في ظاهرة الجيل: أولاد الحلال/ أولاد الحرام منصف الوهايبي

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
ياسر زمراوي
مشاركات: 1359
اشترك في: الاثنين فبراير 05, 2007 12:28 pm

في ظاهرة الجيل: أولاد الحلال/ أولاد الحرام منصف الوهايبي

مشاركة بواسطة ياسر زمراوي »

[font=Arial]
في ظاهرة الجيل: أولاد الحلال/ أولاد الحرام
منصف الوهايبي
Apr 01, 2017

يُروى أنّ سلطانا زاهدا تقيّا ورِعا من سلاطين ألف ليلة وليلة، لم يكن يحبّ من دنيا رعاياه، إلّا الملابس الفاخرة والجواهر الثمينة. وذات يوم من ذلك «اللاّزمن» الأسطوري، طرق بابه ثلاثة من هؤلاء الرعايا، وقالوا إنّهم من مهرة الخيّاطين؛ وعرضوا على الملك ـ وقد اختلوا به ـ أن يَخِيطوا له ثوبا عجيبا، يراه الناس فيسرّهم، ويربو حبّهم لملكهم ويزيد؛ ما عدا اللقطاء (أولاد الحرام)، فإنّهم لا يقدرون على رؤية هذا الثوب.
أطرق الملك وفكّر، فهو على حبّه لمتاع الدنيا، يحرص على أن لا يُشاع عنه ذلك. ولكنّ عرض هؤلاء الخيّاطين، يُغري ويُغوي. وقال في نفسه: «ولِمَ لا أقبل؟ فهذا الثوب العجيب يمكن أن يكون عيْني للتأكّد من أتباعي وأشياعي؛ فمن رأى الثوب فهو لاشكّ ابن شرعيّ، ومن لا يراه فهو لاشكّ ابن زنى.. بهذا الثوب يمكن أن أقطع دابر الفساد، بل أضمّ هؤلاء المتّهمين في نسبهم، إلى خدّامنا وعبيدنا». ثمّ أمر للخيّاطين بحرير فاخر وجواهر نفيسة، وأفسح لهم مكانا في قصره؛ وهو يوصيهم بكتمان سرّ الثوب. وبعد أيّام، أخذ يرسل إليهم، من حين إلى آخر، واحدا من حاشيته، فيرجع كلّهم مدهوشا مشدوها، وهو يقول: «لم أرَ يا مولاي إلاّ الإبر بين أصابعهم، وهم يَخِيطون الهواء.. فلا ثوب.. ولا قماش!».
ويبتسم السلطان ويقول لنفسه: «عجيب! هذا أيضا ابن زنى، كيف لم أعرف!؟» ثمّ يأمر بطرد هذا التابع، وتجريده من كلّ أملاكه. ومرّت الأيّام، والسلطان يؤجّل زيارته للخيّاطين؛ فقد يقع له ما وقع لكلّ هؤلاء الذين أرسلهم. ولكنّه كان يطرد هذه الوساوس، فالمرحومة والدته كانت تقيّة ورعة، ولا يمكن أن تكون قد أتت فاحشة قطّ. ثمّ حزم أمره، ودخل على الخيّاطين.
نهضوا لاستقباله، وهم يهلّلون:» جئت في الموعد يا مولانا.. إليك الثوب.. اليوم أكملنا خياطته.. انظر يا مولانا! كم هو جميل!» ونظر السلطان، وخيّل إليه أنّه لا يرى شيئا، ولكنّه تماسك، وأخذ يبدي إعجابه ورضاه؛ وهو يُقلّب الهواء ويجسّه. وقال الخيّاطون: «ماذا لو لبسته يا مولانا! وخرجت إلى الرعيّة!».
ونضوا عنه ثيابه العاديّة، وألبسوه «الثوب الموهوم». امتطى السلطان حصانه، وخرج يجول في المدينة التي لم يرها منذ سنوات طوال قضّاها معتكفا في قصره. كان لا يمرّ بمكان إلاّ رأى الأبواب والنوافذ توصد بقوّة، والرجال والنساء في الشارع، يولونه ظهورهم ويهرعون هاربين… حتى خلت المدينة، وبقي السلطان عاريا وحده، وهو يتساءل: «يا إلهي! هل يمكن أن يكونوا كلّهم سلالة أولاد حرام؟».

٭٭٭

تعلّمنا منذ عقود، في درس الفلسفة ـ وكان أستاذنا فرنسيّا ـ أنّ المؤرّخ وعالم الاجتماع قلّما سلكا في طريق واحد؛ فعدّة المؤرّخ آثار ووثائق وشهادات يستأنس بها في إعادة بناء الحدث التاريخي، فقراءته، فتفسيره وتأويله. أمّا مادّة علم الاجتماع فهي الظواهر الاجتماعيّة، وما يتعلّق منها بالجماعات والمجتمعات، من سلوك وعادات وأساليب حياتيّة، وما يطرأ عليها من تغيّرات وتفاعلات؛ بحثا عن القوانين التي تنتظمها، وتتحكّم فيها. أمّا اليوم فإنّ هذين العلمين يتقاطعان، وتكاد الحدود بينهما تتصرّم؛ وكلّ منهما يهب قرينه، ويستوهبه، وهو ما يغذُو أغصانا وفروعا جديدة في شجرتيهما.
يقترح بيار نورا في كتابه «أماكن الذاكرة»(بالفرنسيّة) مقتربا جديدا، لما يُسمّى «الحدث الجيلي»؛ نجده سائغا مقبولا. من ذلك أنّ الجيل في تقديره، هو الذي يعي نفسه، ويعي ما يفصله عن الأجيال الأكبر منه سنّا؛ ومثاله في فرنسا «جيل الرومانسيّة». فقد أدرك هذا الجيل أنّه يكوّن بعد الثورة الفرنسيّة، وبعد الإمبراطوريّة، مجموعا متجانسا استطاع أن يعيش تجربة تاريخيّة واحدة. وفي سياق هذا الوعي، اشتغل أفراده بـ»نموذج» أو «مثال» أو «منوال»؛ أو «مكان ذاكرة» بالنسبة إلى الكتّاب والمثقّفين والمفكّرين اللاحقين الذين يتمثّلون بهذه الحقبة، أو هم يُحيلون إليها. وكلّ هؤلاء تقريبا يستخدمون مصطلح «جيل» كلّما تعلّق الأمر بمجرى الزمن ودوّاماته.
ومثال ذلك أيضا جيل السابع والعشرين في تاريخ الشعر الإسباني وهو المثال أو المرجع الشعري طوال عقدي العشرينات والثلاثينات؛ فهو يضمّ في تقدير البعض الشعراء الذين ولدوا ما بين 1893 و1907. وهي فترة قد تلوح قصيرة، أو هي لا تبرأ من تمحّل ومبالغة، ولعلّ رأي آخرين في أنّ ثلاثين عاما هي الفترة الزمنيّة المثلى بين جيل وآخر؛ أي أنّ ظهور الأجيال يتحدّد بالعام الذي يبلغ فيه أفرادها سنّ الثلاثين. وهؤلاء الذين يعيشون في عالم واحد، ويكون بينهم تواصل، نجدهم في الأغلب الأعم يعبّرون عن هموم ومشاغل ومواقف مشتركة أو متقاربة.
لنأخذ مثلا موضوع «الجيل» في العالم العربي؛ وهو مصطلح ديموغرافي بالأساس، وكلّ منّا ينتمي إلى جيل اكتنفته مؤثّرات شتّى أو ألمّت به، بنسبة أو بأخرى. ولنسأل: ما الجيل؟ وكيف نحدّ هذا الجيل في بلدان يكاد كلّ منها يكوّن عالما قائما بنفسه؟ وأيّ دور يمكن أن ينهض به هذا الجيل أو ذاك، في عمليّة التطوّر التاريخي؟ أهو الذي يشحذ التاريخ حقّا، كما كنّا نأمل ولا نزال من جيل صانعي الربيع العربي الشباب مثلا، في أن يغيّر ما بنا، وينقلنا إلى مجتمعات ديمقراطيّة حديثة؟ أليس التغيير ثغرة تنفتح في مسار التاريخ، وإذا لم تُملَأْ في وقتها، فإنّها تنغلق وتنسدّ؛ وقد لا تُفتح ثغرة أخرى إلاّ بعد زمن طويل؟ هناك جيل ما قبل احتلال فلسطين، وجيل ما بعد الاحتلال، وجيل ما قبل الاستقلال، وما بعده في أكثر من قطر عربي، وجيل ما قبل «الربيع العربي» وجيل ما بعده، وجيل ما قبل الحرب على العراق، وجيل ما بعدها، وجيل ما قبل الثورة في سوريا، وجيل ما بعدها، بل أليس هناك من الكتّاب والفنّانين والشعراء مثلا، من يرى أنّ المبدع الحقّ «لقيط» أو مجهول النسب متّهم الأصل، وهو يرفض من ثمّة أن يضع نفسه في جيل بعينه، ويبحث عن طريق ثالث، عدا طريق الشواهد الحجريّة المنتصبة، وطريق الشواهد التي تتهيّأ للانتصاب؟
هل بإمكاننا أن نستدلّ بفترة معيّنة فارقة في تاريخنا الحديث، أو مفصليّة؛ نتدبّر بها الزمن بمصطلح «الجيل»؟ الحقّ أنّ الفترات أو اللحظات الفارقة ليست بالقليلة في تاريخ العرب في الأزمنة الحديثة، ناهيك عن تاريخهم الأقدم؛ وهي ليست كلّها هزائم ونكسات. ومع ذلك تظلّ اللحظة الفلسطينيّة هي الفيصل، وفي ضوئها يمكن أن نفيد من بعض ميزات نظريّة الأجيال، في قراءة تاريخنا. وهذا عمل لا يمكن أن ينهض به أفراد، وإنّما فرق بحث من سائر البلاد العربيّة، متحرّرة من عقدة المركز/ الهامش.
على أن تأخذ بالاعتبار أنّ المدارس الجديدة أو المستحدثة هي الأساس في ظهور ما يمكن أن نسمّيّه «جيل المدارس» أو «الجيل المدرسي» في هذا البلد العربي أو ذاك. وقد كان «الكتّاب» أو «المدرسة القرآنيّة»، يجمع أجيالا متفاوتة في السنّ؛ في حين أنّ المدرسة الحديثة بمعمارها الغربي وطاولاتها وكراسيها، وهيئة معلّميها، تجمع أجيالا من نفس السنّ تقريبا. وهي أجيال تتحدّر من أصول مدنيّة، ومن أصول ريفيّة. وأكثرهم ممّن اضطرّ إلى الابتعاد عن أهله، وعن البيئة التي نشأ بها ودرج؛ ليجد نفسه في بيئة جديدة، يتقاسم مع أصدقاء «غرباء» حياة واحدة حيث مناهج التعليم واحدة والقراءات هي نفسها، والآمال والأحلام هي نفسها. مدرسة بروحين: روح التضامن العمودي: المعلّم / التلميذ المريد أو المبتدئ، وروح التضامن الأفقي بين أفراد الجيل اليافع أو الشاب نفسه. وهكذا ظهرت في ثقافتنا الحديثة، مصطلحات لم تكن تجري على ألسنة أسـلافنا، كما تجري على ألسنتنا نحن بيسر وسهولة.
ولعلّ أكثرها دلالة هذا الاستعمال الشائع «زميل دراسة»؛ وعليه تأسّس نمط جديد من شبكات الصداقة والرفقة، يتقاسم أصحابها تجربة تاريخيّة مشتركة. وهو ممّا يسوّغ الرأي في أنّ «الجيل» مفهوم جديد زمانا ومكانا، بل هو مرتبة من مراتب المعرفة الأساسيّة، نشأت في ثقافتنا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في مركزين كبيرين: بلاد الشام ومصر. ثمّ كانت لهما فروعهما في سائر البلاد العربيّة. على أنّ خواصّ هذا الزمان وهذا المكان غير ثابتين، ومعاييرهما نسبيّة، بالرغم من وحدتهما العضويّة؛ فقد يحلّ المركز محلّ الهامش، والهامش محلّ المركز، وقد يكون الزمان بطيئا في نظام سريع الحركة، وقد يكون أقصر في نظام عديم الحركة، وما إلى ذلك، مثل نسبيّة الماضي والحاضر حيث الماضي هو المكوّن الفاعل كما هو الحال في ثقافتنا نحن حيث تتعايش أجيال من «أولاد الحرام» ومن « أولاد الحلال» جنبا إلى جنب.
أمّا أنا فقد رأيت ثوب السلطان، أو هكذا تهيّأ لي.

كاتب تونسي
أضف رد جديد