صحافي في نجْد السعوديّة: تجربة خاصة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
íæÓÝ ÍãÏ
مشاركات: 71
اشترك في: الاثنين مايو 18, 2015 4:29 pm

صحافي في نجْد السعوديّة: تجربة خاصة

مشاركة بواسطة íæÓÝ ÍãÏ »

صحافي في نجْد السعوديّة: تجربة خاصة

بدأت ُ العام الماضي (2015) كصحافي متعب ويائس! وما كدتُ أحتفل بعيد الحب في فبراير، حتى وفرّت لي الظروف هجرة سخيّة إلى العربيّة السعوديّة، للعمل في دار نشر يملكها سعودي. اكتشفت، فيما بعد، أن هذا السعودي أقرب إلى المرضى النفسانيين منه إلى الأشخاص بالذوق السليم!

في بادئ الأمر، كنت حذرًا في الاقتراب من فكرة الهجرة، غيْر أنني قبلتُها مدفوعًا بارهاقي وتعبي! ومدفوعًا كذلك، برغبتي في الانتصار لأشخاص يحبونني وأحبهم. وهم أنفسهم، مدفوعين بحسن الظن في مهارتي الصحافيّة، وفي بنيتي الجسمانية الشابة، كمنقذيْن وحيديْن لمستقبلنا من حالة تردٍ عام تعيشها البلاد! وللأسف، كنت ُ موهوبًا في خذلانهم! ربما لتهوري الزائد وافراطي في ارتياد الخيارات الخاطئة، أو ربما لثقتي العمياء في الآخرين!

في الحقيقة، هذه هي المرة الأولى التي أفكِّر فيها أن بامكان الارهاق أن يدفع بالمرء لاتخاذ قرارات أكثر رهقًا وعنتًا مما ينبغي! ففي مطلع أبريل من العام نفسه، كانت الطائرة التابعة للخطوط السعوديّة مستعدة لتطير بي من (الخرطوم) وتهبط مباشرة في (الرياض)، وهكذا فعلتْ، ووضعتني وجهًا لوجه أمام الغربة.. كانت الرياض مشغولة إلى الحد البعيد ببداية ورطتها في اليمن، بل كانت تسارع لتحقيق نبوءة روبرت كابلان التي أذاعها في كتابه (انتقام الجغرافيا) الصادر في مطلع العام نفسه ضمن منشورات عالم المعرفة، قال كابلان: "إن الخطر الأساسي على المملكة العربية السعودية المرتكزة على نجد، هو اليمن؛ فعلى الرغم من أن اليمن لا تملك سوى ربع مساحة أراضي المملكة السعودية؛ فإن سكانها يبلغون الحجم نفسه، تقريبًا، بحيث يقع القلب الديموغرافي البالغ الأهمية لشبه الجزيرة العربية في الركن الجنوبي الغربي الجبلي منها، حيث الهضاب البازلتية الشاسعة التي تنتصب مشكلة تكوينات تشبه القلاع الرملية والفوهات البركانية, في حين تؤوي شبكة من الواحات الكثيفة سكانيًا منذ العصور القديمة".

رغم عدم قناعتي بالبطولات والقدرات الخارقة التي تنسب إلى الفرنسي برنار. هنري ليفي، بوصفه مفجّر الثورات العربية، إلا أنني قرأت أنه قد "ضبط ساعة تفكيك السعودية" عبر مقالة نشرها في صحيفة (جوريسالم بوست) بعنوان "أوقفوا السعودية".. وفي كل الأحوال، سواء كتب ليفي أو لم يكتب، "لن يعود الشرق موجوداً عمّا قريب... كل شيء يتزعزع هناك... ومن عاش طويلًا فسيتسلى" كما جرت عبارة جوستاف فلوبير، ومن بعده كريستوفر ديفيدسون، الذي حدثنا عن أحوال ممالك الخليج "ما بعد الشيوخ"!

من الرياض جاءت سيّارة وأخذتني من الغربة إلى صميم المعاناة؛ في مدينة هناك اسمها (بريدة) بمنطقة نجْد التاريخيَّة! لكني سرعان ما نسيتُ أمر الغربة، ونسيت نبوءة كابلان، واحتضنت معاناة نجْد بكل جدارة! فقد كان التحدي الأعظم بالنسبة لي هو كيفيّة اقناع مديري السعودي المريض، وهو مالك دار النشر، بكفاءتي في ارتياد عالم الكتابة والتحرير الصحفي.. وكنت محل انتقاده طيلة سبعة أشهر قضيتها محررًا أوحدًا بدار النشر التابعة له: كنت أؤدي لدار النشر مهمة مستحيلة، تتمثل في صناعة وتحرير جميع المواد الصحافيّة الخاصة بمجلتين، تصدر كل واحدة منهما في ثمانين صفحة، إلى جانب تحرير الكتب والبحوث الجامعيّة التي تحصل دار النشر على إذن بطباعتها ونشرها. وبالفعل، قمتُ بهذه المهمة الجسيمة التافهة. ونشرتُ، بمجهود خارق، أربعة أعداد للمجلتين معًا، وحررّت كتبًا وبحوثًا عديدة؛ ولم يراجعني أحد في ما كتبته، سوى رئيسي السعودي الموتور، وبلسانه السليط فقط؛ فلو كان يغلِّطني، لعرفت كيف يمكن للصحافي أن يكتب على طريقة صحافة (قريش)، أو الصحافة النجديّة!

كان مديري السعودي يوجّه لي التقريع المجاني بطريقة مأساويّة، مثل قوله إن الإنجليز الذين استعمروا بلدي في القرن الماضي، تركوا فيه خدمة مدنيّة جيِّدة، لكنهم لم يعلموننا الصحافة بالقدر الكافي، بل كان يزعم أننا، كسودانيين، لا نعرف الصحافة، وأنني، بالذات، زوّرتُ جميع الأوراق التي تثبت صلتي بهذه المهنة، وعليَّ، في هذه الحالة، الإشادة به، لكونه وفّر لي فرصة للعمل واكتساب الخبرة من مؤسسته! ووصل بانتقاده إلى مراحل لا يمكنه معها رؤيتي متفوقًا في شيء، فقد كان يعلِّق حتى على ملابسي، ويرى أنها ليست بالأنيقة!


كانت مدينة بريدة هادئة للغاية.. هادئة بلا حياة، وربما تشاهد شوارعها كما لو أنك تشاهد ألبوم صور: ساكنة من أي حركة.. ويمكنني الجزم أنها لم تتغير منذ أن زارها الرحالة تشارلز داوتي، في ﺍﻟﻨﺼﻑ ﺍﻟﺜﺎﻨﻲ ﻤﻥ ﺍﻟﻘﺭﻥ ﺍﻟﺘﺎﺴﻊ ﻋﺸﺭ، اللهم إلا أن ناسها قد استبدلوا الجمال، التي قال داوتي إنها هدية الصحراء للعرب، بالسيارات الأمريكية!

كانت بريدة مدينة بلا مكتبات ثقافيّة، وبلا مسارح، وبلا وسائل مواصلات جماعيّة عامة، سوى تاكسي الأجرة، ولا تصلها أي مطبوعة دوريّة جادة.. كانت سمتها البارزة هو الانتشار الأمني المزدوج الكثيف، قوامه أرتال من سيّارات الشرطة وسيّارات أخرى تابعة لهيئة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الدينيّة. إذْ لن تمر دقيقة دون أن تشاهد واحدة من تلك السيّارات، وفي داخلها عساكر بنظارات شمسيّة مظلمة.

صمِّمت المدينة ليعيش فيها المرء حياة فردانيّة، ولا يستطيع أن يعتني فيها بشيء عام. ومن الصعوبة أن تجد من بين سكانها من يشاركك هواية محببة، وربما كان ذلك دأب جميع مدن الوسط السعودي.. كل هذا وفّر لي شقة صامتة وموحشة في بريدة؛ أجلس فيها الساعات الطوال بعد دوام العمل، أراقب تنفسي، وأحاول تهدئة خواطري المنفلتة، كما لو أنني راهب بوذي يمارس التأمُّل. وفي أفضل الحالات، كنت مثل غرنوي بطل رواية العطر حين اختار السكنى في الكهف البعيد!

بعد مضي تلك الشهور، وجدت أن العمل بدار النشر مهينٌ للذات بطريقة لا توصف؛ فتركته لجميع الآلام التي يمكن توقعها، وعدتُ إلى الخرطوم وأنا أتذكّر أن سعوديًّا من نجْد، عمره أزيّد عن الخمسين سنة، لا يرى أبدًا أبدًا أيّ صلة لي بالكتابة الصحافيّة، كما لا يمكنني أن أتعلمها!


صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

حمد الله على السلامة يا يوسف
بالمناسبة، هذا الرجل يعرف كفاءتك جيدا. ما يفعله هو تكنيك يتقنه بعض السعوديين وغيرهم من بعض الخليجيين وهو جعل المستخدَم يشك في كفاءته
ويظل جالسًا على أمشاط أصابعه، لكيلا يتجرأ ويطالب بزيادة في الأجر. الغرض هو أن يحمد الموظف الله أنه حي يزرق في الحد الأدنى، ويكف عن التطلع.
الموضوع penny and cents شفت كيف؟!
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

يا يوسف،

حين طالعت أولى مساهماتك هنا، هنَّأتُنا - نحن قراء وقارئات، مساهمو ومساهمات سودانفورأول - قائلاً: "يامرحى! ها قد كسبنا سارداً رائعاً!"

في الواقع، أنت ليس لا تتمتع بصلة وطيدة بالكتابة الصحفية فحسب، بل أنت - بالأساس - كاتب إبداعي. وما الكتابة الصحفية، عندك، إلا إحدى التجليات الكفؤة لهذه الخصيصة.

وعدت نفسي أن ألتقيك وضيوفك عبر خيط "كيف تبدو جارتنا من خلف الزجاج". وسأفعل، بعد أن يرأف بي الوقت.
íæÓÝ ÍãÏ
مشاركات: 71
اشترك في: الاثنين مايو 18, 2015 4:29 pm

مشاركة بواسطة íæÓÝ ÍãÏ »

سلمك الله يا دكتور النور حمد


فوق ما قد ذكرت من حيل أهل الخليج وسعيهم إلى " جعل المستخدَم يشك في كفاءته، ويظل جالسًا على أمشاط أصابعه، لكي لا يتجرأ ويطالب بزيادة في الأجر..." فإن تجربتي دلتني على فداحة القهر الذي يعيشه أهل السعودية، ودلتني، أيضًا، على أن مجتمعهم هو مجتمع مقهورين بإمتياز: يبدأ بالقهر السياسي ولا ينتهي بالقهر الاجتماعي والديني، وما سلوك هذا السعودي، صاحب دار النشر، إلا حيلة دفاعية لترميم ذاته المقهورة، إذ لا تستريح هذه الذات إلا بممارسة القهر على غيرها؛ وإلا كيف يحصل على قيمة الاعتداد بالذات الضرورية لعيشيه!؟.
سعدت بوجودك

أرحب غاية الترحيب بالعزيز عادل القصاص


وفرحتي كبيرة بهذا التشجيع الذي خصني به؛ وإذا رأى فيّ ما يجعلني ضمن كتّاب الإبداع؛ فلن يكون ذلك إلا لكوني واحد من الملايين الذين شغفوا بمشروعك القصصي، وتفتق وعيهم على رؤاه.. ولم أكن أدري أن المناسبة ستأتي لأقول إنني شغفت بقصة (ذات صفاء - ذات نهار سادس أخضر) المنشورة بالعدد المزدوج من مجلة (حروف)، وأوصلني الشغف للدرجة التي نسخت فيها النص كاملًا على ورق الكراسات (سنة 1993)، رغم أنني امتلك النسخة من المجلة.
أرحب بك مجددًا
أضف رد جديد