رحيل تزفيتان تودوروف: "انتصار الفنان"

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
ياسر زمراوي
مشاركات: 1359
اشترك في: الاثنين فبراير 05, 2007 12:28 pm

رحيل تزفيتان تودوروف: "انتصار الفنان"

مشاركة بواسطة ياسر زمراوي »

[font=Arial]
رحيل تزفيتان تودوروف: "انتصار الفنان"
محمد الخضيري 9 فبراير 2017
هنا/الآن رحيل تزفيتان تودوروف: "انتصار الفنان"
تزفيتان تودوروف
شارك هذا المقال

68

حجم الخط

ساهم تودوروف في تطوير المشروع النقدي للأدب، ودافع عن حق الآخر في الاختلاف، وعن الديمقراطية وكان ضد لقطائها، كما فكك الشمولية منددا بها. الراحل كتب إلى آخر أيامه، وسيصدر له، في 14 فبراير، كتاب يلخص عنوانُه مشوار حياته: "انتصار الفنان"

رحل الكاتب عن عمر يناهز 77 عاما، من دون أن يرى كتابه الأخير "انتصار الفنان". المنظّر ومؤرخ الأفكار الذي شغل سماء النقد الأدبي لعقود، تُوفي في باريس بعد تعقيدات صحيّة. اهتمامات الراحل لم تقتصر على تحليل النص الأدبي، بل امتدت إلى الأنثروبولوجيا وتاريخ المعرفة والكتابة الفكرية.

وكان التأريخ للشمولية (بجميع أشكالها) والبحث في جانبها المظلم، شاغلا له، وهو الذي عاش تحت "الستار الحديدي" في الاتحاد السوفييتي، قبل أن ينتقل إلى الجانب الغربي، ويكتشف في باريس متعة النص وتأويلاته، ويجعل من البحث العلمي مادة في خدمة "الإنسية".

اللغة كمدخل للإنسية

ولد تزفيتان تودوروف في العاصمة البلغارية صوفيا في عام 1939. وقضى فيها العقدين الأولين من حياته. فترة اكتشف فيها الأدب العالمي ووقف في غرام كبار الكتاب كفيكتور هيغو ومارك توين، واختبر في حياته اليومية صرامة النموذج الشمولي والسلطوية المتحكمة في رقاب الشعوب.

في سن الرابعة والعشرين من عمره، بعد دراسات أدبية في جامعة صوفيا، رحل إلى باريس "بالصدفة"، كما يقول في واحدة من شهاداته. "فوالداي هما اللذان قررا، وكانت لديهما إمكانية إرسالي إليها". كان يفترض أن يدرس سنة واحدة ويعود إلى بلاده، لكنه قرر طلب اللجوء السياسي، ونشأت علاقة حب بينه وبين المدينة، ليعيش فيها إلى الرمق الأخير.

في المدينة التي كانت حينها ملجأ للكثير من المثقفين الهاربين من المعسكر السوفييتي، كجوليا كريستيفا وآخرين، وجد غايته. فالمدينة كانت تشهد ولادة الحركة الأدبية بعد الأخرى، ومختبرا للعديد من التجارب الفلسفية والنظرية المجددة. سرعان ما استطاع أن يجد بوصلة تُحرّكه. فرغم صعوبات التأقلم في الحياة اليومية، بحكم أنه كان على مسافة من الحراك السياسي اليساري في صفوف الطلاب الفرنسيين، إلا أنه انطلق بسرعة في مشروع بحثي سيمتد لسنوات. ترجمته نصوصا مؤسسة للشكلانيين الروس وتقديمه لها، وضعه في قلب المشهد النقدي الفرنسي. الكتاب "نظرية الأدب" (1965) أثّر بشكل كبير في تصور الشعرية المعاصرة.

في الفترة التي تلت حرب الجزائر واستقلالها، كانت الجامعة الفرنسية تعيش فورة حقيقية، أدت إلى حراك ماي 1968 الذي حوّل بعمق المجتمع الفرنسي. لكن الشاب كان يعيش حينها فورته الخاصة. في 1967، نشر "الأدب والدلالة"، الذي شكّل علامة فارقة في المشهد النقدي الفرنسي وانتشر صداه إلى قارات أخرى، وترجم إلى العديد من اللغات لاحقا، (أضحى في العالم العربي كما في بقاع أخرى، إنجيلاً للعديد من الباحثين في مجال الدراسات الأدبية). وفي العام 1970 نشر "مدخل إلى الأدب العجائبي" وحصل على شهادة الدكتوراه.

فترة السبعينيات كانت حاسمة في مسار الرجل، الذي كان يؤسس إلى جانب آخرين البنيوية، ويرفعونها على عرش النقد الأدبي. لتتوالى الكتابات ويتساءل مع القارئ النهم إلى هذا الاتجاه النقدي عن "شعرية النثر" (1971) و"ما البنيوية؟" (1977) و"أجناس الخطاب" (1977) ويرسم أفقا جديدا لدراسات النص وتأويله.

كتابات الرجل ستجعله في قلب الحياة الأدبية، ليرتبط بصداقات عميقة مع منظّرين فرنسيين، لعل أبرزهم كان جيرار جونيت الذي أنشأ برفقته المجلة الفصلية "poétique" (شعرية) التي انطلقت في تحليل دلالات النص الأدبي وأبعاده السيميوطيقة.

مجهود الرجل الجامعي وتأثيره في الدراسات النقدية دفع إلى تعيينه أستاذا باحثا في "المعهد الوطني للبحث" CNRS الذي يعتبر أهم مركز للأبحاث في مجالات مختلفة. كما درّس في المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية.

وعلى الرغم من أنه كرّس الجزء الأكبر من حياته للدفاع عن الديمقراطية الغربية، هو الذي لطالما صرح أنه حينما يترعرع الواحد في دولة غير ديمقراطية، تصير الديمقراطية في وعيه أغلى ما يمكن أن يملكه المرء، إلا أنه تصدى لأشكال التهميش وتغييب الذاكرة، الذي طبع إيديولوجيا طاغية داخل "الدول الديمقراطية".

رجل الذاكرة

في الثمانينيات من القرن الماضي، اتجه تودوروف إلى كتابةٍ تقاوم المحو، وتجاوز الصمت على أحداث تاريخية تعرضت فيها شعوب للإبادة والمحو. كتابة تعيد الجسور مع "الآخر" وأُخْرَوِيتّه. أي وجوده المستقل واختلافه، ولو داخل المجتمعات الغربية متعددة الأصول. "غزو أمريكا: سؤال الآخر" (1982) يحكي "اكتشاف" القارة الأميركية ومعها الآخر، وبالتالي جدلية سؤال "الأنا" الذي يطرحه. ثم "سير الآزتيك عن الغزو" (1983) و"نحن والآخرون" (1986). وهي كلها كتب دفعته إلى إعادة مساءلة مواضيع كانت مغيّبة حينها نسبيا في الأوساط الأكاديمية الغربية كالكولونيالية والعنصرية وسؤال الحضارات الأخرى، والتعدد الثقافي، كما يؤكد لورونس دوكوك. الكاتب، الذي ينتمي إلى المجلس الوطني لإعداد المناهج الدراسية الفرنسية، نشر مقالا مهما في جريدة Mediapart عن دور تودوروف داخل المدرسة الفرنسية، ونضاله بعد تعيينه من طرف وزير التعليم حينها وصديقه، لوك فيري، كعضو في المجلس. رسائل المفكر واقتراحاته وتقاريره، صبّت جميعها في هذا الاتجاه، وحاول أن يعيد التوازن إلى مناهج الدرس التاريخي من أجل أن "يكون تقاطعا ما بين الفلسفة والتاريخ ومجالات أخرى". أراد أن يجعل من هذه الأسئلة، أكثر من مجرد أحداث تاريخية (كانت أصلا مغيّبة من المناهج)، بل بوصلة لفهم علاقات اجتماعية أعقد تنحدر من الإرث الثقيل للحقبة الاستعمارية. لكن مشروعه "الدليل المرجعي"، كما أراد أن يسميه للمناهج الدراسية في الثانويات، لم ير النور، بسبب حسابات سياسية حالت دون إنجازه.



مع الحرية ضد "لقطاء الديمقراطية"

في العام 2012، حاورت الجريدة السويسرية "لوتون" المفكر. تحدّث تودوروف عن أعداء الديمقراطية. ولم يتّبع أبواق الجوقة، كما اختار دوما. لنصغِ إلى صوته: "في السنوات الأخيرة، صدمني أن المطالبة الحصرية بالحرية، صارت علامة أحزاب أقصى اليمين الأوروبية. هذا يجعلني أعيد التفكير في الحقبة الحالية من الديمقراطية. فصفحة طويت: لم يعد للديمقراطية أعداء يهددونها من الخارج. الأنظمة الشمولية ماتت. ولا يوجد مشروع اجتماعي لمنافستها- محاولات تقديم الإسلام كذلك فشلت، لكنها الآن تتآكل من الداخل. أعداؤها هم أبناؤها غير الشرعيين".

أُجري هذا الحوار بعد صدور كتابه "الأعداء الحميمون للديمقراطية"، وفيه يُبدي الرجل موقفا شجاعا، طوّره في الكثير من الكتابات، ويُظهر نبوءة الرجل عن التطور السرطاني الذي يشهده الغرب ووصول أحزاب اليمين إلى السلطة.

تودوروف وقف إلى صف الديمقراطية، كأغلى ما يمكن امتلاكه. لكنه، في الآن ذاته، ضد الخطاب السياسي باسم الديمقراطية الذي يبرر التدخل العسكري في البلدان الفقيرة، والمستعمرات القديمة، والتباينات الطبقية التي تعيشها دول الغرب. ولطالما دافع عن المهمشين والمستضعفين، وساند الكثير من القضايا العادلة، ومن ضمنها القضية الفلسطينية.

هذه المواقف تشكلت منذ قراءاته عن العنصرية وتاريخ الاستعمار، وطوّرها باقترابه من المشهد الجامعي الأميركي، رغم انتقاده لبعض وجوهه. إذ لطالما رأى في كتابات الجامعيين الأميركيين تبريرية لا تسائل الذات، بقدر إلقائها اللوم على عاتق الآخر.

اهتم تودوروف كثيرا بالمقاومات الاجتماعية والسياسية، وكان من قدّم "استشراق" إدوارد سعيد في اللغة الفرنسية. كما أحب هؤلاء العصاة الذين غيّروا التاريخ، فكتب "المتمردون" (2015) الذي استعاد فيه شخصيات تاريخية ونضالها، من قبيل مالكولم إكس، نيلسون مانديلا، ألكسندر سولجنيتسين. اهتمامه بالشخصيات كان رهينا بفكرة لطالما دافع عنها: عظمة الأدب في حياة الأفراد، وعظمة الإنسان، وحياته اليومية خارج الكتب.

وكان آخر مشاريعه عن "انتصار الفنان" أمام الشمولية. جريدة لوموند الفرنسية، نشرت نصا من هذا العمل الذي سيصدر في منتصف الشهر الحالي (فبراير 2017) يشرح فيه اختياره لسِيَر مبدعين عاشوا في ظل النظام السوفييتي. يؤكد تودوروف أن اختياره ليس اعتباطيا، فها هو يكتب: "إذا ما انخرطتُ في هذه الاستعادة فليس (فقط) لأنني أعتبر قَدَرَ شخصياتي مؤثرا أو لأنه يشكل قصصا تراجيدية، وليس فقط اهتماما بتاريخي كرعية سابق لدولة شمولية، أو لتاريخ بعض المقربين مني الأكبر سناً، لكن أيضا لأنني أعتقد أن في هذا التاريخ القديم بقرابة القرن، والذي وقع في بلد اختفى (الاتحاد السوفييتي) شيئا ما يقدم تعاليم لنا عنا، نحن مواطنو العالم الغربي في القرن الواحد والعشرين. لكن، تأكيد إمكانية القراءة هذه، اعتراف في الآن ذاته باستمرارية أو تشابه بين هذين النوعين المختلفين من الدولة، الأنظمة الشيوعية من الماضي والديمقراطيات الليبرالية في الحاضر". تحذير هو إذن من الانزلاق نحو أطروحات اليمين المتطرف، وتأكيد على انتصار الإنسية أمام كل أنواع الشمولية. انتصار الأدب والحياة ضد العنصريات باختلاف أسمائها.
[/
fon
t]
ياسر زمراوي
مشاركات: 1359
اشترك في: الاثنين فبراير 05, 2007 12:28 pm

مشاركة بواسطة ياسر زمراوي »

[font=Arial]تزفيتان تودوروف.. من النقد البنيوي إلى الفلسفة الإنسانية
المعطي قبال
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 30 - 01 - 2009

حل تزفيتان تودوروف بباريس عام 1963 وهو في الرابعة والعشرين من عمره لقضاء عام دراسي بالجامعة الفرنسية، لكنه بدل العودة إلى بلغاريا، بلده الأصل، فضل أن يحط الرحال في باريس، طالبا حق اللجوء السياسي. التحق بالجامعة ليحصل عام 1970 على دكتوراه دولة في الآداب. كانت المدينة، بل فرنسا في هذه الحقبة "مفرخة" للفكر والإبداع. تتقاطع فيها، وأحيانا في تناحر مرير، السارترية باللاكانية، البارتية بالنقد الكلاسيكي، الرواية الجديدة بدعاة السرد الخطي، فلسفة الهدم وفلسفة العقل الخ ...اعتلى كل من سارتر، فوكو، جان جينيه الحلبات الجامعية أو العمومية للدعوة إلى فكر جديد أو لمساندة العمال المهاجرين والتنديد بوحشية الرأسمال. تدخل دولوز وفيليكس غاتاري في رحاب مستشفيات الأمراض العقلية للدعوة إلى تسريح المرضى والإقفال على الأطباء العقليين. دعت حركات تحرير المرأة إلى منع المنع والرقابة المفروضة على جسد المرأة. آنذاك، كانت ثورة أيار-مايو، قد هزت أركان ودعائم المجتمع الفرنسي المنغلق على يقينياته السياسية والفكرية وعلى قيمه المحافظة. وصل تزفيتان تودوروف تاركا وراءه بلغاريا، ترزح تحت الهيبة العتيقة والخرافية للشيوعية، بزعامة الرئيس تيتو، وتحت النعال المصفحة للنظام السوفياتي. انخرط تودوروف في زخم التيار من بوابة النقد الأدبي، وبخاصة تقديمه، ترجمته، وتحليله للشكلانيين الروس، الذين لعبت نظرياتهم في مجال التنظير الأدبي، سواء منه الشكلاني، الوظيفي، الإستيتيقي، دورا إشعاعيا بامتياز. جاءت دراساته عن ميخائيل باختين، التي تضمنها مؤلفه « ميخائيل باختين، المبدأ التحاوري» الصادر عام 1981 ، مؤسسة لأبعاد نظرية جديدة في ميدان اللسانيات وخطاب اللغة. وقد انتقل، فيما يشبه التماس المغناطيسي، أثر وتأثير هذه التحاليل إلى حقل العلوم الإنسانية برمتها: أنثروبولوجيا، تحليل نفسي، دراسات نقدية أدبية، دراسات شعرية. كما أن تودوروف كان من وراء انبثاق وشيوع "الشعرية" في مجال الخطاب الأدبي. ساهم كتابه «الأدب والدلالة»، في إعادة إحياء البلاغة. ولقد تربى جيل بكامله على النصوص النقدية والنظرية لتودوروف مثل «شعرية السرد»، «ما البنيوية»، «نظرية الرمز» ، « أجناس الخطاب»، كما أنه كان من وراء تأسيس مجلة «بويتيك» ، رفقة جيرار جينيت. وقد كانت المجلة حلقة ثقافية أساسية للحوار والمعرفة المتداخلة والمتعددة الفروع والتخصصات.
بعد هذه الحقبة الجامعية التي يمكن أن نطلق عليها تجاوزا المرحلة البنيوية، انتقل تودوروف إلى دراسة الآليات التي يبتكر ويقصى بموجبها الآخر من لدن الغرب الاستعماري. وقد شكلت الثمانينات منعطفا حاسما في مسار البحث العلمي والنظري في نتاجه الخصيب. إذ انكب على دراسة وإعادة قراءة الظاهرة الاستعمارية، الاستشراقية وموقع الآخر في التصور الغربي لحظة اكتشاف أمريكا أو إنشاء المستعمرات الأوروبية. في كتاب "نحن والآخرون"، يعكف تودروف على دراسة هذه الميكانيزمات التي قام عليها التاريخ الحديث. والشاغل الذي ما فتئ يتكرر في مشغوله النظري هذا هو شاغل الذاكرة. الذاكرة بما هي أداة إنعاش للتاريخ وقد شمله المحو بفعل عنف الاستعمار وآلياته الشاطبة. في هذا الصدد يشير: "خسرت الحياة ضد الموت، لكن الذاكرة تفوز دائما ضد العدم".
ارتكز المشروع الأنثروبو-سياسي لتودوروف على تفكيك المخيل الذي اتكأ عليه خطاب نبذ وإقصاء الآخر. في هذا الشق من مشواره، عمق تودوروف منحى الفلسفة الإنسانية حيث تزاوجت أبحاثه مع مسلسلات التاريخ بما هي حقب جدلية بين العنف ورغبة الإنسان في إقامة مجتمع أكثر إنسانية. « كان القرن العشرون قرن حروب عاتية بين الديمقراطية والتوتاليتارية. بين النازية والشيوعية»، يشير تودوروف في مؤلفه «ذاكرة الشر، غواية الخير». تخترق هذا النص المسحة المتشائلة لألبير كامي. لكن أعمال مفكرين آخرين في حقول متباينة ومتكاملة كانت نبراسا لتأمله، أمثال: فاسيلي غروسمان، بريمو ليفي، رومان غاري...
يبقى الوجهان الفكريان اللذان حظيا بتقديره النقدي والفكري هما جيرمان تييون وإدوارد سعيد. ساعدته أشغال الأولى على تفكيك الخطاب الاستعماري، فيما وفرت له دراسات الثاني حقلا سياسيا وأنثروبولوجيا لتعميق المقاربة لمسألة الآخر بصفته صورة مبتكرة تنهل منها بسخاء الأيديولوجية الاستعمارية - الإكزوتيكية. وليس بالغريب أن يقدم تودوروف إدوارد سعيد إلى قراء الفرنسية وذلك بتصديره لكتاب الاستشراق بالفرنسية. علاقة تودوروف بهذين الشخصيتين ليست علاقة أكاديمية ، بل هي قرابة فكرية يتصاهر فيها العلمي بالسياسي، الفكري بالأخلاقي. رافق تودوروف جيرمان تييون في مشوارها الإثنولوجي الملتزم، بإشرافه وتقديمه لنتاجها المعرفي والعلمي وتسييره ل"جمعية أصدقاء جيرمان تييون". كما وقف مناصرا للقضية الفلسطينية لشعبها و لمثقفيها. كان حاضرا في آخر حفل شعري أحياه الفقيد محمود درويش في آرل جنوب فرنسا. ترجمت أعمال تودوروف إلى أكثر من 25 لغة أجنبية كما توجت بأكثر من جائزة كانت آخرها جائزة أمير الآستوريا بإسبانيا للعلوم الإنسانية وذلك في الثامن عشر من حزيران- يونيو من هذا العام، وهي أكبر جائزة إسبانية. أثنت المؤسسة على الباحث، الفيلسوف، المؤرخ، وعلى أشغاله في مجال تعميق الفكر الديمقراطي والتفاهم بين الثقافات وتبيان أثر العنف على الذاكرة الجماعية. في مناسبة صدور كتابه الأخير: «الخوف من البرابرة» (منشورات روبير لافون. 320 صفحة)، كانت لنا معه هذه المقابلة.
- وصلت إلى فرنسا وأنت في الرابعة والعشرين من عمرك. تركت بلدك، بلغاريا، يرزح تحت سياج النظام الشيوعي. لماذا اخترت فرنسا بلدا للإقامة ؟.. بلى، يتعلق الأمر باختيار. سنحت لي الفرصة لقضاء عام «ما وراء الجدار الحديدي». في بلغاريا، كان لهذه العبارة معنى دقيقا، إذ تدل على أنه من الصعب جدا عبور الجدار. من بين المدن الكبرى، التي كنت أحلم بها، لم أتردد في اختيار باريس. السبب في ذلك شهرتها كعاصمة للفنون والآداب، وهو ما كان يناسب طموحاتي. حتى وإن لم يكن حلمي أن أصبح كاتبا، فكرت أن الأدب سيشكل أحد مراكز اهتماماتي. وأنا أستعيد هذه الحقبة، أظن بأن سكان صوفيا، مدينتي الأصل، لم يكونوا على علم بما كان يجري في العالم آنذاك. لكنني لا اندم على الاختيار الذي أصبحت بموجبه فرنسيا.
- كنت شاهدا على العديد من الوثبات الجيو-سياسية. أية أحداث أثرت فيك بشكل خاص؟
بما أنني نشأت في بلد شيوعي، ثمة أحداث مرتبطة بهذه الأيديولوجيا، كان لها وقع خاص على إدراكي . كانت سنة 1956 في غاية الأهمية بالنسبة لي. كنت آنذاك في السابعة عشرة، وهي السنة التي غادرت فيها قسم الثانوي، وكانت أيضا السنة التي أدينت فيها بشكل علني الجرائم الستالينية. وفي الخريف، اجتاحت الدبابات الروسية مدينة بودابيست بهنغاريا. كان هذا الاجتياح بالنسبة لنا دليلا على أن الشيوعية لا تقبل الإصلاح من الداخل. الحدث الثاني الهام، والذي يتصادى مع الأول، هو بالكاد عام 1989 ، الذي تزامن مع انهيار جدار برلين ومع التفكيك التدريجي للأنظمة الشيوعية. لأول مرة، ينتمي بلدي الأصل وبلدي بالتبني لنفس المجموعة. أخيرا يمكنني أن أقول بأن عام 1999 ، مع حرب الكوسوفو، كان بدوره ذات أهمية: سلكت حينها الديمقراطيات الغربية موقفا مختلفا وذلك بشن حرب باسم أيديولوجياتهم ضد بلد آخر، وليس للدفاع عن أنفسهم ضد خطر ما. كانت حرب العراق إعادة لنفس السلوك.
أهديت كتابك الأخير، "الخوف من البرابرة" إلى جيرمان تييون وإدوارد سعيد، تخليدا لذاكرتهما. ماذا تمثل هذين الشخصيتين بالنسبة لك ؟
كنت قريبا من هذين الشخصيتين اللتين اختفيتا مؤخرا، والتي جذبني في نفس الوقت فكرهما. في البداية، كانت جيرمان تييون عالمة اثنولوجيا. عاشت ما بين 1934 و 1940 لدى قبائل شاوية الأوراس ( بالجزائر). انخرطت فيما بعد في المقاومة الفرنسية، قبل أن تعتقل في معسكر رافينزبروك. بعد عودتها من المعسكر، أرخت لما عاشته في المعسكر. عادت عام 1954 إلى الجزائر. حاولت خلال فترة الحرب، التخفيف من العنف المستشري آنذاك بمقاومتها لأساليب التعذيب والتصفيات وكذلك بمناهضتها للعمليات الإرهابية العشواء. ساعدني تحليلها لما أسمته " الأعداء المتكاملين" على تأليف هذا الكتاب. أما إدوارد سعيد، فقد تعرفت عليه بجامعة كولومبيا في نيويورك، التي كنت أستاذا بها أيضا. ربطتنا في تلك الفترة علاقة صداقة. التصور الذي أقدمه عن الثقافة والهوية في مؤلف " الخوف من البرابرة"، قريب من أطروحته.
كنت حاضرا في أمسية تكريم محمود درويش بآرل ( جنوب فرنسا). كانت هذه الأمسية آخر مرة يظهر فيها أمام الجمهور. ماذا يمثل الشاعر بالنسبة لك؟
شاء الحظ أن ألتقي درويش وأن أتحدث له أسابيع قبل وفاته، خلال حفل القراءات الشعرية بآرل. يمكنني القول أن الأمسية كانت مفعمة بكثافة خاصة: غروب الشمس على المسرح العتيق، تردد صوت درويش، الهادئ والرخيم، في الأعالي، الممثل ديدييه ساندر يقرأ بعمق الترجمات الراقية التي قام بها إلياس صنبر لأشعار درويش. الأخوين جبران يؤديان تقاسيم على العود، يتدخلان بشكل هارموني ضمن التسلسل. كان الجمهور الذي قارب 1500 شخص يستمع وهو في حالة انبهار: شباب وشيوخ، فرنسيين وأجانب. ولا أحد تحرك. الكل انجذب بالشعر.
كتابك الأخير"الخوف من البرابرة"، جزء من بيبليوغرافيا تتألف من أربعين كتابا تقريبا. فيه تتزاوج الفلسفة بالأنثروبولوجيا، الأخلاق بالجيو-سياسة، لخدمة فكر مستقبلي. ماذا تعنيه كلمة "بربري"؟ أليست هناك مخاطرة أن تكون دلالتها الإثنوغرافية والإثنولوجية، محط سوء فهم؟
لكلمة "بربري" بشكل عام دلالتان: الأولى نسبية لا غير. تشير إلى الأجنبي الذي لا نفهم لغته. كل منا بهذا المعنى بربري بالنسبة لشخص آخر. الدلالة الثانية، دلالة مطلقة: تنطبق على وجه التقريب على الشخص القاسي أو المتوحش، اللإنساني.
أردت الإبقاء على الدلالة الثانية، مع تعريفها بشكل دقيق. بالنسبة لي البربري هو الشخص الذي لا يعرف الإنسانية الكاملة للآخر. ذاك الذي يرفض أن تمنح نفس الحقوق ونفس الكرامة التي يطالب بها لصالحه. لكنني أوضح على الفور بأن ثمة أفعال ومواقف بربرية، لكن لا أحد من الناس وحشي بطبيعته.
يتموقع مسعاك النظري ما وراء " صدام الحضارات"، حيث يهدف إلى التفكير في التكوينة الأنثروبولوجية والسياسية للأزمنة الحديثة. ما هي التهديدات المحدقة بمستقبل هذه الأزمنة؟
أنوقف في هذا الكتاب عند خطرين إثنين يهمان قطاعين للعالم الحديث. يدرس القسم الأكبر من الكتاب مسألة الخوف الذي يبدو أنه في تزايد مستمر في الغرب( أوروبا وأمريكا الشمالية). على المستوى الخارجي، تؤدي هذه الحرب إلى حروب داخل هذه المجتمعات. النتيجة هي مواقف نابذة للآخر الأجنبي، أو تجاه الذين، هم بشكل أو آخر، مختلفون عن الغربيين. لهذا السبب، وصل بنا الحال إلى الوضع الأقصى الذي يجسده التعذيب الذي تتبناه بعض الدول بشكل رسمي. أخصص كذلك قسما من الكتاب إلى وله أو حماس سياسي آخر، متواجد بشكل عام في الدول ذات الأغلبية الإسلامية وكذلك في بعض المستعمرات السابقة: إنه الغيض الناشئ عن الإذلال الذي عانت منه شعوب هذه المستعمرات. رجائي أن يتحرر الجميع من هذا الحماس الوخيم وأن يكفوا عن رؤية الآخرين على أنهم دوما السبب الوحيد لكل آفاتهم.
في الكتاب، تشير إلى الخطاب الذي ألقاه البابا بجامعة راتيسبون، كما تشير إلى الرسومات الكاريكاتورية ضد النبي محمد، مشددا على ضرورة عدم خلط الدين بالسياسة. بأية طريقة يمكننا مواجهة هذا الخلط؟
على النقيض مما نسمعه يوميا، لا نعثر على أصول الخلاف في الدين. ثمة أسباب اجتماعية، اقتصادية، سياسية لهذا الخلاف. لا داعي للبحث في الكتب المقدسة لفهم هذا السلوك أو ذاك الذي غالبا ما يتأتى عن مشاعر الخوف أو التحقير التي يشعر بها الأفراد اليوم. على مستوى آخر، أناصر اللائكية في معناها الحصري كدعوة للتفرقة بين الدنيوي والديني، بين الدولة والدين. بلدان مثل إيران والسعودية ترفض هذه التفرقة وتحد بشكل تعسفي من حقوق الأفراد.
كيف يمكن مناصرة حرية التعبير من دون السقوط في إسلاموفوبيا ( معاداة الإسلام) بخسة؟ إنه الرهان الأخلاقي الذي لم تستوعبه بعد بعض وسائل الإعلام الغربية. كيف يمكن تصحيح هذا الوضع؟
لا يمكن لحرية التعبير أن تكون المبدأ السامي لأية دولة. تتمفصل هذه الحرية دائما مع متطلبات أخرى، مثل حماية الأفراد أو الدفاع عن السلم والعدالة العامة. علينا إذا أن نعثر على توازن بين الدفاع عن الحريات الفردية وحريات المصلحة العامة. معاداة الإسلام مثلها مثل معاداة الأجانب، سلوك ممقوت. لكن يجب أن نضيف أن ما هو ممقوت أيضا هي ردود الأفعال العنيفة لأولئك الذين يشعرون أنهم مستهدفين والذين يدعون إلى القتل، إحراق السفارات، أو الدعوة إلى اللاتسامح. ليس القيام بعملية إرهابية أفضل طريقة للتنديد بالتصور الذي مفاده أن المسلمين إرهابيين.
الإعلام هو اليوم أحد المحصلات الهائلة للتكنولوجيا. هل يجب النظر إليه كأداة حرب أم كوسيلة للمعرفة؟
خاصية العالم الحديث اليوم هي فعلا تعزيز وتعجيل سبل المواصلات على كافة أصنافها، هي نشر المعلومات وكذلك تسهيل تنقل الأشخاص. يمكن للإعلام أن ينتج المزيد من التفاهم المتبادل كما يمكنه أن يولد المزيد من الخوف والتحقير. يمكن للإعلام أن يخدم الحرب والسلم على حد سواء. علينا أن لا ننتظر النجدة من تكنولوجيا أفضل. وحدها الإرادة السياسية والأخلاقية بقادرة، إن لم توفر لنا السلام، أن تضمن لنا، على الأقل، حياة أكثر كرامة وأكثر عدلا.
أضف رد جديد