في الذكرى ال55 لثورة أكتوبر: د. محمد محمود

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عثمان حامد
مشاركات: 312
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:04 pm

في الذكرى ال55 لثورة أكتوبر: د. محمد محمود

مشاركة بواسطة عثمان حامد »

في الذكرى الخامسة والخمسين لثورة أكتوبر

السودانيون وثورتهم المستمرة




محمد محمود





إلى ذكرى د. زكي الحسن

الذي فارق العالم قبل أيام من

الذكرى الخامسة والخمسين لأكتوبر

وهو يحمل حلم الثورة السودانية في جوانحه





1

تأتي الذكرى الخامسة والخمسون لثورة أكتوبر وبيننا وبين الذكرى الأولى لانفجار ثورة ديسمبر نحو الشهرين. أكتوبر هي أمّ الثورة السودانية التي أنجبت وليدها الأول في مارس - أبريل 1985 وهاهي تنجب في ديسمبر 2018 وليدها الثاني. كيف ننظر لهذه الأحداث الثلاثة الكبيرة: هل هي ثورات ثلاثة منفردة أم هل هي في نهاية الأمر ثورة واحدة؟ إن المتأمل لهذه الأحداث الثلاثة سيجد أنها أعلى لحظات ارتفاع في تاريخنا المعاصر بعد الاستقلال الذي يمثّل لحظة ارتفاعنا الكبرى. وما سنلاحظه أن لحظات الارتفاع الثلاثة هذه يربطها خيط قوي هو هدفها الجماعي لاستعادة الديمقراطية. وتأمُّل طبيعة الهبّات الشعبية الثلاثة يجعلنا نقول إنها في نهاية الأمر تجليات متعدّدة لثورة واحدة هي الثورة السودانية التي تميّزت حتى الآن بأنها ثورة مستمرة لا تموت جذوتها.

ولكن ما الذي نعنيه عندما نتحدّث عن الثورة السودانية؟ ما الذي تهدف هذه الثورة لتحقيقه؟ من هي القوى الاجتماعية التي تقودها؟ ضد من توجِّه هذه الثورة ثورتَها؟ من هي القوى الاجتماعية التي تريد هذه الثورة خدمتها؟

كانت كل من الثورات الثلاثة هبة شعبية ضد نظام عسكري وكان هدفها المباشر هو إسقاطه واستعادة الديمقراطية والحريات. وفي المقارنة بينها نجد أن أكتوبر انفجرت في العاصمة لتنضم لها بعد ذلك باقي المدن الكبيرة وكانت القوى الاجتماعية التي قادتها هي المهنيون والطلاب والنقابات. ونجد أن المشهد يتكرّر في مارس - أبريل حيث بادرت جماهير العاصمة بالثورة لتقوم بقيادتها قوى المهنيين والطلاب والنقابات. أما في ديسمبر فإننا نجد أن مبادرة الانطلاق جاءت من الأقاليم، وخاصة عطبرة، لتتسلّم العاصمة المشعل وتقود الثورة التي امتدت بعد ذلك لباقي الأقاليم امتدادا غير مشهود في تاريخ ما بعد الاستقلال. ومثل الثورتين السابقتين نجد أن المهنيين قادوا الثورة، إلا أن ما برز بصورة واضحة وأصبح علامة فارقة لديسمبر هو دور الشباب بوصفهم القوة الاجتماعية الأساسية التي قادت الشارع بانضباط سلمي مبهر، علاوة على الدور الفاعل والمؤثّر للمرأة وهي تنخرط في نار الثورة ولهيبها كتفا بكتف مع الرجل — فتصبح مثلا آلاء صلاح أيقونة للثورة وتصبح مثلا مروة بابكر صوتا شعريا حاضرا يستلهم الشارع ويلهمه (وفي حالتها فهي تمثّل أيضا ظاهرة جديدة: ظاهرة سودانييى المهاجر والمنافي الذين شاركوا بفعالية في الثورة).

وعندما نأتي لأهداف الثورة السودانية فإننا نجد أنفسنا أمام أفقين: أفق قريب وأفق بعيد. الأفق القريب هو أفق الحرية، أفق استعادة الديمقراطية وإقامة دولة القانون التي يتساوى فيها جميع المواطنين بلا تمييز على أي أساس، أفق احترام حقوق الإنسان بكل مظاهرها. هذا أفق يشمل كل المواطنين ويستمتع بثمرته مطلق مواطن حتى الأطفال. أما الأفق البعيد فيتعلّق بما يفعل الناس بحريتهم وما يوظفونها لخدمته. وهنا تثور مسألة الصراع بين القوى الاجتماعية إذ أن السؤال هو: من تخدم الثورة؟ لمصلحة من هي الثورة في نهاية الأمر؟ وهنا تصطدم رؤيتان: الرؤية المنحازة لاستمرار السير في طريق التنمية الرأسمالية التي تراكم الثروة في يد الأقلية والرؤية المعادية لثراءالأقلية على حساب الأكثرية الساحقة وتريد مِلْكِية وتوزيعا اجتماعيا وتشاركيا للثروة. الرؤية الأولى تحوّل مجموع المجتمع لغابة يفترس فيها القوي الضعيفَ ويصبح فيها النشاط الاقتصادي منافسة محمومة وشرسة من أجل الربح — نشاط لا يركّز الثروة في أيدي الأقلية المالكة فقط (ما أصبح يعرف في المجتمعات الرأسمالية المتقدّمة بالواحد في المائة) وإنما يستنزف أيضا مصادر الكرة الأرضية المحدودة استنزافا ويدمّر البيئة تدميرا من غير اعتبار للحاضر أو لأجيال المستقبل. أما الرؤية الثانية فهي منحازة للأغلبية الفقيرة المهمَّشة والمستغلة (بفتح الغين) وتريد مجتمعا يصبح فيه الاقتصاد نشاطا اجتماعيا تنعدم فيه علاقات الاستغلال ولا يحرّكه حافز إنتاج الربح وإنما إشباع الحاجات الإنسانية الحقيقية من غير استنزاف وتدمير للبيئة. ومثلما أن الثورة السودانية تريد على المستوى السياسي مجتمعا ديمقراطيا يجسّد حقوق الإنسان أعلى تجسيد فإن الحلم الكبير لأفقها الاقتصادي لا يمكن أن يتنازل في تقديرنا عن مستوى المجتمع الذي ينعدم فيه استغلال الإنسان للإنسان انعداما تاما وتتحقّق فيه المساواة الاقتصادية التامة التي تجعل كل مواطن يتمتّع بالأمن الاقتصادي من مهده إلى لحده، وتمكّن كل مواطن أن يتفجّر عطاء لمجتمعه وعالمه غاية ما يستطيع العطاء.



2

والثورة السودانية لا تختلف عن باقي الثورات في أنها كفعل تغييري تجد نفسها في معارضة كل القوى التي تمثّل الوضع القديم والراهن السائد وتدافع عنه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفكريا. وهذا موضوع ذو جوانب متعدّدة نكتفي هنا بالإشارة لعنصرين من عناصره وهما الجيش والحركة الإسلامية اللذان يمثلان الآن وفي واقع ما بعد ثورة ديسمبر أكبر خطرين عليها.

قال رئيس مجلس السيادة الحالي في مخاطبته لحفل تخريج بالكلية الحربية في سبتمبر الماضي "إن شعبا لا يحترم جيشه عليه أن يستعدّ للعق أحذية الغزاة". ولكن ماذا عن الجيش الذي لا يحترم شعبه؟ ماذا عن الجيش الوطني الذي يتحوّل لجيش غازٍ في بلده؟ هذه في واقع الأمر قصة السودانيين مع جيشهم. السودان لم تغزه منذ استقلاله أي قوة خارجية ولكن جيشه تحوّل لقوة غاشمة داست على ديمقراطيته وعلى حكم القانون والحقوق الأساسية وأغرقته (بالتواطؤ مع النخبة الحزبية) في أتون حرب أهلية لا تزال مستمرة. ولقد مارس الجيش كلّ انتهاكاته وجرائمه كمؤسسة شارك كل أفرادها على اختلاف انتماءاتهم السياسية ورتبهم فيما تم ارتكابه وعلاوة على ذلك قام الجيش كمؤسسة بتوفير الحصانة الكاملة لأفراده من أي مساءلة قانونية حتى الآن. ولقد ظل أفراد الجيش بمختلف رتبهم العاملون منهم أو المتقاعدون أو المفصولون مخلصون لذلك التعهد غير المكتوب بينهم على التكتم على انتهاكات وجرائم مؤسستهم. إن السودانيين يحتاجون الآن لكسر ذلك السياج التقديسي وسياج الصمت حول الجيش الذي شاركت كل القوى السياسية في ترسيخه.

وفي تقديرنا أن ثمة شيئين يتوجب على قوى الثورة السودانية القيام بهما فيما يتّصل بمسألة الجيش. الشيء الأول هو ضرورة محاكمة الجيش على كل انتهاكاته وجرائمه. وبالطبع نحن ندرك أن المحاكمة بمعناها المألوف أمر في غاية الصعوبة إذ أن محاكمة العسكريين على انتهاكاتهم وجرائمهم من أشقّ الأمور حتى في الدول الديمقراطية ذات التقاليد العريقة في احترام القانون. إلا أن هناك شكل آخر لمحاكمة الجيوش ممكن ومرغوب وظلّ الناس يمارسونه وهو المحاكمة التوثيقية التي تكشف بمختلف الوسائل البحثية عمّا تم ارتكابه. ونحن كشعب مارس جيشه وأدوات جيشه من ميليشيات قهرا مستمرا واستباحة راح ضحيتها عدد لا يحصى من المواطنين نحتاج لمثل هذا التوثيق ويتوجّب علينا الإسراع به قبل أن تندرس كل المعالم، وهو توثيق نتمنى أن يشارك فيه عسكريون تكون ضمائرهم قد استيقظت وأملنا كبير أن تستيقظ ضمائر بعضهم.

أما الشيء الثاني فهو ضرورة النظر في مسألة ملائمة الصيغة الحالية للجيش لواقع السودان كبلد نام. إن الحقيقة التي نحتاج لمواجهتها بشجاعة وواقعية هي أن الجيش بصيغته الحالية يشكل خطرا دائما على الديمقراطية علاوة على أنه عبء اقتصادي ثقيل لا يتحمّله بلد يريد الخروج من ربقة فقره. إن بقاء الجيش بصيغته الحالية أمر غير مقبول وغير قابل أصلا للاستمرار ولابد للسودانيين من التفكير والبحث عن بدائل تضمن لهم أمنهم وتضمن لهم في نفس الوقت حماية ديمقراطيتهم وتوجيه أقصى ما يستطيعون توجيهه من مصادر للتنمية.



3

وعندما نأتي للحركة الإسلامية فإننا نجد أنها وبين كافة القوى السياسية تمثّل الخطر الأكبر على الديمقراطية. ورفض الإسلاميين للديمقراطية وعداؤهم لها موقف أصيل ينبع من فكرهم الديني المعادي للعلمانية. ولقد حاول الإسلاميون في مراحل مختلفة وسيحاولون الآن بلا شك بعد ثورة ديسمبر التظاهر بقبول الديمقراطية. إلا أن هذا التلوّن والتظاهر ما هو إلا من قبيل فقه "الحرب خدعة" بهدف استغلال ما تتيحه الديمقراطية من حرية عمل إلى أن تحين لحظة الانقضاض عليها كما فعلوا عندما قاموا بانقلاب يونيو 1989. إن الخطر الذي يمثّله الإسلاميون كتيار فكري وكحركة سياسية وكقوة اجتماعية - اقتصادية قد تعاظم تدريجيا منذ أكتوبر ليبلغ ذروته الآن. ففي أكتوبر كان الإسلاميون قوة محدودة اكتسبت وزنها من تحالفها مع حزب الأمة ونجاحها في قيادة حملة حلّ الحزب الشيوعي في نوفمبر 1965. أما في مارس – أبريل فإن ثمرة تحالفهم مع نظام مايو كانت نموهم كقوة مالية وسياسية ذات وزن مؤثِّر مما مكّنهم من الانقضاض على النظام الديمقراطي. والآن ورغم ما حققته ديسمبر فإن الثورة السودانية لم تخرج من منطقة الخطر إذ لا تزال عرضة لخطر التفاف الإسلاميين الذين لا يزالون ممسكين ببعض المفاصل الهامة للدولة ولا يزالون يملكون ميليشياتهم الخاصة ويتمتعون بأكبر قوة اقتصادية لتنظيم سياسي ولا زال تحالفهم الاستراتيجي مع حزب الأمة قائما ومتماسكا.



4

ما العمل إذن؟ قلنا أعلاه إن ديسمبر هي التجلي الذي نعيشه الآن للثورة السودانية كثورة مستمرة. وفي كل هذه التجليات كانت الثورة فعلا شعبيا كبيرا ما لبث أن تراجع عقب نجاح الموجة الأولى — موجة اقتلاع رمز النظام. ولقد عنى هذا على مستوى الواقع السياسي أن قطاعات واسعة عريضة من القوى التي تتوق للتغيير عادت بعد الموجة الأولى لما يمكن أن نصفه لمواقع الحياة اليومية العادية ولم تواصل نشاطها الثوري الفاعل. هذه القوى لم تجذبها الأحزاب المختلفة إذ لم تجد فيها الصيغة التي تعبّر عن طموحاتها والوعاء الذي من الممكن أن يستوعب طاقاتها. ولقد ظلّ هذا الفراغ قائما منذ أكتوبر.

إن المهمة الكبيرة التي تواجه شباب ديسمبر هي في تقديرنا ملء هذا الفراغ وخلق وعاءهم الثوري الذي يجسّد طموحات "حرية، سلام، وعدالة — الثورة خيار الشعب" برنامجا مفصلا تلتفّ حوله القوى الحيّة للثورة وتقدّمه في انتخابات ما بعد الفترة الانتقالية خطة لبناء سودان ديمقراطي يسوده السلام وتسوده المساواة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إن اعتبرنا كلا من أكتوبر ومارس – إبريل دروتين ثوريتين لم تكتملا لأنهما لم تجدا الوعاء الشعبي الكبير الذي يعبّر عن حلمهما فإن نفس المصير ينتظر ديسمبر إن لم ترتفع القوى الحيّة للثورة لمستوى ما هو مطلوب وتؤسس وعاءها الشعبي الجامع الذي سيسهر على الإنجاز الثوري وسيعمل ليل نهار ليحوّل حلم التغيير لحقيقة.





محمد محمود أستاذ جامعي سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مركز الدراسات النقدية للأديان.

[email protected]

أضف رد جديد