كيف تبدو جارتنا من خلف الزجاج؟

Forum Démocratique
- Democratic Forum
íæÓÝ ÍãÏ
مشاركات: 71
اشترك في: الاثنين مايو 18, 2015 4:29 pm

كيف تبدو جارتنا من خلف الزجاج؟

مشاركة بواسطة íæÓÝ ÍãÏ »

كيف تبدو جارتنا من خلف الزجاج؟

قالت البنت السودانية الساخرة: "والله الأمور اتصلحت اتصلحت، لو ما اتصلحت بمشي أديس أببا واشتغل سودانية هناك"!!
**

كان أوّل اتصال لي بكلمة (الحبشة) يوم أن سمعتُ اسم بائع رغيف الخبز في قريتنا. كان اسمه "الحبشي". هكذا، بلا زيادة أو نقصان، وكان حبشيٍّا حتى النخاع.

كان الحبشي في نحو الخمسين من عمره، يجوب شوارع القرية بحمار أشبه بحُمر اللبن المستنفرة في العاصمة هذه الأيام. ولأنه كان كمن ابتلع لسانه، لم يكن ينادي على بضاعته بالكلمات، على غرار الباعة الجائلين، إنما يضرب بمنسأةٍ رفيعة على الصناديق المحمّلة بالرغيف: "طقطقطق" فيعرف الجميع أن الحبشي جاء بعهده!

اختفى الحبشي من قريتنا في ظروف مازلتُ أجهلها، أو ربما لأن أحوال القرية تغيّرت بوتيرة سريعة، ولم تعد تناسبه؛ لكن اختفت معه أي دلالة على وجود شيء مادي اسمه (الحبشة) في حياتي، سوى ندبة كبيرة في فخذ والدي، خلفها طلق ناري أصابه من بندقيّة حبشي آخر، لكنه لص، أيام كان والدي شابًّا يرعى إبل والده في أقصى شرق البلاد.

انتظرت عدة سنوات حتى أبلغ سن التلمذة المدرسيّة كي تعود كلمة (الحبشة) إلى مسمعي مجددًا. تعود مقرونة، هذه المرة، بسيرة ملك غير مسلم، ينحاز إلى الديانة التي أصبحت تخصّنا في ما بعد. عرفنا أن الملك اسمه النجاشي.

الآن أنا على وشك الانتهاء من تعليمي الابتدائي، وأعرف شخصين من بلاد الحبشة: الحبشي، بائع رغيف الخبز، وقد رأيته رؤية العين! ثم الملك النجاشي، واكتفيت أن أرسم للنجاشي صورة ذهنية مطابقة لصورة الحبشي بائع الرغيف، أوقريبة منها، وهي الصورة الموجودة في مخيلتي حتى الآن! ولم ينتزعها مني الممثل، عبد العظيم عبد الحق، الذي أدى دور النجاشي في فيلم (الرسالة) للمخرج السوري مصطفى العقاد (1930- 2005). بعد ذلك، ازدادت معلوماتي ببلوغي السنة السادسة من التعليم، وعرفتُ أن أمواهًا متدفقة تأتي إلى بلادنا من بحيرة (تانا) في الحبشة (...)


عقب تخرجي في الجامعة، سكنتُ لسبع سنوات بضاحية الجريف، الخرطوم، كنت أعمل خلالها بمخبز لإعداد الرغيف، كي أعين نفسي على دفع نفقات الدراسات العليا الذي افترعته؛ فصادفتُ، خلال وجودي في المخبز، الآلاف من الحبش المقيمين هنا، وعقدت صداقات متينة مع المئات منهم، وتجادلنا معًا حول (وولسونيكا، وشينوا أشيبي، وليوبولد سيدار سنغور.. ومصرع الملكة المحبوبة ديانا). وما يؤسفني حقًا، أنني كنتُ أهمل الكتب التي كانت بين أيدي المثقفين والمثقفات من أصدقائي الحبش؛ لأنها مكتوبة باللغة الأمهريِّة، سليلة اللغة الجئزيّة، إذْ كانت عصيَّة على بصري ولساني، مثلما كانوا هم يهملون كتبي المكتوبة بالعربيّة. وصدف أن لازمتني طفلة حبشيّة ذكيّة، في سن التلمذة، جدَّت في تعليمي لغتها الأم بالكتابة، لكننا كنا، أنا وهي، بالكاد نكتب اسمينا وبعض عبارات التحايا والمجاملة، في محاولتها تلك، ثم تضحك، بكامل سعادتها، سخرية من ثقل يدي غير الماهرة في كتابة الأمهريّة! وحتى هذ االدرس نسيته منها في سياق اهمالي السخيف لثقافة جيران الخاصرة.

مع ذلك كله، لاعجب أن يكون أصدقائي وصديقاتي من (حبش الجريف) خير معين لي في فهم التوزيع الديموغرافي لسكان القرن الأفريقي المقرر علينا ضمن برنامج (ماجستير العلوم السياسيّة والدراسات الاستراتيجية) بجامعة الأزهري. لقد كان المقرر متواضعًا بالنظر إلى حاجتي المعرفيّة الآن، خاصة في جانبها المتعلق بالإنتاج الإبداعي والفكري لشعوب القرن الأفريقي كافة، والحبش منهم بخاصة! كان برنامج الماجستير برمته سياسيٍّا صرفًا، منزوع الثقافة، ويُعنى بتفكُّك الدول واتحادها، وقضايا اللاجئين، والصراع حول المياه، والحرب النفسيّة، وما إلى ذلك من القضايا السياسيّة المعاصرة.

مهدتُ لكم بهذه المقدمة المطوَّلة لأصل معكم واسأل سؤال المشتاق! لا إلى الحبشي بائع رغيف الخبز، ولا إلى الملك نجاشي، ولا بحيرة تانا، ولا إلى الطفلة الحبشيَّة التي كبرت بلغتها وتركتني فيها صغيرًا، أتكفف الترجمة. إنما للعثور على ترجمات للأثر الأدبي والفكري الذي أنتجه الكتَّاب والشعراء والفلاسفة وسائر الانتلجنسيا من جيران الخاصرة الذين يبلغ عددهم المائة مليون.

هل فيكم من يعرف روائيًّا حبشيٍّا، أوقرأ له رواية؟ هل فيكم من يعرف شاعرًا حبشيٍّا، أوقرأ قصيدة شعر حبشيّة؟ هل فيكم من يعرف أي مفكِّر، أو كتاب لمفكِّر حبشي؟ أي مقالة، أي سطر؟
أنا، بكل أسف، لا أعرف!!

ÇáäæÑ ÃÍãÏ Úáí
مشاركات: 552
اشترك في: الأربعاء يناير 27, 2010 11:06 am

يوسف

مشاركة بواسطة ÇáäæÑ ÃÍãÏ Úáí »

يوسف سلامين
لا اعرف كيف يعمل ذهنك، بهذا التفتق العجيب، فيثير غبار الاسئلة القاسية.
ليس لدي حتي الآن اجابة لهذه الاسئلة الحامضة، ولكنك ذكرتني ببوستٍ سابق
علي المنبر بعنوان: «لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟» للصديق النور حمد
وهو يخوض في شأن «مارد الهضبة» جارنا الذي لا نعرفه !!.......
قداعود لا حقاً لهذا الموضوع الشيق، واشكرك.
آخر تعديل بواسطة ÇáäæÑ ÃÍãÏ Úáí في الأحد سبتمبر 04, 2016 3:57 pm، تم التعديل مرتين في المجمل.
صورة العضو الرمزية
تاج السر الملك
مشاركات: 823
اشترك في: السبت أغسطس 12, 2006 10:12 pm
مكان: Alexandria , VA, USA
اتصال:

مشاركة بواسطة تاج السر الملك »

بسم الله أمسك عندك:
Dinah Mengestu
is an Ethiopian-American novelist and writer. In addition to three novels, he has written for
Rolling Stone on the war in Darfur, and for Jane Magazine on the conflict in northern Uganda.
New York Times Notable Book 2007
Lannan Fiction Fellowship, 2007
National Book Award Foundation, 5 Under 35 Award, 2007
Guardian First Book Award, 2007
Prix Femina Etranger, Finalist, 2007
Grand Prix des Lectrices de Elle, Finalist 2007
Prix du Premier Meilleur Roman Etranger, 2007
Dylan Thomas Prize, Finalist 2008
New York Public Library Young Lions Award Finalist 2008
Los Angeles Times Book Prize, 2008
The New Yorker \"20 Under 40\", 2010 \"Fiction: 20 under 40: Dinaw Mengestu\", The New Yorker, 14 June 2010
Vilcek Prize for Creative Promise in Literature, 2011[11]
MacArthur Foundation Fellow, 2012
2012 Ernest J. Gaines Award for Literary ExcellenceWendland, Tegan.\"
Dinaw Mengestu Wins Ernest Gaines Literary Award\", WRKF.org89.3, Louisiana, 25

Haile Gerima
Haile Gerima is an Ethiopian filmmaker who lives and works in the United States. He is
a leading member of the L.A. Rebellion film movement, also known as the Los Angeles
School of Black Filmmakers. His films have received wide international acclaim.
Since 1975, Gerima has also been an influential film professor at Howard University
in Washington, DC. He is best known for Sankofa, which won numerous international awards.



Nega Mezlekia
is an Ethiopian writer who writes in English. His first language is the Amharic
language, but since the 1980s he has lived in Canada so speaks and writes in English.

Nega was born in Jijiga, the oldest son of Mezlekia, a bureaucrat in the Imperial government.


Hama Tuma
is an Ethiopian poet and writer in the Amharic and English languages.


Loret Tsegaye Gabre-Medhin
was Poet Laureate of Ethiopia, as well as a poet, playwright, essayist, and art

Berhane Mariam Sahle Selassie
is an Ethiopian author who has written in three languages: Gurage, English, and Amharic.
He wrote the first novel in Chaha, a Gurage dialect, which
was translated into English by Wolf Leslau for publication with the title Shinega's Village.

Haddis Alemayehu
also transliterated Hadis Alamayahu, was a Foreign Minister and novelist from Ethiopia.
His Amharic novel Fəqər əskä Mäqabər is considered a classic of modern Ethiopian literature.

Le'ul Dr. Asfa-Wossen Assert
is a Consultant for African and Middle-Eastern Affairs, a political Analyst and a bestseller author writing in German.



........
ويمكن أن نستمر إلى ماشاء الله
تحياتي
صورة العضو الرمزية
تاج السر الملك
مشاركات: 823
اشترك في: السبت أغسطس 12, 2006 10:12 pm
مكان: Alexandria , VA, USA
اتصال:

مشاركة بواسطة تاج السر الملك »

فالجارة ترانا من خلف الزجاج مثلما نراها.
آخر تعديل بواسطة تاج السر الملك في الاثنين سبتمبر 05, 2016 5:27 am، تم التعديل مرة واحدة.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

كيف ما بنعرفهم؟

مشاركة بواسطة حسن موسى »





.

سلام يا يوسف حمد "السوداني"و لعلك على أحسن حال
و الله مكتوبك أمتعنا كثيرا لولا أن العجلة، التي هي أم الشياطين كلها، أفسدت علينا متعة القراءة [ و الشكر موصول لتاج السر الملك على اللفتة البارعة].طبعا ليس بيننا نفر كثير يقرأ الأدب الأثيوبي، كون القوم يكتبون في لغتهم أو في الإنجليزية التي قد لا تتيسر لنا فيها كتب الأدب الأثيوبي. لكن يا يوسف و أنحنا طلبة في كلية الفنون الله أكرمنا بصداقة زملاء اثيوبيين أذكر منهم الشاب اللطيف " إبرّة قبروسلاسي قبّرو" ، كما سمحت لنا ملابسات القهر السياسي التي طردت الشبيبة الإثيوبية للخارج في السبعينيات ـ و عسى أن تكرهوا شيئا ـ سمحت لنا بالتعرف على عدد من الطلاب و المثقفين الأثيوبيين التقدميين الذين اتخذا من السودان منصة للإنطلاق للملاجئ الأوروبية و الأمريكية ، فصادقناهم و آخيناهم ومنهم من سكن معنا في داخلية المعهد الفني و كان بينهم مدرس إسمه " لسانو تفرّو"كنا معه في حالة مناقشة لا تنتهي حتى تبدأ ،حول أسئلة الثورة و التغيير الإجتماعي في القارة.ثم تعرفنا فيما بعد على نفر من التشكيليين الأثيوبيين القديرين من شاكلة
Skunder Boghossiann
" سكندر بوغوسيان [1937ـ 2003] و على أجيال أصغر مثل ووزن ورق كسروف
Wosen Worke Kosrof
جولي مهريتو
Julie Mehretu
عايدة مولونيه
Aida Muluneh
و لا بد انك ـ مثل الكثيرين ـ قد سمعت غناء الموسيقي الأكبر
Tilahun Gessesse
تيلاهون قسيسي دون أن تعرف اسمه
[ شوف الرابط
https://www.youtube.com/watch?v=szYdVJJCrYM


]،ذلك أن الناس في السودان يسمعون الموسيقى الإثيوبية هلمجرا ساكت و لا يكلفون أنفسهم مشقة التوثيق لما يسمعونه، بل و فيهم موسيقيون كبار ينهشون من موسيقى القوم و يمسحون خشومهم و بيزنيس ىز يوشيوال..
فلو كنت لم تسمع بهؤلاء الفنانين فمافي شي رايح. أمشي من دربك اسأل سيدنا قوقل ، كرم الله وجهه ، تلقاهم راجينك بخيرهم و[ شرهم]و الحمد لله على كل شي.ـ
محمد سيد أحمد
مشاركات: 693
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:21 pm
مكان: الشارقة

ووو

مشاركة بواسطة محمد سيد أحمد »

علاقتنا بجارتنا الشرقية
فيها ملامح من علاقة الجارة الشمالية بنا

مثلما شكونا من ضعف الاهتمام الرسمى والشعبى بالسودان
ومن جهل او تجاهل المواطن المصرى او حتى المثقف المصرى بالشان الثقافى السودانى

نجد تجاهل من المواطن والمثقف السودانى للثقافة الاثيوبية
كما نوه حسن موسى قد يكون عائق اللغة مشكلة فى التواصل مع الادب الاثيوبى

غير ان روافد الغناء والموسيقى والمسرح والفنون متصلة ولم نستثمرها

مرات كدة فى شتارة زول يكون جارى ورا واحدة ما بتحبو ومتجاهلاهو
وفى واحدة تانية تحبو وتقدرو ويكون ما شايف
بس عمى البصيرة
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


شكرا يا يوسف حمد على افتراعك لهذا الخيط الذي لا بد من المشاركة فيه. فقط أريد أن أتقدم أكثر في "جلستي العلاجية" مع تاج السر الملك.
شكرا يا النور الأحمر، لإشارتك إلى ما كتبت في شؤون الهضبة الحبشية والسهل النيلي، قبل سنوات. سأعود للمشاركة لتشميس أفكاري معكم، حول كتابي القادم "الجذر الكوشي" الذي شارف على الاكتمال. وهو كتاب تأسس على مقالات "الهضبة والسهل".
تم تعديل هذه المداخلة بعد زمن قصير من رفعها.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
ياسر زمراوي
مشاركات: 1359
اشترك في: الاثنين فبراير 05, 2007 12:28 pm

مشاركة بواسطة ياسر زمراوي »

العزيز يوسف حمد
شكرا على هذا البوست الجميل الراقى
توجد صفحة باسم مناهل الادب والثقافة الاثيوبية فى الفيس
لا ادرى ان كانت قد مرت عليك
ياسر زمراوي
مشاركات: 1359
اشترك في: الاثنين فبراير 05, 2007 12:28 pm

مشاركة بواسطة ياسر زمراوي »

ياسر زمراوي
مشاركات: 1359
اشترك في: الاثنين فبراير 05, 2007 12:28 pm

مشاركة بواسطة ياسر زمراوي »

السابق بعض اجزاء من رواية سمراويت لحجى جابر
كما دفعتنى كتابتك للكتابة عن ولعى بالاثيوبيين التى سالحقك بها
íæÓÝ ÍãÏ
مشاركات: 71
اشترك في: الاثنين مايو 18, 2015 4:29 pm

مشاركة بواسطة íæÓÝ ÍãÏ »

شكرًا يا سيدي النور اللحمر على كل شيء..وشكرًا للأستاذ العظيم تاج السر الملك، أنا سعيد بمداخلتك

كتبت ما كتبت عن جارتنا خلف الزجاج وأنا أضمر معرفة ضئيلة بالمسرحي الأثيوبي، سقاي قبرا مدَّين، ابن قبيلة القالا، ذلك المسرحي المهيب الذي قدّمه الديبلوماسي الراحل جمال محمَّد أحمد (1915- 1986)، درس قبرا مدَّين القانون في شيكاغو والمسرح في لندن.. كتب جمال كتابه (في المسرحية الأفريقية، دار التأليف والترجمة والنشر، جامعة الخرطوم، 1973م) وخصص الجزء الأكبر منه للأثيوبي قبرا مدَّين، حيث استعرض مسرحياته (أزماري) و( ثيودورس) والمسرحية الشعرية (الإله في جوف شجرة البلوط). قال جمال إن أثيوبيا كانت تتكشف أمام قبرا مدَّين، إذْ "ترامى إليها النغم الجديد في القارة (...) حين أضحت أديس مكة أفريقيا، مقعد اللجنة الاقتصادية الأفريقية، ومن بعد مقعد منظمة الوحدة الأفريقية (...) وكان سقاي يرقب هذا ويحتفل صامتًا بانهيار قلاع العزلة والذعر، فغنى، أول ما غنى، بهذه النسمة المنعشة في المرفأ، أفريقيا:
أمي امسكي بيدي
أمي السوداء هاك يدي
أريد لأنهض قائمًا على قدمي
أريد أن أشير، أمد أصبعي، أقول:
تلك أرضي. ذاك طافي
في قحة أريد أن أقول:
أنا أتهم"!
"آثر سقاي أن يغني أساطير أثيوبيا وأفريقيا في شعر تتقد فيه حرارة التربادور، مع كل تجربة وقصيدة، وعكف على الأساطير والتاريخ يقرأهما، وما أظنه كان يعرف أنه حين يفعل هذا يعد نفسه لشيء كبير (...) مدّ يده بورقة ذات مساء يسألني، وكان قد عرف المرح مع الزمن "اتستحق هذه القراءة، بله الخلود؟ لقد أضنتني إضناء وأنا أترجمها لك من أصلها الأمهري إلى الإنجليزية" وبدأت اقرأ في صوت يسمعه، وهو يميل يمنة ويسرة، تذكر إذ تراه شيخ وكتّاب قرية، يتحلق حوله حواريه كل "يسمِّع لوحه". وقلت غير مازح: "لا بأس، لكن شعر ذقني لم يقف" كما كان يقول هاوسمان حين يملك عليه اقطار قلبه معنى يريده شعرًا، والكلمات تطل وتذهب، تغيظه. ثم قرأها هو قراءة لا عجلة فيها ولا ادغام، وأشهد أن شعر ذقني آنذاك وقف يتلقى:
أمي السوداء
كان لي يومًا من الأيام ذات
كان لي اسم وراح
كانت الروح قوية
كان شاكا وحرابي لا تقاوم
في المتابيل التقينا.. وحرسنا أرض زولو
من غزاة كاسرين. بعض وقت
أسلم الروح لوقو نبولا
وهو قائم. رفض الرقود
وهيروس ظل يحرس نامقا
واستحال. أسلم الروح يحارب.
والظاهر عندي أنه منذ كتاب جمال، انقطع خيط الضوء الذي يزيح ظلمة جارتنا خلف الزجاج!

íæÓÝ ÍãÏ
مشاركات: 71
اشترك في: الاثنين مايو 18, 2015 4:29 pm

مشاركة بواسطة íæÓÝ ÍãÏ »

الدكتور حسن موسى.. سلام واحترام
سعدت بلفتتك المبصرة؛ ولو سمح لي الدكتور النور حمد لقلت إن السودان تمّ اختطافه من محيطه (الشرق أفريقي) عدة مرات، بعد اختطافه من قبل الدولة الخديوية، بله اختطاف مركب، يبدأ من الذات، ولا ينتهى بالتشكيل والموسيقى والغناء!
شكرًا يا دكتور للمرة الألف!
íæÓÝ ÍãÏ
مشاركات: 71
اشترك في: الاثنين مايو 18, 2015 4:29 pm

مشاركة بواسطة íæÓÝ ÍãÏ »

قال محمّد سيد أحمد: "مرات كدة فى شتارة زول يكون جارى ورا واحدة ما بتحبو ومتجاهلاهو
وفى واحدة تانية تحبو وتقدرو ويكون ما شايف
بس عمى البصيرة"
ويبدو لي أن سيد أحمد اختار السوط المناسب لجلدنا حتى نفيق!
íæÓÝ ÍãÏ
مشاركات: 71
اشترك في: الاثنين مايو 18, 2015 4:29 pm

مشاركة بواسطة íæÓÝ ÍãÏ »

عزيزي الدكتور النور حمد
اتمنى لك جلسة علاجية طيبة في حضرة تاج السر الملك.. وبما أن الكلام جاب الكلام؛ فأنا مازلت استطعم حلاوة ورقتك "السودان.. آفاق الوعي بالذات"، المنشورة ضمن (مشروع الفكر الديمقراطي) وقد فرغت منها للتو، لذلك انتظر بلهفة "الجذر الكوشي".
مودتي
ÇáäæÑ ÃÍãÏ Úáí
مشاركات: 552
اشترك في: الأربعاء يناير 27, 2010 11:06 am

المَهَلَة

مشاركة بواسطة ÇáäæÑ ÃÍãÏ Úáí »

ساتدبر امر المَهَلَة في ما تبقي لي من عمر.

الصديق يوسف
سلامات كتيرات
استقبلت كتابتك «كيف تبدو جارتنا من خلف الزجاج؟» بفرح طاق، وعجلة انستني الحاجة الشول بت جمال الدين، الداية الشعبية، وحكيمة القرية التي تسكن (الهضبة) القائمة امام قطيتنا بقرية (الزندية). لا اعرف من اين جاءت تلك الهضبة للزندية، والتي تحتل سهلاً طينياً منبسطاً. ولكنني اعرف من اين جاءت الحاجة الشول بت جمال الدين.
جاءت الحاجة الشول، من قرية ود شلعي، احدي القري الشاطئية للنيل الابيض، الي الشمال مباشرة من (ود الزاكي)، فهي [الشول] غريبة عن الاجناس التي تسوطن الزندية.
الشول كانت تعمل كداية شعبية، وخاتنة، ولكن الاهم والذي انستنيه العجلة، وله علاقة بكتابتك، وهي بالنسبة لي المرة الاولي التي اسمع فيها كلمة «حبشي» وعليه؛ فحبشي حتي ذلك الوقت عندي: هو ديك، اكبر كثيراً من الديك الذي نعرف، ضخم غريب الشكل، لا يقأقئ ، كما يفعل الدجاج، ولكن عندما «يصوت» تتدلي من اعلي منقارة عالقة حمراء الشكل.
هذا الكائن الذي وصفت والذي تعرفه القرية باسم «الحبشي» كانت الحاجة الشول هي الوحيدة التي تملك سرباً منه، وانا في ذلك العمر اتساءل عن منافع هذا الكائن الغريب؟، دون ان اعرف، ولماذا جاءت به الشول؟
لاحقاً عرفت انه الديك الرومي، وادركت منافعه العديدة.
كانت تلك علاقتي الاولي بكلمة حبشي!
لا حقاً، وفي تاريخ السودان للمرحلة المتوسطة، عرفت ان الحبشة وطن للاحباش، وتقع الي الجنوب الشرقي للسودان الذي كان!! وعرفت مطامع الخليفة عبد الله التعايشي ومحاولاته لاحتلالها؟؟
وفي الخرطوم، عرفت احباشاً كثر، ومن خلال المسارب السماعية، تسللت لنا غنائيات كثيرة واحببناها، وعرفنا اسماء مغنين ومغنيات احباش، مكتفين بما يصلنا دون ان نسأل اسئلتك ذات الاغبرة!
كانت وسائل الاتصال من إذاعة وتلفزيون تلعب دوراً ترويجياً لما تسمية (ترفيهاً)!! وذلك ما سهل انسياب تلك الثقافة السماعية في الاتجاهين، مما راكم قدراً مهماً من تلك الشفاهيات. ان الآثار التي تستقبل بالاذن سجلت النسبة الاعلي في الوارد الثقافي من جارة الهضبة.
اما سؤآلك ك «هل فيكم من يعرف روائيًّا حبشيٍّا، أوقرأ له رواية؟ هل فيكم من يعرف شاعرًا حبشيٍّا، أوقرأ قصيدة شعر حبشيّة؟ هل فيكم من يعرف أي مفكِّر، أو كتاب لمفكِّر حبشي؟ أي مقالة، أي سطر؟
أنا، بكل أسف، لا أعرف!! »
وانا كذلك!
وهو سؤآل يوجه للذاكرة القرائية عن جارة (الهضبة) وهو ما عنيته بـ «غبار الاسئلة القاسية» كوننا ، يا يوسف، ومنذ الاستقلال، لم ننتبه [كأنظمة] لاسئلة الثقافة، بل حتي ثقافتنا نحن!! فأنت الآن يا يوسف لو سألت جيران عمرك عن حمزة الملك طمبل، او معاوية محمدنور، لسمعت العجب!!
ان سؤآل الثقافة، والذي يزعجك كمثقف ـ وبكل اسف ـ يقع خارج خارطة اهتمامات الانطمة التي تعاقبت علي حكمنا/تقرأ قهرنا، منذ الاستقلال(؟؟؟؟!!!) وحتي الاستعمار الحالي!!
يوسف، كان يمكن لسؤآلك ان يكون اعم لندرك مدي غفلاتنا، ومنها غفلتنا الثقافية، في ما يخص محيطنا؟
اتصور صياغة معممة هكذا: «كيف تبدو جاراتنا من خلف الزجاج، بل وكيف نبدو لجاراتنا من خلف نفس الزجاج؟» والزجاج نفسه لن يكون خارج دائرة المساءلة، فهو يبدو زجاجاً معتماً، لكثافة عتمة الواقع! وستنكشف عند محاولة الاجابة، عوراتنا الثقافية وغفلاتنا.
والاهم يا يوسف، نحن قوم مسكونون باميات مركبة من امراض هذه الاميات، واولها واغمسها الامية الثقافية.. نحن قوم شفاهيون سماعيون، فحتي لو توفرت مكتوبات لتعذر ان تجد من يطلع عليها؟
ان التلفت الثقافي السوداني، لم يسجل التفتاً يذكر الي ايٍّ من جهات الله التي وهبنا إلا جهة الشمال! فمن الشمال دخل الاستعمار المصري البريطاني، ودخلت متعدد الثقافات من الامم ذات الثقافات الكتابية، فجاءتنا السينما والكتاب والرسم داخل (سناطور القطار) ، كما ان مراكز الثقافة المكتوبة كلها تقع الي الشمال وتفريعاته؛ فهناك القاهرة (المستعمرة) وبيروت وبغداد ودمشق؟ كما ان توهم النخب التي خلفت الاستعمار باننا عرب عزز ذلك الالتفات الي الشمال.
يوسف، هل نحن نعرف تعددنا الثقافي بكل ثرائه؟ حتي نلتفت الي جيراننا؟؟
والمؤكد ان للقوم انتاجهم الثقافي المميز، خاصة وهم امة عريقة وذات عمق تاريخي معتبر، ومن خلال الزجاج المعتم الذي تفترض اننا نري من خلاله،لا نري إلا دهماً ثقافية! والامر سيان، بالنسبة لهم، اتصور ان لهم نفس الاسئلة، سيواجهون بنفس حيرتنا عند محاولة الإجابة،
يوسف ان عجلتي بشرية كاملة البشرية، وان هنا اتدارها، وساتدبر امر المَهَلَة في ما تبقي لي من عمر.
íæÓÝ ÍãÏ
مشاركات: 71
اشترك في: الاثنين مايو 18, 2015 4:29 pm

مشاركة بواسطة íæÓÝ ÍãÏ »

[size=24]عزيزي النور..

ليس في أمرك عجلة مذمومة.. لكنها بشاتن العمل الذي مجَّده سيدنا داؤود! قيل لنا إن داؤود "كان يأكل من عمل يده" ففتنا بعمل اليد، وباشرناه كابر عن كابر، ثم غاب داؤود عن اسماعنا من بعد ذلك؛ لكننا، في كل الأحوال، سنستمتع بمزاميره التي تنتظرنا هناك، في الجنة!!

طربت لاسئلتك التي طرحتها، وفي اعماق نفسي، أنا مخلوق يحب الأسئلة، رغم عدم مقدرتي على إنتاجها بالقدر الذي يحقق كفايتي الذاتية منها.. وهي ممتعة بالنسبة لي أكثر من الإجابة، ومجرد طرحها يكفي!!

سأنال متعتي وأنا انظر إلى اسئلتك معلقة هكذا، وأعود إلى جارة الخاصرة بما هو شخصي، لعله يجلب أسئلة جديدة..
إبان عملي في الصحافة، كلِّفت بعمل صحفي ميداني في شرق السّودان، ولأنني كنت المقترح للفكرة، كان من المأمول أن يزيد العمل الميداني من معلوماتي عن الجارة أثيوبيا، لأنني نويت، في ما نويت، أن أسبر غور علاقات الجوار في الشّريط الحدودي الطويل الممتد، وبتأثير من دراستي الجامعية، التي أومأت إليها، كنت شديد الحساسية لالتقاط خيوط التداخل بين الشعبين.. فمن الخرطوم حملت معداتي الصحفية القليلة، وشنطة ظهر فيها بنطلونات الجينز والفنايل المريحة، وتحركت إلى مدينة القضارف، ومن ثمة إلى القرى الواقعة شمالها، ومكثت فيها عدة أيام.. كنت خلال رحلتي إلى شمال القضارف أتتبع مصدر مياه المدينة الشّحيح في سد (دلسة) إلى جانب انشغالي بأسئلتي ورغبتي في عكس حياة السّكان هناك..

من الشّمال، عدت إلى القضارف ليوم واحد، ومنها اتجهت جنوبًا إلى قرية (كسَّاب) حيث المستشفى البائس المتخصص في حمى (الكلزار) المتفشية هناك، ومن كسّاب تحركت جنوبًا في طريق ملتوية يحرسها جنود من الجيش ممن يسمون شعبيًا بـ(أبو طيرة)، تحركت من قرية إلى قرية أخرى، إلى أن بلغت مدينة (القلابات) في الحدود مع أثيوبيا، هي ليست مدينة إلا على سبيل المجاز، طفت في القلابات أتلصص المداخل ومظان مفاتيحها: وجدت مركزًا للشرطة ومبنىً للجمارك ومركز صحي لا يعوّل عليه في صحةٍ أبدًا! كانت القلابات خليطًا من السّحنات المختلفة، ومركزًا رائجًا للتجارة، يقبل التّداول بالعملتين، السّودانية والأثيوبية، وفوق ذلك، ملتقىً جيدًا لتجَّار تهريب السّلع.. بعد عدة أيام في القلابات، واتتني الجرأة لدخول مدينة (المتمة) الأثيوبية، ولم يكن ذلك ليكلفني غير عبور الكبري الصغير المشيَّد على الخور الفاصل بين الدولتين.. كان الكبري يفتح أبوابه الحديدة عند السّاعة السّادسة صباحًا، بواسطة أفراد الشّرطة السّودانية، وتبدأ مع فتحه حركة الشّاحنات وناقلات البضائع الأثيوبية، ويبدأ، كذلك، سعي الناس الداخلين من أثيوبيا والخارجين من السّودان: عمال من الجنسين، وتجار، ولصوص، وطالبي المتعة والراحة والراح (...) يتحركون في الكبري حتى موعد اغلاقه عند السّاعة السّادسة مساءً.. كان دليلي، وهو من المقيمين في القلابات، يحذِّرني من العبور إلى المتمة، من منطلق أنني أبدو غريبًا على أهل المكان، وهذا ما يجعلني عرضة للتحرش من قبل اللصوص الأثيوبيين..

في الواقع، كانت رغبتي في العبور أكبر من خوفي؛ فعبرت مشيًا على الأقدام، كانت تحملني خواطري وأنا أمشي على الكبري الذي لا يزيد طوله عن السّتة أمتار! وللأسف، انتظرني التّحرُّش في الضفة الأخرى! وكم امتص من حماسي الدافق لمعرفة شيء جديد عن الحبش! كان التّحرُّش يمشي على أربعة عشر قدمًا، وله مثلها من الأيادي، وله سبعة وجوه مستهزئة بالغريب، وطامعة فيه.. لا يبدو أن الذين تحرّشوا بي سمعوا شيئًا من كلام الحكيم يوحنّا (1831- 1889) إلى عبد الله التعايشي (؟-24 نوفمبر 1899)"... أنتم ونحن أولاد جد واحد؛ فإذا قاتلنا بعضنا فماذا نستفيد؟! فالأفضل والأصوب أن نكون ثابتين في المحبة جسدًا واحدًا...".

شخصيًا، أستطيع أن أمضي بحكمة يوحنّا إلى قدر بعيد من الصحة " أنتم ونحن أولاد جد واحد" وذلك بالموقف الطريف الذي حدث لي يوم ذهبت لأكون معلمًا في مدرسة الشواك الثانوية.. ركبت الحافلة العامة من الخرطوم إلى القضارف، ومنها إلى (الشواك) التي وصلتها قبل مغيب الشمس بوقت قليل، وفيها كان لابد للحافلة أن تأخذ إذن الدخول إلى المدينة من مكتب تابع للجهات الأمنية، ومن هذا المكتب صعد أحدهم بلباس مدني، وتفرّس في وجوهنا لمسافة، ونحن لم نزل في الحافلة، وما تكاد تمر لحظات في التفرّس حتى اختارني بإشارة من أصبعه أن أنزل؛ نزلت، وكنت الوحيد الذي نزل، وقادني المتفرّس إلى داخل المكتب، وبدأ سلسلة من الأسئلة: ما اسمك؟ أين بطاقتك؟ من أي المدن؟ ولماذا أنت هنا؟ عقب الأسئلة التي امتدت لأكثر من نصف الساعة، قال لي: المعذرة يا أستاذ، ظننت أنك من أثيوبيا، ومهمتنا هنا القبض على اللاجئين منهم ومن الأريتريين! ضحكت للأمر ولم استنكر الشبه الذي أكده لي، لاحقًا، أصدقائي وصديقاتي من حبش الجريف!
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


سلام يوسف حمد وضيوف خيطه الأعزاء
تذكرت أن الصديق، السفير سابقا، عوض الحسن، نشر من قبل ست سنوات مسلسة تحت اسم "خواطر حبشية" وبدا لي أنها تقدم اضاءات في هذا الخيط فآثرت أن آتي بها إليكم. وهذه هي حلقتها الأولى.

أتركوا الأحباش ما تركوكم! (1)
بقلم: عوض محمد الحسن
نشرت في سودانايل يوم 01/03/2010

لم يتركونا، ونحن والله لن نتركهم، امتثالاً بوصية رسول الله، ولأسباب أخرى نخوض فيها بعد حين. وكان صلّى الله عليه وسلّم قد ألمّ بكثير من تاريخ البلدان المجاورة لجزيرة العرب وجغرافيتها، ودياناتها، وسِير ملوكها من خلال اشتغاله بالتجارة وسفره الدائم بين الشام واليمن والمراكز التجارية الأخرى، وأحاديثه مع الأحبار والرهبان والتجار والمسافرين من مختلف البلدان. وحين ضاق بالمسلمين الأوائل الحال فى مكة، أمرهم الرسول بالهجرة الى الحبشة والاستجارة بمليكها النجاشى الذى حماهم وأكرمهم، كما ظنّ (ص) وتوقع. وقد طاب بهم المقام حتى ان بعضهم استقرّ فى تلك البلاد حين عاد معظم الصحابة الى جزيرة العرب، وجاء فى كتب السيرة أن أحدهم )عُبيد الله بن جحش ، زوج أم حبيبة) تنصّر وبقى حتى مات بالحبشة.

وقد اصرّ أستاذى د. عبدالله الطيب، رحمه الله، أن هجرة الصحابة الأولى هذه لم تكن للحبشة بل للسودان. وفى ظنّى انّ عصبية البروفسير لسودانه ولعشيرته من أحفاد العباس جعلته ينسب فَضْل إجارة ابن عم الرسول وصحابته للسودانيين، وإن خالف ذلك المنطق وحقائق الجغرافيا والتاريخ. إذ لماذا يَعبُر الصحابة (وأهل مكّة اصحاب تجارة وأسفار) البحر الأحمر فى أعرض نقطةٍ فيه، ثمّ يعبرون تلال البحر الأحمر القاحلة، وأرضاً قفراً يباب، قبل أن يصلوا إلى النيل، وهم يعرفون أن اليمن التى خبروا وزاروا لا تبعد إلا بضعة أميال من الحبشة عبر باب المندب؟ ولا تبعد حاضرة النجاشى كثيراً عن مرافئ الحبشة النشطة على البحر الأحمر. ويعرف أهل مكّة الأحباش أصحاب الفيل الذين حكموا اليمن وهدّدوا مكّة، ولا بدّ أنهم تاجروا معها قبل وبعد ذلك، مما يُغلّب احتمال لجوء المسلمين اليها دون السودان، والله أعلم.

حين خطوت خارج مطار اديس أبابا "الماهل"، واستقبلتنى "الزهرة الجميلة" بوجهها الصبوح، وبشاشتها المألوفة، ورونقها، وروائها، وودّها، داهمتنى أحاسيس ومشاعر وذكريات ومقارنات شتّى. أول ما خطر بذهنى التعبير "الجو صحوٌ"، نكتبه فى كراسات الإنشاء ونحن فى بداية عهدنا بالمدارس، ونسمعه فى النشرة الجوية فى تلفزيونات الدنيا، ولا نعرف معناه الحقيقى (مثلما نكتب ونغنى عن الزهور "والوردى" دون أن نراها). وانا أقف على ربوة مطار أديس أبابا ،والمدينة تصحو من سباتها، قلت لنفسى، وأنا ثملٌ برائحة صباح المدينة المنعش، ورائحة أشجار الكافور التى هيّجتها أمطار الأمس، ومزهوٌ باكتشافى:" أيوااا ! هذا ما يعنُونه بالجو صحو!"

الهواء شفيف لطيف نظيف، وأشعة الشمس رقيقة رحيمة حانية كأنما غسلتها امطار الفجر، فنزعت عنها حدّتها وصهدها الذى نعرف كجوع بطوننا، وخضرة الأشجار زاهية شفافة نضرة لا يثقلها مثل الغبار الذى يحطّ بصفة دائمة على أشجار الخرطوم فيحيل لونها، حتى فى موسم ازدهارها وفرهدتها، خضرة كابية غبشاء، وأشجار "الجاكاراندا" ذات الأغصان النحيلة السوداء، تكلل هاماتها زهورها البنفسجية التى تهزها رياح "البلق"-الخريف الصغير- فتسقط حول جزوعها دوائر من الظلّ البنفسجى، كلّما رأيتها جاهدت نفسى كى لا ألتقطها مثلما كنّا نفعل حين تهب رياح الخريف، دون أمطاره، على ديار الشايقية فى سبتمبر من كل عام، والبلح قد طاب، فتُسقِط "تمر الهبوب" حلالاً لمن يلتقطه من الصبية

حين وفدتً الى إثيوبيا أول مرّة، حسبتً أننى أعرف البلاد حقّ المعرفة، كيف لا وهم جيراننا، تربطنا بهم وشائج التاريخ والجغرافيا والثقافة ومصادر المياه، نعرفهم ويعرفوننا، نطرب لموسيقاهم ويطربون لموسيقانا، يحلّون بين ظهرانينا كلّما شرّدتهم نيران الحروب وجور الحًكّام وعوادىالطبيعة والفقر المدقع. حين هدّد الطلياناديس ابابا فى الأربعينات، لجأ الإمبراطور هيلاسيلاسى الى السودان حتى زال الخطر، وحين نفّذ ضبّاط سلاح الجو الإثيوبى إنقلابهم ضده فى الستينات، لجأ مرّة أخرى الى السودان حتى إستتب له الأمر واستعاد ملكه. وحين إشتد اوار الحرب المُدمِّرة فى إرتريا، المُهلكة فى باقى إثيوبيا، فرّ الى السودان نحو مليون إثيوبى ترك لهم السودان حُريّة الأقامة والعمل والتملك والحركة. وحين هبت رياح السياسة بما لا يُتَوقع، وتغيّرت التحالفات، دعمت حكومة السودان جبهات إرتريا والتغراى حتى أطاحت بمنقستو ونظامه. والحال كذلك، لم يساورنى شكّ فى أننى أعرف البلاد وسكانها معرفةً تامّة. غير أننى إكتشفت، بعد أن أقمت فيها، أننى أجهلها جهلاً تاماً، ولا أُلمّ إلا بالنذر اليسير من تاريخها وجغرافيتها وثرواتها الطبيعية وتكوينها العرقى ودياناتها ومزاج أهلها. وما نعرفه عن البلاد وسكانها لا يتعدّى المعلومات السطحية والنمطية من أمثال "إذا جاعوا، وإذا شبعوا"، ومثل ذلك من نتاج النظرة الفوقيّة المتعالية التي ينظر بها أهل السودان النيلي الى جيرانهم، والتى تنحو نحو التبسيط المُخِل القائم على الجهل بحقائق الدنيا وبقدر النفس. رحم الله امرئً عرف قدر نفسه، ولا عجب إذن ان "قطّتْ" الرحمة من السودان!

اثيوبيا بلد مُعقد، مُركّب، غميس، كلّما أطِلتَ الإقامة فيه تكشفتْ لك طبقات وطبقات من التعدّد المُذهل والتعقيد والحقائق الغريبة. نقول أنهم يشبهوننا ونحن نتحدّث عن سكّان سودان "مُثلّث حمدي" وسكان هضبة الحبشة من أمهرا وتغراي، ناسين (أو متناسين) أن سكان سودان مُثلث حمدي بعضٌ من سكان السودان، وسكان الهضبة هم بعضٌ من سكان إثيوبيا. دُهشتُ كثيراً حين اكتشفتُ أن في إثيوبيا أكثر من ثمانين مجموعة عِرقيّة ونحو ذلك من اللغات! لم أكن أعلم أن "الأرومو" هم المجموعة العرقية الأكبر في إثيوبيا، يمتد إقليمهم من حدود السودان في الغرب إلى حدود كينيا فى الجنوب الشرقي بما في ذلك أديس أبابا التي يُسمّونها "فينفينى"، وأن لغتهم حاميّة (كلغات النوبيين والبجا) وليست ساميّة (كاللغات العربية والأمهريّة والتغراويّة)، يكتبونها بالحروف اللاتينية. لم أكن أعلم أن بإثيوبيا قبائل أفريقية صرفة ما زالت تعيش عيشة البداوة الأولى التى كانت تعيشها منذ قرون، تجعل في شفاه نسائها السفلى ثقباً يسعُ غطاء علبة المُربّى. وأن إقليم "قمبيلا" الإثيوبي تقطنه قبائل الأنواك والنوير التي تقطن أيضاً الجانب الآخر من الحدود، وأن إقليم "قُمز- بني شنقول" الإثيوبي تقطنه نفس القبائل الموجودة على الجانب السوداني من الحدود. وقد ازدادت دهشتي حين اكتشفتُ أن المسلمين يشكلون أكثر من نصف سكان إثيوبيا، يتصرفون ويُعاملون كأقليّة، وينتمون إلى معظم "قبائل"/اقاليم إثيوبيا الكبرى كالأرومو والأمهرا والتغراي، بالإضافة إلى أقاليم العفر والصومال وبنى شنقول وغالبية سكانها من المسلمين. ومع أن التسامح والتعايش الديني يبدو السمة الغالبة في علاقة الطوائف المختلفة فى إثيوبيا، إلا أن النظرة المُتفحصة تكشف جدراناً زجاجية بين المسلمين والمسيحيين لعلّها ممّا خلّفتة عوامل التاريخ والجغرافيا والسياسة عبر العصور. فهم مثلاً لا يأكلون طعام بعض البعض، خاصةً إذا اشتمل على اللحم، وقد يتزاوجون ويجاملون بعضهم البعض، ولكن يصرّون على وجود طعامين في الولائم: واحد للمسلمين والآخر للمسيحيين! ورغم التناغم الظاهري تكاد تحس توتراً تحت السطح في العلاقة بين الطائفتين.

نقول أنهم يشبهوننا وهم يشبهوننا أكثر مما نظن، ولكنهم يختلفون عنّا اشدّ ما يكون الاختلاف. إثيوبيا بلد ذو حضارة قديمة متصلة ومتواصلة، والأثيوبيون يفخرون بأن بلدهم من أقدم بلدان العالم، ولغتهم من أقدم اللغات المكتوبة، ولهم توقيت خاص .يبدأ اليوم صباحاً بالساعة الواحدة (أي السابعة عند باقي العالم)، وهى ليست ساعة "فولكلورية"، بل ساعة مستخدمة فى كامل تراب إثيوبيا (ولعلها أقرب للمنطق). وتقويمهم كذلك خاصٌ بهم ينقص عن التقويم الميلادي (القريقورى) بسبع سنوات، والسنة الحالية بالتقويم الحبشي هى 2002 ، ورأس سنتهم يوافق الحادي عشر من سبتمبر، وبالسنة ثلاثة عشر شهراً (ولكن 12 ماهية فقط!). وقد دخل الإسلام الحبشة قبل أن ينتشر في جزيرة العرب، والكنيسة الحبشية "الأورذودكسية" من أقدم كنائس العالم المسيحي، ويعتبرها أهلها الكنيسة "الأصلية" وما دون ذلك بدعٌ وهرطقة. وقد كان أباطرة الحبشة، على مرِّ العصور، على اتصال وثيق بممالك الدنيا، يتاجرون معها، ويتبادلون السفارات والزيارات. وحين هدّدت إمارة "هرر" المسلمة بقاء الحبشة المسيحية فى القرن السادس عشر، استنجد الإمبراطور بالممالك المسيحية فى أوروبا، فأرسل إليه ملك البرتغال (وكانت آنذاك قوّة بحرية تًسيطر على شواطئ أفريقيا وجزيرة العرب) بعضاً من قوّاته مكّنته من صدّ هجوم الهرريين. ثم ما لبث، حين أطال البرتغاليين بقاءهم، أن طردهم حين أحسّ خطر الأثر اليسوعي الكاثوليكي للبرتغاليين على الكنيسة الأورذودكسية.

تاريخ قديم، وتواصل بالعالم الخارجي، وحضارة متصلة قديمة ولكنها حيّة. أليس من العجيب إذن أننا لا نعرف من لغة هؤلاء الجيران إلا كلمة أو كلمتين، ولا نعرف من جغرافية بلدهم إلا الهضبة (حيث تنزل الأمطار التي نعيش على مياها)، وبحيرة تانا، والنيل الأزرق الذى ينبع منها ولا يًسمى في بلاده بالنيل الأزرق بل "أبّاى"، ولا نعرف من تاريخهم الطويل والحافل إلا غزو أبرهة الفاشل لمكّة، وهجرة أصحاب الرسول الأولى، وحروب الخليفة عبد الله التعايشي ضدهم ومقتل إمبراطورهم يوهانس في هذه الحروب!؟
" يتبع"
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
íæÓÝ ÍãÏ
مشاركات: 71
اشترك في: الاثنين مايو 18, 2015 4:29 pm

مشاركة بواسطة íæÓÝ ÍãÏ »

عزيزي الدكتور النور حمد
شكرًا على هذه المقالة النجيضة، مقالة عوض محمد الحسن. وبالحق، لا أريد لهذا الخيط أن ينتهي؛ وما يؤسفني حقًا إنني عاجز عن تغذيته والفتل فيه؛ فأنا، بكل أسف، من أطين طينة الناس الذين تعجب منهم عوض محمد الحسن، لكوننا "لا نعرف من لغة هؤلاء الجيران إلا كلمة أو كلمتين، ولا نعرف من جغرافية بلدهم إلا الهضبة (حيث تنزل الأمطار التي نعيش على مياها)، وبحيرة تانا، والنيل الأزرق الذى ينبع منها ولا يًسمى في بلاده بالنيل الأزرق بل "أبّاى"، ولا نعرف من تاريخهم الطويل والحافل إلا غزو أبرهة الفاشل لمكّة، وهجرة أصحاب الرسول الأولى، وحروب الخليفة عبد الله التعايشي ضدهم ومقتل إمبراطورهم يوهانس في هذه الحروب"!!
أعيش هذه الأيام دهشة عظيمة وفرها لي أحد الأصدقاء الذين قطعوا العصي الغليظة للترجمة، حين دلني على خيط انثربولوجي مدهش هو بحث معمق حول (Gadaa- 0romo democracy). وعرفت من خلاله أن لقومية الأرومو، في أثيوبيا، نظام ديمقراطي خاص يسمى (gadaa) وهو بمثابة مؤسسة سياسية اجتماعية تمنع الظلم والاستغلال وتعزز السلام بينهم.. ويتم عبرها اختيار الزعماء بدقة متناهية. ولست أدري ما إذا كانت قد عبرت منه (أومجيتا شارو) زعيمة تحرير الأرومو، التي تستخدم هذه الأيام، يا للأسى، كعود ثقاب في الصراع حول سد النهضة!!
أكرر أمنيتي: لا أريد لهذا الخيط أن ينتهي.
مودتي الخالصة

íæÓÝ ÍãÏ
مشاركات: 71
اشترك في: الاثنين مايو 18, 2015 4:29 pm

مشاركة بواسطة íæÓÝ ÍãÏ »

كتب العزيز النور أحمد علي:

"إن التلفت الثقافي السوداني، لم يسجل التفتاً يذكر إلى أيٍّ من جهات الله التي وهبنا إلا جهة الشمال! فمن الشمال دخل الاستعمار المصري البريطاني...". وربما لم يزل الاستعمار المصري، بالذات، يغزونا غزو من لا يخشى الهزيمة، يا النور، يغزونا في مجالنا العام الاجتماعي والبصري والسياسي، وسأبتعد قليلًا عن المفهوم الهبرماسي للمجال العام، وأقول إن الاستعمار المصري يغزو مجالنا العام الجغرافي.. ومفترع هذا الخيط لا يرى في رؤوس المصريين شمعة ولا في (خدودهم) لمعة، حتى نسمح لهم بكل هذا العبث!

وفي درء أثار مصر السالبة، الممتدة إلى يوم الليلة، ربما نحتاج إلى الكثير من الجنس الخطابي الذي سماه بروفيسور عبد الله علي إبراهيم "دفع الإفتراء" (مجلة الخرطوم، العدد الثالث، 1993) فلم يزل هناك "عبد العظيم رمضانات" لا يرون غضاضة في تبعيتنا لمصر، فقد كان رمضان (1925- 2007) لا يرى في غزو محمّد علي باشا للسودان استعمارا كاستعمار انجلترا لمصر مثلًا، وألف كتابًا في هذا الخصوص سماه (أكذوبة الاستعمار المصري للسودان)، بل يرى أن مطالبة بعض الزعماء للباشا محمّد علي بـ (فتح) السودان جاء كتصرف منهم يسنده "وعي تاريخي يناسب الروابط التاريخية"، وما إلى ذلك من العبارات التي تشحذ العاطفة وتعرقل الجانب العقلاني في "الوعي بالذات" السودانية. فقد قال عبد العظيم رمضان إن القومية السودانية لم تتبلور إبان دعوة أولئك الزعماء للباشا، ورفض وصف المؤرخ السوداني الدكتور حسن أحمد إبراهيم (1938- ؟) للزعماء أياهم بأنهم "جافوا مصالح البلاد العليا" وفي تقدير رمضان أن تعبير "مصالح البلاد العليا" تعبير عصري، "لا مكان له في أعراف تلك الفترة التي لم يكن للسودان فيها كيان قومي" (ع. ع. إبراهيم، مجلة الخرطوم)!!

وإذا كان عبد العظيم رمضان، أو غيره، يرون في غزو محمد علي للسودان بمثابة "انتقال في غرف البيت"؛ فإن للأحباش أيضًا انتقال قديم في هذه الغرف؛ فهم الذين اسقطوا مملكة مروي في القرن الرابع الميلادي، في ثنايا انتعاش مملكة أكسوم التي سحبت طرق التجارة عن مروي؛ ما أضعف أهميتها الاقتصادية؛ فضعفت حتى كانت لقمة سهلة للأحباش.

لا أود الخوض في هذا الأمر؛ إذ "لا يفتى في أمر الحبش والنور حمد في سودان للجميع". ولكن أتطلع إلى معرفة أوسع بهؤلاء الجيران الغائبين خلف الزجاج!
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

العزيزان، النور اللحمر ويوسف حمد، "أمانة ما جبتو كلام"

الاستعمار العقلي المصري للسودانيين واحد من شجوني التي تؤرقني. بل إن الحاق السودان بالمشرق العربي يوجعني أكثر من الاحتلال المصري للعقل السوداني.

رأيتك يا يوسف حمد مشفقًا على الخيط. اطمئن، هذا الخيط سوف يبقى واقفًا على أمشاطه حينا من الدهر، بل سيتحول إلة منبر أكاديمي للحوار حول علاقاتنا بجوارنا الشرقي والشمالي.

لمسك يا يوسف لمست للنظرة الاستعمارية المصرية تجاه السودان مهم جدا. فهو يقود إلى ضرورة العمل على جوانب تفكيك التركة الاستعمارية، أو قل محو آثار الاستعمار، أو الـ decolonization في السودان. وهو عمل مهم جدا لم ننجز فيه ما ينبغي علينا انجازه.

اسمح لي أن أسهم في هذا الخيط، في جانبه المتعلق بالعلاقة مع مصر، بإيراد جزء من ورقة لي، جرى نشرها في كتاب "العرب والقرن والإفريقي: جدلية الجوار والانتماء". وهو كتاب من منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ويضم الكتاب حوالي العشرين ورقة كتبها أكاديمون سودانيون وإثيوبيون وارتيريون ومصريون وأوربيون مهتمون بشؤون القرن الإفريقي. وقد قدمت جميع هذه الأوراق في مؤتمر عقده المركز عام 2012 تحت نفس المسمى الذي حمله الكتاب.

قمت بتحرير هذه الكتاب بمعاونة زميلين آخرين، كما قمت بكتابة مقدمته.

أيضا، تناولت طرفا من اشكالية الاحتلال المصري للعقل والوجدان السوداني في كتابي الصغير "السودان: تجذير الوعي بالذات"، الذي جرى نشره في مسلسلة "قراءة من أجل التغير" التي يشرف عليها الصديق، شمس الدين ضو البيت.

لسوف تحتل النظرة المصرية إلى السودان، وتماهي السودانيين معها حيزا في كتابي القادم "الجذر الكوشي"، الذي أعمل عليه حاليا، ويوشك على الانتهاء.

ورقتي الذي ضمها "كتاب العرب والقرن الإفريقي" كانت بعنوان: "من الاستتباع إلى الشراكة: في نقد رؤية مصر إلى جوارها الجنوبي".

أكتفي الآن بايراد هذه الجزئية من الورقة، وأعتذر عن عدم ظهور الاحالات المرجعية:

استبطان النظرة الكلونيالية

عمدت النخب المصرية في حقل الأكاديميا، منطلقةً من حرصها غير الراشد على امتلاك السودان بوصفه غنيمةً خديويةً، إلى تسبيب وتبرير التوسع الخديوي جنوباً بأسبابٍ كان معظمها مختلقا اختلاقاً فاضحا. ولقد فات على هذه النخب أنها إنما نسجت على نفس النول الذي نسجت عليه الكولونيالية الأوروبية تسبيباتها وتبريراتها لنزعتها التوسعية. تتلخص تلك التسبيبات الكلونيالية الأوربية أن للرجل الأبيض مهمةً نبيلة وعبئاً ينبغي عليه النهوض به، وهو نقل الحضارة إلى المجاهيل غير المتحضرة، ولا يهم حتى لو تم ذلك بأساليب بالغة العنف. يقول هارولد ماكمايكل الذي تقلد وظيفة السكرتير الإداري للإدارة البريطانية في السودان إبان الحقبة الكلونيالية: "إن معظم تاريخ الإمبراطورية البريطانية يدعم النظرية القائلة إنَّ هَدَفَيْ بناء الإمبراطورية هما الاستحواذ على القواعد الاستراتيجية وفتح طرق التجارة، وأيضا، "التوق للبلاد القاحلة لتعميرها" ولتقويم الاعوجاج واستبدال الفوضى بالنظام. هذه هي العوامل التي ساعدتنا في التفوق على القوى الأخرى".

نسجاً على نفس ذاك النول، ومن نفس تلك القماشة، ظلت أغلبية المؤرخين المصريين تقدم تسبيباً مشابهاً للتسبيب الكلونيالي لاحتلال جوار مصر الجنوبي. فكثيرٌ من المؤرخين المصرين يرون في الاحتلال الخديوي للسودان عملاً طبيعياً، وقفت وراءه دوافع نبيلة تتلخص في تخليص الإقليم من الفوضى، ومن ثم، نشر التحضر في أرجائه المتخلفة. بل لا يكاد المرء يجد في الكتابات المصرية التي ناقشت فترة الحكم المصري التركي للسودان، أي اعتراف صريح بأن للسودان كياناً مستقلا. استخدمت المؤسسة الخديوية نفس الذرائع التي استخدمتها الكلونيالية الأوروبية في تبرير احتلال أراضي الغير والسيطرة على ثرواتهم. في مستهل كتابه المسمى، "مديرية خط الاستواء، من فتحها إلى ضياعها"، كتب الأمير عمر طوسون عن التوسع الخديوي المصري جنوبا قائلا: "لا ريب أن الفكرة التي اختلجت في نفس الخديو إسماعيل والتي دفعته إلى فتح مديرية خط الاستواء وضمها إلى السودان أو بالأحرى إلى الأملاك المصرية، فكرة جد صائبة إذ بها تم لمصر الاستيلاء على نهر النيل من منبعه إلى مصبه، وأصبح في قبضتها تلك البحيرات العظمى التي يخرج منها هذا النهر السعيد الذي عليه مدار حياة البلاد. ولو أنه عُهد بهذا الفتح إلى قائد مصري لكان ذلك أدعى إلى مضاعفة إعجابنا وثنائنا على هذه الفكرة، ولكن لعل في السياسة دخلا في ما حصل".

يُلاحظ هنا أن الأمير عمر طوسون يعتبر السودان ملكا مصرياً خالصاً، ويظهر ذلك جلياً في حديثه عن ضم الخديو إسماعيل لمديرية خط الاستواء إلى السودان، حيث يقول:"وضمها إلى السودان، أو بالأحرى إلى الأملاك المصرية". فالسودان بوصفه "من الأملاك المصرية" أمرٌ مفروغٌ منه لدى طوسون، ولدى غيره من أهل حقبته. بل إن كثيراً من المصريين لا يزالون، حتى يومنا هذا، يرون السودان من نفس ذلك المنظور. فالزعم بأن السودان ملك مصري خالص بحكم حق الفتح أصبح عقيدةً معششةً في المخيلة المصرية. وتلك عقيدة خديوية لم تجد من النقد الصائب ما يطبب أدواءها الجمة، ويكفكف أخطارها الماحقة على مستقبل العلاقة بين البلدين. أيضاً من نماذج اليقين بأن السودان ملك لمصر ما كتبه عبد الرحمن الرافعي وهي يحتفي بتصريحٍ مخاتلٍ أطلقه اللورد سالسبري، أقر فيه بملكية مصر للسودان بل وكل وادي النيل. يقول الرافعي: "أعلنت الحكومة الإنجليزية بين أرجاء العالم أن السودان جزء لا يتجزأ من مصر وصرح اللورد سالسبري في هذا الصدد: "إن وادي النيل كان ولا يزال ملكا ثابتا لمصر، وإن حجج الحكومة المصرية في ملكية مجرى النيل، وإن أخفاها نجاح المهدي إلا أنها ليست محلا للنزاع منذ انتصار الجنود المصرية على الدراويش" .

ونلاحظ هنا أن الرافعي لم ينتبه إلى الخداع والمخاتلة في قول اللورد سالسبري، الذي لم يكن يعني حقيقة ما يقول. فالبريطانيون الذين أوحوا إلى مصر أن وادي النيل برمته من أملاكها، هم أنفسهم الذين عادوا في ما بعد فأعملوا سكاكينهم في تقطيع وادي النيل وفق مصالحهم، بما في ذلك دق جملة من الأسافين بين مصر والسودان، القطر الأقرب إلى مصر من كل بقية أقطار وادي النيل. أيضا، نلاحظ أن الرافعي لم ينتبه إلى أن نظرته نحو المهدي وثورته الوطنية في السودان قد تطابقت تماماً مع نظرة البريطانيين إليها. بل هو يستعمل كلمة "الدراويش" التي ظل البريطانيون يستخدمونها في وصف جنود المهدي ازدراءً لهم: ((منذ انتصار الجنود المصرية على الدراويش)). وينبغي أن نلاحظ هنا، أن نظرة الرافعي هذه مناقضة تماماً لنظرة مواطنه إبراهيم شحاتة، التي أوردتها في صدر هذه الورقة. تبنى الرافعي الرؤية البريطانية ولغة الخطاب البريطانية، بلا أدنى اعتبار لمشاعر السودانيين الذين مهما اختلفوا حول الثورة المهدية، ومهما رأوا لها من الإخفاقات التي لازمت خطابها وممارساتها، وهي إخفاقات جمة، فإنهم لا يختلفون حول أنها ثورة وطنية حررت البلاد من قبضة مستعمرٍ دخيل. كما نلاحظ أيضا أن مصير السودان لدى الرافعي، ليس شأناً يقرره أهل السودان، وإنما هو شأنٌ يقرره المصريون من علٍ، داعمين قراراهم بشأنه بوجهة النظر البريطانية التي أوحت لهم بأن وادي النيل كله ملك لهم! وهي وجهة نظر خدعهم بها البريطانيون في تلك المرحلة المبكرة، فما لبثوا، بعد بضعة عقود، أن فقدوا وادي النيل وفقدوا السودان، بل وفقدوا السودانيين أيضا.

تعاملت الحكومات المصرية المتعاقبة وكثير من النخب المصرية، وكلتاهما ظلتا لابستين الخوذة العقلية الخديوية، مع السودان بنفس المنهج الذي كان يتعامل به الغربيون مع أهل المستعمرات، بل وبصورةٍ أقل كياسة. ولم تسلم من النهج الملتوي في التعاطي مع السودان، حتى الحقبة الناصرية، رغم كل مزاعمها الثورية الجمة ودعواها العريضة بأنها إنما جاءت ممثلة لصوت الشعوب. فحين قبلت مصر الناصرية مكرهة بحق تقرير المصير للسودانيين، اتجهت إلى أساليب الدعاية المكثفة بإنشاء إذاعة خاصة بالسودان، واستخدام المدارس المصرية، وبعثات الري المصري الموجودة في السودان للتأثير على مجريات تقرير المصير. كما أرسلت بالصاغ صلاح سالم، عضو مجلس قيادة الثورة المصرية محملا بأموالٍ طائلة لشراء ذمم السياسيين السودانيين، بل والذهاب إلى مدى محاولة تحريض الجنوبيين وإغرائهم بالانفصال عن الشمال والاتحاد مع مصر حين بدا أن الشمال يميل إلى إلى انشاء دولة مستقلة عن مصر!!

ذريعة نشر المدنية ومحاربة الرق:

يؤكد حمدي عبد الرحمن على وقوف الإيديولوجيا العنصرية، وذريعة نظرية عبء الرجل الأبيض في الأخذ بيد الآخرين، كغطاء نظري مُمَهِّدٍ للاحتلال والاستتباع، فيقول: "ظهرت إيديولوجيات عنصرية بالتوازي مع الروح الإمبريالية، روَّجت لعبء الرجل الأبيض ومسؤوليته التاريخية في الارتقاء بمستوى الشعوب السوداء، ليصل بهم إلى مرحلة الرشد الحضاري. وقد شارك كبار فلاسفة الغرب في تلك العملية العنصرية الخاصة بإنتاج المعرفة الزائفة التي وفرت غطاءً تبريرياً لتجارة الرقيق وللاستعمار الغربي بأشكاله المتنوعة. ويقول حمدي عبد الرحمن، "إن فلاسفةً كباراً شاركوا في انتاج ذلك النوع من المعرفة الزائفة، مثال إيمانويل كانط، وديفيد هيوم، وهيجل".

يمكننا أن نطبق ما قاله حمدي عبد الرحمن هنا على كثيرٍ من المؤرخين المصريين. فعلى سبيل المثال، يقول الدكتور نسيم مقار في مستهل كتابه "مصر وبناء السودان الحديث"، "يرى الباحث في تاريخ مصر على مر العصور والأزمان أن مصر حين تقوى وتنهض وتنال قسطا متميزا من التقدم، تسعى إلى أن تنقل حضارتها إلى البلاد الأخرى المجاورة التي لم تُحظ بما حظيت به من تقدم حضاري" . ويقول محمد فؤاد شكري: "تضافرت عوامل عدة على أن تسير مصر حملة على السودان، لإدخاله في نطاق ذلك "النظام السياسي الذي أوجده محمد علي، وفرغ من وضع قواعده خصوصا بين عامي 1807 و1811 على أساس الحكومة المستبدة المستنيرة في الداخل، والتوسع صوب الشرق والجنوب في الخارج ..... وكان أكبر العوامل شأنا في إرسال حملة السودان، مطالبة أهل السودان أنفسهم بإنشاء حكومة قوية على يد مصر، تقضي على أسباب الفوضى المنتشرة في بلادهم وتستبدل بها عهدا من الأمن والنظام والطمأنينة والانتعاش الاقتصادي".

ويستشهد شكري في الهامش الذي وضعه أسفل الصفحة لتعضيد قوله بطلب السودانيين للفتح، بقدوم أحد ملوك قبيلة الجعليين من السودان إلى مصر في حوالي العام 1816م مستنجدا بخديو مصر، لأن ملكا آخر من ملوك قبيلة الجعليين (المك نمر)، قد وشى به إلى حاكم سنار. ألبس شكري تلك الحادثة الصغيرة المعزولة، التي لم تتعد كونها نزاعاً حول الزعامة داخل قبيلةٍ واحدة هي قبيلة الجعليين، ثوبا فضفاضا بلغ به درجة القول بأن أهل السودان قاطبة أتوا مطالبين محمد علي باشا بغزو بلادهم واحتلالها، لتخليصهم من الفوضى التي يعيشون فيها. ويؤكد ما ذهبت إليه هنا ما أورده حسن أحمد إبراهيم حيق قال إن بعض الزعماء السودانيين ذهبوا بالفعل إلى مصر طالبين من محمد علي باشا إعداد جيش لفتح السودان. ومن هؤلاء إدريس ود ناصر من البيت السناري الحاكم، ونصر الدين ملك الميرفاب الذي تم طرده من الحكم، وبشير ود عقيد أحد زعماء الجعليين، وآخرين غيرهم. ويقول حسن أحمد إبراهيم، إن هؤلاء لم يستنجدوا بمحمد علي من أجل مصالح البلاد العليا، وإنقاذها من الفوضى، وإنما لتحقيق مطامع وأغراض شخصية.

ويواصل شكري في موضع آخر واصفاً فترة حكم محمد علي في السودان قائلاً: "ومن الثابت أن مصر على أيامه قد أنفقت بسخاء لتعمير السودان وانعاش الحياة الاقتصادية به وتعليم أبنائه وتشجيعهم بكل الطرق على السير في ركب الحضارة" . الشاهد أن كثيرا من تبرير النخب المصرية للتوسع الخديوي جنوبا في حوض النيل، تطابق تطابقاً تاماً مع التسبيب الغربي، الذي أنتجه الأوربيون الغربيون في القرن التاسع عشر، مبررين به غزو الشعوب والاستيلاء قهرا على ثرواتها. يقول محمد فؤاد شكري أيضا - ونقل عنه نفس القول رأفت غنيمي الشيخ - إن محمد علي باشا استند على أمور ثلاثة في فتح السودان، أولها: رسالة مصر في السودان التي لا يمكن التخلي عنها إطلاقا، وهي، "الاحتفاظ بشطر الوادي الجنوبي حتى يتسنى لمصر إتمام رسالتها من حيث واجب النهوض بالسودان إلى مصاف الأمم المتمدينة الرشيدة". أما الأمر الثاني فهو "الاطمئنان إلى توفير ما تحتاج إليه مصر، بل السودان نفسه، من مياه النيل". أما الأمر الثالث فقد نص عليه شكري على هذا النحو:"الاستناد إلى ما يُعرف باسم نظرية الخلو أو الملك المباح (Res Nullius) وفحوى نظرية محمد علي أن الأقطار السودانية عند ضمها إلى مصر لم يكن أحد يمتلكها في الحقيقة، لأن السلطة كانت مغتصبة من أصحابها الشرعيين، ونشرت قبائل العربان الفوضى في السودان. فإذا استطاع حاكم أن ينتزع هذه الأراضي من قبضة أولئك الذين اغتصبوا كل سلطة بها، وأن يُنشئ حكومةً مرهوبة الجانب، تذود عن حياضها وتصون السودان من الغزو الأجنبي، وتكفل لأهله الاستقرار والعيش في هدوء وسلام، فقد صار واجبا أن يستمتع هذا الحاكم بكل ما يخوله سلطانه أو سلطته من حقوق السيادة على هذه الأراضي الخالية، وهذا الملك المباح أصلا".

ولقد برزت نفس هذه الفكرة بشكل بالغ الصراحة في الإعلان الذي أصدره الخديو إسماعيل، حين شرعت مصر الخديوية في احتلال المديرية الاستوائية جنوب مدينة غندكرو في العام 1869م. جاء في فرمان الخديو إسماعيل: "نحن إسماعيل خديو مصر قد أمرنا بما هو آتٍ: نظرا للحالة الهمجية السائدة بين القبائل القاطنة في حوض نهر النيل، ونظرا لأن النواحي المذكورة ليس بها حكومة، ولا قوانين ولا أمن، ولأن الشرائع السماوية تفرض منع النخاسة والقضاء على القائمين بها المنتشرين في تلك النواحي، ولأن تأسيس تجارة شرعية في النواحي المشار إليها يعتبر خطوة واسعة في سبيل نشر المدنية ويفتح طريق الاتصال بالبحيرات الكبرى الواقعة في خط الاستواء بواسطة المراكب التجارية ويساعد على إقامة حكومة ثابتة، أمرنا بما هو آت: تؤلف حملة لإخضاع النواحي الواقعة جنوب غوندكرو لسلطتنا".

((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
أضف رد جديد