محفوظ بشرى

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

محفوظ بشرى

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

محفوظ بشرى، من الكتُّاب الشباب الذي انبثق خطابهم خلال التسعينيات. ولخطاب محفوظ أكثر من بعد، لعل أبرز هذه الأبعاد إعمال الفكر في البنيات المفهومية وآلياتها التي تعيد انتاج أزماتنا الثقافية والسياسية.






عشان الأمور تكون واضحة وكدا..
ثورة شريك فيها الصادق المهدي ومن يشبهونه، لا أعول عليها.. فهو العدو الطبيعي للثورات.
ثورة لا تضع حدوداً واضحة مع المؤسسات العسكرية منذ البداية، لا أعول عليها.. فإنهم مختلسو الثورات باسم الثورات.
ثورة تتحالف مع أنصار الإسلام السياسي وتسمح لهم بإعادة إنتاج أنفسهم، لا أعول عليها.. فهي تدعو السوس من جديد ليسكن بنيانها قبل أن تبنيه.
ثورة همها اجتذاب بورجوازية المدن وحلفاء النظام الطبيعيين، لا أعول عليها.. سيفشلونها لأنهم اوفياء لمصالحهم، ومصالحهم عدوة للثورات.
الخ
الخ
إلى حين ميسرة فنتكلم عن الصف، وعن التكوين الطبقي وأثره في مسار الثورة، وعن خطاب الثورة البعيد عن جذورها.
دمتم سالمين..
[محفوظ بشرى]
#تسقط_بس
#مدن_السودان_تنتفض
#الثورة_لا_تخطئ





كانت تلك الكتابة، الواردة أعلى هذه السطور مباشرة (الملوَّنة بالأخضر الزيتوني) قد تسببت في ردود فعل متباينة في صفحة محفوظ بالفيسبُك، حيث نشرها هناك أول مرة. ودرءاً لالتباسات سابقة أو محتملة، قام محفوظ بكتابة المقال التالي:




من الحراك إلى الثورة

محفوظ بشرى







هذه بعض النقاط إلحاقاً للبوست السابق، أكتبها بكثير من التحفظ،لكوني خارج السودان،ومن ثم فإن ما يغيب عني في سير الأوضاع هناك هو أكثر مما يظهر لي، كما أن وجودي خارج السودان ينزع عني ببساطة ميزة التحدث في ما يجب وما لا يجب.

- الرضا السريع بتجمع المهنيين كقيادة مركزية للثورة حال تصدره المشهد ومنحه شيك ثقة على بياض، كان في جزء منه عبارة عن "كسل ثوري" أدى إلى التعجل في تسليم جهة ما، ينبع بريقها الأساسي من كونها ليست الكيانات التقليدية الكسيحة، زمام أمر الشارع. هذا الكسل الثوري له عدة أسباب في تقديري، منها ما هو هيكلي في شخصية سودانيي الوسط النيلي، أوجدته أنماط التربية وأنساق المفاهيم المكونة لشخصية الفرد وتنشئته، ومنها ما هو ناتج من ثلاثة عقود من الحجر الفكري وجعل الانصياع والطاعة لازمتين للقدرة على النجاة، وهي أسباب لها جذور في السبب الأول.

أنا لا أقول إن تسلم تجمع المهنيين زمام القيادة، وانصياع الثوار أو أغلبهم له؛ هو أمر خاطئ، بل أنتقد تحميله مسؤولية التفكير نيابة عن مجموع المتحركين في الشارع أولاً، فهو مهما اجتهد لتلمس مطالب الثوار والتعبير عنها إلا أنه يظل كياناً محدوداً يتحرك ضمن سياجات تضيق أفقه، منها المفاهيم التي يحملها أفراده ومدى صلاحيتها للتعميم كمفاهيم تعبر عن كامل الجغرافيا الثقافية السودانية، إضافة إلى سياج آخر تفرضه طبيعة العلاقة بينه وبين موضوع خطابه – الثوار، الذين يشير إليهم بضمير الملكية الستيني ذاته "جماهير شعبنا..." في بياناته.

- بدأت الثورة لامركزية، وهذه اللامركزية كانت مهمة في بدايتها لو أنها استمرت قليلاً بعد، حيث إنها تمهد لإنتاج قيادات ميدانية ومنظرين ثوريين، يسهمون في إنضاج الانتفاضة وحفر طريقها بوضوح. استكمال التكوين النظري للثورة مهم في رأيي لتجاوز حالة التخبط والتشتت التي قد تضرب الثوار وقيادتهم حال اتساع رقعة الفعل الثوري، وهو ما حدث في عدة حالات من تجمع المهنيين الذي يحاول بقدر الإمكان تغطية كل الثغرات حتى في ما يخرج عن قدرته الحقة على التحكم، فهو يتحدث مثلاً في أمور دولية يبين موقفه منها متمنياً أن يكون قد عبر عن من يمثلهم كلهم وليس المهنيين فقط. وهو ما يقودني إلى القول إنني أرى أن التجمع بحاجة الآن ليتطور بحيث يستوعب ما هو خارج شرط تأسيسه (لا ننسى أن معركة التجمع الأساسية كانت الأجور، كما أن معارك مكوناته تتصل بقضايا مطلبية تخص كل كيان، صحفيين، أطباء، الخ)، وإن لم يستطع التطور، فالأجدى تحديد مجال حركته بشكل صارم.

- من أجل أن يتحول الحراك أو الانتفاضة، إلى "ثورة"، لا بد في تقديري من إنجاز نظرية ثورية، تصبح هادياً إلى كيف نخرج من فخ "التغيير"، إلى جذرية "الثورة". إن ما أحلم به هو ثورة كاملة، وليس تغييراً قد يختلف عمقه من سطحي إلى جزئي الخ، ولإنجاز مثل هذه الثورة، فإن التنظير الجاد ووضع لبنات نظرية للثورة، هو أمر بأهمية التظاهر في الشوارع ذاتها، حتى لا تتبدد طاقة الفعل ويتم إهدارها بتعدد المسارات وتفرعها منذ البداية. في هذه النقطة لازلت أثمِّن الحوارات الدائرة حول الواجب فعله، وإن افتقدت واحداً من اهم المنظرين و"الشوافين"، الصديق أمادو "أحمد الشريف".

- تتحرك الثورة الآن في مجالين في الوقت ذاته: على الأرض، وفي الفيسبوك. العلاقة بين هذين المجالين تحتاج إلى قراءة "جدلية" تتجاوز ما هو خلف "الانعكاس" لواحد منهما في صفحة الآخر، وهذه مهمة مثلما تحتاج إلى الصبر، كذلك يلزمها عدم الخوف من التحدث في المسكوت عنه. في النهاية إذا كان "الصف" ستشقه نقاشات الثوار للخروج بأفضل ما يمكن أن يدفع الحراك إلى الأمام؛ فهو إذن أضعف من أن نبني عليه ثورة.

- تحالفات الحد الأدنى البراغماتية خطيرة جداً على أي حراك ثوري، لاسيما حين تكون مع الأعداء الطبيعيين لأي ثورة تؤدي إلى تغيير قواعد اللعبة ونسف امتيازاتهم بالتالي. التحالف مع اليمين، ومع الجهات التي تختلف جذرياً مع "الخطاب" العام المبنية على أساسه مطالب الثوار، يمنح الفرصة لاغتيال الثورة عشية نجاحها. لا أقول إن مثل هذه التحالفات ليست ذات فائدة، لكن وفقاً للواقع الماثل فهي الآن ليست كذلك. وهي نقطة مؤجلة لسانحة أخرى. الآن: كيف يمكن تحديد أدوار هذه القوى بحيث تفيد الثورة ولا تجعلها تتحكم في مساراتها؟ هذا هو السؤال.

نواصل في سانحة مقبلة.
صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

"تحالفات الحد الأدنى البراغماتية خطيرة جداً على أي حراك ثوري، لاسيما حين تكون مع الأعداء الطبيعيين لأي ثورة تؤدي إلى تغيير قواعد اللعبة ونسف امتيازاتهم بالتالي. التحالف مع اليمين، ومع الجهات التي تختلف جذرياً مع "الخطاب" العام المبنية على أساسه مطالب الثوار، يمنح الفرصة لاغتيال الثورة عشية نجاحها. لا أقول إن مثل هذه التحالفات ليست ذات فائدة، لكن وفقاً للواقع الماثل فهي الآن ليست كذلك. وهي نقطة مؤجلة لسانحة أخرى. الآن: كيف يمكن تحديد أدوار هذه القوى بحيث تفيد الثورة ولا تجعلها تتحكم في مساراتها؟ هذا هو السؤال.- محفوظ بشرى

[b]إبراهيم جعفر: تعليق خاطري سريع:[/b]

نعم ذلك هو السؤال "الاستراتيجي"، ليس حالياً فقط وإنما كذلك إلى حين من الدهر يتوجب اعتباره آناءه "شيئاً مذكورا" بمعنى مستحقاً للنظر فيه بالحكمة- نعم الحكمة!-اللازمة. أما آفاق الثورة المنفتحة على المطلق والممتدة فيه، بحكم جذريتها كثورة عند أساس التوصيف والتخييل الوجودي-الكينوني، فلا تستوعبها، في رأيي، أي "نظرية ثورية" واحدة محددة ما أو أخرى قد تسفر، بحكم القيام عليها من قبل "كائنات البشر الناقصة"، أو من قبل عدم كفايتها في الأساس كنظرية واحدة جامعة (وليس هنالك في الأساس والحق، في نظري، نظرية ثورية واحدة جامعة مانعة)، في الغاية، عن لا حرية إنسانية-ألوهية ولا جمالية، إنسانية-ألوهية كذلك، جديدة.... ثم ربما ممَّا قد يُضيءُ ما قد نسجتُهُ هنا في توِّ اللَّحظَةِ ما كان قد توارد عني قديماً في "بياني الفردي" عن "الثَّورة" المنشور على الوصلة الآتية بموقع "سودانفورأول" هذا:
https://sudan-forall.org/forum/viewtopic ... 16fa8c0781
[u]
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

عفواً، أيها الحميم إبراهيم، على الغيبة غير المقصودة.
سأعود، بعد أن أعيد قراءة "بيانك الفردي".
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

كتب محفوظ بشرى:


موجة التشكيك في "وطنية" بعض أحزاب ق.ح.ت، و"عمالتها"، هي موجة مبررة في نظري، استناداً إلى مواقف هذه الأحزاب خلال الثلاثين عاماً الماضية، وربما أبعد من ذلك لبعضها مثل "حزب الأمة – تُقرأ الصادق المهدي"، وهي مواقف سيكون مكابراً من ادعى أنها حدثت لمصلحة الوطن وليس لمصلحة الأحزاب ورؤسائها.
وحين يرتبط هذا الإرث الداعي إلى الريبة، مع تصرفات يُقرأ منها رهن = بيع هذه الأحزاب إرادتها إلى الخارج ضد مصلحة من قدموا دمهم ابتغاء تغيير حقيقي وليس صورياً كما أزعم، فإن الناتج سيكون تفاقم عدم الثقة كما نراه الآن.
أنا من المشككين أبداً في ذمة الأحزاب السودانية التقليدية وتعاطيها مع الشأن السوداني، وكنت معترضاً من البداية على دخول بعضها ضمن ق.ح.ت بعدما تأكد لها أن الثورة ليست بوخة، لكن في النهاية تعلمتُ درسي: أن لا ثقة في سياسي ولو تستر خلف النقابة، وهذا باب سيأتي وقت الولوغ فيه بعد تجاوز هذه المرحلة التي لا تحتمل في تقديري القسوة التي أنتويها كمواطن سوداني تعرض للخداع... كله بوقته.
ومن هذا المنطلق، أقول إن على الأحزاب التي تتعرض للتشكيك، إثبات نظافة يدها بقول الحقائق بشفافية تامة، وأن تتحمل التمحيص الذي ستجده من الشارع بدون "بكاء ودعايات"، فهي ليست "قائدة" أني مور، وليست لها عصمة أو قداسة مثل التي تعودتها سابقاً، كما لا تعني مساءلتك من الشارع على فعل بعينه تشكيكاً في ذمتك أو وطنيتك إلا لو كان فيهما مغمز سلفاً.
الاتهامات هي ضريبة العمل العام في مرحلة ثورية لم تتشكل فيها أدوات الرقابة المتعارف عليها بعد، لذا فالسياسي مطالب بنفي الاتهام والتبرير لأفعاله في كل لحظة، أكثر من مطالبة الشارع بالبينة في الاتهام، الشارع هو الرقابة، وكل سوداني من حقه أن يسأل ماذا يفعل من يفترض أنهم يمثلونه ويمثلون مصالحه؟ واستناداً لهذا الحق فإنني أسأل: بعتو ولا ما بعتو؟
أسأل هذا السؤال لأنني أرى من منظوري كيف أن هؤلاء القادة المفوضين وغير المفوضين معاً يفاوضون في حين ينبغي ألا يفعلوا، وكأنهم مجبرون من جهة ما غير الشارع على ذلك! وأراهم يفلتون خيوط القوة عمداً من أيديهم وكأنهم مدفوعون لفعل ذلك! وأراهم يصمون آذانهم عما يريد الشارع الذي هو مصدر شرعيتهم، ويسمعونه فقط في ما يريدون أن يسمعوا وكأنهم يظنون الشارع وعموم السودانيين أقل فهماً منهم، وقاصرين بما يجعلهم لا يضعون أمامهم كل الحقائق، وكأننا لا نفهم!!
أسأل من جديد: ما الذي يجري في الغرف المغلقة؟ أجيبوا بشفافية فضلاً.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

كتب محفوظ بشرى:



* حتى الآن، لم تجد علينا ق.ح.ت بإجابة على السؤال الذي ربما يدور في أذهان كثيرين: لماذا تفاوضون بدلاً من الذهاب إلى الخيارات الأخرى.. الخيارات الأكثر ثورية؟
* ورغم كل الكلام الذي دلقته أحزاب وكيانات ق.ح.ت في الصحف والفضائيات والمؤتمرات الصحفية طيلة الفترة الماضية، إلا أنها ظلت تتفادى هذا السؤال وتوابعه عن عمد في ما أزعم. ولو أجابت لنوقشت تلك الإجابة ومُحصت حتى يخرج الجميع بموقف مشترك، سواء أكان مواصلة التفاوض أو إعلان حكومة من جانب واحد أو غيره من الخيارات التي لن نتبين عقلانيتها وملاءمتها للظرف الحالي إلا بالنقاش حولها.
* ما ترتب على مراوغة ق.ح.ت هذه، أن صرنا في وضع أراه غريباً، وهو: قوى سياسية تعمل حاجزاً لمنع الشارع من مواصلة ثورته، وتتفاوض نيابة عنه مع اللجنة الأمنية للنظام الذي ثار الشارع عليه أصلاً!
أو، ربما ليس وضعاً غريباً.. فمنع الأحزاب لثورة الشارع الآن هو مواصلة لممارستها السابقة نفسها، حين كانت تلوِّح بالانتفاضة كورقة للضغط والمساومة فقط (تصريحات رجل البوخة قبل الثورة)، هذه الورقة لم يكن النظام يصدقها لمعرفته بالتأثير الحقيقي للأحزاب في الشارع.
* عندما حدثت الثورة، صارت هذه الورقة ذات قيمة كبيرة، فعادت الأحزاب من جديد لاستخدامها الآن في مساوماتها القديمة، وقد صار لها تأثير، خصوصاً مع اعتصام الثوار، فصارت تقدم نفسها الآن للنظام ولجنته الأمنية بوصفها الحاجز الوحيد بين الثوار وانقضاضهم على النظام.
* لا مصلحة للأحزاب السودانية في الثورة.. فهي تريد وراثة النظام ببنيته، وأي ثورة حقيقية وجذرية تطيح بهذه البنية وتعيد هيكلة الدولة من جديد؛ ستقذف بهذه الكيانات والأحزاب الركيكة خارج تاريخ البلاد الذي يُكتب الآن، لذلك فإن التعامل معهم وكأنهم حلفاء للشارع لهي سذاجة في نظري، والشارع يعرفهم وهم لا يعرفونه، ولم ينجحوا طيلة ثلاثة عقود في كسب ربع الثقة التي أولاها الشارع للتجمع، وفي وقت آخر سأتحدث عن حصان طروادة هذا.
* أخيراً؛ نعطي فرصة لحسن النية ونقول: إذا ما قادرين تتعاملوا مع اللجنة الأمنية للنظام وقدراتكم ما قدرها، فخليكم واضحين وترجلوا.. سكان جمهورية أعلى النفق ممكن يستلموا القيادة عادي ويكونوا ثوريين حقيقيين بأكتر مما حلمتم به.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

هذه الكتابة محاولة لقراءة المشهد السياسي والاجتماعي للثورة السودانية، من زاوية تتخذ من العموميات مرتكزاً للتحليل، نسبة للتغيرات السريعة والمستمرة في المشهد الذي لا يزال ينضج على نار الأحداث، مما يجعل البناء على حدث محدد سيعطي فقط قراءة جزئية قابلة للاستبدال السريع لصالح القراءة الأكثر شمولاً عقب استقرار المشهد. نكتبها على أمل مراجعتها وتدقيقها وضبطها لاحقاً.
م.ب


- - - - - - - - - -

السودان خلف دخان الجنجويد


محفوظ بشرى




1- محمد حمدان دقلو


في شيخوخة الدول، تمثل الاستعانة بالقبائل البدوية أو بالمرتزقة خياراً مفضلاً لقادة الأنظمة المحتضرة بغرض الانتصار في حروبهم ضد أعدائهم. ويمثل صعود محمد حمدان دقلو حلقة في هذه السلسلة المستمرة، مثلما حدث مع العباسيين مع الأتراك والديلم، والأيوبيين مع المماليك والأندلسيين في زمن المعتمد بن عباد حين استعانوا بجنود دولة بدوية – إن صح الوصف – بقيادة يوسف بن تاشفين، والفونج مع الهمج، وقريب من هذا ما يتهم بفعله الصادق المهدي إبان الديمقراطية الثالثة بإنشائه السلف الأول للجنجويد – المراحيل – في صراعه ضد الحركة الشعبية.
الخيط الناظم بين هذه الأمثلة السابقة رغم ما يبدو من اختلاف الحالة التاريخية لكل منها عن البقية؛ هو دخول محاربين من غير الجيش النظامي للدولة، ليحاربوا نيابة عنها، إلا في حالة المعتصم حيث جعل منهم الجيش النظامي في خطأ إستراتيجي بجعل قوة الدولة العسكرية كلها في يد قومية واحدة، مما فتح الباب لاحقاً لتكرار الأمر من قوميات أخرى.
تأتي الاستعانة بالمرتزقة من قبل الحكام في لحظات ضعفهم لأسباب كثيرة، على رأسها ضعف الجيش النظامي وفساده أو عدم الثقة فيه أو ضغط التكلفة الرسمية العالي على موارد الدولة التي استنزفت بسوء الإدارة. وفي حالة عمر البشير تحققت الأسباب الثلاثة المذكورة، إلا أن صعود حميدتي الذي فاق صعود الشيخ موسى هلال، كان نتيجة التطور في مفهوم الارتزاق لدى هلال مما جعله يمثل خطراً جديداً على النظام المتهالك، وهو نفسه ما حدث لحميدتي وقواته عقب استقلالهم مالياً عن البشير مما جعلهم مرة أخرى خطراً مضافاً عليه لم يسعفه الوقت لتلافيه بخلق مزيد من الكيانات شبه العسكرية المرتزقة.
يمثل حميدتي في أحد تجلياته، صعود الأطراف إلى مركز القوة في السودان مرة أخرى عقب فترة حكم الخليفة عبد الله التعايشي (1885-1898)، وهي فترة لها إسقاطات كبيرة جداً في النظر حالياً إلى حميدتي من قبل نخب السودان كما سنبين في مكان آخر.
إلا أن الصعود الأول لقوى الأطراف (سأقتبس لها من د.جمال حمدان مصطلح الهلال الخارجي) الذي له تأثير على مسار التاريخ السوداني كان بسيطرة الهمج على مفاصل الدولة في عصر الفونج بدءاً من الوزير محمد أبولكيلك، حين بلغت الدولة أوجها في عهد بادي أبوشلوخ ثم بدأت التفكك مباشرة بعد الحرب الحبشية، وكانت لحظة استعانة المتصارعين من الفونج بالهمج بداية نهايتهم.
في لحظة تاريخية حرجة، كانت سلطنة الفونج تتنازعها ثلاث قوى في الوقت نفسه السلطان صاحب النفوذ الاسمي في سنار، والهمج أصحاب النفوذ الحقيقي والعسكري، وقبائل الوسط النيلي المستعربة الطامحة للسيطرة على الدولة في ظل ضعف السلطان بقيادة الشيخ الأمين مسمار شيخ الحلفايا وحلفائه.
بدلاً من التحالف المنطقي بين الأمين مسمار والهمج لصنع حلف جديد استناداً على استحالة انفراد الهمج بالدولة بدون سلطان من الفونج أو على الأقل نائبه حاكم الحلفايا لإسباغ الشرعية اللازمة على الحكم؛ دخلت القوى الثلاث؛ الأمين مسمار بشرعيته كطرف ثان في تحالف إنشاء الدولة، والسلطان بشرعية التحالف ذاتها التي تعطيه الحق الأوحد في حكم البلاد، والهمج بشرعية الوزارة والقوة العسكرية الرئيسة؛ في حروب مستمرة لعشرين سنة تغيرت فيها التحالفات وانفضت، لتكون النتيجة بلاداً مفككة بلا قوة عسكرية تقف في وجه الغزو التركي لاحقاً.
الآن نحن نقف في النقطة نفسها التي كانت تقف فيها الدولة في تلك المرحلة؛ القوى الثلاث على وشك الدخول في حرب بينها، الجنجويد بقيادة حميدتي، نخبة الوسط النيلي بقيادة قوى الحرية والتغيير، النظام الحاكم بقيادة عساكر الدولة العميقة المسيطرين على المجلس العسكري وعلى الجيش. يُفترض أن حميدتي في مقام الوزير الهمجاوي، فيما المجلس/النظام في مقام السلطان صاحب الشرعية الاسمية، وقوى الحرية والتغيير في مقام الأمين مسمار!
من وجهة نظري، إن التحالف بين حميدتي وقوى إعلان الحرية والتغيير فرصة لوضع عقد سياسي جديد، وطريقة لتصفية النظام الحاكم الذي لا يزال حياً وبكامل قوته، ممثلاً في أجهزته الخالصة مثل الأمن والمخابرات، والأمن الشعبي، والدفاع الشعبي، الخ، كما أن وجوده في الجيش بل وفي جزء من قوات حميدتي لا يخفى، وهذه وجهة نظر سأفصلها لاحقاً.
خلال ثلاثين عاماً تمت تصفية الجيش وتنقيته من غير الموالين لنظام البشير، ومن يعتقد أن بإمكان ضابط أن يصل إلى رتبة لواء فما فوق، دون أن يكون موالياً للبشير ونظامه أو يحظى برضاه؛ فهو يغالط في وقت لا يحتمل المغالطات. إن دولة البشير العميقة في الجيش، هي بنفس قوة دولته في الاقتصاد والأمن والخدمة المدنية. هذه الدولة العميقة بتمثّلاتها المختلفة، هي الخطر الحقيقي ليس على الثورة فحسب بل على السودان كله.
طبيعة قوات حميدتي بوصفها مرتزقة، تجعل تغلغل النظام داخلها لا يبلغ العمق الذي تسيطر فيه على تلك القوات المكونة في أغلبها من جنود في أعمار صغيرة. وبعد استقلالها المالي نسبياً عن النظام، صارت قبضة النظام عليها واهنة، وهو ما ظهر في استدعاء البشير لها لقمع المتظاهرين ومخالفة حميدتي لهذا الأمر، في حين لو لم يكن حقق استقلاله المالي بعد لما تردد في القيام بمذبحة.
لا يمكن إغفال التغيرات التي طرأت على حميدتي وقواته عقب الرفاهية النسبية التي حظيا بها مؤخراً وتعرفها على نمط حياة مختلف عما تعوده الجنود عندما كانوا يقاتلون في الهلال الخارجي، وهو باب للتحليل لم يفتح بعد، وإن كان باستطاعتنا الاقتباس من التاريخ وملاحظات ابن خلدون لتخمين ما ستؤول إليه أمورهم.
هل يتلون الرأي العام في الخرطوم ضد حميدتي بصورة الخليفة عبد الله التعايشي؟ أم أن الاعتراض عليه حقاً بسبب الجرائم في دارفور؟ لمناقشة هذه النقطة، فلنقارن بين رد الفعل وسط قوى الحرية والتغيير والموالين لها تجاه ضباط المجلس العسكري، وتجاه حميدتي، بالإجابة على السؤال: من خطط وأمر وسهل لحميدتي وقواته قتل أهل دارفور؟ هل هو البشير فقط؟ أم المؤسسة العسكرية ممثلة في كبار ضباطها الموجودين الآن في اللجنة الأمنية للبشير/المجلس العسكري؟ من أين أتى حميدتي بالأسلحة والغطاء الجوي والتموين لشن حروبه؟
إن أيدي كثيرة ملطخة بالدماء نفسها التي تغطي يدي حميدتي، وعلى رأسها أيدي الضباط العظام الآمرين من لدن عمر البشير ووزير دفاعه وهيئة أركانه، انتهاء برئيس المجلس العسكري الذي يؤكد – في محاولة لمداراة حميدتي في ما أؤمن – أن الدعم السريع من رحم الجيش!
رفض التعامل مع حميدتي أو التحالف معه، إن كان خارج الصورة الكابوسية للخليفة عبد الله التعايشي في الذاكرة الجمعية لسودانيي الوسط النيلي؛ فالأولى أن يوازي رفض بقية المشاركين في مأساة دارفور، وليس التفاوض معهم وطرح منحهم جزءاً من السلطة في الفترة المقبلة!
مصافحة حميدتي والجلوس معه للمفاوضات، لا يختلف كثيراً عن التحالف معه مرحلياً. فإن كان المحرك الأخلاقي هو الدافع للحملة عليه وعلى قواته؛ فالأجدى عدم التعامل معه منذ البداية بأي شكل.. أليس كذلك!
إن الضرورات التي أباحت محظور التعامل مع حميدتي، لا زالت قائمة، وفي ما أرى أنها تبيح التحالف معه ضد النظام وكياناته النشطة الآن من جماعات دينية وأجهزة أمنية ومجلس عساكر النظام.
أخلاقياً، لا يمكن بأي شكل من الأشكال قبول حميدتي وقواته، بل يجب محاسبتها على ما ارتكبت من جرائم، ومحاكمة المتورطين معها في كل ما سبق.. هذا الكلام لا يماري فيه أحد، كما لا يجب افتراض أن الحركات المسلحة الدارفورية بريئة من الجرائم أيضاً وسجنها في صورة الضحية فقط.
حسناً هذا على المستوى النظري، فماذا عن المشهد الواقعي أمامنا الآن؟ كيف يمكننا فعل كل ما ذكرناه أعلاه في حال تشكيل حكومة مدنية انتقالية أو في ظل حكومة منتخبة؟ كيف سنتعامل مع قوة مسلحة شبه نظامية مثل قوات الدعم السريع/الجنجويد؟ ما هي الخيارات إذا رفضت قوى الحرية والتغيير التحالف مع حميدتي، ما الذي سيحدث له بعد تشكيل الحكومة المدنية لاسيما بعد وضعه في خانة العدو المطلق؟ هل سيتم اعتباره جزءاً من المجلس العسكري بعد تسلم حكومة مدنية ويجري عليه ما يجري على المجلس؟ هل سيصبح نظامياً وتغفر له جرائمه؟ هل ستشن عليه الحكومة حرباً بالجيش، أم سيتم التعامل معه بدون حرب؟ كيف ستفكك الحكومة قواته؟
إن مؤامرات اللجنة الأمنية ضد حميدتي يجب أن تثير قلق قوى الحرية والتغيير، فهي تدل على رغبتها في إزاحته رغم أنهم هم من صنعوه في البداية، إلا إن كان هناك من يعتقد ان اللجنة الأمنية للبشير تتحرك دائماً من أجل مصلحة الثورة والسودان فعليه ألا يشعر بالقلق بالطبع.
حتى الآن لدى حميدتي وقوى الحرية والتغيير عدو مشترك يتمثل في نظام البشير الذي انقلب عليه، هذا غير الوضع المعقد له ولقواته في الحالين، إن استعاد النظام زمام الدولة؛ وإن أفضت المفاوضات الحالية إلى حكم مدني، فسيظل قوة مهددة للدولة، إلا أن احتمالات وضع عقد سياسي جديد أو مخرج له في ظل حكومة مدنية تظل أفضل له من عودة النظام القديم للسيطرة وتصفية حساباته معه مثلما فعل مع موسى هلال، لا سيما باستصحاب التصريحات من عدة حركات مسلحة دارفورية تُظهر أن بالإمكان عقد مصالحة مع حميدتي وفق صيغة مناسبة.
التحالف المرحلي مع حميدتي ضد العدو المشترك، قد ينجز تصفية الدولة العميقة التي ينكر كثيرون وجودها رغم كل الدلائل، كما سيمكن من التعامل مع الفوضى التي قد تحدثها جماعات الهوس الديني لتقتات عليها. بعد انتهاء المرحلة سنكون أمام مليشيا ودولة، وليس كما هو الوضع الآن: اللادولة + مليشيا + جيش مسيطر عليه من قبل النظام الفاسد + نظام كامن سيحول الأوضاع إلى جحيم لأي حكومة.
ما لم يتم العثور على ضباط موثوق أنهم وطنيون ولا يمتون للنظام بصلة، للتحالف معهم ضد الجنجويد وضد الدولة العميقة؛ فإن لا خيار يبدو أمامي غير التعامل مع الجنجويد على ما في هذا من كراهة.
غرض هذه الكتابة، كما أوضحت في صفحتي على فيسبوك، بحث ضروة التحالف بين قوى الحرية والتغيير مع حميدتي ضد نظام البشير المسيطر على مفاصل السودان، قبل أن تتحالف معه قوة أخرى تحقق له ما يريده، لا سيما أنه يبحث الآن عن حلفاء مدنيين من غير الإسلاميين، اضطر لمحاولة صناعتهم في الحراك القومي السوداني، وفي الإدارات الأهلية، فهو بحاجة إلى غطاء شرعي يقيه العاصفة المقبلة في حال تسلم المدنيون الحكم.
ما كتبته هنا لا يعني بحال من الأحوال أنني أنظر إلى قوى الحرية التغيير – وهو نفسه تحالف مرحلي – بوصفها الثورة السودانية، أو كأنها مبرأة من العيوب والأخطاء، بل إنها تتحمل اللوم الأكبر في وصول الأمور إلى ما هي عليه الآن بقطعها للمسار الثوري خوفاً وطمعاً، فيما كان بإمكانها تجنيبنا البحث عن حلول مرة المذاق دونها الخراب. وهذا ما سأبينه في الجزء الخاص بها.

يتبع
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

السودان خلف دخان الجنجويد

محفوظ بشرى





2- قوى إعلان الحرية والتغيير


يلزمني التأكيد ابتداءً أن أغلب أحزاب قوى الحرية والتغيير تجمعها إستراتيجياً المصالح ذاتها مع العساكر والمؤتمر الوطني، وهي مصالح يهددها قيام ثورة مكتملة في السودان، لأن تركيبة هذه الأحزاب وأهدافها تتعارض بشكل جذري مع أهداف أي ثورة تغير قواعد اللعبة السياسية والاجتماعية في السودان.
عند المحك، فإن التقارب والتفاهم بين أحزاب ق.ح.ت تلك وبقية المتضررين من بزوغ قوة الشارع كفاعل خارج الاستخدام المعتاد، يدفعها تلقائياً لقطع الطريق على استبعادها وفق الشرط الثوري من التحكم في المجال العام، وهو ما حدث عدة مرات بدءاً من 11 أبريل وحتى اليوم.
لذلك، فإن أي افتراض بأن أحزاب ق.ح.ت، لا سيما التقليدية؛ تعبر عن مطالب الشعب، هو افتراض ساذج في نظري، فهذه الأحزاب تعبر عن مصالحها الطبقية المتمثلة في مصالح أعضائها، وفي حال تصادم مصالحها هذه مع مصالح "السواد الأعظم" فهي تغلب مصلحتها بلا تردد.
ما تفعله هذه الأحزاب حالياً عبر التفاوض مع عساكر النظام، هو محاولة الوصول إلى صيغة تحفظ مصالحها ومصالح النظام والمؤسسة العسكرية، وفي الوقت نفسه محاولة الخروج بفتات يمكن أن تخدع به الجماهير التي استخدمتها للوصول إلى الموقف التفاوضي، وهي الجماهير التي بات واضحاً أن مطالبها أكثر جذرية مما يرغب المفاوضون في تحصيله.
منذ توقيعها على إعلان الحرية والتغيير لم تنوِ أحزاب ق.ح.ت الوصول بالحراك إلى نهاياته الثورية قط، بل كان التفاوض مع المؤسسة العسكرية وممثليها هو الهدف الرئيس. وهذا ليس استقراء للنوايا أو اتهاماً مرسلاً، بل حقيقة في نظري تدل عليها طبيعة هذه الأحزاب وسعيها المستمر طوال الفترة السابقة للتفاوض مع النظام مستبعدةً الحل الثوري الذي لا يمنحها غرضها وهو وراثة النظام ببنيته نفسها أو الاندماج فيه، وليس تغييره ومن ثم تغيير البيئة السياسية وهو ما سيفقدها القدرة على اللعب غير النزيه الذي تعودت عليه خلال الستين سنة الماضية.
وقعت الأحزاب مضطرة على إعلان الحرية والتغيير بعدما ابتلعت على مضض حقيقة رفضها من الشارع الذي فضل عليها واجهة غير حزبية مثل تجمع المهنيين السودانيين، وللاستفادة من الحراك الحادث وقتها إلى حين سيطرتها على التجمع، قبلت هذه الأحزاب أن تسير في ركابه، قبل أن تصل الآن إلى مرحلة التغول الكامل على التجمع وعلى جمهوره الذي تتعامل معه اليوم وكأنه جمهورها، وتستخدمه الآن للحصول على مكاسبها الضيقة بدعوى أنها تمثل مصالحه، في حين تضن عليه بالشفافية اللازمة ليعرف ما تقوله في الغرف المغلقة باسمه، بل وصل بها الحال إلى الكذب عليه.
المعتصمون والثائرون يغضون حتى الآن النظر عن قوى الحرية والتغيير في ما أرى، من منطلق مسؤولية عالية لا تتمتع بنصفها الأحزاب التي تفاوض عساكر اللجنة الأمنية لنظام البشير، حيث من الواضح دقة الموقف التي تجعل أي هزة في جبهتهم على علاتها يمثل نقاطاً إضافية للنظام وعساكره.
لكن هذا الصبر ربما يصل إلى نهاياته قريباً جداً مع "الانبراش" المتزايد من هذه الأحزاب للعساكر ضد مطالب الشارع، بغض النظر عن رأي هذه الأحزاب في تلك المطالب وإمكانية تحققها.
الوصاية التي تتعامل بها الأحزاب وحتى تجمع المهنيين والمفاوضون مع الشارع ومطالبه، رغم اجتهادهم في إخفائها، إلا أنها تبرز برغمهم في لجوئهم للشارع حين تنسد عليهم المنافذ فقط، وليس لمشاورته، كذلك يفضح سعيهم للتسوية غير الثورية تصرفات عدة وتصريحات متواترة، مثل التصريح بالخوف من الحالة الليبية في حال تم إعلان سلطة مدنية من طرف واحد. (سأفرد مقالة منفصلة لتجمع المهنيين لاحقاً).
لم تحدث الثورة بعد، يوم 11 أبريل تم قتلها نهائياً، وقبلها عندما تم اللجوء إلى المؤسسة العسكرية بدأ حينها التخطيط لدفن أي احتمال ثوري، فمن المعلوم بداهة أن المؤسسة العسكرية سواء أكانت وطنية أم مجيرة لصالح النظام كما هي الحال الآن؛ ليس لها علاقة بالفعل الثوري البتة، فبنيتها لا تحتمل مثل هذا الفعل. والاحتفاء بالمواقف الفردية لبعض صغار الضباط والجنود وتعميمها للقول بأن الجيش ككل وطني ومنحاز للثورة هو تعمية أتهمها بانها تعمية خبيثة.
إن المواقف التي يبديها الحزب الشيوعي السوداني وحزب البعث اللذان ينضويان تحت قوى الإجماع الوطني، تختلف عن الخيانة الصريحة لأحزاب نداء السودان (أنا أتهم الأمة والمؤتمر السوداني وحركة عرمان صراحة بالعمل ضد مصالح الشعب والسعي للتحالف مع العساكر ضد الثوار)، مواقف هذين الحزبين في اعتقادي تقوم على أن مصلحتهما في تغيير المشهد السياسي بشكل تام أكبر من مصلحتهما في بقاء بنية النظام ذاتها التي لا تسمح لهما بالتنافس في نظام مصمم ليكون في صالح الأحزاب الأسرية والطائفية، ففي ظل الوضع القديم لن يتحصل الحزبان على شيء وسط خصوم يستخدمون البنية الكسيحة الموروثة نفسها لكسب المعركة السياسية بعيداً عن البرامج وبالاعتماد على الخطاب العاطفي القديم لاستبعاد اليسار.
إن حزب الأمة والصادق المهدي أعداء إستراتيجيون لأي ثورة شعبية، الخلفية الاجتماعية لقائد الحزب ووعيه الطبقي مضاد للثورة بكل تأكيد، بل هو أقرب إلى التيارات السلفية من أي مكون آخر داخل ق.ح.ت، ووجوده في المشهد الحالي هو أكبر طعنة يمكن أن تتلقاها الثورة، وما لم يتم التخلص منه والانفكاك من الارتباط به، سنجد ق.ح.ت هي المحلل للحكم العسكري بكل بساطة، سيمنح المهدي الشرعية لأي ديكتاتورية تمنحه ما يريد من فتات السلطة، والآن أكاد أجزم أنه يخطط مع العساكر لبيع دماء الشهداء بكل أريحية.
على من يغالط في هذه النقطة السابقة أن ينشر لنا محاضر التفاوض بشفافية تامة لنرى إن كنت مخطئاً أم لا. إن سوء الظن بالمهدي هو البوصلة السياسية الصحيحة دائما في سودان ما بعد الستينيات.
إذن، أخلص إلى أن مكونات ق.ح.ت الرئيسية المؤثرة (نداء السودان، قوى الإجماع، تجمع المهنيين) بسبب التنافر بينها، ليست أمينة على السير بالخط الثوري إلى نهايته، فيما أتهم صراحة نداء السودان لا سيما الكيانات الثلاثة بالعمل كثورة مضادة داخل قحت، أما بقية المكونات كالتجمع الاتحادي ومنظمات المجتمع المدني فليس لدي من مواقفها شيء لأخمن أي اتجاه تسلك. وفيما يخص تجمع المهنيين – كما سأبين في كتابة منفصلة – فهو يحتوي على تيارين، أحدهما حليف لنداء السودان في تحطيمها للثورة (للمفارقة يقوده أحد أيقونات التجمع)، والآخر حليف لخط الحزب الشيوعي والبعث في السير إلى نهايات الفعل الثوري بالتفاوض.
إن الشارع الذي قدم الدم والعرق، ولا يزال يصبها في انتظار تحقق أحلامه، يتعرض الآن للخيانة في الغرف المغلقة، فماذا نحن فاعلون؟
يتبع
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

و يسألونك عن "الكسل الثوري"

مشاركة بواسطة حسن موسى »




و يسألونك عن "الكسل الثوري"

سلام يا قصاص ،
و شكرا على بذل مكاتيب محفوظ بشرى النقدية في مسألة الثورة السودانية.
لقد قرأت كلام محفوظ بشرى بتمعن و توقفت عند أكثر من موضع فيه ، و أعجبني أسلوبه الأدبي و حسه النقدي ،لكن رشاقة الأسلوب الأدبي و رهافة الحس النقدي لا تغنيان الكاتب في الشأن السياسي السوداني عن إحكام المفاهيم السياسية التي يبني عليها موقفه.
كتب محفوظ بشرى
".. كما أن وجودي خارج السودان ينزع عني ببساطة ميزة التحدث في ما يجب وما لا يجب. « 
  بعد هذه العبارة يتوقع قراء محفوظ بشرى كتابة تتوخي الحذر في مسعى عقلنة ما يجري في السودان. لكن محفوظ ينسى تحسبه و ينطلق في لوم جماهير المحتجين الواقفين في مواجهة الغول لشهور، يلومهم على كسلهم الثوري المتمثل في «..
الرضا السريع بتجمع المهنيين كقيادة مركزية للثورة حال تصدره المشهد ومنحه شيك ثقة على بياض.."و يستنتج محفوظ أن " الكسل الثوري" لجماهير المحتجين، أدى إلى التعجل في تسليم جهة ما، ينبع بريقها الأساسي من كونها ليست الكيانات التقليدية الكسيحة، زمام أمر الشارع. »ـ غايتو يا عادل القصاص و الله صاحبك دا لو كان موجود داخل السودان، كان لقى لينا مخرج من الأزمة السياسية التي تمسك بخناق شعبنا و كفى الله عيال المسلمين شر القتال. طبعا بعد قراءتي لمكتوب محفوظ بشرى، مشيت افتش في الأسافير عن معلومات عن هذا الكاتب الذي قدمته أنت بكونه من » الكتُّاب الشباب الذي انبثق خطابهم خلال التسعينيات »ـ لكني هذه الأيام في بلاد التنين التي يعزّ فيها الدخول على سيدنا قوقل رضي الله عنه و لو سألت عن صاحبنا فيسبوكو فهو حرام و صاحبه لا يدفن في مقابر المسلمين.المهم يا زول كدي خلينا من حكاية " إتحاد الشباب السوداني" دي عشان الشاب دا كان " شاب" في التسعينات لكنه الليلة كاتب و بس.[ أعمل حسابك من " بس" دي عشان حقلها الدلالي بقى واسع يشيل السودان و أمريكا و السعودية و الأمارات و قطر و مصر و ليبيا و الجزائر و سوريا و إيران و هلمجرا.]. و بعد " بس" يمثل محفوظ بشرى في المشهد السياسي السوداني كـكاتب معني بـمسألة " التكوين الطبقي وأثره في مسار الثورة"..و في هذا الـ "صياغ"[ الحقوق محفوظة للجريفاوي] ساغ لي التأنـّي عند مفهومه عن " الكسل الثوري" للسودانيين.
يعني لو كان محفوظ قد كتب كلمته الجائرة في حق جماهير المحتجين" خلال التسعينيات" لكنا علقناها على شماعة حماقات الشباب إياها و السلام. السلام؟ سلام بتاع فنيلته؟ الناس قرضت عديل في الحرب الخبيثةالتي يشنها عليهم "الجماعة الطيبين" المسنودين ببأس حلفاء أراذل في السعودية و الخليج و مصر، و الشاب دا قاعد بعيد يقول للشعب الصابر بـطّلوا " الكسل الثوري" بتاعكم داو اتلحلحوا شوية. أي و الله " الكسل الثوري" حتة واحدة.و ما موقع " الكسل الثوري" من الجهاز المفهومي الذي يبني عليه محفوظ بشرى نقده لحركة المحتجين المطالبين بالديموقراطية؟ مندري؟ أظن ،غير آثم، أن محفوظ استعار مفهوم " الكسل الثوري " من قاموس المعايرة العرقي الذي راج بين مهاجري سوق العمل في بلاد النفط. و هو القاموس الذي ألصق سبّة الكسل على ظهر المهاجرين السودانيين بدليل أن في بلادهم مدينة تسمّى " كسلا".و قد يحمد عربان النفط لسودانيي المهجر أمانتهم [أنظر : أمانة "راعي الغنم السوداني" التي سارت بها الركبان،على الرابط :
https://www.sudan-forall.org/forum/viewt ... 4b0ddfe91e

] بأسلوب يطعن في عفة و نزاهة منافسيهم في سوق العمل المهجري لكن الجميع يؤمـّنون ، في النهاية، على كسل السودانيين المشهود.
أن سحب صفة " الكسل الثوري" على شعب السودان تفتح الباب لجملة من الخرافات الإعتباطية التي يسقطها البعض على هذا المفهوم الهلامي الذي يسمونه بالسودانيين، مثل شجاعة السودانيين و كرم السودانيين و شهامة السودانيين إلخ و هي صفات تغض النظر عن أولئك السودانيين الأراذل الجبناء الفسالى الفاسدين الذين تواطأوا مع أنظمة الإستبداد السياسي و صانواآلة الفساد الأخلاقي في السودان، لصالح دوائر رأس المال، لأكثر من نصف قرن.
و في كلمته في "سودانايل" بعنوان " صقيرها حايم : الشعب الراكب راس"،[ أنظر
https://sudanile.com

] ، شطح صديقنا الأنثروبولوجي الماركسي عبد الله علي ابراهيم شطحة مفهومية كبيرة ( حاز بها على عبارة أمي : " يا النبي نوح ")، و ذلك حين صنّف" السوداني" كـ " إنسان كلاسيكي لم يُخلق للعصر. وفشله المشاهد في الدولة فشل صميم وجوهري . . وإنساني للغاية" . و لعل أكثر ما ضايقني في مكتوب عبد الله هي خاتمة عبارته التي تجعل من فشل السوداني في تدبير أمور الدولة صفة "إنسانية" . أي و الله إنسانية عديل كدي . يعني فهم سيدنا ماركس للدولة  الطبقية و لإشكالية "الإنسانية"راح شمار في مرقة ساكت .
و في كلمة مجاورة له ، تحت عنوان" معركة ذات مخالف.. »، يراكم عبد الله الأمثلة عن الابطال الإنتحاريين في تاريخ السودان و يخلص إلى أن" أضيع ما ضاع منا هو علم الفروسية السودانية. والفروسية هي الخلو من رهبة الموت. فقالت بت مازن الكباشية تنعي موسى ود جلي فارس بني جرار:
الخوف قسمو عيلاّ (إلا) موسى ما حرسه
فسجل موسى غياباً يوم توزع الناس مادة الخوف فكان لكل منا نصيب إلا هو. « .. ». وكل ملم بالتنشئة السودانية في سومارات الطهور والعرس، التي هي صناعة نسائية خالصة، سيجدها دعوة صريحة للانتحار. فالفتي مدعو لإتلاف المال والروح. فهو مدعو ليذبح الشائلة مما هو سكة للإملاق كما أنه مدعو لسوم الروح. »ـ
غايتو يا عبد الله أنا لو كنت في محل أخونا السوداني ّالخوّاف الذي ربّى عياله " كنت رفعت عليك و على اخوك الكاشف محفوظ بشرى قضية في محكمة العدالة الأنثروبولوجية السودانية، حتى أخلص للخواف و للكسلان حقوقهما منكما و الأجر على الله .

لو تأنينا عند عبارة محفوظ بشرى : "الكسل الثوري" ، فربما أعاننا حسن الظن العريض بالكاتب على إحالتها لمقام التقاعس الإرادي عن فعل الثورة.أي أن الشعب قادر على فعل الثورة لكنه في نفس الوقت متقاعس عن القيام بالثورة و التقاعس في المعجم هو إهمال الواجب أو التأخر عنه :(و يقال : تقاعس عن العمل/ تقاعس في العمل: أهمله وتأخّر عنه غيرَ مُبالٍ به، تكاسل عنه "تقاعَس عن أداء واجبه).كما لو كانت الثورة نزوة فردية عارضة لا تحفزّها أية مصلحة جمعية حقيقية.
و يشرح محفوظ بطريقة غامضة اسباب " الكسل الثوري" الذي يقعد بالشعب السوداني عن فعل الثورة حين يكتب :
" هذا الكسل الثوري له عدة أسباب في تقديري، منها ما هو هيكلي في شخصية سودانيي الوسط النيلي، أوجدته أنماط التربية ، ومنها ما هو ناتج من ثلاثة عقود من الحجر الفكري وجعل الانصياع والطاعة لازمتين للقدرة على النجاة، وهي أسباب لها جذور في السبب الأول. « ـ
الكسل الثوري على حسب نظرية محفوظ نوعين : هيكلي وشرطي. يرد محفوظ الكسل الثوري الهيكلي إلى موضع ما، في شخصية سودانيي الوسط النيلي، صنعته" التربية " بينما الكسل الثوري الشرطي ناتج عن شروط الحجر الفكري الطويل و التربية على الإمتثال [ ترجم " التربية" ايضا]. لكن يبدو ان محفوظ في سورة حماسه النقدي ، ينسى أن الثورة التي انطلقت بين شعوب السودان لم تقتصر على " سودانيي الوسط النيلي" وحدهم ،لأن هذه الثورة حادثة بين سودانيي ما وراء الوسط النيلي، في كردفان و دارفور و النيل الأزرق و البحر الأحمر و غيرها.مثلما هو ينسى أن سودانيي الوسط النيلي لا يتقاسمون جميعهم نفس الإتفاقات الثقافية حول "أنماط التربية وأنساق المفاهيم المكونة لشخصية الفرد وتنشئته".أما الحجر الفكري المزعوم، لثلاثة عقود، هي عمر الجيل الثائر، فهو لم يحل بين الشعب و فعل الثورة. بل أن مسلسل الإنتفاضات الشعبية التي سقط فيها عشرات المئات من السودانيين خلال العقود الثلاثة الماضية يمثل كشهادة مرموقة عن مقاومة الشعب السوداني للحجر الفكري الذي حاول الإسلاميون فرضه على الجماهير الثائرة في الحواضر و في الأرياف.
المهم يا زول، شكرا لك مرة ثانيةعلى جلب مكاتيب محفوظ بشرى عامرة بالتفاكير الشيقة و التي لا بد من التأني عندها واحدة واحدة و فرز تصانيفها المفهومية المتباينة.
سأعود
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

شكراً جزيلاً يا حسن على العناية بكتابات الصديق محفوظ بشرى. وهي بالفعل، كما أكدت أنت ذلك، جديرة بالمناقشة المتأنية.
قبل أن أعيد قراءة مناقشتك، العامرة أيضاً، بغية المشاركة في المناقشة، وهي ذات زوايا متعددة ومحفزة، سأقوم، بعد إذنك، بنقل هذا الجزء منها إلى محفوظ، لأحضه على المشاركة.
وإلى ذلك الحين، سأقوم بنقل تعقيب لي على الجزء الأول من مقاله الموسوم "السودان خلف دخان الجنجويد"، الذي كان قد نشره بالأساس في صفحته في الفيسبك (وبالمناسبة هذا الرابط سيقودك إلى صفحته هناك مباشرة:
https://www.facebook.com/maf.abdelrahma ... SEARCH_BOX).

وبعد تعقيبي، سأقوم بنقل تعقيبه على تعقيبي، حيث أرجو يساهم كل ذلك في إثراء المناقشة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

صديقي محفوظ،

لشُدَّما أنا ممتنٌّ لك على هذه الإستدعاءات التاريخية/المقارنات المضيئة والمحفزِّة.
ثمَّة أكثر من نقطة، في هذا المقال البصير، جديرة بالمناقشة المتفكِّرة. غير أن الإيقاع المتسارع لشأننا العام الماثل، كما لهذا المنبر، علاوةً على ملابساتٍ خاصة، ترغمني على التركيز، غالباً على نحوٍ شبه مضغوط، على مناقشة اقتراحك القائل بدفع تحالف قوى الحرية والتغيير نحو استيعاب حميتِّي داخله؛ ذلك أن المقال يرى أن هذا الاستيعاب قد يساعد في تصفية النظام السابق، وبالتالي تصفية إرثه الثقيل المتمثل في الدولة العميقة.
سأقفز، إجرائياً فحسب، فوق مسألة التسامح مع حميتِّي فيما يتعلق بجرائمه البشعة المتعددة، ونقاط أخرى متعالقة (مع أنني لست مع مسامحته على الإطلاق).
ما يمثِّله حميتِّي، في تقديري، ورغم الحداثة النسبية لظهوره كلاعب سياسي فاعل، يكمن في أنه أحد دينامات الدولة العميقة؛ و"استقلاله" هذا لا يجعله عدواً للنظام السابق، وإنما منافساً له. ولو قُيِّضَ له أن يحتل مكان البشير كاملاً، فإنه سيباريه في الحكم الشمولي وفي بشاعة جرائمه.
أما لو دخل في شراكة تحالفية، مع حلف رجراج، مثل ق.ح.ت، في سياق سياسي (شبه؟) مدني، فإنه سيضاعف نفوذ الكتلة التقليدية والرجعية داخله. وسيكون مثل هذا النفوذ مدعوماً، كما هي العادة، من نفس القوى الرجعية الإقليمية والقوى النافذة على المستوى الدولي، وهو، أصلاً، وكيل القوتين، ذات الهدف الإستراتيجي الأسمى، المتمثِّل في المحافظة على المنظومة المهيمنة على حكم السودان، التي يمثل حميتِّي أحد عناصرها/دينامياتها، في أيَّما سياق سياسي ماض، آنٍ أو آتٍ، هو (وما يمثِّله طبعاً) لاعب فيه. وستكون النتيجة أن الآمال الإستراتيجية للثورة لن تحقق.
لديَّ مخاوف – حتى لو أتت محصلة التفاوض بالشروط الراهنة، المُعلنَة، ل ق.ح.ت – من أن الأهداف الإستراتيجية للثورة لن تتحقق بصورة كاملة، طالما أن البنية السياسية العامة لا تشهد، في نظري، تغيُّراً نوعياً يطال أغلب، إن لم يكن كل، الكيانات التنظيمية المعاصرة. وكما سبق لي أن أشرت، في موضع آخر، ما معناه أن جميع تنظيمات ق.ح.ت موسومة، بنسب متفاوتة، بأمراض البنية السياسية-الإجتماعية-الثقافية العامة. وذلك ما أدى، ضدياً، إلى تكوُّن جسد تنظيمي تحالفي نوعي وخلَّاق كتجمع المهنيين. على أنني أنزع نحو تقدير الأخير بإعتباره كياناً شبه نقيض للكيانات السياسية السائدة. والنسبية الأخيرة تجعلني أميل (رغم عدم توفر كلينا على معلومات دقيقة ذات صلة) إلى أن أرجح أن تجمع المهنيين نفسه لم يتخلَّص، على نحوٍ جذري وتام، من بعض المثالب المتوارثة للبنية السائدة. وفي إحدى الأمثلة التي وردت في مقالك الحصيف هذا ما يدعم هذا الاعتقاد.
ما قصدت أن أرمي إليه أن مثل هذا السياق – حتى في وجود كيانات تنظيمية أكثر تقدماً، مع الوضع في الحسبان تشابك مصالح القوى المؤثرة إقليمياً ودولياً – لن تقوى على ترويض حميتِّي، وإن ستنجح في إكسابه وجهاً آخر، لكن، طبعاً، لنفس العُملة.
لقد سبق لك أن أبرزت، في مناسبة ذات علاقة، الصادق المهدي بإعتباره ظل وسيظل دائماً عدواً للثورات الشعبيية وللتقدم. أتفق معك تماماً. على أنني أضيف، وحميتِّي كذلك.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

مياه جرت أمام اعيننا استاذي عادل جعلت المشهد اكثر تعقيدا مما كان عليه.
يبين حميدتي كل يوم ان الخيار الذي اختاره يسير حذو ما اعتادته الدولة القديمة، يحاول الان ان يدمج نفسه في البنية التقليدية ظاناً ان سلاحه ودعمه الاقليمي سيمكنه من السيطرة على مفاصلها ليحل بديلا للبشير. وهو خيار مفارق لمكانه التاريخي والثقافي لو يعلم، زينه له اعداء الشعب وسدنة الديكتاتوريات في قحت.
عندما اقترحت التحالف، لم تكشر كتلة النداء عن عمالتها بعد لتدعم حميدتي لمسار غير وطني كما هو الان. قحت اصلا جزء منها صحوة موسى هلال فليست غريبة على التحالف مع الجنجويد، فهل كانت في اذهانهم مثلا صيغة مثل الحقيقة والمصالحة؟ لا اظن.
في كل الاحوال تظل الخيارات صماء في ما يتعلق بالتعامل مع قوة مسلحة وقائدها الطموح. ماذا بيدنا فعله للتخلص من هذا التهديد؟
التهديدات كثرت استاذي، حميدتي اكبرها، وال المهدي وحلفاؤهم ضمنها.
للبحث عن معادلة مناسبة، اظننا سنضطر لتجرع حنظل الخيارات، أو - وهو الاسهل والاقل تكلفة - نقوم بثورة حقيقية.

محفوظ بشرى
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

حميدتي بكم؟

مشاركة بواسطة حسن موسى »



" التاريخ لا يعيد نفسه
و لو فعل لكان في المرة الأولى مأساة
و في المرة الثانية ملهاة "
ماركس



حميدتي بكم؟


سلام يا عادل و مثله لمحفوظ، و شكرا على أجر المناولة.

ينظر محفوظ بشرى لظاهرة الصعود السياسي السريع لحميدتي نظرة غميسة باعتبار أن صعود حميدتي يمثل في السياق السياسي المعاصر كأحد تجليات صعود أهل الهامش إلى مركز السلطة في السودان :
"
يمثل حميدتي في أحد تجلياته، صعود الأطراف إلى مركز القوة في السودان مرة أخرى عقب فترة حكم الخليفة عبد الله التعايشي (1885-1898)، وهي فترة لها إسقاطات كبيرة جداً في النظر حالياً إلى حميدتي من قبل نخب السودان كما سنبين في مكان آخر. « 

و غماسة فكرة محفوظ بشرى تكمن في العبارة المفتاحية الجائرة « مرة أخرى»، التي تضمر أن التاريخ السياسي السوداني يكرر نفسه في تبادلية بسيطة بين أهل الهامش و اهل المركز.لكن شتّان ما بين "هامش/مركز" مطلع القرن الواحد و عشرين، الذي تمخض عن حميدتي و عمر البشير، و "هامش/مركز" القرن التاسع عشر الذي تمخض عن الخليفة عبد الله التعايشي و الجنرال غردون باشا. ذلك لأن التعايشي خرج من حصيلة التهميش الكولونيالي لشعوب السودان،و حارب سلطات الدولة الإستعمارية في إطار مشروع طوباوي تحرري بلا حدود. و في هذا المنظور فالتعايشي طرف اصيل في المنازعة الطبقية التي فرضتها دوائر رأس المال الكولونيالي على الشعوب السودانية، و الحرب التي خاضها التعايشي أخرجته من التقليد الثقافي قبل الرأسمالي و علمته الجغرافيا السياسية لمجتمع رأس المال. بينما خرج حميدتي من هامش شغيلة حروب زمن العولمة بدون مشروع بخلاف الكسب الشخصي و العشائري. بيد أن وضعية حميدتي المرذولة في بيزينيس الحرب لا تعني فلتانه من قدَر المنازعة الطبقية المعاصرة التي زجت بالسودانيين في حمأة حروب جيوبوليتيك النفط و مسخته كـ"مقاول انفار"،[ إقرأ :مقاول أطفال]، في خدمة متعهدي حروب الشرق الأوسط. و كونه، في مشهد الإرتزاق، بلا مبدئية أخلاقية، فهو "لا يعرف قشة مرّة" . و غياب المبدئية السياسية يمثل نقطة قوته مثلما يمثل نقطة ضعفه في آن، لأنه ،من جهة ، يتقلب بين الكفلاء مساوما و يكسب رزقه ممن يدفع اكثر ،و من جهة أخرى ، لأن مخدّموه لا يضمنون ولاءه.و لو كان للسودانيين من عزاء في هذه السيرة المخزية فهو ربما بدا في إحتمال أن يتوصلوا، مثلهم مثل غيرهم من المضاربين في بورصة حرب النفط، لشراء حميدتي في سوق الله أكبر،.هذه الفكرة المجنونة، فكرة شراء السودانيين لحميدتي تستحق التأني و يمكن النظر إليها من عدة زوايا :
الزاوية الأولى، هي ان يفتح السودانيون إكتتابا شعبيا في عموم أقاليم السودان و في خارج السودان ايضا ليطلبوا من أفراد الشعب السوداني التبرع لـ "صندوق شراء حميدتي».طبعا تبرعات الشعوب السودانية الآملة في السلام و الديموقراطية لن توزن العطايا المادية الكبيرة لسلاطين و ملوك النفط.لكن مجرد إطلاق المشروع و فتح حساب مصرفي باسم " صندوق شراء حميدتي" و المواظبة على تذكير الناس بأهمية المساهمة الرمزية فيه، يضع حميدتي و مخدّميه الدوليين و الإقليميين و المحليين في ذلك الموضع الحرج من وزّة السياسة السودانية و ينهك رصيد مصداقيتهم الأخلاقية في مشهد السياسة..

الزاوية الثانية، تتلخص في مفاوضة حميدتي، بأخوي و أخوك، ليسرح قواته و يسلم سلاحه وينسحب تماما من الحياة السياسية السودانية مقابل أن تضمن له السلطة المدنية القادمة عدم ملاحقته أمام المحاكم السودانية أو الدولية بسبب جرائم الحرب المنسوبة إليه و إلى مليشياته. و هي فكرة تستلهم تجربة " قانون بونتو فينال"[ حرفيا : » قانون نقطة النهاية"] في الأرجنتين، و هو قانون عفو عام [1986]، استخدمته حكومة الرئيس الأرجنتيني " راوول ألفونسين" المدنية لتحقيق الإستقرار في الحياة السياسية من خلال العفو عن العسكريين الأرجنتينيين الذين اقترفوا جرائم سياسية أبان حكم ديكتاتورية العسكر في الأرجنتين [1976ـ1985] . هذه الفكرة أيضا، لا تقل جنونا عن سابقتها، لأن حميدتي، من لحظة انخراطه في بيزنيس حرب اليمن، فهو غادر الحيز السياسي السوداني لينمسخ مشكلة شرق أوسطية. و في مشهد الحرب السعودية الإيرانية الدائرة على ارض اليمن يصبح كفلاء حميدتي من السعوديين و الأماراتيين طرفا اصيلا في المفاوضات التي قد يحاول السودانيون إجتراحها مع هذا الحميدتي. لكن المفاوضين السودانيين،الواقعين من السما سبعة مرات، سيجلسون على طاولة المفاوضات مع السعوديين و الأماراتيين و يقولون لهم: يا حضرات الأمراء الكرام، لو وهبناكم حميدتي و مليشياته بالمرة، فيمكنكم أن تمنحوهم المواطَنة او التابعية أوتناسبوهم أو تعملوا ليهم عقد عمل حربي مدى الحياة، بس تمسكوهم عندكم و تاني ما يعتـّبوا أرض السودان إلا بتأشيرة دخول بدون سلاح. في البداية سيهزّ الأمراء رؤوسهم بالموافقة لأن الصفقة ستنبدو لهم رابحة ، لكن في مستشار سوداني شفت شغال مع الجماعة ، اسمه محمد شنو كدا ما عارف. أها، محمد شنو دا قرّب من الأمير و قال ليه: يا مولاي، الحذر واجب،بلا بلا بلا، عشان لو مليشيات حميدتي قرْضتْ في اليمن، و الله اليمانية ديل مايخلوا فيكم نفـّاخ النار، و لو مكضّبني اسأل عبد الفتاح السيسي قول ليه :إنتو ما لكم اليمن دي زايغين منها؟. بعد هذه النصيحة يهز الأمير رأسه و يهز الأمراء رؤوسهم و يقولوا للمفاوضين السودانيين: يفتح الله يا سوادنة، حميدتي ليس للبيع و نحن نفضل نظامنا القديم، يعني حميدتي يمشي و يجي و يورّد الجنود حسب الحاجة. حينئذ ينهض المفاوضون السودانيون و يهمّون بالمغادرة ،لكن محمد شنو داك يؤشر ليهم و يقول: يا أخوانا باركوها، و صلّوا على النبي، فيقول المفاوضون السودانيون بصوت رجل واحد: ألف على الحبيب.
يقول محمد شنو داك : يا اخوانا أنا عندي فكرة تانية : ليه ما نشرعن الوجود العسكري السوداني في اليمن في شكل حلف أمني و عسكري و استراتيجي دائم؟
تعجب المفاوضون السودانيون لكن الفضول دفعهم لمواصلة الإستماع لهذا المحمد النابه.
قال محمد :
حجيتكم ما بجيتكم. فقال السودانيون : خيرا جانا و جاكم.
قال محمد
"


كل شي يصلح حال البلد والإقليم مفترض نعمله وطبعا بما لا يتعارض مع العهود والمواثيق الدولية.

هناك فرق بين الأماني و الواقع.. نحن ورثنا دولة منهارة وما تزال معظم مؤسساتها المدنية والعسكرية في قبضة كوادر النظام القديم.
لم تسقط بعد معظمنا يعلم.. ولكي تسقط بالكامل لا بد من الانصياع للواقع.
خيال الحرب الباردة لا يحقق المصلحة ولا يرفع من شان القيم بل قد يعطي فرصة إضافية للردة والانتكاس بواسطة فلول النظام البائد.
مشكلة السودان الأساسية في الوقت الراهن هي استمرارية وجود الدولة العميقة.. لا عدالة ولا بناء ولا إعادة إعمار ولا سلام ولا استقرار سيكون ممكنا في وجودها.. مستحيل!.

قوى الحرية والتغيير بما فيها طبعا تجمع المهنيين يستطيعوا ان يفكرو منذ الان بخيال رجال دولة بتوقيع اتفاق مبادىء مع السعودية والإمارات بشرعنة الوجود العسكري السوداني في اليمن عبر حلف عسكري وامني دائم بين بلدان الإقليم ومضاعفة الجنود السودانيين في اليمن حسب الحاجة الميدانية وان تتبع القوات لمجلس السيادة مباشرة بما يحقق المصلحة الأمنية والسياسية والإقتصادية للسودان ويشيع الأمن والاستقرار في الأقليم .. مقابل: اعتراف دول الإقليم ومساهمتها الموجبة في تأسيس حكومة مدنية كاملة في السودان: مجلس سيادة مدني وحكومة مدنية.. أو وقوفها جانب الحياد على أقل تقدير حيال النظام المدني السوداني.

اصلا نحن منذ نصف قرن ظللنا نبيع كفاءات وعمالة لدول الخليج مهندسين واطباء وقانونيين ومزارعين ورعاة الخ وايضا عساكر... نعم عساكر اي جنود محاربين. . جميع وحدات الجيش القطري فيها سودانيين منذ عشرات السنين وكذا بقية دول الخليج بما فيها الامارت والسعودية.. اش معنى الان لا!.
والجيش السوداني حارب في الماضي في المكسيك واليونان وليبيا وارتيريا وفلسطين.. إذن لا مانع مادامت المصلحة العليا متحققة. مع سريان الاتفاق القديم زيادة على شرعنة الوجود العسكري السوداني في اليمن في شكل حلف امني وعسكري استراتيجي ودائم لمصلحة الجميع.. المصلحة المشتركة.

والا فإن الثورة بمزيد من التضحيات ستتجاوز الجميع: المجلس العسكري والدعم السريع وتجمع قوى الحرية والتغيير والإقليم.. ولكن اقصر الطرق نحو السلامة وأكثرها جرأة هي الحل الناجع ونجاح الجميع بلا خاسر فينا!. « 
حين سمع الأمراء هذا الكلام طربوا و صفقوا و انبسطت اساريرهم و نهض الملك و قال : أحسنت يا محمد و خلع عليه بردته و المفاوضون السودانيون واجمون كأن على رؤوسهم الشنو كدا ما عارف.

يا أخواننا هذا الكلام صحيح مية المية و المكضبني يمشي يسأل قوقل في الرابط
https://sudaneseonline.com/board/500/ms ... 09384.html

الزاوية الثالثة، تتمثل في طرح محفوظ بشرى الذي يستدعي تاريخ سلطنة الفونج و يسقطه على مشهد الأزمة السياسية الراهنة على قناعة بأن التاريخ يكرر نفسه أو كما قال :
"..
الآن نحن نقف في النقطة نفسها التي كانت تقف فيها الدولة في تلك المرحلة؛ القوى الثلاث على وشك الدخول في حرب بينها، الجنجويد بقيادة حميدتي، نخبة الوسط النيلي بقيادة قوى الحرية والتغيير، النظام الحاكم بقيادة عساكر الدولة العميقة المسيطرين على المجلس العسكري وعلى الجيش. يُفترض أن حميدتي في مقام الوزير الهمجاوي، فيما المجلس/النظام في مقام السلطان صاحب الشرعية الاسمية، وقوى الحرية والتغيير في مقام الأمين مسمار! « 
و قناعة محفوظ بشرى بأن التاريخ يكرر نفسه ألهمته أن" يُوسّع قـَدْ" الملهاة التي تنتظر السودانيين في ثنايا جيوبوليتيك النفط. فمن اسقاط تاريخ مملكة الفونج على أزمتنا السياسية الراهنة، يسوّغ محفوظ بشرى الفكرة الأكثر جنونا من كل الأفكار السابقة، و التي تتلخص في ضم حميدتي [ بسلاحه؟] لجمهور المعارضين السلميين الذين اجترحوا الحركة التي أجلت عمر البشير، مخدّم حميدتي السابق.
غايتو، أصلها عايرة و جا محفوظ أدّاها سوط تاني..
سأعود
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

من صفحة محفوظ بشرى في الفيسبك:




مقدمات حول السودان والثورة

الكراسة الأولى



(جرى هذا الحوار في الفترة منذ اندلاع الثورة وحتى أوائل مارس 2019 بين محفوظ بشرى وعمار جمال، ورغم تغير الكثير من المعطيات منذها إلا أننا فضلنا نقاشها في كراسات تالية من دون المساس بالاتجاهات التي سار عليها النقاش الأول وما أفضى إليه)..




عمار جمال:
فلنبدأ من هذه النقاط أولاً: ما هي العملية الثورية؟ العلاقة بين النظرية والممارسة، التكتيكي والإستراتيجي، الوسيلة والغاية، ما العدل في تعبئة الشارع والشباب من تنظيم غير ملموس؟ أقصد الشبحية الكفاحية المبثوثة في بيانات تجمع المهنيين؟

محفوظ بشرى:
أولاً، إن النظر إلى الحراك الحالي بعيداً عن كونه رد فعل للطبقة الوسطى (نستصحب ما قالته ويني عمر*)، على فقدان امتيازاتها سيغطي على قدرة النفاذ إلى الحدث وتشخيصه ووصفه. الطبقة الوسطى المنتفضة هذه، هي نفسها التي كانت تثبّت النظام وفق الاتفاقية الضمنية (توفير المعيشة مقابل الصمت)، وهذه الطبقة هي نفسها التي يعبِّر النظام أصلاً عن مفاهيمها، حتى الوحشية منها. لذا فإن التسرّع في اعتبار ما قامت به هذه الطبقة ثورةً، خطأٌ فادح في نظري، وهذا يقودني إلى النقطة التي أشرت أنت إليها أولاً؛ ما هي العملية الثورية؟ أو بمعنى آخر: كيف يمكن لأي حراك أو رفض أن يتحول إلى ثورة؟
تحليل المقدمات، وتحديد نقاط تلاقي واختلاف الفئات التي مثّلت التيار الرئيس للشارع، وعلاقتها بالفئات السياسية القائمة سلفاً، ومن ثمّ خلفياتها، سيشكل كل ذلك طريقاً أولياً للقراءة.
"العملية الثورية" في نظري، هي عملية تحويل متزامن للحراك، والمفاهيم التي ينتجها في جدله مع المفاهيم الأولية التي أدت إليه، باتجاه تصاعدي قاطع مع تصوراته القاعدية، ومفتوح على نتائج وأهداف متحوِّلة، بحيث تتواءم مع الأوعية الممكنة في حركتها المستمرة.
هذه القراءة تجعل من الضروري إعادة النظر المتكررة في سؤال العملية الثورية، مقروءاً من نافذة الحراك الحالي، وأن يتم تحليله نظرياً في كل دورة من دورات تحوله.

عمار:
طيب، سأبدأ بفكرة قالها جورج أورويل، هي أننا كلنا نرفض التمييز الطبقي، ولكن قلة قليلة من الناس تريد بجدية إلغاءه بالكامل. هنا سنصل إلى حقيقة مهمة، وهي أن كل رأي ثوري يستمد جزءاً من قوته، من قناعة سريّة بأنه لا يمكن تغيير أي شيء. ولو دفعنا بهذه الفكرة صوب السودان، ستتضح لنا صورة جلية، هي كلامك أعلاه، والبرهنة هي عدم قدرة التجمع على قيادة الحراك، عدم قدرة وليس ذكاء ثورياً.
الطاقة المتوافرة حالياً أضخم من مقدرة التجمع، هذا أمر واضح. لماذا ليس قادراً؟ هذا هو السؤال المهم. هنا سنرجع إلى السؤال البديهي خلف كل لحظة تاريخية: من هم أصحاب المصلحة؟
وللأمانة، أنا دائماً أتخيله كفيلم خيال علمي. طاقم فنِّي (قُل مهني) على الأرض يجلس خلف أجهزة تقنية، أرسل أول فريق لاستكشاف كوكب جديد. سيستمد الطاقم على الدوام شرعيته العلمية من وجود تدفق مستمر للمعلومات من الأشخاص هناك في الكوكب الجديد، رغم علمه التام أن الناس سيتذكرون قاقارين وليس الطاقم.

محفوظ:
قلتُ من قبل إن التجمع سيصعب عليه تجاوز شرط تكوّنه (2)، إلا إذا تطور بسرعة لاستيعاب الحراك وتمدده. كذلك أضيف أن طبيعة تكوينه من "المهنيين" حتمت عليه لظروف تاريخية كثيرة أن يكون معبِّراً عن مفاهيم طبقة بعينها تغذي هذه المهن، لذا فإن اعتباره التعبير الأنصع عن الطبقة الوسطى هو بداهة لا تحتاج إلى نقاش.
أما أصحاب المصلحة الحقيقيون في التغيير، فهم حتى اللحظة خارج خطاب التجمع، وخارج مخيّلة (الثوار). السؤال بصيغةٍ أخفَّ هو: من هو صاحب المصلحة في أن تصبح الدولة مستندة إلى القانون والمواطنة فقط، وليس إلى الامتيازات الاجتماعية؟
ومن ثمَّ: هل أقنع خطاب التجمع/خطاب الثورة الحالي، أي شخصٍ، بأنه ستحدث (ثورة)، أي أن الامتيازات الاجتماعية سيتم إلغاؤها هي والبنى المحافظة عليها المسماة مجازاً "الدولة"؟
التجمع يلهث لملاحقة التطورات على الأرض ليعبِّر عنها، دون أن يبذل جهداً في توجيهها، لأنه ببساطة يفتقد الوجهة الواضحة المتينة. في الوقت نفسه لا بديل له في ظل إجماع الفاعلين في الشارع! إنها معضلة "عود العشر"، أليس كذلك؟
عندما كنا نتحدث عن"نظرية ثورية"، جاءت قصة المجتزأ من الهتاف الذي يحتوي على عبارات "العرقي والبنقو"(3)، لتفضح ردودُ الأفعال التسترَ الذي تقوم به أيديولوجيا الطبقة الوسطى خلف قناع "الثورة"، وهو مثال يجعلني أشك في كل المعاني العالية المتصدرة للمشهد حالياً، نسبة لمتطلبات الظرف، لكنها تظل أقنعة هشَّة تخفي خلفها الوجه القديم نفسه.
الثورة هي أن يتم التخلص أولاً من كل نظام المثاليات القديم، هي تغيير أيديولوجيا الطبقة الوسطى النيلية، ومفاهيم العرق الأعلى التي يتم بناءً عليها الآن تخليق خطاب التجمع، ومن ثم خطاب الثوار.

عمار:
هذه نقطة مهمة جداً؛ العلاقة الكامنة بين قدرة التجمع في بداية الحراك على ملء الفراغ، ثم عدم زحزحة التجمع لنفسه.
نأتي هنا إلى ضرورة وضع مخطوطة نظريّةٍ لماهيةِ العملية الثورية.
التالي هي فكرة تكلَّم عنها جيجيك، عن ثالوث جدلي للعملية الثورية: "يقدم الغضب، والتمرد والقوة الجديدة، نوعاً من الثالوث الجدلي للعملية الثورية. هناك أولاً غضب فوضوي: الناس غير راضين ويظهرون ذلك بطريقة عنيفة إلى حد ما، ولكن دون أي هدف أو تنظيم واضح. عندما ينتظم هذا الغضب، نحصل على تمرد بقدر أدنى من التنظيم، ووعي أكثر أو أقل وضوحاً بهوية العدو، وما الذي يجب تغييره. أخيراً، في حال نجاح التمرد تواجه القوة الجديدة المهمة الهائلة المتمثلة في تنظيم المجتمع الجديد".

محفوظ:
لا بد أن ننتبه ونميز بين التثوير، وبين العملية الثورية، لئلا يضيع الطريق علينا هنا.
في ما يخص المرحلة الثانية؛ انتظام الغضب، يمكننا القول حالياً إننا هنا، ولكن.. "ما الذي يجب تغييره"، ليس بوضوح "هوية العدو"، وهذه الأخيرة ذاتها ضائعة وسط تعريفات العدو المتعددة. أظننا حتى الآن ننظر بغضب إلى "رأس جبل جليد العدو". حتى الآن لست قادراً على الانفكاك من النظر إلى النظام الإنقاذي كإنتاج سوداني خالص، جذوره قديمة تغذيها المراوغات، ومحاولة صنع حقائق بديلة. أي فعل للنظام له أب شرعي وجدٌّ شرعي، في فترة الحركة الوطنية، في المهدية، في التركية/السودانية، وفي تجربتي الدولتين الأطول عمراً، الفونج والفور.
لا جديد، كل الأشياء التي يفعلها النظام، هي "عادات وتقاليد". لذلك النظر إلى النظام وكأنه نبت شيطاني هي نظرة لا تخلو من شوفينية تمجيدية تطهرية، أشد ضرراً بأي عملية ثورية، الآن ومستقبلاً، من أي عدو مباشر.
ما هي العمليات الاجتماعثقافية، التي أنتجت النظام في دوراته التاريخية المتعددة هذه؟ هذا هو العدو.

عمار:
إنه رد عبد الله بولا، على الطيب صالح، في "شجرة نسب الغول".

محفوظ:
أشدّد على ضرورة اكتشاف العمليات الاجتماعثقافية التي تنتج النظام نفسه في كل مرة، إنها العدو الذي يجب قتله.

عمار:
طيب، ما علاقة هذه العمليات بإنتاج الثروات؟ ولأكون واضحاً، فإن الثروة ليست محصورة في يد المسلم العربي الشمالي. يجب تخطي فكرة أبكر آدم القائلة بأن وجود المهمشين في هرمية السلطة هو مجرد ترميز تضليلي، لأنها غير كافية من وجهة نظري.

محفوظ:
نحتاج أولاً إلى النظر في ماهية الثروة في السودان. هل هي الأرض، والأرض النيلية، أم غير ذلك؟
من أين جاءت سيطرة مجموعات محددة على الوسط النيلي أولاً، ثم من بعد على كامل السودان؟
ولماذا تم تمكين/ مواصلة تمكين هذه المجموعات في عهد التركية، ثم في عهد الإنجليز؟
عن ماهية الثروة؛ بالرجوع إلى حقبة الفونج، نجد أنها – الأرض - كانت المستودع الرئيس للثروة والجاه، وحظيت الأرض النيلية بأهمية خاصة، لدرجة أن أي أرض على النيل كانت حكراً للسلطان، يُقطع منها من يشاء وفق الشروط التي يشاء.
لماذا كان غالب الإقطاع للفقهاء؟
كذلك على المنوال نفسه سارت إقطاعات حكام الأقاليم "المشيخات" في قرِّي، خشم البحر، الشنابلة،... الخ.
بشكل أو بآخر، فإن هيكل الحكم الذي ساد في فترة الفونج، هو الذي يسود – في جوهره - حتى اليوم رغم تهجيناته الاضطرارية الحادثة مع هياكل الدولة الحديثة، وتبعاته الاجتماعية هي المحدِّدة لعلاقات السلطة والثروة الآن مثلما كانت سابقاً.
تحت السلطان كان الشيوخ؛ حكام الأقاليم، وتحت كل شيخ المكوك الذين يحكمون مناطق قبليّة، وتحت كل مك أرابيب (جمع أرباب) يحكمون ما يمكن أن نسميه بلغة اليوم (وحدة إدارية)، وتحت كل أرباب شيوخ حلة وشيوخ سوق.
كل هذه المناصب، ظلت محصورة في أسر وقبائل بعينها، كمحاصصة منذ التحالفات الأولى المكونة للسلطنة، أو لتحالفات لاحقة أثناء التحولات السياسية التي شهدتها القرون الثلاثة التي سادت فيها.
هذا الهيكل كان بذرة السلطة الأولى، وفي كل مستوياته وعلى عدة مراحل، تحالفت هذه السلطات المتراتبة مع رجال الدين، وفق عقود مضافة.
كل هذه السلطات تتحرك في محور تمثل الأرض نقطته المركزية.
وبالنظر إلى علاقات الإنتاج القائمة وقتها، والمستمر بعضها حتى اليوم في جهات كثيرة، نفهم جدل العلاقة بين مالك الأرض وعمالها، وكيف تصنع التراتبية الاجتماعية القائمة حتى اليوم، تحت حجاب الإحساس العالي بالمساواة الذي تناوله د. حيدر إبراهيم من قبل.
سبولدينق اتخذ من المجاذيب مثالاً لصعود الأيديولوجيا الدينية للمستعربين والامتيازات المترتبة عليها، ومن ثم تراكم إقطاعاتهم من الأرض، دون إهمال علاقة الأرض والرقيق بالثروة المادية إلى آخره، مبيناً العلاقة الجدلية لاقتصاد هذه الأسرة بنفوذها الديني والاجتماعي والسياسي.
ملاحظتي أن أفراد هذه الأسرة ظلوا مؤثرين لقرون في تثبيت الامتيازات، ليس عن وعي مباشر بالضرورة، ولنا أن ننظر إلى إسهام عبد الله الطيب ومحمد المهدي المجذوب بعين أخرى إن شئنا.
كان مثالاً جيداً هذا الذي استخدمه سبولدينق، وإن افتقر إلى تفاصيل كثيرة في رأيي، كما أنه تعامل مع "الحركة الهيكلية" للقصة هذه بعين الأوروبي ومفاهيمه، فابتعد كثيراً عن استيعاب مدى عمق تجذرها وأثرها – أعني التفاصيل المهملة.
الثروة في فجرها الأول كانت في يد المسلم عن طريق هبات السلاطين، هذه نقطة أساسية، بعد ذلك أن يكون المسلم شمالياً أو غربياً أو غيره؛ فقد تم افتراض أنه عربي، وفق ظروف تاريخية معروفة، بدأها المانجلك برفع القيمة الاجتماعية لـ "ورقة النسبة" عقب رحلة حجه الأسطورية، ثم صارت آفة ضربت بنيان المجتمعات السودانية الوسط - نيلية كلها لاحقاً.
الحديث عن إقطاعات سلطنة الفور، يحتاج إلى تخصصية أكثر لا تتوافر عندي بعد، إلا أن ثمة ملاحظة كيف كانت للفقهاء العرب أولوية فيها ربما، ويحضرني هنا العلاقة بين التمباك (العماري) والفقية حسين ولد عماري الدارس في الأزهر وعاش في زمن السلطان محمد الفضل سلطان الفور. كذلك لا أنسى التنبيه إلى أن بيت الكيرا الفوراوي الحاكم ينتسب إلى العرب بالطريقة نفسها التي انتسب بها سلاطين الفونج: أسطورة الغريب الحكيم.
إذن، يمكننا بقليل من التعميم دون خوف الإخلال، القول إن الطريق إلى السلطة ومن ثم الثروة في أكبر سلطنتين حكمتا السودان، ظلّ هو الإسلام والعروبة. ما الذي أجبر سلاطين الفونج الوثنيين لاحقاً على اعتناق الإسلام واصطناع نسب عربي أموي لم يكن موجوداً لدى السلاطين الأوائل؟

عمار:

المشكلة هي أن الأرض النيلية ليست أرض تراكم رأسمالي، فهي ضيقة وتتفتت مع التوارث، وواضح أنها لم تكن ذات أهمية للعرب الداخلة. مثلاً، نجد أن الهوسا هم أصحاب البساتين على ضفاف النيل الأزرق جنوب مدني، رغم هجرتهم المتأخرة في ديموغرافيا السودان، بينما العرب الأقدم في المنطقة تركوها نزوحاً نحو البطانة. بالتالي لم تكن الأرض ذات أهمية في أمر هيمنة العرب على الوسط النيلي.
دائماًما كنت في شك كبير، في ما يخص موضوع أهمية الأرض في السودان، وأرى أنه سرق منا تحليل الأهم: وهو التجارة. السيطرة على طرق التجارة، كانت على الدوام أهم من الأرض.
الأرض جاه ومفخرة، لكنها لا تصنع ملوكاً. ربما استخدم الملوك الأرض للحرز والتوزيع السكاني، وما يترتب عليها من علاقات القوى وبنى وطوبولوجيا السلطة، لكن الأرض نفسها لم تخلق الدولة في السودان. أما محاولة إسقاط نمط الإنتاج الآسيوي بغية فهم ديناميات ممالك النوبة القديمة، رغم الجدارة الممكنة، لكنه لا يمنحنا منظوراً للتطور.
ما ينقصنا دوماً هو رسم الخرائط: طرق التجارة، مسارات الحجيج، الهجرات، تبادل الزواج بين الممالك الإسلامية لعصور السودان الوسطى، إستراتيجيتهم في المعارك، واستلاب الممرات العسكرية والتجارية... الخ. كيف لم تُقيَّض الأزمنة لهذه البلاد أن تنجب خرائطياً للهيستوغرافيا التراجيدية هذه؟!

محفوظ:

ما أخلص إليه من كل هذا السرد بإضاءاته ونقاطه المظلمة، أن الصراع حالياً ذو وجهين: الأول هو محاولات الأسر القديمة استعادة امتيازاتها المالية والسلطوية التي فقدتها، مما يدفعها لتأييد محسوب لأي تغيير للسلطة القائمة، الوجه الثاني هو تثبيت "الحق الاجتماعي الموروث" وامتيازه، لئلا يتزحزح بفعل أي ثورة حقيقية من "الرعاع"، وهذا واضح من حركة المهدي وعرمان(4) في هذه الأيام.
التجارة كانت تحت السيطرة التامة لشيوخ الأقاليم، وقوافل سنار تحت سيطرة السلطان نفسه، حتى الأسواق معيَّن لها شيخ ذو سلطة كبيرة لجمع الضريبة اليومية. القبضة السلطوية في فترة الفونج على التجارة، أدت بالحالمين في الكسب السريع للنزوح صوب التخوم الجنوبية، التي يعد الرقيق أهم مستودعاتها التجارية كما بين سبولدينق. تاريخ الرق في السودان مهم جداً لقراءة الخريطة الاقتصادية كما نعلم، لكنه مهم أيضاً لاستقراء أنماط التطور الاجتماعي وتخلق المفاهيم.

عمار:
نعم مهم، مهم جداً.

محفوظ:

تذكَّر البكاء النوستالجي على مشروع الجزيرة، وما يحمله من شوق للقنانة الحديثة التي كان يمثلها، مقروءاً مع مشروع محمد علي مهلة(5).
بالعودة إلى الخيط الذي كنا فيه؛ كل القراءات الاقتصادية والاجتماعية مبنية على وجود عربي في السودان. وهذا أمر لدي فيه شك عظيم جداً، جينياً، ثقافياً... الخ. يمكن الرجوع إلى بحث الدكتور أحمد إلياس (السودان: الوعي بالذات وتأصيل الهوية- 3 أجزاء). فلو حولنا المعادلة ليصبح طرفها الثاني "المستعربون"، وحددنا غلبتهم بأواخر حقبة الفونج، فإن نتائج وفتوحات كبيرة جداً أؤمن أنها ستظهر من القراءة الجديدة لما لدينا من معلومات.
بالعودة إلى الحديث حول الطبقة وامتيازها، أظن أن النظام الإنقاذي نفسه – الذي قاده ضباط وإسلاميون تجار وموظفون وأكاديميون - كان واحدة من محاولات الاسترجاع التي تكلمنا عنها أعلاه. خضعت له الطبقة الوسطى، الخاضعة مكوناتها تاريخياً لمكوناته، وأخضعت لأجله بقية المكونات المنافسة أو المارقة. خطاب النظام التأسيسي الذي طرحه منذ البداية، كان صدىً لمفهوم الامتياز الاجتماعي القديم، بساقيه: العروبة والإسلام.
تم التخلص على مراحل من بقية المكونات الديكورية، والتحالفات المبنية خارج حظيرة الامتيازات تلك، وكما اكتشف داود بولاد من قبل، أن الدم أثقل من الدين، اكتشف آخرون أن الدم والدين أثقل من المواطنة.
النظام الحالي، والنظام المقبل، هما إعادة إنتاج للعقد الاجتماعي المكتمل في سودان القرن الثامن عشر.
اليوم، القوى المناوئة هي إما منافس تاريخي للقوى المسيطرة داخل الجغرافيا السياسية نفسها (أولاد عرب المدن وأرستقراطيو الريف)، أو من القوى المسيطرة نفسها الخائفة من إزاحتها لو تم إسقاط النظام عن طريق منافسيها (إسلاميون عروبيون من المجموعات نفسها)، أما الخطابات الرومانسية المتناثرة هنا وهناك، فتم إنتاجها بوصفها إداة صراع لا أكثر، مثلما حدث ويحدث في المحكَّات المفصلية دائماً، "كل البلد دارفور، من كاودا لأمدرمان"... الخ، ويمكن ملاحظة التوجس الخفي من القوى المسلحة والمجموعات التي تمثلها، وعدم السماح لها بدور حقيقي في الحل، المطلوب منها تقبل (مِنَّة) الحل كما يريدها أولاد وبنات الوسط النيلي، وليس أن يحصلوا على (حق) المشاركة الهيكلية في رسم المستقبل.
كنموذج صالح للنظر: من أين يستمد المهدي والميرغني نفوذهما على الناس اليوم؟ طبيعة نفوذ كل واحد منهما مختلفة عن الآخر، بينما الميرغني يتمثل رأسماله الرمزي في القول بأنه سليل العترة النبوية، ما يعني أعلى درجات تحقق الأيديولوجيا العربية الإسلامية؛ نجد المهدي أكثر تعقيداً في امتداد نفوذه عبر مجموعات لا تنتمي إلى هذا المفهوم بشكل رئيس (يراجع أثر الغريب الحكيم على بنى التفكير في منطقة نفوذ المهدي الكبير)، وإن كان جده اصطنع نسباً شريفاً في سعيه للصعود إلى قمة الهرم الاجتماعي بامتيازه الثقافي الذي يؤهله لإخضاع مجموعات كبيرة له، إلا أننا بحاجة للانتباه إلى الدور (الثوري) للمهدية وقتها، حين حدث التمايز بين عرب الوسط النيلي المسلمين المعادين للمهدية، ومنفيي التخوم المخرجين من معادلة الامتياز الاجتماعي وقتها، ممن مثلت لهم المهدية فرصة للصعود وتحصيل الامتيازات التي كان يحوزها (أولاد البحر) أعداء المهدي، الذين لم يفلح في إقناعهم بتغيير علاقات السلطة التي كانت قائمة بينهم والأتراك ومن ثم المجازفة بامتيازاتهم، مما دفعه لالتماس تأييد مناوئيهم، بل والفئات الواقع عليها الظلم التركي من فقراء أولاد البحر أنفسهم، مؤملاً خروجهم على رأي قادتهم. من هنا، النظر في تركيبتي الطائفتين اليوم يرينا شكل الصراع المستمر منذ وقت بعيد، وهو ذاته الصراع الذي تكلمت عنه في البداية، والحاصل اليوم أيضاً في جوهر الحراك الآن.
إن توافق المهدي والميرغني على دعم النظام كل بطريقته، له دوافع مختلفة جداً. المهدي يرى سقوط النظام دون أن يرثه هو، خسارة فادحة، بينما الميرغني من مصلحته استمرار النظام بشكله الحالي، فهو تعبير عن مطلوباته في الأساس، وسقوطه سيصعد بأعداء له، أو بمنافسين له على امتيازاته من داخل مجاله الحيوي، الأوائل سيلغونها، والأخيرون سيقاسمونه حصته.
لا بد من فهم تركيبة القوى المشاركة في الحراك، ولا بد من معرفة من الذين يعبر عنهم التجمع بالضبط، ولماذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
* كتبت ويني عمر على صفحتها في فيسبوك بتاريخ 26 مارس 2019: "نقتسم الخبز والأغنيات..
الثورة دي ابتدت ودروت بشدة لانو الطبقة الوسطى واجهت مشاكل حقيقية بالنسبة ليها، ماف قروش في الصرافات، ماف جاز وبنزين في الطرمبات او في طوابير طووويلة وبتمسك زمن، ماف عيش في الافران، الطبقة الوسطى بقت تتحصل على كل احتياجاتها الأساسية بمشقة أو ما بتتحصل عليها من اساسو.
في نص دا، في طبقة أصلا كانت معدمة، بشكل أساسي هي متأثرة بسياسات الإنقاذ الاقتصادية المتخبطة، وبمعدلات التضخم العالية وضعف العملة المتواصل، الطبقة دي أزمتها ماشه في تردي مستمر مع الوضع المتدهور يوم ورا يوم، ومعظم الفئة دي بنسائها ورجالها واطفالها شغالة في القطاع الاقتصادي غير المنظم، شغلانات رزق اليوم باليوم، كانت بتكافح باستمرار من أجل الحياة الكريمة وتغطية حوجاتها الأساسية.
إذا دخلنا عامل الثورة والتظاهرات المستمرة وكيف انها بتأثر على أعمالهم اليومية دي بحيث انو مداخيلهم اليومية بتقل فعلا بشكل مؤثر بالنسبة ليهم، بالإضافة لمسألة ضعف القوة الشرائية عموما، لانو كل الناس وكل الفئات اتأثرت بالهزة الاقتصادية دي، ح نلقى انو وضعهم بقى كارثي عديل كدا.
العاوزا اقترحوا هنا هو البدء في تنظيم شبكات تضامن اجتماعي صغيرة صغيرة في الاحياء والمناطق المختلفة، شبكات التضامن كانت مهمتها تاريخيا انها تحاول تسد حوجات الافراد لمن تكون في ازمة عامة، مبنية على فكرة المشاركة والتشارك فيما هو متاح، ودايما كانت بتنقذ الناس وبتخليهم يقيفوا مع بعض في وش الازمة.
الهنود خلال المجاعة الكانت البدت في 1943 بسبب الاستعمار البريطاني وسياساتو في الهند، واستغلالوا لكل الموارد الموجودة وتصديرها لبريطانيا وحرق مخازن الرز والأراضي الزراعية وتواطؤ ضد إيصال أي معونات للهند (دي قصة طوويلة ومؤلمة غايتو) المهم، الهنود، وكطريقة للنجاة، اسسوا حاجة اسمها الـ community kitchen او مطبخ المجتمع يعني، كان أي زول من حقوا انو يجي يشيل اكل من المطبخ دا، او يطبخ فيهو اكلوا، او يخت اكل فائض عن حوجتو. الطريقة دي انقذت الالاف من الهنود من الموت جوعا، لحدي ما شدوا حيلهم وقدروا يبدوا زراعة مزارع الرز من جديد.
بعد دخول ثورتنا ليومها المية واستمرارها لما بعد ذلك، لازم نفكر في طرق نجاة جماعية، عشان ما نكون بنقاتل في الإنقاذ بس وبنصنع في الراعي الوشى ضد جيفارا داك في نفس الوقت.
عليه اقترح الاتي:
- زي مافي لجان مقاومة بتاعت احياء مهمتها الترتيب التنسيق للتظاهرات والفعاليات الاحتجاجية التانية، يكون برضو في لجان تضامن يكون شغلها جمع تبرعات بسيطة (مادية او عينية)
- والحاجة دي ممكن يكون اسمها (صندوق الحلة) يكونو مسؤولين منها ناس محددين ومعروفين وااي زول ممكن يصلهم.
- لانو نحنا فاهمين شخصية الانسان السوداني/ة وحساسيتهم العالية مرات تجاه أي مساعدة، ممكن الناس تتفق وتخت القروش والحاجات عند سيد الدكان في الحلة والناس بتكون عارفه وبتجي تشيل حوجتها وتمشي عااادي.
- ممكن برضو في الاحياء اللي الناس فيها بتعرف بعض كويس، يكون في زول محدد كدا يحوم أسبوعيا ويدعم الاسر بمبالغ معقولة كدا من صندوق الحلة.
- نختهم في بالنا دايما لو في اااي فرص شغل او طرق توفير دخل هم/ن ممكن ينخرطوا فيها.
او أي طرق أخرى يراها الناس مناسبة.
المهم، الثورة دي من أعظم الحاجات الحصلت فيها انها خلقت وعي جمعي بإنو الاستغلال الحاصل دا ما حالة فردية، وانو دي مظالم عانى منها الجميع (بدرجات واشكال مختلفة طبعا)، لكن الإحساس الجماعي دا هو لب تخلّق ثقافة المقاومة. ف خلونا نمشي بالاحساس الجماعي دا خطوات لقدام كمان، ونكون حساسيين/ات ومتضامنين على مستوى التفاصيل اليومية البسيطة.
Ps: الخلاني اكتب البوست دا اني صحيت وعاوزا اعمل شاي الصباح ( وانا انسانة اقدس الشاي باللبن من الصباح) ف اكتشفتا انو السكر بتاعي خلصان واني نسيت اشتري سكر :( ، المسألة دي عكرت مزاجي لثواني كدا، لكن خلتني افكر في جموع كبيرة من الشعب السوداني اللي ما قادره تصل للحاجات الأساسية دي لانها بقت غالية وعبء حقيقي عليهم ولانو أعمالهم/ن ووسائل معيشتهم/ن اتأثرت".
(2): كتبتُ في 6 يناير على صفحتي الشخصية في فيسبوك: "تجمع المهنيين في رأيي وصل أقصى حدود قدراته، وما لم يتطور، ونساعده على التطور ليعبر إلى مرحلة جديدة فسوف يستنفد قدرته على الفعل، وبالتالي سنكون قد استنفدنا هذه الأداة"، وفي 16 مارس: "إنني أرى أن التجمع بحاجة الآن ليتطور بحيث يستوعب ما هو خارج شرط تأسيسه (لا ننسى أن معركة التجمع الأساسية كانت الأجور، كما أن معارك مكوناته تتصل بقضايا مطلبية تخص كل كيان، صحفيين، أطباء، الخ)، وإن لم يستطع التطور، فالأجدى تحديد مجال حركته بشكل صارم" (م.ب).
(3): في مارس الماضي تم تداول مقطع مجتزأ من هتاف (كولينغ) يقول: "العرقي يكون مجان .. البنقو محل الشاي .. عايش مسطول يوميّة" للتدليل على أن الثوار يدعون إلى "الانحلال" وأن أهداف الثورة تدمير المجتمع. وبغض النظر عن اجتزاء المقطع من قصيدة طويلة ليعبر عن قيم مختلفة عما أراده الشاعر أو متفقة معه؛ فإن الدفاع النخبوي الذي اعترى الفيسبوك مبنياً على أن المقصود ليس ما تم إيراده؛ يفضح بنية تفكير تقليدية ستنكص من الثورة في حال تحركها لزعزعة مثل هذه البنى، وهو تحرك حتمي.
(4): تناولت الأمر في كتابة بعنوان "أوليست الثورة إقصاء" نشرت على صفحة الصديق علاء الدين محمود في فيسبوك يوم 23 ديسمبر 2018 (م.ب).
(5): يعمل محمد علي مهلة على تبيان الظلم الاجتماعي الفادح الواقع على عمال الكنابي في المشاريع الزراعية، إن رؤيته لتغيير واقعهم تنتمي إلى روح الحركات الاجتماعية التحررية الكبرى في نظري.






------------------------------

https://www.facebook.com/maf.abdelrahma ... 6062190346
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

في مسألة وحدة السودان

محفوظ بشرى



فلنبدأ بالسؤال البديهي: لماذا يجب أن يظل السودان موحداً؟ لا أظن أن أحداً فكر في الإجابة بعيداً عن السيمفونية العاطفية التي ظللنا نسمعها منذ الطفولة. ظهر هذا العجز عن الإجابة، حين انفصال/استقلال جنوب السودان، فلم تكن في كل الحبر الذي أريق، حجة واحدة خارج نظرة "الأفندي" والتاجر إلى الوحدة، فتم التعويض عن ذلك العجز بأغنيات عاطفية تتهرب من الإجابة، ثم خفت خطاب الوحدة وتضاءل إلى أمنيات بإرجاع الزمن وإعادة تلك الوحدة المستحيلة في ظل الظرف الذي يعيش تحته السودان: الدولة والمفهوم.
يُفترض – وفق تعريف ويكيبيديا على الأقل - أن السودان دولة فيدرالية "اتحادية"، لكن الحقيقة هي أن السودان ظلَّ دولة مركزية خانقة، يتحكم فيها نخبة من السياسيين ضيقي الأفق، ولوردات الحرب الأهليين، وجنرالات القوات النظامية، وممثلي مصالح المنظمات، والشركات، والدول.
لكل واحد من هؤلاء ما يدفعه لإحكام قبضته بالاتفاق مع حلفائه الآخرين؛ على جغرافيا السودان الجريحة بخيبات الأمل التاريخية، التي يجد فيها مواطنو الهامش الموت خلف كل ظل، دون أن يحلموا حتى بحقوقهم الإنسانية الرئيسة، ناهيك عن رفاهية يعد بها الطفيلي المركزي المسيطر طوال 65 عاماً، دون أن يفي الناس خارج نظامه البيئي الخاص شيئاً سوى الرصاص وقنابل الطائرات وهجمات المليشيات.
أود أن أنوه إلى أن "الهامش" هنا، رغم التصاقه كثيراً بأطراف السودان الحالي، إلا أنه يمثل أيضاً في نظري أولئك الموجودين خارج الأوليغارشية الطفيلية المركبة من أحفاد تجار الرقيق، وسياسيي الفرصة الأولى أبناء "الأسر القديمة"، وحاملي السلاح الداخلين ضمنها بـ "ضراعهم".. الهامش هو من يعيشون خاضعين قسراً للنظام "مصاص الدماء" وميكانيزماته التي لم يزحزح منها تغييرٌ مُدَّعى ترساً.
رغم الزعم بفيدرالية السودان من عهد البشير وإلى اليوم، إلا أنه لم يعشها قط، على الأقل منذ استيلاء الطفيلي المركزي المذكور على السلطة في 1/1/1956. ظل السودان دولة تحكمها مركزية شائهة حولته إلى مزرعة تدر الربح المادي والمعنوي على أوليغارشية الأفندية التجار، ومن ثم ظلت تحكمه آليات المزرعة المعتادة، ولا يهم – مثلما عبَّر عاطف خيري – إن كان واجهة تلك الأوليغارشية "ذو اللحية" أم "حليقهم"[1].
تعني الفيدرالية في أبسط ما تعني "شكلاً من أشكال الحكم تكون فيه السلطات مقسمة دستورياً بين حكومة مركزية ووحدات حكومية أصغر"[2]، حيث يكون للأقاليم والولايات "نظامها الأساسي الذي يحدد سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية"، وتكون ذاتية الحكم الإقليمي منصوصاً عليها في دستور الدولة "بحيث لا يمكن تغييره بقرار أحادي من الحكومة المركزية"[3].
من الواضح أن هذا ليس ما يحدث في السودان، ودعونا لمرة نتخلص من شماعة الفشل السهلة بإلقاء اللوم دائماً على البشير ونظامه، فمن المفترض أن النظام الذي خلفه يمتلك القدرة، أو الرؤية على الأقل؛ لتغيير ذلك، لولا أنه نظام "بغل"، هجين بين العساكر، والمليشيات، ومدنيي الطفيل المركزي وأبناء بيئته.
إن نحينا جانباً مبررات الطيب مصطفى إبان دعوته لانفصال الجنوب، وإغواء إسقاطها على ما أود قوله، وأيضاً إذا ابتعدنا عن المحفوظات المدرسية المنتجة في بخت الرضا لتكريس النظرة الانتهازية الاحتيالية إلى أقاليم السودان (أعتقد أن منهج بخت الرضا إن كان الذي درستُه في الثمانينيات أو المنهج الجديد الذي درسته الأجيال اللاحقة، هو منهج موجّه للحاضنة البيئية للطفيلي المركزي، وليس لعموم السودانيين، ليتعلم أطفال هذه الحاضنة كيف ينظرون إلى أطراف السودان كمستودعات ثروة، بلا اهتمام بإنسانها إلا في حدود استغلاله لجني تلك الثروة،... لكن هذا موضوع آخر)؛ فإن بمقدورنا النظر بتجريد للحالة السودانية المختلة في فرادتها.
الحقيقة التي أراها، هي عجز السودانيين حتى اليوم عن العيش مع بعضهم، في وجود المحددات الاجتماعية لدى شعوب السودان، التي يستحيل معها قبول التساوي بينهم، ليس عن طريق وضعه ضمن قانون مكتوب من السلطة، بل كناتج ثقافي لوجود هذه الشعوب في الحيز نفسه لقرون.
السودانيون منفصلون عن بعضهم سلفاً، ويفتقرون إلى الوعي القومي اللازم لبناء دولة واحدة، وهو افتقار أسهم استغلال الطفيلي المركزي المستمر له، في ترسيخه أكثر، فلا يعني السودان – كانتماء مشترك - شيئاً وسط المجتمعات، ومن ثم لا يعي أحد نفسه بوصفه "سودانياً"، بل إن الوعي بالذات متباين جداً بين شعوب السودان، والمشتركات الجامعة بينها نادرة، ولا تتغلب على؛ أو توازي تلك الجوامع التي تحزم عدة قبائل مع بعضها ضد الآخر.
أما على مستوى الممارسة السياسية، فقد ظلت معرفة العصبة الحاكمة في الخرطوم بالسودان وشعوبه، معرفة ناقصة ومتعالية ومكرِّسة للتخلف، لا ترى في السودان سوى حقل إنتاج يغذي الطفيلي المركزي الذي يعبّر الحاكمون عنه دائماً.
استمرت حرب الجنوب لنصف قرن، وانتهت بانفكاك جنوب السودان من أسر الطفيلي المركزي السوداني، بعد خسائر بشرية هائلة. إلا أن الجنوب ليس الأخير، طالما تستمر سياسة الاستغلال المركزي لبقية أطراف السودان وشعوبه المزاحة خارج دائرة الفعل.
أمام السودان طريقان فقط، إما أن تُطبق فيه فيدرالية حقيقية وليست استهبالية كالتي شهدها عهد البشير، أو أن يتفكك إلى دويلات سواء عن طريق الحرب أو طوعاً، لكن يستحيل في رأيي بقاء القبضة المركزية الطفيلية أكثر مما بقيت دون إراقة المزيد من الدماء، وإثارة المزيد من الكراهية والقلاقل في سبيل محافظة مصاص الدماء المركزي على نفسه حياً.
يمكننا التعلم من التاريخ لنوفر على أنفسنا مزيد المعاناة المقبلة بدلاً من خسارة المزيد من الأرواح للوصول إلى نتيجة حتمية، يمكن الوصول إليها دون خسائر، إما بمنح أي إقليم يطلب الانفصال هذا الحق، أو تعديل هيكل الدولة بما يجعل خيار الانفصال ليس مفضلاً لشعوب كل إقليم.
إلا أن نشوء فيدرالية حقيقية يكاد يكون مستحيلاً، فلن يفرط الطفيلي المركزي في سيطرته غير العادلة على أطراف السودان وإلا لن يعيش، لذا فمقاومته لهذا الأمر حتمية. كذلك فإن تراكم الأزمات والاحتقانات في الأقاليم، أوصلها درجةً جعلتها مرشحة لمزيد من التطاحن والتفتت، سواء بقيت ضمن جغرافيا السودان أم خرجت عنه، إذ لم يعِ النخبة المسيطرون أهمية وضع حدودها بعملية جراحية دقيقة تضمن لكل إقليم نجاته مع أو بدون السودان الكبير (أو تعمدوا ذلك).
إن تفتت السودان يجري حالياً أمام أعيننا، وجرى من قبل، وسيستمر، فقط هو يحدث بكلفة عالية جداً. انفصل الجنوب، وسينفصل غيره، فلا يمكن أن يفكر عاقل مُستَغَل في البقاء تحت جناح الطفيلي المركزي، خصوصاً بعد تزايد الوعي بهذه العلاقة الضارة، وفي الوقت نفسه لا يفهم الطفيلي المركزي لماذا يريد البعض الانفصال، أو لماذا يقاومون أو يحاربون من أجل مطالب يراها تافهة، فهو لا يرى في نفسه عيباً، لأن نظره محجوب، إنه يرى السودان ولا يرى السودانيين، لا قيمة للإنسان لديه إلا بما يخدم تحصيله الثروة والسلطة، أما خطاباته الدفاعية المنفصلة عن الواقع، والمتسترة على حقيقة نواياه، فستظل متلفعة لباس العاطفة والمحفوظات فارغة المعنى.
إذن، إما فيدرالية حقيقية (انظر إلى دولة الإمارات، الولايات المتحدة،.. الخ)، وإما التفكك بالدم أو من دونه، هذه خياراتنا، لكن عندما نرى حكومة النخبة التي تدير السودان الآن بالطريقة نفسها التي كان يُدار بها ناديا الهلال والمريخ؛ نعرف أن المآل سيكون كارثياً: مدنيون يعيشون في سودان متخيَّل لا علاقة له بالسودان، وجيوش ومليشيات مقننة، وشعوب عزلاء ومنفصلة عن بعضها إلا من خطابات عاطفية تغالط لصناعة صورة بديلة متوهمة عن وحدة لا تصمد حتى في محك الزواج؛ إنها لحظة الحقيقة.
[1] ذو اللحية فات جاك دور حليقهم
[2] ويكيبيديا
[3] ويكيبيديا


-------

عن صفحة محفوظ بشرى في الفيسبك، عن صحيفة "الحداثة"، عدد السبت 25 يوليو 2020
أضف رد جديد