هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

هذا غلاف كتاب "هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني؟"، وقد صدر الكتاب في مناسبة الذكري السبعين لتأسيس الحزب.
اطلع بمهمة جمع مادته وتحريره الأستاذ صديق الزيلعي، وصدر الكتاب عن مركز آفاق جديدة للدراسات. يتكون الكتاب من 480 صفحة وقد أسهم فيه خمسة وعشرون كاتبا. والكتاب دون شك إضافة نوعية للمكتبة السياسية السودانية.
فللأخ صديق الزيلعي جزيل الشكر والتقدير على هذا الجهد الضخم والمهم جدا في ذات الوقت.
لي ورقة في الكتاب بعنوان "لم يبق سوى التوليف"، سوف أنشرها في هذا الخيط على حلقات.


صورة
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


لم يبق سوى التوليف!

مقدمة

"التوليف" هو إعادة تركيب أجزاء من أشياء مختلفة، لينتج منها شيءٌ واحدٌ جديد. ويستخدم مكيانيكيو السيارات السودانيون هذه العبارة، حين يركِّبون ماكينة سيارة من طراز ما، أو أي جزء من أجزاءها، لسيارة من طراز آخر، فيقولون: "ولّفنا ليها مكنة"، أو، "ولّفنا ليها جيربوكس"؛ يعنون، أنهم جعلوا الجزء الغريب عنها، يتوافق معها. وتدل على هذا الفعل في الإنجليزية عدة كلمات؛ منها: synthesis وamalgamation، وcombination وغيرها من الكلمات المتشابهات المعنى، التي تعني المزاوجة، والخلط، والتركيب، والتوليف.

الغرض من اختيار كلمة "توليف" في العنوان على صدر هذه المقالة، سببه الاعتقاد بأن العالم بأسره، ونحن من ضمنه بطبيعة الحال، نقف، الآن، بمختلف توجهاتنا الفكرية والسياسية، عند منعطفٍ جديد تماما، يحتم علينا، جميعا، إعادة النظر، في ما ساد، على نطاق واسع، حتى نهايات القرن العشرين، من إيمان بحتمية نبوءات الإيديولوجيات، خاصة وسط الشيوعيين. فمن جانبي، أصبحت، أكثر ميلا، مؤخرا، إلى الظن بأننا في السودان بحاجة إلى مقاربة توليفية، نخرج بها من نطاق النظريات الكلية، ونخرج بها، في نفس الوقت، من أسر التاريخ النضالي للحزب الذي ننتمي إليه، وننفلت بها من مجمل العواطف التي تشدنا إلى تراثه النضالي، وإلى ما استثمرناه فيه من جهد. فاللحظة الراهنة، في ما يبدو، تقتضي أن نعمل جميعا، بذهن مفتوح، على إعادة تعريف الخطوط "الوهمية" التي ظلت تفصل بين مختلف التنظيمات التي ضمتنا، التي تندرج تحت مظلة اليسار السوداني، العريض، وظلت رغم اتفاقاتها في أمور جوهرية، تعمل في خطوط تنظيمية متوازية، بل يسود علاقتها العداء.

بناء عليه، ربما أجرؤ، فأقول، منذ البداية، إن اللافتات القديمة التي تقسمت تحتها قوى اليسار، كالحزب الشيوعي السوداني، وحزب البعث العربي الاشتراكي، والحزب الناصري، وتنظيم الجمهوريين، والمستقلين، وغيرهم من التنظيمات الجهوية التي ظلت تعمل في انتزاع حقوق الناس، ومصير البلد، من قوى المركز التقليدية؛ بمؤسساتها الاقتصادية والعقدية القابضة، وشبكات مصالحها، لم تعد الآن صالحة كأطروحات، ولا كأوعية تنظيمية حزبية، لكل حزب على حده، لإنجاز هذه المهمة التاريخية. فقد جرت تحولات كبيرة في الطروحات النظرية على المستوى الكوكبي، من جهة، وجرت، من الجهة الأخرى، تحولات في البنى الحزبية التنظيمية، على المستوى المحلي، أبرزت فقرها الفكري والأدائي، وشرذمتها، وقلة فاعليتها. ولقد أصبح من الضروري، في تقديري، إيجاد صيغة توليفية، تنتج منها جبهة عريضة، ذات مرونة فكرية وتنظيمية أكبر. ولسوف أعود إلى شرح هذا التصور، في الجزء الأخير من هذه الورقة.

أحب أن أنوه، منذ البداية، أن هذه الورقة ليست ورقة أكاديمية، ولم أقصد أن أكتبها، على غرار الأوراق الأكاديمية. فهي مجرد إسهام بالرأي في محاولة للإجابة على السؤال الذي تفضل بطرحه، الأستاذ صديق الزيلعي، على جملة من الكتاب والأكاديميين السودانيين، وهو: هل يمكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني؟ وقد تعمدت أن تخلو هذه الورقة من أي مراجع، مفضلا أن تتداعى أفكاري فيها تداعيا حرا، وألا أنشغل بالتوثيق الداعم لما أقول، من الأدبيات السابقة. فالورقة ورقة مفاكرة. ولذلك، فحين أشير إلى آراء مفكرين، أو كتاب، بعينهم، أو تيار بعينه، فإن ذلك سوف يجري مني، مثلما يجري من أي شخص يتحدث حديثا عاما، طازجا، في قضية ما. فالورقة تمثل في جملتها وجهة نظري، وهي مبنية على المعايشة الشخصية اللصيقة للحراك السياسي السوداني، الذي انخرطنا فيه منذ أن كنا طلابا في المدارس الثانوية، في عقد الستينات من القرن الماضي، وتابعنا تحولاته يوما بيوم، حتى انقلاب الإسلاميين في يونيو 1989، الذي دفع بكثيرين منا إلى المهاجر. وحتى من وجهة النظر الأكاديمية البحتة، فإن جيلنا وأجيال من سبقونا تُعدّ مصدرًا من مصادر التاريخ السياسي السوداني، لمرحلة ما بعد الاستقلال، بحكم الناشطية السياسية، والانخراط اليومي، في العراك السياسي، على مدى زمني تراوح بين ربع القرن ونصفه.

تبدل الخريطة الفكري/سياسية

لقد تبدلت في نهايات القرن العشرين، الخريطة الفكري/سياسية الكوكبية، التي سادت قسطا كبيرًا من عقود القرن العشرين، تبدلا جوهريا. وقد قاد هذا التبدل الكبير، الكثيرين إلى إعادة النظر في خرائط الطريق، التي رسمت للنضال مسارًا مُتَنَبّأً بمنعرجاته، ومآلاته، مسبقا. ولقد تقاسمت كلٌّ من الماركسية واللينينية رسم خارطة طريق لمراحل نضالية، آمن معتنقو النظرية، ذات الشقين، أنها مفضية، لا محالة، إلى مرحلة الشيوعية. ولقد استمرت الشيوعية الدولية بمختلف معسكراتها تعمل وفقا لخارطة الطريق تلك، عاملة على استكمال الثورة داخل كتلة الدول الشيوعية. وعاملة، من ناحية أخرى، على مد ذراعها؛ تبشيرا ودعاية، وصراعا مسلحا ضد الإمبريالية العالمية، من أجل أن تنداح الثورة في كل أرجاء العالم. حققت الشيوعية إنجازات هائلة في عقودها الأربعة الأوائل، وبلغت عقب الحرب العالمية الثانية من القوة العسكرية، ما جعلها تقسم العالم إلى كتلتين، شبه متكافئتين، من حيث القوة العسكرية، ما جعل كل واحدة منهما تعمل للأخرى ألف حساب.

ولكي نكون منصفين، لابد لنا من القول، إن التفكير الدوغمائي والاعتقاد في الحتميات، لم يكونا حكرا على جهة، دون أخرى. فالنزعة التنبؤية، التي ترسم للتاريخ ماحل وتزعم لنفسها صفة "العلمية"، ليست وقفا على الفكر الاشتراكي وحده، كما هو الحال في الماركسية اللينينية. إذ شملت تلك النزعة، بعض مفكري الرأسمالية، بعد أن ثملوا بحدث انهيار الكتلة الشيوعية المفاجئ، السريع، وبعودة اقتصاداتها، إلى حضن الرأسمالية واقتصاد السوق. وكان أول وأكبر من انزلق من مفكري المعسكر الرأسمالي في حفرة النبوءات الحتمية، الأكاديمي الأمريكي المرموق فرانسيس فوكوياما، حين أعلن في مقالة لفتت الأنظار حال صدورها، وتحولت بسرعة إلى كتاب، تلقفته ملايين الأيادي، إن الرأسمالية واقتصاد السوق هما نهاية التاريخ.

نشر فوكوياما، في عام 1992 كتابه الشهير، "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، مبشرا بأن التاريخ لا محالة منتهٍ داخل بنية النظام الرأسمالي. فلا صيغة من الصيغ الفكري/سياسية، يمكن أن تعقب الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق. غير أن فوكوياما ما لبث أن تراجع عن تلك النبوءة المتعجلة، التي لم تصمد لديه سوى لبضع سنوات، إذ أصدر في سنة 1995 كتابه "الثقة: القيم الاجتماعية وصناعة الازدهار"، الذي عدل فيه عن رؤيته السابقة، مؤكدا أن الثقافة لا يمكن فصلها عن الاقتصاد. راجَع فوكوياما نبوءته بنهاية التاريخ في الصيغة الرأسمالية، والديمقراطية الليبرالية، بعد ثلاث سنوات فقط. هذا، في حين صمدت نبوءة الشيوعيين وسطهم، قرابة القرن، ولا تزال صامدة وسط العقائديين المتعصبين منهم، إلى يومنا هذا.

التعلق بنظرية متكاملة الأركان؛ فلسفيا واقتصاديا واجتماعيا، كالنظرية الماركسية، إضافة إلى التعلق بخارطة الطريق التي رسمتها اللينينية لمسار الثورة، عبر مراحل بعينها، يجعل من الصعب جدا على معتنقيها قبول حقيقة أن جسد الواقع لا ينفك يكبر على جلباب النص، أيّا كان ذلك النص. كما أن العقائديين الجامدين من معتنقي النظريات الكلية ربما صعب عليهم، أيام صعود تلك النظريات، الانتباه إلى التنوع الكبير الذي يزخر به هذا الواقع الانساني الكوكبي، العريض، الذي تقف وراءه تواريخ مختلفة، وثقافات مختلفة. وهذا هو ما انتبه إليه فوكوياما، حين راجع نبوءته بأن النموذج الغربي هو النموذج الخاتم، وقال إن الاقتصاد لا يمكن أن يعمل بمعزل عن الثقافة.

عدم القدرة على قبول إمكانية إخفاق النظرية الكلية، كليًا، أو جزئيًا، ينطبق على العلمانيين، كما ينطبق على المتدينين. ولذلك غالبًا ما تمر فترة من الوقت، عقب انهيار تجربة الحكم لنظرية ما، يقع فيها كثيرٌ من أتباع تلك النظريات في حضن الإنكار؛ أعني، الانكار بالمعنى السيكولوجي للكلمة؛ أي، المعنى المُعبَّر عنه باللغة الإنجليزية بالـ denial. غير أن من يمارسون فعل الإنكار هذا، لا يودون أن يبدوا مجرد منكرين، أو أنهم يغالبون أزمة نفسية. ولذلك، فهم يتجهون لكي يجدوا لأنفسهم ذريعةً موضوعيةً يتمترسون وراءها. وهنا يتولد تلقائيا الزعم بأن النظرية صحيحة، ولكن الخطأ كان في التطبيق. ويمر الزمن، ويتضح أن هذه نفسها، ليست سوى مغالطة، مبعثها أولا وأخيرا، عدم القدرة على مواجهة حقيقة أن الأساس النظري نفسه كان فيه خللا، وأن التفسيرات والنبوءات التي قامت عليه كانت، هي الأخرى، كانت خاطئة، تبعا للخطأ الجوهري، الموجود أصلا في صلب الأساس النظري. فكثير من الشيوعيون السودانيين وقعوا في حفرة الانكار هذه. ويدخل الآن، ذات هذه الحفرة، كثير من اسلاميي السودان الذين حين رأوا مشروعهم تتداعي فصول انهياره تباعا، واحدا وراء الآخر، وبدا للعيان أن المشروع، كله، تحول إلى مستنقع ضخم من الفساد الذي يزكم الأنوف، واستحال يوم بعد يوم إلى خنق متزايد للحريات، مع بؤس في الانجازات، تخندقوا وراء القول إن المشروع صالح، ولكن الخطأ كان في التطبيق، وفي الأفراد الذين قادوا العمل في المشروع.

لا ينتبه العقائديون، بحكم إيمانهم المطلق بنظرياتهم، أن للواقع، في بعض الأحيان، انبثاقات مفاجئة، لا يمكن التنبؤ بها، وأن هذه الانبثاقات تصل حد أن تجعل نصوص النظريات الكلية، وخرائط طريقها، مجرد حبر على ورق. وهذا هو ما حدث للنظرية الماركسية في النصف الثاني من القرن العشرين، ولتجارب تطبيقها في الكتلة الشيوعية؛ بشقيها السوفييتي والصيني.

أفول نجم السرديات الكبرى

لقد تبدت عبر ما يزيد من القرن من الزمان، حقائق جوهرية، أبرزت هذه الحقائق التطورات الفكرية اللاحقة، إضافة إلى تطور الواقع الموضوعي نفسه. فقد تطورت الماركسية إلى ما سمي باليسار الجديد، غير أنه لم يستطع أن يمدد في عمر النظرية الأم. ولقد أبرزت هذه التطورات الفكرية، والتطبيقية، العلمية، قصور الفلسفة الماركسية، كنظرية كلية متكاملة الأركان، بوصفها أنطولوجيا نهائية، أو شبه نهائية، لتفسير العالم كظاهرة؛ على مستوى الطبيعة، أو نظرية اقتصادية اجتماعية لتفسير وتسيير السلوك البشري. وأنها، من ثم، لا تتطور إلا داخل مقولاتها الأساسية.

لقد أخذ الفكر البشري يخرج، منذ بدايات الربع الأخير من القرن العشرين، من قبضة ما يسمى بالسرديات الكبرى،Grand narratives ، أو Master Narratives. ويرى جان فرانسوا لويتار أن السرديات الكبرى التي تزعم لنفسها شمولا كوكبيا عابرا لأقاليم الجغرافيا والتاريخ والثقافة، لم يعد يُعتد بصوابها في حقبة ما بعد الحداثة. ففكر ما بعد الحداثة يتحدث عن ضرورة الانحصار في سرديات صغيرة؛ micronarratives أسماها لويتار بالفرنسية petits récits، وتعني: التمثُّلات النظرية المحلية، لنطاقات محدودة، ليس لأي منها ادعاء بامتلاك وضعية الحقيقة الكونية، أو العالمية. ورغم أن النقاد يرون أن ما يقول به لويتار يمكن أن يمثل، هو الآخر، سرديةً من نوعٍ جديد، ورغم أن نقادا آخرين يرون في ما يقوله لويتار يمثل ترسيخا للمركزية الأوروبية، إلا أن الواقع العملي، قد أخذ يشير، رغم تلك الانتقادات، إلى أن أقطار العالم، قد أصبحت أكثر ميلا لأن تدير أمورها، مركِّزة على واقعها المحلي، وسردياتها المحلية، بعيدا عن موجِّهات السرديات الكبرى.

لقد أصبح السياسيون في كثير من دول العالم النامي، أكثر ميلا إلى نهج السياسات العامة، التي تستند على الأبحاث الأكاديمية، التي تجري في البيئات القطرية المحلية، في نطاق التواريخ المحلية، وسرديات الثقافات المحلية. ولا يعني ذلك أن أقطار العالم أخذت تنعزل عن بقية ما يجري في العالم. وإنما يعني، أن الميل أصبح يتجه أكثر إلى إدارة الارتباطات الخارجية، ذات الصلة بخطط النمو الاقتصادي والاجتماعي، وعموم حراك التحديث، بما يخدم المصلحة العامة، لأهل القطر المعيَّن. أي إدارة شؤون التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بعيدا عن أي تشعبات ترهن حراك التنمية والتحديث الداخلية، لسردية كبرى شاملة، أو لأجندات ذات بعد ثوري أو إصلاحي كوكبي، أو خدمة أجندات عابرة للأقطار.

لقد انهارت الكتلة الشيوعية وانهارت معها منظومة الأحلام الكوكبية الكبيرة، عابرة الأقطار. وفي الوقت الذي كانت فيه الكتلة الشيوعية تتراجع باطراد، كانت أقطار أخرى، أقل حجمًا، وذات اقتصادات رأسمالية نامية، تتقدم، وبسرعة كبيرة، فتنقل الملايين من مواطنيها من تحت خط الفقر، إلى ما فوقه، وبمعدلات تتنامى باستمرار. وتمثل هذا النموذج دول النمور الآسيوية، والبرازيل، والهند. وانضمت إلى هذا الركب الصين، بعد أن تخلت عن الطروحات الاقتصادية الماركسية، وأخذت تنخرط في صيغة التطور الرأسمالي، مع الإبقاء على الشمولية الماركسية، الماوية، وقبضتها الحديدية الموروثة، كموجه وحارس لحراك التنمية وفق صيغة الاقتصاد الحر. فقد بقي الحزب الشيوعي الصيني مصرًا على الشكل التنظيمي الشيوعي القديم ونهجه كسلطة مهيمنة، ولكن، دون نظرية شيوعية؛ مقدمًا في ذلك ظاهرةً في الإنكار والتناقض الجذري مع النظرية، التي تسمى الحزب باسمها، نموذجًا عديمة الشبيه.

ماركس مات ولم يمت

تتجلى عبقرية الفيلسوف الألماني كارل ماركس في كونه قد وضع رؤية خالدة، لا تزال قادرة على كشف جوهر الخلل في بنية النظام الرأسمالي، رغم سائر الإجراءات التي اتخذها النظام الرأسمالي ليقطع الطريق على الحراك الثوري، ويعطل فرص احتشاد الثورة، وفقا للنبوءات الماركسية. ما سيخلد من الماركسية هو زعمها أن حرية الأفراد لن تتحقق إلا إذا أدير المال العام إدارة جماعية. لكن، على أن نفهم أن إدارة المال العام، الجماعية تعني العمل الإصلاحي الذي يردم الهوة بين الأغنياء والفقراء، ويعمل على صيانة الديمقراطية من التزييف، بما يضمن الشفافية والرقابة. ما أصبح جزءًا من التاريخ في التصور الماركسي، هو الزعم بأن إدارة المال العام جماعيا لا تتحقق إلا بتحريم ملكية وسائل الانتاج، على الفرد والأفراد القلائل، وإلا باحتكار البروليتاريا للسلطة.

لقد أثبتت التجارب الديمقراطية، في نفس الوقت، أن الديمقراطية، لا تعمل بكفاءة، في وجهة مقاصدها، ما بقيت الثروة في أيدي القلة. فالسلطة والثروة متلازمتان، وحين تصبحان مكرستان في يد القلة تنتج منهما المظالم تلقائيا، بل ويعاد انتاج تلك المظالم، باستمرار. فحين تجتمع الثروة في أيدي القلة، تصبح السلطة تلقائيا في أيدي القلة، وحينها يصبح في وسع أهل السلطة تعطيل وعي الناس بقضاياهم وحاجاتهم، أو على أقل تقدير، تزييفه. ولا ينطبق ذلك على الطبقات الدنيا التي تكون عادة أكثر قابلية لتزييف الوعي، بل يشمل حتى حملة الشهادات العليا. فقد زاملت في العمل بعضا من أساتذة الجامعات في أمريكا الذين يرون أن أساتذة الجامعات ليسوا بحاجة إلى اتحادات مهنية، إذ يرون أن إدارات الجامعات، وهي جامعات ربحية، يمكن تخدم مصالحهم تلقائيا. الشاهد أن تملُّك الرأسمالية للآلة الإعلامية، وسيطرة أيديولوجيتها على مناهج التعليم، خاصة على المستوى الجامعي، تخلق ديناميكيات مُعطِّلة، وتجعل الاستبداد والقمع وسلب الحرية، تتخذ صورا بالغة اللزوجة، تتعذر مقاومتها.

لقد ماتت الماركسية بوصفها نظرية لتفسير الكون والحياة، ولكنها لم تمت كنظرية ربطت حرية الأفراد والمجتمعات بضرورة الإدارة العامة للمال، ولجم قوته الفاعلة السالبة الي تأثر على نمو نطاقات الفكر والوعي والثقافة، بتسليع كل شيء، بل وبتشيىء الانسان نفسه. ولربما لا يبق في وسع من يحلمون بالحرية الآن، سوى أن يسيروا في طريق الإصلاحات الوئيدة، التي تقلص الهوة الفادحة، القائمة الآن، بين الأغنياء فاحشي الثراء، وبين الفقراء الذين يغالبون مرارات الفقر المدقع، في وقت تتسع فيه الهوة بينهم وبين الأغنياء، رغم تراكم الثروات، بوتيرة غير مسبوقة في التاريخ.

الفابيون

وجدت الماركسية مقارعةً، منذ البداية، من تيارات الذين اتفقوا معها حول التوجه الاشتراكي، واختلفوا معها حول وسيلة تحقيقه. فالماركسية لم تكن النظرية الوحيدة للاشتراكية، ولتحقيق المساواة والعدالة. كما لم تكن الراسم الوحيد لخارطة الطريق لبلوغ تلك الغايات. وعلى سبيل المثال، فإن الجدل بين الاشتراكية الماركسية، التي تبنت نهج العنف الثوري، وبين الاشتراكية الفابية التي تبنت نهج الإصلاح الوئيد، يعود إلى أخريات القرن التاسع عشر. فقد تشكلت الجمعية الفابية حوالي 1883، مناديةً بأن تحقيق الاشتراكية ممكن ولكن، عن طريق الاصلاحات التشريعية البرلمانية، التي يمكن أن تجنب المجتمعات التحولات الثورية العنيفة. ولقد وضح عمليا، عبر أكثر من قرن، أن الإصلاح من داخل بنية النظام الرأسمالي أمر ممكن، مهما اختلفنا حول مداه و/أو سرعته. الشاهد أن نهج الإصلاح الوئيد يجنب المجتمعات الهزات العنيفة والانتكاسات.

أيضا، وضح، من الجهة الأخرى، أن القول بأن الطبقة العاملة، بوصفها الطبقة المؤهلة تاريخيا، لإحداث التغيير، وفقا للرؤية الماركسية، قول غير صحيح. وقد اتضح ذلك منذ البداية، حين أدخلت اللينينية المثقفين الثوريين، ضمن قوى التغيير، بل جعلتهم قادة ذلك التغيير. أما الذي جرى عقب ذلك، وأثر على النبوءات الماركسية تأثيرا كبيرا، هو أن النظام الرأسمالي في الدول الصناعية المزدهرة، استطاع أن يمتص ثورية هذه الطبقة المرشحة لذلك الدور التاريخي المنتظر. فعن طريق الإصلاحات التي تشمل: زيادة الحد الأدنى للأجور باستمرار، وتقليل ساعات العمل، وخلق أنظمة تأمين اجتماعي، وتأمين صحي، وإسكان، وغيرها من الاصلاحات والبرامج الاجتماعية التي تنطلق من الجهاز الحكومي، كما تنطلق من منظمات المجتمع المدني، استطاع النظام الرأسمالي أن يمتص ثورية طبقة العمال. فالجهود الحكومية وغير الحكومية، أصبحت تعمل متضافرة، في وجهة تحسين أحوال العاملين، بمختلف فئاتهم، وعلى مختلف الأصعدة. وعلي سبيل المثال فإن المنظمة الأمريكية، غير الربحية، المسماة، Habitat for Humanity، استطاعت أن تشيد، بالجهد الجماعي، ملايين المساكن للفقراء في أمريكا، وأن تملكهم إياها بأسعار رمزية، يطيقون دفعها على أقساط.

عموما، نجد أن الأنشطة الفكرية والأكاديمية والإعلامية، التي تعمل باستمرار على فضح إشكالات بنية النظام الرأسمالي، لها أثرٌ واضحٌ في تغيير أحوال الناس، على الرغم من البطء الشديد في الاستجابة من جانب أهل الرأسمال للمناشدات العقلانية التي توجهها إليها هذه القوى العريضة. الشاهد أن هذا النوع من الأنشطة ظل يشهد تناميا مضطردا في كل أرجاء العالم. لقد أثرت النظرية الماركسية على فضاءات واسعة جدا، وولدت ناشطيات مختلفة. ويكفي أن نشير إلى أن تجرُّؤ المرشح الأمريكي بيرني ساندرز في استخدام لفظ الاشتراكية في خطابه السياسي، يمثل منعرجا جديد تماما في السياسة الأمريكية، حتى داخل الحزب الديمقراطي.

يمكن القول، باختصار شديد، أن ثورية الطبقة العاملة، في المجتمعات الصناعية الكبيرة، قد جرى امتصاصها، إلى حد لم تعد معه الصيغة التي رسمتها الماركسية لإحداث التغيير ممكنة. كما أتضح أن مقولة الماركسية، بأن نهج العنف شرط لإحداث التغيير، لا يمكن استبداله، ليست صحيحة. فقد عرف الناس الخيبات الكبيرة، التي تعقب الثورات العنيفة. ورأوا كيف أن الثورات العنيفة ترتد على نفسها، فتأكل بنيها بل وتأكل أجنداتها نفسها التي أتت من أجلها. كما وضح أن طريق التغيير طريق طويل، لا تنجز فيه التغيير القوى الفزيائية للمجتمعات وحدها، وإنما هناك دور مهم جدا تلعبه المعرفة والتعليم. وهو دور تتسع من خلاله دوائر الوعي وسط المالكين والمستخدَمين، على السواء. وغاية هذا الوعي هو الوصول إلى استيقان حقيقة أن الأمن والسلم ضروريان للجميع، ويجب ألا يضطربا. وبتوسيع وتعميق هذا الوعي، تتسع دائرة المساومة بين من يملكون وبين من لا يملكون. وهكذا تحدث التنازلات، بما يسمح به تطور الوعي والتعاطف الانساني مع المسحوقين، وسط المالكين، إضافة إلى استشعارهم، عن يقين، الخطر الكامن إن هم لم يقدموا أي تنازلات. فالقول بأنه لا يمكن أن نعتمد على صحوة الضمير لدى الملاك، ربما يكون قول غير صحيح. فليس بالضرورة أن يكون مستقبل الانسانية مجرد امتدادٍ لصورة ماضيها. فالتغيرات التقنية المذهلة التي تتنامي بمتوالية هندسية رهيبة السرعة، ربما تقلب المفاهيم كلها رأسا على عقب، ولدى الجميع، بلا استثناء، ما يفسح المجال لطفرةٍ جديدة.

لقد راكمت البشرية من المعارف والخبرات في القرن العشرين، ما يساوي ما راكمته في كل تاريخها منذ فجر الخليقة. وراكمت في العقدين الأخيرين، ما يساوي ما راكمته في القرن العشرين بأكمله. فهذه الانفجارات المعرفية الهائلة المتسلسلة، ربما تجعل أذكى الناس، وأكثرهم قدرة على الاستشراف، عاجزا تماما عن التنبؤ بشيء مما يمكن أن يحدث غدا. وخلاصة القول هنا، إن التنظير قد دخل منعطفا جديدا، تسود فيه الحيرة، أكثر بكثير مما يسود فيه اليقين. ولذلك فإن الفكر الاشتراكي، برمته، وبالأخص الصيغة الماركسية منه، أضحت تواجه واقعا ليس لديها أدوات تفسيره. ولكن لا يبدو أن أيا ممن بقي من الأحزاب الشيوعية منشغل بهذا التحدي. لقد أصبحت الأحزاب الشيوعية تعيش في ظل تاريخها الذي انقضى، بعد أن انبهمت أمامها الرؤية للمستقبل. فهي تعيش تحت ظل تاريخ انقضى، وقد أخذ هذا الظل نفسه في الانحسار، بل لم يبق منه سوى جزء قليل، لن يلبث أن ينطوي، ويتركها تحت شواظ شمس لاهبة حارقة.

لقد تمكنت الرأسمالية، عبر مختلف الإجراءات والإصلاحات، من ثلم الحد القاطع لثورية الطبقة العالمة، الذي تصورت الماركسية أنه سيكون، بالضرورة، ملازما لها، بما يجعلها نقيضا كليا، مستمرا، للمالكين. أي، أن التناقض بين المُلاّك والعاملين يتفاقم حتى يبلغ درجة من الحدة، تنتهي بها كل فرصة للتفاهم وللمساومة، ومن ثم للحلول الوسطى، فلا يبقى، حينها، إلا الاستئصال الجذري للنظام الرأسمالي. غير أن ما أفرزه الواقع، عمليا، في الدول الصناعية الكبرى، كما سبق أن أشرت، يقول: إن هذه الطبقة العاملة قد أصبحت متصالحة، إلى حد كبير، مع طبيعة النظام الرأسمالي، وأصبحت تعمل، على تغيير طبيعته، أو قل تحسينها، من داخله. وحتى في هذه الحالة من التصالح مع بنية النظام الرأسمالي، والعمل من داخله، فإن حراك الطبقة العاملة في الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل التغيير، أضعف بكثير، وأقل تأثيرا، من نظيره في أوروبا الغربية.

خلاصة القول هنا، أن القوى العاملة في العالم الغربي، ظلت، على طول المدى، تعمل شدا وجذبا من داخل بنية النظام الرأسمالي، منخرطة معه في صراع مطلبي، يتسم بالسلمية، من أجل تحسين الأوضاع. ولذلك، فقد فإن عبارة: "يا عمال العالم اتحدوا فإنه ليس لديكم ما تفقدونه سوى الأغلال"، قد أضحت، إلى حد كبير جدا، عبارة بلا مدلول في واقع الدول الصناعية الكبرى. فالعامل في الدول الصناعية الكبرى، أصبح لديه الكثير الذي يمكن أن يفقده، إن اهتز الاستقرار واضطربت الأحوال. لم يعد في وسع العامل الأوروبي أن يتحد مع العامل في إفريقيا، أو آسيا، أو أمريكا اللاتينية. ففي حين لا يفقد العامل الإفريقي أو الآسيوي أو اللاتيني، أي شيء سوى الأغلال، حين يثور، فإن العامل الأوروبي يفقد الكثير. فالعامل الأوروبي أصبح منتفعا من النظام الرأسمالي. فهو قد دخل، بصورة ما، في بنية القوى التي تمتص دم القوى العاملة في الدول النامية. فهو صاحب مصلحة في استقرار واستمرار الواقع القائم status-quo شأـنه في ذلك، شأن المالكين.

ثورة المعلومات والتقنية

يضاف إلى ما تقدم، فإن التقدم التكنولوجي وثورة المعلومات قد أعادتا تعريف الواقع الاقتصادي والاجتماعي، بصورة جذرية. فالأتمتة،automation ، وعلم الربوتات، robotics، قد خلق بيئات عمل جديدة كليا لا تخضع لأي من التعريفات السابقة. فشركة التاكسي "أوبر" Uber التي أصبحت الآن منتشرة في كل أرجاء العالم، لا تملك سيارة واحدة، كل ما تملكه هو برنامج إلكتروني software. أيضا نجد أن شركة كوداك التي كانت توظف مائة وسبعين ألف عامل، قد خرجت من السوق، تمامًا، وأعلنت الإفلاس، بعد لم يعد الناس بحاجة للكاميرا ذات الفلم. وهناك كثير غيرها من بيئات العمل الجديدة. وتصنع شركة قوقل الآن سيارة تسير بلا سائق، ما يضمن عدم الاصطدام، وقد يقود هذا في المستقبل القريب للقضاء على تأمين السيارات نهائيا.

المفاهيم القديمة المتعلقة ببيئة العمل، وقوة العمل، آخذة في التغير. كما أن الشقة بين الياقة البيضاء والياقة الزرقاء آخذة في التقلص. يضاف إلى ذلك، أن التعليم والتدريب يتناميان بسرعة رهيبة، ما يجعل كثيرا من أهل الياقات الزرقاء يخرجون إلى نطاق الياقات البيضاء. هذه الثورة التكنولوجية والمعلوماتية بمقدار ما تهدد العاملين، عن طريق استبدالهم بآلات، أو بحواسيب، وبتغيير طبيعة عملهم، بما يغير انتماءهم الطبقي، نفسه، وفقا لتعريفات الماركسية الكلاسيكية، فإنها أيضا، تضع النظام الرأسمالي أمام تحدٍ نوعيٍّ، في مجالات خلق الوظائف للقطاع العريض من الناس، ومن ثم، حفظ الأمن الاجتماعي من الأخطار التي تنتج من تفشي البطالة، أو من ضعف نظام الضمان الاجتماعي. وغالبا ما سيدفع هذا التحدي النظام الرأسمالي إلى توليد صيغ جديدة للعقد الاجتماعي، بصورة ربما تجعل دولة الرفاه، التي طالما حلم بها الثوريون في انحاء العالم، تفرض نفسها فرضا، على الجميع، في مستوى من المستويات، في المستقبل القريب. إن سؤال توزيع الثروة بعدالة سوف يطرح نفسه، في مقبل الأيام، على نحو غير مسبوق.

((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »


تراجع اليسار السوداني

بناء على الاستعراض السابق الموجز، لمختلف المستجدات العديدة التي أفرزتها مختلف صور الحراك الفكري والسياسي والاقتصادي والإداري، في عالم ما بعد الحرب الباردة، إضافة إلى الطفرات المعرفية والتقنية، التي انتظمت عقود القرن العشرين، وجعلت، من كثير من أساسيات الماركسية اللينينية، من الناحية العملية، شيئا من التاريخ، أتقدم إلى معالجة السؤال المركزي المتعلق بمستقبل الحزب الشيوعي السوداني. والسؤال، كما سبق أن أشرت في المقدمة، لا يخص الشيوعيين السودانيين وحدهم؛ وإنما يخص كل طيف اليسار السوداني العريض، من بعثيين وناصريين، ومستقلين، إضافة إلى قوى الهامش، التي أصبح جزء كبير منها حاملا للسلاح في وجه سلطة الدولة المركزية. أفول التطبيق الشيوعي في الاتحاد السوفيتي والصين، وما أعقبه من انعطاف سريع إلى اقتصاد السوق، لم يقوض قواعد التجربة الشيوعية على مستوى قدرتها على تحسين الاقتصاد وحسب، وإنما قوض معها نظام الحزب الواحد الذي اعتمدته الشيوعية، وسارت على نسقه أنظمة الحزب الواحد العربية؛ القومي الناصري منها والبعثي. يضاف إلى ذلك، السقوط الكبير لمقولة المثقفين الثوريين، الذين كشفت التجربة العلمية أنهم ليسوا محصنين ضد إغواء البريستيج، والمصالح الشخصية.

ظل نجم اليسار السوداني ممثلا في الحزب الشيوعي السوداني، صاعدا، باضطراد، عبر الخمس عشرة سنة الأولى، التي أعقبت الاستقلال. وكانت لحظة الذروة في ذلك الحراك المتنامي، فوز الحزب الشيوعي السوداني باثني عشر مقعدا، من المقاعد المخصصة للخريجين، في الانتخابات التي أعقبت ثورة أكتوبر 1964، التي أسقطت نظام الفريق عبود. في تلك الانتخابات، حصلت جبهة الميثاق الإسلامي بقيادة حسن الترابي، على ثلاثة مقاعد فقط، من مقاعد الخريجين. لكن، في الانتخابات التي جرت في عام 1986، عقب سقوط نظام نميري، انقلبت الصورة تماما، إذ حصل الشيوعيين على ثلاثة مقاعد، وحصلت الجبهة القومية الإسلامية، بقيادة حسن الترابي، الذي كان لا ينفك يغير اسم تنظيمه، على أكثر من خمسين مقعدا، ليصبح تنظيم الجبهة القومية الإسلامية، القوة الثالثة في البلاد، من حيث عدد المقاعد في البرلمان، بعد حزب الأمة، والحزب الاتحادي الديمقراطي. لقد كسب حسن الترابي كسبا كبيرا بتشكيله الجبهة القومية الإسلامية، عقب سقوط نظام نميري مباشرة، رغم أنه، هو وتنظيمه، كانوا جزءا من ذلك النظام.

هناك عوامل عديدة أدت إلى التراجع الكبير لدور الحزب الشيوعي السوداني على الساحة السياسية السودانية. لقد كانت محاولة الانقلاب التي قام بها بعض الضباط الشيوعيون ضد جعفر نميري في يوليو من عام 1971 المنعطف الأهم، الذي هدّ معظم ما بناه الشيوعيون، على مدى ثلاث عقود، تعود إلى أربعينات القرن العشرين. فقد قاد ذلك الانقلاب، الذي لم يستمر لأكثر من ثلاثة أيام، إلى إعدام أكبر القيادات التاريخية للحزب، وعلى رأسهم سكرتيره العام، عبد الخالق محجوب، والزعيم العمالي الحامل لوسام لينين، الشفيع أحمد الشيخ. وضع ذلك الانقلاب كل جهد جهاز أمن نميري، في مواجهة أنشطة الشيوعيين، فاستمرت ملاحقتهم لأربع عشرة سنة. وحين سقط نظام جعفر نميري عام 1985 عقب انتفاضة شعبية ساندها الجيش، خرج الحزب إلى العلن، ولكنه كان مهيض الجناح. وظهر ذلك جليا في انتخابات 1986، كما ذكرنا، التي لم يحصد فيها الحزب سوى ثلاث دوائر انتخابية، كانت إحداها من دوائر الخريجين في الجنوب. فقد تراجع سنده الجماهيري تراجعا كبيرا.

في الفترة التي كان الحزب الشيوعي فيها مطاردا ومختفيا يمارس نشاطه من تحت الأرض، جرت، في عام 1977، المصالحة الوطنية بين جعفر نميري وقوى المعارضة التي كانت تعمل من الخارج. استغل الدكتور الترابي الفرصة، وعمل على التغلغل داخل نظام جعفر نميري، الذي كان يبحث عن حليف من قوى المعارضة. تغلل تنظيم الترابي في أجهزة الدولة المختلفة، وأخذ يدفع بالشعار الإسلامي من داخل نظام نميري خالقا شبكة عريضة داعمة للشعار الإسلامي من رجال الدين، ورجال القضاء الشرعي، وأئمة المساجد والوعاظ، ورجال الطرق الصوفية، ومن يستمعون لهم من عامة الناس. وقد قاد ذلك إلى إعلان نميري تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية في سبتمبر 1983.

في تلك الفترة، أيضا، ونتيجة للتحالف مع النظام والتغلغل في أجهزته، تمكن الترابي من أن يخلق لتنظيمه قاعدة اقتصادية كبيرة، بدأت بإدخال تجربة البنوك الإسلامية إلى السودان، وعلى رأسها بنك فيصل الإسلامي السوداني. كما نشأت العديد من المؤسسات المالية التي يديرها التنظيم. فعن طريق القروض وتقديم التسهيلات المالية، تمكن تنظيم الدكتور الترابي من أن يخلق نطاقا عريضا من المنتفعين الذين جعلتهم مصالحهم موالين للتنظيم، هاتفين بشعاراته. وكان من بين الفئات المهمة التي تغلغل فيها التنظيم، فئة ضباط الجيش. وفي ما يخص ضباط الجيش، فإن استهدافهم لم ينحصر في ربط مصالحهم الشخصية بالمؤسسات المالية لتنظيم الجبهة الإسلامية، وحسب، وإنما جرى استهدافهم عقائديا، بعقد دورات لهم في المركز الإسلامي الإفريقي، الذي تسيطر عليه كوادر الإسلاميين ومناصريهم.

حين سقط نظام جعفر نميري عام 1985، خرج تنظيم الترابي الذي أسماه في تلك المرحلة "الجبهة القومية الإسلامية"، بقدرات ماليه كبيرة وبآلة إعلامية ضاربة، وبكوادر مدربة. كانت السنوات التي عزلت الأحزاب الكبيرة كالأمة والاتحادي، والشيوعي، عن جماهيرها، وفككت أوصالها، وأضعفت خبرتها، وممارستها للعمل العام، هي نفس السنوات التي رفع بها الترابي، عن طريق التحالف مع نظام نميري والتغلغل في أجهزته، ورفع قدرات تنظيمه وايصاله مستوى من الانتشار ومن الكفاءة والقدرة على الفعل في الواقع السياسي، لا يضاهيه فيها تنظيم آخر.

فشلت خطط التنمية التي اندفع فيها نظام نميري. وقد اتضح ذلك بجلاء شديد، في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين. لقد نتج من السياسات الاقتصادية المتخبطة، تراجع الاقتصاد، ووقوع السودان في أحبولة الديون الخارجية، ودوامة تراجع سعر العملة، كما زاد الطين بلة ارتفاع أسعار البترول، ومن ثم، ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج، وغيرها من الواردات. وهكذا تدهورت الأحوال المعيشية للمواطنين وتراجعت الخدمات. كان ذلك هو المنعرج الكبير الذي منه بدأت هجرة السودانيين الكبيرة إلى الخارج. حينها، دخل السودانيون، ولأول مرة في تاريخهم، في طور الهجرات الملحمية بالغة الضخامة إلى مختلف الوجهات في الخارج. ولم تتراجع وتيرة تلك الهجرات، منذ ذلك التاريخ، حتى بلغت اليوم، في فترة حكم الإسلاميين، مدى لم يكن في وسع أحد أن يتصوره.

أفقدت هذه الهجرات الملحمية الضخمة، التي كان قوامها المهنيون، وسائر المتعلمين، الحزب الشيوعي السوداني، قطاعا عريضا من الجمهور السوداني، الذي ظل يدعمه، من خارجه. كما أفقدت تلك الهجرة الضخمة الساحة الفكرية والثقافية السودانية، خصائصها المنفتحة على تيارات الثقافة الإقليمية والعالمية، التي تشكلت بها منذ مؤتمر الخريجين، وتوارثتها الأجيال، وأصبحت قوى اليسار العريض والليبراليين، في عقد الستينات، هي ماكينتها القاطرة. لقد كسب الحزب الشيوعي السوداني، في حقبة الستينات من القرن الماضي، احترام واعجاب قطاع كبير من المواطنين السودانيين، حتى أصبح ذا جاذبية بالغة القوة. وقد خلقت له تلك الجاذبية دائرة واسعة من الصداقة وسط جمهور المتعلمين، خاصة في اتحادات المهنيين والموظفين والعمال، بل وحتى في وسط اتحاد مزارعي الجزيرة، أكبر جسم نقابي في السودان، رغم قلة التعليم وسط منتسبيه في تلك الفترة.

بعد أن ضرب جعفر نميري الحزب الشيوعي، على أثر الانقلاب الفاشل، الذي جرى ضده في يوليو 1971، استهدف الرئيس نميري، بضراوة شديدة، الجسم النقابي السوداني المطلبي العريض، برمته. فسعى إلى السيطرة على قيادات النقابات واتحادات مختلف العاملين، ودخل معها في صراعات أضعفتها كثيرا، بعد أن أصبحت مهلهلة نتيجة لتراجع تأثير القيادة الشيوعية عليها. قادت المطاردات الأمنية الشيوعيين إلى السجون، وإلى نزول من أفلت منهم من السجون، إلى الاختباء والعمل من تحت الأرض، ما أضعف فاعليتهم. وعموما كان عقد السبعينات هو عقد أفول نجم اليسار في السودان، وبداية علو نجم الشعار الإسلامي. كما كان أيضا، هو عقد تراجع حراك التنوير، وتراجع دفق الثقافة، التي كان اليساريون والليبراليون يمثلون حدهما القاطع.

لقد كان أهل اليسار والليبراليون في السودان هم مركز الانتاج الثقافي السوداني النوعي في عقد الستينات من القرن الماضي. لقد كانوا، دون منافس، هم طليعة الإبداع السوداني في الشعر، وفي القصة، وفي المسرح، وفي مختلف صنوف الدراما، وفي الشعر الغنائي، والموسيقى، والفن التشكيلي. وقد حاول نظام نميري، ومن بعده الإسلاميون، أن يخلقوا جماعات ابداعية موازية، مستتبعة لجهاز الدولة، تعمل على سحب سلاح الآداب والفنون من يد اليساريين والليبراليين. فنجح نميري والإسلاميون، على التوالي، عبر ما يقارب الأربعة عقود من الزمان، ابتدأت في فترة نظام نميري عند منتصف السبعينات، واستمرت حتى نظام البشير المستمر إلى الآن، من أن يبعدوا اليسار والليبراليين عن الساحة. غير أن من جاءوا بهم، وجعلوا في أيديهم مقاليد سلاح الثقافة بمختلف أدواته، كانوا، في غالبيتهم العظمى، من متوسطي المعارف، وخامدي المواهب.

عبر هذه العقود من التراجع المضطرد، ابتلعت المنافي والمهاجر الموهوبين، كما ابتلعت من قبلهم الأكاديميين والمهنيين بمختلف تخصصاتهم. وهكذا انهارت البنى الثقافية التي جرى تشييدها منذ مرحلة الكفاح ضد الاستعمار وإلى بدايات فترة حكم نميري. وهكذا تيسر للحركة الإسلامية التي ورثت نظام نميري وتوجهاته الإسلامية، التي أعلنها في نهايات حكمه، أن تخلق حالة متدنية جدا من الوعي العام. ومن ثم، أن تصنع جمهورا قابلا للتخدير بالشعار الإسلامي. لقد كان فعلهم في خفض سقف الوعي العام نوعا من النبوءة ذاتية التحققself-fulfilled prophecy . استثمر الإسلاميون في هذا الوعي المتدني كثيرا فأحيوا القبلية ورفعوا قيم الرعاة وروجوا للسلوك الرعوي، وأعلوا من العاطفة الدينية الفجة، ودفعوا بالشعار الإسلامي، وفق صيغ شعبوية، غوغائية، إلى مدى جعل كل عاقل من السودانيين، في البلاد، أو خارجها، بلا صوتٍ، تقريبا.

غربة اليساريين والليبراليين

لربما استشف بعض ممن يقرأون هذه المساهمة أنني أعالج ماضي اليسار السوداني العريض، وأنا أغالب حالة من النوستالجيا، أو رغبة في البكاء على أطلاله. غير أن الحال ليس كذلك. لم يكن لتلك الحقبة أن تستمر أصلا. صعود اليسار، والدفق الفكري والأدبي والفني الذي صاحب صعوده، كان حالة معلقة في الهواء. لقد كانت مجرد قشرة رقيقة صنعتها الصفوة، بشقيها اليساري والليبرالي، ولم ينفذ منها شيء يذكر إلى الجذور. فالحالة الليبرالية التي نعم بها السودان في النصف الأول من القرن العشرين، وأنتجت ثقافة منفتحة وأدبا وفنا ذا سمات عالمية، هي في حقيقة الأمر حالة وضع قواعدها المستعمر، وحرسها بقوة الحديد والنار. فالبنية الدينية السودانية المحافظة، الموروثة منذ الثورة المهدية، المتناقضة جوهريا مع قيم الحداثة، كانت ترقد، كما هي، تحت تلك القشرة السطحية المؤقتة. ويوم أن رحل البريطانيون عن السودان، أخذت تلك القشرة الرقيقة السطحية، أو قل الحوصلة الصغيرة التي خلقوها، في التآكل. ومن ثم، بدأت حقيقة المجتمع السوداني المحافظ، القابل للانقياد للخطاب الديني وللخطاب الطائفي، والقبلي، في الظهور إلى السطح.

كان حسن الترابي مدركا لحقيقة فوقية وصفوية قوى الحداثة في السودان. ومن يراجع تاريخ صراع الإسلاميين، في السودان، مع الشيوعيين وسائر قوى اليسار، ومع الليبراليين، ومع الإصلاحيين الدينيين، كحركة الأستاذ محمود محمد طه، يلاحظ كيف عمل الترابي، بدأب يحسد عليه، في اخراج كل تلك القوى من الساحة السياسية، وفي المقابل، عمل الترابي على تجميع القوى المحافظة، المقاومة لقيم الحداثة ولحراكها، من قمقمها إلى السطح، ومنحها جسدا تنظيميا عريضا أصبح ذا قوة ضاربة. استخدم الترابي خطابا شعبويا بسيطا قادرا على أن يصل، بسهولة كبيرة، إلى السواد الأعظم. وفي هذا، لم يعمل الترابي كتنظيم قط، وإنما عمل كجبهة عريضة. فقد كان يعرف صغر حجم تنظيمه، وعدم قدرته أن يصبح حزبا جماهيريا كبيرا. ففي الستينات أسمى الترابي تنظيمه "جبهة الميثاق الإسلامي". وكان مرتكز خطابه انشاء جبهة عريضة من جماعته، ومن المؤسسات التعليمية الدينية، ومن رجال القضاء الشرعي، ومن أئمة المساجد، ومن شيوخ الطرق الصوفية، للمناداة بالدستور الإسلامي، من دون أي تعريف لما هو الدستور الإسلامي. وعقب سقوط نظام نميري أسمى تنظيمه "الجبهة القومية الإسلامية"، ومشت جبهته تلك، على ذات الدرب القديم الذي مشت عليه سابقتها المسماة، "جبهة الميثاق الإسلامي". كل الذي تغير في مرحلة ما بعد نميري أن تنظيم الترابي أصبح شريكا في دولة نميري، فاستخدم جزءا من آليات الدولة ومواردها، فأصبحت له أذرع مالية وإعلامية، مكنته من التغلغل أكثر في الجذور، حتى أصبح ذا صيت كبير. وكان أخطر ما قام به هو تغلغله في الجيش. وبالفعل استخدم الترابي الضباط الذين أصبحوا منتمين إلى تنظيمه في الجيش في الاطاحة بالديمقراطية الثالثة في مرحلة ما بعد الاستقلال.

خلق الترابي نخبة إسلامية ديناميكية تمكن بها في فترة وجيزة من وضع الدولة برمتها في قبضة يده. هذا في حين كانت النخب اليسارية والليبرالية تتراجع وتتباعد خطوطها، وتبتعد أكثر فأكثر عن الجماهير. وصل الترابي عن طريق نخبته شديدة الفاعلية إلى السلطة، ولكن بلا مشروع واضح المعالم. باستخدام جهاز الدولة، أصبح الترابي أكثر قدرة على تفعيل الخطاب الإسلامي وسحب الجمهور من القوى الحزبية الطائفية التقليدية ومن أحزاب القوى الحديثة التي تغلب عليها صفة اليسار. بإحكام قبضته على الدولة استطاع الترابي أن يرفع محدودي التفكير والخيال والمواهب من جماعته، إلى مركز السلطة، وأقصاء النابهين الموهوبين الذين يعج بهم المعسكر المضاد إلى الهوامش. فالحداثيون من يساريين، وليبراليين، كان لكل قبيل منهم، مشروعه الخاص به، الذي يعمل لصالحه، في إطار حزبه، حصرا. في حين كان غريمهم كلهم، وهو الدكتور الترابي، يضع الواقع برمته في مواجهتهم.

لم يحدث قط أن عملت الأحزاب اليسارية الصغيرة في صورة جبهة عريضة، باستثناء جبهة الهيئات بعد أكتوبر التي سيطر عليها الشيوعيين، فانقضّت عليها القوى التقليدية بليل، ووأدتها في مهدها. يضاف إلى ذلك أن غربة قوى اليسار الفكرية عن واقع، هو بطبيعته واقع ما قبل حداثي، يمثل الدين مؤثرا رئيسيا فيه، جعلها معزولة جماهيريا. أيضا، أسهم اختراع ما سمي بـ "دوائر الخريجين"، وهي دوائر انتخابية برلمانية مقفولة على خريجي الجامعات فقط، في إعطاء وزن برلماني زائف للحزب الشيوعي السوداني في الانتخابات التي تلت سقوط نظام الفريق عبود في أكتوبر 1964. ورغم أن الوزن الذي تمتع به الشيوعيون داخل البرلمان، كان وزنا نوعيا بالفعل، إلا أنه لم يعكس وزنا جماهيريا حقيقيا. وحتى هذا الوزن الجماهيري غير الحقيقي، فقد ضاع من اليسار بعد أن تغيرت الأحوال، وأصبح المتعلمون، لاعتبارات مختلفة، يصوتون للإسلاميين. وقد اتضح هذا من نتائج انتخابات اتحادات الجامعات، التي سيطر عليها الاسلاميون لفترة ممتدة، ومن نتائج الانتخابات العامة لعام 1986 التي ارتفعت فيها مقاعد الإسلاميين إلى ما فوق الخمسين، وتراجعت فيها مقاعد الشيوعيين إلى ثلاثة.

لقد كسب الإسلاميون بعضا من أراضي الحزبين الكبيرين، كما أخذوا نصيب الأسد من دوائر الخريجين التي كانت حكرا للشيوعيين في الماضي. الفترة الوحيدة، التي تحققت فيها هزيمة ساحقة للإسلاميين، في انتخابات اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، جاءت نتيجة لتحالف عريض ضم الشيوعيين وعموم اليساريين، والمستقلين، والجمهوريين. وهذا ما يؤكد أن الأحزاب السودانية الصغيرة تحتاج أن تخرج من قوقعة التنظيم الفردي ومن قيد التاريخ الحزبي، والارث الحزبي، المتعلق بكل حزب، على حده، وأن تسعى إلى خلق تحالف عريض يعطيها وزنا سياسيا حقيقيا. غير أن ذلك، يقتضي عملية في التوليف الفكري وفي الحوار المنفتح الذي يخلق رؤية جامعة لطيف اليساريين والليبراليين والاصلاحيين الإسلاميين، والمتململين داخل الأحزاب التقليدية وداخل الاسلاميين أنفسهم، تحت مظلة عريضة.

من هنا، أقفز إلى الاجابة على سؤال الأستاذ صديق الزيلعي بالقول: ليس من الممكن تجديد الحزب الشيوعي السوداني، ما ظل اسمه الحزب الشيوعي السوداني وما ظل على هيئته الراهنة عائشا في ظل تاريخه النضالي غارقا في أساليبه التنظيمية القديمة، ومهتديا بهدي قياداته الحالية، التي لم نعرف لها أي اسهام فكري يذكر. أكثر من ذلك، لن يفلح في هذا السياق السوداني أي حزب صغير في التحول إلى حزب جماهيري.

انتعش اليسار السوداني، في بدايات حقبة الحرب الباردة، واكتسب وزنه وتأثيره، نتيجة لاعتبارات متعلقة بدور الشيوعية الدولية في تلك المرحلة، ودور أنظمة الحزب الواحد القومية والبعثية المتماهية رؤيويا، وتنظيميا، مع منظومة الشيوعية الدولية. يضاف إلى ذلك، أن المجتمع السوداني ورث على مستوى النخب حالة الاستقرار السياسي التي ثبتها الاستعمار. فالدولة السودانية ورثت من المستعمر اقتصادا مستقرا، ومسؤوليات محدودة بسبب صغر حجم القطاع الحديث. كما أن قوى الريف العريضة، التي تمارس الرعي، وزراعة الكفاف، كانت واهية الصلة بمنظومة الدولة الاقتصادية. وقد جعلت هذه الأمور، مجتمعة، حراك الحداثة في السودان، حراكا صفويا متمركزا في حوصلة صغيرة من سكان المدن وضفاف الأنهار، ومشروع الجزيرة، وغيره من المشاريع التي يجري ريها صناعيا. وهذه الحالة هي التي جعلت لقوى اليسار ذلك التأثير الكبير في تلك المرحلة. وعندما تدهورت الأمور وبدأت هجرة الريف الضخمة إلى المدن، تغير المشهد الذي تغيرت دينامياته، تغيُّرا كبيرا.

عبر عقود الفشل السودانية التي تلت الاستقلال، أخذت الطبقة الوسطى في التآكل، بسبب مختلف العوامل. فبالإضافة إلى اتساع الهوة الذي ظل يتفاقم بمتواليات هندسية، بين تكلفة المعيشة وبين الأجور، كان عامل الابعاد السياسي للعاملين في وظائف الخدمة المدنية العامة، حاضرا دائما في تدمير الطبقة الوسطى. فقد مارس الشيوعيون، ما أسموه بـ "التطهير"، الذي عنى لديهم، طرد من وصفوهم بـ "الرجعيين" من الخدمة العامة. مارسوا ذلك حين سيطروا على جبهة الهيئات، عقب ثورة أكتوبر 1964، ومارسوه حين تحالفوا مع نظام جعفر نميري في بداياته. وجاء الإسلاميون إلى الحكم بانقلابهم في عام 1989، فمارسوا نفس الأسلو، مع كل من عداهم. وأسموا إحلال عضويتهم مكان الآخرين في جهاز الدولة "التمكين"، ويعني ذلك لديهم أنهم بذلك يتمكنون في الأرض وفقا للبشارة القرآنية. بذلك النهج، سيطر الاسلاميون على كل مفاصل الدولة، فتحولت الدولة على أيديهم، إلى حزب، هو حزبهم، وتحول حزبهم إلى دولة، هي الدولة السودانية.

عبر الصراع الطويل المرير، بين الشيوعيين والإسلاميين، وصراعهما، كل تنظيم على حده، مع الأنظمة العسكرية، تبددت جهود التنمية والتحديث، وتراجعت كفاءة جهاز الدولة، وتراجع الأداء الحكومي تراجعا مذهلا، وتزايدت النعرات الجهوية واستشرى حمل السلاح في الأطراف على سلطة المركز، ما جعل اقتصاد الدولة، الهزيل أصلا، اقتصاد حرب لا تنتهي. لقد استخدم الشيوعيون النقابات، لا لتحسين أوضاع العاملين، وإنما لهلهلة الحكومات وأصابتها بالشلل والعجز كوسيلة لتحفيز عدم الرضا والغضب الجماهيري وانجاح مشروع الثورة. وقد استخدم الإسلاميون الحركة الطلابية لذات الغرض. فحالة الاضطراب والعجز الحكومي الممتدة، التي أسهم كل من الشيوعيين والإسلاميين في خلقها، هي التي كانت تغري العسكريين بالانقضاض على السلطة. كما كانت هي التي تهيء الجمهور، من الجهة الأخرى، للترحيب بالانقلابات العسكرية.

أما في فترة حكم الإسلاميين، التي امتدت من 1989 إلى اليوم، فقد تغيرت قواعد اللعبة القديمة تماما. استطاع الاسلاميون، عبر سياسة الفصل التعسفي من الخدمة، ومواصلة سياسة اصدار كشوف التسريح المتتالية من الخدمة العامة، والتوجه نحو الخوصصة، وضرب المؤسسات العامة الكبيرة، من القضاء على ما تبقى من الجسم النقابي، الذي تبقى من حقبة الرئيس نميري. أيضا، استخدم الاسلاميون، وبضراوة شديد، جهاز الأمن، الذي أطلقوا يده في النقابيين والقيادات الحزبية، حتى قضوا على بقايا الجسم النقابي القديم قضاء يكاد يكون كاملا. كما عملوا، في نفس الوقت، على خلق قيادات نقابية تابعة لهم، فأصبح ما تبقى من الجسم النقابي مستتبعا، إلى حد كبير جدا، للسلطة.

أكثر من ذلك، استطاع الاسلاميون أن يقسموا الأحزاب المعارضة، وأن يفقروها، وأن يقلموا أظافرها. كما استطاعوا ضرب الطبقة الوسطى وتشريد العلماء والمفكرين وسائر المثقفين إلى المهاجر والمنافي الاختيارية المختلفة. وأخيرا جاءت الحركات الجهوية المسلحة، فزادت الطين بلة، إذ تشرذمت القوى التي كانت، من قبل، تقف متحدة، في الريف والمدن، في وجهة الحكومات. فلم تعد في الواقع السياسي السوداني قوة عريضة يمكن أن تشكل تحديا حقيقيا للإسلاميين. ضعفت قوى المعارضة، وتباعدت خطوط فصائلها، وتناقصت فرص توحيدها، وانحسر تأثيرها على الشارع. وهذا هو ما جعل نظاما فاشلا، بكل المقاييس، مثل نظام الإسلاميين في السودان، يستمر لأكثر من ربع قرن. فالنظام الحاكم الآن في السودان، هو الفاعل الأوحد في الساحة السياسية. وقد أوصله نجاحه المضطرد، في تبديد شمل معارضيه، وإضعاف تأثيرهم، وفي اتقان اللعب مع القوى الإقليمية والدولية، بغرض شراء الوقت، إلى حالة من الغرور العجيب، انعدم بها لديه الاستعداد، لكي يدخل في أي مساومة مع أحد. وأصبح نهجه: اصطفوا ورائي، أو افعلوا ما تريدون، فلست مباليا.

يُؤتى الحَذِرُ من مأمنه

لكن، مع كل الجهد الذي بذله الاسلاميون في قفل الباب على كل من عداهم في الحلم بالوصول إلى السلطة، وامتلاك أي آليات تعين في الوصول إليها، فشلوا في أن يسدوا كل الثغرات. ولذلك انبثقت، من تحت رجليهم، الثغرة الكبيرة، التي تحولت إلى الثغرة الأخطر التي يمكن أن تهدد وجودهم في السلطة. فشل الإسلاميون في أن يستمروا موحدين، فجرت بينهم، في عام 1999، ما سميت بـ "المفاصلة"، التي تمثلت في الخلاف الذي أقصى الراحل، الدكتور حسن الترابي عن السلطة، ومعه شق كبير من الإسلاميين. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، فقد تخلصت الرئاسة، مؤخرا، من الإسلاميين الذين صمموا المفاصلة، أنفسهم، ودفعوا في وجهتها، وظلوا مصطفين وراء الرئيس البشير ضد الدكتور الترابي، لأربعة عشر عاما.

خلاصة الأمر هي أن الدولة التي كانت قد سقطت بكليتها، من قبل، في قبضة الحزب، آلت في نهاية المطاف، إلى قلة قليلة جدا، لا تتعدى الرئيس وأصدقائه من العسكريين، وبعض الشخصيات المفصلية في الأجهزة الأمنية. لقد تحول مشروع الإسلاميين، بعد ربع قرن من الجهد الجهيد، ومن إهدار الموارد والطاقات والأرواح، إلى دولة يديرها، كليا، جهاز الأمن، بما يروج له من مخاوف، يسوقها باستمرار إلى مؤسسة الرئاسة، التي لم يعد أماهها أي مشروع، أو أي هدف، سوى مجرد التشبث بالبقاء في الحكم، وبأي سبيل. وهكذا أصبحت مؤسسة الرئاسة تسعى بكل جهدها، إلى التهام كل مساحة للحرية وللحراك السياسي، حتى داخل حزبها نفسه، المسمى "حزب المؤتمر الوطني"، مستخدمة في ذلك جهاز الأمن الذي أضحى الكل في الكل. لقد دخل السودان، منذ فترة، إلى ما يمكن أن نسميه حالة "توازن الضعف". فلا الحكومة قادرة على أن تنجز شيئا، أو حتى أن توقف، أو تبطيء قليلا من حالة الانهيار المضطردة، ولا المعارضة قادرة على أن تشكل خطرا على الحكومة.

التوليف Synthesis

لقد كان صعود اليسار في السودان، بكل مكوناته، حالة طارئة عابرة، ما كان لها أصلا أن تستمر طويلا، كما سلفت الاشارة. ولقد تبددت كل الظروف التي ساعدت ذلك الصعود. ولقد كان تفكك الاتحاد السوفيتي، وانهيار التجربة الشيوعية فيه وفي شرق أوروبا، المنعطف الحاسم، الذي دفع، من جديد، بالسؤال في كيفية الاستفادة من إرث اليسار إلى الواجهة، خاصة إرث الحزب الشيوعي السوداني. كما أن سقوط أنظمة الحزب الواحد القومية في مصر، وفي العراق، وفي ليبيا، وما يجري من سقوط بالغ الكلفة لها في سوريا الآن، قد جعلت أحزاب البعثيين والناصريين في السودان، على ضعف جماهيريتها، وقلة تأثيرها، مجرد مسميات بلا كيانات حقيقية مؤثرة.

إن مشكلة قوى اليسار والقوى الليبرالية، والاصلاحيين الإسلاميين أضحت مشكلة عامة في الوطن العربي. وفي السودان، فإن حالة الضعضعة التي تعرضت لها هذه القوى، أحدثت فراغا كبيرا، جعل الدولة ترتد عن جميع مكتسبات الحداثة، وتعود القهقرى إلى عهود ضعف السلطة المركزية، وارتداد الناس للقبلية والجهوية. فمشكلة السودان اليوم أضخم وأكبر مما نتصور جميعنا. وتحدي إعادة الدولة السودانية إلى سكة التحديث من جديد أصبح تحديا بالغ الضخامة.

سار الحزب الشيوعي، وتنظيم الإخوان الجمهوريين، في منحدر الضعف والتلاشي، بسب فقدان القيادة التاريخية الكارزمية. فباغتيال الأستاذ محمود محمد طه، انهار تنظيم الإخوان الجمهوريين، واختفت حركتهم التي كانت ملء السمع والبصر، لعقد ونصف من الزمان. لم يستطع الجمهوريون إعادة بناء تنظيمهم، أو اجراء أي معالجات فكرية وتنظيمية، تضع حزبهم مرة أخرى داخل خريطة الفعل في الواقع السوداني. ويعود ذلك إلى طبيعة المنظومة العقدية الجوهرية، التي تأسس عليها التنظيم. أما الحزب الشيوعي السوداني، فقد انقطع فيه، عقب اعدام عبد الخالق محجوب عام 1971، التنظير الذي بدأ في مزاوجة الماركسية بالواقع السوداني وتوطينها في ترابه ومواريثه. كما أصبحت قامات القيادات في الحزب تتدنى باضطراد ظاهر، حتى وصلت إلى القيادة أسماء لم يكن السودانيون يعرفونها، أو يعرفون لها أي إسهام فكري، رغم تقدمها في السن، وبقائها في أجهزة الحزب لعقود طويلة.

لقد أصبح الحزب الشيوعي السوداني اليوم، مجرد لافتة صدئة، يستظل بظلها المنحسر أناس عز عليهم أن يتخلوا عن إرثهم النضالي الطويل، وتاريخهم الحافل بالمكابدات، رغم أنها مكابدات ظل مردودها يتضاءل باستمرار، ويتراجع عقدا بعد عقد، وسنة بعد سنة. اقترح عدد من الشيوعيين السودانيين، منذ بداية التسعينات، تغيير اسم الحزب الشيوعي، وجعله يحمل صفة الاشتراكية بدلا من صفة الشيوعية، ذات الحمول غير المحببة، أو غير المهضومة، لدى جمهور يغلب عليه التدين، إضافة إلى ما واجه الطرح الشيوعي نفسه من إشكالات. لكن الأكثرية اعترضت بشدة، في ما يبدو، وبقي الحزب الشيوعي السوداني باسمه القديم، حتى اليوم.

لم يكن حكم الإسلاميين للسودان، على مدى ربع القرن المنصرم، شرا كله. فبعضٌ من إيجابياته أنه فكك البنى القديمة للأحزاب التقليدية، وفتتها وأنهكها، وقلل تأثيرها. لقد كسر حكم الإسلاميين الدائرة المفرغة للصراع السياسي غير المنتج، التي تكررت ست مرات متتالية، بين ديمقراطية وانقلاب عسكري، مع تدهور مستمر في أحوال الدولة. بإيقاف دوران هذه الحلقة المفرغة، هيأ حكم الإسلاميين، رغم كل الخراب الذي أحدثه، الواقع السوداني لكي ينتقل إلى مرحلة جديدة. لقد أتاح حرمان الإسلاميين للقوى السياسية من البقاء في السلطة، ومن العمل السياسي على النسق الذي ساد منذ الاستقلال، لهذه القوى أن تبدأ التفكير في الانتقال إلى طور جديد. قسم الإسلاميون كل القوى؛ حزبية كانت أم نقابية، ثم ما لبثوا هم أنفسهم أن انقسموا. فهم أيضا أبناء تلك المرحلة الغاربة، بل كانوا هم الأكثر تلويثا.

أصبح الإسلاميون الآن فرقًا شتى، تقف أغلبيتها في المعارضة. لقد أوصل الإسلاميون الدفق المحافظ والتفكير السلفي والانغلاق الإيديولوجي وأحلام إعادة الدولة الإسلامية إلى مرحلة الانهاك التام وفقدان الجاذبية. وهذا في حد ذاته انجاز كبير مفرح. لقد كان التفكير المحافظ والسلفي، يتربص بالدولة السودانية وبمشروع الحداثة قبل أن ينال السودان استقلاله. ولم يكن في وسع القوى الحديثة، بمختلف تنظيماتها، صغيرة الحجم، قليلة الموارد، ضعيفة التغلغل في جذور المجتمع السوداني، أن تقف في وجه هذا المارد الماضوي، الذي خرج من قمقمه عقب خروج البريطانيين، ونيل الاستقلال. لم يكن هناك مناص من أن يجرب السودانيون الحكم القائم على الشعار الديني، ويوصلوه إلى نهاياته ويروا فشله رأي العين، ويحسونه في أنفسهم مسغبة، وعزلة دولية، وتراجعا عاما في كل شيء، وحروبا جهوية، وانعداما للأمن الشخصي، وانغلاقا، شبه تام، لنوافذ الأمل في حياتهم.

ظلت أحزاب الأمة والاتحادي والإسلاميين لا تنفك تدخل في ائتلافات مع بعضها، لتحرز كراسي الحكم، في حين لا تفتأ تتآمر على بعضها. الآن صار الجميع، بما فيهم الإسلاميون، في بؤرة الضعف والتشظي تلفهم الحيرة في جناحها. هذه الأحزاب الثلاثة لا تختلف عن بعضها، فكلها يجمعها الارتكاز على الشعار الديني، والتبشير بدولة الشريعة الإسلامية، من أجل ابقاء الجمهور في قبضها، ومن ثم، حراسة الامتيازات الموروثة، وليس من أجل تحقيق الصالح العام. ورغم أن الإسلاميين ظنوا أنهم نقيض لحزب الأمة والحزب الاتحادي، إلا أن التجربة العملية أوضحت أنهم لم يفعلوا شيئا سوى أنهم ورثوا المؤسسة الاقتصادية للحزبين الكبيرين والقوى الداعمة لهما. بل اتضح أنهم أكثر نهما، لشفط المال العام إلى الجيوب الخاصة، من غيرهم، وأكبر قدرة على مأسسة الفساد، وأقل اكتراثا لأحوال المواطنين. أوصل الاسلاميون المجتمع السوداني، في عقدين ونصف من الزمان، ليكون طبقتين؛ واحدة صغيرة جدا، تملك كل شيء، وأخرى كبيرة جدا، لا تملك أي شيء.

عبر هذه الدور الطويلة، غير المنتجة، التي بدأت منذ فجر الاستقلال انتهت جميع القوى السياسية السودانية، بعد ستين عاما، في مربع واحد؛ آلت فيه الدولة إلى أيدي قلة قليلة، تحسب على أصابع اليد الواحدة. هذا الطور الجديد، على غموضه، وعلى الحيرة الكبيرة التي تلفه، هو العتبة الأولى في طريق الارتقاء إلى مرحلة إعادة تفعيل مشروع التحديث في مستوى جديد. ولذلك، ربما تعين على الذين خرجوا على تنظيماتهم، سواء كانت هذه التنظيمات هي الأحزاب الطائفية التقليدية، أو الأحزاب اليسارية بمختلف مسمياتها، أو الإسلاميون التقليديون، يضاف إلى ذلك، الإسلاميون الإصلاحيون، كالجمهوريين، وبعض المتصوفة الداعمين لرؤى الحداثة، كالشيخ أزرق طيبة ومن يشابهونه، والمستقلون الذين أصبح يمثلهم الآن حزب المؤتمر السوداني، أن يدخلوا في حوار توليفي لخلق جبهة عريضة، ربما يقود إلى تكوين حزب كبير ذي توجهات ديمقراطية اشتراكية.

لم تعد هناك أي جدوى للاستمرار في صيغة الأحزاب العقائدية بصورتها القديمة. فتلك مرحلة أرى أنها قد انقضت تماما. فالحزب الشيوعي السوداني لن يتجدد داخل اطاره التنظيمي الموروث من حقبة الحرب الباردة. وتنظيم الجمهوريين لن يقوم على صيغته الأولى الدعوية التي تعمل لكي يصطف وراءه 51% من الجمهور، ويصبح في مقدوره ممارسة السلطة كأغلبية. كما أن أحزاب العروبيين؛ من بعثيين وناصريين انهارت المنصات التي قامت عليها أصلا. العودة إلى الصيغ العقائدية الماضية لم يعد ممكنا من الناحية العملية، كما أنه ليس مطلوبا الآن، لأنه لم يعد ذا جدوى في سياق الراهن.
في تصوري أن العمل المطلوب هو عقد لقاءات تفاكرية بين كل المتململين داخل أحزابهم، والذين خرجوا عليها، وما أكثرهم، لرسم تصور تآلفي عريض، يلتقي في خطوطه العريضة من كانوا ضمن قوى اليسار ومن كانوا ضمن الأحزاب الطائفية، ومن حملوا السلاح في الهوامش المختلفة، إضافة إلى من خرجوا على تنظيمات الاسلاميين. وفي تقديري، بعد وفاة الدكتور حسن الترابي، سوف يغادر تنظيمي الإسلاميين الحاليين: "المؤتمر الوطني" و"المؤتمر الشعبي"، كثيرون.

في السودان الآن، حسب إحصائية الحكومة، سبعون حزبا، أكثر من 95% منها أحزاب صنعتها السلطة، لتقول للعالم إنها تشرك الآخرين في الممارسة السياسية. فالسودان بحاجة إلى تبلور قوتين كبيرتين. ومعلوم أن الديمقراطيات الكبيرة الراسخة تقوم على تيارين كبيرين: أحدهما محافظ يسنده المالكون الكبار، وأهل الثروة وشبكات منظومتهم، والآخر ليبرالي يسنده، بصورة رئيسة، المهنيون وصغار المُلَّاك والحرفيون والعاملون بمختلف فئاتهم. ولقد تكون في السودان شق واحد من هذه الثنائية، ولم يتكون شقها الآخر. وكل ما يجري في الظرف الحالي يدعو إلى تكوين هذا الشق الثاني. الشق المتكوِّن، تمثله قوى الحزبين الطائفيين الكبيرين، والإسلاميون، وكل هؤلاء يجمعهم الشعار الإسلامي، وتجمعهم منظومة المصالح الاقتصادية الموروثة، إضافة إلى منظومة المصالح الجديدة، التي تكونت حديثا وسط الاسلاميين بعد استيلائهم على جهاز الدولة. ورغم الخلافات التي لا تنفك تنشب بين أحزاب هذه المجموعة، إلا أنها، ما أن يهدد حراكٌ قوي منظومة مصالحها، فإنها تلتئم مع بعضها بسرعة البرق.

لقد ظلت القوى السياسية السودانية، بمختلف تياراتها، تجري منولوجات مطولة مع ذاتها، كل واحدة مع نفسها فقط، منفصلة عن الآخرين. لم يجر حوار حقيقي، "ديالوج"، بين قياديي القوى السياسية السودانية إلى اليوم. فلا قوى اليسار تحاور بعضها، ولا هي، منفردة أو مجتمعة، تحاور قوى اليمين. إن واجب المرحلة هو إجراء حوار، ينخرط فيه الجميع متجاوزين حالة التوازي الفكري، التي كانت تفصل بينهم في الماضي. والمرجو هو أن يجري هذا الحوار عبر كل التقاطعات القديمة، لكي يصل إلى إيجاد أرض فكرية مشتركة، تمزج ما بقي صالحا من رؤى اليسار، ومن رؤى الليبراليين، ومن رؤى الإصلاحيين الدينيين، ومن رؤى المستقلين، ورؤى أهل الهامش، من حمل منهم السلاح، ومن لم يحمله، لكي يظهر برنامج مشترك لفترة مرحلية طويلة يعاد بها القطر إلى سكة الحداثة وإلى البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ويجب ألا نبعد من أذهاننا احتمال ألا تبقي الحكومة القائمة لهذه الجبهة العريضة أي فرصة للعمل سوى أن تحمل السلاح في مواجهتها، مع من يحملونه الآن. غير أن الأمل في ألا يحدث ذلك لا يزال حيا، ونتمنى ألا تصبح أرض السودان ساحة للقتال، أكثر مما هي عليه الآن، بين نظام حكم متجبر، وشعب بلغ به الانهاك مبلغا لا يصدق.

ليس غائبا عن بالي أن نقلة مثل هذه، تتطلب وعيا نوعيا جديدا، تتجاوز به قيادات القوى الحديثة، ومن يشاركونهم الرؤى من الخارجين على القوى القديمة، نفسها. وفي تصوري أن الحوار، وحراك الواقع، سوف يبلوران هذا النوع من الوعي. والأمل، هو أن تفرض هذه النقلة في الوعي، نفسها فرضا. فإن لم تحدث فإن حقبة من الخراب الكبير، والآلام الفظيعة الممتدة، سوف تخيم على البلاد لأمد، ربما يطول.
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
محمد عثمان أبو الريش
مشاركات: 1026
اشترك في: الجمعة مايو 13, 2005 1:36 pm
اتصال:

مشاركة بواسطة محمد عثمان أبو الريش »


سلام يا النور.. هل فى وصلة للكتاب فى أمازون أو اى جهة اونلاين؟
شكرا.
Freedom for us and for all others
صورة العضو الرمزية
Elnour Hamad
مشاركات: 762
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:18 pm
مكان: ولاية نيويورك

مشاركة بواسطة Elnour Hamad »

معذرة يا محمد عثمان أبو الريش لتأخير الرد على استفسارك إذ لم أدخل الموقع لأيام عدة بسبب الانشغال بأمور ملحة
حرر الكتاب الأستاذ صديق الزيلعي وليس لي لي أي علم بطريقة توزيع الكتاب. فمن تتوفر لديه معلومة عن توزيع الكتاب وكيفية الحصول عليه، من أعضاء، المنبر التكرم باطلاع الأخ أبوالريش، مع الشكر والتقدير عليها
((يجب مقاومة ما تفرضه الدولة من عقيدة دينية، أو ميتافيزيقيا، بحد السيف، إن لزم الأمر ... يجب أن نقاتل من أجل التنوع، إن كان علينا أن نقاتل ... إن التماثل النمطي، كئيب كآبة بيضة منحوتة.)) .. لورنس دوريل ـ رباعية الإسكندرية (الجزء الثاني ـ "بلتازار")
الفاضل البشير
مشاركات: 435
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:56 pm

مشاركة بواسطة الفاضل البشير »

عزيزنا د. النور, سلام لك وللاخ أبو الريش, مشاركة في الهم وهي تأمل حول سقوط السرديات الكبرى.

مشاركة تأمل في او حول سقوط السرديات الكبرى.
نجد ان برنامج وندوز عشرة مثلا يستقبل ملايين التطبيقات التي تتفرع في كل مجال.
هي ملايين كما نجد هنا
https://www.finder.com.au/which-apps-ar ... windows-10
الا يبدو هذا كضرورة استناد أي علم فيما مضي على فلسفة، ما جعل من الفلسفة معقلا للاحجيات الكبرى.
بل ان ملكة الوندوز مع التطبيقات تفعل في واقع مادي اكيد وليس كحال الفلسفة في عالم الأفكار المحضة السابق .
ارجو ان يسفنا اهل الرقميات بما يفيد واحسب ان الأخ محمد عثمان أبو الريش من بينهم.
اذ اشك ان كلامي يرجع لعصور التأمل السحيقة نفسها. ما تشوفوا وندوز وتطبيقات، فقد نزلت بها الى درك القرون.

والتساؤل ما انفك في مضمار الفلسفة
.
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »

تحية طيبة لدكتور النور حمد ،،

أثلجت صدورنا في زمن الحر ،
شكراً لك كفيتنا الكثير الذي كُنا نرغب توضيحه ، وسوف أعرّج على بعض النقاط علها تبين أكثر مواقع الخلل التي جعلت من الشيوعيين " مُحبين يتامى " لحزبهم ، يريدونه كما هو ، إن لم يتغير الاسم ، وإن لم يتم دراسة أثر الدين في معظم أهل السودان ، وإن لم تتم دراسة الفكر الذي يناسب دولة متنوعة ويتنافرأهلها مع بعضهم ، وجاء المتأسلمون بإعادة القبلية للمربع الأول .

الإسلامويين الذين يرغبون السُلطة :

السباحة مع التيار.
إن التنظيم الذي صنعه التُرابي هو جسم عصابة ، كالمافيا . لها سرية ، ولها قسم ، ولها وحدة تسمى الأسرة ، وتنتشر التنظيم في كل المواقع . بدأت من المدارس المتوسطة ، ثم الثانوية ، ثم الجامعات . في كل ركن تقوم خلية متأسلمة ، تدخل جسد العصابة . المال فيها هو السيد ، يستبدلون الأسرة ورباطها برباط الخلية، ويحيلون الحاجات الأسرية الخاصة إلى شأن يهم التنظيم ، منها مؤسسة الزواج . حصار المتفوقين وجلبهم لمعسكرات التنظيم للتنشئة منذ نعومة الأظفار ، ليظل التنظيم هو الأب الروحي الذي يستوجب الطاعة . وينمو ذلك الانتماء في سيكولوجية الأفراد .
لا تفكير ولا قراءة خارج المُقرر بواسطة التنظيم. لا نقد ولا تحليل ولا اعتراض . هناك من يقومون بذلك نيابة عن الأفراد . التدريب العسكري للمليشيات في أماكن سرية ، وكذلك التدريب الأمني .

الحزب الشيوعي :

من رأيي الآتي :
- تغيير اسمه
- تحول القدامى إلى لجنة استشارية.
- لا يتم ترشيح من لا يستطع .
- إنشاء قسم التكنولوجيا مع اليدريب
- قيام وحدة دراسات عن العقائد والتدريب.
- قيام وحدة متطورة للأمن بالحزب مع التدريب .
- قيام مؤسسة مالية تابعة للحزب ، غير موضوع التبرعات.
- قيام حكومة ظاهر وحكومة باطن.
- وقف الكتابة التحريضية ، بدون حلول .
- واقعية المطالب الفئوية .
- قيام وحدة دراسات متخصصة مع التدريب .
- قسم التفاوض .
- قسم الاعلام ، كتابة تتبع التنظيم ومعايير الكتابة الخاصة والاعلام الخاص .
- قسم التحالفات.
- قسم الدستور : فصل السلطات ، وبنود حقوق الإنسان .
- قسم الدراسات الأمنية .
- قسم دراسة السري والعلني .
- قسم التعليم.
- قسم التلاميذ و الطلاب .
- قسم المنظمات.
- قسم التجنيد.
- قسم الخارجين من الحزب .
- قسم العمال
- قسم المزارعين
- قسم المهنيين بفرعه
*
بدون أغلب هذه البنود ،لا أرى قائمة لما يسمونه بالحزب الشيوعي.

الجمهوريون :

الاكتفاء بالدراسات ، والتنوير ، لا أرى أن يكون حزباً.


*
أضف رد جديد