اعادة اكتشاف لينين : تأطير "ما العمل؟"

Forum Démocratique
- Democratic Forum
صورة العضو الرمزية
Isam Ali
مشاركات: 230
اشترك في: الأحد مارس 04, 2007 11:37 pm

مشاركة بواسطة Isam Ali »

الفصل التاسع

ما بعد المؤتمر الثانى
جاءت هيئة تحرير الايسكرا موحدة الى المؤتمر الثانى ، وإنفضت بعد إنقضائه تحمل إنقسامها النهائى وقدر كبير من المرارة . وتبادل الفريقان صراع المحاججة الغليظ ، حتى ظهرت فى نهاية 1904 ملامح الثورة ، فتبدل الحجاج ليمسك بقضايا الصراع الفكرى الاساسية . ووفقا لسردية الكتاب/المرجع المدرسى ، كان " ما العمل؟ " فى موقع المركز للانقسام . فقد حاول لينين ان ينفذ تصور الحزب المعروض فى كتابه . حزب ذوعضوية محصورة ، يقوم على بنية تنظيمية عالية المركزية ، لا يتردد فى الاستغناء الديكتاتورى للمخالفين . ولقد تفتحت اخيرا بصيرة زملائه فى هيئة تحرير جريدة الايسكرا ، وراؤا المترتبات الخطيرة لتجديدات لينين ، فعملوا على تأكيد الطبيعة الديمقراطية للحزب ، وجعلوا من ‘المبادرة الذاتية ‘ للعمال مركز وارضية الفعل الحزبى . او – كما تطرح فكرة الناشطين (فى الاحزاب الاشتراكية الحالية) رجعوا الى الخلط بين الحزب والطبقة وبالتالى رفضوا الدور الطليعى للحزب .

يواصل المرجع/الكتاب المدرسى : لقد راى كل من ليف تروتسكى وروزا لوكسيمبيرج مباشرة النتائج الشريرة " لما العمل ؟ " ، فاتخذا المواقف المضادة للينين . تسجلت كلماتهما كالنبوءة . اطلقت لوكسمبيرج سهام كلماتها وقالت " تاريخيا ، انها اكثر انتاجا واكثر قيمة تلك الاخطاء التى تقترفها الحركة العمالية الثورية ، بالمقارنة مع كل تلك النجاحات المؤكدة من افضل لجنة مركزية ممكنة " . وقالت نبوءة تروتسكى " التنظيم الحزبى يحل نفسه بديلا للحزب ، اللجنة المركزية تحل محل التنظيم الحزبى ، واخيرا ، يحل الديكتاتور نفسه بديلا للجنة المركزية " .

لم اكن انوى ان اتابع هذه القصة بابعد من المؤتمر الثانى ؛ ولكنى بدأت الاحظ ان تلك القصة التى رويتها للتو – تمثل سردية قوية وجاذبة بكل مفارقاتها ، تنبؤاتها وتعاكساتها - وهى دعامة اساسية فى التفسير الشائع لمسالة ‘ القلق بصدد العمال ‘ . فاذا لم يكن الكتيب وثيقة دستورية لحزب من نوع جديد ، اختراع للحزب الطليعى ، اذن لماذا هذا الرفض الدرامى من عديد من اطياف الديمقراطيين الاشتراكيين ، من اكيموف فى اليمين الى لوكسيمبيرج فى اليسار ؟ اذا لم يمثل الكتيب الخظوة الاولى نحو استالين ، كيف - اذن - نفسر النبؤات التليدة للوكسمبيرج وترونسكى ؟
واسأل نفسى مجددا : كيف يمكن لاى شخص قرأ فعلا " ما العمل ؟ " أن يكتب الاتى :" كيف لمارتوف و تروتسكى ان يرفضا التعريف الذى قدمه للعضوية كتيب " ما العمل ؟ " والذى اقترح سلطة مطلقة تمنح للجنة المركزية للحزب ؟ " ( انظر كليف 1975، ص 110. وهايمسون 2004، ص 62 : " طرح نموذج لينين للحزب السرى ذو المركزية العالية فى كتابه " ما العمل ؟ " .)! . لم يكن للكتيب ان يقول اى شئ على وجه الاطلاق ، عن اللجنة المركزية ( وهى التى لم توجد بعد ) او عن اى مؤسسة مركزية . لم يعط الكتاب اى وجهة نظر حول تركيبها او سلطاتها فى مقابل اللجان الحزبية المحلية . امتلك لينين خطة لتحقيق بنية حزبية موحدة على النطاق الوطنى ، وكان يخاطب اناس يشاركونه نفس الطموح . فمسألة درجات المركزية فى تكوين اللجنة المركزية ( والتى لم تخلق بعد ) ، لم تثار فى " ما العمل ؟ " ، هكذا كان الامر وبكل بساطة .

لم يذكر لينين اللجنة المركزية فى " ما العمل ؟ " او فعل ذلك بالاحرى فى فقرة كاشفة ؛ فقد سأل هاهى افضل الطرق للتحضير للانتفاضة الوطنية والتى تلوح فى الافق القريب ؟ هل تقوم اللجنة المركزية بتعين رفاق يقومون بالتخطيط للانتفاضة ؟ حسنا ، ليس لدينا لجنة مركزية بعد ، ولكن حتى ولو وجدت ، فتلك الطريقة هى – بالتاكيد – لا تمثل الاجابة . نحتاج ان نبنى منظمات محلية ، تتميز بثقافة سياسية عالية ، ومنتبهة وبشكل عميق للتطورات الجارية – وشكرا لمساهمتهم فى جريدة الحزب الوطنية السرية – فليس عليهم الانتظار لاوامر عند اختيارهم للحظة المناسبة لاشعال الانتفاضة ( لينين 1958 ، ص 8-179 ).

اذن من اين جاءت الفكرة ان " ما العمل ؟ " يدعو الى سلطات مطلقة للجنة المركزية ؟ ليس من كتابات لينين ، وانما من لوكسيمبيرج . فقد عزفت كل صفحة من كتابها هجومها على لينين قام على إتهامه ، بأنه اراد لجنة مركزية ذات بأس كامل تقوم بالتفكير أنابة عن الحزب ككل . ولم تعط اقل توثيق – على الاطلاق – لهذ الوصف لافكار لينين ، إنها لاتذكر " ما العمل ؟ " – حتى – ولو لمرة واحدة . لقد تم نفى وصفها لافكار لينين ، ، وبشكل مباشر بواسطة لينين نفسه. واذا فكرنا فى الامر نجد ان تقديرها يتميز بدرجة عالية من مجانبة المعقولية ولكن كانت تلك هى قوة سردها ، كانت تلك هى قوة وضعها كشهيدة ثورية ، اعطت حضورا لنسختها عن لينين قبل وفوق كل الدليل النصى الساطع يثبت التصور النقيض ، التصور الحقيقى .

يمكن فقط تقييم الهجوم الحجاجى على لينين فى 1904 ، والحكم على قيمته كمعالاجات ناقدة ل "ما العمل؟" ، على ضوء المحتوى الحقيقى للقضايا مثار الصراع . ولكن لا يوجد تقريرا او رصدا مناسبا لماهية تلك القضايا . فقد تم - تقريبا او يكاد – نسيان كل تلك الاتهامات المتبادلة بين البولشفيك و المنشفيك ، وذلك لان بديهياتها مُناقضة ، لا تناسب سردية الكتاب/المرجع المدرسى المعيارية . لقد بنى الاتهام الرئيسى ضد البولشفيك على اساس المبدأ الديمقراطى للسلطة العليا للمؤتمر العام المنتخب . اما الاتهام الرئيسى ضد المنشفيك فقد بنى على مبدأ طليعية مجموعة حملات تحريك تحريضية ، يتم توجيها مركزيا داخل وخارج الحزب.

يهدف هذا الفصل اولا الى ايضاح القضايا الحقيقية التى نشأت فى 1904 . سنوثق لقضية البلشفيك بالاعتماد على ادبهم المنتج فى تلك السنة . اما فيما يخص قضية المنشفيك ، فسنعتمد فى توثيقها على مخطوطة تروتسكى " اهدافنا السياسية " . التفتُ بعد ذلك الى محاولات المنشفيك للعثور على ادلة تدعم تصويرهم للينين كداعية للمركزية القابضة و كديكتاتور ديماقوقى ينتظر التحقق . وبغض النظر عن خصائص هذا التصوير الحزبى للينين ، الا انه لم يتأسس على " ما العمل ؟ " ، وإنما – وبشكل اساسى – على تعليقات عرضية صرّح بها لينين و مؤيديه . وفى السياق الاخير سنخضع مقالة لوكسيمبيرج للفحص الدقيق .

حظيت موضوعة المثقفين والعمال على قدر كبير من الشهرة واثارت سحب الخلاف فى 1904، ولذلك سنكرس لها جزءا من هذا الفصل من الكتاب . وهنا كذلك تأتى النتائج مخالفة لما يطرحه المرجع/الكتاب المدرسى كبداهات ، تضع لينين مطلقا لسردية تعادى المثقفين ، مصرا على تمثيل العمال فى اللجان الحزبية ، بيينما يدافع المنشقيك عن دور المثقفين كمعلمين للعمال .
يطرح مارتوف تصويرا للموضوعة ، اثار دهشة البولشفيكى ميخائيل اولمنسكى ، والذى لخص تصور مارتوف للخلاف : " حزب عمالى ام منظمة من المثقفين تقود جماهير من البروليتاريا غير القاصدة – هكذا يقف السؤال . تاكتيكات ديمقراطية اشتراكية متنوعة ، تعمل على تطوير هذا النوع من الاحزاب ، ام تكتيك بسيط يتمثل فى تسجيل ودفع تلك الجماهير فى صراع عام ضد الاتوقراطية على ارضية ثابتة من السلبية السياسية للفئات المتقدمة من البروليتاريا؟ الحركة السياسية الذاتية للبروليتاريا ام الوصاية الدائمة عليهم من منظمة غير بروليتارية ؟ هكذا يقف السؤال ، والذى يجب على كل عضو فى الحزب ان يأتى باجابة واضحة عليه ، اجابة مؤكدة " .

أشاد اولمنسكى بمارتوف لتوضيح موضوعة التنازع . بالطبع فان مصطلحى المنشفيك والبولشفيك قد تم تجاوزهما الان ، طالما صار المنشفيك ابطالا وغدا البولشفيك – كما هو واضح –جماعة من الاشرار ، وبتبنى هذه اللغة يمكن عرض مواضيع الاختلاف كما يلى :
يريد الابطال (الاخيار) حزبا بوليتاريا ، بينما يريد الاشرار منظمة من المثقفين تقود جماهير العمال غير القاصدين . يريد الابطال تتكتيكات حزبية متنوعة تقود الى تطوير عناصر الحزب البروليتارى ؛ بينما يريد الاشرار تكتيكا حزبيا بسيطا ، يعمل على دفع الجماهير الى الصراع ضد الاتوقراطية ، وعلى اساس او بالرغم من السلبية المستقرة للفئات المتقدمة من البروليتاريا . يريد الاخيار المبادرة السياسية الذاتية للبروليتاريا ؛ بينما يريد الاشرار الاستمرار فى عملية وصاية مستمرة على البروليتاريا . يريد الاخيار احترام الابوين ، حرية الاختيار فى الزواج والتنشيئة السليمة للاطفال . يريد الاشرار تحطيم المؤسسة الاسرية .

اشاد اولمنسكى بمارتوف لتوضيح مواضيع النزاع بطريقة كان من شأنها ان تعيد وحدة الحزب . تبرز سخرية اولمنسكى ملمح مليودراما الابطال/الاشرار ، والتى لاتزال سائدة فى تفسيرات الانقسام . يهدف رصدى للانقسام الا يكون منحازا ، يقوم فقط على المراجع المتوفرة . ولكن وفى ظرف المناخ السابق ، فان رصدى سيتم تصويره كانحياز للينين ، حيث اننى ساجبر على اظهار ان للبلشفيك قضية ذات قابلية اكبر للدفاع عنها اكثر من مجرد قصة الاشرار المعتادة المنسوبة لهم . اعتقد ان رصدى هو اول رصد اكاديمي يستخدم بشكل نظامى مصادر اخرى غير لينين لتوثيق قضية البلشفيك . وهذا يعضدد موقفى ، حيث ان كتابات البلشفيك كثيرا ما عبرت عن المواقف بطريقة اوضح واكثر فعالية مما فعل لينين . وتحوز اهمية خاصة هنا كتيبات اصدرها اثنان من الناشطين العاملين داخل روسيا اولمنسكى والكساندر بوجدانوف . ومقرؤية هذه الكتيبات تقارن بشكل افضل عن الادب المنتج من المهاجرين ، والذى تغلف بصراع الشخصيات لتغمض القضايا الحقيقية . وبينما اولمنسكى وبوجدانوف حزبيين ملتزمين الا انهما كانا على مسافة كافية ليكونا بارعين حقا ، بدلا عن ساخرين فى غضب .

اعتقد ايضا ان مدخلى غير المنحاز حزبيا سيفيد المنشفيك ، فبعض الكاتبين من الناشطين السياسيين المعاصرين فى انحيازهم للينين - فى اعتماد على بعض اندفاعاته الجدالية - يصورون المنشفيك كمرتبكبن ازليين فيما يخص موضوعة الطبقة مقابل الحزب . وكما ساوضح فقد كان للمنشفيك حس قوى ان الحزب ليس هو الطبقة وليس ممثلا لها ، وانما بالاحرى طليعة وظيفتها مد الطبقة بالانتباه الاشتراكى . واعتقد ان عديد من ممثليهم – كاكسرود ن مارتوف وتروتسكى – لم ينتبهوا او اساءوا فهم قلب قضية المنشفيك .
صورة العضو الرمزية
Isam Ali
مشاركات: 230
اشترك في: الأحد مارس 04, 2007 11:37 pm

مشاركة بواسطة Isam Ali »

ما بعد المؤتمر الثانى : القضايا لحقيقية

تمثّلت الغرابة فى نقاشات 3-1904 فى ان كل طرف فى النقاش لم يلحظ او قلل من قيمة المواضيع ذات الاهمية القصوى للطرف الاخر . اتهم البولشفيك قادة المنشفيك ب " الانتهازية التنظيمية " . تهكّم المنشفيك ضاحكين وقالوا ( اى نوع من الانتهازيين يمثله مارتوف ، او اسكلرود او استاروفر؟ ) وشاركهم كاوتسكى الضحك . بالمقابل اتهم المنشفيك خصومهم بالاستغراق فى القضايا الصغيرة – نسبيا- تعميهم عن رؤية الاخطار الحقيقية – اخطار "الانتهازية التكتيكية " ، والتى نتجت عن التأكيدات القديمة من الايسكرا على مجرد الثورة السياسية - فقط - من اجل الحريات الديمقراطية (بليخانوف 1904 ) . لم ينضم البولشفيك الى معركة التاكتيكات الا فى اواخر 1904 ، عندما اقترحت قيادة المنشفيك حملة محددة ( المسماة بخطة زمستفو ( وزمستفو هو نظام من الحكم المحلى يملك قوى حكم ذاتى محدودة ، يقوم على انتخاب ممثلين لمختلف الطبقات – المترجم)) ، وقد مثلت تجسيدا لتفكيرهم . وقد مثل الصراع الفكرى حول خطة المنشفيك نقطة تحول ، وفتحت فصلا جديدا فى تاريخ الحركة الديمقراطية الاشتراكية الروسية .

لم يكن النقاش – والمحبط لدرجة ما – فى 3-1904 ، قائما حول القضايا العميقة ، التى رغب بعض الناس فى العثور عليها . ومن الناحية الاخرى لم يكن ايضا سلسلة من الاشتباكات التافهة . يمكننا ان نسميه انقساما متميزا قام حول قضايا عملية . كانت مداخل ومخارج الصراع بين القيادات فى المهجر معقدة ومليئة بالتعرجات . بداءً ، طرح المنشفيك أنفسهم كمدافعين عن اللجنة المركزية المنتخبة حديثا ، ثم بعدها قادوا ضدها الحملات الصليبية . فى البداية مثلت الهيئة الجديدة لتحرير الايسكرا قاعدة لينين ، ثم اللجنة المركزية الجديدة ، وقد إنقلب غلى كليهما فى اخر المطاف . نحتاج ان نرسم مخططا لتوالى الاحداث ، وبدون المرور على كل تفاصيل الدقيقة لهذه المؤسسات ، حتى نتمكن من فهم تلك الصراعات .
عندما التأم جمع المؤتمر الثانى فى بروكسل ثم لاحقا فى لندن ، كانت اغلبية المناديب ممثلين للجان مخلصة للايسكرا . وقاد المعارضة مناديب جريدة قضية العامل والمنظمة اليهودية ، وقد هجرتا المؤتمر فى منتصفه . تماسكت الاغلبية – التابعة للايسكرا – حول القضايا البرنامجية ، وحول معظم قضايا التكتيك . حدث انقسام جدى حول بند فى الاحكام والذى حدد تعريف العضو ( او وضع عضو الحزب ) ، وسوف ننظر الى ذلك الخلاف الشهير لاحقا ، لكن ارجو ان نلاحظ ان اوصاف الاغلبية والاقلية لم تنشأ من هذا الصراع ، حيث ان المنشفيك بقيادة مارتوف فازوا به .

اتى الانقسام الاكثر اهمية حول اختيار هيئة تحرير الجريدة (الايسكرا ) . قرر المؤتمر ان تكون الايسكرا هى الجريدة الرسمية للحزب . وقد اثار ذلك سؤالا دقيقا وكبير الاهمية : هل للحزب – ممثلا بالمؤتمر – الحق فى تسمية اعضاء هيئة التحرير ، وهو الحق الذى كان محصورا فى يد مجموعة الايسكرا نفسها ؟ كانت اجابة لينين وبليخانوف بالايجاب ، واقترحا تحديد عضوية الهيئة ب 3 اشخاص واقترحا نفسيهما ومارتوف . لم ينكر – حقا - مارتوف والمحررين الثلاثة السابقين (اكسلرود ، بتريسوف و زاسوليتش) الحق الرسمى للمؤتمر فى تسمية المحررين ، ولكنهم اعتبروا ان عدم تعيين كامل الهيئة السابقة يمثل كارثة سياسية . رفض مارتوف الاشتراك فى الهيئة الثلاثية ، وانضم الى الثلاثة ( الى جانبهم تروتكسى واخرين ) فى مقاطعة العمل فى المؤسسات الحزبية . لقد كان الاضراب العام للجنرالات (the general strike of the generals ) .

فى الثلاثة شهور اللاحقة بعد المؤتمر صدرت الايسكرا تحت هيئة تحرير ثنائية من لينين وبليخانوف ، كان الاخير خلالها بلشفيا صلدا . ثم اتجه لما يمكن وصفه بالبلشفى المساوم ؛ فقد قرر – ولاجل تحقيق السلام – انه من الافضل إستيعاب المحررين القدامى فى هيئة التحرير ، بالرغم من انهم اظهروا- سوى عن طريق عدم الفهم او القصور الذاتى - ميولا انتهازية . تطلب مثل ذلك الاستيعاب اجماعا ، ولكن لينين شعر بان حدا كافيا من التنازلات قد تم تقديمه بالفعل للمقاطعين ( منحهم مساحة كافية من صفحات الايسكرا لطرح اعتراضاتهم ، او – حتى – منحهم جريدة خاصة بهم ) ؛ وعليه رفض فكرة استيعابهم . هدد بليخانوف بالاستقالة ، وتحت تلك الضغوط ، اجبر لينين نفسه على الاستقالة . عندها قررت هيئة التحرير – من عضو واحد ( بليخانوف ) – استيعاب كل عضوية الهيئة القديمة . وحدث ما يشبه انقلاب القصر داخل الايسكرا: خرج محرر اختاره المؤتمر ، ليدخل المحررون الذين رفضهم نفس المؤتمر .

كيف سيتصرف البورد الجديد ؟ هل سيعتبر نفسه ممثلا للغالبية فى المؤتمر ، ويتجه لاحلال السلام داخل الحزب كما تمنى الشيخ الجليل بليخانوف ؟ ام ستوفر ارضية لتوقعات لينين المتشائمة حول ابتعاد السلام المرتجى لمداهات قصية ؟ جاء الجواب فى العدد الاول من الايسكرا تحت ادارة البورد الجديد ، فقد اعادوا إنتاج وثيقة قديمة ، كتبت فى الصراع ضد الاغلبية – حينها - بعنوان " مرة اخرى .. فى الاقلية " . حاججت تلك الوثيقة – والتى تسمى الان " مؤتمرنا " – أن قرارات المؤتمر ارتكبت اخطاء كثيرة وبطرق متعددة . بالنسبة الى البلشفيك ، مثلت تلك المقالة - لكاتبها مارتوف فى عدد الايسكرا رقم 53 – نقطة تحول فى ذلك الصراع . فهى تعلن وبفصاحة استقلالها عن – وحتى عداءها – لارادة المؤتمر الحزبى .

اذن ، ماهو البرنامج الجديد لهيئة التحرير الجديدة ؟ كتب اكسلرود عدة مقالات بعنوان " وحدة الديمقراطية الاشتراكية الروسية ، واهداف الحزب " . وفقا لاكسلرود فان المهام الملحة التى تواجه الحزب ، هى انتاج تاكتيك سياسى يؤكد التمايز الطبقى للبروليتاريا . لقد اهملت فترة الايسكرا السابقة تلك المهام ، واحتل النضال ضد القيصر كل مساحة الاهتمام . تحتاج البرجوازية كما العمال الحريات السياسية ، ولكنهم العمال فقط هم من يحتاجون الاشتراكية ، وعلى الحزب ان يعمل على اقناع العمال بهذه الحقيقة . بالنسبة للمنشفيك ، فقد مثلت هذ المقالات نقطة تحول كبرى ، فهى تمثل منهج عمل يطرحه احد الزعماء المؤسسين للحزب ، يحدد المهام العاجلة المطروحة امام الحزب .
لقد تم الفرز ورسمت الحدود . امتلك كل فريق على الجانبين ، قدرا مناسبا من الاحساس بالظلم وفيضا من المرارة ؛ فالينطلق الصراع . اغلقت مداخل الايسكرا فى وجه لينين ، فعبر عن استيائه فى مخطوطتين . جاءت الاولى كمقدمة جديدة لوثيقة حزبية رسمية مؤثرة قديمة (صدرت فى 1902 ) بعنوان " رسالة الى زميل بصدد قضايا تنظيمية " . احتوت المقدمة الجديدة للمخطوطة القديمة على معالجة نقدية كاسحة لمقال اكسلرود فى الايسكرا . وانتجت المخطوطة الثانية كتابه " خطوة الى الامام .ز خطوتين الى الوراء " . جاء الكتاب كفحص تفصيلى لقرارات المؤتمر الثانى ، وقد استهدف توضيح سيادة اغلبية صلدة للايسكرا فى المؤتمر بقيادته وبايخانوف ، بينما نالت اقلية الايسكرا بقيادة مارتوف واكسلرود دعم مجموعات مشبوهة خارج مناديب الايسكرا ، الامر الذى يكشف انتهازيتهم الابتدائية . وعليه اقام لينين الادعاء بانه ومجموعته يستحقون وصفهم كاغلبية تسد عين الشمس .

اشعلت مخطوطتى لينين الغضب فى صدور رفاقه السابقين ، لقد كان اثرهما باتعا – واشد خطرا من " ما العمل ؟ " – فى تحديد محتوى وصوت قضية المنشفيك . تميز كُتاب المنشفيك غضبا من لينين، ليس فقط لانه صورهم كانتهازيين ، ولكن – وبشكل اساسى – لانه قوّض شرعية القيادة الحزبية فى وقت احتاج فيه الحزب لوحدته لمواجهة تلال التحديات الجديدة . فاتجهوا الى شن حملة ادبية واسعة ضد لينين ؛ ركزت جبهة منها على " الرسالة .." و"خطوة الى الامام .." . استدعت جبهة اخرى الاسلحة الثقيلة من الغرب ، القيادات المرموقة ذات الفخامة ككاوتسكى وروزا لوكسمبيرج واخرين ، فكتبوا فى الايسكرا مهاجمين لينين . اما الجبهة الثالثة فكانت كتاب تروتسكى الكثيف " واجباتنا السياسية " والذى نشر فى صيف 1904 بدعم رسمى من هيئة تحرير الايسكرا.

رد البولشفيك على الهجوم الكبير ، بمناقشة مواضيع الصراع داخل اللجان الحزبية ، واستصدار القرارت الحزبية ، والتى جاءت لصالحهم ، الى جانب اصدار القليل من الكتيبات . لم تكن حملتهم الادبية المضادة مؤثرة من الناحية الكمية ، بالذات فى شح منافذ الاعلام المتوفر لهم ، مع قلة فى الموهبة التعبيرية ( كان التعب والاستهلاك قد لحق بلينين بعد خطوة الى الامام ) . تمثلت اكبر استجابات البولشفيك فى اطلاق حملة من اجل انعقاد مؤتمر استثنائى كطريقة ديمقراطية لحسم الشقاق . قررت اللجنة المركزية ( والتى تحولت للمواقع ضد لينين ) ان المؤتمر الاستثنائى سيمثل تحويلا مبذرا للموارد الشحيحة ، ومنعت اى دعاية داخلية حزبية تدعو لانعقاده .
اخيرا ، وفى نوفمبر 1904 ، انجز المنشفيك وعدهم بتقديم تاكتيك سياسى يعبر حقا عن الديمقراطية الاشتراكية . فقد اقنرحوا حملة لتقوية المعارضة الحكومية ، تخوضها مجموعات صفوية كالزمستفوات (Zemstvos )( مجموعات محلية تملك قوى حكم ذاتى محدودة ) . فتح الهجوم الجارح على الحملة من قبل لينين فصلا جديدا للعلاقة بين البولشفيك والمنشفيك ، فيه تصارع الطرفان حول التوازن الحقيقى للقوى الطبقية فى روسيا ، والاختيارات الحرجة التى تواجه الديمقراطية الاشتراكية الثورية . للاسف سنعادر هذه المحطة الشيقة لنواصل فى قضايا اخرى .

قضية البلشفيك : الحداثة مقابل الدوائر الصغيرة

حدد البلشفى ليادوف فى 1904 جوهر البلشفية باستخدام الكلمة الروسية (partiinost ) والتى يمكن ترجمتها فى اللغة المعاصرة الى " التصرف بما يناسب الحزب السياسى الحديث " . كانت الدائرة الضغيرة (kruzhok ) هى الوحدة الاساسية للتنظيم الحزبى قبل وجود الاطار التنظيمى على المستوى الوطنى . لم تعتبر الدوائر الصغيرة وجود سلطة عليا ، وذلك لعدم وجودها فى الواقع . كانت الدوائر الصغيرة مكونة لنفسها ، طوعية ، تتصرف بما يناسبها . كانت الايسكرا نفسها دائرة صغيرة طرحت على نفسها مهمة منح الحزب برنامجا عاما . لم تكن تملك اى قوة سوى قوة حجتها ، ولم تخضع لاى سلطة سوى حسها بالمهمة . انهى المؤتمر الثانى عهد الدوائر الصغيرة ، او كان عليه ان يفعل ذلك . حصلت الايسكرا الان على قوة شرعية ، فهى الان هيئة مركزية حزبية شرعية ، وبنفس المنطق فهى الان خاضعة لسلطة الحزب كمنظمة وطنية تمتد على نطاق البلد ، تنطق هيئة تحريرها باسم الحزب ، تعبر عن برنامجه وتكاتيكاته المجازة من قبل المؤتمر العام .

ولكن ، تأبى العادات القديمة مغادرة اسقرارها العتيد ، تحديدا عند المثقفين الذين ينحون تجاه التفرد . شعر قدامى المحررين فى الايسكرا بحقوق شخصية حصرية لكراسى تحرير جريدة الحزب . شعروا بان لديهم الحق لدعم اى سياسة يرون افضليتها ، حتى ولو تعارضت مع سياسات المؤتمر . كانوا متشوقين للسلطة يمنحها الحزب ، ولكن لا وقت لديهم للانضباط الذى يصحبها .
كان ذلك هو قلب الاتهام الذى بنى قضية البولشفيك . فعندما تكلموا عن " الفوضوية الفردانية " للمثقفين ، لم يكونوا قاصدين للمثقفين المحليين وهم يرفضون الانصياع لقرارات لجانهم المحلية ( الفروع الحزبية ) . لقد كان مثالهم المذهبى لعدم انضباط المثقفين هو المقاطعة ، والتى تبعها الاستيلاء على الجهاز المركزى بواسطة مارتوف ، اكسلرود ،بوتريسوف و زاسوليتش . حدد لينين جوهر قضية البولشفيك فى رده على تهمة لوكسمبيرج الخاصة بالمركزية المفرطة ، فى تساؤل فصيح : " لو ان الزميلة تعتبر الوضع طبيعيا – هل تسمح ان تحدثنا – لو انها لاحظت فى اى حزب – سيادة الاقلية التى ظهرت فى المؤتمر العام للحزب على الاجسام المركزية لذات الحزب ؟ " .

صوّر اولمنسكى الموضوعة مستخدما النظام السياسى الغربى كوجه للمقارنة . فالمؤتمر الحزبى هو البرلمان ، القوانين الحزبية هى الدستور الذى لا ينتهك ، تعتبر قيادة الحزب – بما فيهم هيئة تحرير الجريدة – ممثلين للحزب ، معبرين عن قرارته . بالمقابل فقد كان المنشفيك بونابرتيين ، انجزوا انقلابا عن طريق قانونية مشبوهة . هم ارستوقراط ، ظنوا انهم غير قابلين للاستبدال ، ورفضوا النقد واعتبروه طعنا فى الذوات الملكية . وطالما انقسمت هيئة تحرير الايسكرا القديمة ( خمسة مقابل واحد (لينين)) ، فقد استطاعوا اتهامه بالطموحات الديكتاتورية ، بينما استمروا فى التصرف كاوليجارشية يتخذون القرارات والافعال ، الواحد تلو الاخر ، مرجعيتهم الذات .

ماذا كانت رودود فعل المنشفيك ؟ جاء احدها ليصور لينين كغول ( وحش مفترس) يجب ازاحته من سدة القيادة . سنناقش لاحقا ذلك الجزء من ردود فعلهم عند عرض قضيتهم . ايضا طرح المنشفيك – وإن بدرجة غير مباشرة وبطاقة اقل – مناقشة مسببة ضد تطبيق مبدأ المؤتمر كاعلى سلطة على حزب يعمل فى ظروف السرية . لملمتُ وجهة نظرهم من تعليقات متناثرة ، وبعد وصل النقاط تمكنتُ من الوصول الى التالى :
يتحقق تماسك الحزب الديمقراطى الاشتراكى بتفعيل مبدأين . احدهما – حقا – نموذج منظمة وطنية ديموقراطية كما تتجسد فى ، وتعبر عنها سلطة المؤتمر . وثانيهما استمرارية وهيبة القيادة العليا . وتتحقق افضل الاوضاع عند عمل هذين المبدأين سويا – كما كان يمكن بل يجب ان يحدث فى روسيا . ولكن من هو الملام عن قرار المؤتمر الثانى الذى سبب انقسام القيادة الحالية ، وتخلّص من اكثر القادة ذوى الهيبة والفخار .؟ إنه لينين وليس احد سواه ( تم التغاضى عن دور بليخانوف فى تلك الاحداث ، وبشكل مقصود ) . ( ملحوظة : النسخة الاصلية من مخطوطة تروتسكى " تقرير مناديب سيبيريا " ، والتى كتبت مباشرة بعد المؤتمر الثانى ، عزفت على نغمة بليخانوف كاداة فى يد لينين ، ازيلت كلها فى الطبعة الثانية للتقرير بعد عدة شهور (شوتسكيفر 1925 ، ص 25 )) .

وعليه فقد خلق لينين وضعا وعرا ، ترتب عليه ان يتم الاختيار بين احد المبدأين الاساسيين لوحدة الحزب . كان تماسك القيادة هو الضامن الوحيد لوحدة الحزب فى ظروف العمل السرى . وعليه فإن الوضع الشاذ الذى خلقه المؤتمر الثانى يمكن تدراكه باعادة اكبر قدر من هيئة التحرير القديمة الى موقعهم السابق . لقد كان مبدا المؤتمر كاعلى سلطة فكرة ناقصة وضعيفة ، ولكل الاسباب التى ذكرها لينين فى " ما العمل ؟ " : الانتخابات المفتوحة ، الانفتاح (جلاسنوست) الضرورى لتمكين الناس من القيام بخيارات قائمة على المعرفة ، النقاش الواسع للمبادئ والتاكتيكات . كل ذلك لم يكن متاحا . فقد إتسمت اللجان التى قامت باختيار مناديبها بانخفاض مؤهلاتها الديمقراطية ، باسباب ظروف العمل السرى ، التغير المستمر فى الكادر وتوالى تغير العضوية والانقسامات المحلية . اللجنة الحزبية يمكن ان تعلن ولاءها للايسكرا ، ثم فى غضون اسبوع ، يحدث انقلابا ، وتعلن اللجنة رفضها للايسكرا . ففى وجود هذ النوع من المشاكل ، كان من المضحك أن تؤخذ اغلبية بسيطة فى المؤتمر ، وتستخدم لعزل قيادات عليا .

الى جانب ذلك هناك الحقيقة المزعجة ، وهى ان الناشطين الحزبيين يصعب ان نثق فى قدراتهم وحكمتهم ليكونوا مصدر الكلمة الاخيرة . فعلى عكس تجربة الاحزاب الغربية لاتوجد طليعة بروليتارية مؤسسة بشكل راسخ – فقط جمع من المثقفين وعمال متخلفين . اكثر من هذا ، فقد خلقت الايسكرا فى الفترة المباشرة بعد انتهاء المؤتمر الثانى ، خطا حزبيا يركز على جانب واحد هو مجرد الثورة السياسية ، وارتبط ذلك بافكار غير واقعية حول القضايا التنظيمية . احتاجت هذه الاخطاء تصحيحا ضروريا بواسطة الاقلية التقدمية والتى اشارت الى الطريق الصحيح الواجب اتباعه .

تطلبت الحملة الحزبية التى نادى بها المنشفيك بنية قيادية موحدة تتسم بالهيبة والفخامة . يرمز اسم المنشفيك الى بنية تصوراتهم ووجهة نظرهم ، فقد اختاروا لانفسهم اسم المنشفيك اى الاقلية . وهنا اؤكد على اختاروا لانفسهم ، لان هناك وحهة نظر منتشرة تقول ان لينين الصق اللقب وبذكاء على المنشفيك البسطاء ، حيث ان الاغلبية تعنى الامتياز السياسى تفقده الاقلية . ولكن نظر المنشفيك للمسألة بطريقة مختلفة ، فقد خرجوا من صراعات 3-1904 حاملين لفكرة الاقلية كطليعة ت قدمية تقود المسار .

كتب مارتوف فى 1901 مقالة بعنوان " دائما فى الاقلية " معقبا على إتهامات اطلقتها جريدة قضية العامل ضد الايسكرا ، حيث اتهمتها بانها تحدد (اى الايسكرا ) وبكل الصلف القوانين التى تحكم الحزب . شرح مارتوف كيف حازت – ولفترة بسيطة – تيارات الماركسية المسموح بها قانونيا ، والاقتصادويون .. الخ ، على وضع الاغلبية ، ولماذا حملت الايسكرا لوحدها واجب مقارعتهم . خلص مارتوف الى : " ستجد الانتلجنسيا الاشتراكية الدعم فى رؤياها العلمية ، والتى ستسمح لها بتحطيم كل القيود التى تلقيها ايديولوجيا المجتمع البرجوازى . بعدها لن تكون خائفة اذا اعتبرهم كل العالم طائفيين . ثم بعدها ستتفهم كامل الواجب الاخلاقى – فى ظروف معينة – فى البقاء دائما فى الاقلية " .كتب مارتوف مباشرة بعد المؤتمر الثانى مخطوطة بعنوان " مرة اخرى فى الاقلية " . وبعد ان امسكت ‘ الاقلية ‘ بهيئة تحرير الايسكرا ، طبعت نسخة معدلة من المخطوطة وقُدمت كمنفستو لهيئة التحرير الجديدة . اذن لقد كان المنشفبك فخورين بلقبهم ، يسند فخرهم تصور متماسك للحزب .

ومع ذلك كان المنشفيك سادرين – وبلا فكاك - فى الموقع الزائف . لقد كان لينين محقا فى تحديده أن وضع "الاقلية التقدمية " ، ووضع المحررين للجريدة الرسمية المركزية للحزب إتسم بالتوافق فى مستوى الدرجة الادنى . تسبب ذلك الموقع الزائف فى انتاج ادب للصراع ، تميز بعدد من الخصائص ، منها الانشغال الاستحواذى بالشيطنة الشخصية للينين . فلم يتم الهجوم على وجهة نظره ، لم يتم نقد افعاله فحسب ، بل تم الطعن فى دوافعه ، تمت السخرية من امكانياته ، صورت شخصيته بالالوان القاتمة والظلام . صور لينين كديماقوقى جائع للسلطة ، يسعى لتحطيم الحزب تقوده دوافعه المظلمة الوضيعة . بدأ عزف طبول الاتهامات الشخصية مباشرة بعد انتهاء المؤتمر بمقالة لتروتسكى " تقرير مناديب سيبيريا " ، فيه تم تسمية لينين بروبسبير المجنون المستعد لتصفية زملائه الحزبين ( شتسكفيفر 1925 ، ص 484 ، 3-494 ) . واستمرت حملة الطبول الزاعقة بلا توقف طوال تلك السنة ، بمساهمة متحمسة من قبل زملائه السابقين .
لم يكن هناك مقابل حقيقى لهذا فى حجاج البولشفيك بالرغم من غضبهم وانحيازاتهم الحزبية الوطيدة . وتتطلب هذه المفارقة تفسيرا . بالنسبة للبعض ( اغلبية العاملين فى التقاليد الاكاديمية ) فالامر بسيط ، فلينين هو فعلا وغد جائع للسلطة ، ولم يكن المنشفيك سوى متحليين بالمسئولية عندما اشاروا الى تلك الحقيقة . وبالنسبة لاخرين ( اغلبية الناشطين السياسيين ) ، لاتوجد اسرار خاصة هنا ؛ فمن الطبيعى لثورى مخلص ان يكون هدفا لانتهازيين ممتلئين بالغضب العارم وبالحموضة . ولكن التفسير الذى يقف على ارضية ووقائع السياسة ، يشير الى احساس المنشفيك بانه يتوجب قيادة الحزب بواسطة نواة متماسكة متوحدة ذات هيبة وسلطان . ويبدو ان ذلك لم يتحقق بسبب لينين . واحساس اخر يشير الى انه لو ان تلك النواة القيادية استمرت فى وحدتها ضد لينين ، فليس هناك قوة فى الارض تحميه من الدمار .

عبر اكسلرود عن الاحساس الاول فى خطاب الى كاوتسكى ، حيث كتب :" باعتبار هذه الظروف لحزبنا [ نكوص فكرى فى صفوف الاغلبية ] فمن السهل تنفيذ سياسة من الديماقوقية البونابرتية ، ووضع العراقيل امام تركيزنا لكل قوانا الباحثة عن طرق جديدة ووسائل لرفع الحزب الى مستويات جديدة من التطور بالمعنى البروليتارى المبدئى ... لينين وتابعيه وبكل وسائل التشويش التنظيمي ، والبذر المنهجى للشكوك على نقدنا وتفسيراتنا الايجابية ، يدفعون الحزب – ليس فقط للانقسام – بل الى التفكك المكتمل " . اما الاحساس الثانى فقد عبر عنه بليخانوف ، كما حكى زينوفيف بعد عدد من السنوات اللاحقة : " دعنى استرجع اول مناقشة لى مع بليخانوف عندما اخافنا بقوله : عليكم اعتبار من الذى يقف فى صفنا : مارتوف ، زاسوليتش ، اكسلرود والبقية ؛ ولكن فى صفكم يقف فقط لينين . وانتم تعرفون كيف ستغدوا الاشياء فى غضون شهور قليلة ، ستضحك كل العصافير على لينينكم ! وانتم تتبعونه " .

اذن ، فقد اعتقد المنشفيك بسهولة التخلص من لينين ، وكان لمفاجأتهم غير السارة ان يكتشفوا عكس ذلك ، واضطروا محبطين الى الاقرار بأنه كان بطلا للناشطين الحزبيين ؛ فقد كان قاعدة قوته خارج النواة القيادية . لقد نجا لينين من المذبحة ، ويجب ان يكون سبب ذلك لانه ديماقوق . والاخير يحتاج الى الدهماء الذين يمكن خداعهم بسهولة . وهكذا اضطر المنشفيك الى توسيع محيط نقدهم ليضم اغلبية الناشطين الحزبيين . وقد مثلت المرارة والاحتقار الموجهة نحو الناشطين الحزبيين سمة اخرى من سمات الحجاج المنشفيكى فى 1904 . وبينما وجهت الاساءات رسميا نحو مناصرى لينين ، الا أنه لم توزنها او تقابلها اى اشادة او تشجيع للناشطين فى صفوف المنشفيك . يمكن تمييز شعور من السخط من قبل متعلمى المهاجرين - اولئك المواطنين العالميين – تجاه شباب الناشطين الحزبيين شبه المتعلمين والقاطنين للاقاليم المختلفة فى روسيا . وقد اتى التعبير الاكثر شمولا لتلك الميول فى سلسلة من المقالات نشرها بوتريسوف فى 1905 . وقد صورت تلك المقالات تاريخ العمل الثورى السرى الروسى كسلسلة من المغامرات الفاشلة قامت بها محموعة من الناشطين الاقليمين والمعتدين بانفسهم بشكل كوميدى . ولقد حظى لينين بالنفوذ وسطهم لانه شارك وعمل على صياغة وعكس تلك الاوهام .

لايوجد شئ مثل هذا فى حجاج البولشفيك ، والذى صُوّبَ حصريا ضد هيئة تحرير الايسكرا وحلفائهم ، مثل تروتسكى . التقط سريعا كل من اولمنسكى وبوجدانوف هذه السمة فى كتابات المنشفيك ، وقد صورا الانقسام كصراع بين ارستقراطية الحزب واصحاب الفخامة من كتاب المهاجرين فى جانب ، والدهماء و المترقين ( الرانكرز ) فى الجانب الاخر . وجدت قيادة المنشفيك نفسها فى وضع يتسم بالمفارقة الصرفة . فالايسكرا هى الجسم المركزى الناطق باسم الحزب . ولكن من صفحاتها فى 1904 ( ومن صفحات كتاب تروتسكى "اهدافنا السياسية ") ، يمكن رسم صورة محطمة للحزب الروسى ، سياساته وشخصياته . صورة كتبت بغضب وبكامل العداء . جمع اولمنسكى عددا من مثل تلك الصفحات ، وتساءل لماذا يقوم اولئك الناس الذين رفعوا الى سدة القيادة بواسطة هؤلاء الناشطين المحتقرين ، بالاساءة الى الحزب بهذه الطريقة ؟

لقد عمل موقع المنشفيك الزائف – التحكم غير الشرعى سياسيا على جهاز مركزى – على تقويض كبير لقضيتهم ، فقد تم تصوير الايسكرا كجريدة ناطقة باسم تيار محدد بدلا عن جريدة ناطقة باسم الحزب . فى الحقيقة فقد فاز لينين فى هذا الصراع ، ذلك المتعلق بوضع المؤتمر كاعلى سلطة حزبية ، وقد تم قبوله لاحقا من كلا الطرفين ، كما عكس ذلك قبول المنشقيك فى 1905 لتعريف لينين للعضو الحزبى ( كما سنناقش لاحقا ) . وبكل صعوباته ثبت غياب امكانية الاستغناء عن مبدا سلطة المؤتمر ، فبدونه – على الاقل ، وبغض النظر عن جمع الاسباب الاخرى - لا يمكن الحصول على اغلبية . اضافة الى ذلك فقد ثبت أن مبدأ وحدة وهيبة نواة القيادة لم يكن اكثر من امنية . كان يمكن تصوير لينين فى 3-1904 كمصدر وحيد يهدد تلك الوحدة ؛ ولكن بنهاية 1904 بدأت تلك النواة الصلدة فى التشقق . فمن قمة مجموعة الناطقين العليا ظهرت اربعة توجهات متمايزة : بليخلنوف ، مارتوف واكسلرود ، بوتريسوف و زاسوليتش ، تروتسكى .
اخيرا ثبت انها حسابات خاطئة ، تلك التى ادعت ان هيبة القيادة العليا يمكن ان توفر اسبابا وارضية للوحدة فى العمل . لقد خسر المنشفيك ، وكانت عاقبة خسارتهم التصاق اسم " الاقلية " بسيرتهم . لا يعنى هذا انهم اخطأوا عندما اشاروا الى الصعوبات العديدة تواجه تطبيق مبدأ المؤتمر كاعلى سلطة فى الحزب فى ظروف العمل السرى . فالوحدة الهشة للحزب الروسى – والغائبة مؤخرا - اكدت ان تلك الصعوبات كانت حقيقية ، ولا مراء .
صورة العضو الرمزية
Isam Ali
مشاركات: 230
اشترك في: الأحد مارس 04, 2007 11:37 pm

مشاركة بواسطة Isam Ali »




قضية المنشفيك : منهج الحملة ( او الحملاتية ) مقابل الاحلالية ( اوالاستبدالية )

قبل المنشفيك صفة ‘ الاقلية ‘ لانها ارتبطت عندهم بفكرة القيادة التقدمية . وهى القيادة ، يعكس تقدميتها ، تقديم رسالة جديدة ، ومجموعة اهداف تطرح على الحزب ، تؤهله وتدفعه لارتياد المرحلة الضرورية التالية من مراحل تطوره . لا تأتى هذه الرسالة الجديدة واهدافها كرد فعل ضد لينين ، فقد كان للاقلية التقديمة أن تطرح برنامجها حتى ولو لم يكن هناك انقسام ، حتى ولو لم يكن هناك لينين ( ملحوظة : بدأ اكسلرود فى الكتابة حول تلك القضايا باكرا فى 1902 ) . وانطلاقا من هذه الحقيقة ، فانه اكسلرود هو من لعب دور البطولة فى دراما 1904 وليس لينين . ففى بداية السنة ، نشر اكسلرود مقالين فى عددى الايسكرا 55 و57 ، اعتبرا - فى ادب امنشفيك- معالجاتٍ مقتحمة لاراضٍ جديدة ، محتشدة الرؤى وملهمة . وفى منتصف العام نشر تروتسكى كتابه " مهامنا السياسية " فى محاولة للنشر الواسع للافكار الواردة فى نصوص اكسلرود . وفى نهاية العام إتخذتْ رسالة اسكلرود شكلها المحدد فى الخطة التى سُمّيت " حملة زمستفو " . ارسلت هيئة تحرير الايسكرا شرحا للخطة ، كتبه اكسلرود الى لجان الحزب المحلية . اذن - وفى كل خطوة – امتلك اكسلرود و المنشفيك زمام المبادرة ، وليس لينين ، ولا جماعة البولشفيك.

اُسمّى المحتوى الايجابى لرسالة اسكلرود "بالحملاتية " . لم توجد هذه الكلمة فى 1904 . وفقا لاكسلرود فانه لا يزال امام الديمقراطى الاشتراكى الروسى ان يصبح حزبا طبقيا حقيقيا ، لان الحزب الطبقى هو ذلك الحزب الذى يتلقّى دعما جماهيرا حقيقيا ، يقوم على فهم محدد للمصالح الطبقية للبروليتاريا . بالطبع فان الاشتراك فى النضال ( او حملات النضال) ضد القيصرية من اجل الحصول على الحريات السياسية ، هو مما يصادف المصالح الطبقية للبروليتاريا الروسية ، ولكنها – مع ذلك - ليست مصلحة بروليتارية مميزة . فهى مصلحة عامة ، تشترك فيها بقية مكونات المجتمع الروسى ، بما فيها طبقات المستغِلين . وبالتالى فان الدعم للحزب فى هذا السياق ليس كافيا فيما يخص رسالته كحزب طبقى . ان ما يحتاجه الحزب هو حملات تُطلق حركة البروليتاريا بطريقة تظهر التناقض و الصراع بين مصالح البروليتاريا ومصالح الصفوة .

لقد اُريد لكتاب تروتسكى " مهامنا السياسية" - وبشكل منتبه ومقصود - ان يكون " ما العمل؟ " المنشفيكى ، فقد اُتخذ كتاب لينين كنموذج وبعدد من الطرق . لقد تمنى تروتسكى – وبلاشك – ان ياخذ كتابه مكانا فى تاريخ الحزب جنبا الى جنب مع كتاب " فى التحريض " و " مالعمل ؟ " كأدب حزبى ، انتج تحولا عميقا فى رؤيا الحزب . ولكن ، لم يحالفه الحظ . فقد كان للكتاب اثرا خافتا حتى وسط المنشفيك ، لم يجذب ناشطى الحزب الى مواقع المنشفيك ، ولم تشتهر صيغة " الاحلالية (اوالاستبدالية) " ، ولم تنال حظوة ادبية ، تجعلها تتجول فى الاحاديث والمقالات.

لقد إخترعتُ مصطلح " الحملاتية " ، لان الاصرار على نوع محدد من تنظيم الحملات الحزبية ، مثّلَ قلب التاكتيك المنشفيكى الجديد . يمكن الوصول الى فهم جيد لما قصده اكسلرود ب " المبادرة الذاتية " ، وما عناه تروتسكى " بالاحلالية ( الاستبدالية) " عن طريق تقديم مثال ملموس . ففى كتاب تروتسكى مخططا لمثل تلك الحملة فى جزء منه سمى – وبشكل مناسب – " اذن ، مالعمل ؟ " . كانت المناسبة لمخطط تروتسكى الافتراضى هى مؤتمر للناشطين فى التعليم الفنى ، والذى تم فعلا فى بيترزبيرج ، وتسبب فى نشؤ صراع بين الحكومة والمعارضة الليبرالية . وبعد ان فرغ تروتسكى من انتقاد لجنة الديمقراطية الاشتراكية فى المدينة ، شرع فى طرح السيناريو التالى لما كان يمكن عمله :
تطرح اللجنة اعلانا (او تصريحا ) . ثم تستدعى كادرها فى العمل الدعائى ، للتأكد من فهمهم لعلاقة الاعلان ببرنامج الحزب ، وقرارت المؤتمر الثانى . تستمر اللجنة فى اصدار الاعلانات . خلال تقدم الحملة ، يبدأ العمال – على الاقل العمال الاكثر تقدما – فى الانتباه والاهتمام .

والان تقوم اللجنة باعداد قرار يتم بالاستناد عليه مخاطبة المؤتمر الفنى . يقوم عضو من اللجنة الحزبية (القائدة) بتنوير الدعائيين بالقرار ليقوموا بنقله الى الخلايا الحزبية العاملة فى المصنع . وعند تراكم ونمو دعم كاف للقرار ، يقوم ناشطى العمل الدعائى بتجميع التوقيعات على العرائض ورصد التاييد عن طريق التصويت ، وترسل النتائج الى اللجنة القائدة ، والتى تقوم بعرضها على المؤتمر الفنى . وهنا يشعر كل عامل بان المطالب التى عبر عنها القرار الحزبى هى مطالبه بالذات .
يستمر السناريو الافتراضى برصد نتيجتين محتملتين : أما ان يخضع مؤتمر ناشطى التعليم الفنى للمطالب – التى حملها القرار- ، او يرفضها . الاحتمال الاول غير بعيد ، طالما أن المثقفين الديمقراطيين الراديكاليين يرغبون فى الحفاظ على مكانتهم الفخمة فى عيون العمال ، ويترتب على ذلك شعور العمال بانهم الطليعة الحقيقية للثورة الديمقراطية العامة . اما اذا رفض المؤتمر الفنى تلك القرارات ، فسيعى العمال الدرس بتردد وعدم اخلاص المعارضة البرجوازية . وسيعمل هذا على دفعهم بعيدا عن النفوذ البرجوازى ، قريبا فى اتجاه الديمقراطية الاشتراكية . اذن انه واقع الفوز المؤكد فى كلا الحالتين ، يصحبه درس عميق فى التعليم السياسى للطبقة العاملة .

كنتيجة للحملة ، فإن قرار " مجموعة رسمية من المثقفين الماركسين فى بيترزبيرج " سيتحول الى " عملية يتحقق فيها تكوين الارادة السياسية للبروليتاريا التقدمية فى بيترزبيرج " . يمكن تطبيق نفس المنطق على المستوى الوطنى – قل مثلا – فى معارضة الحرب . تقوم كل اللجان المحلية فى كل مكان بدفع نفس الرسالة ، وتؤشر لنفس الضعف للمعارضة الليبرالية . تُعد القرارات فى الاوقات المناسبة ، تصحبها المظاهرات – كلما كات ذلك مناسبا . اذا استطاع الحزب ، انجاز واحدة ، فقط حملة صدامية واحدة ، " ستنمو الحركة قوية و باشكال رئيسية " ( تروتسكى 1904 ، ص 39-42 ) .

وفقا لاكسلرود و تروتسكى فان هذا النوع من الحملات يمثل خطوة حاسمة الى الامام فى تاكتيكات الديمقراطية الاشتراكية . تم بناء هذا الادعاء بعقد مقارنة مزدوجة للانشطة التقليدية التى خاضها الحزب خلال فترة الايسكرا السابقة . فقد حاول الحزب – فى الماضى – جلب الرسالة الاشتراكية الى الطبقة العاملة ، وحاول ابراز حس بالتميّز الطبقى ، حس بالصراع بينها والبرجوازية . ولكنه فعل ذلك فقط عن طريق الكلمة المكتوبة او المنطوقة ، وليس من خلال الافعال . فالفعل والحراك المنظم هو ما يتحتوى على زخم الفعالية والقدرة المنجزة لحضور الانتباه ، مقارنة بقراءة صحيفة . الكلمات فى مقابلة الافعال هى اذا المقارنة الاولى .
المعنى المركزى للاحلالية ( الاستبدالية ) هو بالضبط هذا الاحلال للكلمات بديلة للافعال . بعد ان فرغ من وصف الحملة الافتراضية بخصوص مؤتمر التعليم الفنى ، نظر تروتسكى لما فعله الحزب فعليا بدلا من اطلاق حملة مشابهة . لم يفعل الحزب شيئا ، بل كتب افتتاحية فى العدد 55 من الايسكرا . فماذا كان ذلك ان لم يكن " احلالية واحلالية ! " ؟ ( ملحوظة : اجرى مارتوف نفس المقارنة ، بعد استعراضه لحملة افتراضية باستخدام معالجة مشابهة :" يتم التعبير عن الفعل الديمقراطى الاشتراكى الان ، ليس بواسطة قرارات معزولة للجنة ، او مقالات فى الجريدة المركزية ، وانما بواسطة - ما اصبح الان - الفعل السياسى للطبقة " ( الايسكرا ، العدد69 ، 10 يوليو 1904 )) .تستدعى الاحلالية " كتابوية " ندزدين ، والذى يشير تروتسكى الى دوره كمنشفيكى متقدم فى نقده المرصود سابقا.

لم تكن الكلمات مقابل الافعال هى المقارنة اوالمفارقة الوحيدة مع الماضى . لم يحصر الحزب نفسه كليا فى الكلام ، فقد اُنجزتْ بعض الافعال السياسية كالمظاهرات الجماهيرية والاضرابات .. الخ ، وببعض النجاح . ولكنها افعال ثورية وليست اشتراكية ديمقراطية ؛ هدفت الى اسقاط القيصر بالتنسيق مع الطبقات الاخرى ، وليس لاعداد العمال من اجل تقديم الاشتراكية فى تعارض مع الطبقات الاخرى . اذا " الثورية فى مقابلة الاشتراكية الديمقراطية " هى المقارنة/المفارقة الثانية مع الماضى . بالنسبة لتروتسكى لم تكن الثورية مشكلة ، ولكن الارادة الطبقية للبروليتاريا تتطلب تعبيرا محددا وبدرجة واستهدافات اعلى .

يمكن لاستخدام كلمة " ثورية" فى هذه المقارنة/المقابلة ان يكون مربكا ، ومع ذلك فقد تبنُّيتُها لانها الكلمة التى استخدمها اكسلرود و تروتسكى لبناء حجتيهما . فى تلك الفترة عنت كلمة" ثورة " ( ومشتقاتها) فى الخطاب الديمقراطى الاشتراكى الثورة المطلة ضد القيصر، اى الثورة من اجل الحريات السياسية. لم يكن المنشفيك منخرطين فكريا فقط فى النضال ضد القيصرية ، بل اشتركوا فى ذلك النضال و بكل العاطفة والحماس ؛ مع ذلك لم يرغبوا ان ياخذهم ذلك بعيدا عن هويتهم الاشتراكية ، بالذات وقد كان الجميع ثوريون . فاعتبروا ضرورة تأكيد ما يميزهم : الهدف النهائى ، هدف اعداد البروليتاريا لسلطتها ، لديكتاتورية الطبقة العاملة . ويعنى هذا اظهار الصراع بين العمال وطبقات الصفوة الان ، حتى وهم يصارعون معا سلطة القيصر .

يتحدث اكسلرود و تروتسكى عن ال"ساماديتلنست " وهى الكلمة الروسية التى تعنى "المبادرة" او "الاعتماد على الذات" او " المبادرة الذاتية" ، ويعنون بذلك – وفى محتوى مقترحات التكتيك المقدمة من كليهما – الموضوعة المعروفة المتعلقة بانتشار الانتباه ، ووصول الطبقة الى فهم وقبول مهمتها التااريخية . اى انه يمكن ترجمتها فى سياقهما الى " العمل او الفعل المتميز " . وعليه يمكن صياغة المقارنة/المفارقة المزدوجة كالاتى : فى الماضى ،نظمت الديمقراطية الاشتراكية حراكا ، ولكنه لم يكن حراكا ذاتيا ، اى ذلك النوع من الحركة التى تُعلّمُ العمال الوضع المميز لموقفهم الطبقى . فى الماضى قام الديمقراطيون الاشتراكيون بتعليم العمال موقفهم الطبقى المميز، ولكنهم فعلوا ذلك من خلال الدعاية والتحريض ، وليس من خلال المبادرة الذاتية . ان هدف ال"ساماديتلنست " او "المبادرة الذاتية " فى محتوى مخطط تروتسكى ، ليس هو تشجيع تطور السعة للنشاط المستقل والتنظيم الذاتى من قبل العمال الروس ، ويمكننا رؤية ذلك بمراجعة حملة تروتسكى المقترحة ، والنظر الى " المبادرة الذاتية " وهى تعمل .

تتطلب الحملة المؤثرة حزبا موحدا موجها من اعلى . ففى الصيغة المطروحة يعيد تروتسكى لاكثر من مرة ، ان الحملة الوطنية "ستقاد من قبل مركز يفكر سياسيا ، وله القدرة على الالهام السياسى " . تؤكد سلطة ذلك المركز " ان نفس الثيمة الواحدة يتم طرحها فى كل الدوائر والمجموعات ، فى الاجتماعات المغلقة والندوات العامة ، فى كل التصريحات . ليس هناك اشارة – ولو خافتة – فى نسخة تروتسكى "للمبادرة الذاتية" ، الى ان المبادرة بالحملة نفسها او صياغة قرارتها ، ستكون نتيجة لمبادرة من القواعد . ولا يبدو ان المناقشة الواسعة للقرارات المقترحة ستدخِل اى تعديلات على نصها ( ولسبب واحد ، هو الحفاظ على الوحدة الضرورية للحملة ، وتفادى تحطيمها ) . كلا ، فالمبادرة تأتى من مركز يفكر سياسيا ، ملهم سياسيا ، وتبقى هناك .

تحكم الحملاتية – ايضا - رؤية تروتسكى للعلاقات الداخلية للحزب . وكما يحتاج العمال الى تعليمهم الديمقراطية الاشتراكية ، كذلك الحال مع قسم كبير ، ربما الغالبية ، من الناشطين الحزبيين . عليه ، فان المسئولية الاضافية لتعليم الناشطين تقع على عاتق الاقلية التقدمية المسيطرة على المركز . مرة اخرى يقدم لنا تروتسكى مثالا ملموسا لفكرته ، تحديدا حملة المنشفيك المستمرة لتوحيد الحزب حول اهداف جديدة . وقد بدأت هذه الحملة قبل المؤتمر الثانى فى المستوى الاعلى باكسلرود يمارس دعاية - وسيلتها الكلام - لرؤيته " الاهداف التاكتيكية الجديدة " للحزب ، يختار ويجند لها العناصر ذات القيمة العالية والاكثر تاثيرا ، لتتحقق وحدتهم حولها . اما فيما يخص المجندين الخام الجدد ، المكونين للجناح المعارض فى الحزب ، حسنا ، سيغادر اغلبهم الحزب ، وكلما حدث ذلك باكرا ، كلما كان ذلك افضل (تروتسكى 1904 ، ص 49 ،72 ، 5-96 ) .

لقد رأينا سابقا كيف ادان تروتسكى الاحلال/الاستبدال فى ممارسة الايسكرا ، طارحا حملات العرائض كبديل . وبطريقة مشابهة تم كشف الاحلالية/الاستبدالية داخل الحزب برفض اطلاق حملات تعليمية . فعندما يقول تروتسكى فى الاقتطاف الذى مررنا به سابقا " التنظيم الحزبى يحل نفسه محل الحزب" ، فهو لا يشتكى من ان التنظيم الحزبى لا يستجيب لارادة الحزب ككل ؛ بل بالعكس ، فهو غاضب من الديماجوج لينين لتعبيره عن ارادة الحلقات الخارجية والاقل تقدما فى الحزب .
لم تظهر احلالية/استبدالية البولشفيك عن طريق المحتوى الفعلى لمشروعهم التنظيمى . فتروتسكى لم يقل سوى القليل جدا مدحا او قدحا حول هذا الامر . ما يدل على احلالية/استبدالية البلشفيك هو استغراقهم وإنشغالهم الزائد بالمسألة التنظيمية . هذا الانشغال الكبير بصغائر الامور التنظيمية ، لا يمكن تفسيره سوى بالتفادى شبه الواعى للاهداف الحزبية الحقيقية ، والتى هى تحديدا تجهيز حملات تحرك تعليمية على طريقة اكسلرود . يوجد اغلبية الناشطين فى الحزب غارقين فى القضايا التنظيمية التافهة لدرجة ان تفكيرهم قُبِضَ كفار فى مصيدة للفئران ( اوكما قال تروتسكى فى تعبيرضارب ) (تروتسكى 1904 ، ص 86 . طرحت تهمة الفتشية التنظيمة اولا بواسطة اكسلرود فى الايسكرا 55 و 57 ) .

الاحلالية ، داخل وخارج الجزب، هى رفض تنظيم حراك يعمل على لَمِّ جمع العمال والناشطين الحزبيين ، يستهدف دفعهم للتفكير والتصرف بطريقة ديمقراطية اشتراكية حقيقية . لا يرغب تروتسكى فى ان " يقوم الحزب بالتفكير نيابة عن البروليتاريا " ، ويصر على ان قرارات الحزب تصبح قرارات حقيقية ، فقط عندما تعكس الارادة المنتبهة لدوائر المصنع . ولكن فالمسألة هى – كما يشير بحق - ليست " رواية ديمقراطية " . حقا ، فالقضية عند تروتسكى ليست قيادة الحزب بواسطة تفكير العمال او ناشطيه ، بل – بالاحرى – هى الاضطلاع بالمهمة الاساسية ولكن المهملة ، المتعلقة بدفعهم للتفكير بشكل مشابه لتفكير العناصر القائدة فى الحزب .
لا يحاجج تروتسكى ان الاغلبية الحزبية لا تريد ان يفكر العمال والناشطين بطريقة ديمقراطية اشتراكية ؛ بل يقترح ان الاغلبية ( البولشفيك) توهم نفسها بان ذلك ما يحدث فعلا ، وعليه تتفادى المهمة الصعبة المرتبطة بالتعليم والممارسة المتحركة والفاعلة . لا تدرك الاغلبية ان هناك مسافة ضخمة بين المصالح الطبقية الموضوعية ، والادراك الذاتى لها بواسطة العمال الملموسين . انهم لا يدركون الطريق الوعر الذى يتوسط المصالح الموضوعية واستيعابها الذاتى . وهو طريق لايمكن قطعه الا بقيادة وتوجيه مثقفى الديمقراطية الاشتراكية (تروتسكى 1904 ، ص 52 ، انظر ايضا ص 74 ) .

عند قراءة هذه الفقرة ، نرى كم هو مميز فهم تروتسكى الفعلى للاحلالية ، وكم هو مفارق لما ننسبه له بشكل تلقائى . فنحن نفهم الاحلالية كاحتجاج على مسألة القلق المتشائم بصدد العمال ، احتجاج ضد المثقفين الذين يرغبون فى التفكير نيابة عن العمال . ولكن هنا ، يستخدم تروتسكى الاحلالية لادانة تردد مثقفى الديمقراطية الاشتراكية فى تعليم وتحريك العمال الذين ينقصهم الانتباه لمصالحهم .
الاحلالية مصطلح فريد فى ارتباطة بتروتسكى ، لا اذكر استخدامه بواسطة اى كاتب اخر ( منشفى او بلشفى ) . وبكل الاعتبارات ، فان كتاب " مهامنا السياسية " هو ملخص مفيد لحجة ومناقشة المنشفيك فى 3-1904 . مرة اخرى ، يمكن فهم معنى الاحلالية - فقط - فى محتوى مقترحات تروتسكى التاكتيكية الملموسة ، فقد مثلت قلب المنشفية فى 1904 .
صورة العضو الرمزية
Isam Ali
مشاركات: 230
اشترك في: الأحد مارس 04, 2007 11:37 pm

مشاركة بواسطة Isam Ali »

القضية ضد لينين :

قامت الاتهامات ضد لينين بناءً على بعض من اقوال مرتجلة ، صرح بها لينين او بعض مؤيديه . وقد كانت تلك احد خصائص المحاججة التى وسمت لعبة الصراع ، والتى لم يستنكف حتى لينين من المشاركة فيها . ساركز هنا ، مختصرا، على اتهامات روزا لوكسمبيرج للينين بالدعوة الى مركزية حزبية قابضة تسيطرعلى كامل البنية الحزبية .

المركزية واللجنة المركزية :

لم تكن المركزية ثيمة بارزة فى الحجة التى عبر عنها لينين فى "ما العمل ؟" ، ولم تكن كذلك فى مساهمته فى الصراع الفكرى فى الفترة المتوترة 3-1904 . ففى " ما العمل ؟" طرح لينين خطة لتأسيس منظمة حزبية وطنية تلم شمل الديمقراطية الاشتراكية الشتيت . منظمة هى محط رغبة الجميع . وفى 3-1904 احتج لينين على تصرفات وافعال مجموعة صغيرة من القيادات العليا ، واعتبرها عاملة على تهديم مبدأ المؤتمر كاعلى سلطة جزبية ، وبالتالى هادمة لفكرة مركز فعال على النطاق الوطنى . وفى الجالتين ( الكتاب والاحتجاج ) لم يركز على بنية تنظيمية معينة ، تطرح مركزية اعلى مقارنة بما تطرحه بقية البنى التنظيمية المتداولة الاخرى . ولم تحتل افكاره حول سلطات اللجنة المركزية سوى مساحة ضئيلة – جدا- فى الحيز الذى غطته مساهمته الفارعة .

يستشرى الانطباع النقيض لما ذُكِر ، ولاسباب قريبة المنال . ففى هجومها على لينين فى 1904 – وهو يكتب ويطبع ، ويحظى بالاحترام – صورت لوكسيمبورج لينين كشخص مهووس بلجنة مركزية تحوز على قدر لا محدود من السلطة . لقد عفى حظ الهيبة العالى الذى نالته لوكسمبيرج ، كأيقونة لليسار ، موقفها المضاد للينين ، من اى معاينة ناقدة ، سوى بين الاكادميين او الناشطين . وباعتبار الضرر الذى سببته بمقالها ، فانى اشعر كمؤرخ ، انه من واجبى ان اشير الى ان مقالها لم يكن نقدا متبصرا ولا تنبؤى ، وانما كان هجوما ضاريا ضعفت اخلاقه .

لا توفر مقالة لوكسيمبرج اى دليل على إنها قرأت كتاب لينين " ما العمل ؟" . تزعم المقالة انها مراجعة لكتابه " خطوة الى الامام ..." . كان كتاب لينين رصدا دقيقا تفصيليا ( ساعة وراء ساعة ) لمجرى المؤتمر التانى . حلل كل تصويت ، كل نقاش على ضوء الانقسام الناشئ . سادت ثيمتان : الاولى خاصة بالاتجاه المتزايد للاقلية فى الايسكرا نحو التصويت ضد مجموعة الايسكرا . اما الثيمة الاخرى فهى افعالهم غير المغتفرة ، اولا المقاطعة ، ثم الاستيلاء على هيئة مركزية . ولقد مرت لوكسيمبيرح على كل ذلك فى صمت عظيم .

اعتقد ان المنشفيك سلموها " خطوة الى الامام ..." فى اطار تنظيم حملتهم الادبية ضد لينين ، واشاروا الى الفقرات المشهورة مما حظيت عندهم بالسيرة السيئة . لدى لوكسيمبيرج اشياء افضل تفعلها فى زمنها الممحوق من ان تقرأ – فعلا – كتابا مطولا يمتلى بالحجاج ‘ المهووس ‘ ، وبدلا عن ذلك اعتمدت على النقد المضاد للايسكرا ، والذى نشره سابقا صديقها ومرشدها بوريس كريكيفسكى . يمكننا ان نسمى مقالها – وبحق – " انتقام كريكيفسكى " . عرض مقال كريكيفسكى تهمته الرئيسية والتى حددت انشغال الايسكرا الكبير بالتاكتيكات المتصلبة والخطة الجامدة لدرجة ان الثورة ستأتى وتمر دون ان تراها ؛ واُلصِقتْ التهمة اللزجة بلينين وكتابه " ما العمل ؟ " (ملحوظة : رأى لينين اوجه الشبه. نشرت ورقة لوكسيمبيرج بشكل متزامن فى العصر الجديد (Neue Zeit) والايسكرا. عقب لينين ، وارسل مقاله لكاوتسكى والذى رفض نشر التعقيب بحجة قلة اهتمام القارئ) [ (ملحوظة : يمكن ترشيح تعقيب لينين – الذى لم ينشر انذاك – كافضل تلخيص مختصر لما كان يجول بخاطره فى 1904 )(انظر المناقشة فى لابلانك 1990و ص 79-87 )] .

على مدار مقالها ، استمرت لوكسيمبيرج تركزعلى ثيمة واحدة : يرغب لينين فى لجنة مركزية ديكتاتورية ، تختصر كل الاخرين فى الحزب الى مجرد ادوات ميكانيكية . " ميول المركزية العالية والقصوى ... اللجنة المركزية هى النواة الوحيدة الناشطة فى الحزب ، وما تبقى من المنظمة هى ادواتها التنفيذية ... خضوع مطلق اعمى من اجهزة الحزب للجنته المركزية ... خضوع آلى ميكانيكى للسلطة المركزية ... سلطة وقوة مطلقة من النوع السلبى ... روح عقيمة للحارس الليلى ... مركزية طاغية صارمة ... لجنة مركزية مكتملة الوجود ومكتملة المعرفة . ( ملحوظة : تعجز الانجليزية عن الامساك بالجهر الفصيح والبلاغة المكتنزة لسرديتها الالمانية ) .

اجد الامر مثير للدهشة الا تجذب هذه المبالغة المفرطة شكوكا . هل صدّق الناس حقا ، ان لينين رغب بل دعى علنا الى طاعة عمياء مصمتة تخلو من حياة ؟ يمكن - اذا رغبنا - ان نعذر تشخيصات لوكسيمبيرج الملودرامية ، باعتبارها حجاج مندفع فى صراعه . حجاج مندفع معيق . فلو ان هناك امر واحد لم يتسبب فى انشقاق البولشفيك و المنشفيك ، فهو التعريف الرسمى لوظائف ومهام اللجنة المركزية . فقد تحددت فى تنظيم اللجان الحزبية ، تقود انشطتها وتعمل على وحدة العمل الحزبى ككل , الى جانب هذه المهام والسلطات الاساسية ، توجد مهام اخرى كإدارة الشئون المالية – مثلا – استمرت بلا تبديل فى كل نسخ اللائحة ( الدستور) قبل الحرب ، بما فيها اللائحة التى اجازها المؤتمر الرابع ( مؤتمر الوحدة فى 1906 ) والذى سادته اغلبية منشفية . لقد حددت اللائحة المجازة فى المؤتمر الثانى استقلالية اللجان الحزبية فى عملها الحزبى فى مجالها . ودعم المنشفيك هذة القوانين ( او البنود اللائحية ) ولم يطالبوا اللجان المحلية بترك مهام التفكير للجنة المركزية .

الانتلجنسيا والعمال :

" لطالما دعمت طويلا فى اعمالى المنشورة ، بوجوب تجنيد العمال فى اللجان الحزبية ، وباقصى عدد ممكن " ( لينين 1905 ) .
جرت العادة على تصوير البولشفيك كمدافعين عن هجمنة الانتليجنسيا فى الحزب . ووفقا لهذا السيناريو ، طالب لينين فى " ما العمل؟ " بحزب يتكون من الانتليجنسيا ‘ الثوريين المحترفين ‘ ، طالما إنه لايمكن الثقة فى العمال . فى 1904 نهض المنشفيك ضد هذه الهجمنة للمثقفين ، باسم "المبادرة الذاتية" (ال"ساماديتلنوست ") للبروليتاريا . بعض الكتاب ( بالذات الناشطين المعاصرين) يضيف المشهد الاخير الساخر للرواية : فى 1905 ، حملت الافعال الثورية غير المتوقعة للبروليتاريا ، لينين بعيدا ، فانقلب على عقبيه مطالبا بتجنيد العمال فى اللجان (الفروع) الحزبية . كان تحولا صادما للبولشفيك وهم الذين تربوا على فلسفة " ما العمل ؟ " القائمة على استبعاد العمال ، فعملوا لاسقاط اقتراحه المرتبط بالموضوعة فى المؤتمر الثالث .

فى الفصول السابقة لمسنا طفيفا الصعوبات العميقة المتعددة لهذه القصة . ففى الفصل الرابع نظرنا لاجماع الديمقراطيين الاشتراكيين حول الموضوعة ، وهو اجماع ليس ‘ محب للعمال ‘ ولا ‘ كاره للعمال‘ ، ليس ضد العمال ولا ضد الانتليجنسيا . وفى الفصل السابع نظرنا للدور الملقى على عاتق العمال فى " ما العمل؟" . وفى الفصل الثامن رأينا ان العضوية ليست حصرا على ‘الثوريين بالحرفة ‘ ، كما أن الاخيرين ليسوا حصرا على المثقفين . ونظرنا لارقام للتركيب الفعلى للحزب على اساس الاصول الاجتماعية للعضوية . فى هذا الفصل نلم اطراف هذه القصة من خلال مناقشات 1904 ومؤتمر البلشفيك الثالث فى 1905 .

لم يخرج احد ( منشفيك او بولشفيك) عن الاجماع المذكور بصدد هذه الموضوعة . لم يرغب احد فى إبعاد العمال – بما هم كذلك - عن المنظمات الحزبية فى اللجان المحلية او اللجنة المركزية . بل بالعكس فقد رأى الجميع فى العامل القاصد ( او العامل المتقف ) ، مفتاحا لمستقبل الحزب . رغب الجميع فى ازياد اعدادهم فى عضوية الحزب ، وتشجيعهم بكل الطرق . انه من غير الممكن تحقق فعالية لمنظمة تعمل تحت الارض بدون مساهمة العامل القاصد ، تقدمه فى و على كل المستويات .
كان الجميع مقتنعون بالدور الاساسى الذى لعبته الانتليجنسيا فى جلب رسالة الديمقراطية الاشتراكية الى روسيا ، وفى ارساء اسس الحزب . اعتقد الجميع أن ذلك كان ظاهرة شاذة (انامولى) ولكنها موضوعية ، وفى طريقها الى الاستعدال . كان يمكن للجميع الاتفاق مع عبارة لينين القائلة " ان دور الانتلجنسيا يتلخص فى الاتى : ان يحققوا فكرة أنه ليس ضروريا ان نحظى بقائد خاص/مميز ياتى من الانتليجنسيا " ( ملحوظة : ظهرت هذه العبارة فى كتابته الاساسية الاولى " اصدقاء الشعب " . لاحظ ليس ‘ابعاد المثقفين من مواقع القيادة ‘ ، وانما ‘ابعاد الاعتماد الخاص عليهم والضرورى فى بدايات الحركة ‘ ).

من الجانب الاخر ، وقف الجميع ضد شعار ‘ حركة عمالية خالصة ‘ . ارادت الديمقراطية الاشتراكية تحويل العمال ، وليس عكس وجهة نظرهم ، سوى كان ذلك بطريقة ديمقراطية او بغيرها . على العامل ان يكون قاصدا ، حتى ينضم الى الحزب ، واكثر من ذلك ، لكى يتولى موقعا قياديا . على العامل ان يكون " قاصدا" ، اى شخصا قام باستيعاب الديمقراطية الاشتراكية ، والتزم بها كليا . لقد كان لشعار الحركة العمالية الصرفة مضمونا يشئ بموقف ضد المثقفين ، ولذلك رفض من قبل الجميع . كان الجميع رفاقا داخل الحزب بلا تمييز يقوم على اساس الاصل الاجتماعى . ارتبط ذلك بالرفض الكامل للتفريق المؤسسى ( او التنظيمى) بينهما ، فالجميع يناضل فى هيئة حزبية واحدة . كما ارتبط برفض ان يُبنى خطاب الجريدة الحزبية ويطرح على مستويين ، مستوى يتوجه الى العمال ، واخر يخاطب المثقفين . لم يسلس تنفيذ هذه المُثل التنظيمية ، بالذات فى تجربة العمل السرى ، فقد واجهتها لحظات من التوتر وحتى الامتعاض ، الا ان التمسك بها استقر راكزا يهدى التجربة الحزبية .

لقد تناول "ما العمل؟ " بعض القضايا مثل التحريض السياسيى ، القضايا التنظيمية ودور الجريدة الحزبية ، الانه لم يتناول دور المثقفين . وما احتوى الكتاب سوى تعليقات عرضية ، ظهرت فى مجرى نقاش لقضية رئيسية اخرى ، شيئا يمكن وضعه بين قوسين . جرت وفرة من المصطلحات غير المفسرة ، تناولت المثقفين بدون شروحات مصاحبة ، مثل : الانتليجنسيا الماركسية ، الانتليجنسيا الثورية ، الانتلجنسيا الاشتراكية ، الانتليجنسيا الثورية الاشتراكية ، الانتليجنسيا غير العمالية ، الانتليجنسيا العمالية ، الانتليجنسيا الليبرالية ، ‘ الانتليجنسيا بشكل عام ‘ . لم تكن الصورة العامة لانتليجنسيا الحزب التى ظهرت فى تلك التعليقات العرضية تعكس اطراءً . فقد حوت العديد من صفحات الكتاب مقارنة بين العمال الثوريين وانليجنسيا الحزب ، اللذين فشلوا فى القيام بمهام مسئولياتهم .

يحاجج لينين أن تشجيع العمال ودفعهم الى المواقع القيادية ، وباكبر عدد ممكن ، هو من الاولويات الملحة للديمقراطيين الاشتراكيين . يفرض ذلك – جزئيا - قلة عدد الانتليجنسيا العاملين على الارض ، وجزئيا لان الانتليجنسيا الروسية كثيرا ما تعوزها الروح العملية وينقصها الاتقان ؛ ولكن وبشكل اساسى ، لان نجاح الديمقراطية الاشتراكية كدمج بين الاشتراكية وحركة الطبقة العاملة ، سيتحقق فقط عندما تتجسد فى فيالق من العمال الناشطين الملهَمين والملهِمين . عندما يحوز الحزب على عمال حذقوا مهارات الحرفة الثورية ، يصير الحزب قوة لاتقهر ، لان مثل هؤلاء المناضلين مكرَسون للثورة ، يتمتعون بالثقة العالية يمنحها الحشد الجماهيرى الكلى للطبقة . يضيف لينين ، إنه الخطأ المباشر للحزب الا تدفع عضويته الحالية العمال فى سكة الحصول على المهارات الثورية كما تفعل الانتليجنسيا .

كانت المقابلة التى اقامها لينين بين استعدادات العمال الجديرة للتنظيم ، ونقصها عند الانتليجنسيا ، شائعة كنوع من المعرفة العامة وسط الديمقراطيين الاشتراكيين ، وقد استطاع لينين اقتطاف كاوتسكى بهذا الصدد . ولكن ذلك لم يمنع بعضهم من الوصول لاستنتاج يقول بان الاستخدام العدوانى لهذه الثيمة اقترب كثيرا من ممارسة مذمومة هى الترصد الجائر للانتليجنسيا ، وقد كانت لوكسيمبيرج من ضمنهم ، واعتبرت المقابلة المذكورة - فى حد ذاتها - " لا تمثل تعبيرا عن الماركسية الثورية" .

لم يأتِ تاكيد المنشفيك للدور الايجابى الذى لعبه المثقفون ، على سبيل التصدى لما اعتبروه ديماجوجية لينين ضد المثقفين . فقد قام برنامجهم المركزى المقترح فى 1904 - كما عرضنا فى القسم السابق – على تنظيم حملات تعكس المحتوى الحقيقى للديمقراطية الاشتراكية . كما قام على سردية تاريخية حول الديمقراطية الاشتراكية الروسية ، تقول ببنائها كليا بواسطة المثقفين . وقد سجلت حركتهم بعض النجاح فى ايقاظ العمال ودفعهم الى الصراع الاقتصادى ، والى مجرد الصراع الثورى ( اى من اجل الحقوق الديمقراطية) . والان يجهز الحزب نفسه للهدف النهائى وهو جلب المحتوى الديمقراطي الاشتراكي لحركة الطبقة العاملة ، وخلق طليعة بروليتارية قاصدة ، حيث انها لم توجد بعد فى روسيا . لكن الحزب لايزال – والى الان - حزبا للمثقفين ، حزبا للعمال فقط فى اسمه وتطلعاته .

نازع البولشفيك مصطلح ‘حزب المثقفين ‘ واعتبروه وصفا غير مناسب للديمقراطية الاشتراكية فى 1904 . اكد بوجدانوف ان الانتلجنسيا لعبت دورا كبيرا نسبيا فى روسيا عنها فى الاقطار الاخرى ؛ ومع ذلك اصر انه لايمكن نكران الشخصية البروليتارية الاصيلة الا من اولئك الذين نقصت معرفتهم بظروف العمل الحزبى السرى فى روسيا : " حزبنا حزب عمالى ، حتى على مستوى تركيبه العددى . لم تأسسه دستتين من اللجان ، تحتوى كل منهما على عدد بسيط من الناس ، بل مجموعات عمالية متكاثرة ومنظمات ، تقف خلف تلك اللجان . وفقا للبيانات المتوفرة ، يقف خلف كل من ال27 منظمة الممثلة فى المؤتمر الثانى ، مئات من العمال المنظمين ، بعضها حظى بدعم الالاف . وفى الحقيقة فلكل مثقف ديمقراطى اشتراكى هناك العشرات من العمال المنظمين ، وهولاء ليسوا – باى حال من الاحوال – مبتدئين سياسيين غير قاصدين ، يسهل قيادهم . منهم من جند فى اللجان ، ومنهم من يوجد الان فى قيادة قطاعات المدن ، والمنظمات العمالية فى المصانع ، يعملون كمحرضين محترفين .. الخ ."

كثيرا ما رُوِيتْ قصة النقاش الذى انطلق على اثر مؤتمر البولشفيك الثالث (ابريل1905) ، تحديدا من قبل الناشطين المعاصرين ( المنطلقين من التقاليد التروتسكية ) . وتقدم رواياتهم دعما كبيرا لسردية الكتاب/المرجع المدرسى . ووفقا لهذه القصة فقد قام " ما العمل ؟" بوظيفة جيدة فى حث الناشطين على عدم الثقة فى العمال ، ولكن عندما غير لينين رأيه ، فشل فى اقناع اتباعه بفكرته المغايرة ! يقدم تونى كليف اكثر الحكاوى المعاصرة تفصيلا ، حيث يقتطف كثيرا من سجلات النقاش ويستنتج : " كان معظم مناديب المؤتمر قياديين فى اللجان الحزبية ، وهم من اعترضوا على اى توجه يعمل على اضعاف سلطتهم على العضوية (الكوادر الحزبية ، الرانكرز (قدامى الاشتراكيين) وبقية العضوية) . كانوا يدعمون مناقشاتهم بمقتطفات من " ما العمل؟" . ودعوا الى الحذر الكبير من ادخال العمال فى اللجان الحزبية ، ولعنوا " لعبة الديمقراطية " ، وكان لسئ الحظ لينين ان يعمل على اقناع داعميه بالاعتراض على الخط الذى اقترحه " ما العمل؟" ( كليف 1975 ، ص 175 ) .

هذا زيف كلى . لم يعارض احدا فى المؤتمر فكرة ادخال اكبر عدد من العمال فى اللجان الحزبية ( اى منحهم العضوية ). وفى حقيقة الامر فان احد دوافع الاعتراض على الاقتراح ، ان الاقتراح حدد هدفا – مبررا لذاته – بدون ان يقول اى شئ عن كيفية تنفيذه . لم يات اطلاقا اى ذكر ل"ما العمل؟ " بالذات وقد كان الجميع على علم مبين بموقف لينين القديم المنحاز الى العمال . لقد كان للاغلبية (البولشفيك) عدد من الاعتراضات على نص مشروع القرار ، والذى صاغه بوجدانوف بدعم من لينين . ( ملحوظة : من ضمن الاعتراضات ، ان مشروع القرار التقت كثيرا لديماقوقية المنشفيك ، خلط المشروع عددا من القضايا والتى يجب معالجتها بشكل منفصل ، لم يدفع مشروع القرار بتوجيهات عن كيفية تنفيذه ، وبشكل عام اتسم مشروع القرار بغياب التماسك والوضوح (الكسى ريكوف)) . وعليه ، بينما سقط اقتراح بوجدانوف/لينين ، اُجيز قرار اخر ، اكد الاهمية القصوى لادخال اكبر عدد ممكن من العمال فى المنظات المحلية . وعموما فإن النقاش كما جرى فى المؤتمر الثالث ، يسدد ضربة مؤذية لتفسيرات الكتاب/المرجع المدرسى .

بَنتْ الاغلبية اعتراضها على مشروع قرار بوجدانوف/ لينين بالاشارة الى مجموعة صعوبات موضوعية ، تجعل من تجنيد العمال كواجب الزامي ، امرا مثيرا للسخرية . جَعلُ التجنيد امرا ملزما بدون العمل على ايجاد الحلول على الصعوبات الملموسة ، سيكون فعلا مجردا من الفائدة . الاعتراف بالصعوبات بدون الانخراط فى طرح الحلول الممكنة ايضا سيكون عملا غير منتج . من الافضل الا نخرج بقرار ، او من الافضل – ربما - ان نصرح بالتزامنا بتجنيد العمال فى قرار يؤشر الى حلول عملية ، كما فعلنا فى حالة القرارات الخاصة بالعمل الدعائى ( برنامج تأهيل مكثف – بالمعنى التكنيكى- لمجموعة قليلة مميزة) . اذن لم يكن الاختلاف فى المؤتمر اختلافا فى القيم وإنما خلاف حول الطرق والوسائل التى تضمن حسن التنفيذ .
صورة العضو الرمزية
Isam Ali
مشاركات: 230
اشترك في: الأحد مارس 04, 2007 11:37 pm

مشاركة بواسطة Isam Ali »



خلاصة :

عرض تسخاكيا تجربته الشخصية فى قراءة " ما العمل ؟ " فى مداخلة له فى مؤتمر البلشفيك الثالث . تساعدنا تعليقاته الرائقة والمقدرة للكتيب - تأتى من ذلك البلشفى المخضرم - على وضع كتاب لينين فى منظور لائق . لقد انزعج تسخاكيا من الطريقة التى تحدث بها بعض اعضاء المؤتمر عن " اللينينية" و " الروح اللينينية " للقوانين الحزبية ( اللائحة) . وشرح موقفه كالاتى : " قبل سنتين او ثلاثة ، قرأت " ما العمل ؟" ، وخرجت بانطباع جيد عنه . لم اشعر باى حاجة للتعامل معه باستغراق ( لا اعتقد اننى قرأت اى شئ للينين اكثر من مرة ) ، وذلك لاننى لم ار فيه اى شئ مزلزل على وجه الخصوص ، او صعبا . لقد كنت – ببساطة – سعيدا ان ارى ، أن عقدا من التجربة العملية للديمقراطية الاشتراكية الروسية لم يذهب سدىً ، وانها وجدت شخصا يمكنه ان يلخص نتائجها التنظيمية ، واثارها الخاصة بقضايا الحزب و التاكتيك ، ويتيحها للناشطين . بالتأكيد ارتكب لينين اخطاء ، واحيانا اتى ببعض التحديدات الخاطئة او الخرقاء . بلا شك فان فى امكانه ان يقوم بعمل افضل – الان – فى اعادة صياغة ودعم نفس الافكار الاساسية فى " ما العمل ؟ " . لكنى لا ازال اقدره اكثر مما افعل مع كتاب الجيل الاصغر . دعونا نكف عن الاسراف والتحدث عن " اللينينية " ، ذلك المصطلح الذى اخترعه زملاؤنا المغتاظون فى القسم الاخر . فبعد كل شئ فان الزعماء المتميزين مثل كاوتسكى وبيبل ( حتى لا نذكر انجلز) لا يحتازون على ال "ية " ملصقة باسمائهم . واذا تم سؤالى فاننى – وبالتاكيد – لن اسمى نفسى " لينينى " بل ماركسى ، اشتراكى ، ديمقراطى اشتراكى ثورى " .

يساعدنا – كثيرا – تعليق تسخاكيا فى استخدام " ما العمل ؟ " لاعادة اكتشاف لينين . " ما العمل ؟" وثيقة تاريخية ساحرة واخاذة ، ليس لانها ابتداع فتح مسارات جديدة ، او لانها وثيقة دستورية لحزب من نوع جديد ؛ انما لانها وثيقة لخصت التطلعات والتجارب العملية لاناس حاولوا تطبيق حزمة محددة من الافتراضات على اوضاع محددة . إن بذل الجهد فى موضعة " ما العمل ؟ " فى سياق ظرفه ، هو ما سيتيح لنا استعادة حس بتلك الافتراضات ونغمة ذلك السياق .

خلقت تلك التفسيرات لواقعة الاجماع حول موضوعة " القلق بصدد العمال " ، حاجزا بين " ما العمل ؟ " ومحتواه . إن جعل " القلق بصدد العمال " فكرة رئيسية للكتيب ،وفكرة مكونة لوجهة نظر لينين ، ليس ممارسة وحيدة الجانب او ممارسة مشوهة فقط ، وانما ممارسة فى القراءة الخاطئة كليا للينين . تسجلت هذه النتيجة السيئة لان الاكاديميين سمحوا لموضوعة خالية المحتوى بالسيطرة المتكالبة عليهم ، وهى موقف لينين من قضية " التلقائية " . وهى ترجمة مضللة - فى افضل الحالات - للكلمة الروسية " استيخينوست " . وقد استخدمها لينين بسبب استخدام كريشيفسكى المطول لها ، فى هجوم ضد الايسكرا فى سبتمبر 1901 . وقد حرر الحجاج المنطلق ، والجدال العارم ، كل المعانى المتماسكة والمترابطة للكلمة . وخارج نطاق الصراع بين لينين و كريشيفسكى فى الفصل الثانى ل"ما العمل ؟" ، وردت تلك الكلمة بشكل متقطع فى كتابات لينين .

ونظرا للانجذاب المميت لعبارة " التلقائية فى مقابل الوعى " ، نظر خالقوا تفسيرات الكتاب/المرجع المدرسى فى كل الاماكن الخاطئة ؛ فقد نظروا الى تكاشيف ، شيرنيشيفسكى وباكونين ، بدلا من النظر الى كاوتسكى وبيبل ولافراج . لم يكتشفوا الافتراضات المشتركة والصراعات التى تسجلت فى الواقع ، والتى قامت عليها المجادلة بين الزملاء فى الديمقراطية الاشتراكية . لم ينظروا الى مدى الكتابة الكثيفة والمتعددة التى انتجها لينين فى فترة الايسكرا .

لقد حددنا هدف اعادة اكتشاف رؤيا لينين ، وقد كانت مقولات " الحزب من نوع جديد" و " الحزب الطليعى " مفيدة – حقيقة - فقط اذا استخدمناها فى حالة الحزب الديمقراطى الاشتراكى الالمانى والبولشفيك . لقد كان الحزب الالمانى حزبا طليعيا وذلك لعدد من الاسباب: اولا ، لنه حدد رسالته ومهمته المتمثلة فى " تعبئة" البروليتاريا بالانتباه ، والمهارات المطلوبة لانجاز مهمتها التاريخية العالمية . وثانيا لان الحزب الالمانى قام بتطوير مجموعة من المناهج المبدعة لنشر التنوير . لم يتم استخدام مصطلح " الحزب الطليعى " فى هذه الفترة ( لا اعتقد إنه يمكن العثور على المصطلح فى كتابات لينين) ، ولكنه كان حزبا طليعيا ، وهذا ما قصده الناس عند استخدامه . و سيكون اى تعريف اخر مضللا تارخيا لا يثير سوى الارتباك .

وفى نهاية التحليل ، فرؤيا الطليعة تنبثق من الافتراضات الماركسية المفتاحية والتى تقول : " إن تحرر الطبقات العاملة ، يجب ان يكون عمل الطبقات العاملة نفسها " . احيانا ما ينظر الى تلك المقولة كنقيض لمفهوم الحزب الطليعى ، ولكنها – فى واقع الامر- تجعل المفهوم يكاد يكون حتميا . فلوأن البروليتاريا هى الفاعل الاجتماعى الوحيد القادر على تقديم الاشتراكية ، فعليها – وجوبا - أن تمر ببعض العمليات التى تُأهلها لانجاز هذا الفعل العظيم . مارتينوف – الناقد العنيف ل " ما العمل ؟ " – اظهر المترتبات الطليعية للمقولة الماركسية ، عندما شرح معناها فى مقالة موجهة للعمال :
يمتلك خصومنا - الحكومة الاتوقراطية وطبقات الصفوة – التجربة والمعرفة والتنظيم . وعلى البروليتاريا امتلاكها ايضا ، ولكن ذلك لايمكن أن ينجز فى يوم . لايستطيع كل عامل فى حالته المنفردة ، أن يصل لكل ذلك ، ولكن – لحسن الحظ – لايعتبر ذلك ضروريا . وطالما امتلك كل العمال فى اى مكان نفس المصلحة الطبقية ، يستطيع العمال الروس الاستفادة من الصراع التحررى الذى خاضته حركة الطبقة العاملة فى اروبا وهو الصراع الذى امتد على مدى قرن . ‘ خلال هذا الزمن ، نجحت الانتليجنسيا الاشتراكية والمخلصة للصراع التحررى للبروليتاريا ، مستخدمة معارف القرن الحالى وتجارب الصراع العمالى ، نجحت فى تأسيس العلم الاشتراكى ‘ . كذلك نجحت البروليتاريا فى الغرب فى تاسيس مناهج للعمل السياسى ، تحديدا الحزب الديمقراطى الاشتراكى الذى يمثل مصالح الطبقة ككل . ‘ فهو الحزب الوحيد القادر على قيادة البروليتاريا فى اللحظة الثورية الحاضرة .

لم يكن التزام لينين بنموذج الحزب الالمانى ، وسردية الاندماج لكاوتسكى ، مجرد التزام فكرى . فقد كانت مصادر معلوماته الاساسية لبناء رؤيته هى تاريخ حركة الطبقة العاملة الاروبية من 1848 وحتى نهاية القرن . لاشك فى أن لينين درس راس المال وفهم معالجة القيمة الزائدة ، لا شك إنه قرأ شيرنيشيفسكى و تكاشيف ، واراد العيش وفقا للتقاليد المجيدة للثوريين الروس السابقين . ولكن مرفد المعرفة الخفاقة ، المصادر الممتلئة بالحياة النابضة ، الامثلة التى تجولت فى سطح الجوانب المتشعبة لمقولته ، كلها اتت من الملحمة الايرفورتية ، السردية العظمى لاندماج الاشتراكية مع حركة الطبقة العاملة والتى اعتقد بتحققها فى اروبا الغربية ( ملحوظة : " بالطبع يجب ان يكون هناك ربط وثيق باسئلة النظرية العامة ، وبالمعرفة بحركة الطبقة العاملة فى الغرب، تاريخها ووضعها الحالى ." لينين 58-1965، 4، ص 326) .

ارتبطت فكرة الطليعة برهان عملى على انتشار الانتباه . لم يوجد من اعتقد ان ذلك سيتم بشكل تلقائى ، بدون معاناة وفى غياب للتراجعات والازمات . علّمَ الرهان على انتشار الانتباه فى روسيا ، وبالرغم من العوائق ، دوافع مواقف لينين فى كل الصراعات الفكرية التى رصدناها فى هذا الكتاب . ابتدا من 1900 ، حدد لينين مرحلة جديدة وقوية من مراحل انتشار الانتباه فى روسيا ، وهى المرحلة التى سماها " الصعود الكبير للتلقائية " . فقد ابتدأ العمال فى خوض اعمال نضالية سياسية مصادمة ، دفعوا بذلك كل روسيا الى حافة التأهب . فالازمة الثورية تقترب واصبح امام القيصر أن يعد ايامه .

كوّنَ انتفاض التلقائية المتدفق خلفية درما الايرفورتية فى " ما العمل ؟ " ، حيث يندفع العمال بجشع جم الى الادب الممنوع والحركة السياسية ، وحيث يجترح الناشطون معجزات الالهام . " اعطنى منظمة من الثوريين ، فساغير روسيا ! " لان ما ينقص هو فقط التنظيم الفعّال . لقد نهض المشروع التنظيمى للينين فى محتوى تلك الظروف من الاثارة والامكان ، حركة الناشطين الحزبين التى لا تهدف الى طرح نفسها بديلا للحركة الجماهيرية ، بل الى جعلها ممكنة فى ظروف العمل السرى ، لم يقم لينين باختراع ذلك ، بل عير عنه فى افاق اوسع ، وكان ذلك مصدر تاثيره داخل الديموقراطية الاشتراكية . كان ذلك مصدر تاثيره المقيم ، فحسب .

انتهى .
صورة العضو الرمزية
Isam Ali
مشاركات: 230
اشترك في: الأحد مارس 04, 2007 11:37 pm

مشاركة بواسطة Isam Ali »


عقدت مجلة المادية التاريخية حلقة نقاش حول الكتاب ، اشترك فيها عدد من الذين عناهم لارس لى بالناشطين .
وهم مجموعة من الناشطين السياسيين المعاصرين ، فى احزاب سياسية ، انطلقت من ارث تروتسكوى ، يوجدون فى قيادات احزاب عمالية اشتراكية. ساورد هنا ترجمة سريعة لبعض المداخلات فى الندوة او حلقة النقاش .




مقدمة تحريرية للندوة قدمها بول بلاكلديج (Paul Blackledge )

ظاهريا لا يوجد سبب جيد معقول يفسر للماذا تم إعتبار كتاب " ما العمل ؟" ضمن اكثر النصوص شهرة وتاثيرا ضمن التقاليد الماركسية الكلاسكية . ليس فقط ان الكتاب تعامل مع هموم روسية على وجه التخصيص فى مطلع القرن الماضى ، بل كذلك ، ضمن نصف عقد من اصداره ، اكد لينين ان تلك الهموم - وبشكل اساسى - لا تحظى الا بقيمة تاريخية . اكثر من هذا ، ابعد من مجادلاتها المحلية ، فالحجة الرئيسية للكتيب - الا وهى انه يمكن تحويل اليسار الروسى المبعثر والضعيف الى حزب موحد وقوى من خلال خلق شبكة من البائعين والمشترين لجريدة اشتراكية توزع فى انحاء البلد – هذه الحجة، لم تكن جديدة ضمن الحركة الاشتراكية العالمية . وعلى ضوء المشاكل المرتبطة بالتصورات العامة لحججه فى المحتوى الروسى ، تسأل لينين فى 1921 عن مطلوبية ترجمته للاحزاب الشيوعية الاخرى . بالرغم من هذا المنشأ المتواضع الا ان " ما العمل " اصبح مصدرا لتعريف اللينينية ، واصبح اسم لينين هو الدلالة الاساسية الاولية للعبارة " ما العمل ؟" . بغض النظر عن مزايا الكتاب ، الا ان هذا التطور الغريب كان نتيجة لعدة اسباب :
اولا – وبشكل اساسى – صراع القوى فى روسيا بعد موت لينين . لتعليل احقيتهم لتولى السلطة فى اول الى منتصف العشرينات ( 1920) ، خلق الثلاثى زينوفيف ، كامينيف واستالين ‘طائفة لينين ‘ يكونون فيها - كقدماء البلشفيك - قساوستها الاعلى . وكجزء من هذه الحملة تم توزيع " ما العمل " – مثلا بواسطة استالين – فى كتاب " اسس اللينينية " 1924 ، ومن زينوفيف تم توزيع " اللينينية ام التروتسكية " 1925 كحامل النص المؤكد لجوهرية اللينينية . وفى محتوى نقد تروتسكى لنقصان الديمقراطية داخل الحزب الشيوعى ، وجد الثلاثى الامر مناسبا ان يشيروا ، ضمن هرطقات اخرى ، ان تروتسكى تصارع سابقا مع لينين حول نقد مماثل ل " ما العمل؟" قبل عقدين من الزمان على وجه التحديد . وعليه ،لاسبابهم السياسية فى المدى القصير ، قام الثلاثى اولا ثم استالين بمفرده ، بالدعاية والتزكية للكتاب باعتباره الدليل التفسيرى القاطع لنموذجهم الاستبدادى الخاص لقيادتهم السياسية . وقد قام ليبراليو الغرب باحتضان تلك الصورة للينينية – بالرغم من افتقادها الجاذبية – كتصوير حقيقى للسياسة اللينينية . وبالقبول النشط للدعوى البذيئة لاستالين باعتباره الوريث الحقبقى للينين ، فان هذه المعارضة المنبثقة من ‘ حس سليم ‘ ، لا تخفى العملية التى من خلالها تدهورت الثورة الروسية ، و لا العملية التى من خلالها استطاع البولشفيك قبلها ، الفوز بالهجمنة فى صفوف اليسار الروسى . وكما يحاجج لارس لى ( Lars Lih) فى الدراسة الفخمة للفكر السياسى المبكر للينين ، فان الاخفاق الرئيسى للتفسير المعيارى للينينية هو انه يكاد يكون مستحيلا تصور كيف لتنظيم متحجر ، لاديمقراطى ودوغمائى مثل هذا ان ينجو من الخلاء الطائفى الموحش ، ليمثل تحديا جديا لنظام القيصر . ليس فقط ان البولشفيك نجحوا فى قيادة هذا التحدى ، وانما اثروا، ايضا ، ا فى بناء احزاب جماهيرية اخرى ، مثلت تحديات حقيقة للراسمالية فى قلب ارضها الاروبية فى نصف عقد بعد الحرب العالمية الاولى .

ولو اكتفينا بهذه الحقائق لوجدها ، فهى كافية لان تقترح اننا نحتاج الى قراءة المنتج السياسى للينين بصورة متخلصة من التجريدات المحنطة للينينية . وهو مشروع تتضح اهميته فى ظل البدائل المحدودة فى مجال التنظير السياسى . وفى تعليق ريموند قس بصدد غياب الارتباط الاجتماعى والسياسى لمعظم النظريات السياسية المعاصرة يقترح انه :
ترغب الفلسفة السياسية فى تكون مرتبطة بفهم جاد للسياسة ، وعليه لكى تصبح مصدرا مؤثرا للتوجه ، او دليلا الممارسة . فهى تحتاج للعودة من الاشكال الرجعية الحالية من النيوكانتية ، الى شئ يشبه وجهة النطر ‘الحقيقية‘ ، او لنضعها بشكل مختلف قليلا الى ‘للينينية جديدة‘ .


احتوت مساهمة لينين على اهمية تاريخية ، تنحو الصيغة الليبرالية للاسطورة "اللينينية " الى تغميضها وغمسها فى لجة الارتباك . لقد قاد البولشفيك ثورة انهت الحرب العالمية الاولى فى الجبهة الشرقية ، ونصبت منارة لاولئك فى الغرب ، الذين فعلوا الشئ نفسه فى السنة التالية . اكثر من ذلك ، قامت مساهمة لينين على تجديد نظرى للماركسية عمل على تأكيد الجوهر الثورى الديمقراطى لافكار ماركس ، فى وقت اذلالها على يد قيادة الحركة الاشتراكية الدولية فى 1914 . ترك الفرقاء فى زمن الحرب خلافاتهم الجانبية واتوا مجتمعين للتعامل مع الوضع الجديد لتحطيم الدولة العمالية الجديدة ؛ واندلعت الحرب الاهلية ليؤكد ذلك انها كانت اسوأ الظروف التى يولد فيها الكئن الجديد .

اهمية هذه الظروف فى تقديم تفسير مناسب لظهور الاستالينية ، تقترح انه من الخطأ الحكم على البلشفية بالنظر الى جثتها المتحللة . لم يتأسس حكم استالين فقط على تحطيم البوليتاريا الروسية وهزيمة الثورة الالمانية ، بل ايضا على تحطيم الحزب البلشفى نفسه . تم تخفيض اثر هذه الاحداث واحيانا تم تجاهلها تماما ، فى مقاربة خلقت امكانية للتعرف على الرعب الاستالينى فى صفحات كتيب " ما العمل؟" ؛ وهو منهج يسمسه لارس لى " الشروحات الساهلة للتاريخ السوفيتى " . ان المرور السريع ، من قبل نقاد اليمين للاشتراكية ، فوق الاسس الاجتماعية للاستالينية يبدو مفهوما ، بينما الذى يصعب فهمه هو انشغال اليسار الراديكالى بترديد اكليشهات منهكة ومسهوكة ، حول التأثير الفاسد للقوة والثورة التى تاكل ابناءها .. الخ ، تستبدل بذلك التحليل الملموس والمطلوب لاثار لينين .
.
مثلت ‘المركزية الديمقراطية‘ قضية محورية فى نقد سياسات لينين ، مربوطة بالاستبداد الاستالينى الى جانب كتيب " ما العمل ؟" طُرح هذا الجمع باعتباره حوهر اللينينية . ونشر لحمل عبء تفسير كل الاخطاء التى جرت فى روسيا بعد 1917 . إن المشكلة المفتاحية لهذا الادعاء - يقول لارس لى - ان المركزية الديمقراطية لم تطرح اصلا فى " ما العمل؟ " ، كما انها ليست لينينية فى منشأئها ، ولم تكن مبدأءً اساسيا فى سياسة لينين كما يقول لابلانك . هذه الحقائق لم يسمح لها بالتدخل والتعارض ، مع المنصة الايديولوجية التى انطلقت منها الاسطورة اللينينية فى الغرب ، تلك التى يسميها لارس لى " بالكتاب/المرجع المرسى " . بالنسبة للارس لى ، فان هذا الفهم/التفسير يعملان على مستويين يكملان بعضهما ، تنحو تفسيرات المرجع المدرسى للثورة الروسية لنزع " ما العمل؟" من محتواه الاجتماعى ، ليتم تصويره كمرجع للتنظيم والممارسة البلشفية ، ويتم تصويره بالتالى " كمرجع مدرسى " اخر يتم بمقتضاه – وبسهولة - تفسير التاريخ السوفيتى .

وفقا للارس لى فان المادة الرئسية لفهم " المرجع المدرسى " ‘ اللينينية ‘ تتضمن بشكل اساسى ان لينين كان يحتقر السعة الثقافية للعمال ، والذين هم غير قادرين على النجاة من براثن الهجمنة البرجوازبة . هذه الصفوية الثقافية وسمت مشروعه الخاص – اولا- ببناء حزب من ثوريين متخصصين ، والذين تحددت وظيفتهم فى جلب الافكار الاشتراكية للطبقة العاملة من اعطاف الانتلجنسيا البرجوازية ، وبعد ذلك - فى الحركة الثانية – يقوم هولاء الثوريين بقيادة الطبقة العاملة بطريقة متنزلة من اعلى الى اسفل . يقول المرجع المدرسى ان ذلك التصور قاد الى الاستالينية بعد ثورة اكتوبر . الى جانب انتشار هذا التصور وسط المؤرخين الرجعيين للدولة السوفيتية ، الا أنه يسود كمعرفة عامة وسط قطاع كبير من اليسار المعاصر .

يؤطر او يقوم النقد اليسارى للينين ، من خلال اشارة الى تناقض مفترض لفهم لينين للقيادة الاشتراكية ومقولة ماركس الديموقراطية القاطعة " ان تحرر الطبقة العاملة يجب ان يتم بواسطة الطبقة العاملة نفسها " . ان التصور الماركسى للاشتراكية يتجذر فى نموذجٍ لحركة الطبقة العاملة الديموقراطية من الاسفل ، يتصورها ماركس ناشئةٌ من صراعات قطاعية ومشتتة ، تنحو بشكل مستمر الى خلق واعادة خلق اختلافات بين الاقسام المتأخرة والاقسام الاكثر تقدما فى صفوف الطبقة العاملة . انتجت هذه العملية مفهوما عضويا للقيادة الاشتراكية . فى قلب الاضافة اللينينية للماركسية ، وهنا تكمن المحاولة المنتظمة للتعامل مع هذه المشكلة العملية . يقول لارس لى :
" احيانا ينظر للقول المأثور ( الاشتراكية هى التحرر الذاتى للطبقة العاملة ) كنقيض لرؤيا الطليعة ، ولكنها حقيقة ، تجعل من الطليعية فكرة تكاد ان تكون حتمية , فاذا كانت الطبقة العاملة هى الجهة الوحيدة القادرة على تقديم الاشتراكية ، اذا فعليها ان تمر من خلال عملية متجة نحوها فى جاهزية راكزة لانجاز ذلك الفعل العظيم . انهم خصوم لينين الذين لم يتعبروا الامكانات الاشتراكية للطبقة العاملة الروسية ، واتهموه "بالافراط فى التفاؤل بخصوص امكان الوعى والتنظيم البروليتارى " . بقول لارس معيدا صياغة رد لينين :
" ان نضاليتنا الصدامية ليست هى المشكلة لانها تتزايد وتتسارع فى قفزات من تلقاء نفسها
، المشكلة ،الحلقة الضعيفة ، هى قيادة فعالة من الحزب لكل هذه الصدامية . جريدة الشرارة
تركز انتباها تحديدا على هذه المشكلة - وهى قصور وعجز الديمقراطيين الاشتراكيين ،
وليس قصور الطبقة "

صورة العضو الرمزية
Isam Ali
مشاركات: 230
اشترك في: الأحد مارس 04, 2007 11:37 pm

مشاركة بواسطة Isam Ali »

مساهمة بول لى بلانك ( Paul Le Blanc ) فى الندوة


يعتبر الكتاب مساهمة كبيرة لفهم لينين ، البلشفية ، الماركسية والحركة التاريخية للثورة الروسية وللشيوعية . مساهمة تقف كتحدى فعّال للتشويهات والدوغما ضد-للينينية ، و الدعاية ضد-الشيوعية التى سادت الاكاديميا والاعتقادات الشعبية منذ الخمسينات فى القرن الماضى (1950) فى الدول الراسمالية المتقدمة ، ومنذ التسعينات (1990) فى باقى بقاع العالم . كتاب لاغنى عنه للمؤرخ الجاد او للناشط السياسى يسعى للاستفادة من دروس الماضى لمعالجة قضايا الزمن الحاضر واحتمالات المستقبل .

فى وضوح كتابته ، وجودة تعقله وفعالية توثيقه ، يقف الكتاب كعمل لايمكن تجاهله باى اكاديمى منخرط فى فحص جاد لحياة وفكر لينين . واكثر من ذلك ، فهو هدية للناشطين السياسيين الجادين ، والذين يسعون للاخذ من دروس وتقاليد الماضى ، للوصول الى امكانيات اليوم والمستقبل ، يضعونها نصب التبصر والانتباه .
يطرح الكتاب تحديا جريئا مبتكرا ، مستهدفا لما يسميه لارس لى "بتفسيرات الكتاب المدرسى" (textbook interpretation ) لكتاب " ما العمل ؟ " ، والذى يمثل اتفاقا عاما بين المتخصصين و العارفين . انطلقت تلك التفسيرات من كتب العلوم الساسية و التاريخ الروسى الى المراجع الثانوية ، ليتم تدويرها بلا توقف . ويلخص لارس لى " فاذا وضعنا إدعاءات تلك التفاسير معا ، سنكتشف أن " ما العمل ؟" هو تجديد نظرى وتنظيمى عميق ، دستور البلشفية والمصدر النهائى للاستالينية " ، وهى حزمة من الادعاءات لم تستطع الصمود امام هذه المذبحة الاكاديمية .

يقدم لارس لى لينينا ملتزما كليا بتأسيس ديمقراطية سياسية ، بإعتبارها ضرورة قصوى للصراع من اجل الاشتراكية ؛ لينينا امتلك ثقة كثيفة واثقة فى قدرة الطبقة العاملة – وسعاتها الطبيعية - على تشرّب الافكار الثورية الاشتراكية ، وعلى الالتزام الصلد بالصراع من اجل عالم افضل مختلف بشكل راديكالى ، لينينا مصمما على بناء حزب طبقى جماهيرى ، يقوم على برنامج مؤسس على المبادئ القادمة من تصور ماركسى للعالم . لقد دمر الكتاب - وتماما - التصورات التى عرضت لينين مفارقا لماركس ، والذى لم يكن يثق فى الطبقة العاملة و " عفويتها " ، وإنه كان صفويا ومتسلطا . ولكى ينجز ذلك ، قام لارس لى بجمع حقائق متنوعة ، وفتح خطوطا محددة من الافكار اثرت ما نعرفه وما نحمله من فهم . فيا له من انجاز فخيم .

ومع ذلك ، هناك ملمح اشكالى فى الكتاب يبرر بعض الفحص والتدقيق النقدى . فقد حفل جزء من مناقشات الكتاب على بعض الادعاءات التى اتسمت بالمبالغة قدمتها استراتيجية ادبية مؤسفة وسمت بنية مناقشته . ولكنى لا ازال ، اعتقد بان ذلك لا يؤذى التوجة الاساسى لهذه المساهمة ، والتى قامت .فحص ما فكر فيه وما قاله وفعله لينين حقيقة . ولكنه يقدم تشويها فى المسائل الثانوية ( من الدرجة الثانية) المتعلقة بعلم التاريخ اللينينى ، والكيفية التى فُهم بها لينين من قبل مجموعة مؤثرة من الناشطين المنحازين اليه فى القرن العشرين .
يقدم لارس لى كتابه كتحد جاسر مبتكر لما سماه "تفسيرات الكتاب المدرسى " ل " ما العمل ؟ " ، كتاب لينين الاساسى (1902 ) بصدد معالجة المسألة التنظيمية . يقول لارس لى ان "تفسيرات الكتاب المدرسى " لم تقدم بواسطة الاكاديميين (يذكر منهم 14 ) وانما ايضا الناشطين فى حركة التقاليد التروتسكية ( خاصة : تونى كليف ، جون مولنيو ولى بلانك ) . يدعى لارس لى أن الناشطين مالوا الى توفير ارضية متسعة لافتراضات الاكاديميين عن محتوى تسلطى و صفوى " لكتاب ما العمل؟" متأثرين فى ذلك بمجادلات 1904 بينه وتروتسكى وروزا لوكسمبورج والتى ذكرها وارتكز عليها بعض الاكاديميين .

وانا اصر على ان هذه الحجة هى حجة متأنقة بشكل زائد عن اللزوم ، فالواقع اكثر فوضى واكثر اثارة للاهتمام . ويبدو غريبا ان لارس لى لا يعط اعتبارا حتى ولو كان بسيطا لمناقشات مهمة للينين والبلاشفة قدمها ايزاك دويتشر ، كار ، موشيه لوين ، سى .إل.آر جيمس ، فيكتور سيرج ، إرنست ماندل ، مارسيل ليبمان ونيل هاردنج . فإن من شأن ذلك أن يعيق انسجام التعميمات الانيقة التى اطلقها بصدد تفسيرات الاكادميين والنشطاء ، ومن شأن ذلك – ايضا – أن يظهر أن تفسيرات لارس لى ليست ذلك التجديد الذى يؤمى اليه . كمثال انظر الى الى نعليق سى.إل.آر جيمس فى 1963 والتى تبدو كتلخيص مغتضب لمناقشة لارس لى : " نظرية وممارسة الحزب الطليعى ، دولة الحزب الواحد ، ليست ( واكرر ) العقيدة المركزية للينينية , ليست العقيدة المركزية ، ليست عقيدة مميزة اصلا ، ليست كذلك ولم تكن . كانت لللينينية والبلشفية ، عقائد مركزية . احداها نظرية ، وهى الانحدار المحتوم للرأسمالية الى البربرية . وعقيدة اخرى اجتماعية ، مرتبطة بالطبقة ، بموقعها وتدريبها وعددها فى المجتمع ، وهى أن الطبقة العاملة هى القوة الوحيدة التى بمقدورها منع الانهيار واعادة بناء المجتمع . يتكون الفعل السياسى فى تنظيم حزب يسعى لتحقيق تلك الاهداف . هذه هى المبادئ المركزية للبلشفية . لم يأت التصلب للتنظيم السياسى من العقل الديكتاتورى للينين ، بل من مصدر اقل تميزا هو الدولة البوليسية للقيصر. حتى الوقت الذى بدأت فيه الثورة فى مارس 1917 ، كان المستقبل الذى تصوره لينين وعمل من اجله هو تأسيس الديمقراطية البرلمانية فى روسيا وقفا للنموذج البريطانى والالمانى . طمحت البلشفية فى نظام ديمقراطى برلمانى لآن ذلك كان عقيدة الماركسية الكلاسيكية ، إنه من خلال الديمقراطية البرلمانية ، يتم تعليم وتدريب الطبقة العاملة وكامل الشعب من اجل التحول الى الاشتراكية " .

ليست المسألة –اذن - أنه قد تم اعادة اكتشاف لينين فقط بظهور هذه الدراسة الممتازة ، يبدو لى ( ولربما بشكل لا يثير الدهشة ، طالما كنت احد اؤلئك الناشطين المستهدفين) ان مناقشة لارس لى هى مناقشة متأنقة بشكل بشكل زائد ، وساتناول ذلك فى نهاية هذه المقالة فى ارتباط بالتطورات التى لحقت بالبلشفية فى السنين المتأخرة . لكن علينا اولا ان نفحص مليا المميزات الباهرة لهذا العمل المهم .

I
ماهى الرؤيا اللينينية للحزب الثورى المطروحة فى الكتيب ؟ وفقا للارس لى يمكن تلخيص توجهات لينين كالاتى : خلق حزب عمالى ثورى قائم على استخدام جدى للنظرية الاشتراكية والتحليل العلمى ، يعمل على جذب اعداد متزايدة من العمال الى داخل صراع واع ضد كل اشكال القهر ، وانه من غير المتوقع ان يتم ذلك بسهولة او بتلقائية ، انما من خلال جهود مثابرة متصلة ومتسقة من قبل الثوريين الاشتراكيين . لن تصبح الطبقة العاملة قوة للثورة الاشتراكية بشكل اتوماتيكى ميكانيكى ، بل يمكن ان تتطور لتصبح كذلك بالمساعدة الجادة يقدمها الحزب الثورى . هذا الحزب – المستفيد من التجارب السابقة والمستند على اكثر النظريات الاجتماعية تقدما و على رؤية واسعة اشتراكية يتيحها لعدد متزايد من افراد الطبقة – سيكون عنصرا حيويا فى عملية التعلم الذاتى والتنظيم الذاتى للطبقة العاملة ، يساعد فى تطوير اندفاعات طبقية تلقائية نحو الديمقراطية والاشتراكية ، ويحولها الى قوة اجتماعية متماسكة منظمة وذاتمنعة وبأس .

وقد استطاع لارس لى وبدقة اكاديمية عالية ان يثبت ان ذلك التصور هو قلب وجوهر كتيب "ما العمل ؟" والكتابات الاخرى منذ 1890 وحتى الانتفاض الثورى فى 1905 . لقد قرأ لارس كمية كبيرة من النصوص فى عدد من اللغات مما ساعد فى استحضار محتوى كتابات لينين لبؤرة ضوء وتركيز كما لم يحدث فى اى وقت مضى . واكثر من ذلك ، وبملاحظة احتذاء لينين بتجربة الحزب الديموقراطى الاشتراكى الالمانى ، ركز لارس لى على مساهمة كاوتسكى الباكرة واثرها على اليسار الثورى الروسى ، ولينين بالذات . ويمكننى – هنا – ان اجادل ان لارس لى مارس "ثنى العصا " بدرجة اكبر مما يلزم ، وذلك فى تجاهله للنقد الباتع لما سمى "بالماركسية القدرية" للاممية الثانية . وهو النقد الذى طرح فى العشرينات (من القرن الماضى 1920 ) من امثال لوكاتش / كروش وجرامشى ؛ كما انه لم يكن منتبها للملاحظات النقدية التى اشتغلت على تطويرها روزا لوكسيمبيرج والماركسيين الثوريين الاخرين ( ريازنوف ، بارفوس ، تروتسكى ، راديك ، راكوفسكى ، الخ) فى ذلك الوقت . وهى معالجات نقدية – اكدتها هزيمة 1914 التراجيدية – والتى دفعت لينين الى مراجعة تقييماته القائمة ، ولاعادة ترتيب ماركسيته وشحذ حدها القاطع . ولكن يمكن وضع ذلك جانبا ، من اجل تقديم فهم جاد للينين والماركسيين الروس فى بداية سنين القرن العشرين (1900 ) ، ولفهمهم للماركسية والاممية الثانية لليمقراطية الاشتراكية الالمانية ، وهذا ما انجزه لارس لى .
يساعدنا ذلك فى رؤية " ما العمل ؟ " - بعيدا عن فكرة التصميم المغلق لخلق " حزب من نوع جديد " ( كما يصر الدغمائيون السوفيت واكاديميو الحرب الباردة الغربيون ) باعتباره التعبير عن التوجه العام للغالبية العظمى للديمقراطيين الاشتراكيين الروس ، الساعى لخلق حزب عمالى اشتراكى ، فى التربة الروسية ، فى الظروف الروسية ، يقترب من النموذج الالمانى ، بكل القدر المتاح . و يتضمن ذلك الالتزام الجوهرى بدفع اعمق العمليات الديمقراطية كأساس ضرورى لصراع الطبقة العاملة من اجل الوصول الى السلطة وبدء اعادة البناء الاشتراكى للمجتمع .

فى بناء حجته ، يقدم لنا لارس لى تحطيما دسما للخرافات ضد-لينين ، الواحدة تلو الاخرى . لنعتبر مثلا تعليقه على رتشارد بابيس (Richard Pipes ) :
" احيانا يقترح مؤيدوا " المرجع/الكتاب المدرسى " افتراضات لم يتفوه بها لينين . مثلا ريتشارد بايبس يلخص مقالة للينين كتبها فى 1899 بالقول بان " افتراض لينين غير المصرح به ان اغلبية الشعب هى فعلا او امكانا رجعية ؛ نتيجته غير المنطوقة هى ان الديمقراطية تقود الى الرجعية ". فبايبس هنا محقا تماما ، فلينين لم ينطق هذه الافتراضات ابدا . افتراضات لينين المنطوقة كلها كانت بصدد غالبية الجماهير تقتحم قلعة الاستبداد من اجل تحقيق الحريات السياسية الديمقراطية ، باعتبارها الخطوة الضرورية التالية نحو الاشتراكية ."
مثال اخر ، ياخذ لارس لى عبارة من "ما العمل ؟ " تم تشويهها فى " المرجع المدرسى " وبشكل متسق : " قلنا انه لم يكن ممكنا وجود وعى ديمقراطى اشتراكى بين العمال " ، وبافتراض انه قد تمت ترجمتها من النص الروسى ، فقد جعل ادم اولام ( Adam Ulam ) لينين يدعى : " لا يمكن للوعى الاشتراكى ان يتواجد بين العمال " . واستخدمت مثل هذه الافتراءات لتمرير فكرة ان لينين اعتقد انه فقط المثقفين الثوريين – مثله- هم من يصلح لقيادة العمال الجهلاء ( غير القادرين على التفكير الاشتراكى ) فى الثورة الاشتراكية . لقد تم كشف عدم إتساق مثل هذا النوع من الاطروحات ، بعبارة لارس لى المفسرة لوجهة نظر لينين : " لم يحتاز العمال الروس الذين انجزوا الاضرابات البطولية فى منتصف سنين 1890 الانتباه الاشتراكى بعد ، ولم يكن من المتوقع ان يفعلوا " . الا أن تفسير اولام حوّل عبارة لينين المرتبطة بتاريخ محدد ، الى موقف عام حول العمال ، بما هم كذلك ، فى كل مكان وفى كل الاوقات . وقد مثلت مثل هذه القراءات الخاطئة خلفية لبعض التأكيدات غير العادية لبعض الاكاديمين ، مثلا جيمس دى. وايت ، والذى يؤكد ان وجهة نظر لينين " يبقى الوعى الاشتراكى دائما خارج الطبقة العاملة ، لانها لاتستطيع – ابدا - ان ترى ابعد من مصالحها الطبقية المادية الضيقة " . يبدو مستحيلا الا توافق لارس لى وهو يعلق ساخرا : " مدهش " . لم يكن صعبا هلى لارس لى ان يوجه انتباهنا الى فيوض من الكلمات والتحليلات ، نابعة من لينين تفسه ، ومن مصادر متعددة ( بما فيها خصومه ) ، ومنها ليوضح ان المهمة المركزية للينين تركزت فى تحقيق اندماج الاشتراكية وحركة الطبقة العاملة ، وهى مهمة لم يتنازل عنها بتاتا ؛ يقول لارس لى :
" افتراضات متأكدة بصدد قابلية الطبقة العاملة على تلقى رسالة الديمقراطية الاشتراكية
وبصدد قدرة ناشطى العمل السرى على بناء وحفظ منظمة سياسية على نطاق الوطن ( بالرغم من ظروف القهر القيصرى ) ، منظمة تستطيع غرس جذورها فى المحيط العمالى ، وتتفادى فى نفس الوقت مصير تحطيمها على ايدى بوليس القيصر ... لقد حاجج لينين عموما ان " العمال المتقدمين " هم اصلا ديمقراطيين اشتراكيين ملتزمين ، وإنهم فى موقع نموذجى لنشر الرسالة الى مدى ابعد ، طالما أنه يتم قبولهم من العمال كقيادتهم الطبيعية " .
كان للارس لى صبرا قليلا حتى للثوريين المرموقين الذين انغمسوا وبتساهل فى تشويه وجهات نظر لينين . يقول لارس لى " فقد منح وضع لوكسيمبيرج كايقونة لليسار ، موقفها المعادى للينين ، سلطة معفاه من النقد قبلت من الاكادميين والنشطاء " . و يستطرد " وباعتبار الضرر الذى سببته بمقالها ، فانى اشعر كمؤرخ ، انه من واجبى ان اشير الى ان مقالها لم يكن نقدا متبصرا ولا تنبؤى ، وانما كان هجوما ضاريا ضعفت اخلاقه ." وهو حكم قاس ، ولكنه صحيح ، تؤكده ابحاثى الخاصة .

ومرة اخرى ، فان بعض ما يهبه لارس لى يتمتع بالمفارقة الشهية . فمثلا ، فى مناقشة لوكسيمبيرج : " كان لينين يتجه وبدرجة كبيرة نحو التحكم المركزى ، لدرجة انه لم يلحظ الدور الخلاّق لحركة الطبقة العاملة نفسها ، واشارت الى سلسلة من المقالات – بدون توقيع – نشرت فى الايسكرا تمجد الاعمال الجماهيرية التلقائية للعمال فى مدينة روستوف ، ويوضح لارس لى انه لم يكن معروفا للوكسيمبيرج ان تلك المقالات كتبت بواسطة لينين شخصيا !
احد اكثر النقاط المثيرة للاهتمام فى رصد لارس لى لانقسام 1903 ونتائجه ، هى موقع الناشطين الحزبيين من العمال فى اللجان العاملة تحت الارض ( فى العمل السرى) ، كما عبر عنه فى دوامة الصراع الفكرى . وهى تثير اهتمامى لدرحة اننى ساستسلم لاغراء اقتطافها المطول :
" اذن ، فقد اعتقد المنشفيك بسهولة التخلص من لينين ، وكان لمفاجأتهم غير السارة ان يكتشفوا عكس ذلك ، واضطروا محبطين الى الاقرار بأنه كان بطلا للناشطين الحزبيين ؛ فقد كان قاعدة قوته خارج النواة القيادية . لقد نجا لينين من المذبحة ، ويجب ان يكون سبب ذلك لانه ديماقوق . والاخير يحتاج الى الدهماء الذين يمكن خداعهم بسهولة . وهكذا اضطر المنشفيك الى توسيع محيط نقدهم ليضم اغلبية الناشطين الحزبيين . وقد مثلت المرارة والاحتقار الموجهة نحو الناشطين الحزبيين سمة اخرى من سمات الحجاج المنشفيكى فى 1904 . وبينما وجهت الاساءات رسميا نحو مناصرى لينين ، الا أنه لم توزنها او تقابلها اى اشادة او تشجيع للناشطين فى صفوف المنشفيك . يمكن تمييز شعور من السخط من قبل متعلمى المهاجرين - اولئك المواطنين العالميين – تجاه شباب الناشطين الحزبيين شبه المتعلمين والقاطنين للاقاليم المختلفة فى روسيا . وقد اتى التعبير الاكثر شمولا لتلك الميول فى سلسلة من المقالات نشرها بوتريسوف فى 1905 . وقد صورت تلك المقالات تاريخ العمل الثورى السرى الروسى كسلسلة من المغامرات الفاشلة قامت بها محموعة من الناشطين الاقليمين والمعتدين بانفسهم بشكل كوميدى . ولقد حظى لينين بالنفوذ وسطهم لانه شارك وعمل على صياغة وعكس تلك الاوهام .
لايوجد شئ مثل هذا فى حجاج البولشفيك ، والذى صُوّبَ حصريا ضد هيئة تحرير الايسكرا وحلفائهم ، مثل تروتسكى . التقط سريعا كل من اولمنسكى وبوجدانوف هذه السمة فى كتابات المنشفيك ، وقد صورا الانقسام كصراع بين ارستقراطية الحزب واصحاب الفخامة من كتاب المهاجرين فى جانب ، والدهماء و المترقين ( الرانكرز ) فى الجانب الاخر . وجدت قيادة المنشفيك نفسها فى وضع يتسم بالمفارقة الصرفة . فالايسكرا هى الجسم المركزى الناطق باسم الحزب . ولكن من صفحاتها فى 1904 ( ومن صفحات كتاب تروتسكى "اهدافنا السياسية ") ، يمكن رسم صورة محطمة للحزب الروسى ، سياساته وشخصياته . صورة كتبت بغضب وبكامل العداء . جمع اولمنسكى عددا من مثل تلك الصفحات ، وتساءل لماذا يقوم اولئك الناس الذين رفعوا الى سدة القيادة بواسطة هؤلاء الناشطين المحتقرين ، بالاساءة الى الحزب بهذه الطريقة ؟ "


نواصل مع لى بلانك
صورة العضو الرمزية
Isam Ali
مشاركات: 230
اشترك في: الأحد مارس 04, 2007 11:37 pm

مشاركة بواسطة Isam Ali »

II
احدى طرق التصدى للتصور الخرافى الذى طرحه لارس لى " للناشطين " ، هى فى تقديم بعض المعلومات من السيرة الذاتية الخاصة بارتباطى بكتاب "ما العمل ؟ " ، ونوع ومجرى عملية تطوير فهم للينين ، انتجت فى سياق مستمر دراستى المسماة : " لينين والحزب الثورة " . واتصور ان تكون لكليف و مالينو ( من الناشطين) قصة مختلفة ، فبالرغم من الارضية العامة المشتركة بيننا – الا انه لا زالت توجد الاختلافات بين تفسيراتهما والتفسيرات الى تخصنى .

اكتشفت فى شبابى الباكر ، ان التصورات المثالية لوالدىّ واقربائى المفضلين ، تتعرض الى هجوم مستمر من الثقافة السائدة فى الولايات المتحدة ، بما فيها مجلة " القارئ الاسبوعى " والتى تلقيناها اسبوعيا فى المدرسة المتوسطة فى حصة الدراسات الاجتماعية ( تعرض صورة لجورج واشنطون النبيل ، ولينين الخبيث تحت الشعار العريض " الديموقراطية تعنى الحرية ، والشيوعية تعنى الطغيان ) . وهناك ايضا تعريضات مجلة الحياة للشيوعية ، وبدون ذكر الهجوم الفج على الشيوعية فى كتاب ( ذو سعر مناسب جدا ) بعنوان " متقنى الخداع " لمؤلفه جى. ادغار هوفر زعيم المكتب الفدرالى للتحقيقات ( اف . بى . آى) .

كان والدى يعمل كمنظم للنقابات العمالية ، مرتبطا بالحزب الشيوعى (1930 -1950 ) . كنت اعرف – وانا فى الثالث عشرة من عمرى – قناعته بالشيوعية ، والتى راءها كعملية تتيح اشتراك جميع الناس فى الموارد الوفيرة فى المجتمع ، بحيث يستطيع كل شخص تلبية احتياجاته المادية ، مع انفتاح افق نضير لحياة حرة خلاقة .
سألت والدى يوما ، ماذا بشأن لينين ؟ فشرح لى انه كان منحازا للعمال ، وانه كان مدفوعا بالغضب من اشياء مثل القهر والاستغلال ، وانه كان شخصا صلدا مصصما على بناء منظمة تعمل على تغيير العالم ؛ ومنذ ذلك الوقت نظرت الى لينين كممثل لشئ ايجابي كبير. وفى 1962 اشتريت كتابا محتشدا ، لمؤلفه الاجتماعى الراديكالى سى . رايت ميلز بعنوان " الماركسيون " . وفّر ميلز – غير المعادى للينين – نموذجا لما يسميه لارس لى ب " تفسيرات المرجع المدرسى " ، نوعا من الكتابة تؤكد ان السمة المميزة لوجة نظر لينين هى تفضيل " حزب منضبط ، منظم بشكل دقيق من ثوريين محترفين يمثلون ( او يحلون محل ) البروليتاريا باعتبارها القوة التاريخية التلقائية للثورة . تقبلت ذلك ، حتى بدأت قراءتى العميقة لايزاك دويتشر بعد سنين قليلة لاحقة ، اولا سيرة ستالين ، ثم ثلاثية تروتسكى . كانت التصورات المطروحة هنا غير منسجمة – وبشكل كبير مع تصورات و" تفسيرات المرجع المدرسى " . هذا الى جانب قراء " الدولة والثورة " والكتابات القصيرة الاخرى للينين ، وكتاب هال درابر (Hal Draper ) " روحين للاشتراكية " ( والذى وضع لينين بشكل حاسم ضمن التقاليد الثورية الديمقراطية ) ؛ وقد اهلنى كل ذلك لقراءتى الاولى ل" ما العمل ؟ " ذو الصيت . ولكن كان هنالك –ايضا – مؤثر اخر ، حاسم .

فى سنتى الاخيرة فى المدرسة الثانوية العليا ، انضممت الى منظمة ‘طلاب من اجل المجتمع الديمقراطى‘ ؛ وفى 1965 ذهبت الى تنظيم فرعها فى جامعة بتسبيرج . ثم عملت فى السنة التى تلتها فى المكتب الوطنى للمنظة فى شيكاغو . كانت اياما مثمرة ومثيرة ، شهدت نمو تجربتى بشكل كبير . اثناء وجودى هناك ، اتيح لى ان الامس وبشكل قريب مشكلة عدم كفاية وعدم مناسبة التنظيم على المستوى الوطنى ، فقد كان مشتتا يعمل على طريقة الهواة ، ويفتقد التأثير ، بالرغم من امواج الراغبين المتدفقة ، تجّدُ فى طلب العضوية وترغب فى الانتماء .
بنهاية السنة ، جلست وكتاب " ما العمل ؟ " ، وقرأته بانتباه عال . تعرضت كذلك لانواع من "تفسيرات المرجع المدرسى " يقدمها من امثال اللينينى السابق ( الممتلئ بالمرارة ) بيرترام دى . وولف ، فرفضتها بكامل الازدراء المستحق . فقد كان الكتاب بالنسبة لى نصا ثوريا مضيئا وملهما ، ينسجم مع " الدولة والثورة " ليكونا كلا ديناميكيا يضج بالحيوية . بمرور السنين ، دعمت ذلك ب " خطوة الى الامام ، خطوتين الى الوراء " ، الى جانب بعض كتاباته القصيرة مثل " الاهداف العاجلة لحركتنا " و" كارل ماركس" . ساعدت كثيرا كتابة كروبسكايا " ذكرى لينين " فى وضع هذه المساهمات فى محتوى وسياق ينزع للاكتمال . فى السبعينات الباكرة (1970) ارتبطتُ وساهمتُ فى المناقشة التى جرت ، بصدد المساهمات البانية للينينية ، والتى طرحها تروتسكى ( ما بعد 1917) ، ومساهمة ارنست مانديل ( خاصة كتابه " النظرية اللينينة للتنظيم " ) ، وامتزج ذلك بالتقاليد الغنية للراديكالية الاميركية ( جيمس بى. كانون Games P. Canon ) ؛ وطدت كلها حسا ايجابيا تنعدم صلته " بتفسيرات المرجع المدرسى" . لقد تبعتْ الحركة التروتسكية – والتى جذبتنى لها – تروتسكى فى صرفه ( او تجاوزه) لحجاجه المضاد للينين فى 1904 حول" الاهداف العاجلة لحركتنا " ، وبالرغم من احترامنا الكبير لروزا لوكسيمبيرج ، الا اننا رفضنا كذلك هجومها المبكر على لينين .

لم يكن رضائى كاملا للتقييم الايجابى والكثيف من تونى كليف للينين ؛ فلم اقبل تقيمه السلبى ( فى بعض جوانبه) لكتابى المحبوب " ما العمل ؟ " ، وانما احببت تأكيد نيل هاردينج ( Neil Harding ) فى كتابه " الفكر السياسى للينين " - واعمال اخرى – للاتساق فى توجه لينين مع الماركسية ، بشكل حاسم وبكل بساطة .
فى الثمانينات ، وتحت تأثير والحاح جورج بريتمان ( George Breitman ) ، كتبت " لينين والحزب الثورى " . كانت الاضرار الكبيرة قد اصابت زاويتنا الصغيرة فى الحركة التروتسكية ، ، بسبب من " لينينية " افترض فيها غيها السادر فى الضلال . وقد كانت الاستعادة للينينية الاصيلة هى احد الاهداف الرئيسية للكتاب ، وبطريقة اعتقد انها مفيدة للثوريين المعاصرين واولئك القادمين من فضاء المستقبل . وقد رصعّتُ الكتاب بالمفاهيم والمقتطفات من " ما العمل ؟" والكتابات الباكرة الاخرى للينين ، فظهرت مرتبطة ببعضها فى عرض ايجابى لما فكر فيه لينين وما قاله .

وبعرض كل ذلك ، يجب الا يكون مفاجئا أن خلاصاتى من وبصدد " ما العمل ؟" ، لا تتطابق تمام مع ما وصفه لارس لى بموقف " الناشطين " . الخلاصة التالية تعكس – تقريبا – موقف لارس لى : " فالحجة العامة التى تحتويها – بالرغم من المبالغات الحجاجية – تبقى معقولة ومفيدة لفترات قادمة ، بما فيها فترتنا الحاضرة ... لقد شعر بعض الكتاب اليساريين – فى السنين القريبة المنصرمة - بالحاجة للابتعاد عما سماه تونى كليف " التأكيد الميكانيكى والمبالغ فيه للتنظيم فى " ما العمل ؟" ،ولكن التأكيد القوى – فى ذلك الكتاب – على التنفيذ العملى للتصورات الثورية ، يستمر فى احداث تاثيراته الى اليوم ، حتى وبعد مرور ثمانية عقود . وانه شئ يستحق الاعادة والتأكيد أن لينين اشرك فى توجهاته كل اولئك الذين تحلقوا حول الايسكرا .. وكما ظهر ، فان لينين كان من القادة القلائل لتيار الايسكرا المستعدين لمتابعة نتائج تلك التوجهات الى النهاية " .
حملتُ وجهة النظر هذه ، وعبرت عنها فى دراسات لاحقة : " من ماركس الى قرامشى " ، و"ماركس ، لينين والتجربة الثورية " ، كجزء من استكشاف نقدى متنام ، مما يبدو لى ملائما ومتسقا مع الروح اللينينية .

III
لا يحتاز التصوير الخاطئ " للناشطين " على الاهمية الكبرى ، وإنما فهم لينينية لينين ، والتى اسدى اليها لارس لى مساهمة جمة . يقول لارس لى " هذه الدراسة ليست منحازة الى او ضد لينين " . كما يقول ان " هدفها ان تعطى رصدا دقيقا لرؤية لينين واحكامه التجريبية العملية " . ولكن ، يبدو ان ذلك غريبا ، باعتبار النغمة العالية الغامرة المنحازة الى لينين ، تصدح من ثنايا الكتاب . والحقيقة فان الانحياز الى لينين على يد اكاديمى ضليع ، من شانه أن ينتج " قراءة متعاطفة " ، تقود الى رصد متسق ومتعمق ، يتجاوز تاكيدات " الاكاديميا " السائدة بين اعداء الشيوعيين اثناء الحرب الباردة وبعد انهيار الاتحاد السوفبتى . فعمل كهذا ، يقف فى وجه تيارات من التفسيرات المعيارية ، يرفض الخضوع للامزجة السائدة ، ويعرض نفسه – بذلك - لخطر التجاهل والتشويه .
قد يكون هناك ميل فى دراسة لارس لى الى تفخيم الناشطين الحزبيين الذين وقفوا الى جانب لينين . اقتطف من "ذكرى لينين " بقلم كروبسكايا ، ما يلى : " وجدت المنظمات الحزبية فى شكل اللجان الحزبية المحلية ، وغير القانونية ، منخرطة فى اصعب الظروف للعمل السرى . وكنتيجة لذلك خلت هذه المنظمات من اى عضوية عمالية ، بالرغم من اثرها العظيم على الحركة العمالية . فقد عكست المنشورات والبيانات مزاج جماهير الطبقة العاملة ، والتى عرفت الان ان لها قيادة ...
" رجل اللجنة " (اى عضو اللجنة الحزبية- المترجم ) هو شخص واثق من نفسه ، فقد رأى التأثير الكبير لعمل اللجنة الحزبية على الجماهير ، وبالنتيجة لم يعط اعتبارا لأى ديمقراطية حزبية داخلية . فهى لا تقود الا الى المشاكل مع البوليس . ‘نحن مرتبطين بالحركة كما هى ‘ ،هو مما يمكن ان يقوله " رجال اللجنة " . فى دواخلهم ، حملوا ازدراء – على الارجح – للعمال الحزبيين العاملين فى الخارج ؛ فقد راؤا فيهم مجموعة من المنخرطين فى الصراعات الشخصية ‘ كان يجب ان يجبروا على العمل تحت الظروف الروسية ‘ . اعترض " رجال اللجنة" على تأثير المركز الموجود بالخارج ... وقد تزعم بوغدانوف هذا الاعتراض . "
وتضيف كروبسكايا " لم يكونوا من محبذى التجديد . لم يكونوا راغبين ولا قادرين على التأقلم مع الظروف فى تغيرها المتسارع . لقد ادوا اداءا كبيرا فى الفترة 1904 – 1905 . ولكن وجد –عدد منهم - صعوبة بالغة فى التاقلم على الظروف التى زادت فيها مساحة العمل القانوني ومناهج الصراع المفتوح . تدعم عديد من مذكرات الناشطين (بولشفيك ومنشفيك) ماذكرته رفيقة لينين . فى خضم اضطرابات ، تدفقات وفرص 1905 ، شعر لينين باهية وضرورة الكتابة الى رفاقه الناشطين الحزبيين : " تأكدوا ان تضعونا فى صلة مباشرة بالقوى الجديدة ، بالشباب ، بالدوائر المتكونة حديثا .. الى الان ، لم يعطنا اى من الناشطين فى بيترسبيرج – ياللعار – اى منظمة جديدة فى المدينة . انها فضيحة ، انه تقاعسنا ، سيرة تحطمنا ! خذوا درسا من المنشفيك ، بحق المسيح " .
ليس فى دراسة لارس لى ما يعدنا لاى من هذا .

لقد حملت عقلية " رجال اللجنة " بذور الصراع الانقسامى والذى قاده بوجدانوف ، تبدى فى 7-19011 ، وانتج عمليا اكتمال الانقسام . علقت كروبسكايا : " اعلنوا ، ان على البلشفي ان يكون متصلبا غير متنازل . واعتبر لينين انها نظرة تنطوى على مغالطة . فهى تعنى التخلى عن كل الاداء العملى ، والوقوف جانبا بدلا من الانخراط فى مسيرة الجماهير والمساهمة فى تنظيمهم وهم يخوضون صراع الحياة الحقيقية . قبل ثورة 1905 ، اظهر البولشفيك قدرات على انتهاز اى امكانية قانونية للمضئ قدما وعلى قيادة الجماهير تحت اكثر الظروف المعاكسة . خطوة بخطوة ، بدءا بحفلات الشاى والترويح ، و وصولا الى قيادة الجماهير فى العصيان المسلح على مستوى الوطن . ان القدرة على التكيف مع اسوا الظروف ، فى نفس الوقت البقاء فى الموقع البارز المتقدم مع المحافظة على المواقف المبدائية ، هذه القدرة هى بالذات جوهر التقاليد اللينينية . " .

ويقترح ذلك درجة اكبر من التعقيد فى قصة لينين والبلشفية الباكرة مما ذكره رصد لارس لى . ولكن ، وفى الدفاع عنه ، يجب ان نذكر انه اوقف القصة قبل ان تتضح تفاصيل تلك التعقيدات . الشئ نفسه يمكن ان يقال على امور اخرى تعمل على تعقيد القصة غير المكتملة التى قدمها لارس لى . فمثلا ، حجته أن الحزب الديمقراطى الاشتراكى الالمانى هو ‘حزب من نوع جديد ‘ تبدو متماسكة نسبيا - لو اوقفنا القصة فى بداية 1905 - ، واتاحت للارس لى الاستمتاع على حساب احد " الناشطين " الكُتّاب ، حيث يكتب لارس لى : " يتحدث الناشطون الكتاب – ايضا- وكأنهم يعرفون لينين اكثر مما يعرف نفسه . مثلا ، يكتب جون مالينو ان " لينين فى تلك المرحلة (1904 ) لم يكن منتبها لتباينه وبطريقة اساسية مع الارثودكسية الديمقراطية الاشتراكية ، وعليه عرّف نفسه ضمن نجوم تيارها مثل كاوتسكى واوجست بيبل . فتُركنا مع الصورة التالية : ليس هناك فى روسيا من قرأ المساهمة الضخمة لكاوتسكى ، بالعمق والانتباه والاعجاب ، كما فعل لينين ؛ وبالرغم من ذلك يستمر غير منتبه بانه حاد وبشكل اساسى عن كاوتسكى . لست متأكدا اذا كان علينا ان نفترض تفسيرا لذلك بخداع كاوتسكى، او عدم قدرة لينين على استيعاب ما يقرأ ، او عدم انتباه لينين لقناعاته الذاتية . " .

بالتأكيد ليست هذه نقطة للمتعة العالية فى "اعادة اكتشاف لينين" . فليس بالضرور ان تساوى كتابات منظر كبير ككاوتسكى نفس التعقيد الديناميكى لحزب سياسى جماهيرى والتعقيد تتسم به الحركة الاجتماعية . فقد كانت حقيقة الديمقراطية الاشتراكية الالمانية – وبالتأكيد – اكثر تعقيدا – مما استطاع لينين التقاطه من افضل كتابات كاوتسكى . وقد صار ذلك واضحا للينين فى 1914 . ففى تلك النقطة ، اصبح واضحا أن لينين كان يعمل على بناء حزب مختلف عن الحزب الالمانى الماثل انذاك. واُكدتْ تلك المسألة مرة اخرى – عن طريق تطورات تاريخية فعلية- فى الفترة 17-1920 . قد يكون ممكنا ان كلا الحزبين مثّلا ‘ حزبا من نوع جديد‘ ، ولكنه واضح ايضا انهما ليسا حزبين من نفس النوع . وهنا فمولينو يكون اكثر اقترابا الى الهدف . لم يفهم لينين فى 1904 ما فهمه فى 1914 . الناس تتعلم ، حتى لينين . ولهذا كله تبعات مثيرة للاهتمام ، يبدو ان لارس لى يميل الى الهروب منها . اشترك لينين مع كاوتسكى وبيبل فى اشياء كثيرة ، ولكن اتضح ، ان ما يفعله كان مختلفا جدا ، فى ابعاد شديدة الاهمية . ويحتاج هذا الامر المزيد من الفحص – بكل تأكيد .

كذلك ، بينما بدى ان للينين اتفاقات عامة مع كاوتسكى وبيبل ، اكثر من اتفاقه مع لوكسيمبيرج وتروتسكى - و لارس لى يجعل ذلك واضحا جدا - يقترح تبدى الوقائع الفعلية حقيقة اخرى . وفى 1917 بدى الامر واضحا للينين . هذه الاتفاقات العامة والاشتراك فى قناعات عامة ، بين لينين ولوكسيمبيرج وتروتسكى تستحق انتباها اكبر ، مما بذله – او رغب فى بذله - لارس لى فى كتابه . ولهذا السبب فانه يبدو لى ان ميوله الى تجاهل جورج لوكاتش وقرامشى هى مسألة خاطئة تماما . فهمل ليسا منظرين مرموقين فقط ، وانما ناشطين ثوريين ، انخرطا فى تجربة بناء الحزب ، عاملين فى ذلك وبوضوح ضمن التقاليد اللينينية . فهناك الكثير مما يمكن تعلمه منهما - وكذلك لوكسيمبيرج وتروتسكى - بواسطة اولئك الذين يهدفون الى معالجة قضايا استمرار التوجهات الثورية لمساهمة لينين .

بينما يجب ان تؤخذ هذه المداخل للاستكشاف ، بواسطة اولئك الذين يرغبون فى تطوير وتعميق معرفتنا ( بما فيهم لارس لى ) يمثل " اعادة اكتشاف لينين " مساهمة قوية ، غنية الى كل من يود فهم حياة وفكر هذا الثورى العظيم .
صورة العضو الرمزية
Isam Ali
مشاركات: 230
اشترك في: الأحد مارس 04, 2007 11:37 pm

مشاركة بواسطة Isam Ali »

نواصل فى الندوة التى اقامتها مجلة المادية التاريخية حول كتاب لارس لى



مساهمة الان شاندرو( Alan Shandro )

نص ومحتوى حجة لينين فى " ما العمل ؟ "

يعتبر الكتاب - عندما يعيد انتاج المحتوى السياسى ل" ما العمل ؟" - مساهمة فى غاية الاهمية للمنشغلين بقضية الثورة ، والوالغين فى معالجة موضوعة النظرية والممارسة فى التقاليد الماركسية . فالكتاب يمثّل مرجعا اساسيا – بل المرجع الاساسى - فى المناقشة المستمرة حول الوظيفة السياسية للطليعة الماركسية ، وحول منطق الفعل السياسى ، وبالتالى حول قضية الممارسة والنظرية . فوفقا لتفسيرات " المرجع/الكتاب المدرسى " كما يسميها لارس لى – وهى التفسيرات التى حظيت بقبول يضعها فى موقع الحكمة التقليدية ، تسود لتصبح نوعا من الحس السليم - فإن شكوك لينين فى قدرات الطبقة العاملة التلقائية على خلق الوعى الطبقى ، قادته الى منح الفاعلية الثورية حصرا الى حزب طليعى ، يقوده ثوريون محترفون بدلا عن حركة الطبقة العاملة . وينبئ هذا الاخضاع ويعمل على تقديم تفسيرات سطحية ( تطفح كالبثور) للتجليات الاستبدادية للعملية الثورية . يعتمد امكان نسب مثل هذه المفارقة الصارخة لاثار المادية التاريخية ، الى ماركسية مزعومة ، تقوم بارجاع فكر لينين الى بنية سياسة صفوية والى نوع من المسيحية القدرية ، تميزت بها التقاليد قبل الماركسية للشعبوية الروسية . كما يعتمد ذلك على قراءة للماركسية ( او على الاقل تلك التى عرفها لينين ) باعتبارها ليست مرشدا للفعل ، بل اطارا نظريا مكتملا لا يتيح مجالا للتنظير بصدد الممارسة السياسية الثورية الفعلية . واذا اريد لهذه القراءة ان تمتلك اى معقولية ، فيجب عليها ان تقوم على النقد المعاصر للينين اطلقته شخصيات تقطن هامش الحركة الديمقراطية الاشتراكية الروسية ، ومن خصومه المنشفيك ، ومن التصوير اللينينى الاخير من قبل كاوتسكى و المنشفيك للينين كماركسى ميكانيكى . ان تفسيرات الكتاب المدرسى لا تعمل فقط على استدامة تصور شعبى للينين ، وانما تعمل كذلك على تقييد االنقاش حول منطق الفعل السياسى الثورى ، وحصره ضمن حدود ضيقة يشيدها تعارض – يقوم على مستوى التجريد - بين الذات الفاعلة والبنية (agency and structure ) .

يقدم لارس نقدا تفصيليا وبلا هوادة ، ودحضا باتعا لتفسيرات الكتاب المدرسى ، وذلك من خلال معالجة مشكلات الادلة ، ومعالجة القضايا النظرية المعقدة ، ومن خلال تركيب ادلة من مصادر لغوية ، ادبية وتاريخية كثيرة ومتمددة ، انتجت معالجة وحجة متعددة الزوايا والتناول ، تصعب على التلخيص . تقوم تفسيراته على السردية التاريخية - تسندها حجة بهية بالتفاصيل – تحاجج وتبشر بامتزاج الاشتراكية وحركة الطبقة العاملة كما تجسدت فى تعليق كاوتسكى العميق على برنامج الحزب الالمانى المجاز فى مؤتمر مدينة ايرفورت ، وبمحاولة الماركسيين الروس لتحديد اهدافهم وممارستهم السياسية وفقا لمتطلبات تلك السردية الايرفورتية ، والتى اسست المحتوى الذى لا يمكن بدونه فهم كتيب لينين . هل تمثّل الكتاب قيم برنامج ايرفورت وبشكل ناجح ؟ لقد عرض لارس لى الافق الاستراتيجى الذى طرحه بليخانوف ، لينين ومجموعة الايسكرا ، والهجمنة العمالية الحقيقية على الثورة الديمقراطية البرجوازية فى روسيا ، وفقا لمقتضيات البرنامج الايرفورتى . وراكم تل من الادلة على اخلاص ليس فقط لينين والايسكرا ، انما ايضا خصومهم الفكريين للسردية التى حكاها البرنامج الايرفورتى . وقد اقترح ان الروس اضافوا قليلا للبرنامج والتوجهات السياسية للحزب الالمانى ، اضافة لم تتجاوز كثيرا اضافتهم لمفهوم الهجمنة . ولو ان شيئا ميّز لينين فى الدوائر الماركسية الروسية ، وبين رفاقه فى الايسكرا وعن خصومه فى الصراعات الفكرية ، فهو ارتباطه غير المساوم بثيمة ومنطق السردية الايرفورتية ، وبالتالى الثقة المترتبة عليها فى السعة السياسية للعمال لملاقاة متطلبات الصراع السياسى الثورى : فلو ان المساهمات السديدة لكاوتسكى للماركسية ، جعلت منه ‘ بابا الايديولوجيا الديمقراطية الاشتراكية ‘ فان لينين ، يقول لارس لى ، يأت كديمقراطى اشتراكى اكثر من البابا ‘ .
بالاعتماد على تعليق لينين فى الطبعة الثانية للكتاب ، يصر لارس لى على قراءة " ما العمل؟" " فى صلة بظروف تاريخية ملموسة – تسكن الان فى الماض البعيد – موصولة بتطور الحزب : " لقد لاقت فكرة ان حركة الطبقة العاملة الناشئة ، سوف تعمل على دعم معارضة حكم القيصر الناهضة فى بقاع البلد، رواجا وقبولا وسط الدوائر الثورية . ولكن ، فقد عانت المحاولات الباكرة لامداد الحركة بقيادة ديمقراطية اشتراكية اجهاضا مشهودا، بفعل نجاح البوليس فى تحطيم منظماتها المركزية ، والتى حولت الحزب الوليد لمجرد تطلع . وفى الجو المحبط ، فاقد الوجهة ، ظهرت ميول التراجع عن المهمة الثورية للحزب ، و رغائب التضييق وقصر مدى الطموح النضالى للطبقة ، الى الحدود المنخفضة للعمل النقابى ، والتنازل عن الصراع السياسى ضد السلطة ، وعن مشروع الهجمنة فى الثورة الديمقراطية ، الى ممثلى البرجوازية الليبرالية . يلاحظ لارس لى انه فى وقت كتابة " ما العمل؟"، و بالرغم من ان الديقراطيين الاشتراكيين كانوا مجموعات من دوائر مشتتة ، مثل المجموعة حول "الايسكرا " ( الشرارة ) و تلك المجموعة حول مجلة " قضية العمال" ، الا انهم كانوا ينسقون بينهم وبشكل فضفاض ، ويتنافسون على النفوذ فى مجرى الجهد المبذول فى التجميع لتكوين الحزب . فى هذا السياق اضطلع لينين بدور قيادة المعارضة للاتجاهات الاقتصادية . وقد اخفق لارس لى فى ملاحظة ان الاختلافات ، على الاقل وفقا للينين ، حول كيفية فهم هذه الميول غير الثابتة للاقتصادوية ، وبالتالى كيفية التعامل معها ، لعبت دورا فى الخلافات والصراعات بين الديمقراطيين الاشتراكيين الروس . وكما سنرى ، فقد لعبت هذه الخلافات دور المؤشر الذى يقيس درجات التوتر ودرجات الغموض التى زعزعت مشروع الديمقراطيين الاشتراكيين للهجمنة البروليتارية ، واساسها الماركسي الارثودكسي الذى قامت عليه ، وبالتالى فهى مؤشر للاختلافات المتكاثرة – تخرج من الكمون - فى التوجهات الى مفاهيم ، وباتالى الى اداء سياسى متأثرا ب‘ الظروف التاريخية الملموسة ‘ .

وفقا لقراءة لارس لى تاثرت حجج "ما العمل ؟"بتلك الاوضاع وبنيت ، بطريقيتين اساسيتين:
اولا : انها شُكِلتْ باهتمام لينين البارز برسم خطة لبناء منظمة حزبية ، من خلال الجهود العملية لاصدار وتوزيع جريدة حزبية مكرسة بشكل اساسى للمناهضة والتحريض السياسى ، وبالتالى الدعم العملى لصراع محررى جريدة الشرارة ومسعاها للقيادة. انه على التنظيم المطلوب حينها ان يكون ضيقا بدلا من تنظيم واسع ، طليعة متمايزة عن التنظيم الجماهيرى ، قادرة على مقاومة قمع اجهزة الامن/البوليس ، وبالتالى زرع الجذور داخل حركة الطبقة العاملة وتركيز الصراع ضد نظام القيصر . وبالتالى فلو فهم الامر على هذا النحو، فان مشروع الجريدة لم يكن ليزيح ويحل محل نشاط و وعى الطبقة العاملة ، انما يعمل على تنميتهما ، وبالتالى يساعد ذلك ناشطى الديمقراطيين الاشتراكيين على تنفيذ وعد سردية المشروع الايرفورتى ، ضمن ظروف النضال العصيبة فى دولة القيصر . لم تكن فكرة الطليعة لتناقض الافتراض الماركسى القائل بأن تحرر الطبقة العاملة يجب ان يكون واجبها وعملها بالذات ، وانما كانت تعيد إنتجاها وبشكل فعّال . تنبع اهمية الجريدة من الحاجة الى تنظيم طليعى للثوريين ، وهى حاجة تفرضها ضرورات النضال السياسى تحت حكم القيصر وضده ، كما تفرضها ضرورة الهجمنة تحققها الطبقة العاملة وهى تخوض الصراع السياسى . طُرح هذا المنطق ، وحكم مواضيع و صيرورة الفصول الثلاثة الاخيرة من " ما العمل؟" .

ثانيا: تأثرت المناقشة التى احتواها كتيب " ما العمل؟ " بالمنطق السياسى للصراع بين مجموعات الديمقراطيين الاشتراكيين . وفُرض على لينين بهذا المنطق ان يستجيب لتحدى جدى من مجلة " قضية العامل " ، مدافعا عن جريدة الشرارة ضد اتهامات بالاخضاع الدوغومائى لصراع الطبقة التلقائى لصفاء نظرى جاف ، اى بالتخلى عن " وجهة النظر الطبقية " . ولقد دفع ذلك لينين الى كتابة الفصول الثلاثة الاخيرة من الكتيب مكرسا فصلين منها لمناقشة الدغمائية وحرية النقد ، كرّس الثالث لمناقشة التلقائية والوعى . ولكن الحماس فى وطيس المجادلة دفعه بعيدا وتورط فى استبطان موقف خصومه ، والذين موضعوا انفسهم - كما جريدة الشرارة - داخل السردية الايرفورتية باعتباراتها الاقتصادوية . وهكهذا ، مال نحو محاولة ثنى البلاغة السردية لخصومه من اجل اغراضه الخاصة ، ودفعه ذلك لخلق مجموعة من التكوينات المستعجلة غير المدققة ، والغامضة احيانا ، ظهرت بالذات فى مناقشته للتلقائية والوعى ، والتى اصبحت لاحقا نقاطا يركز عليها الجدل السياسى والتفسيرى . ففى حالة قراءة مجادلة لينين فى محتوها ، وتمييز جوهرها العملى من التشويهات التى جلبها جدل الفصائل - يقول لارس لى - حينها يمكن رؤية " ما العمل؟" ليس كموقع للمغادرة السياسية او للتجديد النظرى ، وانما – اساسا – كاعادة تأكيد وتطبيق تفصيلى للحلول المطروحة حينها ، للمشاكل العملية التى واجهت الديمقراطيين الاشتراكيين بفض ارتباطهم بالرؤية الايرفورتية النابعة من ماركسية الاممية الثانية .

إن اى قراءة فاحصة للكتاب يجب ان تتمكن من رسم تمييزٍ فاصلٍ بين ما هو اساسى لما يعنيه الكتيب وما هو عرضى ، بين ما له ارتباط نظرى وبين ما هو ظرفى . وهذا التمييز يقابل التمييز فى عمل لارس لى ، بين القضايا العملية فى الفصول الثلاثة الاخيرة من الكتاب ، و تلك الجوانب فى حجة لينين المكرسة لاقتراحه للترتيبات التكتيكية والتنظيمية والعملية التى يمكن ان تنتج تأثيرا وفعالية مرجوة من الرؤيا الايفورتية ، والتى كانت تحظى بالاتفاق بين الماركسسين الروس ، والى الجوانب الجدالية القائمة حول الصراع – بين الاطراف - بصدد احقية قيادة الديمقراطيين الاشتراكيين الروس وفقا لتصورات برنامج ايرفورت . يقوم هذا التمييز- الذى تنتجه القراءة المتبصرة للكتيب - بدوره على تصور ذاتى ضيق لمصطلح الاقتصادوية يستخدمه لينين ليحدد موضوعة نقده " اى الاقتصادوية " ، باعتباره مفهوما يستلزم رفضا لمشاركة الطبقة العاملة فى الثورة البرجوازية . وبفهمه هكذا فان نسب لينين للفهم الاقتصادوى لمجموعة مجلة قضية العمال ، هو تشوه جدالى لايحمل اهمية نظرية ، ولكنه اعطى التاثير المؤسف لرعاية الانطباع – وسط اولئك غير الملمين بمحتوى الجدال – بان نقد الاقتصادوية مثل ابتعادا عن شرائع الماركسية الارثوذكسية ، وبالتالى شجّع ومنح معقولية غير مبررة لفهم "الكتاب/المرجع المدرسى" .

لو اخذنا لينين بمنطوق عبارته ، فانه يجب الا تفهم الاقتصادوية كمصطلح بهذا المعنى الضيق . فمصطلح الاقتصادوية – بالرغم من رسوخه بسبب من كثرة الاستعمال – لا يُوصّل – كما وضح لينين – شخصية الاتجاه السياسى الذى نسبه اليه . ففى الفهم العريض للمصطلح ، تكون السمة الاساسية للاقتصادوية هى عدم قدرتها على فهم – وحتى دفاعها عن - تلكؤ القيادة الواعية وجر ارجلها خلف الصحوة التلقائية للجماهير ، وبهذا المعنى فان معنى الاقتصادوية خاضع لتمييز لينين بين الوعى والتلقائية ، وان اهمية التمييز يتم البحث عنها فى تلك العلاقة بين القيادة والجماهير . لم تكن الاقتصادوية غير منسجمة مع النشاط السياسي وانما – كذلك – غير منسجمة مع الثورة السياسية . عند فهمها بهذ المستوى فان مصطلح الاقتصادوية سمح فعلا للينين ان يربط "مجلة قضية العمال " بالاقتصادوية بالمعنى الضيق للمصطلح ، ولكن ذلك لا يعنى انه نسب اليهم تصورات اصلاحية كما يمكن ان يشير المصطلح .

لكى نفهم فكرة لينين عن الاقتصادوية علينا التعامل مع ليس فقط تمييزه بين التلقائية والوعى ، بل التعامل مع منطق الاستراتيجية السياسية فى الثورة الديمقراطية . وافضل طريقة لفعل ذلك هى بتناول الاخيرة ابتداءا . واحدة من فضائل كتاب لارس لى تكمن فى توضيح ان مساهمة الطبقة العاملة فى النضال من اجل الحريات الديمقراطية ، تنسرب طبيعيا من تصورات برنامج ايرفورت : فوفقا للحكاية الايرفورتية فانه فقط فى مجرى النضال من اجل الديمقراطية السياسية ، يتعلم العمال ممارسة الحريات السياسية من اجل مصالحهم الطبقية ، وبالتالى تطوير الفهم والسعة السياسية الضرورية لتولى السلطة السياسية ، وتنظيم المجتمع وفقا للخطوط الديمقراطية الاشتراكية . وطالما ان تنامى القوة السياسية للطبقة العاملة يقلص من حماس البرجوازية للديمقراطية ، فإن القيادة فى الصراع من اجل الديموقراطية السياسية تقع بشكل متزايد على عاتق البروليتاريا . يشير هذا التصور فى جانب الى ثيمة التحرر الذاتى للبروليتاريا – اى فكرة ان الطبقة العاملة - فى مجرى خوضها للصراع – تستطيع ان تأخذ بيدها القوية مسئولية تحررها الذاتى ؛ وفى الجانب الاخر يشير الى فكرة احتياج الطبقة العاملة للديمقراطية ، فى صراعها من اجل المجتمع اللاطبقى ، تنجح فى خلق القيادة المناسبة لتطلعاتها السياسية ، ولممارسة الصراع ضد الفئات والطبقات الاخرى فى المجتمع . وهى بالتالى تتميز ببعض التعقيد الداخلى ، فهى تفترض ان الهدفين ، التحرر الذاتى والقيادة الديمقراطية ، وما يقابلهما من مصلحتين ، المصلحة الطبقية ومصلحة الديمقراطية الشعبية ، متوافقان . فى المانيا ، حيث الراسمالية متطورة بشكل لايقارن بمستوى تطورها المنخفض فى روسيا ، وحيث استطاعت البرجوازية ان تحقق وجودها المتناسب فى جهاز الدولة وشئونها ، والدور المؤسس لحزب الديمقراطيين الاشتراكيين كحزب بارز للمعارضة ، يبدو انه - وفى نظر الايرفورتيين - قد تحقق بثبات اقتران هاتين الموضوعتين كدليل ذاتى ، كحقيقة تدل على نفسها .

اما فى روسيا فان اقتران المصلحة الطبقية ومصلحة الديمقراطية الشعبية ، فلازال مجرد تطلع استراتيجى ، فالتصور الايرفورتى تمت ترجمته فى روسيا الى توجه استراتيجى للهجمنة البروليتارية فى ظل الثورة البرجوازية الديمقراطية . هذه الترجمة - داخل الحقيقة السياسية الروسية - تمت فى شروط المجابهة الناجحة للمشاريع البرجوازية الساعية للسيادة ضمن مجرى العملية الثورية . ولو كنا سنتمسك بما قاله لينين ، فانه قد تعامل مع هذه التهديدات بشكل جاد تماما . فالهجمنة البرجوازية تأخذ اشكالا متعددة ، وقد كتب لينين فى مقالته المهمة " مضطهدوا الزمستفو وهانيبلات الليبرالية " - قبل عدة شهور من " ما العمل؟" - كاشفا ملامح ذلك المشروع للهجمنة البرجوازية فى محاولة لبيتر استروف – ديمقراطى اشتراكى سابق والنجم المستقبلى لليبرالية الروسية - لاستخدام خطر حركة العمال الثورية لتشجيع انجاز اصلاحات يقوم بهاالنظام القيصرى : هذه المحاولة تُشير الى سيناريو تلعب فيه القوة الثورية للجماهير دورا ضروريا ، وان كانت تمثل فقط نوعا من جيش صورى ( على خشبة مسرح ) يعمل على افزاع القيصر ، ولكنه يمكن ، عندما يحين وقت المساومة الجادة حول توزيع القوة ، أن يتخلى عن المسرح السياسى راغبا او غير راغب ، يتركه للمتخصصين الليبراليين فى شئون السياسة الدستورية . سيناريو كهذا لا يفترض حركة عمالية مبهورة بالايديولوجيا الليبرالية ، بل بالعكس يقوم على تصور للحركة العمالية مصادمة بل ثورية ، بل حتى ذات مزاج اشتراكى ، تكون الثورة بالنسبة لها وسيلة لتحقيق مصالحها الطبقية الاقتصادية حتى لو تم تفسريها بشكل ضيق . اى ميل لتفسير المشروع السياسى للطبقة العاملة فى تعبيرات ومصطلحات ضيقة ، حتى تلك التعبيرات المزخرفة - كما فى حالة مجلة " قضية العمال " - بلغة الثورة ، واى ادعاءات بوضع الطليعة ، تظهر فى مجرى مثل هذا السيناريو يفضى الى تفريغ المشروع الثورى . فعلى المحك فى نقد لينين للاقتصادوية ، ليس فقط العلاقة بين السياسة والاقتصاد ، الثورة والاصلاح ، بل ايضا وبشكل اساسى ، بين مصلحة الطبقة ومصلحة الديموقراطية الشعبية فى مشروع الهجمنة البروليتارية . اذا كان هناك اتفاق بين الديمقراطيين الاشتراكيين حول المشروع الايرفورتى ومشروع الهجمنة البروليتارية قى الثورة الديمقراطية البرجوازية – كما يدعى لارس لى - اذن فان نقد لينين للاقتصادوية ، يؤشر الى ان ذلك المشروع واجهته الصراعات و المجادلات السياسية الداخلية وحوله ، مما قاد بالتالى الى ظهور توترات نظرية ؛ قالهجمنة لا ترد كمعطى وانما يجب بناؤها . وهذا يقترح بالمقابل ان العلاقة بين المعالجات العملية فى الفصول الثلاثة ، والملامح الجدالية فى مناقشة لينين ، تأتى اكثر تدفقا ( وربما اكثر انتاجا ) مما يقترح لارس لى : فلو اخذنا لينين من عبارته واعتيرنا وجود ميل يوافق تعريفه للاقتصادوية ، فان هذا الميل سيكشف عن وجوده فى سياق المجادلة حول ماهية الهجمنة البروليتارية ، اى كيف يمكن بناءها ، فالمجادلة فى مناقشات لينين لاتلعب دورا توضيحيا او سياسيا فقط واما ايضا دورا ابستمولوجيا .


يتبع
صورة العضو الرمزية
Isam Ali
مشاركات: 230
اشترك في: الأحد مارس 04, 2007 11:37 pm

مشاركة بواسطة Isam Ali »



لو وجد الميل الاقتصادوى كما حدده لينين ، فيجب حينها اثارة السؤال :كيف يمكن فهمه فى صلة وبالاستعانة بالتمييز بين التلقائية والوعى ، باعتبار ضرورته . لو ثبّتنا امكانية ان مجادلات لينين لعبت - فعلا - دورا تنظريا ، فاستخدامها – اذن - بشكل معكوس ، يمكن ان يساعد فى توضيح التمييز بين التلقائية والوعى (الانتباه). ونجد هنا ضعفا رئيسيا فى قراءة لارس ل "ما العمل؟" كتمثل للبرنامج الايرفورتى ، حيث انها قراءة لم تاخذ فى الاعتبار بعض من تركيبات لينين المفهومية الجديرة والخاصة بالعلاقة بين التلقائية والوعى ، بالذات ادعاءه المتكرر " ان هدف الديمقراطيين الاشتراكيين هو محاربة التلقائية ، تحويل حركة الطبقة العاملة ، من هذا السعى التلقائى النقابى للخضوع تحت اجنحة البرجوازية ، الى سعى يوصلها الى حضن الديمقراطية الاشتراكية الثورى "( لينين) .

يحذر لارس لى من انه يجب الا يفهم الدور الذى يلعبه ‘ الوعى ‘ ( الانتباه) فى نص لينين ، فى تجريد وابتعاد عن الممارسة السياسية ، طالما ان الممارسة السياسية التى يدافع عنها لينين ، يمكن فهمها خلال ارتباطها بالسردية الايرفورتية . فالوعى يتم بناءه كانتباه لواجب نشر ‘الاخبار السعيدة ‘ الخاصة بالتحام الاشتراكية بحركة الطبقة العاملة . ونظرا لان المادية التاريخية تقدم نظرية للحركة التاريخية لهذا الالتحام ، فان هذا الوعى لايتم الامساك به إلا من خلال النظرية الماركسية . ان ادخال الوعى الى حركة الطبقة العاملة التلقائية من الخارج يؤشر – فى تعبير الخطاب الايرفورتى – الى ممارسة تتمثل فى جعل العمال منتبهين الى او عارفين بالهدف واتجاه حركتهم ، بما هما اصلا مضمنين فى ممارستهم . وطالما ان الحركة التلقائية والانتباه الواعى بها - اى الممارسة والنظرية – منسجمان ومتناغمان ، تنعدم الحاجة ، ولا يكون هناك مجال نظرى ، للصراع بينهما . هذا تحديدا هو ما يترتب على ذلك الاقتطاف عن كاوتسكى ، الذى اتى به لينين لمناقشة فكرته الخاصة للوعى والتلقائية فى "ما العمل؟" . ولكن بينما يمكن استيعاب بعض تكوينات لينين على ضوء هذا المنطق ، الا ان بعض التكوينات المفهومية الاخرى ، بالذات التى لازمت الصراع ضد التلقائية ، تختلف فى سياق منطق اخر تعمل ضمنه مجادلة لينين . إن الدليل الذى قدمه لارس لى يجعل من تفسيرات "الكتاب/المرجع المرسى" غير قادرة على البقاء ، ولكن التوترات المفهومية التى غذتها تلك التفسيرات لايمكن حلها ، بدون شرح لتلك الفقرات فى "ما العمل؟" .

لقد حملت فكرة الوعى الاشتراكى - كما طرحت فى حجة لينين – وبكل تأكيد ، حكما لصالح التضامن مع الطبقة العاملة ، فى صراعها من اجل هدف اشتراكى يتجاوز الراسمالية والمجتمع الطبقى ، ولكنها ايضا افترضت وعيا بعداء لمصالح الطبقة العاملة ،لايمكن التوفيق بينه وبين البنية السياسية والاجتماعية الحديثة ، وبالتالى تضمنت يقظة منتبهة للانحرافات والتحولات فى الطريق نحو الاشتراكية ، اى فى مجرى المنطق السياسى الاستراتيجى للصراع الطبقى . ان انعدام امكانية التوفيق بين المصالح الطبقية المتصارعة ، تشير ضمنا الى انها قائمة فى اساس الصرح الاجتماعى للبرجوازية ، وبسبب عدم الثقة الاستراتيجية فى العدو الطبقى . تؤشر سيادة طابع العداء الطبقى ، الى انه من غير الممكن النجاة منه . وتطرح – كذلك - ان اى اقصاء لاى جانب من جوانب الكلية الاجتماعية السياسية من مجال المشروع الاشتراكى ، قد يترتب عليه التنازل عن المبادرة الاستراتجية وتركها للخصوم الطبقيين . لا يمكن ان يقوم الوعى الاشتراكى ، الا على الاستناد على النظرية الماركسية ، والتنظير حول انعدام امكانية التوفيق للخصومة الطبقية ، والتأكيد إنه لن يكون مفيدا للصراع الطبقى غياب قيادة منظمة ملمة بتلك النظرية وقادرة على تطبيقها بوعى وثقة .

تُميّز حجة لينين بين ميلين متعارضين فى الحركة التلقائية للطبقة العاملة ، اى ، فى حركة الطبقة العاملة ، طالما ان الوعى بانعدام امكانية التوفيق بين المصالح الطبقية المتناحرة بينها ، وبين كامل النظام الاحتماعى والسياسى الحديث ، لم يمتلك تاثيره العميق فى هذه الحركة ؛ فالحركة ، تقوم على اساس علاقات اجتماعية استغلالية لمنظومة علاقات الانتاج الرأسمالية ، تكوّن وتأسس لبنية حياتهم وتجاربهم ، تتجه تلقائيا ، ومن خلال تجارب التضامن والصراع ، نحو وعى اشتراكى ( اى ان التلقائية هى جنين الوعى) ؛ ولكن الايديولوجيا البرجوازية تفرض نفسها بشكل تلقائى ، كاطار يتم داخله خوض التجربة الخاصة بالطبقة العاملة وصراعاتها ، وفى شروط يصعب معها زحزحة هجمنة الخصم ( اى ان الحركة التلقائية تقود الى مجرد وعى تقدمه المؤسسة الراسمالية او مجرد وعى نقابى ) . ادعاء لينين ان الاخير يسود تلقائيا على الاول ، وانه بالتالى يقع على عاتق الوعى الاشتراكى الديمقراطى ، او اولئك الذين انجزوه – بالاحرى – مهمة الصراع ضد التلقائية .

لتقدير قوة هذ الادعاء نحتاج ان نظر الى منطق التاثير المتبادل بين هذين الميلين . ينخرط العمال تلقائيا فى الصراع ، وفى مجرى ذلك الصراع ، قد يجتمع تغير الظروف مع ظهور مناهج جديدية للصراع ، وتكون النتيجة تحدى او حتى – احيانا - خروقات فى محددات بنية الهجمنة البرجوازية . يمكن للصراعات التلقائية للطبقة العاملة ان تستصدر ليس فقط اعادة تاكيد الثيمات الحقيقية والمجربة للحكم الطبقى ، بل كذلك – واحيانا - محاولات مبدعة لاعادة صياغة مؤشرات الهجمنة البرجوازية ، اى اعادة تنظيم الاستراتيجية البرجوازية والفرض التلقائى للايديولوجيا البرجوازية على صراع الطبقة العاملة . ولكى يكون هذا النوع من الاستجابة فعالا يجب ان تتحقق قبضة قوية على التجربة العمالية التلقائية وهى تخوض الصراع ؛ فمن المؤكد ان الهجمنة البرجوازية لا تحتاج ان تعتمد على نكران وجود الصراع الطبقى ، وقد تكون الهجمنة اكثر فعالية اذا تم التعبير عنها فى ومن خلال الشكل السياسى والتنظيمى واتجاهات المقاومة لخصمها الاشتراكى . قبول الهجمنة البرجوازية يحدث ويستمر فى التقدم تلقائيا ، ليس من خلال فشل البروليتاريا فى الالتزام بالصراع من اجل الاشتراكية – والذى لم يشك فيه لينين ابدا - بل من خلال الفشل فى انجاز بنية فعالة لمشروع الهحمنة البروليتارية ، اى السعى والتاسيس وصيانة المبادرة الاستراتيجية فى الصراع من اجل هحمنة الثورة الديمقراطية . لا يمكن لمشروع فعال للهجمنة العمالية ان يقوم ببساطة من التجربة التلقائية للعمال ، لان هذه التجربة بُنيت بحقيقة التناحر الطبقى ، وببناء الايديولوجيا البرجوازية لهذا التناحر باعتبارة شيئا يمكن إنهائه عن طريق التسويات والمصالحة . وطالما ان لكل ملمح من ملامح هذه الحركة التلقائية ، يمكن ان يتخذ اشكالا جديدة متجاوزة للتجربة الحالية للمشتركين ، فان عدم امكانية حل هذا التناحر بينهما ، يمكن فهمها فقط على المستوى النظرى . طالما ان المحاولات للمصالحة الطبقية يمكن ان تاخذ من المواد الايديولوجية والسياسية المتاحة فى اى مكان داخل الكلية الاجتماعية ، وتبتدع فى ذلك ، فعلى الماركسية ان تكون مفتوحة على كامل النظام الاجتماعى ، بما فيها منطق الصراع - المفتوح النهايات - من اجل الهجمنة ، اى ، عليها ان تتطور فى نفسها ؛ فهى كنظرية وكمشروع سياسى يمكن ان تصان وتبرر من خلال الالتحام مع المحاولات المتجددة دوريا لتوفيق التناحر الطبقى ، بما فيها المحاولات التى تستخدم عناصر فى النظرية والممارسة الاشتراكية لذلك الهدف .

لماذا لايستطيع العمال استيعاب النظرية الماركسية ؟ بل يستطيعون ، وفى الحقيقة انهم يستطيعون فعل ذلك بافضل مما يفعله المثقفون ؛ كانت هذه اجابة لينين المباشرة والقاطعة . يمكنهم فعل ذلك ، ولكن ليس كجماعات وانما كافراد ، وعندما يصبحون واعين سيجدون انفسهم فى موقع مشابه لذلك الموقع الذى شغله المثقفون الاولين ، حاملى النظرية الماركسية ، يواجهون التحدى بجلب وطأة الوعى على المنطق المتناقض للحركة التلقائية . وهم يلتقون بهذا التحدى تلقائيا ، فربما يمكنهم ملاحظة المنطق الموضوعى للصراع الطبقى ، بإنغماسهم فى مجرى الاحداث يشاركون بلا شك فى – الى جانب زملائهم - فى اى صراع ناهض ، ولكن يتجاوزون اى ادعاءات بتوفير القيادة فى الصراع الطبقى . فى ملاقاتهم للصراع بوعى يوظفون النظرية الماركسية فى عملية تفكير تساعدهم فى استيعاب وضعهم ضمن ملابسات الصراع الطبقى المعطاة تلقائيا/عفويا ، ينطلقون من حيث موضعهم ، يتولون اعباء القيادة فى الصراع من اجل الهجمنة . الاضطلاع بهذه المسئولية ، عنى اتخاذ موقف سياسى متطور دقيق ، يديم ويحفز استمرار الصراع التلقائى للعمال ، ويدعم الاشكال الجنينية للوعى الاشتراكى فى مجرى تحليلهم وتصديهم للاشكال التى تستخدمها الايديولوجيا البرجوازية لفرض نفسها عليهم ضمن الحركة العمالية . المسألة الاساسية فى مناقشة لينين للتلقائية والوعى ، هى انها ليست موضوعة لعلم اجتماع المعرفة تتعلق بحامل الوعى الاشتراكى ، وانما هى الموضوع الاستراتيجى – بل الميتا استراتيجى – الخاص بالمصطلحات والتى من خلالها يمكن للفاعلين السياسين الماركسىين – مثقفين او عمال – ان يصلوا الى تفهم اوضاعهم داخل الصراع الطبقى ، بما يضعهم فى مواقف ينطلقون منها الى رحاب التصرف الفعال . حقا فان ‘ الخطأ النظرى العميق ‘ الذى ارتكبته مجلة " قضية العمال " وبقية الاقتصادويين كان مرتبطا بهذه القضية ، وهو عدم قدرتهم على ربط الارتقاء التلقائى بالنشاط الثورى الواعى ، وقد شرحه لينين فى مقالة صغيرة وصفها كملخص ( او موجز ) ل "ما العمل؟"

إن تمييز لينين بين التلقائية والوعى لا يعنى نقلا لتمييز انطولوجى بين المادة والعقل او تمييزا علمي-اجتماعى بين البنية التحتية والبنية الفوقية - ولا حتى لتمييز اجتماعى بين العمال والمثقفين - الى مجال المصطلحات السياسية . فهو تمييز يستحضر – بالاحرى – التركيب المتناقض لمجموعة معقدة من القوى و الميول فى مرحلة ملموسة من الصراع السياسى ، وضمنيا - ومن خلال ذلك – يستحضر عملية المنطق الاستراتيجى السياسى ، الذى يحدد المواقف المطلوبة من السياسين الماركسيبن ، وهم يخوضون الصراع من اجل تحقيق الهجمنة . يظهر من خلال هذا المنطق أن الصراع الطبقى ومعه الوعى الطبقى العمالى لايمكن ان ينمو الا بشكل غير متساو. إن موضوعة الوعى من الخارج ما هى الا محاولة للتفكير - من خلال ما يترتب على عملية عدم التساوى هذه – فى قضايا واشكالات الفعل السياسى والقيادة السياسية لحركة للطبقة العاملة . فهى توفر الاسس المفاهيمية للتدخل اللينينى المتميز ، والذى عمل على تقديم تحليل ملموس لاوضاع ملموسة ، وهى – بناءً على ذلك – تَدخلٌ يوصى بالتعديل المُفكّرْ و المتأمل للوعى ، وفقا لحركة ومنطق الصراع من اجل الهجمنة . وعليه - وبالمفارقة - فهى معالجة تتيح امكانية فتح النظرية الماركسية لتجديد وتنوع غير متوقع بصدد الحركة التلقائية للصراع الطبقى . كتاب "ما العمل؟" خرج من ، ولايمكن فهمه بمعزل عن ، محتوى او اطار الماركسية الاورذكسية الايرفورتية ، ولكنه خروج يؤشر الى ما هو ابعد .

اذا كان مثل هذا المنطق حاضرا فى " ما العمل؟" ، يصبح معقولا حينها اعتبار موقف جريدة "قضية العامل" وكريدو كوسكوفا ، ليس بالضرورة تعبيرا مختلفا عن نفس الافكار السياسية ، وانما اشكال متمايزة لنفس الميول السياسية . فبالنسبة لهذا المنطق يجب التعرف وتمييز الميول السياسية ، ليس فقط بالافكار التى يعبر عنها الفاعلون السياسيون ، ولكن – اساسا – بالاشارة الى الادوار التى تلعبها الافكار والافعال فى الصراع الطبقى السياسى من اجل الهجمنة . لاتحتاج الاقتصادوية التى هاجمها لينين ، ان تعنى - بالضرورة - تخفيضية الصراع السياسى الى اقتصادى ، فقد تم التعبير عنها ومرارا فى لغة ثورية متفجرة . وعليه فهى يمكن ان تتخذ اشكالا غير محدودة ، يسارية ، وكذلك يمينية كما فعلت خلال ثورة 1905 ، ومرة اخرى اثناء الحرب العالمية الاولى ، عندما احيا لينين مصطلحات الحجاج السابق ليواجه بوخارين ومجموعته من المفكرين بتهمة " الاقتصادوية الامبريالية " لرفضهم الاعتراف بحق الامم فى تقرير المصير ، باعتباره جزءا اساسيا من البرنامج الاشتراكى الثورى . وعليه فقد تم فهم التوجه الاقتصادوى باعتباره قائما فى التنازل الكبير للمصلحة البرجوازية فى مجال النشاط والصراع الفكرى ، وبالتالى فى حصر الصراع السياسى للطبقة العاملة فى مجال الاهتمامات الضيقة للمؤسسات الراسمالية ، وبالتالى الى حصر وتوقيف السياسة الاشتراكية على الحركة التلقائية والعفوية للصراع الطبقى ، اى لرص وتشكيل ودفع الصراع فى مسارات ترسمها الهجمنة البرجوازية . لم تعد الصراعات بين الميول السياسية فى حركة الطبقة العاملة مخفضة الى صراع بين افكار صحيحة تناسب حركة الطبقة العاملة ، وتلك المناسبة لفئات اجتماعية منحسرة تاريخيا ، ولكنها لا زالت مختلطة بالطبقة العاملة ، وانما يجب فهمها كذلك بمنطق الصراع السياسى المعاصر .

اذا كان مثل هذا المنطق يؤسس لحجة لينين ، فان نقد لينين – فى الفصل الاول من الكتاب - لعدم الاهتمام النظرى الذى ابدته مجلة قضية العمال ليس له – كما يعلن لارس لى – مجرد قيمة حجاجية ، وانما هو جزء تكاملى فى موقفه السياسى ، اى فى الطريقة التى ابتدا فيها عقلنة فكرة الهجمنة البروليتارية . فهنا تبدو المعرفة بالنظرية الماركسية ليست كمعيار متصلب لاجترار ارثودكسى ، يطارد به خصومه الفكريين ، بل – وبشكل اهم – كشرط ضرورى للتعامل بوعى مع المواضيع الجديدة ، واحيانا غير المسبوقة ، يفرضها الصراع ضد القيصرية ، وبالتالى لتحديد الوضع/الموقف للاشخاص فى مجال سياسيى ملموس . كتب لينين ان اهمية النظرية ، اكتسبت فهما و تقدما لدى الماركسيين الروس ، ليس فقط بالحاجة الى تسوية الحسابات مع توجهات غير ماركسية فى التفكير الثورى ، والضرورة المترتبة التى تستدعى ‘ الفرز والتفريق الواضح لظلال الافكار‘ ، وإنما بالحاجة الى تطوير ‘ القدرة بالتعامل مع تجارب الاقطار الاخرى ، بشكل نقدى واختبارها بشكل مستقل ‘ انطلاقا من حقيقة ‘ ان الواجبات الوطنية التى تجابه الديمقراطية الاشتراكية الروسية ، لم تواجه اى حركة اشتراكية اخرى فى العالم ‘ . وهذا يقترح – اذا لم يكن يفرض – ان الدفاع عن النظرية يتطلب تطويرها الى مستويات اعلى متقدمة ، باستخدامها للتعامل مع اسئلة جديدة لم يتم حلها بعد . عليه يجب ان يتم الحكم على الحماقات النظرية والاخطاء العملية الفادحة التى ارتكبتها جريدة قضية العامل ، ليس فقط انطلاقا من المقاييس الايرفورتية المتبعة ، وانما ايضا بالانطلاق من واجب التعامل مع التحديات الكائنة على تخوم الممارسة والتنظير الماركسي .

إن العرض الكثيف من لارس لى لفكرة أن " ما العمل ؟ " لايمكن فهمه بعيدا عن محتوى الخطاب الايرفورتى الماركسى ، ومحاولات ترجمته الى الديمقراطية الاشتراكية الروسية ، يقدم خدمة لنظرية علم وممارسة التاريخ الماركسى ، لايمكن الاستغناء عنها . ، ولكن ، اذا ما اتيح لى استلاف التشبيه اللينينى ، فإنه يبدو ان لارس لى حنى هذه العصا لدرجة بعيدة . يظهر هذا باقصى الوضوح فى تصوره الضيق للمفهوم المركزى للاقتصادوية ، انطلاقا من مواقف معلنة من البعض ، والذين مثلوا هدفا للهجوم الجدالى اللينينى ؛ بالرغم من تنبيه لينين – بشكل خاص – لقرائه من عدم الوقوع فى شراك القراءة الخاطئة بهذا الصدد . نفس هذا النوع من الصعوبات تظهر فى افتراضات لارس لى بصدد وضع النظرية الماركسية فى حجة لينين . حيث ان لينين استمد لجوئه الى النظرية من نفس منطق الحوار او الصراع الفكرى حول اطروحات عملية – ‘ ان حيرة وارتباك الاقتصادويين بصدد التطبيقات العملية لوجهة نظرنا فى الايسكرا ، توضح بجلاء اننا لماما ما نتكلم بالسنة مختلفة ، وعليه لا يمكننا الوصول الى تفاهم بدون الرجوع الى اقصى البدايات الاولية ‘ - يخضع لارس لى نص " ما العمل ؟ " الى تميزه بين ‘الجانب العملى ‘ و اجزائه المرتبطة بالحجاج والصراع الفكرى ، وباتالى يجعل من المستحيل رؤية ماهى القضايا ذات الاهمية النظرية الموضوعة على المحك فى الصراع الفكرى ، فيتم التعامل معها كمجرد خطاب زائد موجود فقط لاغراض الحجاج ، بينما هى ضرورة اللجوء الى النظرية الماركسية - يؤكدها لينين – من اجل فهم واستيعاب قضايا الحوار (الصراع) القائم حول المشروع العملى لتحقيق هجمنة البروليتاريا . وبهذه الطريقة فان الاهتمام الصحيح والضرورى بارجاع المحتوى الخاص ب"ما العمل؟ " دفع باكثر مما يلزم ، يقود حقيقة الى تشويه النص نفسه . وعمليا ، يخفض لارس لى مناقشة وحجة نص لينين الى محتواه الايرفورتى ، ولاينتبه – بالتالى – الى جوانبه التجديدية ، وللمفارقة، قأن هذا النوع من الاجراءات يمكن ان يغفل عن ميزة سياقية اساسية مثل الارتباط – الذى اقامه لينين- بين الاقتصادوية كتيار سياسى ، وتطلع ليبرالى برجوازى للهجمنة فى الثورة الديمقراطية . عندما يشرع نص ما فى تحدى شروط الصراع الفكرى ، فانه ربما يعمل على توضيح التميزات والارتباطات فى الواقع الفعلى الذى يسعى لفهمه ، وحيث يكون ذلك الواقع الفعلى هو نفسه المحتوى السياسى الذى كتب فى اطار ذلك النص ؛ وهو هنا قد يسعى الى تغيير الشروط التى يتم فهم محتواه داخلها ، وفى هذا المعنى – المادى – فان نصا مثل " ما العمل ؟ " قد يعيد انتاج محتواه .


انتهى
أضف رد جديد