعالجة العلل الكلية، فما أعنيه هو العمل على الجبهتين، في آن معًا. فالعمل على تتغير الحكومة طرفٌ واحدٌ في معادلة التغيير. فغض الطرف عن عيوب الجماهير، يلغي، وبالضرورة، مكوِّنًا رئيسًا في معادلة التغيير. فهناك سياقاتٌ ومنعطفات تاريخية بعينها، لا يؤتي فيها التغيير أُكله، إلا إذ رُوعي وزن طرفي هذه المعادلة.

من تلك السياقات والمنعطفات، التي تقتضي النظر في الجهتين، ما نمر به حاليًا، في السودان. ففي الوضع المعقد المستفحل القائم الآن في السودان، ينبغي، منذ البداية، اصطحابٌ طرف قصور الحكومة، من جهة، وطرف قصور ثقافة الجمهور، من الجهة الأخرى. وبطبيعة الحال، هناك يرون أن الوصول السلطة، ضروري لامتلاك الأداة التي تغير وعي الجماهير، وتعدل مسلكها. ولكن، أليس هذا هو ما فعلته الانقاذ؟ فأين وصلت به؟ فلا الشعب تغيّر في الوجهة التي تريد، ولا النخب التي سطت بها على الحكم بليل استطاعت أن تعض على جمر الاستقامة، ففشا الفساد في البر والبحر، وانقسم القطر، وانهار الاقتصاد، وعم خراب مادي ومعنوي، لا مثيل له.

ما ظلت تهدف إليه هذه المقالات، هو محاولة ربط إشكالات حياتنا الراهنة بجذورها، في التواريخ التي وفدت منها، حتى تُفهم على نحوٍ أفضل، ويجري التصدي لها وفق فهمٍ عميقٍ لمسبباتها، حتى لا يضيع الوقت في جهود التغيير القاصرة، التي تعيد إنتاج الأزمة، وتجعل الأوضاع الجديدة أسوأ من سابقتها. وكما سلفت الإشارة، مراتٍ عديدةً في هذه المقالات، فإن هدم بنية الدولة الحديثة الناشئة، في السودان، بدأ مع خروج البريطانيين. فكل تجارب الحكم الوطنية، التي وقفت وراءها بنية العقل الرعوي الدخيلة، ابتداء بسلطنة الفونج، ومرورًا بالحكم المهدوي، وانتهاء بأنظمة الحكم لفترة ما بعد الاستقلال، لا تحكي عن بناء للدولة، بقدر ما تحكي عن صراعٍ مرير معها، ظل يستهدف بنيتها. وهو استهداف جرى من الحكام، ومن المحكومين، سواء، بسواء، لأن العقلية لدى الحاكم والمحكوم، هي نفسها.

سوف أواصل، فيما يلي من فقرات، كما فعلت في الحلقة الماضية، في تقديم بعض النماذج التي تبين كيف الثقافة الرعوية، لدى الأفراد، ضد العمل المؤسسي، أي؛ ضد الدولة، وضد المصلحة العامة. فعمل النخب الحاكمة في هدم الدولة، معروف لدينا، وها هي نتائجه ماثلة في واقعنا المعاش. لكن هناك خراب يصنعه الجمهور المحكوم، وهو لا يملك ألا أن يصنعه، بحكم ثقافته. يتساءل خلدون النقيب: لماذا لا تقوم دولة المؤسسات عندنا؟ ويجيب بأن هناك موانع موضوعية، ولكن هناك موانع ذاتية لا تُحظى باهتمام المراقبين والمحللين للأوضاع العربية. ومن هذه الموانع بعض السمات المشتركة للشخصية الوطنية، وهي الصفات السلبية التي تتشابه وتشيع في السكان بدرجة كبيرة، بحيث تمنع القبول بتقديم مصلحة المؤسسة، أو المصلحة العامة، على مصلحة الأفراد.(راجع: خلدون حسن النقيب، آراء في فقه التخلف، (ط2)، دار الساقي، لندن، 2008، ص 64).

من يرى أحوال السودان الآن، بعينٍ مبصرة، لابد أن يحتار في الكيفية التي يمكن أن تعاد بها الأمور فيه، إلى نصابها، بعد كل هذا الخراب المروِّع، الذي طال كل شيء. فهذه الفوضى، وهذه الجلافة المتزايدة، وهذا القبح، والكلاح، الذي يكسو وجه مدننا وقرانا، وهذه الغوغائية التي تطالعنا، أنّى اتجهنا، وهذا الاتساخ المتزايد، ليست كلها من صنع الحكومات. فبقدر ما لدى من تولوا أمورنا، من قابليةٍ لكي يصبحوا فاسدين، ومفسدين، ومخربين، فنحن، أيضًا، كذلك. دعونا، على سبيل المثال، نتأمل اللامبالاة، بل، و"القطامة"، التي يتعامل بها كثيرٌ من الموظفين، الذين، يجلسون وراء النوافذ التي تقدم الخدمات الحكومية، مع الجمهور. دعونا نتأمل نظرات الاستعلاء، والازدراء، التي ينظرون بها إلى طالبي المعاملات، ولامبالاتهم بمعاناتهم، وقلة حساسيتهم تجاههم، بل وكلفهم العجيب بتعذيبهم. هذا إن غضضنا الطرف عن قلة الكياسة، والجبين المقطب بلا سبب، وتعذُّر القدرة على الابتسام، وعلى الترحيب بصاحب المعاملة، وطمأنته أن أموره مقضية، وحقوقه محفوظة ومصانة، وكرامته موفورة.

يعمد كثيرٌ من الجالسين خلف هذه النوافذ إلى تمريغ كرامة طالبي المعاملات. ويبدو أنهم يجدون في هذا الصلف الأجوف، والغفلة عن جانب الله، وجانب الحق، مدعاةً للانتشاء، ولإرضاء الغرور الزائف، وربما، لملءِ فجواتِ مركباتِ النقص في نفوسهم، ونفخ مزيدٍ من الهواء في قربة "الإيقو الشخصي، المنتفخة أصلا. وربما هذا كله "تكنيك" للاسترزاق من الوظيفة العامة. فقد نشأت لدينا، مؤخرًا، ظاهرة ميسِّري، أو مُسهِّلي المعاملات، الذين يتولون عن الناس انجاز معاملاتهم. ويبدو أن هذه الظاهرة التي لا يعترض عليها أحد، تخفي وراءها خيط خفي يربط هؤلاء المُيسِّرين بالموظفين. ولربما يكون هذا هو السبب وراء تصعيب المعاملات، وقلة الحساسية تجاه طالبي الخدمات، وتعريضهم للوقوف الطويل، وللانتظار الممل والمرهق، ولمطوّلات "تعال بكرة"، و"الشبكة طاشة"، و"ورقك عند فلان، وفلان غائب". في هذا المثلث الشيطاني يصبح الموظف، والمُيسَّر، والمواطن، طالب الخدمة، جميعهم، أدواتٍ لهدم بنية الدولة، وتحويلها إلى مسخرة.

من ناحية أخرى، يتصرف صغار الموظفين مثلما يتصرف المستبدون الكبار. فهم يستنكرون أسئلة الجمهور، ويضيقون، أشد الضيق، بأي تعبير عن عدم الرضا، بل، ويعتبرون ذلك هجومًا شخصيًا، وليس مجرد أبداء لملاحظاتٍ موضوعية، حول طريقة أداء عمل عام. فبمجرد أن تستفسر الموظف، عن خدمة طال انتظارها، أو تبدي ملاحظة ناقدة لطريقة العمل، أو تعلق على التأخير، يجيئك رد الفعل الهجومي، الغاضب، المباغت، على هذا النحو: "انت عاوز توريني عملي يعني"؟ وربما تتبعها: "تعال بالله أقعد محلي". وهكذا يتحول الأمر من مجرد استفسار، أو ملاحظة حول اجراءات مكتبية، ينبغي أن تحكمها قواعد إجرائية، ومدى زمني، وغير ذلك مما يضبط سلوك الموظف العام تجاه الجمهور، إلى مواجهة شخصية.

هذا "الإيقو"، وهذه الأنا المتضخمة، لم تهبط علينا من السماء، وإنما هي متجذرة في بنية هذا العقل الرعوي، التي نحن بصددها. فالعقل الرعوي لا يستطيع أن ينظر إلى الأمور، ولا يستطيع معالجتها، من زاوية موضوعية. ولذلك، فإن من يتجرأ من الجمهور، فيبدي ملاحظة ناقدة، مهما كانت موضوعيتها، ومهما كان اعتدال اللغة التي قيلت بها، أو الأدب الذي قيلت به، يعرض نفسه لردة فعل ثأرية من جانب الموظف، تتمثل في الرد العنيف، وربما يصل الرد الثأري حدَّ تعمُّد تعطيل معاملة من أبدى الملاحظة. وهكذا يتخلق جو من الارهاب مانع للنقد. ولو قارنا هذا الوضع بما يجري في الدول المتقدمة، تتبينت لنا علل العقل الرعوي. ففي الدول المتقدمة يرحبون ترحيبًا حارًا بالملاحظات، وبالنقد، ويشجعونه لأنهم يعرفون أن النقص من طبيعة كل عام، وأن رأي الجمهور مهم، لأنه هو الزبون. أما نحن، لكوننا نعيش في مناخات الاستبداد، فإن إبداء أي ملاحظة يُعد من الكبائر. فالاستبداد ليس حصرًا على من يجلسون في أجهزة الدولة العليا، وإنما هو موجود في ثقافة الأفراد، مهما تدني وضعهم في هرم السلطة. فهناك أنفة، وصلف، وتعال، ونزوع للاستبداد لإرضاء غرور زائف، ملأتنا به تربية خاطئة، لم تعمل سوى لتثبيت العقد النفسية، وترسيخها. كما أن هناك كلفًا بنهب المال العام، بأي سبيل ممكن. هذه الأمور، وكثير غيرها، هي الرعوية التي أعني، وهي، هي التي ما جاء الإسلام، إلا لكي يستأصلها من جذورها، ويلقي بشجرتها الخبيثة، في النار. جاء الاسلام ليقضي على قيم القبيلة، ويقيم مكانها قيم الحق والعدل.

لحظة أن يتسنم الموظف الصغير، لدينا، وظيفته، ولحظة أن يحس بأنه قادرٌ على أن يُعطي، أو يمنع، يتصرف مع الناس من منصة امتلاك السلطة المطلقة. يتصرف الموظف بهذه الروح العدوانية النزاعة إلى التجاوز، حتى لو كان من يقف أمامه شيخٌ في عمر أبيه، وله من التجربة والخبرة، والتعليم، والحكمة، ما لا يحلم به هذا الموظف الصغير حتى لو أُعطي خمسة أضعاف عمره الذي هو عليه. هذا المسلك الرعوي المتسم بالجفاء وبالعدوانية الذي يطبع تصرفات كثير من الموظفين العموميين، يجعل طالب الخدمة يشعر بأنه متسول، وأن الموظف يتفضل بها عليه تفضلا، مع أنه صاحب حق، بل هو من يدفع لهذا الموظف راتبه.

أتوقع أن يتصدى لي البعض قائلين، إن في ما أقول تعميمًا، وربما تعديًا بغير حق على قطاع عريض برئ من هذه الأدواء، وأن خدمة الزبون لدينا بخير، وأن هناك أقلية، قليلة، تقوم بمثل هذه الممارسات، ولا يصح أن نطلق بناءً عليها حكمًا عامًا. وتلك شنشنة قديمة من أخزم، نعرفها. فقد عملنا في حكومة السودان ووقفنا مئات المرات أمام الموظفين العموميين، ورأينا كيف بدأت هذه الظاهرة، منذ الستينات، وكيف تفاقمت، لتصل في عهد الانقاذ الحالي إلى ما وصلت إليه.

رأينا في المطار، كيف يأتي فرد من القوات النظامية يحمل "دقشة" من الجوازات، أو من أوراق المعاملات، فيتخطى الواقفين في الصف، ويصل إلى الموظف المسؤول، وينجز معاملة الأسرة التي تخصه، أو الأصدقاء والمعارف. وكم شاهدنا معاملاتٍ يتم ادخالها من طرق جانبية، تتسبب في تعطيل من يقفون في الصف. فهناك نافذة للجمهور، وهناك "نفاج" خلفي "لأولاد المصارين البيض". هذا وباءٌ عام لا قيام لدولة معه، وهو لا يمثل سوى طرف من أزمة عامة بالغة الضخامة، بالغة التعقيد. فكل شخص منا يعتقد أنه ذا خصوصية، وأنه أهم من غيره، ولا ينبغي، من ثم، أن تسير أموره في ذات المسار الذي تسير فيه أمور عامة الناس. بل إن الخرق لقواعد المؤسسية، يصبح لدينا مدعاة للتباهي. وما أكثر ما سمعت من يقولون، وهم يثنون على شخص بعينه: "الزول ده نجيض بعرف يقضّى أمورو"؛ أي أنه يعرف الطرق الخلفية و"النفاجات"، التي ينجز من خلاله معاملاته.

يعود الإحساس بالعظمة، لدى أكثريتنا، إلى قيم القبيلة التي سبق أن تربَّى عليها أسلافنا، حين كانوا رعاة. فالبيئة الرعوية تشحن أبناءها بالشعور بالعظمة وبالأهمية، وبالاستحقاق المطلق، والأفضلية على الغير. وهذا واضح في أشعارنا الشعبية، التي تنضح بالفخر، بالأصل والفصل، وبالرفعة والعلو على الآخرين. ولقد ارتبطت تلك التربية بالطبيعة الحربية للقبيلة، المهمومة، أساسًا، بالدفاع عن ممتلكاتها وعرضها. ومثل هذا النوع من الشحن المعنوي الذي كانت تمارسه القبيلة في ما مضى، تمارسه اليوم الجيوش مع جنودها، في كل بلدان الدنيا، وهو مفهوم ومقبول في سياقه. وكذلك أخلاق الرعاة وقيمهم، فهي الأخرى مفهومة ومحترمة في سياقها التاريخي. كل ما في الأمر، أنها تصبح مشكلة حقيقية، حين تتسرب إلى داخل بنية الدولة الحديثة، وتحكم فبضتها عليها.

أيضًا، من الأمثلة الصارخة للشعور بالأهمية، ظاهرة تجاوز قائد المركبة، لمن يقفون أمامه في الطريق، بخلق مسار جانبي، يصل به إلى الإشارة الضوئية، فيعبرها قبل من سبقوه. ولا شك، أن من يسلك مثل هذا المسلك، شخصٌ ممتلئٌ بالشعور بالعظمة، وبأنه أهم من الآخرين، وأن وقته أغلى من وقتهم. وكل ما ذكرته هنا ليس سوى نذر يسير من سيطرة القيم الرعوية على مجريات حياتنا. وهي قيم تناقض أساسيات الحياة المدينية، وأساسيات التحضر، وضوابط المؤسسية، وكل النظم واللوائح والقوانين، التي تنسق علائق الناس، وتحفظ حقوقهم وكرامتهم. فالمدنية تعني النظام ومعرفة الحدود وحفظ حقوق الجميع، على قدم المساواة.

سبق أن أشرت في المقالات السابقة، إلى كيف تطوع القبيلة الفرد، وتجعله مجرد ترسٍ في ماكينتها، لكونها قائمة على الجماعية، وعلى الانصياع التام للمنظومة. ولذلك، فإن الفردية واستقلالية الرأي، ممقوتة لديها، أشد المقت، لكونها تهدد الطريقة التي تحمي بها أمنها. فمخالفة الجماعة، في القبيلة، جريرةٌ كبيرةٌ، تعرض صاحبها للتقريع واللوم والاستهجان، وربما أدت إلى عزله عن المجموعة. وحين تنتقل القيم الرعوية إلى داخل بنية الدولة الحديثة، يتحول المجتمع إلى حابسٍ لطاقات الأفراد، ماحقًا لملكاتهم، ومواهبهم. فالقبيلة تريد من فردها أن يكون محاربًا، مطيعًا، كما في الجيش. هذا في حين تحتاج الدولة الحديثة، العقول الحرة الخلاقة، والملكات الإبداعية. فكل الاختراقات الكبيرة في التاريخ، التي أسهمت في رفعة كثير من الأمم، قام بها من كانوا يفكرون خارج الصندوق. فالإبداع، كما هو معلوم، شأنٌ فردي. وكلما كبرت مساحات الفردية، وكلما كان الوسط العام، والرأي العام يسمحان بحرية التفكير، وحرية النقد، وحرية التجريب، كلما تفجرت طاقات الأفراد، وكلما كانت فرص المجتمع في التطور أكبر. فإبداعات الأفراد هي التي تفتح الطريق للجماعات لترتقي. والعكس بالعكس؛ فكلما كانت المجتمعات خانقة، ومقيِّدة، ونمطية، وعابدة للسائد، ولا تعرف غير الطرق المطروقة، ومتحفزة، على الدوام، للدفاع عن ما هو قائم، رغم عقمه، كلما جمدت، وتوقف فيها الزمان، فتآكلت، بمرور الزمن، واهترأت.

دعونا نتأمل كيف كانت أمهاتنا وجداتنا منشغلات بـ: "فلانة ما جات عزتني في موت فلان، أو فلانة". وكيف أن سيف اللوم المجتمعي، المسلط على الرقاب، قد جعل الجميع مصابين بـ "رهاب اللوم"، وخشية المقاطعة، والعزل، وردود الفعل الثأرية، وتشويه السمعة. فميزان القيم ظل يتحول من الفضائل الرفيعة والمعاني، وأضحى عالقًا بالشكليات، والمجاملات الاجتماعية. غابت الأساسيات، وارتبك وضع الأولويات، وضاعت قيمة ما يقدمه الفرد من خدمات علمية، أو عملية لمجتمعه. أصبحت الطقوس والشعائر الاجتماعية هي كل شيء في حياتنا، في حين أن حياتنا نفسها تنفلت من بين أصابعنا كل يوم، وتهبط من حضيض إلى حضيض أدنى من سابقه.

ننشغل بالمجاملات الاجتماعية، ونضيع فيها من الوقت أكثر مما ننفق في البحث العلمي، وفي الانجازات العملية، التي ترتفع بحياتنا، أو على الأقل، تحول بينها وبين التردي الذي يزداد إمساكه بخناقها كل صبح جديد. يتحمس الفرد منا للمناسبات الاجتماعية، ويحرص عليها أشد الحرص، لكنه لا يحرص على نظافة الشارع أمام منزله، أو نظافة الحي، أو حتى الامتناع عن إلقاء المخلفات والأوساخ كيفما اتفق! أيضًا، نلتزم بالوقت لحضور "الدافنة"، ولكنا لا نلتزم به في أي أمر آخر! لكن، لا غرابة، فالقيمة والسمعة الحسنة، جرى ربطها بأداء هذه الطقوس المجردة. في حين جرى نزع القيمة عن الأعمال الحقيقية المؤثرة على حياتنا، التي يمكن أن تدفع بها نحو الأفضل. والسر وراء هذا كله هو عقل القبيلة الذي يريد أن يضع الفرد في الدور المحدد سلفًا، الذي يريده له. فكل شيء ينتهي في عز القبيلة، أو العشيرة، أو الأسرة الممتدة، الذي هو قيمة مجردة متوهمة. فمن لم يأت لحضور دفن قريبي، أو عقد قرانه، لم يكرمني ولم يهتم بإعزازي، ومهما كان عذره، فهو لا يستحق اكرامي واعزازي. فالأمور كلها ملفوفة في "الإيقو". هذا التطويع للفرد، ومحق ذاتيته، ومصادرة فرديته، أت من ماضي القبيلة، حيث ينبغي أن يسير الفرد على العجين دون أن "يلخبطو". وتمثل هذه الظاهرة تمددًا في الحاضر، أقلُّ غلظةً، للأزمنة التي كان يُضحى فيها بالفرد في معابد الجماعة.

لقد وصلت لدينا، الممارسات المدمرة لبنية الدولة، ولتقاليد العمل البيروقراطي، بمرور الزمن، درجة أصبحنا معها نخلي المكاتب، وسائر أماكن العمل، لحضور دفن جنازة، أو عيادة مريض في المستشفى، بل والسفر المتكرر إلى جهات بعيدة لتأدية هذا النوع من الواجبات الاجتماعية. وكل الهدف هو أن نبقى بمنأى من دائرة اللوم المدمرة للسمعة. وما أكثر ما سمعت الأهل والأصدقاء يشكون لطوب الأرض، من هذا العناء شبه اليومي الذي صادر حيوات الجميع، وسحب أنشطة الأفراد من العمل المفيد إلى مجال التجريدات الطقوسية الشعائرية. لكن لا أحد يجرؤ ليقول "البغلة في الابريق". فمن يجرؤ، تنهال عليه السهام من كل حدب وصوب. ولا أحب أن أُفهم خطأ هنا، فصلة الرحم، وصلة الأصدقاء والمعارف، كلها قيم نبيلة، دون شك، ولكنها يمكن تنظيمها، كما يمكن وضعها في موضعها الذي لا يمنحها الأولوية المطلقة، على كل ما عداها.

أما ما طرأ على عاداتنا في الأفراح من تباهٍ بالثراء، ومن غلو في التباهي بالوجاهة الاجتماعية، ومن "فشر" مقرف، حتى لدى ولاة الأمر، فطبيعته الموغلة في الرعوية، فلا تحتاج مني إلى دليل. وما من شك أن سفه المناسبات الاجتماعية وسط الكبار، ليس سوى طفحٌ فاض من مستنقع الفساد، ومن تراجع الفضائل، واستشراء الضحالة، واختلاط حابل الفضائل بنابل الرذائل. ودعونا نضع كل هذه الأمثلة البسيطة التي ذكرتها في كفة، ونضع قيم الإسلام التي نعرفها، ولا نعمل بها، في كفة أخرى، ولننظر: هل ما نفعله في كل هذه المناحي ذو صلة بالدين، أم هو مجرد جاهلية رعاة؟ يقول رافائيل باتاي، إن المشترك بين قيم الفرد العربي وتعاليم القرآن، قليلٌ جدا، فقيمه تبدو أكثر صلة بقيم ما قبل الاسلام. (Rafael Patai, The Arab Mind, Charles Scripners, NY, 1983, p. 97).
(يتواصل في الحلقة الأخيرة)

((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
ÅÓãÇÚíá Øå
مشاركات: 453
اشترك في: السبت سبتمبر 10, 2005 7:13 am

مشاركة بواسطة ÅÓãÇÚíá Øå »

سلام الاستاذ النور
الملاحظة الثانية هو ان الاتهام الجماعي لفئة او مجموعة معينة ايا كانت هذه المجموعة من البشر بانهم السبب في الخراب الذي حاق بالسودان منذ ان وفدوا من جزيرة العرب وتجريمهم هكذا برمي الكلام على عوانه امر غير مقبول لا على المستوي الاثني ولا على المستوى السوسيولجي ويجاف العلمية وافضل ان اقول هذا عوض ان اقول بانه منطق متخلف. ساعود ببقية الملاحظات واسباب الاختلاف مع بن خلدون لاحقا .
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


تعقيب للدكتورعبد الله علي إبراهيم
جرى نشره بالراكوبة اليوم وهو متسلسل وهذه هي حلقته الأولى
(1)
واصل الدكتور نور حمد نشر مقالات مسلسله الذي يُشَرِّح فيه "العقل الرعوي" حتى بلغت تسعاً في آخر إحصاء. ومن رأي النور أن هذا العقل هو الذي من وراء خيباتنا الحضارية في الماضي والحاضر. بل هو من وراء خيبات غيرنا مثل الردة النازية في المانيا في الثلاثينات وفوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية. واهتممت بما يكتب النور لأنه قلم حاذق توسع في ضرر العقل الرعوي في حين اختزل من سبقوه هذا الضرر في عبارة موجزة عابرة غير متأنية. وتوافرتُ منذ سنوات على كتابات نقدت فيها من نسبوا بؤس حالنا لهذا العقل. وقلت لو صحة نسبة بشاتن حالنا لعقل ما لكان هو "عقل البرجوازية الصغيرة". ولذا بادرت، وحلقات النور هذه في مبتدئها، بمطاعن في منهجه لا أعتقد أنه استوفاها حقها من النقاش في رده عليّ. وعليه رأيت العودة إلى هذه المطاعن المنهجية والحلقات ما تزال تترى. وسأخصص هذه الحلقة وما بعدها لهذه المطاعن المنهجية ثم اتوافر في حلقة أخرى على مآخذ موضوعية انتخبتها من شغل النور الفكري حول العقل الرعوي.

لعل حوار مثل النور عسير لأنه يتهمك بما أنت منه شاك. فلما سألناه تعريف مصطلح "العقل الرعوي"، وهي العاهة السياسة الثقافية التي خرج لتشريح عوارها، شخّص حالتنا كمصابين بنفس العاهة. فقال: "الذين يضرسهم "العقل الرعوي" ربما احتاجوا أن يتريثوا فلا يندفعوا إلى الدفاع بحمية القبيلة. فهذا النوع من الاندفاع يمثل واحدة من تجليات العقل الرعوي، المتحفز، الذي لا يفكر صاحبه مرتين قبل أن يخف إلى سلاحه ليشهره في وجه الآخر". ولم تكن لنا من قبيلة من وراء الحمية التي نسبها للعقل الرعوي فينا سوى قبيلة الأكاديميين الذين تحرير المصطلح الأصل في شغلهم.

ومهما يكن فقد شفانا النور من دائنا بتعريفه لمصطلحه في ما بدا لي مكرهاً لا بطلاً. فهو مصر على أن الذي ينبغي لنا التركيز عليه هو الظاهرة وتجلياتها لا مصطلحها. قال "فإن اتفقنا على وجود الظاهرة، وضرورة البحث فيها، لا يهم أي مصطلح نطلقه عليها". وسنتجاوز عن هذا الإلحاد الأكاديمي وننوه بأنه التفت مع ذلك إلى بيان مفهومه للعقل الرعوي وعرَّفه للراغب. فقال إن "العقل الرعوي منظومة قيمية ارتبطت بنشاط اقتصادي بعينه، وأسلوب حياة بعينها". وبعبارة في قوله أخرى فهو منظومة قيمية شكلتها ظروف تاريخية. وهي ظروف لم تسمح لها بأن تتشكل على غير تلك الصورة.

وتعريف النور الوارد للعقل الرعوي من دارج الماركسية. وماركسيته الدراجة تمثلت في جعله البناء التحتي، النشاط الاقتصادي، حاكماً على المعارف (المنظومة القيمية). ويعود بنا هذا التعريف الماركسي الدراج إلى كلمة سلفت للنور نسب فيها عدم استساغتي لمفهومه ل" العقل الرعوي" إلى بقاء أقدامي "منغرسةً، إلى الآن، في تربة التحليل الماركسي للظواهر". ويضيف "أن التحليل الماركسي الاقتصادي للظواهر رغم أهميته التاريخية، لم يعد صالحًا تماما. فقد انقصم عظم ظهره منذ وقت طويل. فمقولة الوعي التابع للمادة، ومقولة إن منظومة علاقات الانتاج هي التي تصنع القيم، وأن البنى الفوقية تتولد، بالضرورة، من البنى التحتية، في قوله، مقولات سقطت جلُّ دعاماتها الإيديولوجية. وأعني هنا، أنها لم تسقط على الصعيد النظري، وحسب، وإنما سقطت على صعيد التجربة الفعلية في التطبيق الاشتراكي في الدول الشيوعية. " وظهرت فيها الرعوية بتغلب العنصرية والعقيدة الدينية على مثاليات الاشتراكية. وليس من أدب الخصومة التعريض بعقيدة المحاور وتصويرها كعاهة أو تعويق لا شفاء للمرء منه علماً بأن النور لم يأت في علاقة الفكر بالواقع المادي بغير الصيغة الماركسية التقليدية.

ومن أوجه عسر مناقشة النور أنه لا يستقر على حال من محاكمة العقول على خيباتنا. فهي عنده كثر. فحتى عهد قريب في أوراق قدمها إلى مؤتمرات اتحاد الكتاب السودانيين كان من رأيه أن مصدر نكستنا هو العقلية الخديوية. ومن تلك مقاله "غيبة السودان الحضارية ومحنة العقل المُحتل" (مؤتمر 2013) سمى فيها تأثرنا بالفقه المدرسي العثماني المتزمت (1821-1885) "احتلالاً عقلياً" لبنية العقل السوداني. ولولا هذا الاحتلال العقلي في قوله لشق السودان طريقاً خاصاً للحداثة. ولكنه عاد لينسب خيباتنا في المقالات موضوع نظرنا إلى العقل الرعوي كما تقدم. فلم يكن بوسع السودانيين، بالنتيجة، الوقوع على تلك الحداثة الخاصة بهم لأن لخديوية، في قوله الجديد، جاءت بنظام حداثي وصفه بأنه غاشم ما لبث أن اقتلعته الهبة المهدوية الرعوية التي ما لبثت أن استحالت إلى فوضى عارمة. فبأي العقلين تصدقان؟
بالطبع من حق الكاتب تغيير وجهة نظره حول شأن ما متى تهيأت له الأسباب. ولكنه متى نقض نفسه بنفسه بقوة، بل انقلب عليها انقلابا، وجب عليه مهنياً أن يطلع زملاء الكار والقراء عامة بمكنونات هذه الانقلاب ودواعيه. فالكاتب كالرجل والمرأة رهين لسانه الأول.

ووجدت النور ضنيناً ببيان مقولاته وتقعيدها بما يوقعه تحت طائلة الاستبداد الفكري. فأكثر النور من ذكر ابن خلدون في ما كتب عن أن العرب أبعد الأمم من سياسة الملك. وقال إن "العرب" "عندي تعني "الأعراب". ومضى ليقول و"لعل" ابن حلدون عنى بالعرب "الأعراب" وليس "العرب" على إطلاق العبارة. ويضيف: "لا تشمل كلمة "أعراب كل العرب". وانتهى إلى هذا الرأي (اللعلي) عن أن عرب ابن خلدون أعرابا وكان بمكنته أن يُوسع ابن خلدون بحثاً ليقيم الحجة على مقاصده من عبارة "عرب" الطاغية في وصفه السلوك السياسي والاجتماعي لهذه الجماعة. فليس من علائم إحسان البحث المجازفة برأي بغير استيفاء حقه في التقعيد والتشقيق ليسلس للكاتب زمام الاستدلال. فكيف استدل أن ابن خلدون عنى ب"العرب" "الأعراب" ولم يستنطق نصه بما يفيد ذلك؟

ووجدت أن النور نفسه لا يميز في مواضع من مقالاته بين العرب والأعراب بحيث تنتفي ضروة التمييز بينهما التي سعى لبيانها. فقال إن قريش، التي من أهل الحضر لا الوبر، سكنت الحاضرة بعقلية القبيلة الرعوية. فهي عنده ارستقراطية من العرب استغلت سدانتها للكعبة (معبد دينها الوثني) لإثراء نفسها. وكان إسلامها بمثابة إحناء الرأس للعاصفة لتمر فيعودون لما كانوا فيه. ولنسأل النور: كيف لا تكون هذه المخاتلة من "العرب" في قريش من باب "أشد كفراً ونفاقاً" التي وصف بها القرأن الكريم الأعراب؟ وبالنتيجة تنقض هذه المماثلة بين العرب والأعراب (نفاق قريش العرب ونفاق الأعراب) التي جاءت عند النور مسعاه ليميز العرب عن الأعراب عند ابن خلدون. فقريش أعراب طالما استبطنت الكفر وهي تتشدق بالإيمان كالأعراب تماماً.

ووجدت النور من أهل "الخط المعلق" في البحث. فجاء بالآية "الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله ورسوله". وحملها دلالات "جينية" يقشعر لها من يعتقد بأن الإسلام دين الفطرة. فقال إنه وجد الآية غاية في دلالة عن "بعد الأعراب عن الله، ومن نبيل القيم . . . فهم من السوء بحيث أصبح من الخير لهم ألا يعرفوا بتعاليم الإسلام . . . ليبقوا على ما هم فيه رأفة بهم". وجاء في نفس الموضع بآية القرآن الأخرى: "وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة 99). ولم يزد النور في وجه هذا التحدي المصطلحي الرباني عن قوله "وبطبيعة الحال استثنى القرآن أعراباً آخرين من هذا الهجاء". وهو استثناء توجب الوقوف عنده لولا أن النور عجول يخترق ضاحية المصطلحات كيف شاء ويترك القارئ في حيرة من أمره.
أطلت. وأعود لمآخذي على منهج النور في مقال آخر.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
الفاضل البشير
مشاركات: 435
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:56 pm

مشاركة بواسطة الفاضل البشير »

سلامي وتحيتي
(وليس من أدب الخصومة التعريض بعقيدة المحاور وتصويرها كعاهة أو تعويق لا شفاء للمرء منه...)
عفوا لي بعض اختلاف مع د. عبد الله فالتعريض بعقيدة المحاور في نظري أخطر من ذلك، فهو مقدمة لاستئصال المحاور. او هو استئصاله.
فهي قضية فكرية لا تقف في حدود الذوق والادب.
فالموضوع بين المتحاورين هو ما يفصل بينهما تاركا بالكامل لاي منهما ان يعتقد ما يعتقد في مؤخرة راسه.
فلننظر هذا التطرق النابه من قصي همرور حول القضية نفسها: معتقد وخلفيات المحاورة حيث تكون الآراء حول الموضوع لا الخلفيات هي الفيصل. كان يبتدر ورقة في مؤتمر وراي ان يعرف بعقيدته او خلفياته المعرفية لكن في التو أشار الى ان القيمة ستكون لما سيطرحه وليس الى تلكم الخلفية .
يقول
(ولتبيان خلفيتي التي تؤهلني – نظريا – لكتابة هذه الورقة، أقول إني حاليا طالب دراسات ......الخ .....) ويواصل( هذا التبيان البسيط لازمة من لوازم الخطاب الجاد في مواجهة القضايا الجادة، لكنه لا يقول شيئا بنفسه، وإنما المحتوى – أدناه – هو ما يتعرض للتقييم، فإن كان فيه فائدة حقيقية فسيلمسها القراء، وإن لم تكن فيه فائدة فليست هناك أي عبرة بالخلفية الأكاديمية للكاتب.)

في الحقيقة تطوير مفهوم ونهج الحوار يهمني لمارب اخري، وقد تنطبق على المقولة:(طروا الحديد نطت الابرة) كلما ذكر الحوار جيت ناطي.
وادافع فيه ان الحوار بين اطراف شديدة التباين لابد ان ينجز حول موضوع مادي, ولا يتطرق ويغرق في نبش الخلفيات الفكرية. ويكون مبررا للاستئصال.
والحوار بهذا الفهم هو ما يحتاجه التفاكر بين مراكز الحداثيين وشعوب الريف، عند استعادة الديمقراطية، التي تبدو وشيكة.
وختاما لكما التحية، وأيضا عزيزي النور حمد بعد ان اجبرتنا لنذاكر وجدت محمد عابد الجابري يشرح الخلاف بين اهل البادية واهل المدينة، في فهم ابن خلدون. ومنه هذا المقبوس:
(...ولما كان هذا الوازع تفرضه ضرورة الاجتماع والتعاون لتحصيل الغذاء . ولما كانت طرق كسب العيش وبالتالي أسلوب المعاش, يختلف في البادية عنه في المدينة, فانه من المنتظر ان يختلف الوازع هنا عن الوازع هناك...)ص164
الفصل العاشر163
نظرية العصبية العصبية والصراع العصبي
وتجده ان شئت هنا
https://www.mohamedrabeea.com/books/book1_5335.pdf
فكر ابن خلدون العصبية والدولة معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي.
الدكتور محمد عابد الجابري
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

شكرا يا الفاضل على التعليق وعلى الإشارة لما كتبه محمد عابد الجابري
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


تعليق د. عبد الله علي إبراهيم
الحلقة 2
نشر بالراكوبة 30 نوفمبر 2016

يكتب الأستاذ النور حمد مقالات متسلسلة يرد فيها خيباتنا الحضارية (أو ما أسماه "غيبة السودان الحضارية") إلى تمكن العقل الرعوي منا. وطبق النور جرائر العقل الرعوي على الحضارة على غيرنا من الألمان والأمريكان. وكتبت مقالين لحد الآن أواخذه فيهما على خطأ تشخيصه لمحنتنا كمحصلة لطغيان العقل الرعوي في فكرنا وممارستنا. وأريد في هذه المقالة الثالثة موالاة نقد منهج النور من هذه الوجوه:

1- هل بالوسع القول، حسب منطوق النور، إن الرعاة مصابين بالعقل الرعوي أم أن العقل الرعوي مما يصيب غير الرعاة؟

2- هل "العقل الرعوي" هو نفسه "العقل القبلي"؟ فقد بدا لي أن العقلين رديفان في قول النور.

3- هل يميز النور بين الرعاة والمزارعين من شعب الأرياف كما يفعل الرعاة والمزارعين أنفسهم، أم أنهما عنده شيء واحد؟


1-بدا لنا أن النور لايعني ب"العقل الرعوي" من هم في اقتصاد الرعي (أي الرعاة ليومنا) على أنه لا يستثني هذه الطائفة من البشر في مقالاته من جريرة العقل الرعوي. فوجد النور العقلية الرعوية بين رعاة مثل الكبابيش وبني جرار والمسبعات واستهجن عقلهم الرعوي (الذي لايملكون منه فكاكاً لأنهم رعاة) لنزاعهم التاريخي والحاضر الذي نشأ وينشأ "بسبب أمور تافهة مثل سرقة بهيمة، أو ثأر". ولكن في قول آخر للنور تجده يرمي ب"العقل الرعوي" غير الرعاة من الصفوة الذين استبقوا هذا العقل في فكرهم وأدائهم في الدولة الحديثة. فالنور متفهم لأخلاق الرعاة وقيمهم في سياقها التاريخي أي في بداوتهم التي هي معاشهم. ولكن مشكلة هذه الأخلاق والقيم، في قوله، تكمن في تسربها إلى داخل بنية الدولة الحديثة. وهذا كما ترى بخلاف تعريفه الأول للعقل الرعوي بوصفه "منظومة قيمية ارتبطت بنشاط اقتصادي بعينه، وأسلوب حياة بعينها". وهما الرعي.. فالرعاة، الذين تفهم النور قيمهم في شرطها التاريخي، واقعون في جرائر العقل الرعوي التي قال بها النور طالما صارت تلك القيم "عقلاً" بتعريفه للعقل الرعوي. فهم مذنبون لعقلهم الرعوي مع تفهم النور لخصيصته التاريخية. وكان مخرج النور من هذا المأزق أن يُعرف العقل الرعوي كحثالة (حتالة الدراجة) قيم تبقت في غير الرعاة من الصفوة غربية التعليم والهوى الذين هم سدنة الدولة الحديثة. وسيقع له بهذا التفريق بين قيم الرعاة والثقافة، بنت معاشهم، وبين حثالة تلك القيم التي تتسرب إلى الدولة الحديثة بواسطة صفوة فارقت اقتصاد الرعاة ومعاشهم فراق الطريفي لجمله. وعادة ما يُستحدم مصطلح "عقل" ما لحثالة بقيت من قيم عفا عليها الدهر. وهو ما اتفق لرافائيل باتي، الكاتب الأمريكي اليهودي، في كتابه "العقل العربي" (1973) الذي أذاع فيه أن وراء الأداء العربي المعاصر حثالة ( substratum) من عقلهم البدوي التاريخي.

2-قارئ النور لن يخطيء خلطه المشوش بين مصطلح "القبيلة" ومصطلح "العقل الرعوي". فتجده يتحدث في أحوال عن "عقل القبيلة" أو قيمها. فمن رأيه مثلاً أن الإسلام جاء ليقضي على ذلك العقل و تلك القيم القبلية. فخلاصة قوله إنه كان عقل القبيلة (لا الرعوي) مسيطراً في عوالم ما قبل الحداثة. زلكنه في مواضع أخرى يدمج العقلين لا فرق. فالناظر لحال السياسة لعربية واضطرابها، في قول النور، يجد سمة "العقل الرعوي" الذي تبع "قيم القبيلة" وتجاهل قيم الإسلام. وزاد بقوله إن "عقلية القبيلة" سيطرت على مجريات السياسة بينما اختطف "العقل الرعوي" منظومة الدين برمتها. ويرى النور أن الدولة الحديثة لن تنجح طالما كان تعريف الحق فيها مرتبط حصراً بالقبيلة. وأضاف بأن القبيلة لم تقبل بالسلطة المركزية في السودان أبداً حتى أنها كمنت طوال عهد الاستعمار لتظهر "مع هبوب نسائم الاستقلال". وعليه فالسودان، في نظره، ما يزال في مرحلة "القبلية" تتحكم في أموره "بنية العقل الرعوي". فالعقل الرعوي والقبيلة هنا صنوان. والمخرج أن نتدخل لفض النطاح بين القبيلة والدولة لتغيير "هذه البنية العقلية". وواضح أن هذه البينة القبلية هي نفسها بنية العقل الرعوي الذي وصفه دائماً بأنه مصادم للدولة الحديثة. فالعقلية القبلية والعقلية الرعوية سواء في النفور من الدولة. وهما نفس الشيء بالنتيجة.

3-يشمل النور سائر العرب (أو فلنقل عرب الأرياف) ضمن الرعاة. ولم يتوقف ليسأل عما كان هؤلاء الريفييين أنفسهم يميزون رعاتهم عن غير رعاتهم. فوجدت رعاة شمال كردفان الذين عملت بينهم يستهحنون حياة المزارعين (أو عقلهم) ويرثون لحالهم متى جاء الطير وأكل زرعهم وهم مكتوفي الأيدي. بينما يرد عليهم الزراع مستحقرين حياة البدو (عقلهم) بقولهم وماذا لو تفشى المرض في حيوانكم وترككم خلواً منها. بل وجدت باحثاً في تركيبة الجيش الأردني يميز بين فرق البادية وفرق المزارعين فيه والأدوار التي تبادلتها بحسب الخطة الملكية.

وهذا التمييز بين عقل الرعاة وعقل الزراع قائم في ريفنا. فجاء الطيب محمد الطيب في كتابه "فرح ود تكتوك خلال المشبوك" ببيان دقيق رشيق على هذا التمييز. فمن وراء الاضطهاد التاريخي لجماعة الزبالعة الدينية من عهد الفونج حقيقة أنهم رعاة تبنوا طريقة صوفية طعن أهل القرى في سلامتها، بل اتهموهم بالباطنية وهي التبذلفي أوساطهم بين النساء والرجال . وكان أحّد الأصوات على الزبالعة هو صوت فرح ود تكتوك حتى استبخسه الزبالعة ووصفوه ب"رفيق الزراع". ورشّحت في مقدمتي لكتاب "الزبالعة" لمحاسن زين العابدين عن هذه الجماعة أن ننظر إلى هويتهم الرعوية لتفهم المطاعن في دين الزبالعة. فلربما تضمنت الطريقة حمية ثورية بدوية على سلطنة سنار حتى ألبت عليها من حاربها بالسلاح. وصح بذلك أن ندرسها في سياق الاقتصاد السياسي ل"الأشقياء"، وهي ما يصف به السلطان ثوار البادية أو العربان. وهي ثورات مشروعة للرد "الرعوي" على إهانة جبايات الدولة التي أحصيت نحو 13 ضرباً منها. وتستأثر تلك الدولة جزافاً على الفائض الاقتصادي لإشباع غرائزها في التنعم والراحة. فلربما نشأت الزبالعة في اقتصاد "الأشقياء" السياسي لدولة الفونج وتمرد عربانها على الدولة تمرداً أقض مضجعها وعبأت له تلك القوى لكسرها. وسنعود لهذه المسألة حين ننظر في فهم النور لمقدمة ابن خلدون وأدوار الرعاة الهدّام في التاريخ.

وسيكون حديثنا القادم عن سياسات تمثيل الذات للآخر (politics of representation) التي استبطنت نهج النور في اشمئزازه من العقل الرعوي.

((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

في تشريح العقل الرعوي
(الأخيرة)

سأحاول، في هذه الحلقة الخاتمة، تقديم تلخيصٍ موجزٍ لهذه الأطروحة التي أسميتها "في تشريح العقل الرعوي". وبطبيعة الحال، لم تستقص هذه الحلقات موضوعها كما يجب، وما كان ينبغي لها. فقد أحاطت بها قيود الكتابة الصحفية الأسبوعية الراتبة. ومع ذلك فقد رسمت، بصورة مطولة، ملامح مخطط بحثي، نقدي، سبق أن أشرت، في بداية هذه المقالات، إلى أنني أنوي تطويره، سعةً وعمقًا، إضافةً إلى إجراء مزيدٍ من البحث في الأدبيات المتعلقة به، من أجل دعمه بمزيد من الأفكار والمراجع، ثم إخراجه في كتاب، في نهاية المطاف.

أثارت هذه المقالات، الكثير من الجدل، في ما وصلني من ردود فعلٍ حولها، على بريدي الالكتروني، ومما قرأته في المواقع الإلكترونية، ومما تفضل بنقله إليّ بعض الأصدقاء، حول ما جرى بشأنها من حوار في مجموعات النقاش المختلفة، التي تزخر بها وسائط التواصل الاجتماعي. احتفى كثيرون بهذه المقالات، ومن بين هؤلاء ثلةٌ ممن أعرف سعة معرفتهم، وشعورهم العميق بالحاجة إلى البحث في جذور الأزمة السودانية المستفحلة، والمتطاولة. وقد فاق احتفاء هؤلاء بالمقالات، كل توقعاتي. وقد شد ذلك عضدي، خاصةً أنني تجرأت بالخوض في شأنٍ شائكٍ، وحساسٍ، فعلا، وهو، بمنحاه الناقد للثقافة السائدة، لا يجد لدى الكثيرين، قبولاً.

أما من الجهة الأخرى، فقد انتاشت المقالات سهامٌ عدة، من زوايا مختلفة. اتسم بعضها بالموضوعية، واتسم البعض الآخر باللاموضوعية. وكل تلك أمورٌ طبيعية، في اعتقادي. فالنقد الموضوعي يعين على إعادة النظر، وضبط الطرح، وعلى التطوير. أما غير الموضوعي فيُترك جانبًا، ولا ينبغي أصلاً أن يُؤبه له. فهو من جنس الغوغائية التي طالما وسمت مجالاتنا الفكرية، والثقافية، والصحفية، والسياسية، منذ قرابة القرن من الزمان. وهذا القرن المنصرم، من الزمان، يمثّل، تقريبًا، كل عمر أمتنا في ممارسة الكتابة، في تمثُّلاتها الحديثة. وهو عمرٌ جد قصير في أعمار ثقافات الأمم، التي أخذت بأسباب الحداثة.

نحن لا نزال بعيدين، عن التعاطي مع الاختلاف كشيءٍ طبيعي، بل وكشيءٍ ضروري؛ مهم، ومفيد. وقليلون منا من يجرون المساجلات الكتابية، بعيدًا عن التشنج، وإنشابٍ الأظافر في رقبة شخص الكاتب، كأن ما بينهم وبينه خلافٌ على ميراثٍ. فالمستوى المتحضر من الحوار، الذي حطت في رحالها الأمم التي محصتها التجارب الطويلة، والانتاج الفكري الضخم، وساعدتها في صقله المؤسسات الأكاديمية المستقلة ، التي وصلت أعمارها إلى قرون عدة، فنحن منه جد بعيدين. فلدى بنية العقل الرعوي، كل الأمور واضحة، ولا حاجة إلى التساؤلات أصلا؛ فإما أن تنسجم مع بنية العقل السائد، وإما أن تُحَطَّم. فالتفكير النمطي المتكرر، والابتسار، والعجلة، والاستقواء بالجهلاء ضد العلماء، واستهداف الشخص، بدلا من استهداف مواضع الخلل في فكرته، كلها خلالٌ رعوية، آن لها أن تترجل.

ظهرت بدايات هذا الطرح، أول ما ظهرت، في كتابي "مهارب المبدعين: قراءة في السير والنصوص السودانية"، الذي صدر عن دار مدارك للنشر، في الخرطوم، عام 2010. كما ظهرت في أوراقٍ أكاديميةٍ متناثرة، نشرتها، في السنوات الأخيرة. ومما ورد في كتاب، "مهارب المبدعين"، مما له صلة بهذه المقالات، هو زعمي أن انقلابًا حدث في العقل والوجدان السوداني. فقد سبق أن قلت في ذلك الكتاب، إن سبب ذلك الانقلاب هو دخول المؤسسة الدينية الرسمية الخديوية العثمانية إلى الساحة السودانية، في بداية الغزو الخديوي للسودان. بعبارةٍ أخرى، حدث ذلك الانقلاب العقلي والوجداني، عندما أصبح للدين مؤسسة حكومية، رسمية، مهمتها أن تكون ذراعًا تستخدمه السلطة في السودان، لتكريس الاستبداد الفكري والديني، والسياسي. ولست بغافلٍ عن ضرورة تقديم بعضٍ من الاحتراز هنا؛ فبيوت التصوف السودانية، كانت، هي الأخرى، تعتمد الفقه في جانبٍ من ممارستها التعليمية التربوية. غير أن تركيزها كان على التربية والتهذيب، بأكثر مما كان على استظهار المتون وحفظها، من غير أن يكون لما يُحفظ من نصوص تأثيرٌ يذكر على الأخلاق، كما هو الحال لدى الفقهاء. قامت بعض بيوت التصوف في الحقبة السنارية، بتدريس "مختصر خليل" و"الرسالة"، لأبي زيد القيرواني، وغيرها من كتب الفقه. ومع ذلك، بقي المتصوفة مدركين أن دراسة الفقه القائمة على الحفظ والاستظهار، قاصرة عن تحقيق مراد الدين، وهو التربية والترشيد. وعلى سبيل المثال، رُوي عن الشيخ حمد ود الترابي، الذي بدأ حياته الدينية بتدريس مختصر خليل، أنه حين نوى بدء نهج التصوف والرياضات الروحية، ودخول الخلوة، رمى بمختصر خليل جانبًا، وقال: "تركناك يا خليل ومسكنا درب الجليل". وكما هو معروف فإن محمد ود ضيف الله، صاحب كتاب الطبقات كان يذكر في مقدمة سيرة من يورد من الأولياء، أنه أخذ العلم على فلان؛ أي تفقّه عليه، وأخذ التصوف وتبع طريق القوم، على يد فلان. (راجع أبو سليم، بحوث في تاريخ السودان).

أحضر الخديويون عند بدء غزوهم للسودان عام 1821، ثلاثة من الفقها؛ شافعي، وحنفي، ومالكي. ومن هنا أخذ التدين المؤسسي يأخذ وضعه في السودان. في تلك النقطة في الربع الأول من القرن التاسع عشر جاءنا التدين العثماني، الأزهري، المظهري، الداعم للاستبداد، ولأحادية التفكير، وللطهرانية. وبطبيعة الحال كان السودانيون، في الحقبة السنارية، يذهبون لتلقي العلوم الدينية في رواق السنارية في الأزهر، لكنهم كانوا يعودون ليعلِّموا الناس الفقه الضروري، الذي لا تصح العبادة إلا به. وعمومًا، كان المهتمون بالدين، من السودانيين آنذاك، قليلين، وكانوا ملتفين حول بقاع التصوف. أما بوادي السودان المحيطة بمجرى النيل فقد بقيت صلتها بالدين، ضعيفة جدًا. وتاريخ سلطنة سنار يحكي عن ذلك أفضل حكاية. بعبارةٍ أخرى، لم يكن الفقه سوى أرضية استخدمها المتصوفة لتعريف الناس بالعبادة الصحيحة، في هيئتها المظهرية، أما تركيزهم الأساس فقد كان منصبًا على التربية، والترشيد، وتعليم أصول الأخلاق. فالفقه يُبقي البدو على بداوتهم، أما التصوف فيهذب، ويعلم عبر ما يسميه المتصوفة "السلوك" قواعد الأخلاق.

بدخول الخديوية بدأ التضييق على التصوف، (راجع: أبو سليم، بحوث في تاريخ السودان، ص 33). والتضييق على التصوف ظاهرة وسمت كل التاريخ الإسلامي، كما سلفت الإشارة. فالتصوف كما يقول هادي العلوي مثّل، في عدد من منعطفات التاريخ الإسلامي، القوة الاجتماعية الناقدة لتجاوزات الحكام وفسادهم، والتذكير بما كان عليه النبي وكبار الأصحاب من الزهد والاستقامة. والفقه المدرسي، الذي يظنه الناس اليوم دينًا، ليس سوى مؤسسةً سلطانية، صنعها حكام فاسدين ومفسدين، فارقوا جوهر الرسالة، واستخدموا قوة الفتوى وفرمانات التكفير في مواجهة معارضات المتصوفة، وغيرهم من الفرق المعارضة. ومن هنا كانت ظاهرة قتل المتصوفة، وغيرهم، من هؤلاء المعارضين، سمة بارزة من سمات التاريخ الإسلامي. ومن ينظر إلى علماء الأزهر، وإلى فتاوى علماء السودان، طيلة فترة حكم الانقاذ الحالية، يمكنه أن يلاحظ انحياز هذه المؤسسة الثابت للسلطة. باختصارٍ شديد، لم يكن السودان جزءًا من المنظومة العربية المشرقية السنية، بصورتها المؤسسية السلطوية، إلا بعد وصول الخديويين. بدخول الخديوية تهمّش التصوف، وجرى إدخالنا، قسرًا، في السيرورة التاريخية العربية المشرقية، وسرديتها الممتدة منذ عصر الأمويين، إلى عصر العثمانيين. ويمثل هذا المدى الزمني، في جملته، الإطار الذي ضم حكم المستبدين، الذين جعلوا من الدين، في صيغته الفقهية المدرسية، ومن رجال الدين أداةً لترسيخ الاستبداد وحراسته.

كان ذلك، ما تضمنه كتابي مهارب المبدعين، الذي جرى نشره قبل ست سنوات. ولكن، ما بين صدور مهارب المبدعين، وما أثاره من جدل، استجدّ جديدٌ في تفكيري. فلقد واصلت البحث والقراءة، في كل الأمور المتعلقة بما طرحته في "مهارب المبدعين"، خاصةً الجوانب التاريخية. واتضح لي أن الانقلاب في الفكر والوجدان السوداني، ومن ثم في الهوية السودانية، جرى على مرحلتين. بدأت المرحلة الأولى، حين قضى الأعراب الرعاة الذين قدموا من الشمال، من مصر، في موجاتٍ متتابعة، عبر بضع قرون، على مملكة المقرة في القرن الرابع عشر، ثم على مملكة علوة في بداية القرن السادس عشر. في تلك المرحلة جرى هدم قيم الاستقرار التي رسختها الحضارة النوبية الكوشية الممتدة من كرمة ونبتة ومروي إلى فترة الممالك المسيحية، وهي قيم الانصياع لحكم القانون، واحترام ملكيات الغير، والقبول بمنظومة الدولة كجهاز منظم للعلاقات بين الناس. يقول ويليام آدمز، "خلافا للعرب الحقيقيين ما كان النوبيون أبدًا شعبًا بدويًّا، ومنذ الزمن الذي تقلدوا فيه حضارة الفراعنة، حتى مجي العرب، لم يكونوا شعبًا قبليا. كان مبدأ القرابة لديهم قد فتح الطريق زمنًا طويلا لمبدأ الإذعان للحكومات المركزية. بيد أنهم حين احتضنوا نظام العصبية العربي، من أجل هوية إسلامية، احتضنوا إلى جانب ذلك، بالضرورة، نظام العصبية القبلية"، (ويليام آدمز، النوبة رواق إفريقيا، ترجمة ، محدوب التجاني، (بدون اسم ناشر)، القاهرة، 2010، ص 497).

بسلب الأعراب مُلك النوبة جرى التحول في منظومة القيم؛ من الانسية النسبية المتوارثة من التراث الكوشي القديم، إلى التوحش، أو قل إلى "البربرية"، أو إلى حالة من حالاتها. وهو ما يمكن أن نصفه بنزعة عدم الانصياع للنظم، وإهمال العقد الاجتماعي، والتعاطي مع الدولة والسلطة كـموردٍ يمكن احتكاره، ومالٍ سائبٍ، يمكن وسرقته. فتحالف الفونج والعبدلاب، لم يكن، في حقيقة أمره، سوى تحالفٍ رعوي قح، تأسس لنهب ثروات سوبا، وانتزاع الملك من ملوكها، وهذا ثابتٌ تاريخيًا. ورغم أن الإسلام كان حاضرًا في ذلك الصراع، الذي انتهى بخراب سوبا، إلا أن حضوره كان حضورًا مساعدًا فقط، ولغرض الحشد، والتعبئة، وإثارة الكراهية، وليس حضورًا قيميًا جوهريًا. استخدم العبدلاب والفونج الإسلام لتجييش الرعاة المحيطين بوادي النيل، من أجل الهجوم على مملكة سوبا، خاصة بعد أن تكاثروا حولها وتفوقوا عليها، عددًا، وعدة، ومن ثم، الاستيلاء على ثرواتها الكبيرة التي كانت أعين هؤلاء الأعراب أصلا مصوبة عليها، منذ مدة ليست بالقصيرة.

يطرح هذا المبحث النقدي مقترحًا بضرورة إعادة النظر في السلطنة الزرقاء، وموضعتها، بناءً على حقيقة أمرها، في السيرورة التاريخية السودانية الكبرى، الممتدة منذ العصور الكوشية، لا على ما أفاء عليها به مخيال بعض المعاصرين منا. كما يقترح أيضًا، مراجعة الحقبة المهدوية، نقديا. فهؤلاء الذين جاءوا في القرن العشرين، ألصقوا الاسلام الصاقًا بذلك التحول السناري، من منطلقٍ استعاديٍّ، رغبوي، في محاولةٍ لخلق سردية متماسكة تصبح مرتكزاً لهويتنا. ولربما أمكن القول، إن الإسلام الذي استولى به العبدلاب والفونج على ملك سوبا، لا يختلف، جوهريًا، عن الاسلام الرعوي، الذي استولى به الوهابيون على سائر أرجاء الجزيرة العربية، (راجع: على الوردي، قصة الأشراف وابن سعود، الفرات للنشر، 2007، ص 221-225). كما لا يختلف عن الإسلام الذي حاول به أحمد بن إبراهيم الأعسر، الاستيلاء على الإمبراطورية الحبشية. كما لا يختلف عن الاسلام المهدوي الذي زعم لنفسه الكلمة الخاتمة، في شأن الإسلام، وأعطى نفسه حق حمل السيف، وشن الحرب على مصر وغيرها. اعتمدت كل هذه الحركات، التي انطلقت من البوادي الطرفية في الجزيرة العربية، والقرن الإفريقي، ووادي النيل الأوسط، على قوة عسكرية قوامها خليطٌ من تسطيحٍ تبسيطيٍّ للدين، وشراسةٍ بدوية فالتة، ونفوس وأيدٍ يشعل طاقاتها، إلى أقصى مدى، الحصول على المغانم، وتلهب مشاعرها دراما السلب والنهب، الممجدة أصلاً في أدبياتها.

لم يكن المتصوفة جزءًا أصيلاً من السلطة السنارية، ولم يكونوا مؤسسة تابعة لها، بالمعنى المؤسسي، وما أكثر ما دار بين المتصوفة وبين سلاطين الفونج، من مواجهات. (راجع: كتاب "الطبقات": سيرة الشيخ إدريس ود الأرباب اورفضه قبول هدية السلطان السناري له، من أرض المحس المغصوبة. وراجع سيرة الشيخ حمد ود الترابي الذي احتمت به قبائل شرق النيل الأزرق، حين هاجمهم القائد السناري، ود التُمام، مستهدفًا سلب قطعانهم). عاش المتصوفة في بقع صغيرة، أقرب ما تكون إلى دويلات، بالغة الصغر، متناثرة عبر مساحة السلطنة. وكان المجرمون يحتمون بهذه البقع من العقوبات، لأن سلاطين الفونج كانوا لا يلاحقون المجرم الذي يلوذ بشيخ من شيوخ التصوف.

كانت بقع التصوف جزرًا صغيرة متناثرة، يحيط بها بحرٌ بدويٌّ شاسعٌ، بالغ الشراسة. وقد نجح انتشار الخرافة، والإيمان بالقدرات الخارقة، التي أُشيع أن شيوخ التصوف يمتلكونها، في كبح غلواء الحكام. وهنا تكمن قوة الأسطورة، ويظهر أثرها الحسن في مجريات التاريخ. ومع ذلك، ظلت الأمور بين سلاطين الفونج وشيوخ التصوف، في شد وجذب، إلى أن أكلت سنار نفسها بنفسها، واجتاحتها الخديوية المصرية. وبدخول الخديويون إلى السودان، بدأت المرحلة الثانية من غياب الوعي بالذات السودانية، وأخذ خرق الابتعاد عن الجذر الكوشي يزداد اتساعًا، فتحول السودان من قطرٍ ذي جذور موغلة في الكوشية، تصل إلى أكثر من ألفي سنة قبل الميلاد، إلى قطر هامشيٍّ، مهملٍ في حواشي المشرق العربي.

يتحدث الأكاديميون عن ضرورة تفكيك التركة الاستعمارية، أو محو آثار الاستعمار decolonization، ولكن لم نر في السودان عملاً واحدًا تناول بعمق، وبادراك حقيقي، آثار الاستعمار الخديوي للسودان، الذي امتد من 1821 إلى 1885، وتأثيراته الضارة، التي طالت واقعنا حتى اليوم. ولا حتى عملا كبيرًا، شاملا، ناقش حقبة الاستعمار البريطاني. لقد ضرب الخديويون ضربة البداية في تمصير وعي السودانيين. أُنسي المصريون السودانيين تاريخهم الكوشي العتيد، فأخذوا، يصنعون لأنفسهم، في انقياد أعمى تاريخًا يعود إلى جزيرة العرب. وقد أوضح أحمد ألياس حسين "فبركة" المصريين لعروبة السودان، بما يكفي. خرج المصريون، لكنهم أبقوا مناهج تعليميهم وروايتهم للتاريخ، فبقينا رغم استقلالنا، مستعمرين مصريًا؛ دينيًا وثقافيًا، وسياسيا.

هذا الاستعمار الثقافي، الاستتباعي، هو ما ظل المصريون يعملون له منذ حكم الأسر في العالم القديم، وأخذ صورًا حداثيةً على يد محمد علي، واستمر كما هو في فترات عبدالناصر والسادات، ومبارك، وإلى اليوم. جرى استتباع النخب السودانية مصريًا، فانغلق الطريق أمام الجمهور السوداني ليعي ذات وتاريخه وثقافته. ولا غرابة إذن، أن أصبحنا منشغلين بقضايا العرب أكثر من انشغالنا بقضايانا. نهتم بآلام ومقاساة غزة، وسوريا، أكثر مما نهتم بآلام ومقاساة دارفور، أو جبال النوبة، أو حتى شرق السودان. فنحن نعيش حالة فصامٍ معيبة، لها جذور تاريخية لم تناقش بعد. ولكن كثيرين منا، لا يرون الفيل "البمبي" في الغرفة.

انطلقت هذه المحاولة البحثية النقدية من مراقبة الواقع السوداني الذي استعصى على التمدين، وقدمت في ذلك شواهد أولية. فالعقلية التي جعلتنا نفقد حتى التحديث القليل الذي انجزه البريطانيون، وننحدر لنصبح في ذيل دول العالم في كل شيء، هي ذات العقلية السنارية، التي لم تترك، رغم بقاءها في الحكم، لثلاثة قرون، ثقافة عينية أو معنوية، تذكر. فالثقافة العينية هي ما تتركه الحضارات المقتدرة، عادة، وتتمثل في الفنون الحرفية المختلفة، artifacts. لم تترك سنار عمرانًا يذكر، ولا فنونًا بصرية، ولا فنونًا حرفية، ولا زيًا، ولا طعامًا مميزًا، ولا فكرًا ولا أدبًا ذا قيمة. ولو قارنا ما انجزته سنار بما أنجزته نبتة، أو مروي، أو حتى سوبا، في كل ما تقدم ذكره، لاتضح لنا الفرق. ومن يرد أن يتيقن من هذا، فما عليه سوى زيارة متاحفنا، ومتاحف العالم، ليرى أين هي سنار، من نبتة، ومروي، وسوبا. لقد انتكسنا، دون أدنى ريب، من حالة حضارية، لها آثارها العينية، الماثلة إلى الآن، إلى حالة رعوية، تسبب فيها الاستعراب الذي فشا فينا، فسطا قبيل منا، أقل تحضرا، على قبيل من أكثر تحضرًا، باسم الاسلام، فخرَّب حضارته وسوى، ما استطاع تسويته منها، بالأرض. فواقعنا الماثل اليوم، هو امتداد لرعوية الحقبتين السنارية والمهدوية، فهو منبت الصلة بحضارتنا الكوشية الباذخة.

سؤالي المركزي في هذا المبحث، هو: كيف ولماذا انتكسنا حضاريًا، وكيف ولماذا عجزنا عن الإمساك بأسباب الحداثة، مثل بقية الأمم؟ والتساؤل حول إمساك البداوة ببنية العقل العربي، والحؤول بينه وبين الامساك بجوهر الحداثة، ليس جديدًا. فالسؤال الشهير: "لماذا تقدموا، وتخلفنا؟"، سؤالٌ قديمٌ ظل يُطرح منذ بدايات ما سُمي بـ "النهضة العربية". يقول عالم الاجتماع، على الوردي، إن المجتمع العربي هو أكبر مَعينٍ للبداوة في العالم، وإن التناقض بين الحضارة والبداوة كبير؛ فإما أن نكون متحضرين، أو نعود إلى الصحراء. فلا انتقاء، ولا توافق، ولا انسجام بين قيم الحضارة والبداوة. فسمات البداوة هي القبيلة – الغزو – التَّفضُّل، (الذي يشمل الكرم والسخاء والنخوة وغيرها). أما الحضارة فهي على العكس من ذلك تمامًا، فهي الدولة، والعمل اليدوي، وعدم الاعتماد على قيم التفضُّل. فعلى الرغم من تزايد المدن وعدد سكانها، ظلت قيم البداوة تعيش في دواخلنا، إلى حدٍّ كبير. (من مقدمة ماجد شبر لترجمة كتاب المستشرق الألماني أوبنهايم، البدو، دار الوراق للنشر، لندن، 2007، ص 11).

إن مشكلتنا في السودان، كما في غيره من الدول المشابهة لنا، مشكلة "سياسات" policies، وليست مشكلة "سياسة" politics. نحن نعتقد أن السياسة سوف تحل مشاكلنا، فننخرط بكثرة في الناشطية السياسية، ونهمل التفكير، ونغرق في النزاع غير المنتج. وقد ظللنا نمارس هذه الناشطية السياسية منذ الاستقلال. لكن، لم يمر علينا، على الاطلاق، يومٌ كان أفضل من سابقه، منذ الاستقلال. ورغم هذه الحقيقية الصادمة، لا نتوقف لنفكر، أو لنعيد النظر في تاريخنا المكتوب، أو لننظر لحالتنا من حيث قلة الكسب، وقلة القدرة على الحفاظ على ما تحقق في مضمار الاستقرار، والبناء، والتقدم، والتمدن، والصقل، والتهذيب. فحالتنا من حيث التراجع المضطرد، حالة نادرة، بل وربما منعدمة الشبيه، ولابد أن وراءها علة. وهذا الطرح يمثل في مرحلته هذه مجرد عصفٍ ذهنيٍّ لتلمس جذر الأزمة.

لكي نخطط لتعليمٍ جديد، مفيد، وحافز للتطور، لابد أن ننظر في تاريخنا على خلاف ما درسونا. فالنتائج الكارثية لما جرى تدريسه لنا، تتحدث عن نفسها. نحن بحاجة لمعرفة أصل العلل الاجتماعية، والنفسية، المُقعدة، التي نود معالجتها. هذه المعرفة هي التي تحدد كيف نرسم مناهجنا الدراسية، وكيف نصوغ رسالتنا الإعلامية، وكيف نوظف خطابنا الديني، وغير ذلك من وسائط التثقيف والتهذيب. فالأمم لا تهبط في صورة موائد تنزل من السماء، وإنما تُبنى لبنةً، لبنة، بالفكر الحر، وبرسم السياسات الصحيحة، وإتباعها بالتطبيق الحرفي اليقظ، وحراستها من ارتدادات الرعوية. والشعوب تتعلم، حين تجد أمامها قادةً معلِّمين ملهمين؛ مثال: غاندي، ونهرو، ومانديلا، ومهاتير، وغيرهم. نحن بحاجة إلى انقلاب فكري، تتبعه ثورة ثقافية، ولسنا بحاجة لتجريب المجرّب، مرة أخرى. بهذا أنهي هذا الطرح الابتدائي، وإلى اللقاء مع الطرح المكتمل في الكتاب الموسع الذي سأنشره تحت العنوان الأصلي، الذي بدأت به هذه المقالات، مع إضافة صغيرة، ولسوف يكون: "التغيير وقيد العقل الرعوي: حالة السودان".
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

الشيخ (محمد بن على زين العابدين التونسى)

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »



سلامات يا النور


تابعت مقالاتك الرائعة بكل إهتمام .. وكلى شوق أن أقرأها، بعد قيامك بتوسيع هذا المبحث، بين دفتى كتاب لابد أنه سيحتل موقعاً فى المكتبة السودانية وسيكون مرجعاً للمهتمين.

لاحظت فى حديثك عن سنار، أنك لم تستند على مرجع هام لشاهد عيان هو الشيخ (محمد بن على زين العابدين التونسى)، وقد ترجم رحلته إلى السودان وزيارته لسنار من اللغة الفرنسية – لأن النسخة العربية الأصلية لكتابه ضاعت – الأستاذ عبد الله معاوية. هذه المعلومات إستقيتها من مجلة "كتابات سودانية" العدد الخامس، والموضوع بقلم عوض صالح العوض بعنوان: "رحلة للسودان للشيخ زين العابدين"، صفحة 171.

إن شهادة زين العابدين التونسى فى حق سنار ومملكة تقلى، وشهادته عن الإنقلاب الذى أحدثته الثقافة العربسلامية فى ذهنية السودانيين تجاه موروثهم الكوشى، هى شهادة فى غاية الأهمية، لأنها أتت من شاهد عيان زار السودان عن طريق الصدفة، ومكث 9 أشهر فى سنار قبل أن يغادرها إلى كردفان، وذلك إبَّان سلطة الفونج.

قد أتمكن من نقل المقاطع ذات الصلة من موضوع مجلة "كتابات سودانية".

ولك عامر التحايا

صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


شكرا جزيلا يا باسر
سوف أنتظر ما تمدني به بشوق عظيم
من جانبي سوف أسعى للحصول على الكتاب
مع التقدير والمودة
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

حوار صحيفة التيار

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


نشر هذا الحوار الذي أجرته معي صحيفة التيار اليوم الإثنين الثاني من يناير

حوارات المصير
الباحث والكاتب د. النور حمد لـ "التيار":

الشعب الآن بين خياريْن باهتيْن
مجنون من يظن أن الإنقاذ لن تنهار.. ونحتاج لمعجزة لتجنب السيناريو الليبي
النظام اكتفى بالهتيفة، والمُطبلين، وسائر من اشترى ولاءهم بالمال، وتلك غفلة كبيرة
المُعارضة بكل أطيافها ليست لها رؤية، وتقتات على شعارات باهتة

وإذ يلخص د. النور حمد تفاصيل المَشهد الراهن بالسودان بمَقاييس مُوغلة في السوداوية والقتامة، على العكس تماماً من الحلقتين السّابقتين لحوارات المصير وأوشك الرجل أن يضع السلطة والمُعارضة معاً مُتساويتين في "قارب الفشل"، ويرى أنّ التغيير المطلوب لابد أن يناقش جدياً وبشجاعة إنهاء سيطرة "الوسط النيلي".. حمد الذي أنفق سنوات طوال في رحاب الفكر الجمهوري قبل أن يهاجر الى المنافي البعيدة بعد الرحيل المُفاجئ لـ "الأستاذ"، لا يعول كثيراً على (مراجعات) قادة بارزين في الحركة الإسلامية، لكنه يذهب إلى أن لا حل سوى "إجراء مساومة تاريخية كبيرة".

أجرته: شمائل النور

إذا طلبنا منك رسم (خارطة طريق) للخروج من الأزمة، فكيف تكون؟

لا أعتقد أن في وسع أي سوداني، أو غير سوداني، أن يرسم خارطة طريق واضحة المعالم، تتّسم بالعملية، للخروج من عنق الزجاجة الذي احتشدت وتكدست، فيه كل أمورنا، حتى تعطّل حراكها.

لماذا؟

الوضع الماثل الآن، وضعٌ بالغ التعقيد. وقد كان هذا الوضع نتاجاً لتراكماتٍ كثيرة مُتتابعة، تعود إلى مرحلة ما قبل الاستقلال، بل إلى أبعد من ذلك بكثير. غير أن الناس لا يميلون لأن يسمعوا، في مثل هذه الأوقات الضاغطة، فذلكةً تاريخيةً لأصل المشكلة، أو تحليلاً مطولاً، بقدر ما يحبون أن يسمعوا عن إيجاد مخرج عاجل، وهذا طبيعي. فحين تضغط أمور الحياة اليومية على جيوب وقلوب وأرواح وأجساد المُواطنين، وحين ينسد الأفق تماماً، يَصبح تدبير المَعيشة اليومية هَمّاً ضاغطاً، والدواء مُتعذِّراً، تنحصر العقول في مَجرد التفكير في أقرب مَخرج.

كأنّك لا ترى مَخرجاً؟

إيجاد مَخرج من عُنق الزجاجة الذي طال مكوثنا فيه، أضحى أعسر من أيِّ وقت مضى. فهذه ليست أيام أكتوبر 1964، وليست أيام أبريل 1985، أيضاً. لقد تغيّرت البنيات التي كانت قائمة آنذاك، فقد استتبعت السلطات العمل النقابي، ووضعته تحت جناحها، كما دجنت النقابات والاتحادات المهنية، بما في ذلك الاتحادات الطلابية، حتى لم يعد للشعب كيان مُنظّم مُرتبطٌ بجهاز الدولة، بحيث يكون له تأثير في بلورة الحراك الجماهيري، وتحويله إلى قوة منظمة ضاغطة تجعل الحكومة تستجيب لتحقيق المطالب، أو تجعله قادراً على إشعال الثورات التي تحقق بغيتها في إسقاط النظام القائم. وبالطبع بقيت بعض النقابات عاملة، وقامت ببعض المنافحات المؤثرة، لكن قوة العمل الجماهيري تكمن في اتساعه وشموله وتضامنه، وتماسكه، وهذا ليس موجوداً الآن.

كثيرون يرون أنّ من المُمكن تكرار سيناريو أكتوبر أو أبريل، فقط لم تحن ساعة الصفر؟

لا أعتقد أنّ ذلك ممكناً، أو سهلاً، على الأقل. لقد بقي النظام الحالي في السلطة لأكثر من ربع قرنٍ من الزمان، تمكّن عبرها من تفكيك البنى المُجتمعية، وضرب الأحزاب السياسية، وتشقيقها، وإفقارها، وإرهاق قياداتها بالمُلاحقات الأمنية. كما دفع بكثيرٍ من القوى الحية الفاعلة إلى خارج الحدود. نجح النظام فعلياً، في خلق واقع جديدٍ سِمَتِهِ الرئيسة تشظي وضعف القوة الفاعلة في الساحة السياسية السودانية، فأضحت لا تشكل قوة ضغطٍ حقيقيةٍ عليه. كما تفنن النظام في ضرب القوى السياسية المعارضة ببعضها؛ فقسّم الأحزاب، وقسّم الحركات المسلحة. ويشهد على ذلك، ما يزيد عن ربع قرن. يُضاف إلى ما تقدم، أن مؤسسات كالجيش والشرطة والأمن، جرى إلحاقهما ببنية النظام، عبر غسيل الأدمغة بأيديولوجيا الإسلام السياسي، وشعاراتها الحماسية الجوفاء. وكذلك، عبر ربط الترقي في المناصب، بمنظومة المصالح المالية، التي أضحت المادة اللاصقة لكل القوى الداعمة للنظام. وهكذا فَقَدَ الشعب سند هذه المؤسسات التي سبق أن لعبت دوراً حاسماً في إنجاح كلٍّ من ثورتي أكتوبر وأبريل.
بشكل عام، لماذا تأخّر إنجاز تغيير في ظل نظام الإنقاذ؟

تأخّر التغيير لأنّ القوى التي تعمل له غير مُتّسقة، ولم تصل بعد إلى درجة الوعي التي تسمح لها بالتنازل لبعضها، والكَف عن الكَيد لبعضها، من أجل خدمة الهدف المركزي، كما أنّها لم تتعلّم العمل الجماعي بعد. وبطبيعة الحال هناك عوامل دولية وإقليمية ظلت في جانب بقاء نظام الإنقاذ. فهو نظام خدم بطريقة مُباشرة، وغير مباشرة، استراتيجيات إقليمية ودولية. من المشاكل القائمة التي لا تبشر بإمكان خلق قوة تغيير حاسمة، أن بعض الإسلاميين الذين خرجوا على الإنقاذ، أو أخرجوا منها، لم يتوبوا توبة نصوحاً بعد.

لكن الآن، هناك بعض الإسلاميين رفعوا أصواتهم بالمراجعات الجريئة؟

هم لا يزالون مُرتبطين عاطفياً بالتجربة، رغم فداحتها، وآثارها المدمرة. هؤلاء لا يزالون يظنون أنّها تجربة قابلة للتعديل. ولا يزالون يَظنون أنّ بوسعهم لقاء الإنقاذ في منتصف الطريق، وبوسعهم إنقاذ التجربة من أن تَذهب في التّاريخ بوصفها لعنة. ويكثر هؤلاء وسط جماعة الشعبي. هذه مُشكلة عويصة، تمنع تشبيك جسور التعاون بين القوى الساعية للتغيير. توبة الإسلاميين مما اقترفت أيديهم، شرط رئيس لكي يصبحوا جزءاً من مستقبل السودان. ودون هؤلاء تجربة الإسلاميين المصريين الذين سعوا لحتفهم بظلفهم. ودونهم، أيضاً، عودة الوعي التي جَسّدَها راشد الغنوشي وحزبه.

لهذه الدرجة ترى أنّ الواقع تَغَيّر؟

لمعرفة مَدَى تغيُّر الواقع السًّوداني عمّا كان عليه في الستينات والثمانينات، لا نحتاج سوى أن نقارن: كيف كان موت طالب أو طالبيْن في أكتوبر كافياً جداً لكي ينحاز الجيش إلى جانب الشعب الغاضب، ويُجبر النظام القائم على التنحي، في حين لم يعد موت 200 في المظاهرات، أو موت مئات الآلاف في دارفور وجنوب كردفان، والنيل الأزرق، يحدث أثراً يُذكر.

هل يعني هذا أنّه لا توجد وحدة كافية لإحداث التغيير؟

نعم، أعتقد ذلك. ولا أقول هنا، إن الثورة غير مُمكنة، ولكنني أقول إن الثورة الشاملة، المنظمة، مأمونة العواقب، أضحت في غاية الصعوبة. فقد تبدّل الشعور القومي العام الذي كان من قبل مُوحَّداً إلى حد كبير، فأنجز أكتوبر وأبريل. تضعضع الشعور القومي المُوحَّد بسبب ضرب النظام للقوى المجتمعية وبنياتها التي كان يُعرف منذ البداية، أنها سوف تُشكِّل خطراً عليه.

إلى أيِّ سَبَبٍ تُعزي ما سميته (تضعضع) الشعور القومي؟

تضعضع الشعور القومي الموحَّد بسبب نشاط القوى الجهوية المُهمَّشة، الحاملة للسلاح. فالهامش، أصبحت له قضاياه التي تعنيه بصورة مُباشرة. وأصبح من الناحية الواقعية في مواجهة الحكومة، وفي نفس الوقت أصبح بقدرٍ ما في مواجهة معارضيها من عموم أهل المركز في الوسط والشمال النيلي. هذا الوضع الذي ازدوجت فيه معارضة قوى الهامش، فأصبحت ضد الحكومة من جهة، وضد بنية الوسط النيلي المسيطر برمتها من الجهة الأخرى، هو ما أدى قبل سنوات عبر مسارٍ مرهقٍ ومعقد إلى انفصال الجنوب. ولا تزال هذه الحالة قائمة، ويمكن أن تؤدي إلى انفصال أجزاء جديدة من البلاد.

إذاً ما المخرج؟

المخرج أن تستمر المعارضة من جانب الجميع، لكن بعد أن تعيد قوى المُعارضة مُراجعة أمور عديدة بها تكتسب الفاعلية والمصداقية. فقوى المعارضة، المدني منها والمسلح لم تعد لها مصداقية. ولم تعد أغلبية الشعب توليها ثقةً تذكر أو تأخذها على محمل الجد. وبنظرةٍ كليةٍ غير منحازةٍ لمجمل مسارات الأمور، يمكن للمرء أن يقول إن ما حدث للمعارضة من ضعضعة يمكن أن يكون أمراً مفيداً، إن هو أحدث لها ذكراً. فالمعارضة بكل أطيافها ليست لها رؤية وتقتات على شعاراتٍ باهتة، منتهى غايتها إعادة تدوير الماضي الباهت. وهي أيضاً فاقدة للخيال الخلاق وللمهارات وتُحرِّكها النوستالجيا والحماس. والسيئ في الأمر أن النظام الذي يعرف ضعف المعارضة وقلة فعاليتها راهن كلياً على ذلك، وأصبح لا يقدم أي تنازلات، ولا يقوم بأي مراجعات. ساوى النظام بين تنظيمات المعارضة وبين قوى الشعب، في حين أن المعارضة لا تمثل كل الشعب. فموقف قطاع كبير من الشعب منها، سلبي، ولا يختلف، في مقدار سلبيته من موقفه من النظام. ولربما استثنى من قوى المعارضة حزب المؤتمر السوداني، الذي أظهر جدية ومصداقية.

لكن ضعف المعارضة لا يلغي حاجة النظام نفسه للتغيير؟

طبعاً، النظام اكتفى بجوقة الهتيفة والمطبلين وسائر من اشترى ولاءهم بالمال وبالوجاهة، واستغنى بهم عن شعبه وتلك غفلة كبيرة. فالشعب الآن بين خياريْن باهتيْن تمثلهما الحكومة والمعارضة معاً، وليس له في أيهما بارقة أملٍ لمستقبلٍ زاهر. ويبدو الآن أنّ الشعب، ممثلاً في فئة الشباب أصبح يتحرّك بعيداً عن هاتيْن الكتلتيْن. فالدعوة للعصيان التي جرت مُؤخّراً نبعت من قلب الشارع، وليس للمعارضة فيها يدٌ. بل إنّ محاولة ركوب قوى المعارضة موجتها، ومُحاولة اختطاف عجلة قيادتها من أيدي صانعيها وظُهُور قياداتها في الفضائيات الدولية، ربما يكون هو الذي جعل الاعتصام أقل قُوةً في المرة الثانية.

هل نفهم من هذا أنه لا فاعلية للأحزاب مُستقبلاً، مقابل القوى الشبابية النشطة؟

بطبيعة الحال لا يُمكن أن تقوم ديمقراطية بلا أحزاب. لكن أيضاً لا تقوم الديمقراطية، ولا تثبت إلاّ بأحزاب حقيقية وهذه غير موجودة. ينبغي أن تكون الأحزاب نفسها ديمقراطية داخل أجهزتها. فأحزابنا إما كيانات طائفية، أو عشائرية، أو شللية، تتسم ببطريركية معوقة للتطور. فهي أحزاب هرمت وفاتها قطار الزمن ولا يختلف في ذلك يمينها عن يسارها. لذلك، إذا لم تستطع هذه الأحزاب تجديد نفسها وإتاحة الفرص للشباب وللفكر الجديد والوجدان الجديد والخُلقية الجديدة، فإن إسهامها المُستقبلي إن حدث سيكون إسهاماً سلبياً مثل ماضيها. وسَيضيف رُكَامَاً جَديداً لركام خيباتنا التاريخية المدوية.

كيف تنظر لشباب الأحزاب الذين باتوا يُوظِّفون طاقاتهم خارج الأُطر الحزبية؟

كَانَ طَبيعياً جداً أن تفرز مُمارستنا السياسية الحزبية الخاطئة، التي ظلت سائدة منذ فجر الاستقلال، هذا التوجه بين الشباب الذين أصبحوا يقولون، إن الأحزاب لا تمثلهم. فقياداتنا الحزبية لم تتغيّر لا في الشخوص ولا في المفاهيم. ولا أعتقد أنها سوف تتغيّر بسهولة، فقد يبست على هذه الحالة وفات عليها الفوات أو كاد. ومع ذلك، لا نملك إلا أن نأمل في بروز قيادات شبابية تستطيع أن تعيد تشكيل هذه الأحزاب على نسق جديد يتسم بالديمقراطية. وواضح الآن أن للشباب المنظم داخل بنية الأحزاب وغير المنظم داخل بنية الأحزاب، معركة مزدوجة ضد النظام القائم وضد القوى والعقول القديمة وممارساتها القديمة، التي تتطلع لكي تخلف النظام القائم. وعموماً فإن مخاض إخراج أمة ناهضة من هذه الحالة السودانية المتردية والمعقدة في ذات الوقت، سيكون مَخاضاً طَويلاً. فليست هناك طلقة فضية نطلقها مرةً واحدةً، لتقضي على هذه الفوضى العارمة. ويهمني جداً أن أنبه في هذا الإطار، أن على شبابنا الرافضين للأحزاب أن يعتبروا بتجربة الشباب المصري الذي نظم ثورة سلمية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً. لكن عندما وصلت الأمور إلى صندوق الانتخابات فاز الإخوان المسلمون. ثار الشباب مرة ثانية حين شعر أن ثورته سُرقت منه. لكن بؤس الواقع المصري وضيق الخيارات فيه، جاءت لهم بديكتاتور جديدٍ، وضح بعد وقت وجيز أنه أقل كفاءة من سابقه.

نسمع كثيراً أنّ سيناريوهات الانتفاضات قد تُكلف الكثير، خَاصّةً مع نظام استمر أكثر من ربع قرن، في رأيك، أي من وسائل التّغيير تَراها تُناسب حَالتنا؟

أعتقد لا يُمكن أن نستغنى بوسيلة دون أخرى. جاء في القرآن الكريم: (وقال يا بني، لا تدخلوا من بابِ واحدٍ وادخلوا من أبواب متفرقة). فالضغط يجب أن يأتي من مختلف الجهات. هناك ضغوط يجلبها النظام لنفسه بسبب سياساته الخاطئة. هذا النوع من الضغوط سوف يزداد في الفترة القادمة. فالنظام فَقَدَ كل أوراق اللعب. أيضاً هناك الضغوط الدولية والإقليمية، وهذه تزداد كلما تحرّك الشعب في الضغط على النظام.

أيضاً فتح التحول من نهج التظاهرات في الشوارع، إلى نهج الاعتصام في المنازل، نافذة جديدة. فالتأثير النفسي لمُحاولات الاعتصام هذه، على بنية النظام، وعلى مُؤيِّديه سيكون كبيراً جداً، لأنه سيقضي على الوهم أن لهم قاعدة شعبية داعمة. كما أنّه ذو تأثير كبير جداً على الإعلام الدولي، ما سيجعل الحكومات الغربية والمُنظّمات الدولية والقوى الإقليمية، ذات الصلة بالمشكل السوداني مُنتبهةً لضعف جماهيرية النظام، ومن ثم تجنب مغبة المواصلة في دعمه. ومن المحتمل أن تدفع الضُّغوط المُختلفة، النظام للدخول في مساومة حقيقية، تُمهِّد لانتقال تدريجي سلمي للسلطة ولتغيير المسار.

تكمن المشكلة الكبرى في مدى قدرة الثوار على تثبيت أحوال البلاد عقب انحلال قبضة النظام. فمن يظن أن هذا النظام لن يسقط، إما مجنون وإما أنه لم يقرأ سطراً من التاريخ. ومن الأفضل لنظام أن يدخل في مساومة تجنب البلاد الكوارث. فإن هو لم يسقط بالحسنى فسوف يسقط بغيرها. ما بدأ الآن، له ما بعده، طال الزمن أم قصر. ولذلك، فإن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح في إطار وضعٍ سليم للأولويات لا يتعلق بكيفية إسقاط النظام بقدر ما يتعلق بكيفية تثبيت البلاد من الانزلاق في الفوضى، وفي دوائر من العنف المتسلسل.

هل بالإمكان تجاوز هذه التحديات؟

لا ينبغي أن نقلل من تحديات المرحلة المُقبلة لأنها تحديات مهولة. نحتاج لمعجزة لتجنب السيناريو الليبي. فالبلاد مليئة بالجماعات المسلحة، وهي بلاد شديدة الاتساع، ضعيفة الاقتصاد ومحاطة بدول غير مستقرة، بل بعض هذه الدول المحيطة ملتهب جداً. وضع السلاح عقب سقوط النظام يمثل تحدياً كبيراً جداً. هذا التحدي ليس مرتبطًا، حصراً بسقوط النظام عبر ثورة شعبية. فحتى لو قبل النظام الدخول في مساومة، ورسم فترة انتقالية، لاستعادة الديمقراطية، وحكم القانون، فإنّ إلقاء السلاح من جميع الفصائل المسلحة، سيبقى تحدياً خطيراً ماثلاً.

تحدثت عن السيناريو الليبي، وكأنّه واقعٌ لابد منه؟

سمعت من يقول، إنّ البلاد تعاني حالياً مما هو أسوأ من السيناريو الليبي، فلا تخيفوننا به، ودعونا نجرِّب السيناريو الليبي، كخطوة أولى للخُرُوج من هذه الحالة غير المُنتجة، التي سجنتنا فيها الإنقاذ لربع قرن من الزمان. فالضحايا يسقطون الآن، كل يوم، والنظام باقٍ ولا بارقة أمل تلوح في الأفق، تبشر بالخروج من مُستنقع الموت هذا. فلماذا نتحسّب لسقوط الضحايا وللخراب، بعد ذهاب النظام، وهاهم الضحايا يَسقطون الآن أمام أعيننا كل يوم، والخراب يجري عَلى قَدمٍ وَسَاقٍ؟ هذا القول لا يخلو من منطق، رغم قتامته. فقد حدث مثل هذا السيناريو الجهنمي في منعطفات عديدة في التاريخ. ويحدث شبيه له الآن في كل من سوريا والعراق، على اختلاف الكيفية. وهو ذات سيناريو "الفوضى الخلاّقة"، الذي رسمت معالمه إدارة بوش الابن وروّجت له كوندوليزا رايس.

إذاً ما العمل لتجنب مثل هذا السناريو؟

الوضع الأمثل في نظري، أن تمارس القوى المعارضة نقداً ذاتياً جدياً، غير أنّ هذا التطلع يبقى بالقياس لسوء الحال القائم، مجرد أمنية، بل لربما يكون مجرد أمنيةً حَالمةً. فقوى المعارضة لم تُعوِّدنا المُراجعات الجدية. يحتاج الجميع، خَاصّةً أهل الأحزاب أن يمسكوا بلجام أنفسهم أمام بوارق التغيير. تحتاج الأحزاب أن تعمل بجدٍ على تفكيك بناها القائمة، غير المنتجة وإعادة تركيبها من جديد.

ماذا تقصد بإعادة تركيبها؟

أعني إعادة تخليق ذاتها في صورة جديدة، تسمح بتغيير القيادات التّاريخية، وجعل الطريق إلى القيادة مفتوحاً أمام الشباب، وأمَام العُقول الأجد، والوجدانات الأجد، والبنيات الأخلاقية الأجد. فظاهرة "الكَنكشة" في السُّلطة وفي الزعامة ليست حصراً على الإنقاذيين، وإنّما تنطبق على جميع قيادات القوى السياسية بلا استثناء. الجميع يظنون أن الزعامة حقٌّ ثابتٌ لهم وُلد معهم يوم ولدوا ويموت معهم يوم يموتون. و"الكنكشة" تعني انعداماً كلياً للحس الديمقراطي، وتعني، من ثم، عدم الاستعداد للتخلي عن عجلة القيادة. وهذا داءٌ عامٌ ظَلّ يطحننا منذ مؤتمر الخريجين.

هل يُمكن جر جُزءٍ مِمّن كانوا في النّظام، أو لا يزالون فيه، ليصبحوا ضمن جُهود الخُروج من الأزمة؟

لا ينبغي أبداً أن نستبعد خيار المُساومة، رغم أن النظام لا يزال يتحدث بنفس الرعونة القديمة. لا يوجد، في تقديري، مخرج آمن من هذا الوَضع الشّائك، سوى إجراء مساومة تاريخية كبيرة، وشاملة. لكن لابد أن تتوفر لمثل هذه المساومة عوامل جوهرية. منها أن ينبثق من داخل النظام صوتٌ للعقل. وبنفس القدر أن ينبثق وسط قوى المعارضة الحزبية والمُعارضة الجماهيرية غير الحَزبية، صوت للعقل أيضاً. وينبغي أن تبدأ هذه المساومة بتشبيك القوى ولَم شَعث القافزين من سفينة الإنقاذ وما أكثرهم، إلى التَّيَّار العام. ولابد من القول هنا، إنّ الحوار الوطني الذي طرحته الحكومة، كان مجرد مُناورة سَاذجة لمزيدٍ من الشرعنة للاستبداد، ولا غرابة أن وُلد ميتاً، ولم يستقطب سوى أهل الإنقاذ، ودائرة أصدقائهم المُنتفعين بهم، وغيرهم ممّن لا يُعارضون أيِّ نظام مهما كان.

ما هي مطلوبات (المساومة) التي تتحدّث عنها، في نظرك؟

أولاً: تقتضي هذه المساومة التاريخية أن تُعلن القوى التي تحمل السلاح في مُواجهة نظام الإنقاذ، أنّها سوف تتخلى عن سلاحها حَالَ تَغَيّر النظام. فهناك جمهورٌ عريضٌ لا يحب النظام القائم، ويتمنى زواله اليوم قبل الغد، لكنه في المقابل، لا يثق في القوى الحاملة للسلاح. ومن الغفلة أن نظن أنّ حوادث التاريخ وما جَرّته من كَراهيات عِرقية وتوجسات، ومَخاوف، لم يعد لها تأثيرٌ، فهي مُؤثِّرة بأكثر مما نتصوّر. ولقد لعبت الحكومة على بطاقة تعميق خوف أهل الوسط من أهل الهامش، بكفاءة كبيرة.

ثانياً: تقتضي المُساومة تصور لدولة فيدرالية حقيقية، يجد فيها أهل الهامش أنّهم أسياد مصير أقاليمهم. لابد أن يُخرج المركز نفسه من هذه الدّوامة الشريرة التي أدخل فيها نفسه منذ الاستقلال، وهي دوامة الهيمنة على الجميع وهضم حُقُوق الجميع. إذا صفت العقول وطابت النفوس، واتسعت آفاق الحلم، يَصبح حل مَعضلة السُّودان المُزمنة أيسر ممّا نتصوّر بكثير. نحن الآن في مُنعطف يقتضي أن يتفوّق كل منا على نفسه، فيصبح قادراً على الاتفاق مع الآخرين، على الحدود الدنيا الضرورية، التي تجعل الحراك نحو المُستقبل مُمكناً. وهذا يقتضي استعداداً للتنازل ولتقديم بعض التضحيات.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »



جاء فى الموضوع أعلاه عن رحلة زين العابدين التونسى للسودان:


صورة



ويعجب المرء لبلدة ليس فيها ما يُلفت نظر رحالة، بل تستدعى إشمئزازه، أن يجعل منها البعض نقطة تحول السودان نحو الحضارة ومنشأ ورمزاً للثقافة والهوية السودانية !!؟

أما حديثه عن كردفان ودارفور وودّاى فجاء مختلفاً، ربما لأن نسخة الإسلام التى تمثّلوها جاءتهم من عُربان الأندلس بعد سقوطها:



صورة



وأورد زين العابدين معلومات هامة فى التالى:




صورة


لاحظ وجود آثار حضارة وادى النيل فى غرب السودان حتى نواحى دارفور وودّاى، ينفى كذبة حدود هذه الحضارة حول الشريط النيلى فقط. وقد علمت من أحد أقارب نجم الدين شريف، مدير متحف السودان الأسبق، بأن الأخير قال له أن مواقع التنقيب الآثارى المُقترحة تصل حتى دارفور، ورغم أنه حزين لأن الإمكانيات تحول دون القيام بهذا التنقيب، إلاّ أنه مطمئن لنجاة هذه الآثار من السرقة لأنها مدفونة تحت الرمال. إن هجين الشريط النيلى الشمالى يبخل على الهامش حتى مجرّد المشاركة فى هذا التاريخ القديم فجعلوا حدوده فى خرائط مناهج التاريخ لا تتعدّى ضفتى شريط النيل !!؟

أما سلوك الأهالى السودانيين، الذى جاء نهاية الفقرة عاليه، الرّافض والعنيف تجاه آثار حضارة وادى النيل القديم، وتعليق الملك عند رؤيته لهذه الآثار: "بالتأكيد كانتا صنعتا على أيدى جن لسيدنا سليمان بن داؤود عليه السلام" !! .. وهو ما ورد فى الفقرة التالية، فتوضح مدى الإنقلاب الذى حدث لذهنية السودانيين بعد تمثلهم لهذه الثقافة:



صورة

آخر تعديل بواسطة ياسر عبيدي في الأربعاء يناير 18, 2017 9:08 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »



معذرة يا النور .. لطول الإقتباس فضّلت عمل إسكاننج لصفحات المجلة، ولحين معالجة مشكلة الصور فى الموقع سأحاول فى أقرب وقت نقل النقاط المعنية فى موضوع المجلة.

ياسر عبيدي
مشاركات: 1157
اشترك في: الخميس مارس 27, 2008 1:51 pm

مشاركة بواسطة ياسر عبيدي »



ورد فى المقال عن سنار:

- {سنار وصلها المؤلف عن طريق مصر وأقام بها تسعة أشهر إلاّ أنه لم يورد عنها تفاصيل كثيرة وإكتفى بوصفها بعدم التحضّر فى ذلك الوقت: (تلك الأرض التى ليست بها ملذات ولا حضارة منظمة، والتى ليست بها تلك الحُلة من المبانى التى تعطى بلدان أخرى صفة العروس الشابة).

- {عثر المؤلف على آثار مدينة بأحد الأودية وعدم إدراك الأهالى لذلك، ومن بين هذه الآثار قبر على شكل تابوت مغطى بغطاء مماثل لأغطية القبور المصرية المنحوتة من الرخام يحتوى على سبيكتين من الذهب وصفيحة من النحاس كتب عليها بعض السطور لم يستطع المؤلف قراءتها. من بين الآثار كذلك عمود حجرى طوله خمسة أذرع صنع بفن وحذق لا يوجد له مثيل إلاّ فى مصر، وصنم ذا وجه آدمى مصنوع من الحجارة وأربع قطع نقود ذهبية نقش وسطها وثن الشمس (صورة الشمس)، كذلك ساريتين وباب من الحجر وقطع ذهبية عديدة على شكل سبائك مدورة ضربت على صورة إله الشمس، وكان الأهالى يحاولون إتلاف صورة الشمس متى ما وجدوها.}

- {تعجب الملك من جمال الساريتين حتى قال مندهشاً: "بالتأكيد كانتا صنعتا على أيدى جن لسيدنا سليمان بن داؤود عليه السلام".}




أضف رد جديد