صدمة كورونا، نهاية سحر العولمة"أولريش مينزل"

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

صدمة كورونا، نهاية سحر العولمة"أولريش مينزل"

مشاركة بواسطة حسن موسى »




صدمة كورونا*

نهاية سحر العولمة

أولريش مينزل ــ Ulrich Menzel**

ترجمة حامد فضل الله وفادية فضة \ برلين



أنتشر الطاعون في حوالي العام 1320، في نفس مقاطعة هوبي بوسط الصين، والتي تعتبر اليوم، مع عاصمتها ووهان، منطقة مصدر فيروس كورونا. وعلى الرغم من جميع الاختلافات التاريخية، توجد بالفعل أوجه تشابه مذهلة في مسار وعواقب كلا الوباءين. استغرق انتشار الطاعون في ذلك الوقت، من 25 إلى 30 عامًا قبل وصوله من الساحل الصيني الى موانئ التجارة الخارجية ومحطات نهاية تجارة القوافل في آسيا الوسطى، والطريق التي ربطت الصين بأوروبا عبر طريق الحرير. من هناك توسع انتشاره بسرعة كبيرة: ففي غضون عام، تفشى الطاعون في تانا على بحر أزوف، نقطة النهاية لطريق آسيا الوسطى، وفي حلب، نقطة نهاية الطريق عبر بلاد فارس. لم يستغرق ذلك وقتا طويلا كي يمتد الى الطريق البحري عبر بحر الصين الجنوبي وخليج البنغال وبحر العرب، وكذلك عبر البحر الأحمر إلى دلتا النيل أو من الخليج الفارسي (العربي ــ المترجم) الى الفرات ليصل الى الساحل السوري. هناك ً كانت السفن الإيطالية تنتظر فعلياً، لأخذ البضائع الثمينة من القوافل لنقلها على متنها وتوزيعها في أوروبا. وهكذا ضرب الطاعون إيطاليا بكامل قوته عام 1348. [1]
لقد كانت العواقب على السياسة والمجتمع والاقتصاد كارثية. بالإضافة إلى الموت الجماعي للسكان على طول الطرق ومراكز الشحن العابرة للتجارة البعيدة المدى، أدت الى انهيار أول نظام اقتصادي عالمي، حيث شكل شمال إيطاليا وهولندا الطرف الغربي الأقصى فقط. وكان هذا النظام قد تشكل قبل مائة عام تحت سقف الحماية "للسلام المنغولي"* (Pax Mongolica)، الذي كان على شكل قوس يمتد من حزام السهوب في الصين إلى التايغا الهنغارية. كانت عواقب هذا الانهيار هائلة: ركود اقتصادي طويل الأمد، وذاكرة الموت الأسود التي تتجذر بعمق في الذاكرة الأوروبية الجماعية وما زالت حية حتى اليوم من خلال أعمدة الطاعون (التذكارية) والمسرحيات العاطفية، وانهيار الإمبراطورية المغولية.
العولمة قبل العولمة – لقد انهار النظام العالمي الأول في وقت قصير جداً، قبل بداية السيطرة الأوروبية على العالم –واستبدل بتجزئة طويلة للعالم. استغرق الأمر لغاية بداية القرن الخامس عشر حتى استعادت بعثات أسطول مينغ* الأول النظام من الطرف الشرقي من العالم لما يقارب السبعون عاماً أخرى قبل أن يجد البرتغاليون الطريق البحري إلى الهند „Estado da India“ ويؤسسوا طريق الهند كإطار تنظيمي جديد. إن أول رحلة لفاسكو دا جاما (Vasco da Gamas) إلى كالكتا في الهند عام (1498) وأول رحلة لكولومبوس عام (1492)، والذي أراد منها الوصول إلى الهند على الطريق الغربي واكتشف "العالم الجديد"، تمثلان بداية العولمة من منظور أوروبي. [2]
تقوم العولمة على تكثيف وتسريع المعاملات عبر الحدود (من التجارة والتمويل والأشخاص والمعلومات وحتى الأوبئة)، والتي تتمدد في نفس الوقت مكانيًا. تتكون هذه العملية باختصار، من ضغط المكان والزمان. وبهذا المعنى، فإن كورونا هي تكثيف وتسريع انتشار وباء عابر للحدود مثل الطاعون. والعولمة ليست بلا قيود، مقارنة بفيروس كورونا، فهي لا تتطلب تقدمًا تقنيًا في مجال النقل والاتصالات، مما يجعل هذه المعاملات أسرع وأسرع ومتزايدة باستمرار فحسب، بل تحتاج أيضًا الى أطار مؤسس، يضمن السلع العامة الدولية الرئيسية: الاستقرار الاقتصادي والأمن السياسي. والتي يطلق عليه اليوم الحوكمة العالمية. يمكن توفير هذه السلع من خلال العقود والمنظمات الدولية بطريقة تعاونية أو من خلال توفيرها من قبل القوة الرائدة، التي تجعل الجميع يشارك في خدماتها بشكل مستقل. [3] تم تقديم هذا الإطار المؤسسي لأول مرة من قبل المغول بالاشتراك مع الإيطاليين، ولاحقاً من قبل مينغ، وثم من قبل البرتغاليين والإسبان، حتى تم استبدالهم بالهولنديين والبريطانيين وأخيرًا الولايات المتحدة.
ولكن العولمة هي أكثر من ذلك، فهي سردية كبرى، والتي تشرح، سبب كون هذه العملية معيارية ومفيدة لجميع المشاركين. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يكون فيها اللاعبون المعنيون على استعداد لحشد الإرادة السياسية والتكاليف، للحصول على الإطار، ووضع قواعده، وإذا لزم الأمر، لفرضه ايضاً ضد أي معارضة.
كان ديفيد ريكاردو* (David Ricardo) هو النبي الحقيقي للعولمة، الذي طور نظريته الشهيرة التكاليف النسبية في عام 1817. [4] كان استنتاجه ــ لماذا تحدث عموما التجارة الدولية - ولماذا يجب أن تحدث - هو: الكل، الذين يشاركون في التقسيم الدولي للعمل، يستفيدون من هذا، أي توفير في التكاليف. بناء على هذه الحجة، على سبيل المثال، النتيجة هي سلاسل التوريد عبر الحدود اليوم. ولكي يمكن إدراك مزايا هذه التكلفة، يجب أن تسود التجارة الحرة. كما يجب إزالة أي عوائق تجارية، سواء أكانت بسبب الرسوم الجمركية أم غير التعريفية. وهكذا قدم ريكاردو نموذجًا (برادايم) جديدًا في ما يتعلق بالمذهب التجاري السائد حتى ذلك الوقت. فهو لم يعلل سبب وجود شبكة دولية لاتفاقيات التجارة الحرة فحسب، بل شَرعَ، فتح البلدان للتجارة بالعنف. كان لدى ريكاردو رواد بارزون سابقون عملوا على هذه السردية الكبرى، مثل الهولندي هوغو غروتيوس (Hugo Grotius) كبطل لمبدأ حرية البحار. [5]
مع ذلك، ومن أجل أن تكون للسردية الكبرى في تقليد غروتيوس وريكاردو، التي تقوم عليها النيوليبرالية (الليبرالية الجديدة) اليوم، فعالةً، فإنها تحتاج إلى المفسرين والقوى الفاعلة التي تقوم بعمل مقنع، والسياسيين الذين لديهم القوة لفرض فكرة الليبرالية. بهذه الطريقة فقط يمكن للعولمة أن تزيد سرعتها. وقد لعب البريطانيون هذا الدور منذ منتصف القرن التاسع عشر بإبرام نظام مترابط من الاتفاقيات التجارية الثنائية وفتح دول مثل الصين للتجارة والاستثمار باستخدام "سياسة القوارب الحربية" (سياسة القوة) منذ عام 1842. وتلتها اليابان في عام 1854 بالضغط الأمريكي. وهكذا بدأ الانتعاش الاقتصادي في الصين واليابان، الذي كانت قد منعته العزلة الذاتية المفروضة سابقا. وهكذا تسارعت العولمة إلى حد كبير. ومن المفارقات ان بريطانيا نفسها كانت ضحية مبكرة لها، عندما تجاوزتها ألمانيا صناعياً في نهاية القرن، حيث بدأ أول تراجع بريطاني، لكنها بقيت مع التجارة الحرة على الرغم من "الكساد الكبير"، حسب ما جاء في السردية الكبرى.
قبل الحرب العالمية الأولى: العولمة في ذروتها
وصلت العولمة في عشية الحرب العالمية الأولى إلى ذروة جديدة بفضل الملاحة البخارية والسكك الحديدية. ولكن كانت بريطانيا في خضم الفترة ما بين الحربين، ضعيفة للغاية ولم تكن الولايات المتحدة ذات التوجه الانعزالي مستعدة بعد لتولي دور القيادة الليبرالية. لذلك، لم تكن هناك امكانية السيطرة على الكساد الكبير منذ عام 1929. وكان هذا بدوره مرادفًا للتحول الجذري نحو تفكيك العولمة، الذي عززته الحرب العالمية الثانية. مع بداية مؤتمر بريتون وودز (Bretton Woods) في عام 1944+ تولت الولايات المتحدة زمام الأمور. إن إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (IMF) ومنظمة التجارة العالمية (WTO) بجولاتها الجديدة الدائمة لتخفيض التعريفات الجمركية وتوسيع نطاق مسؤولياتهم تجاه الخدمات وتحركات رأس المال والاستثمارات الأجنبية، أدى الى ضمان عودة التفكير الريكاردي وانتعشت العولمة مرة أخرى. وعندما أصبحت الليبرالية الجديدة مهيمنة منذ تسعينيات القرن العشرين، مع نهاية نصف الكرة الشيوعي، بات كل أولئك الذين لم يرفضوا العولمة في حد ذاتها، ولكن فقط مغالاة تطرف حركة السوق غير المقيدة، يعتمدون على الحوكمة العالمية. كما يجب احتواء العولمة بمساعدة المنظمات والاتفاقيات والمعايير الدولية. بدا هذا النهج ناجحًا لفترة طويلة، على الأقل في أوروبا، على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي مع السوق الداخلية الأوروبية واتفاقية شنغن قاد الى تحول سريع الى عولمة داخل أوروبا.
أن المقابل المحلي للعولمة والحوكمة العالمية هو فكرة الكونية. إنها جذابة لأصحاب الدخل فوق المتوسط، والمتعلمين، والمسافرين بعيداً، والمتعلمين للغات الأجنبية، أي أولئك الذين يدافعون عن حرية الحركة والتجارة الحرة وحركة رأس المال وكذلك التعددية الثقافية والقيم العالمية. لقد قدر ايضاً، المواطن العادي منذ وقت طويل، نعمة العولمة: المنسوجات الرخيصة والإلكترونيات الترفيهية، والفواكه الغريبة على مدار العام، ورحلات العطلات ليس فقط إلى ريميني ومايوركا، ولكن الى جميع أنحاء العالم، وعدم وجود ضوابط في منطقة شنغن، ولاعبو كرة القدم من جميع أنحاء العالم لجعل النادي المحلي مناسبًا لدوري الأبطال، وأخيرًا وليس آخرًا العمال المهاجرين، الذين يقومون بالعمل الصعب جسديًا أو بأجر قليل.
الصدمات الأربع: المنافسة والأزمة والهجرة وتغير المناخ
عرفت السردية الكبرى الغمام الأول عند ظهور منافسة شرق آسيا القوية - اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والصين – كما كشفت عن الجوانب السالبة للعولمة في الغرب. تحولت العولمة أكثر فأكثر إلى لعبة محصلتها صفر: أن تصنيع آسيا، كان له ثمناً باهظاً، وهو تراجع التصنيع في الغرب. تسببت اليابان في الانحدار الامريكي الأول في الثمانينيات – كما تسببت الصين في الانحدار الأمريكي الثاني الحالي - مما يجعل السردية الكبرى موضع تساؤل حتى في الوطن الأم لليبرالية الجديدة، عندما يرفع السياسيون من حزام الصدأ* المطالب الحمائية*.
كان الغمام الثاني لفكرة العولمة، تجنبا لقول الصدمة، ما معنى إفلاس ليمان* (Lehman) في عام 2008 والأزمة المالية العالمية الناتجة عنه، والتي قادت بعض البلدان إلى حافة إفلاس الدولة. والتي لم يكن بالإمكان التعامل معها إلا من خلال تدخل الدولة فعلياً بشكل مركز. كانت الصدمة كبيرة لدرجة أنها لم تؤثر فقط على المضاربين الماليين العالميين، الذين يطلق عليهم بشكل ملطف "المصرفيين الاستثماريين"، ولكن أيضًا على الأشخاص الصغار الذين، بدافع الجشع ومن أجل الفائدة المرتفعة، عرضوا مدخراتهم للخطر. أسعار الفائدة صفر على ودائع الادخار – وفي المقابل، الارتفاع الحاد في أسعار العقارات والإيجارات، لأن رأس المال كان مندفعاً إلى قطاع العقارات بحثًا عن عوائد جديدة وسريعة - ولا يزال السعر الذي يتعين على الناس العاديين دفعه قائماً مقابل عولمة الأسواق المالية.
كان الخرق الثالث في أسطورة نعمة العولمة هو الهجرة الجديدة للشعوب، التي بلغت ذروتها في أوروبا في عام 2015. من منظور الليبرالية الجديدة، فالهجرة جيدة - على الأقل هجرة الأيدي العاملة: في ضوء التغيير الديموغرافي، فهي تزود بلد المهجر بإمدادات إضافية من العمال الذين هي بأمس الحاجة إليهم، مما سيقلل التكاليف. أما في بلد المنشأ فهي تقلل البطالة وتؤدي إلى ارتفاع الأجور هناك. باختصار: أسواق العمل العالمية في حالة توازن، بحسب نظرية الليبرالية الجديدة. على أية حال، لعبت الهجرة دوراً أكبر من المزاحمة التنافسية والأزمة المالية وكذلك العوامل غير الاقتصادية في حصول العواقب التالية: تعزيز الوسط الشعبوي، حيث يقف أعضاءه ضد رؤية عالمية إنسانية نحو الآخر. هذا الوسط الشعبوي يتغذى على الخاسرين من العولمة، أولئك الذين يرون في الغرباء مجرد مرافق فندقية مهجورة يتحملون هم وحدهم العبء الرئيسي من عملية الاندماج. لاسيما وإن أعضاء هذا الوسط الشعبوي يتعرضون لرواية أخرى، لخطاب أخر عن "الاغتراب الثقافي" الذي لا صلة له بمحاججة بناءة، سواء كانت مخاوفهم حقيقية أو يتم تخليها لا غير.
بدأ صعود الشعبوية الحديثة مع بداية التسعينيات. ولكن مع وصول إدارة ترامب، حصلت الشعبوية أخيراً على وجه عالمي. لا يتحدث دونالد ترامب عما يُعتقد في الوسط الشعبوي فحسب، بل ويعد أيضًا بوضع حد للعولمة من خلال النزعة الانعزالية الجديدة وسياسة الحمائية وعزل العولمة، واستعادة الوظائف وصد الأجانب. عندما بدأ حربا تجارية ضد الصين، فإنه أعاد إنعاش ذكرى الترويج لـ"الخطر الأصفر"، الذي تم استدعاؤه لأول مرة في الغرب في نهاية القرن التاسع عشر ويشكل نصًا فرعياً لصموئيل هنتنغتون أيضًا.
خرق رابع عميق في قصة العولمة الإيجابية وهو عكس الاتجاه المعارض للتغير المناخي، وذلك بفضل أيام الجمعة من أجل المستقبل، الذي بدأ في عام 2019، وقد لفت انتباه الجمهور في النهاية، بالإضافة إلى الجفاف وحرائق الغابات والأمطار الغزيرة والفيضانات والعواصف كانت سياسة المناخ ملحوظة منذ فترة طويلة حتى بالنسبة للشخص العادي. هنا لا يتم تحريك الوسط الشعبوي فحسب، بل الوسط العالمي هو الذي يجعل العلاقة بين العولمة وتغير المناخ قضية. يصاغ هذا النوع المختلف في الخطاب النقدي للعولمة بمصطلحات جديدة مثل خجل الطيران (Flugscham)، وانتقاد الرحلات البحرية، والرحلات الجوية الداخلية، وسيارات الدفع الرباعي، ولكن أيضًا القطع والحرق في الغابة الاستوائية من أجل كسب مناطق لزراعة فول الصويا، مما يتيح تربية الحيوانات بكميات كبيرة في هذا البلد، والذي بدورها توضع في السفن المبردة لتصدير لحوم الخنزير إلى الصين. يعتمد البيئيون، منتقدو العولمة في المقابل، على الهيكلة الإقليمية الصارمة من خلال المنتجات العضوية، وعلى الدراجات ووسائل النقل العام، والتجوال مشيا أثناء العطلات في بلادهم.
خطاب ترامب الشعبوي المضاد للعولمة
كان ولا يزال حتى الآن سلوك حكومة الولايات المتحدة باعتبارها أقوى دولة، حاسماً بالنسبة لمستقبل العولمة. وايضا أن سياسة ترامب بالرغم ما تحمله من ملامح مضللة، مبعثرة كثيرة، فأن لها منطقاً أيضاً.. لأن الولايات المتحدة تواجه معضلة الهيمنة الكلاسيكية، بين خسارة المركز وفقدان المكانة: الزعم بتأكيد وضعها كضامن لنظام اقتصادي ليبرالي - وبالتالي في نفس الوقت الاشتراط المسبق لمزيد من العولمة – ما يفقدها موقعها كقوة اقتصادية رائدة بسبب المزاحمة في المنافسة. ثم ستستمر في الوقوع ضحية للعولمة وفي نفس الوقت تفقد الموارد اللازمة للحفاظ على موقعها. ومع ذلك، إذا تفاعلت مع ضغوط العولمة بطريقة الحمائية أو حتى بطريقة انعزالية، فإنها تفقد مكانتها كقوة قائدة للعالم.
يريد ترامب حل هذه المعضلة بسياسته "أمريكا أولاً". حيث يتم استبدال السفينة الحربية الأمريكية في عهد بوش بتسييج أمريكا، بالجدران التي يتم بناؤها عملياً على الحدود مع المكسيك مع ربطها بتخفيف الأعباء العسكرية في الخارج (العراق وأفغانستان). وهكذا يستجيب ترامب الى الوسط الشعبوي للخاسرين من العولمة، والذي وعدهم بإعادة الوظائف الى الحزام الصناعي القديم للولايات المتحدة. كل هذا يسهل له مهمته، وخاصة إن اتجاه مناصرو البيئة الكونية (العالمية) في الولايات المتحدة لم يعد قادرا على الدفاع عن العولمة بقوة، بسبب تغير المناخ. وهكذا أصبح ترامب هو الراوي الجديد الأبرز والأكثر نجاحًا الذي يدير خطاباً مضاداً للعولمة ويستند في أفعاله إلى روايته الخاصة.
والصين على العكس من ذلك، ليست على استعداد لتحل محل الولايات المتحدة كقوة عالمية، حتى لو كان يجب أن يكون لديها في الواقع اهتمام كبير بذلك. فالصين لا تساير رواية الليبرالية الجديدة، لكنها أثبتت أن التصنيع والازدهار ممكنان أيضاً بطرق أخرى. تستخدم الصين الليبرالية الغربية لمتابعة الهجوم في التصدير والاستثمار، لكنها تصر على أن يكون هذا منسق بيروقراطياً وأن تكون لقيادة الحزب الشيوعي الكلمة الأخيرة. وطالما ان الطبقة الوسطى الصينية الجديدة مشاركة، فإنها تقبل في الغالب تقييد الحريات المدنية للعولمة العالمية. تريد الصين حتى عام 2049، أن تكون رائدة عالمية بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية الشعبية. وحتى ذلك الحين، ينطبق هذا الادعاء فقط على البلدان الواقعة على طول طريق الحرير الجديد، والتي يتم إغراؤها بالقروض والبنية التحتية.
لكن قد تغير كل شيء منذ بداية عام 2020. منذ تفشي فيروس الكورونا في ووهان بوسط الصين، اصبحت الصين أقل بعدا مما كان متوقعاً. لم يعد الانتشار العالمي للفيروس اليوم يستغرق من 25 إلى 30 عامًا، وإنما 25 إلى 30 يومًا فقط. لم تتأثر الدول المجاورة للصين فقط، كوريا الجنوبية واليابان، أو إيران كحلقة وصل على طريق الحرير الجديد، ولكن أيضًا أوروبا، وكما هو الحال في وقت الطاعون، تصبح إيطاليا مرة أخرى كبوابة. لكن، وفوق كل شيء ازداد الوعي العام بأن الوباء هو أيضا تعبير عن العولمة. وقد أدى كل ذلك إلى نزع الشرعية عن خطاب العولمة بشكل جذري. لقد أظهرت جائحة كورونا: أن التقسيم الدولي للعمل لا يؤدي فقط إلى زيادة الرخاء، ولكن أيضًا إلى تبعيات هائلة. هكذا أصبح فجأة، واضحاً، عندما انقطعت سلاسل الإنتاج أيضاً بسبب أزمة كورونا العالمية: عندما ترامى بأن أقنعة الوجه والبدلات الواقية لم تعد متاحة حيث يتم إنتاجها في الصين وتوقف الإنتاج أو التصدير هناك بسبب الوباء، وأن الإنتاج الصيدلاني المحلي معرض للخطر لأن 300 مواد أساسية تأتي كمنتجات أولية من الصين - عندها تخلق العولمة الخوف.
وينطبق هذا أيضًا حين لم يعد مجمع الفنادق في ما وراء البحار أو سفينة سياحية عبارة عن عطلة فخمة، وانما تصبح فخاً مميتًا بمجرد الاشتباه بالعدوى. نتيجة هذا الخوف هو الإلغاء الجماعي للعطلات المحجوزة بالفعل، وهو أحد خيارات رد الفعل الفردية القليلة جنباً إلى جنب مع هستيريا الشراء. كان ميدان سان ماركو (Markus-Platz) في البندقية وساحة الكاتدرائية (Piazza del Duomo) في ميلانو مهجورين قبل إعلان الحكومة أن كل إيطاليا منطقة محظورة. بقي السائحون بعيداً باختيارهم وفشلت على وجه الخصوص السياحة الجماعية الصينية - خوفاً من العداء الجماعي. هذا هو الخوف من خوف الآخرين.
الصين في موقف دفاعي
إن الصين، بصفتها الدولة الأكثر تأثراً حتى الآن وتقف قيادتها في هذه الفترة في موقف دفاعي مضاعف: من الناحية الاقتصادية، يتعين على الجمهورية الشعبية أن تقبل الانهيار الصارخ، الذي لا يمكن للعالم بأسره توقع مدته ومداه. إن فشل الصين كمورد - ليس فقط للمنتجات النهائية، ولكن أيضًا للسلع الوسيطة - أو كعميل (كزبون)، على سبيل المثال في أسواق النفط، سيكون له قيمة خاصة بسبب حجمها. حتى المزارع الضخمة لتربية الماشية المحلية تعتمد الآن على الطلب الصيني للحم الخنزير، ناهيك عن صناعة السيارات. ما لم يحققه ترامب بتعريفاته الجمركية العقابية، تحققه كورونا في لمح البصر: حيث سوف تفكر العديد من الشركات فيما إذا كان من المنطقي حقًا وضروريًا، بالنظر إلى التبعية التي أصبحت واضحة الآن - وتحت ضغط حجة المناخ – الإبقاء على تخزين كل شيء إلى الصين بسبب مزايا التكلفة المنخفضة. يستعد البعض لاحتمال استرداد انتاج بعض أجزاء من الإنتاج مرة أخرى. وينطبق هذا بالتأكيد على صناعة الأدوية، خاصة وأن المتطلبات السياسية يمكن توقعها هنا والتي يمكن تبريرها بحالة طوارئ وطنية.
وتتعرض القيادة الصينية أيضًا لضغوط شعبها: بسبب الرقابة والصحافة الموجهة، فهو لا يثق في سياسة المعلومات الخاصة بالحزب الشيوعي بل القاء اللوم على كوادر الحزب المحلية في إبقاء تفشي الفيروس طي الكتمان لفترة طويلة وتجاهل تحذيرات الأطباء المبكرة. كما انه من منظور السياسة الخارجية، من المحتمل أيضاً أن يمر وقت طويل قبل أن تعود الصين إلى الهجوم بعد أن أصبحت في وضع دفاعي نتيجة للتقارير حول معسكرات الأويغور في شينجيانغ والاحتجاجات في هونغ كونغ. من المرجح أن تظل الصين كذلك حتى إشعار آخر، فاشلة كلاعب عالمي، التي ستعيد إطلاق عجلة التوازن للعولمة - وهو الأمر الذي تخلى عنه ترامب - حتى أصبح طريق الحرير الجديد مهدداً ويمكن ان يصبح يتيماً في الوقت الراهن.
إن الفيروس التاجي كورونا - أو بالأحرى الخوف من كورونا – هو القطرة التي جعلت برميل نقد العولمة يفيض. إنها الحلقة الأخيرة فقط في سلسلة كاملة من الأحداث التي تشكك جذريًا في السردية الكبرى لبركات العولمة: المزاحمة التنافسية عبر شرق آسيا، والأزمة المالية وعواقبها، التي لم تتغلب عليها بعض البلدان حتى الآن، العدد الكبير من المهاجرين، الذين تتحصن الدول الغربية الآن في مواجهتهم، الكارثة المناخية المتصاعدة، والآن يندمج الوباء كلغم تتحمل فيه العولمة المسؤولية من جميع جوانبها. يتم شرح الأمر من خلال صور تظهر اللاجئين بأقنعة الوجه - خوفًا من كورونا. وبالمناسبة، فإن اغلاق الحدود ليس فقط لوقف الفيروسات، ولكن أيضا لرفض اللاجئين. ربما لن تعود حرية الحركة وفق اتفاقية شنغن في أقرب وقت ممكن.
ومن المفارقات، أن الرواية العظيمة للعولمة سيتم التشكيك بها بشكل كبير حاليًا من قبل الفائزين المفترضين والخاسرين من العولمة: من خلال انتقاد الوسط العالمي لعواقب العولمة على البيئة ومن خلال انتقاد الوسط الشعبوي بتراجع التصنيع والهجرة والتغيير الثقافي. ويصبح هذا واضحًا من خلال كورونا، لأن الفيروس يغير الحياة اليومية بعدة طرق: فهو يستحضر خطر الركود، وربما أزمة اقتصادية عالمية مع بطالة هائلة، ويعيد إحياء الأفكار القديمة، وصولاً إلى "الخطر الأصفر" الذي يقال إنه يهدد الغرب.
وهكذا يأتي أبطال نموذج الليبرالية الجديدة من الجانبين في موقف دفاعي - ويميلون إلى أن يصبحوا أقلية. ومع ذلك، إذا استمر الخطاب النقدي للعولمة من الجانب العالمي والشعبوي في اكتساب شعبية، فإن رغبة السياسيين في الحفاظ على الوسائل والقواعد والمؤسسات التي تحدد إطار العولمة ستنخفض أيضًا. لذا فإن ترامب والأشخاص ذوي التفكير المماثل لديهم حاليًا لعبة سهلة. لأنه بدون الحوكمة العالمية، تفقد العولمة ذاتها تأثيرها.
لذلك، يجب أن يدخل الأسبوع الأول من آذار/مارس 2020 التاريخ، ليس فقط كبداية للركود الاقتصادي العميق، ولكن أيضًا كنقطة تحولت فيها عجلة العولمة إلى الوراء قليلاً. لن يكون الانهيار حادًا كما كان في عام 1350 عندما كان للطاعون قبضة قوية على أوروبا، كما انه لن يكون مجرد دُمل على الاقتصاد العالمي. ولن يكون التقسيم الدولي للعمل قادرًا على التراجع تمامًا، ولكن بالتأكيد نتوءاته كما هو الحال في صناعة الأدوية. ولن يستغرق الأمر طويلا كما في القرن الرابع عشر حتى يتعافى الاقتصاد العالمي. ولكن طالما أنه لا يوجد ضامن جديد لنظام عالمي ليبرالي في الأفق، حيث أن القديم يرفض الاستمرار في لعب هذا الدور، ولأن أوروبا ضعيفة للغاية ومنقسمة، والصين لديها تصور بيروقراطي وليس ليبرالي عن النظام العالمي سوف يتواصل صرير العولمة. إذ أن الوضع الحالي يؤكد بأن كل واحد يعمل لنفسه. وتنتشر الإشارات في جميع انحاء العالم حول الشعبوية والقومية والسلطوية والعزلة - وبمعنى شامل وأساسي للغاية للحمائية، وهو ما لا يعني الاقتصاد فقط. وهذا ما نشهده حاليًا "بفضل" كورونا: ليس على المرء دفع كل ثمن تتطلبه العولمة. هناك عودة - مهما كان ذلك يعني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*Ulrich Menzel, der Corona – Schock, die finale Entzauberung der Globalisierung, Blätter für deutsche und internationale Politik, 4 / 2020).
**أولريش مينزيل (Ulrich Menzel) مولود 1947 في دوسلدورف، المانيا، دكتوراه في الفلسفة وأستاذ سابق للعلوم السياسية في الجامعة التقنية في بروانشفايغ المانيا.
+ انعقد مؤتمر بريتون وودز وكلك إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الولي في عام 1944، لكن النص يشير الى عام 1947، ربما يكون هنا اشتباه في التاريخ.
1. عن الطرق والتواريخ، انظر جانيت أبو لغد (Janet L. Abu-Lughod) قبل الهيمنة الأوروبية: النظام العالمي م. 1250-1350 (Before European Hegemony: The World System A.D. 1250-1350)، نيويورك 1989، ص 170 وما بعدها.
2. على الأقل هذا ما يجادل به منظري النظام العالمي على أثر إيمانويل فالرشتاين (Immanuel Wallerstein) وأندريه غوندر فرانك (André Gunder Frank).
3. انظر أولريش مينزيل، ترتيب العالم (Die Ordnung der Welt)، برلين 2015.
4. ديفيد ريكاردو (David Ricardo) ، مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب (Grundsätze der politischen Ökonomie und Besteuerung)، الناشر، فريتز نيومارك (Fritz Neumark) ، فرانكفورت، 1972.
5. هوغو غروتيوس (Hugo Grotius)، حول حرية البحر (Von der Freiheit des Meeres). لايبزيغ 1919.
السلام المنغولي (The Pax Mongolica)، ويعرف أيضاً ب "السلام التتري" هو تعبير صاغه مؤلفون غربيون، لوصف الظروف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية المستقرة نسبياً في المناطق الداخلية من الإمبراطورية المنغولية. غطت هذه الإمبراطورية، التي غزاها جنكيز خان وورثته، أجزاء كبيرة من آسيا وأوروبا من أواخر القرن الثاني عشر إلى القرن السادس عشر. يستخدم هذا المصطلح لوصف سهولة الاتصال والتجارة التي ساعدت الإدارة الموحدة على إنشائها وفترة السلام النسبي التي أعقبت الفتوحات المغولية الشاسعة.
السلام الروماني (Pax Romana) يطلق على الفترة الطويلة من السلام والاستقرار النسبيين التي حدثت في الإمبراطورية الرومانية بين انضمام قيصر أغسطس، مؤسس الزعامة الرومانية، وموت ماركوس أوريليوس، آخر "الأباطرة الصالحين منذ أن تم تطبيقه من قبل أغسطس مع نهاية الحرب الأخيرة للجمهورية الرومانية (Final War of the Roman Republic)، يطلق عليه أحيانا باكس أوغوستا. خلال هذه الفترة من حوالي 206 سنوات (27 ق.م إلى 180 م)، حققت الإمبراطورية الرومانية أكبر نطاق إقليمي، ووصل عدد سكانها إلى حد أقصى يصل إلى 70 مليون شخص - ثلث سكان العالم.
مينغ، أو أسرة مينغ سلالة الأباطرة الذين حكموا الصين 1368-1644.تعود سلالة أسرة مينغ لسلالة الأباطرة الصينيين القدامى
التكاليف المقارنة (الأفضلية المقارنة أو الأفضلية النسبية أو الميزة النسبية) قانون التجارة الدولية أن على كل دولة أن تتخصص في إنتاج وتصدير السلع التي يمكنها أن تنتجها بتكلفة نسبية أقل. وأن عليها أن تستورد السلع التي تنتجها بتكلفة عالية نسبيا. وبالتالي، فإن الميزة النسبية وليس المطلقة هي ما يجب أن يفرض أنماط التجارة. ترجع هذه النظرية الى دافيد ريكاردو عام 1817. وتختص النظرية بالتجارة الدولية، وتقول بأن الدول تقوم بتصدير المنتوجات التي تستطيع إنتاجها بشكل كفؤ نسبيا مقارنة بدول أخرى. مقياس الكفاءة النسبية يتم من خلال مقارنة تكاليف الإنتاج لمنتج بين الدول المعنية، والتكلفة المعنية في هذه الحالة هي تكلفة الفرصة البديلة.
حزام الصدأ هو مصطلح يطلق على المنطقة المتداخلة العليا شمال شرق الولايات المتحدة، البحيرات الكبرى وولايات الغرب الأوسط، يشير إلى التدهور الاقتصادي واضمحلال المناطق الحضرية بسبب تقلص قوة القطاع الصناعي الذي كان قويا سابقا.
الحمائية هي سياسة تجارية تهدف إلى حماية الإنتاج الوطني من المنافسة الأجنبية، وتستند إلى مجموعة من الأدوات التي تحد من الاستيراد وتُعيق ولوج السلع الأجنبية إلى الأسواق الداخلية.
برلين ــــ 27 أبريل 2020



أضف رد جديد