منعم رحمة "بيضة الكلب؟"

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

منعم رحمة "بيضة الكلب؟"

مشاركة بواسطة حسن موسى »



بيضة الكلب ؟



منعم رحمة



واقف حطبة .
و فى كل مرة كنت أقف ذات الوقفة الحطبة .
علماً بأن كل ما بداخلي مُهزوزٌ و مضطرب . كما إنني لم أبلغ الحلم بعد ، و الطقس فى مجمله دائماً ما يكون غرائبياً و مريبا ،
أبى هو الآخر يبدو غامضاً ، كثيفاَ ، بعيداً و مجروحاً فى جلبابٍ متسخ و بالٍ . و كلانا يرفع يده اليمنى بتحيةٍ عسكرية لا أفقه
من أمرها شيئاً ، فى إنتظار أن يأذن لنا جدى لأبى بالدخول عليه و خدمته .
هو يحمل كيساً به مقداراً من التمر ، كيسين من حلاوة دربس أو كرميلا ، صندوقا للبسكويت و صندوقا آخراً صغيرا من حلاوة
لكوم مع علبتين من سجائر ابو علم المحلي و كروسة من الكبريت . و أنا أحمل كيساً ورقياً آخراً به بعضاً من سبيطة موز ،
– يااا كركووووون ، يا ابن الهووون ..
يصيح جدى بصوت راعدٍ و منذر ، لندخل .
كان منظره مهيباً مخيفاً و شجِّياً فى آن .
يجلس القرفصاء فى البرندة الأمامية وسط أكوامٍ من الحصى ، نواة التمر التى أنبت و أينع بعضها ، مع أكوام أُخر متفاوتات من
الحديد و الهتش و كرات الشُّراب التى ضلت طريقها الى المرمى فاستقرت بين رجليه . شعر كثيف و ذقن يشتبك بشنبٍ يخالطه
شيب و بقايا من طعام ، وجه دائري بعينين كما الأسئلة الحائرة و أنف سالطُ و محزون .
دخلنا لنخرج ،
انا بجردل فارغ لجلب الماء مثنى و سباع من بئر الزقاق حتى تمتلئ الأزيار الثلاث ، و أبى بصينيتين و أوان فارغات مع براد شاي
و جبنة فخارية ، تقوم جدتى من بعد غسيل العدة بإعادة تعبئتها . و مجدداً حال أن ننتهى من هذه المهام ، نرفع اليدين بالتحية
العسكرية ، و من ثم نُغلِّق الأبواب على جدي ، و الباب الخارجي بجنزيرٍ من حديدٍ ثقيل .
– جدك ما مجنون ، غرقان غرقان بس يا الحبيب .
تقول ذلك جدتى بطريقة راسخة ، و هي تلحظُ رهقى و قِلّة حيلتي و ارتعاشات يدي .
و لكن ما هو الغرق؟ و كيف يكون و يتم ؟ و ما الفرق بينه و الجنون ؟ ثم ، لماذ لم تغرقى معه يا جدتى ؟
و ما السِّر فى جلباب أبي البالي المتسخ ، و فى كلتا المرتين اللتين نذهب فيهما لجدي ، من كل إسبوع ، و نفعل ذات الأشياء ؟
أخافه و أحبه كثيراً جدى لأبى ، و على الرغم من كونه يجهلنى تماماً و الجميع .
أحبه و أخاف غرقه هذا ، مثلما أخاف و أحب تلك المرأة التى تنز حليباً و غرقاً ، كُثيب الرملة القمحية و القمر يضوضأه و كأنه يُنعِّم
أطرافه فى إستدارة كما الأسى ، كما الحنين ، كما النزق ، بل كما الغرق .. يا صدرها .
و هي الأخرى ، و من دون أهلنا جميعا ، كانت غرائبية التفاصبل ، محمودة النفايل ، لا يشينها طول زائد و لا يقعد بها قصر حسير ،
عوان بين ذلك . صافية اللون مرهاء ، بضّة المعاطف ، نهارية العينين ، ليلية القوام ، طاعمة كغلمة ، كثيرة العطايا ، يهابها و يطرب
لطلعتها الجميع ، بل يطلبون النظر إليها ، و هل رآها الناس إلا ضاحكة مستبشرة . و عِند ، ملء ضحكتها تلك تأخذنى إليها ، تشمني
و تضمني ، داسة يدها فى سروالي ، لتُمسِّد (عصفوري) كما تسمبه ، و الذى لِمشِّها يكاد أن يطير ، فتضغط عليه صغطات خفيفات
كما المعاتبة فيصغى لها و يهدأ ، لتقول هي بصرامةٍ مُغوية :
- الولد ده عندو فرِّد بيضة و سوووده زي الكلب ؟
أحس بخجل و سعادة ينفرد بها طهري ، و أنا أنفلت منها هارباً الى الزقاق ، و للمرة الألف بعد المائة آخذ فى تأمل عصفوري و بيضتى
الواحدة السوداء .. بيضة الكلب ؟
فهل تراني كنت كلباً لم يبق منه إلا تلك البيضة الواحدة ، و أُذنان تتسمع نبض ساعة أبي و على بعد 30 قدماً من غرفة حبوبتي ، و التى دائماً
ما أنام فيها ؟ أم تراني كنت فى طريفي للتخلق لأكون كلبا كاملا من فصيلة الكلبيات الثدييات اللواحم ، و أنا أتشمم الهواء لألتقط رائحة تلك المرأة ؟؟
و من غيرها ؟ نعم ، شموم ، و هي على مبعدة نصف ميلٍ من بيوتنا ؟
و حسم الأمر أبي ذات صباحٍ ندي ، و كأنه قد قد سمع قولها أي شموم ، أو أجس بهلوساتي ، إذ و من بعد أن صلى الفجر حاضراُ ، ذات خميس ، و أعقبة
بتلاوة نديةٍ لسورة يسن ، حتى عاجل أُمي ، و هي تضع أمامه صينية شاي اللبن باللقيمات ، قائلاً :
- خلاص كلمى الحاجه – بقصد أمه ، حبوبتى- تقضى ليك الليلة حاجاتك من القروش العندها ، الولد ده حنطهرو بكرة ..
و من فورها بدأت الطقوس من الحمام أب ليفه أب مويهً دافية إلى الحناء فى اليدين و القدمين و العراقى الساكوبيس الجديد بسرواله أب تِّكة .
و أندلعت حمى الدلاليك و عبق الحوش الكبير بدخاخين من طلحً و صندلٍ و بخور جاولى و تيمان ، نساءٌ يرقصن ، رجالٌ يبشرون و الزغاريد غمام .
صوانى الأكل داخلة فاضية و مارقة ملانة ، و كفاتير الشاي و الجبنات تأخذ بالدّروب .
- أبشر يا عريس ، أيشر..
الكّل يصيح بى ، و أنا قى وسط عنقريب القّد ببرشه الأحمر و ملاءىه القطيف ، و هي بجانبي ، قمر و شمس المكان و الزمان ، تهش عني الذباب
طوراً ، و تضمنى و تشمنى أطوارا . شموم و أحيانا الشموم .
الفرس الدّونقلاوي ، أم لَبَنين - العصيدة التى أُدامها الّلبن و تعجن يالّلبن كناية عن جمالها و طيبها ، القرمصيص ، الكنّانة ، السريرة ، الفركة أُم صفيحة
و الجِّنية إذ يقال (مِصاحِبه جّان) ، و هو الذى تسبب فى موت زوجها بعد أربعين صباحاً و ليلة من دخوله عليها ، الملكة .. كل ذلك بعضاً من أسمائها .
الزقاق إنزرد عن آخره بحمير الأهل الذين تفاطروا من المدن القريبة و الحلال ، و وجدوا فى الديناب المجاور لبيت جدى ببرنداته النملى الثلاث و حوشه
الوسيع ، متسعا لهم ، و لبعض هداياهم من الانعام .
لم يظهر أبى ، إذ و كما حدثت مفتخرة بذلك أٌمي ، كان مشغولاً فى غرفته بنظافة ( أب جقره و مرمطون) بنادق من زمن التُّرك كانت لجدى ، و ذلك
حتى لا تخذله غداً ، حال أن تتم عملية الطهارة . أعمامي و أخوالي يباشرون الضيوف و الأهل ، و الزمان طوع اليدين .
أما أُمي فقد أشهرت كل حفلتها من الذهب .. الزمام و الرشمة ، الفِدَّو ، التيلة ، الغوايش و نص الجنيه ، و خصتنى بالهلال الذهبي من فوق حريرة
حمراء على جبهتى .الفرح يأخذ بالنواصى و الأقدام إذ كنت محبوباً بين الناس ، و أبي بدينابه كان مشهوراً و قبلة للأهل ، الجيران و الضيوف ،
- ها عب ها .. أبشر .
- (العّب ، حمار المراسيل) .
كنت واسطة العقد بين ثلاث أولاد قد سبقوني ، و الأقرب إلى أخواتي الثلاث الّلاتى لحقن بي . يميل لوني للزرقة و قوامي للطول .
(العّب ، حمار المراسيل) .
هكذا كانوا ينادوننى ، فقد كنت طول النهار طالع نازل مراسيل تلبية لطلبات ناس البيت . لكن أفضل أسمائي و أحبها إلى نفسي هو :
(حبيب شموم) .
هكذا كانت تنده لي ، و تسأل عنى ، و تفصح عن حبها لي ، الكل فى إستغرابٍ من ذلك ، و إن كانوا لا يستهجنونه أو يُعيِّبوها به .
– من بكره انته حتكون راجلى ، و أوعك تبكى من الطهارة ، لو بكينت تانى ما حتشوفنى ..
همست شموم فى أذنى بذلك ، مُقبلةً لي - لأولِ مرة - فى فمى ، قبلة كحسو الطير لطيفة و سريعة ، فصحتُ راجلاً :
- السما قريب ؟
فتبسَّمت بِكُلَّها و انتفضت قائمة على كمال طولها ، وريف قوامها ، هاتفة ، بل أمرة و مقررة بأنها هي ، و بنفسها و لا أحد سِواها من سيقوم
بطهارة حبيبها ، حبيب شموم ، طهارة بلدية بالموسى ، بلا بنج و لا خياطة ؟
صنّ الكون كله و الناس أجمعين .
فَترستُ و الحناء فى قدمي ، ممسكاً بسوط وجدته فى يمناي بعد أن خرت الحناء منها ، و نزلت فى المخاليق جلد .
أشيل و أجلد ، أجلد فى الخلوق و من طرف .
صنّ الكون كله ، الأنعام و الدواب ،
و انا أجلد ، أجلد فى الخلوق من طرف ، الحناء فى قدمي قد اختلطت بالتراب و الحصى ، و السوط فى يدى .
و فى لحظة وجت زغاريد الدنيا كلها ، انفجرت الخلوق باليكاءِ الفَرِح . و فرقع فى الجو بارود أب جقرة و أعقبه المرمطون ، و عينا أبى تدمعان دماً ،
و دَخَن الجّو كله ببارود الخراتيش البنادق ، و دمدم و رزّم نحاس لا أدرى من أين أتى ، و بلغت القلوب الحناجر .
و من مكمنها ، مكمنه جاءت الصرخة ، لتأذن لي :
– يااا كركووووون ، يا ابن الهووون ..
و تَّوَا أسقطت ردائي ، مستلقياً على الأرض و بيضة الكلب تسند عصفورى الذى إشرأبت غلفته ، ، و عواء جميع كلاب الدتيا فى رأسى . و ....
تتقدم شموم فى رقصة هي للحب و الغرق ، شفرة تلمع فى يمناها كبرقٍ صدوق ، و صُّرة صغيرة فى يسراها . حين أنشحطت ميامن الرجال
و كتوفهم تسند قبة السماء ، و أرجلهم رواسى تمسك بالأرض حذر أن تمور ، و حلاقبهم كما سيلٍ خرَّ من علٍ .
– ياااحبييييبي ..
أنّت و شهقت شموم .
و كما صفرٍ ينقضّ على فريسته من بعد طولٍ تحليقٍ و مراعاة ، إنكبت عليّ و غمرتنى أعطافها ، ملايَّنها و رائحة الأنثى . لم أشعر بشئ ،
فقط شَّح و وحّةٌ لِسان عصفوري ، ثمَ شئ كالبّرَد إلتصق به و مصّه ، و كلمحِ البصر أو هو أقربُ ارتفعت شموم سامقة ، فجراً صادقاً ،
و هي ترفع يدها اليسرى مُدماة و غلفتى خاتماً فى بنصرها ، و قد بدت فى ضوء القمر ككائن خرافي قد خرج لِتّوه من أحاجى الحبوبات و الخالات ،
و شهد القمر الذى كان فى لياليه البيضاء الثلاث .
و أنا (العّب ، حمار المراسيل) زائغ البصر ، منجذب أحدق فىه و أُصّوت ، أُزمجر ، أزوم ، أنبح و اعوي ، و قد وقفت مني الأذنان و انفردتا ، و تبعهما
شعر رأسي الذى إنتصب كما شوك السدر ، و شموم هائجة مائجة تصيح :
- غمِّد غمِّد .. ما تعاين للقمر ..
و غمرنى كامل جسدها ، و هي تكاد تهشّم ظهري الذى أحسُ بألم فى آخر فقارياته ، و حكة فى مؤخرتي و كأن شيئاً يريد أن ينبت أو يخرج .
- غمِّد غمِّد.. ما تعاين للقمر ..
تواصل شموم نداءاتها ، و غمّضت غمّضت و صوت جدتي هو الآخر يأتينى - نائحاً و لاعناً - من قعر ليالى القمر البيضاء الثلاث و الدنيا موج و هوج :
- واااي يا يمه وااي ، الله يشيلو الداير يشيل وليدى زي ما شال جَّدو ..
واااااي الليله وووووب علي يا شموووووم .
لثلاث ليالٍ بيضاء كاملات ، و شموم تلقمنى ثدييها و دمعها ، و أنا بين البرزخين ، الشمس و القمر ، الأرض و السماء ، الليل و النهار .
لثلاث ليالٍ بيضاء كاملات ، و جدتى تشد من رجلي حتى تبقينى مستقيما ، و تتفتل فيهما يسن و الجبال أرساها ، نون و القلم و ما يسطرون
ما أنت بنعمة ربك بمجنون ، الإخلاص و المعوذتين .
لثلاث ليالٍ بيضاء كاملات ، و أبى يحصد النجوم برصاص أب جقرة و المرمطون و للعجب ، من برندة جدى .
لثلاث ليالٍ بيضاء كاملات ، و الديناب و الحوش الكبير يقيض و يفرغ بما فيه من خلوق و دواب .
و من مكمنها ، مكمنه جاءت الصرخة ، حاسرة للقمر ، و فاكّة لي من أسره و إساره :
– يااا كركووووون ، يا ابن الهووون ..




أضف رد جديد