غار حراء

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عثمان محمد صالح
مشاركات: 733
اشترك في: السبت يناير 21, 2006 9:06 pm

غار حراء

مشاركة بواسطة عثمان محمد صالح »

في الموقع الالكتروني التابع لهيئة استقبال ورعاية اللاجئين بهولندا، شاهدتُ قبل أيام صورة التقِطتْ من الجوّ لمخيّم برنسنبوس في خلزة - راين بهولندا. هو هو المخيّم بصورته المألوفة، لم يطرأ عليه تغيّر يذكر مذ سكنت فيه وفارقته قبل قرابة العقدين من الزمن.

توقيت الصورة: صيفٌ يتفجّر خضرةً، تتطاول فيها أشجار الغاب الذي يحتل المخيّم. تحتشد
الأشجار المصوَّرة احتشاداً لايدع للأبنية أوغيرها من صنائع الانسان فرصة للبروز لآلة التصوير. تراءت لي خضرة الغاب كرأسٍ غزير الشعر تتخلّله فجوات تبرز هنا وهناك، ناجمة عن تأثير
القوباء الحلقية. في هذه الفجوات البنيّة اللون، على وجه التعيين، تدخّلت يدّ الإنسان صانعة عالم الإنسان.

وفي إحدى تلك الفجوات أمضيتُ ثلاثة أشهر متوالية، في حجرة علوية تقع في مبنى قديم منعزل إخضرّ سقفه من الطحالب. عند استيقاظي من النوم في صبيحة اليوم التالي لوصولي للمخيّم
استفسرت عن أمرين: المكتبة العامة، وفرص العمل. فنُصِحتُ بادراج اسمي في لائحة المنتظرين
للعمل في المخيّم، وهو ضرب من الشغل الطوعي المتّصل بصيانة المخيّم، أوتقديم الخدمة لنزلائه، ويثاب فاعل هذا العمل بأجر رمزي.

سألتني الموظّفة في قسم " ويرك شوب" أثناء تقييدها لاسمي، أين، فيما عَدّدتْ، أحبّذ العمل في المخيّم، فأجبتها: قبو الدرّاجات. فقالت: ستنتظر حتّى تشغر خانة برحيل أحد العاملين في القبو
إلى مخيّم آخر. بالمقايسة إلى ماعداه، كان العمل في قبو الدرّاجات هو الأنسب لحالتي لقربه من مكتبة المخيّم. كان وسيلة للنسيان، وللهروب من حجرة السكن الخانقة، وفرصة اغتنمتها للقراءة
والكتابة في مكان يحصّنه الشجر، ولايغشاه طوال اليوم كثير من نزلاء المخيّم. فعلى طاولة القبو المتواضعة، بين صفوف الدرّاجات واللوحة الخشبيّة التي تتدلّى منها الأرقام الّتي تُعطى للزبائن حين يتركون
درّاجاتهم في القبو، أخذت في التبلوّر عدد من الخطاطات الّتي كتبتها تحت ضغط الحنين
الجارف إلى ماضٍ غير قابل للاستعادة. وأذكر أنّني في عداد ماقرأت أكملت قراءة العهدين القديم والجديد، وسيرة ابن هشام، وأنّني إستعضت عن غياب الشعر في مكتبة المخيّم بقراءة القرآن.
لامناص من الإقرار بأنّ الكتابة والقراءة والموسيقى، وعلى وجه الخصوص أغنيات وِتْنِي هيوستن، وإروس رامازوتي، وبابا ويمبا، وآخرين من بلدي ومن غيرها من البلدان، كانت لي بلسماً للجراج وخير معين على الصبر والتماسك والصمود وامتصاص صدمة العيش في المخيّمات التي أقمت فيها وكانت بلاستثناء مكتظة بالنزلاء. لهؤلاء المبدعين أدين بحياتي، ولقد هزّني موت وِتْنِي هيوستن المأساوي هزّاً عنيفاً وكأنّني كنت أعرفها كائناً من لحم ودم، وليس مجرد صوت استلبني فأدمنت عذوبته المترعة بالشجن، يأتيني من بعيد، من وراء الأطلنطي، منبعثاً من قرص مدمّج أديره في الأمسيات
وهي أقسى أوقات التحدّي الذي تواجهني به الحياة في المخيم، ثم أفتح الكراسة ذات الغلاف الأزرق، وأدع قلمي يواجه مصيره المجهول في برودة الورق الأبيض بياض الثلج. واليوم عندما التفت إلى الوراء مستعيداً أوّل جملة إفتتحت بها الكتابة في تلك الكراسة الزرقاء الغلاف، أجدني مديناً لحياة المخيّمات بأكثر مما أتصوّر.

يقع القبو في نهايات المخيم، وهو جزء من بناء قديم أقامه المحتلون الألمان في الحرب العالمية الثانية. يتّسع القبو لقرابة المائة درّاجة هوائية، ويقود إليه درج أسمنتي.

للعمل في القبو كان ينبغي عليّ الاستيقاظ مبكراً لاستلام مفتاح باب القبو من الحاجب عند مدخل المخيّم، ومن ثم انطلق إلى القبو، لأكون عنده قبل الثامنة، متأهباً لتسليم التلاميذ من طلاب اللجوء عند مرورهم إلى المدارس درّاجتهم المؤمَّنة.
وبما أنّ التلاميذ كانوا يمثّلون معظم زبائن القبو، فبمجرّد انطلاقهم إلى المدارس يكون أثقل الهموم قد انزاح عن كاهلي، ويصفو المكان، وتنقطع عنه حركة الأقدام إلّا ما ندر حتى منتصف النهار. لايكون لدي ما يجب فعله، فانتهز الهدوء الذي يخيّم على تلك المنطقة المعزولة لأنفرد بصحبة الكتاب.

أخرج من القبو إلى الهواء الطلق حيث أهييء موضعاً للمطالعة عند مدخل القبو محاطاً بأشجار
الصنوبر. مرتشفاً في الظل كوباً من القهوة المخلوطة بالحليب، مقلّباً هذه المرّة بين يديّ رواية" 1984 " لجورج أورويل في ترجمة عربية قامت بإهدائها لمكتبة المخيّم طالبة لجوء من العراق، فرّت إلى هولندا بعد أن دمّرت "عاصفة الصحراء" البنية التحتيّة لبلدها، وأطاحت بعرش الطاغية صدام. وقد كتبتْ على الغلاف من الداخل مامعناه أنّها كانت تقرأ هذه الرواية بينما مدينتها بغداد تتعرّض لوابل من صواريخ قوات التحالف بقيادة الولاية المتحدة الأمريكية سنة 1991. ولولعها بالكتب فإنّها لم تجزع، ولم تستسلم لنيران الدمار، ولم تدع الرواية الساحرة تفلت من يديها حتّى عندما انقطع التيار الكهربائي عن بغداد، بل أكملت القراءة على ضوء الشموع في مدينة مفزوعة يتدافع أهلوها إلى ملاجيء ربّما شابهت قبو الدرّاجات.

عثمان محمد صالح
أضف رد جديد