انتصف الليل الصائف في مخيّم بِرِنسَنبوس لإيواء اللاجئين بهولندا، عندما كان عائداً بعد سهرة قضاها في
الخارج إلى الحجرة التي يتشارك سكناها مع ثلاثة من طالبي اللجوء مثله. أدار المفتاح في قفل الباب الّذي أطلّ منه على الظلام، وانسلّ إلى فراشه بهدوء لئلا يزعج النيام.
وراء فراشه نافذة صغيرة وحيدة المصراع أزاح عنها الستار السماوي الزرقة ببطء شديد. محاذراً ألّا يندّ عن ذلك أيّ صوت يقلقل منام شركائه في الحجرة الخانقة المبطّنة بخشب البلوط، فغمره ضوء الكشّاف القائم في الخارج ينير فسحة مقصوصة النجيل،
تتوسّطها أريكة خشبية، ويحيط بها ظلام الغاب الدامس. كان ذلك الكشّاف هو وسيلته للمطالعة في آخر الليل، دون أن تعوزه أباجورة بجانب الفراش، بعد أن يخلد شركاؤه في الحجرة إلى النوم، ويطفأ نور المصباح.
مضى أكثر من ساعتين وهو يقرأ بلا انقطاع حتى جاءت لحظة استغرق فيها أحدّ الهاجدين في النوم، وجعل يصدر شخيراً أفسد عليه
القراءة، وباعد الشقّة بينه وبين النعاس. تردّد الصوت المنفّر في ظلام الحجرة الخانقة كالعقاب المسلّط على الرؤوس، فلم يجد
بدّاً من التوقّف عن القراءة. ثمنهض من الفراش، ووقف ينظر عبر زجاج النافذة المضاءة بنور الكشّاف إلى الخارج الغارق في السكون عند بقعة الضوء المتميّزة بنجيلها المشذّب وأريكتها الخالية، تحاصرها دهمة الغاب الّذي اعتاد أن يقطعه في الليل بين الحين والآخر، متوجّساً، متعالي الأنفاس، متخبّطاً بلامصباح، يخطو في المجهول، مستضيئاً بالذاكرة النهاريّة، بينما تتكسّر تحت نعاله ثمرات الصنوبر الجافة والفروع المهشّمة، إنّه يخطو على الأرض ولكنه يمشي في ذاكرته، وكل خطو في طريق مألوف إنما هو مشي في الذاكرة. ولكن الذاكرة الخاصة بالمشي وتعيين الإتجاه لكي تعمل بكفاءة فإنّه يعوزها علامات مرئية أو محسوسة تستدلّ بها على الطريق القديم. فالانسان إذاً لايمشي بقدميه، بل بعينيه المبصرتين أو اللامستين. مختنقاً تزداد ضربات قلبه والغاب لاينفكّ يتكثّف في الظلام ويربو، وتتلاصق فروع أشجاره، وتتلاحم كالزاحفة نحوه مضيّقةً عليه الخناق، فيضطرب مشيه وهو في طريقه إلى المباني السكنيّة القائمة على الضفّة الأخرى من نهر الظلام.
ويزداد الصنوبر تشابكاً في الأعالي حائلاً بينه وبين نور القمر. والحقّ أنّ الغاب ظلّ طوال مدّة إقامته لثلاثة أشهر في المخيّم يمثّل بعبعاً مرعباً له. إنّه يمثّل في واقع الأمر عمليّة اللجوء بأسرها: بتعقيدات إجراءاتها البيروقراطية البطيئة، ومخيّماتها الّتي تتكدّس فيها أحزان البشر وإحباطاتهم، ومقابلاتها الّتي تسلّ الروح، وخطاباتها الّتي يمكنها أن تفتح على القاريء أبواب الجحيم، ومحاكمها العديدة، والّتي، أعني عمليّة اللجوء، لا يمكنك، إلا إذا جرّبتَ عبورها بنفسك، أن تدرك كم هي مجهدة ومرعبة، وكم يقاسي من ويلاتها طالبو اللجوء وهم يتنقّلون، كقطع الشطرنج، في حياة البداوة المعاصرة، بالقاطرات، يتأبطون المتاع القليل، ويحملون السود من أكياس البلاستيك، يهيمون بها في أرخبيل اللجوء المتمدّد في كلّ المحافظات،
جسداً هائلاً من المخيّمات المنصوبة في أطراف المدن والقرى في: الغابات، والفضاءات، والأديرة المقفرة، والسجون الفارغة، والمدارس الحربية، ومعسكرات الجيش المهجورة، ومراكز رعاية المسنين القديمة، وحتى السفن الراسية. لاسبيل للوقوف على ذلك الشقاء إلّا إذا نظرت إلى جفونهم المتورّمة، وإلى عيونهم الأسيانة، وإلى خصلات شعرهم الّتي تتساقط بغزارة أو يغزوها الشيب المبكّر، وإلى أعمارهم التي تشحب وتتآكل في المخيّمات التي ينتشر فيها وباء العنف، عنف القانط ضد اليائس. الغاب الجاثم كالحوت الأسود هناك، لايتزحزح، ولايشيخ، ولاتصيبه عِلّة، ولاينفق، هو تحدٍّ دائم ينهض مسكوناً بالمخاوف في أول كلّ مساء، ثم يكبر ويتعملق كلّما تقدّم الليل، وتنامت الأوهام والهواجس في نفوس العابرين.
كانت المخاوف سعلوة تقتات على أصوات تكسّر الثمار الجافة وهشيم الأغصان تحت الأرجل في الظلام. كان يخوض غمار ذلك التحدّي يلوّن به رتابة الحياة الشهباء، ويكسر به طوق الملل في البيت المنعزل، ويتواصل برغم حجاب الظلام مع العالم الرابض فيما وراء الصنوبر وهويشاهد التلفاز في الحجرة العالية أويقضي الساعات مع شركائه في المسكن في أنس مكرور محوره أساطير اللجوء وهي حكايات مضخّمة في معظم الأحيان، بعضها سعيد النهاية و بعضها الآخر مروّع الختام، تنشأ في مكان بعيد من حادث نحيف البنية، يتكوّر ويترهّل مع الزمن والتجوال وتعدّد الرواة، قبل أن يبلغ برنسنبوس.
عثمان محمد صالح
الحوت الأسود
- عثمان محمد صالح
- مشاركات: 733
- اشترك في: السبت يناير 21, 2006 9:06 pm
-
- مشاركات: 1514
- اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm
- عثمان محمد صالح
- مشاركات: 733
- اشترك في: السبت يناير 21, 2006 9:06 pm
-
- مشاركات: 693
- اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:21 pm
- مكان: الشارقة
يخطو
انه يخطو على الأرض ولكنه يمشى في ذاكرته
بين الخطو والمشي
هل الخطو اقرب الى الواقعي المكاني والمشي ماضي الزمان
الخطو مسير في المكان
والمشي استرجاع لذاكرة حركة في الماضي
هل هي مساحة مكان الخطو وارتحال زمان المشي
الخطو يتجسد في معسكر النزوح والمشي تجوال في شوارع حلفا الجديدة
قراءة تخصني
قد لا يعنيها الكاتب
تفتح هذه الجملة الشاعرية
أسئلة و وتأويل مترامي الأطراف
بين الخطو والمشي
هل الخطو اقرب الى الواقعي المكاني والمشي ماضي الزمان
الخطو مسير في المكان
والمشي استرجاع لذاكرة حركة في الماضي
هل هي مساحة مكان الخطو وارتحال زمان المشي
الخطو يتجسد في معسكر النزوح والمشي تجوال في شوارع حلفا الجديدة
قراءة تخصني
قد لا يعنيها الكاتب
تفتح هذه الجملة الشاعرية
أسئلة و وتأويل مترامي الأطراف
-
- مشاركات: 839
- اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 8:54 pm
- مكان: Berber/Shendi/Amsterdam
تحية لهذة الكتابة الرائعة. قلم بديع ! تعرف يا عثمان، أنا قرأت "رواية" ل كولون ويلسون في حوالي عام 1980 ، بعنوان = Adrift In Soho ـ قال معلق علي الغلاف الخلفي ما يمكن ترجمته: لا شك لدي أن الرواية حدثت بالفعل ! وبالرغم من " فطارة" التعليق ، ولكن الناشر إختار أن يثبته علي الغلاف الخلفي من جملة التعليقات . ولكن الواقعية ـ كما نعرفها هي أن يلجأ المبدع للواقع، فيعبر عنه فنياً، وهو ما أراك أنجزته أعلاه.
سلامي ل مخيم برنسنبوس ( princenbosch غابة الأمراء) كنت زرته في عام 1999 ، (نيخنتين نيخن ان نيخنتخ )وقضيت فيه وقت قصير مع بعض الأصدقاء!
سلامي ل مخيم برنسنبوس ( princenbosch غابة الأمراء) كنت زرته في عام 1999 ، (نيخنتين نيخن ان نيخنتخ )وقضيت فيه وقت قصير مع بعض الأصدقاء!
الفكر الديني ضعيف، لذا فإنه يلجأ الي العنف عندما تشتد عليه قوة المنطق، حيث لايجد منطقاً يدافع به، ومن ثم يلجأ الي العنف.( ... )
- عثمان محمد صالح
- مشاركات: 733
- اشترك في: السبت يناير 21, 2006 9:06 pm
- عثمان محمد صالح
- مشاركات: 733
- اشترك في: السبت يناير 21, 2006 9:06 pm
ياصديقنا عادل السنوسي،
أشكرك لهذا، وأجدّد شكري لفضلك القديم بإهدائي تلك المجموعة القصصيّة الرائعة الّتي انتختبها سنايدرس. لابدّ من نقل إحداها إلى العربية. لابدّ وإن طال الزمن.
أما مخيم برنسنبوس الذي كان اوو سي ثم اصبح أ زا سي فسوف يظل علامة بارزة على مسار العشرات، إن لم يكن المئات من السودانيين في هولندا. ربما نكون قد التقينا فيه.
كتبت عن هذا المعسكر العملاق الذي لاتستوفيه كتابة حكاية أخرى بعنوان "نفق الدرّاجات".
أشكرك لهذا، وأجدّد شكري لفضلك القديم بإهدائي تلك المجموعة القصصيّة الرائعة الّتي انتختبها سنايدرس. لابدّ من نقل إحداها إلى العربية. لابدّ وإن طال الزمن.
أما مخيم برنسنبوس الذي كان اوو سي ثم اصبح أ زا سي فسوف يظل علامة بارزة على مسار العشرات، إن لم يكن المئات من السودانيين في هولندا. ربما نكون قد التقينا فيه.
كتبت عن هذا المعسكر العملاق الذي لاتستوفيه كتابة حكاية أخرى بعنوان "نفق الدرّاجات".
- الوليد يوسف
- مشاركات: 1854
- اشترك في: الأربعاء مايو 11, 2005 12:25 am
- مكان: برلين المانيا
- عثمان محمد صالح
- مشاركات: 733
- اشترك في: السبت يناير 21, 2006 9:06 pm
تحيّاتي ياوليد وتشكّراتي للثناء المحفّز على التجويد.
كتبتُ عن هذا المخيّم عملين، جاء الأول بلساني، أمّا هذا فقد جاء بلسان راوٍ مجهول، أو قل للمزيد من الدقة أن الراوي المجهول هنا جماعة بلاحصر، متعدّدة الجنسيات، ممن سكنوا هذا المخيّم، وعبروا الغاب فيه ليلاً.
لست ناقداً، ولو كنتُ لتساءلت: ما الذي يعنيه هذا، أن تكون الحكاية الأولى وهي "مخيّم برسنبوس" بلسان الراوي، بينما الراوي في الحكاية الثانية مجهول الهوية؟
كتبتُ عن هذا المخيّم عملين، جاء الأول بلساني، أمّا هذا فقد جاء بلسان راوٍ مجهول، أو قل للمزيد من الدقة أن الراوي المجهول هنا جماعة بلاحصر، متعدّدة الجنسيات، ممن سكنوا هذا المخيّم، وعبروا الغاب فيه ليلاً.
لست ناقداً، ولو كنتُ لتساءلت: ما الذي يعنيه هذا، أن تكون الحكاية الأولى وهي "مخيّم برسنبوس" بلسان الراوي، بينما الراوي في الحكاية الثانية مجهول الهوية؟