إبراهيم الصلحي/ انطباعات طالب فنون في لندن

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
عادل السنوسي
مشاركات: 839
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:54 pm
مكان: Berber/Shendi/Amsterdam

إبراهيم الصلحي/ انطباعات طالب فنون في لندن

مشاركة بواسطة عادل السنوسي »

إبراهيم الصلحي/ انطباعات طالب فنون في لندن
نقلاً عن مجلة قسم الفنون الجميلة بمعهد الخرطوم الفني- العدد الأول- صيف عام 1958/ الخرطوم

لا أنسي تلك اللحظات الأولي التي وطأت فيها قدمي أرض إنجلترا لأول مرة في مطار بلاك بوش، وذلك الطريق الطويل الذي يقطعه البص إلي داخل مدينة لندن، وذلك الندي وتلك الخضرة العجيبة، خضرة علي إمتداد البصر، وغمام لطيف، والهواء المشبع برذاذ المطر، والمنازل الصغيرة المتشابهة ذات السقوف الحمراء علي جانبي الطريق، والأشجار الضخمة التي تطل من ورائها، وبالطوات المطر الصفراء التي يرتديها راكبو الدراجات والجو الرطب وتجانس اللون الاخضر.

كنت أشعر بأني حبيس علي وشك الأنطلاق، أكاد أصرخ بما أشعر في أعماقي، وأن أصور إحساسي هذا، عن ذلك الندي وتلك الخضرة والغمام، وعن ذلك الهدوء الغريب والسكينة، كنت في غاية الإنفعال وكل شئ يوحي بذلك. تركنا أم درمان في حر كالأتون وأتربة وأعاصير، وشمس كبيرة ملتهبة تكاد تذهب بالبصر من شدة إشتعالها وتوهجها. ثم حللنا الهدوء وهذا الإخضرار وهواء الخريف الطلق، والمطر، وهذا العالم الجديد.

ذهبنا بعد أيام قليلة من وصولنا لمقابلة البروفسير عميد كلية( الأسليد) التي سندرس بها ثم تجولنا داخل المدرسة، فكانت خالية، لم تكن العطلة الصيفية قد إنتهت بعد. وهالنا ذلك الجو الرهيب، جو الإستيديوهات الكبيرة الواسعة وحجرات الرسم وممراتها، وتلك الكآبة البادية علي حجراتها العالية وألوان الزيت التي جفت عليها، ثم تلك الصور الضخمة المعلقة وغرابة مواضيعها وأساليبها المتباينة، والتماثيل الكثيرة المنتشرة في كل مكان، بعضها كامل، وبعضها جزئي، وبعضها لم يتم بعد.

تجولنا ثم جلسنا علي درجات واجهة الكلية لنفكر إذ هنا سوف نمكث فترة السنوات الثلاث، وهنا سندرس فن الرسم والتصوير، وعصف بنا الحنين للوطن والأهل.

ثم كان أول يوم فتحت فيه الكلية أبوابها لإستقبال العام الجديد، كان مزيجاً غريباً من الأحياء، رجال يلبسون جكتات وبنطلونات من قماش الكردروي، أطلقوا العنان لشعر لحيهم ورؤوسهم، نساء قصصن شعورهن كالرجال، يلبسن بطلونات ضيقة وخرقاً بالية ملطخة ببقايا ألوان، يحملون علي كتوفهن وعلي ظهورهم أو حيثما كان رزماً من الصور وألواحاً وبراويز، وأكياساً من الجلد والخيش فيها فرشاتهموألوانهم ومعداتهم. منظر غريب حقا. فئة منهم أتت في ثياب نظيفة منتظمة وبعضهم كأنهم حضروا من وادي التيه، وبعض آخر وكأنهم نزلوا من كوكب غير هذه الأرض. تنعقد فوق رؤوسهم سحب كثيفة من دخان التبغ والسجائر.

يتحدثون ويتناقشون ويضحكون ويتهامسون في آن واحد. كنت وزميلي الجنيد الذي حضر معي وطالب آخر من تنجانيقا نمثل الكتلة الأفريقية في المدرسة، ولك أن تتصور شعورنا في الإسبوع الأول، تحفز وانكماش ووجل وإضطراب وحساسية متناهية، في الإستيديوهات وفي ردهات المدرسة وفي حجرات الأكل وفي كل مكان. كنا عبارة عن كتلة من الأعصاب.

مر الأسبوع الأول والثاني والكل منهمك في عمله إلا نحن فقد كنا ننتقل من إستيديو إلي آخر. لم تكن معنا لا مواد ولا إدوات للرسم أوالتصوير. نري الأساتذة وهم يمرون بين الطلبة، بعضهم يهمس بنصائحه وإرشاده همساً، وبعضهم يتحدث وكأنه يخطب في جمع من الصم. كنا نتوقع أن تصرف لنا المواد اللازمة من ورق وقماش وألوان وفرشات علي حسب ما تعودنا عليه من قبل. توقعنا أن يساعدنا أستاذ في تحضير مواد الحياة الصامتة وترتيبها، ويباشر عمله تجليس الموديل الحي. كنا نتوقع علي الأقل أن يشار علينا بما يجب أن نفعله، ولكن ... ما زلنا نتجول بين الإستيديوهات وقد إنقضي اسبوعان.

لم نكن ندري أن المسئولية كلها ملقاة علي الطالب وحده، وعلي مدي شعوره بها يتوقف سير دراسته وتقدمها، ويا لها من ورطة. للطالب أن يعمل ما يشاء من تجارب ودراسات وأبحاث في حدود المواد التي يدرسها ويعرض منتوجه مهما كانت ضالته، في نهاية كل شهر، علي إستاذه المشرف الذي يتولي نقده وتوجيهه وإسداء النصح إليه. وتقف المدرسة وهيئة التدريس بها تراقب عن كثب نمو مواهب الطلبة، وتهيئ لهم جواً مناسباً للإنتاج والتركيز، مع الحرية المطلقة، كلها متروكة في أيدينا.

كانت صدمة عنيفة بالنسبة لنا عندما علمنا أنه لابد لنا من شراء كل المواد التي نستعملها، ولا مفر لنا من شراء كل شئ، حتي الدبابيس التي نثبت بها الورق علي لوحة الرسم. وإحتياجات اليوم كثيرة، واليوم الدراسي طويل. تبدأ الدراسة في التاسعة والنصف صباحاً وتستمر إلي ما بين الخامسة والسادسة مساء. يومهم طويل وذلك ما عانينا منه الكثير في أيامنا الأولي. كنا نغالب النعاس بعد فترة الغداء وكثيراً ما تغلب النعاس علينا. يومهم طويل ومتعب لشخص تعود علي الراحة بعد منتصف النهار، ولا عمل له بعد الظهر.

واندمجنا في محيط الدراسة بالرغم من كل شئ وبالرغم من إختلاف كل شئ عما تعودنا عليه.وبالرغم ما سببه لنا الموديل العاري في بادئ الأمر من حرج، ودهشة، وإثارة، ولكن تعودنا عليه بكثرة أخذنا عنه صباح مساء، حتي صار الواحد منا لا يري من الجسم العاري، إن كان لفتاة في ريعان شبابها، أو لعجوز في آخر حلقات عمره، سوي لون البشرة، وتناسب الأعضاء وأبعادها. لا فرق بين جسم الفتاة العاري، وبين المقعد والأريكة التي تتكئ عليها، إلا في الشكل واللون والملمس، وما إلي ذلك من القيم التصويرية.

صعب علينا في البداية أن نفهم تضارب وجهات نظر الأساتذة حول الرسم والتلوين. هذا يحدثك في توجيهات عن الحجم والكتلة، وذاك يحدثك عن نقاء الخط وصفائه، وآخر يحدثك عن القياس النظري الدقيق، أو وقع الأثر والحركة الكامنة في شكل الكتلة، كل هذا في رسم واحدقد تكون رسمته. إنتقادات لها مظاهر متعددة، ولكن جوهرها واحد، تقودك لأن تفتح عينيك، وتري بنفسك.
الفكر الديني ضعيف، لذا فإنه يلجأ الي العنف عندما تشتد عليه قوة المنطق، حيث لايجد منطقاً يدافع به، ومن ثم يلجأ الي العنف.( ... )
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

الزمن الأجمل

مشاركة بواسطة حسن موسى »


"..
لم نكن ندري أن المسئولية كلها ملقاة علي الطالب وحده، وعلي مدي شعوره بها يتوقف سير دراسته وتقدمها، ويا لها من ورطة. للطالب أن يعمل ما يشاء من تجارب ودراسات وأبحاث في حدود المواد التي يدرسها ويعرض منتوجه مهما كانت ضالته، في نهاية كل شهر، علي إستاذه المشرف الذي يتولي نقده وتوجيهه وإسداء النصح إليه. وتقف المدرسة وهيئة التدريس بها تراقب عن كثب نمو مواهب الطلبة، وتهيئ لهم جواً مناسباً للإنتاج والتركيز، مع الحرية المطلقة، كلها متروكة في أيدينا. "






سلام يا عادل، و شكرا على هذه الكلمة النادرة عن ذكريات صلحي و صحابه في لندن. لم أكن أعرف ان كلية الفنون كانت تصدر مجلة في 1958.
غايتو كلما نرجع لورا نلقى زمن أجمل من القبليهو، الله يستر علينا من الأزمان القادمة..,
أضف رد جديد