أنا.. ومحمد القيسي...والعدد (119)

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
حاتم الياس
مشاركات: 803
اشترك في: الأربعاء أغسطس 23, 2006 9:33 pm
مكان: أمدرمان

أنا.. ومحمد القيسي...والعدد (119)

مشاركة بواسطة حاتم الياس »

أنا ومحمد القيسي...العدد 119
_____________________

(1)
لم يمضِ على عودتي من المغرب آنذاك لخرطوم منتصف التسعينيات سوى بضع سنوات، والتي وجدتها - بعد غيابي في هذه السنوات الخمس، حيث كنتُ أدرس خلالها الحقوق بجامعة القاضي عياض بمراكش - تعيش أجواء حقبة سياسية جديدة عاتية وقاسية في تطلبها الآيديولوجي. والمزاج العام - وقتها - كان - كلياً - محاصراً بين أصوات المدافع، بصوتها الداوي، التي صارت تُقدَّم بها شعارات البرامج التلفزيونية، ومارشات الجيش. أحداث المعارك؛ كانت تُسمع بوضوح جنوباً، الاستشهاد والجهاد؛ أصبحت مفردات ذات وقع ديني خاشع؛ تتسيّد فضاء الحياة العامة، وتحتل تفاصيلنا اليومية بشكل راتب. كانت تُروَّج بتهليل رسمي عظيم؛ أخبار الذين انتقلوا للجهة الأخرى من العالم، كانوا - تقريباً - من كل الأعمار، شبابٌ وكهول ومسؤولين حكوميين ووزراء؛ تركوا مكاتبهم وذهبوا لنداء القتال في الجنوب. وأنا العائد - وقتها - بطموح التخرُّج والبحث عن عمل؛ وجدتُ البلاد كلها وكأنها قد تحوّلت فجأةً الى وكالة تسفير كبرى؛ تقطع الدولة تذاكرها مجاناً للمهاجرين نحو السماء! .
وفي ظهيرة أم درمانيّة عاطلة المهام، ملتفحة كليّة بصهد السماء وشمسها الساخنة؛ كنتُ أتسكّع أمام باعة الكتب القديمة، قُرب سور البوستة بأم درمان؛ أبحثُ هناك وأطالع العناوين، تلك التي كانت على الأرفف أو المفروشة على الأرض. وكعادتي في مثل هذا التجوال، وسط المكتبات؛ دائماً ما يكون عشوائياً، ولا ينتمي لنمط محدد في الاختيار أو البحث عن عنوان بعينه. وقعت عيناي – آنذاك - على أعداد قديمة لمجلة الدوحة القطرية؛ مفروشة على الأرض. سألتُ البائع، فقال لي: "جنيهان للعدد الواحد". جلستُ على الأرض، تحت تلك الشمس الساخنة؛ أقلّب صفحات بعضها بفضولٍ فاتر، يبحث بين الصور والعناوين. وعلى كل حال؛ لم تكن رغبتي في الشراء قوية، بحيث تتجاوز هذا الحد، أي الفُرجة والمعاينة السريعة نحو الاقتناء. وهناك وقعت يدي صدفة على العدد (119)، يوليو 1985م، وعلى غلافه عناوين حول تطبيق الشريعة الإسلامية وحقوق الأقليات، للدكتور يوسف القرضاوي، ومقال للدكتور محمد جابر الأنصاري، "أزمة الواقعية هل تؤدي الى انحسار الرومانسية"، وصورة لفتاة عمانية صغيرة يمين الغلاف، وموضوع العدد المصوّر؛ كان عن حصون وقلاع مسقط. كان البائع منشغلاً عني بمشترٍ آخر، لكني لمحته أيضاً يرمقني هناك، وأنا جالس أقلّب المجلات بخبرة بائع يعرف ما سينتهي اليه هذا الانكباب المستقطع من توقيت البيع والشراء، وبحسه ذاك؛ سيدرك - بالطبع - الى أين تُفضي الأمور هنا، وأنا في تقليبي ذاك للصفحات؛ وصلتُ للصفحة رقم (25)، ووجدتُ قصيدة الشاعر الفلسطيني محمد القيسي:
"أنا حارس الصمت والنزهات القصيرة
أنفقتُ عمري في اللوم
كابدتُ في اليوم عامَا".
تحت تلك الشمس الساخنة؛ تمايل وجداني بهبّة نسمة خفيضة، عبرتني من فصول حنين بعيد، وأخذتني القصيدة لناحية متنها، ثم رويداً رويداً، وأنا أقرأها حتى اشتبكت كلياً مع النص في حوار نفسي مغتبط وعميق؛ جُمعت مادته من وشيج الرؤى والصور الوجدانية التي أخذتني لداخل النص وزمنه الشعري الرومانسي:
"هي الوحشة المغربية تعبق فيّ
ويعبق بُعد الندامى".
أتساءل الآن: كيف يمكن لقصيدة يكتبها الشاعر، وهو بعيد وغائب في زمن وجودي وإبداعي خاص به؛ أن تحتوي كلياً بلحظتها تلك، وجدان قارئها، وتمسكه لحظة قراءتها كنص وقصيدة، فيتأسس في تلك اللحظة، أي لحظة القراءة والفراغ منها؛ أفق جمالي جديد مواز ومشترك، بين وجدان وخيال الشاعر وهذا القارئ، وكأن القصيدة تولد هناك كنص محتمل الإمكان والتحقق في خيال قارئ؛ يعيد صياغة فضاء مفرداتها، متنها، ويحييها بمحبة وشغف روحي عظيم. هذا ما فعلته بي (الوحشة المغربية) لمحمد القيسي.
نقَدْتُ البائع الجنيهين، واشتريت المجلة. أذكر أنني عدتُ بها سعيداً كأنني وجدتُ شيئاً حميماً يخصني، أتاني عبر لغة محمد القيسي وشعره، وأسرفتُ في التأويل لغايتي الخاصة من القصيدة، وقلت إنّ محمد القيسي ربما كتبها وهو يجلس على نفس المقعد الذي كنتُ أجلس عليه في مقهى (منيس) بمراكش. وأنا العائد من مراكش، "جامع الفنا"، لم تمضِ عليّ هنا خمس سنوات. تلك المدينة الجميلة التي احتوت حياتنا فيها ذاك العدد القليل من الطلاب السودانيين؛ حين كنا ندرس بجامعتها، أوقاتنا هناك كانت ضاجة بالحياة المحتفلة والبشوشة، مثل المدينة وسحرها الذي لا يكف في الإعلان كل يوم عن تقويم جديد للحياة، بلون من الشغف والغموض لا يتكرر، تنهض تلك المدينة كل صباح وتُعِدُّ مهرجان الساحة، تثبّت خيامها في انتظار الزائرين حتى آخر حدود المساء الأخير، وحياتنا هناك كانت مثلها؛ تمضي في شَغَبِها الطلابيّ بينَ الكُلِيّة والمكتبات ومقاهي المدينة القديمة، وأمسيات "ساحة الفنا". أظنني كنتُ بشكل خاص؛ أفتقد كل ذلك بشدة في خرطوم، وقتها كان حظر التجوال يفرض عليها النوم عند الثامنة مساء.
(2)
اختفت المجلة فيما بعد، وسط مسارات أحداث عديدة، سمْتُها الفوضى وغياب الترتيب والتنقل من مكان لآخر، أو ربما اختفت إثر حملة من حملات اختلاس الكتب المتبادلة التي يشُنُّها الأصدقاء على مكتبات بعضهم البعض، في غفلة من حرص أصحابها. ولصديقي (الطيب) عادة لا نستهجنها فيه أبداً، فهو قلِقٌ وحسّاس للغاية تجاه ما اقتناه من كتب وعناوين؛ كرّس لها وقتاً طويلاً وعزيزاً من عمره. لذا فهو لا يتورع بعد أن يكرم وفادة ضيوفه من أصدقاء الثقافة ومحبي الكتب، في أن يقوم كل مرّة بإجراء تفتيش شخصي دقيق لهم عند مغادرهم (ليس كلهم ضيوفه بالطبع)، فلعل أحدهم أخفَى كتاباً من مكتبته تحت قميصه.
مضت سنواتٌ عديدة وظلت القصيدة تسكنني كنصٍّ آسر أخّاذ، بل صرتُ أردّدها في الجلسات الخاصة، حتى ظنّ بعض من يعرف من الأصدقاء هويتي الناقصة في الانتماء للشعر والكتابة، أنني شاعرها، فنسبوها لي. أنا نفسي كدتُ أن أنتحل هذا النسب لولا أن أحد الأصدقاء جلس يوماً مع الشاعر السوداني عبد الله الزين في مقهى (أتنيه) في الخرطوم، وقرأ له مقطعاً منها نَسَب هذا المقطع الي، وصادف أن عبد الله الزين رجلٌ واسع الاطّلاع على الشعر العربي الحديث، بجانب ذاكرة تذوق حصيفة في تتبع هُويّة النصوص وأساليب الشعراء. صحح عبد الله لذلك الصديق خطأه، وأخبره بأن القصيدة للشاعر الفلسطيني الكبير محمد القيسي، وليست لكاتب المقال. وكم وددتُ أن يستمر هذا النسب الشعري الفخيم لشخصي، معتمداً في ذلك الانتحال النفسي الجمالي على توقف مجلة "الدوحة" وانحسار أعدادها القديمة في سوق الكتاب، ووجودها محصنة ضد التداول في مكتبات قرائها القدامى.
(3)
في العام 2000م؛ حضر الشاعر الفلسطيني المرحوم محمد القيسي للسودان، والتقيت به حين تمّت دعوته لفعالية ثقافية رسمية؛ صادف أنه سيقوم بإلقاء عدد من قصائده بمركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأم درمان. ذهبت للفعالية مبكراً ووجدتُ الشاعر الفلسطيني محمد القيسي يقف هناك قبل بداية الأمسية مُحاطاً ببعض مسؤولي الأنشطة الثقافية وصحافيو الملاحق الثقافية. لم يكن الحضور كبيراً على الرغم من شهرة القيسي وسط محبي الشعر في السودان. تقدمت نحوه مصافحاً، معرفاً بنفسي كقارئ معجب بشعره، كان بشوشاً وودوداً في استقباله لي، والأمر المؤكد الذي انطبع في ذهني - وقتها – هو أنّ هذه البشاشة الودودة هي سمة شخصيّة وروحية للشاعر المرحوم محمد القيسي، أكثر من كونها حالة أنتجها إطار اجتماعي لشخص مشهور خبر هذا الوضع وتدرّبَ على الابتسام المحترف بأسباب الشهرة وحدها. طلبتُ منه أن يقرأ لي قصديتي حين يصعد للمنبر، فاندهش بفرح: أين وجدتها..؟ قال لي إنه يبحث عن هذه القصيدة التي ضاعت منه حتى يضُمّها لمجموعته الشعرية، التي يزمع طباعتها. أشرتُ إليه بعدد مجلة "الدوحة" وتاريخه، ثم قرأتها له بعد أن طلب مني ذلك، كان وكأنه يستعيدها من مكانٍ قصيٍّ وخفيٍّ، ازدحم في ذاكرة الكتابة بالنصوص الكثيرة. كنتُ أقرأ ويردد هو مستذكراً ويضحك بسعادة الشاعر، حين يكتشف أن أشعاره مازلت تعيش وتحيا في وجدان القراء كاملة دون نقص في الخيال ولا المحبة التي يتشاركها مع القراء ومحبو نظمه. غادر القيسي بعد تلك الليلة ولم ألتقِ به ولم أسأله.
هل سبق أن جلست في مقهى (منيس)؟ هل كتبتها هناك مثلما تخيلت؟.
(4)
في العام 2016م، كنتُ أتجول أمام باعة الكتب القديمة، جوار مدرسة كمبوني بالخرطوم، برفقة صديقي الطيب الذي ذكرت. وجدتُ أحد الباعة يضع أمامه أعداداً قديمة من مجلة "الدوحة" على الأرض، انحنيتُ باهتمام وجلست على حجر خرصانيّ عريض؛ يخصُّ صاحب الكتب، منحنياً هناك على كومة الأعداد القديمة؛ أبحثُ عن صورة لفتاة عمانية صغيرة؛ على يمين غلاف قُرْبَ قلاع عمانية وأسوار. وبإحساس يجادل ويرجو صدفةً ما، أن تنتمي ليقين حدسها الذي كان يقول لي إن عددك الضائع ستجده هنا. أقلّب الأعداد؛ أفسدُ ترتيبها الذي أعدّه البائع على هيئة العرض، فأثير حنق غبار نائم بين صفحاتها. أعلنَ سخطه بانتفاضات صغيرة ألقاها في وجهي، ثم استليت العدد القديم من بين الكتب والمجلات والغبار، ووجدتُ محمد القيسي هناك:
"هي الوحشة المغربية تبعق فيّ
ويعبق بُعد الندامى
ألا من يقول هلا
ألا من يقول سلامَا".
فسلام إذاً لمحمد القيسي وللدوحة وأرشيفها.
صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

كتابة لطيفة واليفة يا حاتم...
صورة العضو الرمزية
حاتم الياس
مشاركات: 803
اشترك في: الأربعاء أغسطس 23, 2006 9:33 pm
مكان: أمدرمان

مشاركة بواسطة حاتم الياس »

أشكرك يا ابراهيم حضورك هو اللطيف حقاً
أضف رد جديد